أحدث المقالات

د. عبد الكريم سروش(*)

ترجمة: السيد حسن مطر

تمهيد ــــــ

إنّ الحكم الراهن في إيران يقوم على أساسٍ من التعاليم الشيعية، وإن الولي الفقيه والحاكم الفعلي يستند في مشروعية حكمه إلى نيابته لإمام العصر، وبذلك فهو يتمتع بقداسةٍ لا تضاهيها قداسة أيٍّ من الحكومات غير الدينية الأخرى. والحديث يقع على المستوى النظري حول العلاقة بين التشيّع والديمقراطية.

إنّ التشيع ليس فرعاً في قبال الإسلام، بل إنّ التشيع والتسنن قراءتان عن الإسلام، دون أن نسعى إلى ترجيح إحدى القراءتين على الأخرى. كان هناك من الصحابة من فهموا كلام النبي على نحو، فكوّنوا أقلّيّة عرفت باسم التشيع. وكان هناك في المقابل جماعة أخرى من الصحابة فهمت كلام النبي على نحو آخر، فعرفت بالتسنُّن. وتشكل نسبة التسنُّن حالياً إلى جميع المسلمين من خمسة وثمانين إلى تسعين في المئة؛ بينما يمثل التشيع حالة الأقلّيّة.

لقد تجاوزنا مرحلتين: إحداهما: مرحلة الحديث عن الإسلام الثوري. وقد كان المفكِّرون منا، وربما المستنيرون منا، وعلى رأسهم الدكتور علي شريعتي، بصدد التقريب بين الإسلام والثورة. والحق أنهم نجحوا في ذلك إلى حدّ كبير. وقد تجاوزنا هذه المرحلة التي كان الصراع فيها محتدماً بين اليسار واليمين، واتخذت طابعاً دراسياً وأكاديمياً، ولم تعد مطروحة في صلب القضايا الاجتماعية.

كما أننا تجاوزنا مرحلة أخرى، سعت فيها مجموعة من الدول ذات الطابع الإسلامي العربي على نحو عام، وبلدنا على نحو أقل، إلى استخراج الديمقراطية من الإسلام. أي إنهم أرادوا أن يقولوا: إنّ ما هو موجود في المذاهب الليبرالية الديمقراطية. يمكن استخراجه من التعاليم الإسلامية. وهذا ما سعى إليه أبو الأعلى المودودي، والدكتور مهدي بازرگان. فمثلاً: حين يتحدث القرآن عن الشورى فإن هؤلاء قد فهموا منه معنى النظام البرلماني؛ وحينما تحدّث عن البيعة فهموا منه معنى الانتخابات. وكأنهم أرادوا أن يقولوا بأننا مع وجود الإسلام لسنا بحاجة إلى المذاهب الأخرى. وهذه هي ذات الرؤية المتطرِّفة إلى الدين، والتي ظهرت منذ صدر الإسلام، رافعةً شعار (حسبنا كتاب الله). وقد تجاوزنا هذه المرحلة أيضاً. ويمكنني القول بأن الذين يرومون استنباط الأصول الديمقراطية من الإسلام من المتنوِّرين والمفكرين المسلمين (في إيران وتركيا والعالم العربي وغيره) لا يشكِّلون سوى الأقلية. وقد توصلنا إلى إجماع ميمون يثبت أنّ هذه المحاولة محكومة بالفشل. وهذا ما جرَّبناه في إيران. وقد تجاوزنا هذه المرحلة. وقد أخذت النشاطات تنحو منحىً آخر، حيث تتمّ متابعة النسبة بين الإسلام والديمقراطية في مستويات أعلى، وقد أضحت العملية أكثر تعقيداً من ذي قبل، وأصبح بإمكاننا تبيّن الطريق بشكلٍ أفضل. وعلينا العودة إلى المسار الصحيح. فما هو المسار الصحيح؟ إنه تحديد الجانب المظلم، أي لا ينبغي بنا مواصلة بعض الأفكار، لأنها لا تؤدي بنا إلا إلى السراب.

إنّ الحضارة الإسلامية هي حضارة الفقه والحقوق، دون الفلسفة. وإنّ الذهنية الفقهية قد زوّدت جميع المسلمين بذهنية تشريعية وقانونية. وهي في واقع الأمر ذهنية تكليفية. فعلى المسلم في جميع الحقول أن يهتمّ بالقرارات الشرعية، سواء أثناء العمل أو الاستراحة أو الاغتسال أو تـناول الطعام والشراب وسائر الأمور والأحوال.

إنّ الفقه علم تكليفي النزعة، ولكن لم يرِدْ فيه كلام عن الحقوق. فسنّ البلوغ يعرف بسنّ التكليف، ولكننا لم نسمع كلاماً عن سنّ يُعرف بسنّ الحقوق. لست أقول بأن مفهوم الحق غائب عن الفقه، إلا أن كفّة التكليف تعلو في الفقه على كفّة الحقوق. في حين أنّ العالم الحديث يعرّف الإنسان بوصفه كائناً محقّاً. إذاً لابد هنا من إيجاد موازنة بين الحق والتكليف، وعلينا أن نقيم مثل هذا التوازن.

مفهوم الولاية عند الشيعة والسنّة ــــــ

هناك الكثير من المشتركات بين التشيُّع والتسنُّن، ولكن علينا هنا ملاحظة ما يميِّز كل واحد من الآخر. فهناك مفهومان رئيسان في التشيع لا نجدهما في التسنُّن بنفس الشدة: الأول: مفهوم الولاية، أي إنّ خصوصية النبي تستمر حتى بعد وفاته، وذلك في أفراد معينين، وليس في كلّ فرد. إنّ مفهوم التصوّف القائم على الولاية موجود عند أهل السنة أيضاً بنفس القوّة الموجودة في التشيّع، ولا فرق بينهما من هذه الناحية، أي إنّ المتصوِّفة من أهل السنة ـ مثلاً ـ ينظرون إلى جلال الدين الرومي بوصفه إنساناً مقدّساً، وولياً من أولياء الله. وهو كذلك، أي إنّ مفهوم الولاية هذا وتحقّقه يبرز هنالك بوضوح. وإنّ علم العرفان في حقيقته هو علم الولاية، وليس له أيّ معنىً آخر. وطبعاً إنّ الولاية تعني الولاية الإلهية، أي البحث الذي بدأ بالقرآن، وعليه فإنّ له جذوراً قرآنية، قال تعالى: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ، وهذا يعني أنّ العلاقة القائمة بين المؤمنين وبين الله هي علاقة الولاية، وإنّ هذا المفهوم كامن في ذات العرفان. فما معنى علاقة الولاية بين الله والمؤمنين؟ ومن أين نشأ مفهوم (الولي)؟ وما هي خصائص الإنسان الولي؟ ومَنْ يكون هذا الإنسان؟

هذه هي الأسئلة التي تمّ البحث فيها طوال التاريخ الإسلامي. وقد تولى أكبر الأبحاث فيها، وربما أهمها، عالم عربي من الأندلس، هو محيي الدين بن عربي. وقد عمد الآخرون إلى كتابة شروح مفصلة على كلماته، حتى غدا علماً ثرياً، سواء في نظمه ونثره. وهذا هو عرفاننا وتصوّفنا. وعليه فإن معرفة الولاية موجودة لدى متصوّفة السنة بنفس القوة والحماسة الموجودة عند الشيعة، مع فارق أن الأولياء عند الشيعة محدَّدون بأسمائهم، وعرفوا بوصفهم ورثة النبي، وهم الذين يعرفون بأئمة الشيعة. وكذلك أعطيت لهم شخصية تكاد ترقى إلى النبيّ نفسه، الأمر الذي أحدث إرباكاً في مفهوم خاتمية النبي. وهذه مسألة في غاية الحساسية، وعلينا أن نجد لها حلاًّ، سواء انتمينا إلى التشيع أم لم ننتمِ إليه. وإن القرآن صريح في إثبات خاتمية النبي، فهو آخر الأنبياء، ولن يبعث نبيٌّ بعده. وإنّ خاتمية النبي من المسائل التي حازت إجماع المسلمين. وفي الحقيقة إنّ نبي الإسلام قال لأتباعه من خلال هذا الكلام: كلّ من يأتي بعدي، ويدَّعي النبوة، فلا تقبلوا منه هذه الدعوى، وانبذوه. إلا أنّ الشيعة أعطوا أئمتهم مقاماً ومنزلة تقرب من مقام النبي ومنزلته! وهذا ما لا يمكن المرور عليه بسهولة. أي إنّ مفهوم الخاتمية عند الشيعة مفهوم رقيق وضعيف؛ وذلك لأنّ لأئمة الشيعة حقّاً في التشريع، فيمكنهم أن يبينوا حكماً لم يبيّنه النبي، وينسبون ذلك الحكم إلى الله، في حين أنّ هذا الحق منحصر بالنبي الأكرم، ولا يحقّ لأيّ عالم أن يضطلع بهذا الدور، فإنّ حق التشريع من مختصات النبي، حيث كان مأموراً، وكان يُوحى إليه، وكان يقول: هذا ما قاله الله، وهكذا حكم الله، وأنا أقوله أيضاً. وقد وردت بعض الأحكام في القرآن، بينما ورد بعضها الآخر في كلمات النبي، ولم تكن في القرآن، ولكنها مع ذلك من أحكام الله.

مصادر الشريعة عند الفريقين ــــــ

وبعد رحيل النبي أسَّس الفقهاء من غير الشيعة علماً عظيماً باسم الفقه، وهو عبارة عن تفسير كلام النبيّ والقرآن، وقد أوجدوا له بعض القواعد والأدوات باسم أصول الفقه، وذلك كي يتمكنوا من استنباط  مختلف الوظائف العملية من كلمات النبي. وقد ذهب أبو حنيفة إلى أن الأحاديث الصحيحة المروية عن النبي لا تبلغ العشرين حديثاً، ومع ذلك أسس علم الفقه من خلال سبعة عشر حديثاً، بالإضافة إلى آيات الأحكام التي هي بدورها محدودة للغاية. وفي الواقع لم يكن هناك مصدر آخر غير القرآن وبضعة روايات موثوقة عن النبي، فكيف يتأتى للفقيه أن يؤسِّس أحكاماً شاملة لجميع الأزمنة والأمكنة من خلال هذا النزر القليل من المصادر. ولذلك فقد اكتسب الفقه أهمية كبيرة.

وأما عند الشيعة فالأمر مختلف تماماً، حيث إن المصادر عندهم غير محدودة، ولا يمكن إحصاؤها. فقد كان للشيعة مصادر ترقى إلى رتبة النبي، بمعنى أنهم إذا سمعوا حديثاً عن الإمام الحسين، وعن الإمام علي، وعن الإمام جعفر الصادق، وعن الإمام الباقر، فهذا يعني أن النبي هو الذي قالها. إنّ الإمام الصادق وسائر الأئمة عند الشيعة ليسوا من الفقهاء، وإنّ ما يقولونه هو حكم الله، ويتعاملون مع سيرتهم كما يتعاملون مع سيرة النبي والقرآن، ولا فرق بينهم من هذه الناحية. وطبعاً لا يقول الشيعة بأنّ أئمتهم محلٌّ لنزول الوحي، ولكنهم يستخدمون تعبيراً آخر، حيث يقولون: إنهم محدَّثون، وإنه يتمّ إيصال الحقائق إليهم بنحوٍ من الأنحاء، وذلك كي يميّزوهم عن النبي، مع إعطائهم نفس شأن النبي، فيثبتون لهم العصمة مثل النبي تماماً، وإنّ كلامهم مساوٍ لكلام النبي والقرآن، وتترتب على إنكارهم، وسبّهم، وإهانتهم، نفس ما يترتب على إنكار النبي وسبّه من أحكام الردّة والقتل؛ وذلك لأنهم يحملون الولاية الإلهية. وإن نفس الولاية الثابتة للنبي قد انتقلت إليهم، وإنهم يتمتعون بنفس مرتبته ومنزلته المعنوية والروحية.

أما أهل السنّة فمهما بالغوا في تقديسهم لأبي حنيفة إلا أنهم لا يرونه معصوماً، ولا يرونه حاملاً للولاية الإلهية، ولا يرونه بمنأى عن الانتقاد والاعتراض. وقد عمد الغزالي إلى انتقاد أبي حنيفة، وقال كلمته الخالدة التي علينا أن نحفظها، حيث قال: إذا كان الكلام كلام القرآن والنبي فهو، وأما إذا كان دون ذلك فهم رجال ونحن رجال، فلا تهوِّلوا علينا بالرجال، حتى ولو كانوا من أمثال أبي حنيفة؛ إذ بإمكاننا أن نفكر كما فكَّروا، وأن ندافع عن آرائنا من الناحية العقلية والمنطقية.

بين الولاية والخاتمية ــــــ

فهذا اختلاف جوهري بين الشيعة وأهل السنة في مسألة الولاية، وتعارضها مع مفهوم الخاتمية. وإنّ الفهم الموجود حالياً عند الشيعة في إيران لمعنى الولاية فيه غلوٌّ، ويؤدي إلى نفي الخاتمية، وهو الذي سمّاه الدكتور شريعتي بالتشيُّع الصفوي. وهو نمط من التفكير الأخباري، أي إنّ فقه الاجتهاد لا يقوم على معناه الواقعي، وإن الإخباريين الذين تمّ طردهم ولعنهم في يومٍ ما قد أطلّوا برؤوسهم من مكان آخر، واستولوا على جميع الحوزات العلمية، حيث يستعمل اسم الاجتهاد، ولكننا لا نرى في الحوزات العلمية شيئاً سوى التقليد.

المهدوية ومفهوم الإمام الغائب ــــــ

والفارق الآخر يكمن في مفهوم المهدوية، والذي هو استمرار للإمامة والولاية، حيث يؤمن الشيعة بأنّ واحداً من أئمتهم لا يزال حياً، وأنه سيظهر في يومٍ ما، وأنه لا يترك الشيعة حتى وهو مستور في حجب غيبته، وأنه حاضر بنحو من الأنحاء. ويعتقد العامة أنّ المجتهدين يحظون برعاية هذا الإمام الغائب، ويهتدون ويُعصَمون به، وإذا بلغ أحدهم مقام المرجعية فإنّ الإمام الغائب هو الذي يؤيِّد مرجعيته. وحالياً هناك قريةٌ في ضاحية قم تسمى جمكران، بني فيها مسجد؛ استناداً إلى رؤيا قال فيها إمام العصر: إنه يحضره أحياناً. وقد كان هذا المسجد مزاراً للشيعة على مدى سنوات، ولكنه حظي بعد الثورة باهتمام غير مسبوق، إلى الحد الذي أضحت معه مدينة قم نفسها على هامشه. وفي هذا المسجد بئر يلقي الناس فيه رسائلهم لتصل إلى الإمام مباشرة. وقد سمعت أنّ هذا البئر قد امتلأ بهذه الرسائل مؤخّراً. هذه هي سلوكية عوام الشيعة. وطبعاً عندما أقول: عوام الشيعة فإنني أعني علماء الشيعة أيضاً؛ لأنهم يتبعون العوام في ذلك. كما أنّ العوام يتعلمون هذه الأمور منهم. فلا يذهبنّ بكم التصور أن كلّ شخص غدا معمَّماً فإنه سيكون من الخواصّ، بل إنهم من العوام، ولكنهم من العوام الذين قد يشتبه الأمر عليهم، فيتصوّرون أنهم من الخواصّ، فيكون جهلهم من النوع المركَّب. كان الشيخ الشهيد مطهري يقول: إن علماءنا متعوّمون. إلا أنني أذهب إلى أكثر من ذلك، وأقول: هم عوام. فالمتعوّم مفردة محترمة، تعني أن الشخص ليس بعامّي، ولكن مبتلى بالعوام، في حين أن الواقع على خلاف ذلك، فإنّ العوام هم الذين ابتُلُوا بهم.

وكما أسلفتُ فإنّ نواب إمام العصر مبثوثون في كلّ مكان، وإنّ فقهاءنا يرون أنفسهم نواباً له، ويأخذون الحقوق الشرعية من الناس نيابة عنه، ويصرفونها في موارد يعتقدون أنها ترضي الإمام.

ومهما كان فإن الشيعة يعتقدون أنّ الفترة الذهبية ستتحقق عندما يظهر ذلك الإمام الغائب، ويقيم الحكومة العالمية، فيقوم بتصحيح الانحراف الذي طرأ على الإسلام، ويقيم العوج، ويأتي للناس بتفسير جديد للدين. وهي فترة كان يحلم بها جميع الأنبياء، وقد وعدوا بها أتباعهم، وإنّ نهاية ألف ليلة وليلة ستكون سعيدة. وخلاصة القول: إنّ ما نعيشه حالياً في أحسن السبل مقدمة لذلك الظهور النهائي. وكما تعلمون فإنّ من بين الشعارات التي رفعت في مستهل قيام الجمهورية الإسلامية أنّ هذه الجمهورية قد جاءت لتوفير مقدّمات ظهور الإمام الغائب، ودفع هذه الراية إلى صاحبها. وهذا ليس بالشيء القليل؛ لأنّ هذه الأفكار تهدف إلى مخطَّطات كبيرة، وتلعب دوراً تاريخياً خطيراً. وأنا هنا أريد وضع اليد عليها، ومن ثمّ انتقل إلى بيان  هذه الأفكار ونسبتها إلى السياسة.

يمكن استنباط أمرين من مفهوم الإمام الغائب:

الأول: إضفاء قداسة على التاريخ غير العلماني، بمعنى أن العالم قد تمت هندسته بشكل تتمّ السيطرة عليه من جهة عليا، وأنه سيؤدي في النهاية إلى ظهور رجل من سلالة الأنبياء على صفحة التاريخ، بعد الهيمنة الكاملة للنظام العلماني، ويعيده إلى النظام الديني. فالزمان مقدس، والتاريخ مقدس، وهناك من ورائهما يد الله المتصرفة في أمور الكون والتاريخ. وهي الأفكار التي سعت العلمانية إلى محوها واجتثاثها.

الثاني: إنّ مفهوم الغيبة أفضى بدوره إلى مفهوم الغصب، بمعنى اغتصاب الحكم والحق في السلطة. وكما تعلمون فإنّ فقهاء الشيعة يذهبون إلى اعتبار كلّ حاكم في عصر الغيبة مغتصباً لحقّ ثابت للإمام، مهما كان ذلك الحاكم عادلاً. قال الشيخ النائيني، في كتابه «تنزيه الملة وتنبيه الملة» ـ وهو كتاب جيد، وهو في واقعه نوع من أسلمة الحركة الدستورية. وإنّ النائيني مجتهد من الطراز المتقدّم، وهو فقيه وأصولي. وقد حاول في هذا الكتاب، بما يتحلّى به من المستوى الفقهي المعقَّد، إضفاء ثوب الشرعية على الحركة الدستورية ـ: «إن الحكومات الراهنة غاصبة على كلّ حال، إلا أنها إذا كانت عادلة فإنها أدعى إلى القبول، فإن الدولة إذا كان على رأسها حاكم عادلٌ فإنّ ظلمه سيقتصر على اغتصاب حقّ الفقيه، وأما إذا كان ظالماً فهو ظالم لكلّ الأمة». وفي نهاية جهده يسعى إلى علاج المسألة من خلال دفع الأفسد بالفاسد. إنّ مفهوم الغصب في الفقه الشيعي مفهوم واسع، وذلك بسبب قصة إمام العصر، وأنّ الحكومة من جملة حقوقه. وإنّ كلّ من يرتقي عرش السلطة لابد أن يكون بتوكيل من الإمام، وعندها يكون الحاكم هو الإمام، أو من دون توكيله، فيكون غاصباً على كلّ حال، حيث يزرع في غير أرضه، سواء أكان عادلاً أم ظالماً. ومن هنا نشأ مفهوم الغصب. فما هي نسبة هذه المفاهيم التي تختصّ بالتشيّع إلى السياسة والديمقراطية؟

إنّ لإقبال اللاهوري كتاباً بعنوان «إحياء الفكر الديني في الإسلام». وقد تحدث في الفصل الخامس منه حول النبوة. وخلاصته أن ختم النبوة يقوم على ظهور العقل الاستقرائي، حيث كان من الواجب إرسال الرسل. ولكن ما إن وصل الناس إلى مرحلة البلوغ العقلي والنضج الفكري أصبحوا في غنىً عن الأنبياء، ولم تعد هناك حاجة إلى أن يأتي نبي ليأخذ بأيدينا، فقد أصبح قبس كليم الله بأيدينا، وعلينا أن نتبيّن طريقنا من خلاله. وقال إقبال في هذا الكتاب: إنّ ختم النبوّة يعني أننا أصبحنا في حِلٍّ من الإلهام السماوي، وأنه لن يأتي بعد الآن من يدَّعي أنه مرسَلٌ من قبل الله. وحينما جاء العقل الناقد والعقل الاستقرائي تمّ إغلاق بوابة الوحي.

إقبال اللاهوري بين المهدوية والخاتمية ــــــ

وقد أشار إقبال في نهاية الفصل الخامس إلى المهدوية. وطبعاً لم يترجم هذا الجزء من كتاب إقبال إلى الفارسية. وقد أثنى إقبال في هذا الجزء من كتابه على ابن خلدون، وأنه نقل جميع الروايات الواردة في الإمام الغائب وردّها، وقال: لا وجود لمثل هذا الشيء. وأضاف إقبال: إننا إذا قدّسنا التاريخ، وقلنا بوجود مهدي يحمل صفات النبي، فإننا سنحرم من فوائد الخاتمية؛ لأنّ فلسفة الخاتمية تهدف إلى بلوغ الإنسانية مرحلة التحرُّر، وإننا بقولنا بوجود مهدي يأتي في آخر الزمان يحمل مواصفات النبي نكون قد نقضنا ذلك التحرُّر، ولذلك يبقى السؤال المعقَّد، وعلى الشيعة أن يحلّوا معضلة الجمع بين المهدوية وفكرة التحرُّر والديمقراطية.

الدولة الإٍسلامية في ظلّ مفهوم الخاتمية ــــــ

يرى الشيعة أنّ كلّ حكومة، بما فيها هذه الجمهورية الإسلامية التي ترى نفسها محقة، ما هي إلا ممهدة لتلك الحكومة العالمية، وأنها قبل أن تفكر في المصالح العامة تفكر في الإعداد لذلك الوعد النهائي، أي إنها في هذه الناحية شديدة الشبه بما يجري في إسرائيل. فقد قام وجود إسرائيل على ظهور المسيح في آخر الزمان، وأنه يجب إعداد بيت المقدس لتلك المرحلة، وأن اليهود يعملون على إعداد الأرضية لعودة المسيح.

إنّ الحكومات لا تخرج عن واحد من نوعين؛ فهي إما حكومات منبثقة عن الناس، وتسعى إلى ضمان مصالحهم الراهنة؛ وإما حكومات تعمل على تحقيق وعد يأتي في آخر الزمان، وترى انحصار رسالتها في إنجاز هذه المهمّة.

إذا آمنتم بالمهدوية، أو بتلك الشخصية الموجودة في اليهودية والمسيحية، فإنّ معنى الحكومة وإدارة الدولة والعالم يكون مختلفاً عندكم، وسيكون للحكم الملقى على عاتق الدولة مفهوم آخر، وسيكون مختلفاً عن الحكومات العلمانية والديمقراطية. وعندها يحظى مفهوم الغصب بأهمية قصوى عندكم، وستكون هناك أصالة لعدم التعاون مع الحكومات غير الدينية، والتي لا تقوم على مفهوم الولاية. ومن هنا سيقع التعارض بين الديمقراطية وفكرة المهدوية، واضمحلال الخاتمية. وأنا أرى في مصير المهندس مهدي بازرگان مصداقاً لهذا التعارض الباطني، فإن بازرگان، الذي كان أول رئيس للوزراء في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كان يفكر في الحكومة ضمن الأطر العلمانية، بمعنى الحكومة غير المقدّسة، التي تسعى إلى تنظيم حياة الناس، من القيام بتعبيد الطرق، ومد الجسور، وإقامة السدود، وبناء المصانع، وما إلى ذلك… ومع ذلك فإنه أضحى رئيساً للوزراء في دولة ترى قداسة لعملها ولأشخاصها، ويرون أنفسهم ممهِّدون للموعود النهائي الذي يأتي في آخر الزمان، وكان شعارها: «احفظ لنا الخميني، إلى ظهور المهدي». وكان لابد لهذه الثنائية من الانفصال عن بعضها، حيث لا يمكن الجمع بين رؤية لا تؤمن بقداسة الدولة ورؤية تسير على العكس منها تماماً. وهناك فرق بين الرؤية التي تعمل لمصلحة العامة، والرؤية الأخرى التي لا تفكر إلا في التمهيد لموعود تاريخي. ولا يمكن الجمع بين تينك الرؤيتين.

كان من السهل على الدكتور علي شريعتي أن يخاطب مستمعيه في يومٍ ما، وأن يتقبل سامعوه كلامه، حيث يقول: «إنّ مذهب الانتظار هو مذهب المعارضة، ونحن حيث ننتظر المهدي الموعود فإنّ هذا الانتظار يساعدنا على مواصلة الاعتراض، وعدم الرضوخ لأيّ حكم، والوقوف بوجهه». وقد حقق هذا المفهوم نجاحاً بحسب الظاهر. ولكن إذا كان الانتظار عبارة عن اعتراض فهل الاعتراض هو مذهب الحرية؟ وهل هو مذهب الديمقراطية؟ أستبعد إمكان الربط بين هذه المفاهيم في الوقت الراهن بسهولة، ويجب القيام بثورة جهادية أخرى.

_____________________

(*) مفكر إيراني معروف، وأشهر منظِّري الإصلاح الديني في إيران. طرح ـ وما يزال ـ سلسلة من النظريات التي أثارت جدلاً واسعاً، كان آخرها حول الإمامة والوحي. وهذا نصّ كلمة الدكتور سروش في حشد من الجامعيين الإيرانيين في باريس [جامعة السوربون]، بتاريخ: 3/6/84 هـ ش/ 2005 م.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً