أحدث المقالات

في التشخيص العميق للإشكاليات العامة التي تواجه المجتمعات هناك محددات واقعية للقراءة، تنطلق من الواقع ومعطياته، ولكنها كي تعطي تصورات قريبة من حقيقة الواقع لتكون قادرة على التشخيص القريب للإشكالية، تحتاج أن تمارس عملية خروج عقلي وذاتي من صناديقها المعرفية ومسبقاتها البيئية، وتمتلك الجرأة في نقد هذا الواقع وتحديد معوقات التطور والنهوض فيه، خاصة تلك العقدية كونها المُشَكِّلة لمنظومة الأفكار التي تقود عقول الجموع البشرية وتحدد لها مسارات سلوكها الفردي والجمعي على حد سواء.

لذلك عقد المؤتمرات بحد ذاته خطوة جيدة، لكنها يفترض أن تكون خطوة ضمن خطوات متتالية قادرة على معالجة الإشكاليات المشخصة وتطبيق الرؤى المعالجة لها بشفافية عالية ومواجهة صريحة، كون المستهدف اليوم هو وجود الأمة ومستقبلها وليس مجتمع بذاته أو مؤسسة بعينها ، بل وجودنا كأمة يتم استهدافه من خلال استحضارالماضوية بشراسة بعيدة عن النقد واستخدامها في صناعة الحاضر وهدمه لبناء مستقبل بمعطيات جديدة تبتعد بالأجيال عن الجانب المشرق من الماضي والذي كان ملهما لصناعة حاضر بنّاء لكثير من الدول ومنها الدول الغربية .

 

المعرفة مصادرها وصناعة الأفكار :

إن مُوَجِّهات السلوك البشري تحددها الأفكار التي تقود العقل ، وهذه الأفكار تتشكل من خلال مصادر المعرفة البشرية التي حددتها الفلسفة بعنوان نظرية المعرفة ، وشخصت من خلالها مصادر المعرفة الإنسانية ، وتكمن أهمية هذا الموضوع في كون المعرفة بمصادرها هي التي تشكل أفكار الإنسان وتقود عقله الذي بدوره يقود قلبه ويدير سلوكه الفردي والاجتماعي .

وكوننا نعالج إشكالية وفق معطيات واقعنا المعاش ، وهي إشكالية التطرف فنحن اليوم أمام مواجهة صريحة مع العقل ومصادر معارفه كون معالجة التطرف لا تتقوم بمعالجة ظواهره بل بمعالجة جذوره وتفكيك بناه للعمل على إصلاح تلك البنى التأسيسية إصلاحا جذريا .

 

مصادر المعرفة هي :

  • الحس
  • التجربة
  • العقل
  • الوحي
  • الوجدان

 

ولكل مصدر أدوات منهجية تهيمن عليه وتشكل التصورات الذهنية التي تعمل بعد ذلك على تشكيل الأفكار وصياغتها سلبا أو إيجابا .

وكل مصدر يلعب دورا محوريا في رفد المصدر الآخر من حيث دعم الفكرة أو تشكيلها ، أو تحويلها لعقيدة راسخة تدعم السلوك الفردي والاجتماعي في المحيط والمجتمع .

فبدايات تشكل تصورات الإنسان منذ طفولته يكون مصدرها الحس، وهنا في هذه المرحلة تلعب جهات عديدة دورا محوريا في رفد عقل الطفل وتشكيل رؤاه وتصوراته وهذه الجهات هي ؛

 

  • الأسرة وهي الحاضنة الرئيسية والأولية لأفكار الإنسان وسلوكه . فالأبوان هنا المصدر الحقيقي لمعرفة الطفل معرفة حسية، فكل ما يتم صناعته في هذا المحيط يعتبر القاعدة المعرفية التي تشكل أفكار عقل الطفل وتصوراته وترفده بعد ذلك في سلوكه وحركته .
  • المدرسة وهي المرتبة الثانية في هذه المرحلة من المعرفة الحسية ، والتي يمضي فيها الطفل في عمر مبكر من حياته ( ٤ سنوات ) وقتا طويلا في تلقي المعارف ، ويكون هنا المعلم النموذج الذي يشكل مرجعية معرفية للطفل تراكم معارفه وتشكيل أفكاره ورفد سلوكه الفردي والاجتماعي، وتراكم هنا بناءه القاعدي الذي شكلته الأسرة.
  • المحيط الإجتماعي البيئي الذي يحتك به الطفل والذي يشكله الأقرباء والأصدقاء، ويكون له الأثر الكبير في هذه المرحلة الحساسة من مراحل تعلم الطفل وتشكيل قواعده البنائية المعرفية .

 

وهنا يجب أن نأخذ في الحسبان عدة أمور :

 

  • من جانب نحن ننظر لمرحلة معرفية تتعلق بالمرتبة الأولى في تشكيل القاعدة الفكرية للطفل والتي هي الحس ، لكننا في ذات الوقت لا نقلل من أهمية باقي مصادر المعرفة كونها تشكل روافد لكل من الأسرة والمدرسة والمحيط الاجتماعي ، فحينما نتكلم عن أن الحس هو المصدر المعرفي الأول لتشكيل الأفكار بالنسبة للطفل فهنا زاوية النظر هي الطفل ومنهجية تشكيل أفكاره ورفدها، ولكن في ذات الوقت يعتبر أيضا الحس والتجربة والعقل والوحي والوجدان مصادر شكلت معارف وأفكار كل من الأسرة والمدرسة والمحيط الاجتماعي .
  • لا يمكن في هذه المرحلة من تشكيل معارف الطفل وأفكاره أن نغفل عن دور الإعلام والتكنولوجيا التي باتت متوفرة في أيدي الأطفال في مراحل عمرية مبكرة سواء في المنزل أو في المدرسة، لكننا هنا نعتبر في هذه المرحلة أن هذه الأدوات وسائل يمكن ضبطها بشكل كبير وتوجيهها عن طريق الأسرة والمدرسة ، لذلك لم نعتبرها في عداد الجهات المؤثرة والفاعلة حسيا في تشكيل معارف وأفكار الطفل ، لكنها لاحقا في مراحل متقدمة من عمر الإنسان سيكون لها دور فاعل ومحوري في ذلك .

 

أما ما هي مصادر معرفة كل من الأسرة والمدرسة والمحيط الاجتماعي فهي كل تلك المصادر مجتمعة ، والأدوات الفاعلة في دعم هذه المعارف أو الترويج لها هي :

 

  • التراث والتاريخ بكل مصادره سواء الدينية أو السياسية أو الثقافية ولكن أهمها على الاطلاق الدينية .
  • الاعلام وأدواته كافة كونه يلعب اليوم دورا بارزا جدا في صناعة الوعي وكيه والهيمنة على اللاوعي ، فهو من أدوات المعرفة الحسية القوية التأثير .
  • التكنولوجيا وما فتحته من آفاق معرفية كبيرة خاصة فيما يتعلق بمواقع التواصل الاجتماعي وما تحتويه من غث وثمين .
  • العولمة ودورها الكبير في تشكيل البنى المعرفية وتغيير معالم الهوية الإنسانية، سواء هويته المعرفية أو الثقافية ، ورسم معالم جديدة للانتماء والذات وحدودها.

 

إذا نحن أمام مشهد واسع للمعرفة وروافدها وأدوات رفدها ، وهو ما يتطلب دقة وعمق في التشخيص ووضوح وجرأة في المعالجة .

فمعرفة شبكة التعقيدات المعرفية بعمق وواقعية يساعدنا في تفكيكها وتشخيص الخلل في بناها ، أما القراءات التبسيطية للواقع هو إما نتيجة الكسل العلمي أو عدم توفر الأدوات والمنهج في تفكيك تعقيدات الشبكات المعرفية.

فالأصل هو تشخيص الخلل في روافد المعرفة ومصادرها كافة والتي تشكل الأفكار في عقل الأفراد والمجتمع ، والتي بعد ذلك تكون محركا للفرد وللأسرة وللمدرسة من خلال الدولة وللمجتمع .

وكوننا هنا سنركز على جانب مهم في رفد جزء كبير من أفكار الإنسان وتشكيلها وهو الجانب الديني، فإننا سنسلط الضوء على دور هذا الجانب كمصدر معرفي وحياني ومحرك عميق في حياة الفرد والمجتمعات، وعلى محوريته التأسيسية في نشوء التطرف والأسباب التي أدت به للذهاب بهذا الاتجاه المتشدد ، وعلى دور العقل كمصدر للمعرفة في توجيه وقراءة ما يطرحه الوحي كمصدر مكمل محوري أيضا للمعرفة .

فكل مصدر معرفي يشكل مكملا وفي طول المصادر الأخرى ، بل مؤثرا سلبا وإيجابا فيه .

 

الدين وظمأ الإنسان للمعرفة :

يقول الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران ” أصبح فهم التعقيدات التي تنسج كوننا وإصلاح التعليم والمعرفة والفكر من الضروريات الحيوية للأفراد. كان جان جاك روسو يجعل المربي في كتابه ( Emile) يقول : ” أريد أن أعلمه كيف يعيش “. قد يكون من الطموح بعض الشيء القول أننا نريد أن نعلم أحدهم كيف يعيش فنحن نساعد أحدهم على مواجهة الحياة ، على تعلم الحياة من نفسه . غير أن العلم والمعرفة أمور حيوية لكل منا كي يتمكن من مواجهة عالمه ومصيره ومشاكله وتناقضاته .”

الاستغراب – عدد (١) ، أزمة المعرفة – عندما يفتقر الغرب إلى فن العيش.

المشكلة ليست في المعارف التي نعرفها المشكلة تكمن في ما هي حقيقة المعرفة وما هي المعرفة بذاتها ؟ أي معرفة تلك التي تنظم حياة الإنسان وترشده للعيش الكريم ؟

هناك من ينادي بالعلمانية كخلاص لمنطقتنا من الظلام ، ولكن هل هي فعلا الخلاص أم هي هروب آخر نحو المجهول ؟ نحن لا نعالج جذور المشكلة كي نضع حلولا مناسبة ، نحن غالبا نهرب بعلاجات ترقيعية مستوحاة من الآخرين دون حتى الالتفات إلى الفروقات الجوهرية بين الثقافات والهوية، ونعمد إلى عملية استلاب لكل حواضننا الثقافية باستيراد تلك الحلول التي نهرب من خلالها من الواقع حتى لا نشمر عن سواعدنا ونوغل في فهمه وحل مشكلاته .

والسبب هو التداخلات والتعقيدات المتشابكة والمتراكمة لتلك المشاكل التي تداخل فيها السياسي بالمعرفي بالديني ليخنق الإنسان لا ليخدمه .

والحقيقة أن ما هو سياسي ليس ما يجب أن تكون عليه السياسة ، وماهو معرفي ليس حقيقة ما يجب أن تكون عليه المعرفة ، وما هو ديني ليس ما هو دين أو ما وجد كدين ، التشابكات الحاصلة هي ثمرة أفهام بشرية متداخلة ساقت لنا تجاربها وعصارة أفكارها لتصنع لنا واقعنا .

ما نحتاجه كخطوة أولى حقيقية هي فك هذه التشابكات من خلال فهم واقعها ومواجهة كل الانحرافات التي بها ومن ثم معالجتها بالحقيقة .

 

وهنا نقع في مأزق الحقيقة ، فأي حقيقة وأي منهج يوصلنا لتلك الحقيقة ؟

في ظل فوضى المعرفة وادعاء امتلاك الحق والحقيقة ، لا يمكننا زعم استحالة معرفة الحقيقة والحق ، بل علينا أن نمتلك الجرأة والقدرة على مواجهة كل التحديات لمعرفة الحقيقة بقدر ما نمتلك من أدوات منهجية ، فلن ادعي قدرتنا على امتلاك كل الحقيقة ، ولكنني أجرؤ على القول أننا يمكننا الحصول على جزء كبير منها إذا قررنا ذلك .

إن أول عقبة وحائط صد يمكنه الوقوف أمام هذا الطريق الشائك هو أغلب النخب الدينية والفكرية، والسبب هو تداخل المصلحة الذاتية مع مسار المعرفة البشرية تداخلا متشابكا يغلب فيها هؤلاء مصالحهم على معارفهم . والضحية هي الإنسان الذي منه تتشكل المجتمعات .

لذلك أرى أن الخطوة الأولى للتشخيص في هذا المحفل الكريم هو مواجهة الذات ، وانخراط أولئك الذين تتقدم معارفهم ومصلحة الإنسان على مصالحهم وذواتهم ، أولئك المستعدون للمواجهة الكبرى مع الذات من جهة ومع الآخر من جهة أخرى .

مواجهة معرفية تمتلك القدرة على فهم الواقع وتشابكاته ومن ثم مواجهته وإصلاحه مهما كلفها ذلك من ثمن على مستواها الشخصي أو الاجتماعي أو حتى على مستوى ما اعتادته من أفكار وعقائد.

إذا امتلكنا هذه المقدرة والقدرة فنحن بذلك نكون قد قطعنا نصف الطريق نحو فهم وإدراك ماهية المعرفة ؟ والإجابة على سؤال أي معرفة ؟ وما هي أدواتها وماهو منهجها السليم .

إن فهم العقل الإنساني وطبيعة الفهم البشري مدخلا ضروريا لفهم الذات والآخر ، كون المعارف تشكل الافكار التي تقود العقل ، وكون العقل نبي باطن تميز به الإنسان وكان به مسجودا للملائكة .

إذا خطوتنا الأولى تكمن في فهم الإنسان

فهم حاجاته الواقعية ، صراعاته التي يعيشها مع ذاته بين فطرته وغرائزه ، كيف تم نظمها وقوننتها .

هناك حقيقة لا يمكن الانفكاك منها وهي حاجة الإنسان للدين كضرورة لا تنفك عن وجوده ، فالإنسان بفطرته ينزع نحو المقدس ويسكن إليه ، المقدس للإنسان هو مصدر طمأنينته وسعادته .

إن أدركنا ذلك بواقعية نستطيع بعدها معرفة أي دين وأي مقدس ، كون الوحي  هو مصدر الدين وهو أهم مصادر المعرفة المقدسة ، وهنا يجرنا هذا الاعتراف والاقرار إلى إيلاء اهتمام خاص بهذا الجانب المعرفي من معارف الإنسان والمحوري في تشكيل عقيدته وتسيير سلوكه الفردي والاجتماعي .

فالدين هو مصدر التفسير الأثرى لمعنى الحياة والموت ، وكون الحياة والموت مراحل أساسية للإنسان بل هي تشكل مساراته كافة وأفكاره بالتالي تصبح حاجته للدين حاجة وجودية واجبة ، هذا فضلا عن كونها حاجة فطرية .

“وهنا جاء سؤال الباحثين والمهتمين : ما الذي يسوق الشباب في الغرب وغيره ، ممن هم في كفاية معاشية ، للهجرة إلى ولائم الذبح وحفلات الرقص على أشلاء الضحايا في بلادنا ، والتسابق على الانخراط في وحشية عبثية ، تتلذذ بالدم المسفوح ، وتتهافت على مغامرات مهووسة في العمليات الانتحارية ؟ ” د. عبد الجبار الرفاعي – الدين والظمأ الأنطولوجي .

نحن اليوم إذا أمام أزمة فهم ديني لا أزمة دين ، هذا الفهم مرجعه إلى موارد المعرفة وأدواتها وكيفية الإدراك وهو ما يتطلب معالجة على عدة أصعدة مختلفة .

 

الإدراك المعرفي وأدواته :

الصعيد الأول هو الحفر العميق في منطقة الإدراك المعرفي وكيف يتعامل عقل الإنسان ومراكز الإدراك فيه مع المعارف ويرسم من خلالها أفكارا تشكل له عقيدة وسلوك .

إن العمل على مناهج التفكير أو ما أسماه المفكر العراقي يحيى محمد علم الطريقة .

حيث يقول : ” البحث الطريقي للفهم، وهو معني بمعرفة مناهج الفهم والقواعد التي يعتمد عليها والقوانين التي تتحكم فيه. كما يندرج ضمن البحث الطريقي كل ما يستجد من قواعد للفهم، وكذا طرق التقييم والترجيح بين مناهج الفهم وأنساقه. ويدخل هذا القسم في صميم علم الطريقة، وهو نظير ما يجري بحثه في (فلسفة العلم). وبهذا الإعتبار يكون عبارة عن فلسفة الفهم. لكن إطلاق سمة المنهج والطريقة عليه أولى من إطلاق لفظ الفلسفة.

وللمنهج معنيان، اذ يُقصد به المعنى الإجرائي، كما قد يُقصد به المعنى الأبستيمي او المعرفي. ويعني الأول القيام بالخطوات والضوابط اللازمة للبحث. فمثلاً في البحث التجريبي؛ على المجرب أن يأخذ بعين الاعتبار كل الخطوات التي تكفل للعملية التجريبية ان تكون مناسبة، دون ان ينقصها شيء من الشروط المعدة للبحث، كتحضير عينات من المادة المراد إجراء البحث عليها وتعريضها لظروف اختبارية مختلفة، والاستفادة من الابحاث السابقة في هذا المجال، وتسجيل الملاحظات الخاصة بخطوات البحث وجمعها ثم تحليلها واستخلاص ما يمكن من نتائج. والامر كذلك في البحث الفكري، فلكي يحاول المفكر أن يقدم نظرية ما او يشكل تصوراً دقيقاً حول قضية معينة؛ عليه أن يقوم بجملة من الاجراءات المنهجية كشرط للدقة في النتائج التي يمكن ان يتوصل اليها، من قبيل الاطلاع المسبق على النظريات والتصورات التي سبقت بحثه في القضية ذاتها، وكذا مقارنة هذه الافكار ببعضها او القيام بنقدها ضمن نفَس موضوعي، وكذا ان لا يحمل صورة نهائية مسبقة حول القضية ليسقطها على البحث، وكل ذلك يعد من الاجراءات المنهجية للوصول الى نتائج نهائية دقيقة. لكن ذلك لا علاقة له بالبحث المنهجي بما يعبر عن نظرية في المعرفة الإبستيمية، ففي جميع الاحوال أن الباحث سيعوّل على منهج او اكثر من المناهج المعرفية؛ سواء التزم بدقة الإجراء المنهجي ام لم يلتزم. فقد يعتمد على المنهج التجريبي في قبال العقلي او العكس، فهو وسيلة غرضها الكشف عن الحقائق عبر عدد من القواعد والمبادئ القبلية التي تعمل على تحديد سير العملية المعرفية، وكل ذلك لا علاقة له بالإجراء المنهجي الآنف الذكر. والذي يعنينا هو المعنى الأبستيمي للمنهج لا الإجرائي.”

وكما يرى أن علم الطريقة هو العلم الذي يدرس مناهج الفهم ويوضح العلاقة فيما بينها وبين تأسيساتها القبلية، ومن ثم بين هذه التأسيسات وبين الفهم.

وتكمن أهمية هذا العلم كونه ينظم طريقة الفهم والتفكير المعنية بالتعاطي مع النص الديني الوحياني ، والذي يعتبر اليوم أهم إشكالية جدلية نتجت منها مدارس عدة منها مدرسة داعش التي اعتمدت على القراءة النصية المغلقة للنص الوحياني دون مدخلية للعقل أو للزمان والمكان ، ودون مداورة لتلك النصوص وإعادة موضعتها فيما يتناسب مع منجزات الحاضر ومعطياته .

هذا الحفر في الجهاز المعرفي والإدراكي يُمَكّننا من الخروج بمنهج لعلم الطريقة الذي بدوره ينظم عملية التفكير والفهم ، وهو ما قد يقلل مساحات الاختلاف بين كافة المدارس الدينية في قراءة النص الديني.

 

التراث والمقدس وتفكيك الارتباط:

الصعيد الثاني : يطرح على بساط البحث كثيرا من قبل النخب الدينية والفكرية موضوع نقد التراث الديني وتجديد الخطاب الديني .

ورغم ما قدم في هذا الصدد إلا أننا ما زلنا نراوح ونعيد توليد وإنتاج ذات التراث وذات الخطاب .

والمعني الحقيقي بنقد التراث وإعادة انتاج خطاب ديني تحكمه النزعة الإنسانية هي المؤسسات الدينية بكافة أطيافها ومشاربها .

 

وهذا واقعا يتطلب التالي :

 

  • التفكيك العملاني بين المؤسسات الدينية والسلطة ، ليس وفق الفهم العلماني للفصل ، وإنما تفكيك تحريري . يحرر قرار المؤسسة الدينية من ضغوط السلطة التي تعتبر مرجعيتها في الدعم المالي . هذا الفصل ليس إقصائيا من مراكز القرار ، بل كما أشرت تحريريا للقرار . بحيث يصبح لدى المؤسسة الدينية إرادة حرة تمكنها من نقد التراث وبناء خطاب ديني بعيدا عن ضغوط السلطة وضروراتها وخاضعا لخيارات الشعوب ووحدة الأمة ووجودها خضوعا لا يخرجه عن دائرة الثابت في النصوص ، لكنه يمكنها من قراءة معيارية زمكانية للنص ، تعيد إنتاجه المعرفي على ضوء الواقع ومعطياته ، ووفق مصلحة الإنسان لا السلطان .كون ارتباط المؤسسة بالسلطة ،يجعل من السلطة مصدرا لاقتصاديات المؤسسة ماليا مما يخضعها لقرارات السلطة ويقيد قراراتها ويحجم من قدراتها على التغيير والنهوض .
  • التخلص من الشعبوية وضغط العوام ، كون هناك كثير من الحقائق التي تخفيها تلك المؤسسات نزولا عند ثقافة الجمهور وقدره في الفهم ، وخوفا من سخط الجمهور ، ويرجع ذلك إلى سلطة الجمهور المالية التي تدعم قيام هذه المؤسسة الدينية .
  • تحول المؤسسات الدينية لجامعات أكاديمية مستقلة ماليا من خلال قيامها بمشاريع تفيد المجتمع من جهة وتجعلها مكتفية ذاتيا من جهة أخرى ، هذا الاكتفاء يحررها ذاتيا في اتخاذ قراراتها من جهة. ، ويجعلها قوة مستقلة قادرة على مواجهة الانحراف والنهضة والتطوير ومواجهة استبداد السلطة .
  • تحرير المؤسسات الدينية يجعلها مؤسسات فاعلة ونافذة في كل من الجمهور والسلطة ، فهي ليست خاضة لرغبات العوام من الناس ونزواتهم ، حيث أوعيتهم الإدراكية للواقع متفاوته ، وليست خاضة لضغوط السلطة ومصالحها الذاتية وتشابكاتهت مع مصالحها الخارجية للدول العظمى ، وقد اثبت التاريخ لنا توظيف السلطة للدين في كل مفصل تاريخي يهدد وجودها ، حيث تحوله لسلاح مسلط على رقاب الجماهير يخيرهم بين جنة السلطان العسوف التي شرعنتها المؤسسة الدينية بتبعيتها للسلطة أو نار جهنم لمخالفة الجمهور للسلطان العسوف المسدد من سلطة الرب بواسطة فتوى المؤسسة الدينية.

 

الخطاب الديني والنزعة الطائفية

العقل مسار معرفة الشريعة ، والقلب مسار معرفة الطريقة ، والطريقة تقودنا إلى الحقيقة ، ولا تتم الطريقة إلا بالشريعة ،ولا تتم الحقيقة إلا بالطريقة، فرسم مسارات التعرف على الشريعة يضيق من دوائر الوهم وانحراف العقل ، ولكنه لا يكبل العقل ضمن هذه المسارات بل يرسم له الطريق للسير والانطلاق نحو القلق والشك الإيجابي ، اللذان يبعثان على البحث الدائم عن أقرب صياغات للشريعة وأقرب مسارات للطريقة التي توصلنا لأقرب نقاط من الحقيقة.

ولعل أهم ثابت لدينا ومسلمة يقينية هي حاجة الإنسان للدين وتدين الإنسان الفطري، إلا أن تجليات هذا التدين وهذا الدين هي محل قراءات كثيرة في عصرنا تمايزت بين الافراط والتفريط وبين التعصب والتساهل ، ولم يجد الخطاب الديني المعتدل له محلا في صياغات العقل الجماهيري ، الذي استطاع الاعلام أن يرسم له خيارات مسبقة ويصنع له قناعات متطرفة تصب في الهدف الاستراتيجي للسياسات العالمية المهيمنة على العقل البشري وساحة الفعل لديه.

بل كان أيضا لكثير من الخطابات الدينية دورا فاعلا في إعادة إحياء نزعات كثيرة هي مصاديق للتعصب الذي حذرت منه كثير من الروايات الواردة بعدة طرق معتبرة لدى الفريقين ، بل التعصب منبوذ عقلا لدى كل الأديان.

لا ننكر أن الممارسات التاريخية للسلطات المتعاقبة عبر التاريخ سواء لدى المسلمين أو الديانات الأخرى مارست دورا فاعلا في إذكاء حالة التطرف من خلال التمييز والإقصاء الذي مارسته ضد المختلف معها عقديا أو سياسيا.

حيث تحالفت كثير من هذا الأنظمة عبر التاريخ مع السلطة الدينية كي تشرعن ممارستها فتحظى بالتفاف شعبي إذ كرست مقولة ” الناس على دين ملوكهم ” ، هذا الاقصاء والتمييز يخلق ردات فعل لدى المستهدفين تتمايز بين الشدة والضعف ، ولكن يغلب على معظمها طابع التعصب والانفعال وينمي حالة الانتقام بل يعمق حالة الانكفاء على الذات لدى المستهدفين ويعمق الهوة بين أبناء الأرض الواحدة ، لتصبح الطائفة والمذهب والقبيلة هي المأوى وليس الدولة والقانون والشرعية الالهية كما هي ، وليس كما يراد لها من صياغات تخدم السلطان وتدعم نفوذه وتشرعن وجوده وآليات حكمه.

ولكن هل سنبقى أسرى التاريخ ونستحضر الماضي لتشويه الحاضر وهدم المستقبل ؟ أم علينا الاعتبار من التاريخ وتحويل الثغرات والسلبيات إلى محطات إيجابية نعتبر منها ونعالجها لتصنع حاضرا مختلفا يناسب لحظة الراهن ويحاول قراءة ذلك التاريخ بأدوات العصر العقلية والمعرفية ، ليتجاوز الماضي بتفاعلات الحاضر الراهن ويتجاوز من الانفعال إلى الفعل والانجاز والتقدم؟

إن أحد أهم إشكاليات الخطاب الديني الراهن هي إشكالية الفرقة الناجية التي تستبطن مفردة امتلاك الحقيقة، حيث تعد من الإشكاليات العوائقية الواقعية الموغلة في بناء الحواجز النفسية قبل الدينية، إذ مجرد ادعاء امتلاك الحقيقة يفضي في الذهنية العامة ادعاء كون ممتلكها مصداق للفرقة الناجية، وهو ما يبني تراكميا حواجزا نفسية مع المختلف ويغلق آفاق الانفتاح عليه والتعايش معه بل والاستفادة من تجربته المعرفية والفكرية والتي دعت لها الآية الكريمة ” وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ” .

ومن هنا يكون المنطلق من تفكيك الخطاب والبنية الفكرية ومعالجة أوجه الخلل وفق معطيات الراهن وإشكاليات الحاضر، وحاجة الإنسان كفرد وحاجة الأمة كمجتمعات في إعادة فهم النصوص الدينية وإعادة بناء خطاب ناضج وقادر على تلبية حاجة الإنسان والدول في الاستقرار الاجتماعي والأمن في بنية العقل العربي والإسلامي.

 

فمعالجة جذور المشكلة تكون في ٣ اتجاهات رئيسية :

– الخطاب الديني وإعادة رسم معالم الشريعة وفق أدوات العقل العصري الراهن.

السؤال الذي يتبادر للذهن هو : هل واقعا بتنا بحاجة لتفكيك الخطاب الديني وبنيته الداخل دينية والخارج دينية،

وإعادة بناء خطاب لا يتنازل عن ثوابته وكلياته ولكنه يدخل للمناطق المرنة في الشريعة ويعيد قراءة النص بعقلية الحاضر، والعمل على المواءمة بين الثابت والمتغير والحفاظ على أصالة الاسلام وخلوده ؟

ومن المعني واقعا بعمل ضخم كهذا في مراجعة التراث وإعادة قراءته وتصفيته من كل ما من شأنه مخالفة صريح القرآن وكلياته ؟ هل المؤسسات الدينية فقط أو هي والنخب من المثقفين والمفكرين والأكادميين المتخصصين في العلوم الإنسانية المختلفة ؟ وهل لهذه العلوم مدخلية في هذا العمل التفكيكي ؟

باتت الحاجة في حاضرنا لهذا التفكيك ملحة حيث أصبحنا موغلين في التطرف والتخندق ضد بعضنا البعض، وباتت الخطابات الدينية تعمق الهوة بين أفراد البشر متكأة على العصبيات المذهبية والطائفية ، بل حولتها لسلاح في دعم مساراتها السياسية ورغباتها في السلطة ، بعد أن تحولت المعرفة لمعتقل في سجن عالم السياسة وباتت السياسة هي التي ترسم آفاقنا المعرفية إن صح التعبير ، بدل أن تكون المعرفة هي المنتج لكل الفوقيات وبدل أن تشكل هي القاعدة لذلك .

وأهمية هذا التفكيك تكمن في سلطة الخطاب الديني على الانسان، كونه مفطور على التدين وسلطة الفقيه أو رجل الدين في لاوعيه ،  فالتفكيك هو المرحلة الأولى في إعادة صياغة خطاب ديني تعايشي وتسامحي ولكن ليس تساهلي ، يحدد الخطوط العامة والخاصة ويضع نقاط كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على حروف مقتضيات الزمان والمكان كي تتضح الصورة بشكل أكثر تجليا مع معطيات راهننا .

بالتأكيد أن كل سؤال من الأسئلة المطروحة هو بذاته يحتاج بحث تفكيكي مفصل ومنهجي وعلمي وموضوعي لنخلص إلى تصور يكون الأقرب للواقع والحقيقة .

إن التركيز على معياري خير قوم وشر القوم هو تركيز على معياري الخيرية والشرية، وليس معيار القوم وإعادة بناء المفاهيم وفق هذين المعيارين اللذان ذكرا في الحديث الذي عرّف خلاله رسول الله صلى الله عليه وآله التعصب ،وألمح بل أشار إلى أن التعصب هو أن ترى شرار قومك خير من خيار قوم آخرين ،قد يفسح المجال أمام العقل ويفتح آفاق كبيرة تؤسس لمنظومة إسلامية معيارية اجتماعية قادرة على تذويب الحواجز بين أطياف المجتمع ، وإعادة التآلف الداعم للاستقرار وتحقيق الأمان للمجتمع.

 

الاتجاه الثاني في معالجة جذور المشكلة:

– إعادة إنقاذ النزعة الإنسانية للدين

وهو ما يدعو لإعادة النظر في رؤية الدين كمجموعة قوانين حازمة ومتجردة يكون الإنسان في خدمتها، لتتحول إلى قوانين فيها روح هدفها تحقيق مقاصد كبرى تكون في خدمة الإنسان وتكون العلاقة بينها وبين الانسان علاقة تبادلية ، فالدين جاء للحياة الدنيا فهي المزرعة وفيها يزرع الثمر والآخرة حصاد ، لذلك إعادة قراءة الدين وفق هذا المعطى الذي يضع الانسان نصب عينيه ويضع إنسانيته حاضرة وتحقيق العدالة كمقصد وكقيمة جوهرية تتحقق من خلالها كرامة هذا الانسان ، قد يقدم حلا تصالحيا مع الدين وليس تنازعيا وتصادميا معه.

وأيضا نطرح تساؤلا : من هو المعني بذلك واقعا ؟ وما هي الآليات التي تحقق هذا الهدف ؟

– الاعلام وأعادة إنتاج خطاباته ومنهجياته على ضوء ما سبق ليتخلص من كل رواسب التعصب باسم الدين والدفاع عن الله .

ويأتي الاعلام كخطوة لاحقة لما سبق لما له من دور محوري في الترويج لهذا المشروع التصالحي مع الدين ، إذ بات هو وسيلة قوية في صناعة وعي الناس وإعادة صياغة أولوياتهم ومفاهيمهم ورغباتهم ، بل في تحريكهم وتثويرهم وفق الوجهة القائمة على هذه الوسائل الاعلامية ، بالطبع هذه الخطوة تحتاج أيضا مقدمات متعلقة بأصحاب المشروع الاعلامي الذين يحتاجون الى عدة مقومات للقيام بهكذا مشروع

أهمها :

– الاكتفاء الذاتي اقتصاديا ومعرفيا وحضور الهدف الرباني

– الاكتفاء يتولد عنه الاستقلال وعدم الانتماء ، وهما مطلبان لخلق ذهنية مستقلة موضوعية ومنهجية قادرة على صياغة خطاب معتدل غير متطرف .

– الاستمرار والثبات وكسب ثقة الجمهور ، وهو ما يتطلب القدرة الفنية والتخصص والاطلاع على كل تطورات عالم الاعلام التقني والنظري والمفاهيمي ، واستخراج النظريات الاعلامية من خلال قراءة النص الديني قراءة موضوعية يستقرئ الواقع الإعلامي ويعرضه على النص الديني ليستخرج من بطون النصوص النظرية الاسلامية في الاعلام .

– القدرة على الانتشار وهو ما يتطلب عالمية منهجية وخطابية قادرة على مخاطبة كل الجماهير وليس جمهور طائفي أو مذهبي يتناسب هذا الخطاب مع عالمية الاسلام وينطلق من مبدأ ” وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ”

فالحضور الفاعل لتيار الوعي في عمق التجربة الدينية ، ومحاولته مراكمة الجهود والأفكار والمعارف ، وإكمال مسيرتها وليس الذوبان فيها أو التحليق حولها ، قد يهز جدار الصمت في الخطابات المذهبية والطائفية ، ويعيد الرشد للنزعة الإنسانية في الدين ، ليرسم مسارات إعلامية عالمية قادرة على الجذب ومانعة للصد وقادرة على إزالة الموانع أمام وظيفتها في هداية الناس ليس بالسيف ومنطق القوة ، وإنما بسلاح الكلمة والعقل وقوة المنطق.

تحول الطموح من طموح مذهبي ضيق إلى طموح عالمي وحضارة عالمية تعمل على دمج الأفضل من كل مساهمة ، على قاعدة أكرمكم عند الله أتقاكم ، وضرورة الخروج من النمط التقليدي الفردي مع النصوص ، إلى تعاطي اجتماعي يناسب الراهن ومعطياته .

“إننا بحاجة للتوجه لما أسماه سيزر أو سنغور ب ” تلاقي الإعطاء والأخذ ” على قاعدة جمع العقول ، والسعي نحو الحقيقة .

إننا نحتاج بناء نظام تعليمي قادر على مواجهة الأفكار الأحادية المتطرفة والإجابة على تساؤلات حقيقية هي :

  • هل الماضي بائد بالضرورة ؟
  • أو هو واسطة للارتقاء نحو الحاضر والمستقبل ؟” إدغار موران – مصدر سابق.

لا يفوتني هنا  عمل إطلالة على دور التجربة البشرية ومراكمتها للمعرفة ، وقدرتها على تشكيل مسبقات معرفية تعيد قراءة الماضي وفقها لتصنع راهنها ، لكن ليس دوما المسبقات المعرفية المتولدة من التجارب البشرية مفيدة ، كون تلك المسبقات قد تسقط ثقلها على فهم التراث نقدا وتفسيرا وهو ما قد يبعدنا عن واقع النص ومراده .

ويدخلنا في فهم المقدس الذي قد يبعدنا عن النص ذاته ومراده، ويدخلنا إلى صنع قداسات جديدة من أفهام بشرية نعمل على غلقها ومنع مسها نقدا وتفسيرا ، لتتحول بذاتها إلى دين .

 

خلاصة :

يمكننا مما سبق أن نخرج بمجموعة توصيات :

  • التركيز على فهم علم الطريقة ووضع مناهجه ليصبح جزءا محوريا في مناهج التعليم والتربية التي تلعب دورا هاما ومحوريا في المعارف و في بناء الجهاز المعرفي والإدراكي لأهميتهما في بناء الأفكار والعقيدة التي تقود العقل وترسم سلوك الفرد والمجتمع .
  • المعني بنقد التراث وتجديد الخطاب الديني هي المؤسسات الدينية بالتعاون مع النخب الفكرية وهو ما يتطلب تحرير قرار هذه المؤسسات سواء من السلطة أو من الجمهور ، واكتفاءها الذاتي اقتصاديا لتصبح جهة لها اعتبارها وقادرة على مواجهة الانحراف والاستبداد .
  • صياغة إعلام  لا تحكمه المذهبيات ولا البترودولارات ، يصوغ خطابا نهضويا مؤثرا في صناعة وعي الجمهور .
  • دعم مؤسسات المجتمع المدني ومراكز الدراسات والبحوث في إعادة صياغة الوعي وفهم الدين والخطابات الدينية ومد المؤسسات الدينية بها وتطويعها لخطط عمل وورش تقوم مؤسسات المجتمع المدني بتسريتها للمجتمعات .

 

ملحق :

الغرب ومبدأ المواطنة

لماذا الجهاديون الغربيون ؟

رغم أن الغرب الذي طرح فكرة المواطنة كحل للتباينات الانتمائية والهويانية في مجتمعاته,وكخطوة عملية للتعايش بين هذه الاطياف المتباينة,إلا أن واقع الامر مازال يحاكي تناقضا تعيشه تلك المجتمعات,بسبب الهوية الأم التي صاغت شخصية الانسان واضطرته الظروف للرحيل عن أرضه ليحط رحاله في أرض أخرى أخذ جنسيتها لأنه مطابق للشروط إلا أنه حافظ على هويته التي كرست الانتماء للاصل.

وقد برز هذا الصراع على السطح في قضية الجهاديين الغربيين من المسلمين ، خاصة أولئك الذين ولدوا في الغرب وترعرعوا في نظامه القانوني إلا أنهم مسلمون في هويتهم الدينية وغربيون في انتمائهم الوطني ، ومع ذلك طغت الهوية الاسلامية وفق فهم متطرف لها على هوية وطنهم ، وهو ما خلق إشكالية جديدة لدى الحكومات الغربية وطرح تساؤلات محورية حول المسلمين في الغرب وخطورة وجودهم على الدول الغربية واستقرار المجتمعات فيها .

فبالنسبة لموضوع الجهاديين الغربيين  المسألة طرفانية :

الطرف الأول ( الجهاديون ) : بنية التشريع النصية المعطلة  للعقل التي تعتمد النص كما هو في فهم الأحكام الشرعية ، وتقتفي أثر السلف دون الأخذ في الحسبان لأثر الزمان والمكان ومحاكاة الواقع ، هذا فضلا عن الصراع القيمي بين هويتهم الإسلامية كنظرية وواقعهم المعاش في الغرب القائم على سياقات فلسفية مادية ليس محورها الإنسان بل هو أداتها ومحورها المنفعة والبراغماتية.

الطرف الثاني : الغرب والاسلاموفوبيا وأزمة الهوية والذات ، ودعمه المستمر لأنظمة ديكتاتورية أبوية لا تملك مشاريع وطن ، كانت سببا في تهجير أغلب الطاقات عن أوطانها إلى الغرب ، بل سببا في حالة اليأس والفشل التي يعيشها ملايين العرب والمسلمين .

الأول : تبنى وتربى في بيئة فكرية تؤمن بالتعبد بالنص وتعطيل العقل ( غالبا طغت مدرسة بن حنبل وفرعها ابن تيمية)

التعبد بالنص أي الأخذ بظاهر ألفاظ النص سواء الحديثي أو القرآني دون اعتبارات عقلية وقراءة تاريخية للنص.

 

 

الثاني ( الغرب ):

أولا :لم يفرق مبكرا بين النظرية الاسلامية والممارسة وبين الخلفيات العقدية والفكرية المختلفة بين المدارس الاسلامية.

ثانيا : دعم الاسلاموفوبيا من خلفية سياسية على حساب المعرفية فكرست لدى المهاجر المسلم حالة العودة الى الذات والانكفاء عليها ، بل والتطرف في ذلك كثمرة واقعية لصراع أزمة الهوية التي عاشها المهاجر المسلم ومع تنامي الشعور بالظلم والتمييز يتنامى الشعور بالانتقام .

هذا فضلا عن الأحكام الشرعية المتطرفة التي تعتبر هذه الدول دول كافرة ومن فيها كفرة ، وهو ما يساعد في لاوعي هؤلاء على نشوء بذور التطرف من جهة ، والرفض الداخلي في الاندماج بتلك المجتمعات من جهة أخرى ، مما يجعله مهيأ للانفصال والانقضاض عند أول فرصة يحسبها هو حقيقية .

واستطاع الغرب توظيف هذه الفئة عند حاجته السياسية ليدعم موقفه الاستعماري من جهة ،ويزيد من حركة الاسلاموفوبيا واقعيا من خلال رصد تجربتها على الأرض عبر هذه الفئة من المجاهدين الغربيين ليثبت أن الأصل لا يغلب محاولات الثقافة بعد الهجرة .

فاستغلال الغرب لهذه النماذج المتطرفة وغضه البصر عن هجرتها نحو المناطق المشتعلة لأنه يحتاجها كوقود لمعاركه التي يخوضها للهيمنة والتكسب ، خلق ثغرة كبيرة في المجتمعات الغربية بينها وبين المسلمين المتواجدين في تلك المجتمعات كأحد مكونات المجتمع ومواطني الدولة .

وهي ثغرة ثقة تمس الاستقرار الاجتماعي لجنبتها الأمنية .

 

وهو ما يظهر أحد أهم وأبرز مواطن الخلل عند الطرفين :

١- الجهاديون وتراثهم الذي اعتمدوه كدين يدان به يكفر المجتمعات المخالفة وبالتالي يبيح دمها.

٢- الغربيون الذين استغلوا هذه الفئات وتركوا لها الحرية تحت رقابتهم للذهاب والقتال في مواقع اشتباكهم ليحققوا بذلك مصالحهم وخططهم في الهيمنة وفرض مشاريعهم التقسيمية على المنطقة .

هذا الاستغلال يأتي ضمن السياقات المعرفية والفلسفية التي يعتمدها الغرب ، حيث من أهم نظرياته الأخلاقية التي تسير نظامه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي هو نظرية المنفعة الأخلاقية التي لا تعتمد قيما إنسانية في نسج العلاقات الإنسانية ، بل تستخدم الإنسان كوسيلة في مشاريعها .

هذه النظرية الأخلاقية تضرب منظومة القيم والمعايير وبالتالي تخلق إشكاليات مستمرة في المجتمع والجهاديون الغربيون أحد تجليات السلوك المنفعي في الغرب.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً