توطئة
تكاثرُ المشاكل الإنسانية وتزايدُها طردا في التشعب والتعقيد يدفعنا جميعا إلى بلورة فهم أدق لطبيعة المشاكل التي تواجهنا، أكان على الصعيد الوطني أو الإقليمي أو العالمي. ينطبق هذا بالأخص على تلك المشاكل التي تكمن وراءها خلفيات قديمة لا تزال الاختلافات التقليدية الموروثة ما بينها تستثير خصاما سياسيا-اجتماعيا في حراك هذا العصر. أملي أن تساعد حوارات بناءة هادفة كحوارنا هنا اليوم في تكوين فهم معرفي أدق وأفسح لتلك الاختلافات … فهمٍ ينمي فينا القدرة على تفهم أكثر موضوعية للتنوع الديني والمذهبي والفكري، في أوطاننا وإقليمنا وعبر العالم، ومن ثم يمكّننا من التعايش مع هذا التنوع والتعدد بوئام وطيد لا يقبل من أي دين أو مذهب أو منظور فكري مسلكا تعصبيا إزاء دين أو مذهب أو منظور فكري آخر.
شاعر إنكليزي في القرن السابع عشر (جون دون) لاحظ أن لا شخص منفصل بذاته عن مجتمعه، كانفصال جزيرة وسط بحر. اليوم، إذ نحن نعايش العولمة في جل المعطيات المعاصرة، نلاحظ وضوحا أن لا مشكلة محلية تبقى طويلا معزولة عن الشأن العالمي. أي اضطراب أو عثار في الحال الإنساني، أينما يحدث في قريتنا العالمية، أكان جراء صراع سياسي، أو نزاع ديني، أو خصام مذهبي، أو هتك لحقوق الإنسان، أو تلويث للبيئة أو غير ذلك… إذا ما تفاقم سرعان ما يسري أثره عبر العالم بأسره. خلاصةً، إذن، ما عاد شأن داخلي إلا إذا تفاقم غدا شأنا خارجيا بامتياز، والعكس صحيح.
بإدراك تكاثف هذا التشابك في الحال الإنساني تبرز الحاجة أكثر إلحاحا من أي وقت سبق لأمم الأرض إلى أن تتواءم وتتعاون في إطار اعتماد متبادل لا غنى عنه لأيما مجتمع معاصر. بمثل ذلك، تبرز الحاجة إلى أن يتعامل المواطنون في أيما دولة ما بينهم بوئام وتعاون في إطار مواطنة متساوية، قائمة على أساس تكافؤ الحقوق والواجبات. كذا إقليميا تبرز الحاجة إلى أن تتواءم وتتعاون الدول في إطار التكافؤ السيادي وحسن الجوار. كذا عالميا تبرز الحاجة إلى أن تتواءم وتتعاون جميع المجتمعات الوطنية في إطار صداقة وتبادل مصالح. كل ذلك بصرف النظر عما يوجد بين الشعوب، ومرارا بين الشعب الواحد، من تنوع الانتماء، فكرا ودينا ومذهبا وعرقا وسوى ذلك. خلاصةً، إذن، تعددية الأديان والمذاهب والرؤى الفكرية في أيما مجتمع معاصر، وعبر العالم، لا تضر ولا تضير إذا هي انظبطت تحت وحدة الجامع الإنساني، مردفةً بوحدة المشترك الوطني، في كل بلد.
إزاء هذا التشابك في الواقع الإنساني في عصرنا، عالميا، إقليميا، ووطنيا، الإهتمام ببحث التنوع الديني والمذهبي والفكري الخارج عن نطاق الأديان ومذاهبها بحثا عقلانيا، خلاف ما يجري مرارا من تراشق انفعالي بين المتطرفين من كل دين أو مذهب أو منظور فكري، أمر ضروري لأجل نبذ التعصب، ومن ثم التمكن من بناء حياة كريمة، آمنة، موفورة العناصر المنمية لأحوال الجميع. خلاصةً، إذن، الغيرة على الدين أمر محمود، لكن التعصب من قبل أيما دين ضد دين آخر ليس كذلك. كذا الغيرة على مذهب أو منظور فكري سرعان ما تتشوه إذا خامرها تعصب ضد مذهب أو منظور فكري آخر.
التحاور إسلاميا بين المذاهب في الإسلام
في ضوء ما تقدم دعنا نتدارس الحالة الإسلامية تحديدا. لأجل ذلك، دعنا ابتداء نرسم للإسلام رسما أساسيا كدين جامع، دعوته موجهة للناس كافة عبر العالم، قائمةً على أساس الإقناع لا الإكراه.
كجميع الأديان الكبرى التي لها أطر وسيعة، الإسلام يتكون من أربعة محاور: العقائد، الشعائر، الأحكام، الأخلاق.
على صعيد العقائد، يتمحور الإسلام في ثلاثة أصول: التوحيد، النبوة، المعاد. مؤدى هذه الأصول هو 1) الإيمان بالله واحدا أحدا، فردا، صمدا، ليس كمثله شيئ، 2) الإيمان بأن الله مصدر هداية البشر، بواسطة أنبياء ورسل يبتعثهم من بين البشر، وأن محمدا خاتم أنبيائه ورسله، و3) الإيمان بالآخرة دارَ حساب وجزاء.
على صعيد الشعائر، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج وشهادة لا إله إلا الله ومحمد رسول الله، تشكل أركان الإسلام الخمسة.
على صعيد الأحكام، يلزم الإسلام المسلمين بالامتثال لشريعته. إلى جانب الشعائر، تحدد الشريعة الأحوال الشخصية وأحكام المعاملات. الزواج، الطلاق، الحضانة، النفقة، الميراث، التجارة، العقود، وعقوبات لقاء بعض الجرائم والجنح: أحكام كل تلك وأحكام أمورٍ جمة أخرى مبينة تفصيلا في ثنايا الشريعة.
أخيرا، على صعيد الأخلاق، يؤصل الإسلام العدل والمساواة وكرامة الإنسان والشورى في الحكم والحياة مبادئَ جذريةً لصلاح الإنسان واستقامة أمره، فردا ومجتمعا، في كل زمان ومكان. كذلك يندب إلى القيم المنمية للحياة، كما الصدق، الأمانة، التواضع، التعاون، إتقان العمل، الصفح، طلب العلم، حسن الجوار، وفضائل جمة أخرى.
في كل ما سبق ذكره، وهو ما يتشكل منه جوهر الإسلام وعموم مضمونه، مفاهيم كافة المذاهب الإسلامية سواء. جميع المذاهب تقر بالقرآن كلامَ الله المنزل والمحفوظ للأبد، وبالسنة النبوية منظومةَ أفعال وأقوال ملزم تباعها للمسلمين كافة. بهذا المعنى، كأمر أساس، جميع المسلمين على مرجعية واحدة للنظر في أيما أمر حياتي أو أخروي له في الإسلام فهم صريح أو حكم محدد.
مع رسوخ هذه الأرضية الأساسية المشتركة، ماذا، إذن، يختلف بين مذهب وآخر في الإسلام لدرجة أن الاختلاف مرارا ما يولد تشنجا بين المذاهب، وأحيانا تعصبا يؤدي إلى تحامل وتخاصم؟ بنظري، لا يوجد ما يفسر ذلك سوى قصور في فهم المذهب الآخر، ناتج عن ضيق في الاستيعاب المعرفي لما لدى الآخر من نظر مستنبط باجتهاد منهجي مأثور لديه. جراء شحن تعصبي مسبق لدى المتحاورين، سرعان ما يؤدي قصور الفهم للمذهب الآخر إلى إفساد سلامة الحوار. في حديثي أمام المؤتمر، بقدر ما سيتاح من وقت، سوف استعرض نموذجا سليما، بل راقيا، للحوار بين المذاهب الإسلامية بغية توحيد الكلمة وإنماء الوئام. ***
تكاثرُ المشاكل الإنسانية وتزايدُها طردا في التشعب والتعقيد يدفعنا جميعا إلى بلورة فهم أدق لطبيعة المشاكل التي تواجهنا، أكان على الصعيد الوطني أو الإقليمي أو العالمي. ينطبق هذا بالأخص على تلك المشاكل التي تكمن وراءها خلفيات قديمة لا تزال الاختلافات التقليدية الموروثة ما بينها تستثير خصاما سياسيا-اجتماعيا في حراك هذا العصر. أملي أن تساعد حوارات بناءة هادفة كحوارنا هنا اليوم في تكوين فهم معرفي أدق وأفسح لتلك الاختلافات … فهمٍ ينمي فينا القدرة على تفهم أكثر موضوعية للتنوع الديني والمذهبي والفكري، في أوطاننا وإقليمنا وعبر العالم، ومن ثم يمكّننا من التعايش مع هذا التنوع والتعدد بوئام وطيد لا يقبل من أي دين أو مذهب أو منظور فكري مسلكا تعصبيا إزاء دين أو مذهب أو منظور فكري آخر.
شاعر إنكليزي في القرن السابع عشر (جون دون) لاحظ أن لا شخص منفصل بذاته عن مجتمعه، كانفصال جزيرة وسط بحر. اليوم، إذ نحن نعايش العولمة في جل المعطيات المعاصرة، نلاحظ وضوحا أن لا مشكلة محلية تبقى طويلا معزولة عن الشأن العالمي. أي اضطراب أو عثار في الحال الإنساني، أينما يحدث في قريتنا العالمية، أكان جراء صراع سياسي، أو نزاع ديني، أو خصام مذهبي، أو هتك لحقوق الإنسان، أو تلويث للبيئة أو غير ذلك… إذا ما تفاقم سرعان ما يسري أثره عبر العالم بأسره. خلاصةً، إذن، ما عاد شأن داخلي إلا إذا تفاقم غدا شأنا خارجيا بامتياز، والعكس صحيح.
بإدراك تكاثف هذا التشابك في الحال الإنساني تبرز الحاجة أكثر إلحاحا من أي وقت سبق لأمم الأرض إلى أن تتواءم وتتعاون في إطار اعتماد متبادل لا غنى عنه لأيما مجتمع معاصر. بمثل ذلك، تبرز الحاجة إلى أن يتعامل المواطنون في أيما دولة ما بينهم بوئام وتعاون في إطار مواطنة متساوية، قائمة على أساس تكافؤ الحقوق والواجبات. كذا إقليميا تبرز الحاجة إلى أن تتواءم وتتعاون الدول في إطار التكافؤ السيادي وحسن الجوار. كذا عالميا تبرز الحاجة إلى أن تتواءم وتتعاون جميع المجتمعات الوطنية في إطار صداقة وتبادل مصالح. كل ذلك بصرف النظر عما يوجد بين الشعوب، ومرارا بين الشعب الواحد، من تنوع الانتماء، فكرا ودينا ومذهبا وعرقا وسوى ذلك. خلاصةً، إذن، تعددية الأديان والمذاهب والرؤى الفكرية في أيما مجتمع معاصر، وعبر العالم، لا تضر ولا تضير إذا هي انظبطت تحت وحدة الجامع الإنساني، مردفةً بوحدة المشترك الوطني، في كل بلد.
إزاء هذا التشابك في الواقع الإنساني في عصرنا، عالميا، إقليميا، ووطنيا، الإهتمام ببحث التنوع الديني والمذهبي والفكري الخارج عن نطاق الأديان ومذاهبها بحثا عقلانيا، خلاف ما يجري مرارا من تراشق انفعالي بين المتطرفين من كل دين أو مذهب أو منظور فكري، أمر ضروري لأجل نبذ التعصب، ومن ثم التمكن من بناء حياة كريمة، آمنة، موفورة العناصر المنمية لأحوال الجميع. خلاصةً، إذن، الغيرة على الدين أمر محمود، لكن التعصب من قبل أيما دين ضد دين آخر ليس كذلك. كذا الغيرة على مذهب أو منظور فكري سرعان ما تتشوه إذا خامرها تعصب ضد مذهب أو منظور فكري آخر.
التحاور إسلاميا بين المذاهب في الإسلام
في ضوء ما تقدم دعنا نتدارس الحالة الإسلامية تحديدا. لأجل ذلك، دعنا ابتداء نرسم للإسلام رسما أساسيا كدين جامع، دعوته موجهة للناس كافة عبر العالم، قائمةً على أساس الإقناع لا الإكراه.
كجميع الأديان الكبرى التي لها أطر وسيعة، الإسلام يتكون من أربعة محاور: العقائد، الشعائر، الأحكام، الأخلاق.
على صعيد العقائد، يتمحور الإسلام في ثلاثة أصول: التوحيد، النبوة، المعاد. مؤدى هذه الأصول هو 1) الإيمان بالله واحدا أحدا، فردا، صمدا، ليس كمثله شيئ، 2) الإيمان بأن الله مصدر هداية البشر، بواسطة أنبياء ورسل يبتعثهم من بين البشر، وأن محمدا خاتم أنبيائه ورسله، و3) الإيمان بالآخرة دارَ حساب وجزاء.
على صعيد الشعائر، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج وشهادة لا إله إلا الله ومحمد رسول الله، تشكل أركان الإسلام الخمسة.
على صعيد الأحكام، يلزم الإسلام المسلمين بالامتثال لشريعته. إلى جانب الشعائر، تحدد الشريعة الأحوال الشخصية وأحكام المعاملات. الزواج، الطلاق، الحضانة، النفقة، الميراث، التجارة، العقود، وعقوبات لقاء بعض الجرائم والجنح: أحكام كل تلك وأحكام أمورٍ جمة أخرى مبينة تفصيلا في ثنايا الشريعة.
أخيرا، على صعيد الأخلاق، يؤصل الإسلام العدل والمساواة وكرامة الإنسان والشورى في الحكم والحياة مبادئَ جذريةً لصلاح الإنسان واستقامة أمره، فردا ومجتمعا، في كل زمان ومكان. كذلك يندب إلى القيم المنمية للحياة، كما الصدق، الأمانة، التواضع، التعاون، إتقان العمل، الصفح، طلب العلم، حسن الجوار، وفضائل جمة أخرى.
في كل ما سبق ذكره، وهو ما يتشكل منه جوهر الإسلام وعموم مضمونه، مفاهيم كافة المذاهب الإسلامية سواء. جميع المذاهب تقر بالقرآن كلامَ الله المنزل والمحفوظ للأبد، وبالسنة النبوية منظومةَ أفعال وأقوال ملزم تباعها للمسلمين كافة. بهذا المعنى، كأمر أساس، جميع المسلمين على مرجعية واحدة للنظر في أيما أمر حياتي أو أخروي له في الإسلام فهم صريح أو حكم محدد.
مع رسوخ هذه الأرضية الأساسية المشتركة، ماذا، إذن، يختلف بين مذهب وآخر في الإسلام لدرجة أن الاختلاف مرارا ما يولد تشنجا بين المذاهب، وأحيانا تعصبا يؤدي إلى تحامل وتخاصم؟ بنظري، لا يوجد ما يفسر ذلك سوى قصور في فهم المذهب الآخر، ناتج عن ضيق في الاستيعاب المعرفي لما لدى الآخر من نظر مستنبط باجتهاد منهجي مأثور لديه. جراء شحن تعصبي مسبق لدى المتحاورين، سرعان ما يؤدي قصور الفهم للمذهب الآخر إلى إفساد سلامة الحوار. في حديثي أمام المؤتمر، بقدر ما سيتاح من وقت، سوف استعرض نموذجا سليما، بل راقيا، للحوار بين المذاهب الإسلامية بغية توحيد الكلمة وإنماء الوئام. ***