أحدث المقالات

تمهيد

تتعدّد الأدوار التي يقوم بها الحديث الشريف والأثر، فإلى جانب كونه أحد المصادر العمدة في الاجتهاد الفقهي، يقدّم خدمات جليلة في مجالات أخرى مختلفة كالتاريخ والتفسير والأخلاق والعقيدة وغير ذلك.

وسوف نحاول هنا أن ندرس ـ بعون الله تعالى ـ دور الحديث والأثر في تفسير القرآن الكريم خاصّة، ونعتمد ـ ضمنيّاً ـ على عنصر المقارنة أيضاً بين الفريقين: السني والشيعي، لنحاول من خلال ذلك الكشف عن طبيعة العلاقة التي تحكم الكتاب بالحديث في الزاوية التفسيرية، وعن قواعد هذه العلاقة ومعاييرها.


أولاً: ما هو التفسير الأثري أو التفسير بالمأثور؟

يقصد بالتفسير الأثري تفسير القرآن الكريم بالنصوص الإسلامية الأولى ذات الطابع المصدري وهي: الكتاب الكريم نفسه، والسنّة النبوية، وسنّة أهل البيت، وما أثر عن الصحابة والتابعين وتابعيهم. مع الأخذ بعين الاعتبار وجود نقاش في تفسير التابعين، من حيث اندراجه في الأثر أو في التفسير بالرأي(١).

وهذا التعريف جامع يستوعب الخلافات المثارة بين المسلمين، لكنّ مرحلة الاعتبار والحجية تفرض خلافاً بين التيارات الإسلامية في قيمة هذا التفسير، فالإمامية في الغالب يأخذون بالتفاسير المروية عن النبي وأهل بيته، لكنّهم لا يتركون تفاسير الصحابة والتابعين مطلقاً، وإن لم يروا حجيّتها كحجية التفسير النبوي، أمّا أهل السنّة فيرون التفسير الأثري شاملاً لذلك كلّه، لكنّهم لا يرجعون كثيراً ـ من الناحية العملية ـ للتفاسير المأثورة شيعيّاً عن أهل البيت من الأئمة الاثني عشر، كما وبينهم نقاش في حجية تفسير الصحابي والتابعي.


ثانياً: حجية الحديث والأثر في تفسير القرآن الكريم

يقع البحث هنا في مرحلتين:

الأولى: حجية الأثر الواقعي بصرف النظر عن كيفية وصوله إلينا، فنحن نبحث عن أنّ التفسير النبوي في نفسه ـ كما لو سمعناه بالمباشرة من شخص الرسول| ـ هل هو حجّة في تفسير الكتاب أم لا؟

وهنا يتفق المسلمون على حجية التفسير النبوي من باب كونه تبليغاً عن الدين ومضمون الوحي، وهذا المقدار مما يرون فيه العصمة للنبي|، وأدلّة حجيّة السنّة النبوية تشمله.

لكنّ الخلاف وقع على ثلاثة محاور:

1 ـ سنّة أهل البيت النبوي، فقد ذهب الشيعة إلى حجيّة سنّتهم كحجية سنّة الرسول، مستندين في ذلك إلى حديث الثقلين وغيره مما جُعلوا فيه عدل القرآن ومرجعاً في تفسيره وبيانه، لكنّ أهل السنّة لم يقبلوا بهذه الحجيّة، وقالوا بأنّ أهل البيت كسائر الصحابة والتابعين، يلحقهم ما يراه الباحث في حجية قول الصحابي أو التابعي.

2 ـ سنّة الصحابي، ونقصد بها قوله الذي لا يكون إخباراً عن أمر، وقد وقع خلافٌ هنا بين من يقول بحجية سنّة الصحابي مطلقاً، كونهم أعرف بالدين ومواقعه منّا، ومن يقول بعدم الحجيّة مطلقاً؛ لاحتمال اعتمادهم على الاجتهاد الذي لا يُلزمنا، ومن يرى التفصيل بين ما ظاهره أنّهم اعتمدوا على الاجتهاد وما كانوا فيه معتمدين على غيره، بعدم الحجية في الأوّل دون الثاني.

وهذا الانقسام في الرأي موجود بين أهل السنّة أنفسهم، أمّا الشيعة فإذا استثنينا أهل البيت من الصحابة لم يكن للبقية عندهم حجيّة في القول، ما لم يكن إخباراً أو ما هو في قوّة الإخبار، مع ثبوت وثاقة الصحابي المخبِر بعد القول بعدم ثبوت نظرية عدالة جميع الصحابة.

وقد بحثنا في مناسبة أخرى حول حجية سنّة الصحابي بالتفصيل( ٢)، وتوصّلنا إلى أنّ الحقّ مع القائلين بعدم الحجيّة بما هي سنّة، إلى مع قرائن حافّة ذات دلالة، ومع عدم تحقّق سيرة متشرّعية كاشفة، فلا نطيل.

3 ـ قول التابعي، والرأي الأبرز والأقوى هنا هو أنّ قول التابعي يمكن أن يستفاد منه في بعض الجوانب التاريخية واللغوية وأمثال ذلك، أمّا عن الحجيّة فلا يوجد أيّ دليل يعطي قوله الحجيّة والاعتبار، لاسيما بعد كثرة الاجتهادات في كلماتهم.

الثانية: حجيّة الأثر المنقول المحكي، وذلك في مجال تفسير القرآن، فلو جاءت رواية ظنية الصدور معتبرة الإسناد تخبر عن معنى هذه الآية أو تلك، فهل هذه الرواية تحمل قيمةً يمكن على أساسها تفسير الآية الكريمة بهذا المعنى الذي ذكرته الرواية أم لا؟ من الواضح هنا أنّنا نتحدّث من حيث المبدأ، فنحن ندرس هنا السنّة المنقولة عن المعصوم ـ كلّ حسب اعتقاده ـ فيما إذا لم تبلغ درجة اليقين أو الاطمئنان في نقلها، بل كانت ظنية، كما هو الغالب في روايات التفسير من حيث ظنية الصدور فيها.

كما أنّ بحثنا هنا ليس عن تقويم واقع الروايات التفسيرية الموجودة في كتب السنّة مثل تفسير جامع البيان للطبري أو الدرّ المنثور للسيوطي، وفي كتب الشيعة مثل تفسير القمي وتفسير العياشي، من حيث صدقيّتها وقوّتها وخصائصها، فهذا ما سنتعرّض له لاحقاً بعون الله تعالى، إنما نبحث في أصل حجية السنّة المحكية المفسّرة للكتاب بطريق ظني، حتى لو بنينا على حجيتها بالطريق القطعي وكان المصدر معصوماً.

يوجد هنا اتجاهان أساسيان في علم أصول الفقه:

الاتجاه الأوّل: ويعتقد أن حجية خبر الواحد خاصّة بمجال الأحكام والقضايا الفقهية ولا شأن لها بغير ذلك؛ فلا حجية لأخبار الآحاد في العقائد والتاريخ والتفسير ـ غير آيات الأحكام وما بحكمها ـ والتكوينيات وخواص الأشياء كالنباتات ونحو ذلك، ما لم تتضمّن جانباً عملياً مأموراً به أو منهياً عنه. وبعبارة أخرى: حجية الحديث خاصّة بالمجال العملي لا العلمي.

يميل إلى هذا الاتجاه جماعة من العلماء، فالحجية شأن عملي يتصل بالتنجيز والتعذير وقضايا الفقه والعمل لا بغير ذلك ما لم تبلغ مرتبة اليقين.

الاتجاه الثاني: وهو ما يرى حجية الأخبار الظنية في مجال العلم والعمل ما لم يكن المورد مما يشرط فيه حصول العلم كبعض الأمور العقائدية، ولا يكون هناك ما ينفي مضمون الرواية( ٣).

والذي نراه ـ كما حقّقناه في محلّه ـ هو القول الثاني، بمعنى أنه إذا ثبتت كبرى حجية خبر الواحد الظني، وليست بثابتة عندنا، فإنّ بعض أدلّة الحجية لا تفرّق بين العلميات والعمليات، شرط كون الموضوع نفسه غير متوقّف على حصول العلم أو الاطمئنان، كبعض المسائل العقائدية. وتفصيل هذه الأبحاث نحيلها إلى موضعها، ولا نطيل.


ثالثاً: أدوار السنّة و.. بالنسبة إلى القرآن الكريم

من الواضح أن السنّة الشريفة بإمكانها أن تقوم بدورٍ فاعل بالنسبة إلى القرآن الكريم، وهذا الدور يمكن تلخيصه بما يلي:

1 ـ الدور الإثباتي: ويتجلّى في السعي لإثبات القرآن وحجيته واعتباره ومكانته والدفاع عنه أمام الشبهات التي تثار ضدّه، فنحن نجد في نصوص النبي والأئمة والصحابة الكثير من المأثور الذي يوضح قيمة القرآن ومكانته ويدعو الناس إليه، ويدافع عما يثيره الآخرون ضدّه.

وهذا المقدار من الدور لا يتصل بالجانب التفسيري؛ لأنه لا يقوم بتفسير القرآن العظيم، وإنما يثبته ويوضح مكانته ويدافع عنه؛ لهذا فهو لا يدخل في مجال بحثنا، إلا إذا كان إثبات القرآن معتمداً على تفسير آية معينة فيه.

2 ـ الدور التقريري: وهو الدور الذي يؤكّد المضمون القرآني، حيث يقوم الحديث بتقديم عين المعطيات التي يقدّمها القرآن، لكن بأسلوب مختلف وطريقة مختلفة، وهذا ما يسمّيه بعضهم ببيان التقرير، فالقرآن يوجب الصلاة ونجد الروايات توجب الصلاة أيضاً، وقد تشير أحياناً إلى موقف القرآن في هذا المجال، هذا الدور التقريري أو التأييدي ينسجم مع القرآن في المضمون، كما ينسجم معه في الإجمال والتفصيل.

وهذا الدور قليل الصلة بموضوع بحثنا، إلا إذا عرضت الرواية على الآية فأفهمتنا شيئاً فيها.

3 ـ الدور الدلالي: وهو الدور الذي يمارس التصرّف الدلالي في القرآن الكريم، وهذا هو دور التخصيص والتقييد والحكومة وأمثال ذلك، فالحديث هنا يقوم بتخصيص عموم آية، أو تقييد إطلاقها، أو يوسّع أو يضيّق من دائرتها عبر قانون الحكومة التي ذكروها في علم أصول الفقه.

وهنا، لاشك عندهم ـ ظاهراً ـ في أنّ السنّة الواقعية، وكذا المتواترة المحكيّة، يمكنها فعل ذلك، ما دامت معصومةً، إلا أنّ الكلام وقع بين العلماء في إمكانية تخصيص العام الكتابي بخبر الواحد، فالعديد من المتقدّمين رفض ذلك، فيما المعروف بين المتأخرين أنّ التخصيص والتقييد بيانٌ للمراد الجدّي، وأنّ ظنية الطريق في خبر الواحد لا تضرّ بإمكانية تخصيص العام الكتابي به؛ معتبرين أنّ العلاقة بين الحجج بعد ثبوت حجيتها تخضع لنظام الجمع والتوفيق العرفي بين النصوص، بلا نظر بعد ذلك لحيثية القطع الصدوري والظنّ الصدوري، على تفاصيل تبحث في محلّها.

4 ـ الدور الاستقلالي: ويسمّى بالسنّة المستقلّة أو المؤسّسة، ويعبّر عنها أحياناً ببيان الزيادة، ويقصد بذلك أن تأتي السنّة والحديث بأحكام أو مفاهيم لا وجود لها أساساً في القرآن الكريم بحسب فهمنا له، مثل تشريع الرجم، ومثل حرمة ذات البعل المزني بها على الزاني حرمةً مؤبّدة، على القول بها.

والمعروف بين المسلمين أنّ بيان الزيادة حجّةٌ معتبر، لكن ذهب بعض العلماء ـ وعلى رأسهم الإمام أبو إسحاق الشاطبي (790هـ) ـ إلى عدم حجية السنّة المستقلة عن الكتاب( ٤)، وانتصر لهذه الفكرة بعض المتأخرين في أوساط أهل السنّة.

ويحتمل كلام الشاطبي ردّ أيّ سنة تأتي ولا بيان في القرآن لها أساساً، كما يحتمل أنّ مراده أنّ النبي عندما يشرّع لا يشرع شيئاً لا وجود له في القرآن، غاية ما في الأمر أننا لا نفهم القرآن حقّ فهمه كي نعرف كيف فهم النبيّ منه ذلك.

5 ـ الدور التفصيلي: ونقصد به أن تقوم الروايات بتفصيل ما جاء في الكتاب، مثل بيان تفاصيل كيفية الصلاة، فإنّ الصلاة قد جاءت في القرآن، وثمة إشارات في القرآن للركوع والسجود والقنوت، لكن السنّة جاءت لتفصّل ما جرى بيانه إجمالاً في الكتاب.

والمعروف بين المسلمين حجية السنّة الواقعية والمحكية المعتبرة مطلقاً في هذا المجال، ويكون هذا بيان التفصيل للإجمال، ولم يخالف في ذلك إلا قلّة قليلة، مثل الحركة القرآنية في شبه القارّة الهندية.

6 ـ الدور الإرشادي والتوجيهي: ونقصد بهذا الدور أن يقوم الحديث بإرشادنا إلى نقاط موجودة في النص القرآني، قد لا نكون ملتفتين إليها، وهذا ما يحصل كثيراً في الروايات، كأن ترشدنا إلى آية مخصّصة لآية أخرى، أو تشرح لنا طبيعة العلاقة بين آيتين، أو تبيّن لنا أنّ الآية الفلانية تنسخ الآية الأخرى، بحيث عندما نقرأ القرآن ـ بعد اطّلاعنا على هذه الرواية أو تلك ـ يحصل لنا استظهار النسخ أو التقييد أو التخصيص أو الفكرة الجديدة الناتجة عن ضمّ آيةٍ إلى أخرى.

فالحديث هنا لم يقدّم لنا أمراً آخر غير ما في الكتاب، لكنه أرشدنا إلى ما في الكتاب الكريم ولفت نظرنا إليه فصرنا نفهم الكتاب فهماً جديداً من حاقّ الكتاب لكن بمعونة التوجيه الذي قدّمته لنا الرواية.

ويخيّل إليّ أنّ العلامة الطباطبائي قد استفاد من هذا الدور كثيراً في تفسيره المعروف، فصحيح أنه كان يفسّر القرآن بالقرآن وكان يؤخر ذكر الروايات إلى ما بعد التفسير القرآني الأصل، لكنّ المقارنة بين النتائج التفسيرية التي توصّل إليها من خلال تفسير القرآن بالقرآن وبين التفاسير الروائية، تجعلنا نظنّ أن الكثير من الروايات تركت أثراً عليه ولفتت نظره إلى أمورٍ في الآيات نفسها، لهذا نجد قدراً مهماً من التشابه بين نتائجه وبين الروايات، لاسيما المعتبرة منها.

وهذا الدور مندرج في الواقع في الدور التفسيري، كما سنلمح قريباً، لكنّ بعض مصاديقه ليست من التفسير، مثل ما هو من أهم أدوار الحديث على المستوى الإرشادي والتوجيهي، وهو قيامه بتعليمنا منهج تفسير القرآن بالقرآن ومنهج فهم القرآن كما يقول بعض الباحثين(٥ )، فالعديد من الروايات يستند فيها الحديث إلى الآيات نفسها ويشرح كيفية فهم النتيجة من الآية بمقاربتها مع آية أخرى أو في حدّ نفسها، وهذا دورٌ في غاية الأهمية.

7 ـ الدور التفسيري: ونقصد بهذا الدور كلّ ما يتصل بتفسير الروايات للقرآن بأيّ شكل من أشكال التفسير.

وأشكال التفسير متعدّدة أهمها:

أ ـ تفصيل المجمل وتخصيص العام وتقييد المطلق، وهذا سمّاه العلماء بياناً وتفسيراً، وربما من حيث إنّ فيه كشفاً عن المراد الجدّي من الآيات. لكنه في واقع أمره ليس تفسيراً للنص نفسه وإنما سمّوه تفسيراً ليجعلوا الحديث هنا مندرجاً ضمن النطاق الدلالي للقرآن نفسه حتى لا يقعوا في إشكالية التناقض بين الكتاب والسنّة، كما يقول بعض الباحثين المعاصرين(٦ ).

لهذا فصلنا فيما تقدّم هذا الدور عن الدور التفسيري، لكنه على أيّ حال داخل في إطار دراستنا ببعض مصاديقه على الأقلّ، اللهم إلا الكشف في القرآن عن مخصّصه كما ألمحنا.

ب ـ توضيح الدلالات القرآنية وفقاً لقواعد الفهم العقلائية والعقلانية، كأن تأتي الروايات وتشرح ما تدلّ عليه الآيات لغةً وعرفاً أو تقوم بمقاربة بين آيتين لتوضيح معنى جديد يمكن أخذه منهما وفقاً للقواعد العقلائية للفهم. وهذا دور هام وجليل وردت فيه العديد من الروايات والآثار، وهذا ما أشرنا إليه سابقاً، فهو يتصل بالتفسير إلى جانب التوجيه في كيفية فهم القرآن الكريم.

ج ـ تأويل الآيات القرآنية، بمعنى الكشف عن بطونها بحيث لا يستطيع الفهم العقلائي ـ لا أقلّ إلى يومنا هذا ـ استخراج هذه المعاني من الآيات. ويغلب في التفسير الروائي أو المأثور أن ترد هذه التأويلات استناداً إلى الأسلوب الرمزي، وبطريقةٍ غير مفهومة إطلاقاً أو غالباً.

وهذا النوع من الآثار إن ورد عن غير المعصومين^ لا تكون له أيّ قيمة إلزاميّة؛ لأنه لا يملك عناصر الإثبات ما دام فوق عقلاني، إلا عند من يحصل له اطمئنان شخصي بهذا المدلول أو المعنى الباطني. أما إذا وردت هذه المرويات عن أحد المعصومين فلابدّ من النظر فيها ومقارنتها بالآيات القرآنية:

فتارةً لا نستطيع أن نفهم دلالة الآية عليها مهما تأمّلنا فيها، وفي هذه الحال يفترض الأخذ بمضمون الرواية؛ لأنّ مجرد عدم فهمنا لا يثبت بطلان الرواية ولا يوجب طرحها بعد اشتمالها على سائر عناصر الاعتبار.

وتارة أخرى لا يقف الأمر عند حدّ عدم فهم العرف لهذا المعنى التأويلي الذي تدّعيه الرواية، بل يراه مناقضاً لدلالة الآية وغير منسجم معها وغريب عنها متنافر، وفي هذه الحال لابدّ من طرح هذه الرواية ولو كانت صحيحة السند؛ اعتماداً على أخبار العرض على الكتاب؛ لأنّ العرف ما دام يفهم أنّ هذه الرواية تخالف القرآن أو لا توافقه، فهذا معناه ـ بمقتضى أخبار العرض ـ لزوم طرحها جانباً، ومجرّد احتمال أنّ العرف مخطئ وأنّ هناك أموراً فوق عقولنا لا يفيد شيئاً، وإلا لبطلت أخبار العرض من رأس، إذ ما من رواية إلا ويمكن فرض مثل هذا الاحتمال فيها. ونحن نرى أنّ أخبار العرض جعلت فهمنا معياراً لا واقع الدلالة القرآنية.

ومن أهم وظائف المشتغل بالتفسير الروائي أو التفسير بالمأثور التمييز بين هذين النوعين من الروايات، فإذا جاءت رواية تفسّر الطعام في قوله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ (عبس: 24)، بالعلم… أمكن الأخذ بها؛ لأنّ العرف لو خلّي ونفسه وإن لم يفهم العلمَ من الطعام الوارد في الآية، إلا أنه لا يرى هذا المعنى معارضاً لها. أما لو وردت رواية تقول بأنّ معنى قوله تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُم مِيثَاقَاً غَلِيظاً﴾ (النساء: 21)، هو أن الميثاق الكلمة التي يوثق بها عقد النكاح والغليظ هو ماء الرجل يفضيه إليها، فإنّ العرف يستنكف هذا المعنى ويراه على خلاف اللغة العربية في الصفة والموصوف، وأنّ التأويل فيه خلاف قواعد البيان العقلائية.

د ـ استخدام منهج الجري والتطبيق، وذلك بأن تقوم الرواية بتطبيق الآية على أحد المصاديق، والتي عادةً ما تكون بارزة، كأن تطبّق بعض الآيات على أهل البيت أو مخالفيهم وهكذا… وكثير من التفسير بالمأثور عن الصحابة والتابعين فيه هذا اللون من التفسير، حيث يحاول أن يقدّم بياناً للآية بحدث جزئي أو مورد جزئي.

وفهم نصوص الحديث المفسّرة للكتاب بهذه الطريقة، أي أسلوب الجري والتطبيق مهم جداً، وقد اعتنى به العلامة المفسّر محمد حسين الطباطبائي.

لكنّ النقطة الجديرة بالانتباه هنا هي ملاحظة ألسنة الروايات التي يترقّب أن تكون قد جرت على قانون التطبيق، فإنّ هذه الروايات يغلب أن تكون بأحد لسانين:

الأول: لسان بيان مصداقٍ دون نفي غيره، كأن تقول الرواية بعد قراءة قوله تعالى: ﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾: مع علي وأهل بيته. فإنّ هذا اللسان يمكن فيه إرادة بيان أبرز المصاديق، فيحمل على ذلك دون وجود مشكلة في البَيْن.

الثاني: لسان بيان المصداق بطريق الحصر أو لسان التفسير، وهذا اللسان مختلف تماماً عن اللسان السابق، فإذا جاءت الرواية في المثال المتقدم تقول: ليس الصادقون إلا أهل البيت، أو تقول: ما عنى بالصادقين إلا نحن، فإنّ هذا اللون من البيان لا يمكن فهمه فهماً تطبيقياً إلا مع قرائن وشواهد تفيد ذلك بحيث تبرّر ـ مثلاً ـ الحصر الإضافي، وإلا فإنّ الفهم العرفي والعربي يرى أنه بيان تفسير ومعنى لا بيان مصداق ومورد، ومجرّد الحمل على التطبيق لا يحلّ المشكلة، وذلك أنّ أيّ حمل أو توفيق بين كلامين يجب فيه أن يحتوي على شرط رئيس ليكون منتظماً وفقاً لقواعد الفهم العقلائي للغة والبيانات، وهذا الشرط هو قابلية طرفي المعارضة لهذا الحمل، بحيث يمكن أن يحمل كلّ من النصين على المعنى التوفيقي النهائي، ويستسيغ العرف أن يكون المتكلّم بكلّ من النصين قد أراد ذلك، وهنا أيّ بيان للمصداق هذا الذي يقال فيه: والله ما عنى إلا نحن؟! فهذا ليس مصداقاً وإنما إفادة حصرية للمعنى.

وفي هذه الحال الثاني يلاحظ نسبة الحديث إلى الآية، فإن لم يعارضها في دلالته الحصرية أخذ به، وإلا طرح، وفقاً لقواعد العرض على الكتاب الكريم.

هـ ـ بيان ملابسات النزول المساعدة على فهم الآيات وتفسيرها، فكثيرٌ من التفسير المأثور عن الصحابة والتابعين وأهل البيت يوضح ظرف نزول الآيات ويحدّد السياق المحيط بها، وهذا ما يجعله يلعب دوراً تفسيريّاً كبيراً لتوضيح معناها وتجلية المراد منها.

وهذا ما يعرف بروايات أسباب النزول، والمؤسف أنّ الكثير من هذه الروايات ضعيف السند لا يوجد ما يؤكّده، وكثير منه ورد مرسلاً، لكنه يظلّ مفيداً للمساهمة في تكوين صورة عن السياقات المحيطة بنزول الآيات الكريمة.

وتظلّ روايات أسباب النزول المعتبرة الصدور ذات قيمة حتى لو لم تصدر من المعصوم، بشرط أن تصدر ممّن عاصر نزول الآية لكي يخبر عن الجوّ الذي رآه وأحسّ به قبيل وبعد نزولها.

و ـ الكشف عن نواسخ الآيات القرآنية ومنسوخها، وهذا الدور يفهمنا الآيات ويرشدنا إلى طبيعة العلاقة فيما بينها؛ فقد اعتُمدت نصوص التفسير المأثور بمثابة مستند قوي لتأكيد حركة النسخ في القرآن الكريم.

لكنّ أكثر هذه الروايات ضعيف الإسناد أيضاً، فضلاً عن أنه يحتمل جداً أن يكون اجتهاداً من قبل الصحابي أو التابعي؛ إذ يكون قد اعتقد هو مسبقاً بتنافي الآيتين فاعتبر المتأخّرة منهما ناسخةً للمتقدّمة، فذكر أنّ الأولى منسوخة، وهذا كثير التحقّق.

ولهذا يميل العلماء المحقّقون إلى الكشف عن النسخ عبر مقاربة نصوص القرآن نفسه، لينظروا هل يمكن التوفيق العقلائي العرفي بينها أم لا؟ لا التعبّد بنصوص اجتهادية من جهة وضعيفة السند من جهة ثانية، ولا تنسجم في كثير من الأحيان مع طبيعة البيانات القرآنية من جهة ثالثة، بل ـ وهو الأهم ـ تفرط في ادّعاء النسخ في القرآن حتى تجعل مئات الآيات منسوخةً، مع أن ذلك قد يضعضع صدقية القرآن، فقد ذكر بعضهم أنّ مطلع سورة براءة نسخ حوالي خُمْس آيات الأحكام، وهذا كلّه إفراط في النسخ يعطّل الاستفادة من القرآن الكريم في كثير من المواضع.

من هنا، وجدنا مثل السيد الخوئي والدكتور وهبة الزحيلي ينتقدان هذا الإفراط في ادّعاء النسخ ويثبتان أنّ الكثير من الآيات التي ادّعي نسخها لم تكن كذلك.

ز ـ بيان القراءات القرآنية؛ لأنّ بعض القراءات يرشد ـ على أقلّ تقدير ـ إلى معاني الآيات المحتملة، وأكثر القراءات وردت عن الصحابة والتابعين وتابعيهم، وبعضها ورد عن أئمة أهل البيت.


رابعاً: التطوّر التاريخي للتفسير الأثري

تتعدّد مساحة التفسير بالحديث والأثر كما ألمحنا في تعريف التفسير الأثري، وسوف نستبعد هنا النصّ القرآني الذي يقوم بدور تفسير القرآن أيضاً، وفقاً لنظرية تفسير القرآن بالقرآن، وعليه نلاحظ أنّ هذا التفسير له مجالاتٌ أربعة:

المجال الأوّل: الحديث النبوي نفسه، حيث وردت بعض الروايات عن شخص النبي| يفسّر فيها بعض الآيات القرآنية أو يفصّل مجملها. وحجم هذه الروايات ليس بالكثير، كما سوف نبحث ذلك قريباً بعون الله.

المجال الثاني: أحاديث أئمة أهل البيت، وهي روايات كثيرة قامت بتفسير القرآن الكريم بأحد أشكال التفسير السابقة التي شرحناها، بعد استبعاد مجرّد التخصيص والتقييد والحكومة من السنّة للكتاب، وإلا فضمّ هذه سيبلغ بالروايات مبلغاً كبيراً.

المجال الثالث: آثار الصحابة، وهم الذين تربّوا في مدرسة النبوة، فكان منهم العالم المتخصّص بالقرآن ومعانيه ومنهم الذي له اطّلاع على أسباب النزول، وبعضهم كان له علمٌ بتطبيق الآية على بعض مواردها على الأقلّ، والنصوص عن الصحابة في التفسير كثيرة، لاسيما عن مثل ابن عباس وابن مسعود و..

المجال الرابع: آثار التابعين وتابعيهم، وهي كثيرة جداً تشكل كمّاً كبيراً من مجموع التفاسير المأثورة، كما سوف نلاحظ إن شاء الله تعالى.

وانطلاقاً من هذه الدوائر الأربع، سوف ندرس ـ بعون الله تعالى ـ حركة انطلاق دور الحديث والأثر في تفسير القرآن الكريم دراسة تاريخيّة، وسوف نسير معها بالترتيب التاريخي تقريباً، لننظر في خصائص كلّ نوع ومرحلته وما شابه ذلك.


1ـ التفسير الأثري في العصر النبوي

من الطبيعي أن لا يحتاج الصحابة والمحيطون بالنبي| إلى الكثير مما نحتاجه اليوم لتفسير القرآن، وعلى رأس ذلك كلٌّ من اللغة بفروعها وأسباب النزول وملابساته.

يقول ابن خلدون: إنّ القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا كلّهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه(٧ ).

وأغلب الظنّ أن ابن خلدون يقصد الفهم الأولي للقرآن، لا فهم تمام معانيه بما فيها ذاك الناشئ عن مقاربة الآيات ومقارنتها، فإنه كلّما كان الصحابي حافظاً للقرآن مستحضراً آياته في سبيل مقاربتها ومقارنتها، كان أقدر على الخروج بنتائج أكثر، وهذا أمرٌ طبيعي لكلّ قارئ لنصٍّ نزول نجوماً في ثلاث وعشرين سنة.

نعم، إنّ الكثير من الجهود التي نبذلها نحن اليوم لم يكن يحتاجها المعاصرون لنزول الآيات والمتابعون لحدثها، وهذا ما يخفّف بدرجة كبيرة المسؤولية التفسيرية التي قد تلقى على عاتق النبي|.

من هنا، كان حجم التفسير النبوي قليلاً، لاسيما لو أخذنا بعين الاعتبار، ما ثبت منه تاريخياً بشكل موثق، ووظيفة النبي كانت إظهار القرآن للناس وعدم إخفائه عنهم، قال تعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ (النحل: 44)، والذي يعني بيانه مقابل إخفائه، لا بيانه بمعنى تفسيره كما هو المشهور، ولا أقلّ من أنّ ما نقوله يمثل القدر المتيقن، مع مقارنة هذه الآية بما دلّ على أنّ القرآن نورٌ بنفسه وبيان وتبيان.

من هنا، لا يصحّ قول من قال ـ وعلى رأسهم الشيخ ابن تيمية الحراني(٨ ) ـ بأنّ الرسول فسّر القرآن كلّه، استناداً إلى هذه الآية الكريمة.

على هذا الأساس، تركت لنا الحقبة النبوية تفاسير نبوية متفرّقة لآياتٍ من السور القرآنية، ولا يملك المسلمون اليوم تفسيراً متكاملاً نبويّاً للقرآن كلّه، وإنما بعض الشروح والتفاسير المختصرة المرفوعة إلى النبي في كتب المسلمين، وقد حاول جلال الدين السيوطي (911هـ) جمعها في كتابه على ترتيب السور القرآنية(٩ )، وهي تكشف لنا كم كانت المساهمة التفسيرية الواصلة إلينا موجزة ومختصرة، وكثيرٌ منها في آيات الأحكام، وكثير منها ضعيف على المستوى الحديثي والتاريخي، وهذا ما يلاحظه المراجع فيما تركه لنا ابن قيم الجوزية أيضاً.

ولست أوافق على ما ذهب إليه بعض الباحثين في أنّ عدم ترك الرسول| لنا تفسيراً كاملاً للقرآن كان لحكمة أن يتأمل الناس بعده في الكتاب( ١٠)، فإنه مهما فسّر الرسول القرآن ستظلّ هناك فرصٌ للتأمل، كيف وقد فسّر الصحابة والتابعون وأئمة أهل البيت القرآن كاملاً بعده دون أن تقف رحلة التأمّل في الكتاب الكريم.

لهذا، فالأقرب في تفسير هذه الظاهرة هو الرجوع إلى مركّب مؤلّف من مقدّمتين:

الأولى: ما ذكره ابن خلدون من علم المحيطين بالنبي باللغة بفروعها وامتداداتها علماً وجدانياً عفوياً إلى جانب معايشتهم لملابسات نزول الآيات، فإن جهداً هائلاً يبذله المفسّرون اليوم يعود إلى فقدانهم هاتين الخاصيتين: اللغة والتاريخ.

الثانية: عدم بلوغ الوعي الإسلامي آنذاك مرحلةً من إثارة التساؤلات التي تطالب بإعادة قراءة النصّ لتحصيل جوابٍ عنها، فعندما ظهرت الخلافات الكلامية والاصطفافات المذهبية عاد المسلمون مرةً أخرى إلى القرآن لاستنطاقه في حلّ مشاكلهم، فظهرت جوانب في النص لم تكن ظاهرة، هكذا الحال في كلّ عصر ومصر، والتجربة الإسلامية في عصر النبي كانت ممتلئةً بالأجوبة الشافية من خلال هذا المعطى القرآني الآتي من اللغة العفوية وملابسات النزول، لهذا كانت الأسئلة محدودة؛ لأنّ الوعي والإشكالية كانا في حدّ معيّن.

هذا يعني أن ثنائية التاريخ واللغة عندما تضاف إلى ثنائية الوعي والسؤال، تفسّر لنا قلّة الأسئلة حول التفسير القرآني في العصر النبوي وقلّة ما تركه النبي لنا ـ بحسب ما وصلنا ـ من تفسير القرآن الكريم.


2ـ التفسير الأثري في عصر الصحابة

بعد وفاة الرسول| بدأت مرحلة تفسير الصحابة، فقد توسّعت الدولة الإسلامية ودخلت في الإسلام شعوب وأمم ناطقةٌ باللغة العربية وغير ناطقة بها، وبدأت المسافة المعرفية تقع بين الأمّة والقرآن؛ لأنّ العاملَين اللذين ساهما في اختصار رحلة التفسير في العصر النبوي بدأ يضعف حضورهما هنا في هذه المرحلة، فاللغة العربية لم تعد لغة جميع المسلمين، وصارت هناك حاجة لتفسير النص العربي لغير العرب، كما أنّ الأيام كانت بانقضائها تلقي ظلالاً من الضباب على أحداث التاريخ ومعرفة ملابسات نزول النصوص، فلم يكن هناك من ملجأ في تلك المرحلة إلا العودة إلى الصحابة المقرّبين، فهم أكثر اطّلاعاً على هذين الأمرين: اللغة والتاريخ؛ فظهرت تفاسير الصحابة على شكل إشارات لغوية تارةً وتاريخية أخرى، وولد التفسير الأثري في عهده الثاني.

وقد تفاوت الصحابة في مديات معرفتهم تبعاً لمتابعتهم لما صدر في مجال تفسير القرآن عن رسول الله| تارةً، وملاحقتهم شؤون نزول كلّ آية كي يكونوا على دراية بملابسات ذلك أخرى، ومتابعتهم شؤون اللغة وسعة أفقهم وقدراتهم التحليلية ثالثة.

وكان لحفظ القرآن الكريم والتأمّل فيه ـ وهو في الحفظ كلّه ـ دور أيضاً في بروز بعض الصحابة في هذا المجال؛ إذ كلّما حفظ الصحابيّ الكتاب كلّه وتأمل في ثنايا آياته وقارن بينها وقارب.. حصلت له اجتهادات جديدة في فهمه، ونحن نعرف أنّ الصحابة كانوا منشغلين بمهمات مختلفة بعد وفاة الرسول|، فبعضهم اعتزل الناس ولم يعد له أيّ حضور، وبعضهم انشغل بالعمل السياسي أو القضائي أو العسكري في الغزوات والفتوحات، وبعضهم تفرّغ للعلم والتبليغ والدعوة، وكان هؤلاء بارزين في مجال المعرفة بالكتاب الكريم.

واختلفت أمزجة الصحابة في التفسير، بحسب ما وصلنا من نصوص مأثورة عنهم، فبينما كان بعضهم يركّز على كشف الجوانب اللغوية ويغلب على تفسيره الطابع اللغوي من شرح المفردات ونحو ذلك مثل ابن عباس، نتيجة أسئلة وجّهت إليه، أو ربما كان لغير العرب دورٌ في ذلك إذا صحّت نسبة هذه التفاسير له، كان فريقٌ آخر يعتمد منهج التحليل والاجتهاد، مثل ابن مسعود، رغم أنّ قلقاً ظلّ يكتنف بعض الصحابة من الخوض في التفسير، الأمر الذي كان يدعو بعضهم لعدم التصدّي لهذا الأمر.


أبرز مفسّري الصحابة

قال السيوطي: اشتهر بالتفسير من الصحابة عشرة، الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير. أما الخلفاء فأكثر من روي عنه منهم علي بن أبي طالب، والرواية عن الثلاثة نزره يسيرة، وكأنّ السبب في ذلك تقدّم وفاتهم، كما أنّ ذلك هو السبب في قلّة رواية أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ للحديث، ولا أحفظ عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في التفسير إلا آثاراً قليلة جداً لا تكاد تجاوز العشرة، أما علي فروي عنه الكثير( ١١).

هذا النص يحتاج إلى تعليق:

أولاً: كيف عرف السيوطي أنّ هؤلاء هم أشهر المفسّرين، مع أنه لم يصله عن أبي بكر إلا عشرة روايات؟! أخشى أن تكون الروح المذهبية التقديسية هي السبب في هذا الأمر، من حيث إنّ الخلفاء الأربعة لابد وأن يكون لهم قصب السبق في كل شيء!!.

ثانياً: إنّ إقحام زيد بن ثابت والأشعري وابن الزبير ليس دقيقاً؛ لأننا لا نتحدث عن مطلق من له كلام في التفسير من الصحابة، وإنما عمّن اشتهر بالتفسير، لهذا نرجّح أن يكون مفسّرو الصحابة المشهورين ـ وكثير من الصحابة روى في التفسير ـ أربعة على الترتيب التالي، وفقاً لما وصلنا منهم:

أ ـ علي بن أبي طالب، لا سيما مع الأخذ بعين الاعتبار أيضاً التفاسير المنقولة عنه في المصادر الشيعية كالإمامية والزيدية والإسماعيلية.

ب ـ عبد الله بن عباس، مع الأخذ أيضاً تفاسيره في المصادر الشيعية.

ج ـ عبد الله بن مسعود، مع ملاحظة ما تقدّم.

د ـ أبيّ بن كعب، مع ملاحظة ما تقدّم أيضاً.


خصائص التفسير الأثري في عهد الصحابة

أبرز خصائص التفسير الأثري في عهد الصحابة، ما يلي:

1 ـ عدم استيعاب تمام آيات القرآن.

2 ـ يُسر التفسير وبساطته وإجماله العام.

3 ـ قلّة الاستنباط الفقهي فيه.

4 ـ شفاهية هذا التفسير في الغالب وعدم تدوينه مباشرةً(١٢ ). اللهم إلا مصحف علي× بناءً على أنّه كان حاوياً لتفسير القرآن الكريم أيضاً، لكن مع الأسف لم تصلنا نسخة هذا التفسير كاملة مدوّنة.

من هنا ربما يمكن اعتبار مصحف الإمام علي× هو أوّل وثيقة تفسيرية ظهرت في عهد الصحابة( ١٣)، وإن كان الأمر يحتاج إلى مزيد نظر في أنّه أول وثيقة ظهرت أو دوّنت ولم تظهر؟ هذا، وينقل وجود بعض المدوّنات عن ابن عباس وأبي بن كعب.


3 ـ التفسير الأثري في عهد التابعين وتابعيهم

التابعون ظاهرة تعليمية ثقافية عفوية تخرّجت من بيوت الصحابة، وكان أغلبهم من الموالي، وقد ظهر التابعون وتابعوهم مع النصف الثاني من القرن الأوّل الهجري إلى أواخر القرن الثاني الهجري، وزاد اختلاطهم بالشعوب الوافدة على الإسلام في عصر تعاظمت فيه الإشكاليات والتساؤلات، وتمّ الابتعاد فيه كثيراً عن اللغة والتاريخ، وازداد معضل إثبات ما صدر عن النبي والجيل الأقدم من الصحابة، فاشتدّت الحاجة إلى التفسير وظهر بشكله الموسّع الأول هذه المرّة.

وقد اعتمد التابعون في تفسير القرآن على القرآن تارةً، وتفاسير الصحابة أخرى، وعلى اللغة ثالثة، وما وصلهم من تاريخ رابعة، كما أعملوا اجتهادهم خامسة.

لكن حصل أمرٌ استجدّ بشكل واضح في هذه المرحلة وأسّس لإشكالية كبيرة في التفسير الأثري عموماً فيما بعد، وهو أنّ التابعين ـ فيما يبدو ـ لم يتحفظ بعضهم من الأخذ عن أهل الكتاب في قضايا لها صلة ما بمضمون آيةٍ هنا وأخرى هناك، الأمر الذي أدّى إلى نفوذ الإسرائيليات في تفسير القرآن بالحديث والأثر، وهو أمرٌ كان له وجود في عهد الصحابة لكن ضمن نطاق محدود نسبيّاً.

فارتفاع معدّل الاجتهاد في تفسير التابعين، وظهور معضلات من نوع الإسرائيليات، خفض من القيمة الاعتبارية للآثار الواردة عن التابعين وتابعيهم، ومع ذلك ظلّت لهم بعض الميزات؛ لقربهم الزمني وثقافتهم باللغة العربية وقلّة الوسائط بينهم وبين الأحداث، الأمر الذي لم يحظ به من تأخر من أرباب التفسير( ١٤).


مدارس التفسير عند التابعين وأبرز المفسّرين

برزت في عصر التابعين وتابعيهم عدة مدارس تفسيرية تمحورت حول نزعات هذا الصحابي في التفسير أو ذاك، وهذه المدارس هي:

1 ـ المدرسة المكية، ومحورها عبد الله بن عباس، وأشهر تلامذتها: سعيد بن جبير (95هـ)، ومجاهد بن جبر المكي المخزومي (103هـ)، وعكرمة البربري مولى ابن عباس (105 أو 107هـ)، وكان متهماً بالكذب عند بعضهم، وطاووس بن كيسان اليماني الهمداني (106هـ)، وعطاء بن أبي رباح المكي (114هـ)، وغيرهم.

2 ـ مدرسة العراق أو الكوفة، ومحورها عبد الله بن مسعود، وقد برز فيها كلٌ من: قتادة بن دعامة السدوسي البصري (118هـ)، والحسن البصري (110هـ)، ومسروق بن الأجدع (63هـ)، ومرّة الهمداني (76هـ)، وعامر بن شراحيل بن عامر الشعبي الحميري (104هـ)، والأسود بن يزيد بن قيس النخعي (74هـ)، وعلقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك (62هـ).

3 ـ مدرسة المدينة، ومحورها أبي بن كعب وأئمة أهل البيت^، وظهر في المفسرين هناك كلّ من: زيد بن أسلم العدوي المدني (136هـ)، وأبو العالية رفيع بن مهران البصري (90هـ)، ومحمد بن كعب القرضي الكوفي (117هـ)(١٥ ).


المفسرون من تابعي التابعين

شهد القرن الثاني الهجري حركة تفسير نشطة وبرزت بعض الشخصيات، ونحن نذكر أهم هذه الشخصيات:

1 ـ مقاتل بن سليمان الأزدي (150هـ).

2 ـ عبد الملك بن جريج الأموي (150هـ).

3 ـ شعبة بن الحجاج الأزدي (160هـ).

4 ـ سفيان بن سعيد الثوري (161هـ).

5 ـ مالك بن أنس (179هـ).

6 ـ وكيع بن الجراح (197هـ).

7 ـ سفيان بن عيينة الهلالي (198هـ).

8 ـ هشام بن محمد بن السائب الكلبي (206هـ).


خصائص التفسير في عهد التابعين وتابعيهم

وأهم خصائص التفسير في هذا العهد ما يلي:

1 ـ ارتفاع معدّل الاجتهادات الشخصية، في محاولة لاكتشاف معطيات جديدة في الكتاب، وحيث كانت التجربة جديدة ظهرت أخطاء واضحة جداً لتبدأ في أواخر هذا العصر بدايات عملية إصلاح شكّلت مخاضاً لولادة علم تفسير أكثر منهجيةً، ظهر فيما بعد ـ في بداياته ولأوّل مرّة ـ مع محمد بن جرير الطبري (310هـ) في جامع البيان.

2 ـ ابتلاء أكثر الأسانيد التي تمّ الاعتماد عليها لجمع الوثائق التاريخية ونصوص الصحابة والرسول بمشاكل حقيقية، من نوع الاعتماد على الضعفاء والمجاهيل أو عدم ذكر الأسانيد إطلاقاً، بل إنّ بعض المفسّرين أنفسهم واجهوا تهم الوضع والكذب مثل عكرمة وغيره، كما سنشير لاحقاً بعون الله تعالى. نعم بدأت الأسانيد تستحكم تدريجياً في أواخر هذه المرحلة.

3 ـ محاولة استحضار نتاجات أهل الكتاب، في فهم الآيات وتفسيرها وتكميل الصور التاريخية التي عرضها القرآن الكريم، الأمر الذي أوقع حركة التفسير كلّها في إشكالية عظيمة، وزاد من حركة الوضع في تفسير القرآن.

4 ـ ارتفاع ملحوظ في معدّل الخلافات التفسيرية في هذه المرحلة، فصارت هناك في الآية الواحدة آراء وآراء، الأمر الذي فتح علم التفسير على بدايات ظهور مدارس مختلفة في المنهج والأسلوب، وقد ساعدت في ذلك الخلفياتُ الفكرية والسياسية والمذهبية للمفسّرين أنفسهم، ومثال ذلك الخلاف بين تفسير قتادة والحسن البصري في آيات القدر.

5 ـ غالباً ما لم يكن تفسير هؤلاء للقرآن كاملاً، لكن تدريجياً بمرور الوقت صار عدد الآيات المفسّرة عند هذا المفسّر أو ذاك أكبر حتى تكاد تستوعب الكتاب كلّه(١٦ ).


4 ـ التفسير القرآني عند أهل البيت عليهم السلام

قام أهل البيت النبوي بتفسير القرآن الكريم للناس منذ وفاة الرسول|، وقد بذلوا جهوداً كبيرة في هذا المجال، ونقلت عنهم الكثير من الإفادات في تفسير القرآن العظيم، فمنذ وفاة النبي عكف الإمام علي بن أبي طالب× على جمع القرآن مرفقاً بتفسيره، وفق النظرية المعروفة، وأدرج إلى جانب كلّ آية معناها وتأويلها وما يتصل بفهمها من أمور.

وحتى لو غضضنا الطرف عن ذلك، وبقينا وما وصلنا من روايات عن الإمام علي× في تفسير القرآن، سنبقى نرى ـ كما لاحظنا من قبل ـ أنّه كان أكثر المسلمين تفسيراً للقرآن في العصر الإسلامي الأوّل، وهذا ما يدلّ على اهتمام كبير من أهل البيت بتفسير الكتاب العزيز.

وقد واصل أهل البيت مشروعهم التفسيري، فبرز الإمامان: محمد الباقر وجعفر الصادق، إذ لو جمعنا ما أثر عنهما في تفسير القرآن لوجدنا تفسيراً من أوسع تفاسير القرآن الواصلة إلينا في تلك الفترة.

ولم يترك أهل البيت كتاباً مستقلاً أملوه أو سطروه بأيديهم في تفسير القرآن سوى كتاب التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري، وسوف يأتي أنه لم تصحّ هذه النسبة عند العلماء.

إلا أنّ النصوص المتناثرة الموجودة في الكتب الحديثية عند الشيعة والسنّة مأثورةً عن أئمة أهل البيت تخوّلنا القول بأنهم تركوا واحداً من أوسع تفاسير القرآن الكريم، هذا إذا ضممنا إلى هذه الروايات المتناثرة ما جاء في الكتب الحديثية التفسيرية الناقلة عنهم، خاصّة مثل تفسير العياشي والقمي وفرات الكوفي وغير ذلك.


معالم التفسير القرآني في المأثور عن أهل البيت النبوي

يحوي تفسير أهل البيت للقرآن ـ بحسب ما وصلنا ـ على ما يلي:

1 ـ الإشارة إلى بعض القراءات القرآنية، مثل قراءة علي، وهذه القراءات التي تشير إليها بعض الروايات قد نجد لها ما يشبهها عند بعض القراء، وقد لا نجد لها مثيلاً عند أيّ من القراءات المعروفة عند المسلمين.

2 ـ الإكثار من الروايات التطبيقية القائمة على التفسير تارةً وعلى الجري والانطباق أخرى، حيث يلاحظ في التفاسير المنسوبة إليهم أنها تركّز على تطبيق الآية القرآنية على مصداقها، وفي كثير من الأحيان يجري تطبيق الآيات المادحة على أهل البيت أنفسهم أو شيعتهم، فيما يجري تطبيق الآيات الذامّة على خصوم أهل البيت أو منافسيهم أو أعدائهم أو شيعة هؤلاء.

3 ـ تفسير آيات الأحكام، إذ يلاحظ في تفاسير أهل البيت التعرّض لآيات الأحكام، ومدلولاتها الفقهية وغير الفقهية، وذلك بشكل ملفت.

4 ـ الطابع التأويلي الرمزي، إذ نجد في العديد من المرويات تأويلات باطنية ومعاني ذات طابع رمزي تشبه ما يظهر أحياناً من العرفاء والمتصوّفة.

5 ـ تفسير القرآن بالقرآن، حيث نجد في بعض الروايات محاولات للربط بين الآيات ومقاربتها للحصول على معطيات جديدة ومفيدة.

6 ـ بيان أسباب النزول، وهذا كثير في روايات أهل البيت التفسيرية، حيث يبيّن فيها ظروف نزول هذه الآية أو تلك بما يسلّط الضوء على المناخ التاريخي لنزول الآيات.

7 ـ إبطال تفاسير أخرى مطروحة في بعض الآيات، حيث نلاحظ أنّ بعض السائلين يطرح بعض التفاسير المثارة في عصره، ليعلّق الإمام عليها، فنجد أئمة أهل البيت يعلّقون سلباً أو إيجاباً، على التفاسير التي تثار في زمانهم.

8 ـ بيان الناسخ والمنسوخ إيجاباً أو سلباً، حيث وردت العديد من الروايات تبيّن أنّ آيةً ما نسخت آيةً أخرى، أو تنفي وقوع النسخ بين هاتين الآيتين.

هذا، وأبرز المفسّرين من أهل البيت ـ بحسب ما وصلنا بصرف النظر عن صحّة النسبة ـ هم: الإمام علي، والإمام الباقر، والإمام الصادق، والإمام الحسن العسكري^، كما وأبرز الكتب التي جمعت تفاسيرهم وإن لم تحصها جميعاً هو: تفسير علي بن إبراهيم القمي، وتفسير فرات الكوفي، وتفسير الحسن العسكري، وتفسير محمد بن مسعود العياشي.


خامساً: التفسير الأثري، مطالعة في المصادر والمراجع

نحاول هنا أن ندرس أهم مصادر التفسير بالحديث والأثر عند المسلمين، وسوف نقوم بذلك وفقاً للخطوات التالية:

1 ـ مصادر التفسير، وندرس أقدم كتب التفسير آخذين نماذج منها فقط، مثل تفاسير: ابن عباس، وابن مسعود، والقمي، والعياشي، وجامع البيان للطبري، والتبيان للطوسي و..

2 ـ مراجع التفسير، وهي الكتب الجامعة التي ألّفت في العصور المتأخرة، مثل تفسير البرهان، وتفسير الصافي، والدر المنثور، وتفسير القرآن العظيم و..


الأول: مصادر التفسير الأثري

أبرز مصادر التفسير الأثري ما يلي:


1 ـ تفسير عبد الله بن عباس (68هـ)

جمع العلماء التفاسير المنسوبة لعبد الله بن عباس (68هـ) في كتاب مستقلّ، وبملاحظة تفسيره نجد الميزات التالية:

1 ـ تفسيره القرآن بالقرآن، كتفسيره الموتة الأولى بحالة ما قبل الخلق جمعاً بين قوله تعالى: ﴿أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ (غافر: 11)، وقوله سبحانه: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ (البقرة: 28).

2 ـ تفسيره بالرواية عن النبي، وقد كان هذا قليلاً جداً، وقد ذكر بعضهم أنّ مقارنة تفسير ابن عباس بالمنقول عن النبي مع تفسير أبي بن كعب وابن مسعود تكاد تفيد تطابق ما عند ابن عباس معهما، مما يدلّ على أنه أخذ معلوماته عن أسباب النزول ونحوها منهما، ولهذا كانت رواياته التي رفعها إلى النبي في التفسير قليلة جداً( ١٧).

والسبب في هذا صغر سنّه في حياة النبي، وهناك من يعتقد بأن تضخيم شخصيته كان محاولة من العباسيين لادّعاء أنّ لهم قصب السبق في العصر النبوي، لمواجهة العلويين والأمويين.

3 ـ تفسيره بالاجتهاد الشخصي، وهذا أكثر ما نقل عنه، حتى يؤثر أنّ ابن عمر كان مندهشاً من جرأة ابن عباس على التفسير بهذا الاجتهاد(١٨ ).

4 ـ اعتماده على اللغة واستشهاده بأشعار العرب، وهذا أيضاً كثيرٌ فيما نقل عنه، وقد نسب إليه تأليف كتاب باسم: كتاب اللغات في القرآن، حيث يكشف عن خبرة واسعة بلغات قبائل العرب المختلفة( ١٩). وكانت له مسائل وجّهها إليه نافع بن الأزرق (65هـ) ونجدة بن عويمر (69هـ)، حيث طلبا منه تفسير القرآن مع شواهد من شعر العرب، وفعل ذلك، وقد جمعها السيوطي في كتاب الإتقان(٢٠ ).

ويحتاج إثبات هذين الكتابين ـ أي اللغات ومسائل نافع بن الأزرق ـ إلى بحث تاريخي جادّ، وإلا فإنّ غموضاً وتساؤلاً يلفّ صدقية نسبة هذين الكتابين إليه.

5 ـ استعانته وخبرته بأسباب النزول، وهذا مشهود في التفسير المرويّ عنه للقرآن، ولكننا نشكّ في أكثره؛ لكونه صغيراً حتى وفاة النبي؛ فلابدّ وأن يكون قد أخذ بعض هذه المعلومات من بعض الصحابة، أو اجتهد فيها.

6 ـ معرفته بالناسخ والمنسوخ، كذكره نسخ حرمة القتال في الأشهر الحرم بمطلع سورة براءة. ولكنّ الكثير من دعوى النسخ هذه ليست سوى اجتهادات منه يمكن إبداء الكثير من المناقشات فيها.

7 ـ اعتماده أحياناً على مصادر أهل الكتاب، حتى اتّهمه أجناس جولدتسيهر وأحمد أمين بالإكثار والإفراط في هذا المجال، وإن ذهب بعض الباحثين إلى أنه اعتمد على هذه المصادر، ولكن ليس بكثرة(٢١ ).


2 ـ تفسير عبد الله بن مسعود (32هـ)

معالم منهج عبد الله بن مسعود في التفسير ـ كما يظهر بمراجعة تفاسيره المبثوتة في الكتب القديمة، مثل جامع البيان للطبري ـ ما يلي:

1 ـ تفسيره القرآن بالحديث النبوي، وعدد رواياته في ذلك أكبر بكثير من المنقول عن ابن عباس، وتفسيره بالحديث معقول، نظراً لسنّه وقربه من النبي|.

2 ـ تفسيره القرآن بالاجتهاد، وهذا معروف عنه، بل يحسب ابن مسعود على مناصري مدرسة الاجتهاد عموماً بين الصحابة، كما هو معروف لدى الباحثين في تاريخ التشريع الإسلامي.

3 ـ تفسيره مفردات القرآن، كتفسيره الغيّ في قوله تعالى: ﴿.. فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً﴾ (مريم: 59)، بأنه وادٍ في جهنم.

4 ـ معرفته بأسباب النزول، وهذا أمرٌ معقول؛ لما تقدّم من معاصرته للنبي وقربه منه، فقد كان من رموز الصحابة.


3 ـ تفسير أبيّ بن كعب (20هـ)

يحوى تفسير أبي بن كعب ما حوته تفاسير ابن عباس وابن مسعود، وقد وردت عنه نسخة كبيرة في التفسير، رواها أبو جعفر الرازي بسنده عنه. وترك تفسيره أثراً في مدرسة المدينة، وغلب على تفسيره الرواية عن النبي| والعلم بالقراءات القرآنية.


4 ـ تفسير علي بن إبراهيم القمي (ق 4هـ)

عاش علي بن إبراهيم القمي في عصر الغيبة الصغرى وربما ما قبلها بقليل، ويعدّ من أجلاء الثقات عند الإمامية، وكثير من روايات الكليني ترجع إليه، وأكثر رواياته أخذها عن والده إبراهيم بن هاشم، الذي يعدّ أعظم راوية شيعي من حيث عدد الروايات التي نقلها، حيث تربو رواياته عن 6400 رواية.

وقد وقعت مناقشات طويلة في كتاب تفسير علي القمي، نلخّصها فيما يلي:

أولاً: لا شك في وجود تفسير لعلي بن إبراهيم القمي، كما شهدت بذلك كتب الرجال والفهارس.

ثانياً: لا شك في وجود تفسير لأبي الجارود زياد بن المنذر المحسوب على المذهب الزيدي، كما جاء أيضاً في كتب الرجال والفهارس.

ثالثاً: هناك ثلاثة آراء في تفسير علي بن إبراهيم الموجود بين أيدينا:

1 ـ إنه بأجمعه لعلي بن إبراهيم، وهو صحيح النسبة إليه، وهذا ما يظهر من السيد أبو القاسم الخوئي.

2 ـ إنه غير ثابت بأجمعه، إلا الرواية الواردة فيه والمنقولة في مصادر الحديث المعتبرة عنه. والسبب أنّ ناقل التفسير ـ كما يظهر من مطلعه ـ هو أبو الفضل العباس بن محمد بن القاسم بن حمزة بن الإمام الكاظم، وهو رجل مهمل تماماً لا ذكر له في مصادر الرجال والجرح والتعديل، ومعه فلا يمكن الوثوق بهذه النسخة بتاتاً، ولم نجد المشايخ العظام قد نقلوا عنه، وهذا ما يذهب إليه الشيخ محمد هادي معرفة(٢٢ ).

3 ـ التفصيل، بأن يقال: إنّ هذا الكتاب خليط من تفسيري القمي وأبي الجارود، وأنه لا يمكن التمييز بينهما أو يمكن إلى حدّ معيّن. وهذا ما قاله بعضهم، مثل الشيخ مسلم الداوري(٢٣ ).

رابعاً: تحوي مقدّمة هذا التفسير ـ وهي طويلة نسبياً ـ نصّاً استند إليه بعض العلماء المتأخرين، ومنهم السيد الخوئي، لإثبات وثاقة جميع الرواة الواقعين في أسانيد هذا الكتاب، ووفقاً لهذه النظرية التي تستفاد من شهادة القمي بوثاقة رواة كتابه سوف يكتسب هذا الكتاب قيمةً مضافة تستحقّ الوقوف عندها.

لكنّ هذا الموقف ظلّ متأثراً بالموقف السابق في تحديد هوية نسخة هذا التفسير، فمن قبله بأجمعه انفتح عنده باب التوثيق وصار هناك مجال للحديث عنه، ومن رفضه بأجمعه انسدّ عنده هذا الباب، والمفصّل انفتح لديه نسبياً مجال التفصيل مع تمييز ما للقمّي عن غيره، إذا ثبت عنده أن هذا النص الموجود في المقدّمة هو لعليّ بن إبراهيم القمي فعلاً. وتفصيل هذه الأبحاث تراجع في علم الرجال، حيث بحثنا ذلك مفصّلاً هناك.

خامساً: يمتاز تفسير القمي بأنه من أقدم التفاسير الشيعية الإمامية التي وصلتنا، ولهذا فكثيراً ما يعبّر عن نزعة إمامية في التفسير، فنجد فيه بوضوح تطبيق الآيات أو تفسيرها بأهل البيت أو أعدائهم، مستخدماً في بعض الموارد أسلوب التأويل الذي لا يظهر للباحث من مراجعة ظواهر الآيات، وتوجد فيه إشارات إلى تحريف بعض الآيات القرآنية، أو إلى وجود قراءات مختلفة لبعض الآيات القرآنية.

سادساً: إنّ تفسير القمي تفسيرٌ للقرآن وفقاً لروايات أهل البيت، لكننا نجد في بعض الأحيان القليلة كلمات لا نستطيع التأكّد أنّها متون روايات، حيث يحتمل أن تكون للمؤلّف نفسه، على طريقة الطبري الذي يذكر الروايات كما يذكر رأيه.

سابعاً: يظهر من جملة من العلماء موافقتهم على مضمون هذا التفسير، أو لا أقلّ لا نجد لهم نقداً متنياً في حقّه، لكنّ بعضهاً آخر ـ مثل العلامة محمد هادي معرفة ـ رغم ثنائه على التفسير من بعض الجوانب، إلا أنّه رأى أنّه يحوي ما يخالف العقول ويتحاشاه أهل بيت الرسول من الروايات المناكير( ٢٤).


5 ـ تفسير محمد بن مسعود العياشي (ق 3 ـ 4هـ)

محمد بن مسعود العياشي السلّمي السمرقندي من أبرز علماء الإمامية الكبار في القرن الثالث والرابع الهجريين، وهو شيخ الشيخ الكشي صاحب كتاب معرفة الرجال، وكانت داره حوزةً علمية كبيرة تخرّج منها عددٌ وافر من طلبة العلوم الدينية، وهو من الرواة المعروفين الذين يقع اسمه في سند الكثير من الروايات.

نشأ العياشي على مذهب أهل السنّة ثم تشيّع(٢٥ )، وظلّت كتبه مرجعاً شيعياً مستمراً إلى يومنا هذا، وتفسيره هذا ظلّ محلّ رجوع العلماء والمفسّرين في الكثير من المواقع والمناسبات. ورغم توثيق العياشي وجلالته إلا أنّ الشيخ النجاشي ذكر ـ كما ذكر في حقّ تلميذه الكشي ـ أنه يروي عن الضعفاء كثيراً(٢٦ ).


مشاكل تواجه تفسير العياشي

يواجه تفسير العياشي مشكلتين أساسيتين:

الأولى: إنّ جميع رواياته تشرع بذكر الراوي للحديث عن الإمام، ولا يوجد أيّ سند من العياشي نفسه إلى هذا الراوي، وهذا ما جعل هذا الكتاب كلّه مرسلاً، ممّا أضعف من قيمته.

ويرى العلامة الطباطبائي أنّ الأصل لم يكن كذلك، وإنما حصل ذلك من طرف بعض النسّاخ الذين اختصروه بحذف الأسانيد، وإلا فجلّ رواياته كانت مسندة، وهذا ما يعني أنّ هذه النسخة التي بين أيدينا اليوم هي مختصر تفسير العياشي لا أصل التفسير(٢٧ ).

ولم يوضح العلامة الطباطبائي دليله على أنّ نسخة الكتاب الأصل كانت تحوي أسانيد، وأغلب الظنّ أنه أخذ ذلك إمّا من كلام العلامة المجلسي، حيث قال: ورأينا منه نسختين قديمتين… لكنّ بعض الناسخين حذف أسانيده للاختصار، وذكر في أوّله عذراً هو أشنع من جرمه( ٢٨)، أو على مقارنة ما نقله الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل عن تفسير العياشي مسنداً.

إلا أنّ كلام العلامة المجلسي هو الآخر لا يثبت القضية؛ لأنّ النسختين القديمتين لا يحرز ثبوتهما أساساً، ولم تبيّن الطرق إليهما، وإن كان الأمر محتملاً جداً. والخبر بأنّ الأصل فيه أسانيد يرجع إلى مختصِر النسختين، ولعلّه غير صادق حيث لا نعرفه، لكن يظلّ كون أصله مسنداً هو الأرجح بملاحظة وصول نسخة كاملة للحافظ الحسكاني نقل عنها مسنداً في كتابه شواهد التنزيل، كما قلنا.

من هنا، تبرز الضرورة لمراجعة كلّ روايات العياشي في مصادر الحديث الشيعية والسنية، فلعلّه يعثر من بينها على روايات تفسيرية له تطابق ما جاء في التفسير الموجود بين أيدينا، وتكون مسندةً في المصادر الأخرى.

الثانية: إنّ هذا التفسير لا يتوفر منه اليوم سوى الجزء الأول، الذي ينتهي عند آخر سورة الكهف، وهو موجود كما يذكر الآغا بزرك الطهراني في الخزانة الرضوية وغيرها(٢٩ ).

ويصرّح العلامة الطباطبائي أنّ أرباب التفسير لم ينقلوا إلا ما في الجزء الأوّل منه، معلّقاً بالقول: نعم، ربما يذكر فيما يذكر أنّ بعض خزائن الكتب من بلاد إيران الجنوبية يحتوي على الكتاب بجزأيه، ولم يتحقق ذلك، ولا اهتدينا إليه بعدُ(٣٠ ).

ولم يظهر لي الوجه في اعتقادهم بأنّ التفسير كاملٌ، فإنّ مراجعة كتب الرجال والفهارس كرجال النجاشي وفهرست الطوسي وفهرست ابن النديم لا تعطي شيئاً، حيث يقولون فقط بأنّ له كتاب التفسير، فلا ندري هل كان هذا التفسير كاملاً في أصله أم أنه انتهى هناك أيضاً عند سورة الكهف، علماً أن مقدّمة التفسير ومطاويه لا توحي بوجود قسم آخر له إلى نهاية القرآن الكريم والله العالم، إلا إذا حصلنا من مقارنة ما جاء في شواهد التنزيل للحسكاني على شيء ما.

ورغم هاتين المشكلتين، ظلّ هذا التفسير حاضراً، مثل حضور تفسير القمي، وقد ذكر الكثير من رواياته الفقهاءُ والمحدّثون في كتبهم.

وتمتاز روايات هذا التفسير بالاختصار تارةً والتفصيل تارةً أخرى، وتحوي مسائل فقهية وتاريخية وتأويلية، وفيها روايات الجري والتطبيق أيضاً، ويندر إن لم نقل ينعدم وجود كلمات للمؤلّف نفسه، كما يذكر بعض الروايات الشاذّة في القراءات لأهل البيت^( ٣١).

ويعتقد الشيخ محمد هادي معرفة أنّ العياشي عندما يرد في التأويل، نراه غير مراعٍ لضوابط التأويل الصحيح، على ما أسلفنا بيانه، من كونه مفهوماً عاماً منتزعاً من الآية بعد إلغاء الخصوصيات، ليكون متناسباً مع ظاهر اللفظ وإن كانت دلالته عليه غير بينة(٣٢ ).


6 ـ تفسير أبي حمزة الثمالي (148هـ)

تناثرت في كتب الحديث والتفسير تفاسير لأبي حمزة الثمالي ثابت بن دينار، فقام عبد الرزاق محمد حسين حرز الدين بجمع هذه التفاسير ووضعها في كتابٍ مستقل فاق الأربعمائة صفحة، وكتب له العلامة الشيخ محمد هادي معرفة مقدّمةً، وقد نشر الكتاب في دار الهادي في بيروت بطبعته الأولى، عام 1420هـ.

عرف الثمالي بأنّه من الرواة المقرّبين جداً من بعض أئمة أهل البيت^، حيث عاصر أربعةً منهم، وهم: السجاد والباقر والصادق والكاظم، ورغم التوثيقات الواضحة الجليّة له في كلمات علماء الشيعة، إلا أنه ضعّف وغمز فيه في كلمات علماء أهل السنّة، لكنّ الملاحظ أن لأحاديثه وجوداً في الكثير جداً من مصادر الحديث السنيّة وكذلك مصادر التفسير الشيعية والسنية معاً.

وينقل أن للثمالي تفسيراً للقرآن، إلا أنه مع الأسف الشديد لا توجد لهذا التفسير نسخةٌ اليوم، وهناك من يرى أنّ ابن شهرآشوب (588هـ) كان آخر من عَلِمْنا بوصول نسخة هذا التفسير إليه( ٣٣). مع ذلك فإنّ محاولة جمع متناثر تفسيره في الكتب قد تجعلنا نقترب من ذاك التفسير الذي تركه لنا، وضاع مع الأسف.

ويذكر بعض الباحثين( ٣٤) أنه وخلافاً لما اتهمت به تفاسير أخرى (ربما من بينها القمي والعياشي) لم نجد الإسرائيليات حاضرةً في تفسير أبي حمزة الثمالي، إلا أنّ المشكلة المؤسفة في هذا التفسير تظلّ هي انعدام الكثير من أسانيده التي تحتاج لجبرها إلى حشد الشواهد والقرائن في المصادر الأخرى لدعمها.

وكسائر تفاسير الشيعة، اهتمّ تفسير الثمالي بأسباب النزول، وفضائل أهل البيت، وتفسير القرآن بالقرآن، وكذلك بالاجتهاد الشخصي ورجوعه إلى اللغة في التفسير أيضاً.


7 ـ تفسير فرات الكوفي (352هـ)

مؤلّف تفسير فرات الكوفي هو الشيخ أبو القاسم فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي، والذي يظهر أنه كان يعيش في عصر الغيبة الصغرى أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع، وقيل: توفي عام 352هـ.

والأمر المؤسف أننا لا نملك من خلال كتب الحديث والرجال والتراجم والتاريخ أيّ معلومات عنه، بل يعدّ من المهملين جداً في كتب الرجال عند المسلمين، إلى حدّ أنّ بعضهم ذكر أنه لو لم نجد اسمه مكرّراً في الأسانيد وفي كتب الشيخ الصدوق لحصل لنا شك أساساً في وجود شخص بهذا الاسم. نعم، حكم السيد الخوئي بوثاقة فرات الكوفي لوروده في أسانيد القمي.

أثر عن فرات الكوفي تفسيرٌ كامل للقرآن مطبوع اليوم في مجلّد واحد كبير يبلغ 622 صفحة، وحوى هذا التفسير مجموعة كبيرة من الروايات التفسيرية عن النبي| وأهل بيته^ وكذلك عن الصحابة والتابعين وبعض الشخصيات الأخرى.

وقد طبع هذا الكتاب بتحقيق الأستاذ محمد كاظم للمرة الأولى عام 1990م في طهران، من قبل مؤسّسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي في إيران.

ويظهر من كتاب التفسير أنّ أكثر مروياته أخذها من الحسين بن سعيد الأهوازي، وجعفر بن محمد بن مالك الفزاري، وعبيد بن كثير العامري، كما أنّ هذا التفسير يرويه عن فرات الكوفي الصدوقُ الأول.

وإذا تجاوزنا إشكالية المؤلف نفسه، نجد أنّ هذا التفسير لم ينقل عنه أحد من العلماء ـ مع أنّ أقدم نسخة له وصلتنا تعود إلى القرن العاشر الهجري ـ إلى زمن العلامة المجلسي (1111هـ)، باستثناء الحاكم الحسكاني، حيث أكثر من النقل عنه في كتابه شواهد التنزيل، ويحتمل بعضهم أنّ هذا الهجران للكتاب قد يعود لأنه يحوي روايات تنفي العصمة عن سائر الأئمة بعد الإمام الحسين من جهة، كما وأنّ فيه روايات تثبت عصمة أصحاب الكساء، لهذا بدا غير معتنى به من طرف الإمامية والسنّة معاً.

ويبلغ عدد روايات الكتاب 775 أو 776 أو 777 رواية تفسيرية، يرويها عن عشرات من المشايخ، والاحتمال الذي يبدو راجحاً أنّ المؤلّف للكتاب هو شخص زيدي أو لا أقلّ كان يعيش مع الزيدية ويميل إليهم ويتعاطف معهم، ونجد في الكتاب روايات عن الإمام زيد بن علي تنفي العصمة عن غير الخمسة من أهل البيت، ومع ذلك نجده يروي عن الباقر والصادق بما يؤكّد إمامتهما وعصمتهما، إلى جانب شواهد أخرى تدعم كونه إمامياً.

ولحلّ هذا المشكل في الانتماء الفكري والمذهبي، يمكن بذل جهود مضاعفة في التراث الزيدي في اليمن وغيرها، علّنا نحصل على معلومات مفيدة لتحديد هويته وحاله.

وقد رتّب الكتاب في الغالب على أساس السور القرآنية، لكن داخل كلّ سورة لم يجر ترتيب التفسير وفقاً للآيات، بل في بعض الأحيان نجد أحاديث آيةٍ في سورةٍ متأخرة قد جاءت ضمن آية أو آيات في سورة متقدّمة وبالعكس، ويحتمل أنّ أصل الكتاب كذلك، كما يحتمل أن أخطاءً وقعت من النساخ في تنظيمه، وليس من البعيد عندي أن يكون الكتاب مجموعة مسوّدات متفرّقة لم يتم تنظيمها بشكل نهائي.

هذا، وقد قام محقّق الكتاب ومصحّحه بممارسة شكل من أشكال التنظيم يُشكر عليه.

ويلاحظ أيضاً من خلال تتبع ما جاء عن فرات الكوفي في المصادر الأخرى، ولاسيما شواهد التنزيل للحسكاني، أنّ أصل الكتاب كان مسنداً، إلا أنه مع الأسف الشديد يظهر من النسخة الواصلة إلينا أنّ أسانيده قد حذفت، إلا بعض الأسانيد من أوّل الكتاب إلى الحديث رقم: 40، حيث يبدأ الإرسال إلى نهاية الحديث رقم 487، فيعود للإسناد إلى الحديث رقم: 564، ثم يعود للإرسال الذي ينتهي عند بداية سورة الكافرون، فيعود مسنداً إلى آخر القرآن الكريم، وبهذا تكون الروايات المسندة منه هي 115 رواية فقط، والمؤسف أكثر أنّ النسخة التي وصلت إلى العلامة المجلسي ونقل عنها في البحار وصلت إلينا وهي مختصرة اختصاراً مخلاً وفيها الكثير من المشاكل كما يرى بعضهم.

وعلى أية حال، فهذا التفسير يشبه سائر التفاسير في كونه روائياً، قديماً، يستخدم الجري والتطبيق، ومنهج التأويل، ويبيّن أسباب النزول، ويشرح الآيات(٣٥ ).


8 ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري×

يعدّ التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن بن علي العسكري (255هـ) أحد التفاسير الشيعية الإمامية الأقدم، وقد طبع هذا التفسير في 703 صفحات محقَّقاً من جانب مدرسة الإمام المهدي في مدينة قم في إيران، وذلك بطبعته الأولى عام 1409هـ.

لا يستوعب هذا التفسير القرآن كلّه، فهو ينتهي عند الآية 283 من سورة البقرة، وهو يعتمد مناهج التفسير التي رأيناها مع القمي والعياشي وفرات الكوفي فلا نعيد.

والمشكلة الأعظم في هذا التفسير أنه مرويّ بطريق ينتهي إلى كل من أبي يعقوب يوسف بن محمد بن زياد وأبي الحسن علي بن محمد بن سيار (يسار)، وهما رجلان مجهولا الحال، بل مهملان جداً( ٣٦)، وهذا القدر من الإهمال يسقط قيمة التفسير كلّه؛ من هنا لم يحظَ هذا التفسير بين الشيعة بكثير أهمية، حيث حمل عليه العديد من العلماء، بل ذهب بعضهم إلى أنه موضوع، يقول السيد الخوئي: إنّ الناظر في هذا التفسير لا يشك في أنه موضوع، وجلَّ مقام عالم محقّق أن يكتب مثل هذا التفسير، فكيف بالإمام×( ٣٧).

وممّن أسقط حجية هذا التفسير ابن الغضائري، والعلامة الحلي، والتفرشي، والمحقق الداماد، والاسترآبادي صاحب منهج المقال، والأردبيلي، ومحمد جواد البلاغي، والمحقق التستري، والميرزا الشعراني، والسيد هاشم الخوانساري، وقد دافع عنه جماعة آخرون ونقل عنه بعض المتقدّمين، ومن أبرز من دافع عنه المحدث النوري(٣٨ )، معتمداً على تداول التفسير عند بعض المتقدمين والمتأخرين، وليس بدليل، ولا نطيل.

وممّن مال إلى اعتبار هذا التفسير ولو على مستوى جزئي لبعض رواياته، الشيخ الصدوق، والطبرسي صاحب الاحتجاج، والقطب الراوندي، وابن شهرآشوب، والشيخ علي الكركي، والشهيد الثاني، والمجلسي الأول، والمجلسي الثاني، والحرّ العاملي، والفيض الكاشاني، والحويزي، والحلّي صاحب المحتضر، ونعمة الله الجزائري، والخراساني صاحب إكليل الرجال، والوحيد البهبهاني وغيرهم( ٣٩)، لكن في كثير ممّن نسب إليه القول بالتأييد أو الرفض نظرٌ من حيث عدم وضوح تبنّيهم لهذا الرأي.

والحقّ في هذا التفسير ـ كما يبدو بنظرنا القاصر ـ أنّه ضعيف السند، لكن لا يحكم على جميع رواياته بالوضع؛ لعدم التلازم بين الضعف والوضع، فلابدّ من النظر في رواياته بالتفصيل للحكم على هذه الرواية أو تلك بالوضع، كما لابدّ من مقارنة رواياته بسائر الكتب، فلعلّه يمكن الحصول على روايات مشتركة ولها أسانيد صحيحة في مصادر أخرى، وإن كان الكتاب في أصله ضعيف السند.

هذا، وقد ذهب محمد حسين الذهبي إلى أنّ هذا التفسير قد تأثر بالمعتزلة في الأصول وبالشيعة الإمامية في الفروع الفقهية(٤٠ ).

إلا أنّ هذا الكلام غير واضح؛ فإنّ الشواهد التي أتى بها لا تعدو الشاهد والشاهدين، وهذا لا يثبت تأثراً، وأما تأثره بالشيعة الإمامية فهذا غريب، فهل يقال بأنّ تفسير التبيان للطوسي متأثر بالشيعة الإمامية، مع أنّ الذهبي أقرّ بأن رواة هذا التفسير المنسوب للإمام العسكري هم من الإمامية(٤١ )، فإنّ التأثر متفرّع على كون المتأثر مغايراً للمؤثر، مع أنّ الكتاب إماميّ كلّه في أفكاره وطروحاته، وصاحبه والرواة كذلك.

وقد كرّر الذهبي هذا الأمر في حقّ تفاسير أخرى شيعية، مثل تفسير الصافي للفيض الكاشاني( ٤٢)، وهو خطأ منهجي واضح، فلا يقال بأنّ تفسير الطبري متأثر بأهل السنّة وهكذا.


9 ـ جامع البيان للطبري (310هـ)

يعدّ كتاب جامع البيان عن تأويل آي القرآن لمحمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري، أبو جعفر (310هـ) من أهمّ كتب التفسير بالمأثور وأوسعها وأشملها على الإطلاق في القرون الهجرية الأولى، لناحية ما احتواه من نصوص نبوية، وعن الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى زمنه، وأحياناً عن أهل البيت^ بعد الإمام علي×.

يقع هذا الكتاب في الحجم الكبير في ثلاثين مجلّداً، وتبدو قيمته ومنهجه في:

1 ـ قدمه الزمني، حيث عاش مؤلّفه في القرن الثالث الهجري، فولد في طبرستان في آمل عام 224هـ، وتوفي في بغداد عام 310هـ، فهذه الفترة تعدّ مهمّةً ومتقدّمة نسبياً مع الأخذ بعين الاعتبار ما وصلنا من كتب تفسيرية منها.

2 ـ اهتمامه بالأسانيد، حيث وثّق الطبري معظم المعلومات التي نسبها إلى الرسول وأهل البيت والصحابة والتابعين وتابعيهم وكبار المفسّرين إلى زمنه، وذكر لها أسانيد ثابتة واضحة، تماماً كما فعل في تاريخه تاريخ الأمم والملوك، إلا أنه أكثر في النقل عن الضعفاء والمجاهيل(٤٣ ).

من هنا يؤخذ عليه عدم القيام بتقويم تفصيلي للروايات التي جمعها من حيث السند والمتن، كلاً على حدة(٤٤ ).

3 ـ موسوعيّته، حيث ضمّ هذا الكتاب حجماً هائلاً من الآراء والمواقف والتفاسير، وحضرت فيه أسماء شخصيات كثيرة جداً كان لها باعٌ في عالم التفسير، فلم ينقل لزيدٍ فقط دون عمرو، أو لعمرو دون زيد، بل نقل لكلّ الصحابة والتابعين على اختلافات التفسير والمفسرين، نعم، لا نجد حضوراً كبيراً موازياً لتفاسير أئمة أهل البيت عند الشيعة بعد عصر الحسنين وزين العابدين وزيد بن علي.

4 ـ خروجه من مجرّد النقل للآراء إلى حيّز الاجتهاد، فقد كان يرجّح بين الآراء، ويعتمد على مقدّمات اجتهادية شخصية لتفسير الآية بهذه الطريقة أو تلك، فلم يكن مثل ما وصلنا من تفسير العياشي أو فرات الكوفي أو علي بن إبراهيم القمي، يندر أن يتدخّل بتفسير أو ترجيحٍ من عنده، بل كان على الدوام يمارس اجتهاداً واضحاً.

ولم يقف اجتهاده عند حدود فهم الآية الكريمة، بل كان يجتهد فيما وصله عن السابقين أيضاً، فيضعّف روايةً هنا رويت عن ابن عباس مثلاً، وأخرى هناك رويت عن ابن مسعود، بجهالة راوٍ أو ضعفه ممّن وقع في السند.

5 ـ امتاز الطبري بقلّة انحيازه نسبياً إلى فريقٍ من الفرق المتطرّفة أو المتشدّدة في الإسلام، فهو وإن كان سنّي المذهب إلا أنه كان له مذهبه الخاص الذي يعدّ اليوم من المذاهب الفقهيّة المنقرضة، وقد خاصمه الحنابلة بشدّة، وهيجوا عليه الرأي العام الذي ثار عليه في بغداد، حتى أنهم حاولوا منع دفنه متهمينه بالإلحاد.

ولعلّ ما يشهد لوسطيةٍ نسبية مارسها الطبري أنّ كافة المسلمين اليوم لا يجدون حزازةً من الرجوع إلى كتابيه في التاريخ والتفسير، ونسبة التشنج من كتبه أقلّ بكثير من غيره. لكنّه مع ذلك يعدّ من أنصار مدرسة الحديث ضدّ مدرسة الرأي والاجتهاد؛ لهذا فهو رغم اجتهاداته، يرى ضرورة الرجوع في التفسير إلى المأثور والمنقول عن المتقدّمين(٤٥ ).

نعم، اتهمه العلامة الشيخ محمد هادي معرفة وغيره بالتعصّب وظهور النصب منه في بعض المواقف التفسيرية(٤٦ ).

6 ـ امتاز الطبري بشكل واضح باعتماده اللغة والشعر والنحو والبلاغة، إذ كثيراً ما نجد عنده استشهاداً بكلام العرب، كما يتعرّض في كثير من الأحيان لإعراب بعض الآيات بهدف الوصول إلى فهم صحيح لها، بل يظهر من الطبري أنه عندما يستعرض الأمور النحوية يذكر رأي المدرستين: البصرية والكوفية، ثم يرجّح واحداً منهما، وقد يجتهد في اللغة فيأخذ لنفسه رأياً خاصاً منفرداً عن الجميع(٤٧ ).

7 ـ اهتمامه بالإجماع، حتى جعله مقياساً لوزن الآراء وأعطاه قيمةً مضاعفة(٤٨ )، وربما كان ذلك انسياقاً مع نزعة ظهرت في القرن الثالث الهجري تحيل إلى الأخذ بالمجمع عليه، لتخفيف حدة التوتر والانقسام في الأمة.

8 ـ عرضه للقراءات القرآنية، وهو من المصادر المهمّة في هذا المجال، وقيامه بالاجتهاد فيها والترجيح بينها، وهو يرفض القراءات المنفردة والشاذة كثيراً.

9 ـ تورّطه برواية الإسرائيليات، ولا يظهر منه أنه كان متشنّجاً منها، فكثيراً ما رواها دون تعليقٍ أو نقد، لكن في بعض الأحيان كان يعلّق، وهذا ما شكّل نقطةً سلبية في تفسيره، فهذا التفسير رغم كلّ قيمته التي يملكها، إلا أنه مشحون بالغث والسمين، ولعلّ صاحبه أراده موسوعةً يُرجع إليها( ٤٩).


10 ـ تفسير التبيان للطوسي (460هـ)

يعدّ تفسير التبيان للشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (385 ـ 460هـ) من أقدم وأعظم كتب التفسير الموسوعية القديمة عند الشيعة الإمامية، فالطوسي علمٌ من أعلام التشيّع، وكان تلميذاً للمرتضى والمفيد والغضائري، وقد امتاز بالجامعية في الحديث والرجال والفقه والأصول والتفسير والكلام، الأمر الذي أعطى شخصيته طابعاً مرجعياً كبيراً عند الإمامية.

ويمكن تعريف تفسير التبيان عبر النقاط التالية:

1 ـ لا يعدّ تفسير التبيان تفسيراً أثرياً محضاً، على خلاف تفسير جامع البيان أو تفسير القمي أو العياشي، بل هو تفسير جامعٌ إلى حدّ ما، فيه نزعة أثرية وعقلية معاً، ولهذا وضعه بعض العلماء في التفاسير الجامعة، وفصله عن التفسير الأثري( ٥٠).

لكنّ قيمته تظهر أنّه أقدم تفسير شيعي إمامي احتوى التفسير الأثري من نصوص أئمة أهل البيت إلى جانب نصوص الصحابة والتابعين، فالقمي والعياشي وغيرهما كان الغالب في النقل عندهم هو نصوص أهل البيت، أما الطوسي فذكر وجوه المفسّرين الآخرين بكثرة، من ابن عباس وابن مسعود، وعثمان، وعمر، وأبي بكر، وعبد الله بن عمر، وجابر الأنصاري، وأبي هريرة، والخدري، وعائشة، وسلمان، وعمار، وأبيّ بن كعب، ومجاهد، والسدّي، والضحاك، ومقاتل بن سليمان، والربيع بن أنس، والحسن البصري، والشعبي، وعكرمة، وسعيد بن المسيب، وطاووس بن كيسان، وعطاء، وسعيد بن جبير وغيرهم، من هنا اكتسب قيمةً مضاعفة على المستوى الشيعي في شمولية الناحية الأثرية التي فيه.

2 ـ كونه التفسير الجامع الأمّ والأوسع عند الشيعة الإمامية إلى عصره، فالتفاسير الشيعية الإمامية ـ بحسب ما وصلنا ـ إلى زمان الطوسي في القرن الخامس الهجري كانت صغيرة الحجم محدودةً جداً، وبعضها ليس جامعاً لكلّ آيات الكتاب، ومجيء تفسير التبيان نقلَ التفسير الشيعي من مرحلةٍ إلى أخرى، بحيث أصبح موسوعياً شاملاً مستوعباً، يخرج من الإطار المذهبي وينفتح على نظريات المذاهب الأخرى، وهذا تحوّل حقيقي في علم التفسير عند الشيعة الإمامية، وقد ألمح الشيخ الطوسي نفسه إلى هذه القضية في مقدّمة تفسيره(٥١ ).

3 ـ يمتاز هذا التفسير ـ شيعياً ـ باشتماله على مقدّمة طويلة تحتوي مجموعة من الأبحاث التمهيدية ممّا يتصل بتأويل القرآن والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه وإعجاز القرآن، وقراءاته وأساميه وأسامي سوره وغير ذلك( ٥٢)، في حين لم نجد لهذه الطريقة عيناً ولا أثراً في المصنّفات السابقة بهذا الحجم، وهذا يدلّ على تطوّر منهجي فيما يخصّ التفسير، وعلى تطوّر شيعي في علوم القرآن.

4 ـ اهتمامه بالقراءات وترجيحها، وهذا ما لم نره على هذا المستوى طولاً وعرضاً مع أيّ من المفسرّين الشيعة السابقين.

5 ـ اهتمامه بجوانب النزول واللغة والشعر والأدب بطريقة جيدة، إلى جانب ممارسته الاجتهاد في فهم الآيات، إلى حدّ أننا نجد ـ وللمرّة الأولى ـ تعرّضاً للأبحاث الكلامية والفقهية والأصولية والتاريخية وغيرها بمناسبة هذه الآية أو تلك، مما له صلة بهذا الموضوع أو ذاك. وقد ركّز هنا كثيراً على القضايا الكلامية.

6 ـ اعتماده في جملة من الموارد على منهج تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالحديث الشريف.

7 ـ اعتمادُه مبدأ الترجيح بين الروايات المتعارضة في شأن من شؤون هذه الآية أو تلك، وقد كان الشيخ الطوسي خبيراً في الجمع بين النصوص المتعارضة، كما تدلّ على ذلك محاولته الشهيرة في كتاب الاستبصار فيما اختلف من الأخبار.

8 ـ على خلاف الطبري لم يعتمد الطوسي ـ وبعده الطبرسي ـ أسلوب عرض الأسانيد، لهذا كانت كلّ رواياته في هذا الكتاب عن أهل البيت أو النبي أو الصحابة أو التابعين أو غيرهم مرسلةً لا سند لها، بل في بعض الأحيان لا يذكر حتى صاحب القول، مثل أن يقول: وجاء عن بعض الصحابة أو بعض التابعين أو نحو ذلك.

9 ـ يظهر أنّ تفسير التبيان ـ ومثله مجمع البيان ـ قد تسرّبت إليه بعض الإسرائيليات، فقد روى عن كعب الأحبار وعن وهب بن منبه، ومع أنه كان يردّ هذه الروايات أحياناً ويعلّق عليها، إلا أنه كان يتساهل معها في أحيان أخرى ولا يذكر شيئاً بحقّها، تماماً مثل الطبري، نعم عند مخالفة الرواية الإسرائيلية لمعتقد أساس كان الطوسي يعلّق عليها(٥٣ ).

10 ـ يظهر من تأمّل كتاب التبيان أنّ أحد مصادره الرئيسة كان كتاب جامع البيان للطبري، إذ يوجد قدر مهمّ من التشابه بينهما، كما أنّ المصدر الأم لكتاب مجمع البيان هو تفسير التبيان، إلى حدّ يمكن اعتبار أغلب ما جاء في مجمع البيان مأخوذاً من التبيان.

وهناك من يرى أنّ الطبرسي الذي أخذ عن كتاب التبيان التبس عليه اسم أبي جعفر الوارد في التبيان فظنه الإمام الباقر، فيما هو أبو جعفر الطبري، ووضعوا كلمة (عليه السلام) بعده خطأ(٥٤ )، وهناك نقاش حول هذا الأمر نتركه إلى محلّه.

وما قلناه عن تفسير التبيان يصدق على تفسير مجمع البيان للطبرسي سوى حقّ السبق؛ لأنّ مجمع البيان نسخةٌ عن تفسير التبيان في الغالب.


11 ـ المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية (481هـ)

يعدّ تفسير المحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لأبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي المغربي الغرناطي (481هـ) من أهمّ التفاسير بالمأثور عند المسلمين، حيث مارس فيه النقد والتمحيص، وتبدو محاولته ـ كما يقول ابن خلدون(٥٥ ) ـ تلخيصاً لكلّ التفاسير التي سبقته وتدقيقاً في الصحيح منها، تبعه عليها القرطبي فيما بعد.

ويشتمل هذا التفسير على مقدّمة جيدة ونافعة، كما أنه خلوٌ من الإسرائيليات، كما يقول العلامة معرفة(٥٦ ).


12 ـ تفسير الكشف والبيان، للثعلبي (427هـ)

هذا التفسير لأبي إسحاق أحمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري المتوفى عام 427هـ، تميّز بالتوسّع في اللغة والأدب والقراءات، وأجاد في نقل آراء المتقدمين، لكنه تورّط بالإسرائيليات والموضوعات، وقد اعتمد روايات الشيعة مما أثار العتاب عليه بالخصوص(٥٧ ).

هذا، وهناك كتب أخرى لأهل السنّة تندرج في التفسير المأثور مثل معالم التنزيل للبغوي، وبحر العلوم للسمرقندي وغيرهما، تراجع أحوالها في الكتب المفصِّلة(٥٨ ).


الثاني: مراجع التفسير الأثري

وكما تعدّدت المصادر القديمة للتفسير الأثري، كذلك تعدّدت المراجع المتأخرة التي جاءت بعد القرن الخامس الهجري، ونذكر منها المراجع التالية من باب المثال فقط:


1 ـ تفسير القرآن العظيم، لابن كثير الدمشقي (747هـ)

هذا التفسير الهامّ يرجع إلى الحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن عمرو بن كثير البصري الدمشقي الشافعي (701 ـ 774هـ)، تلميذ الشيخ ابن تيمية الحرّاني.

اشتهر هذا العالم بالتاريخ في كتابه البداية والنهاية، كما اشتهر بالتفسير في هذا الكتاب، ويعدّ تفسيره مرجعاً مهماً للتفسير الأثري عند أهل السنّة، بعد جامع البيان للطبري مع امتيازات إضافية.

ويظهر أنّ منهجه اعتماد تفسير القرآن بالقرآن، وبالحديث، وباللغة، وبما تقدّم من كتب التفسير كابن جرير، والسمرقندي، والقرطبي، والزمخشري و..

وقد شنّ ابن كثير هجوماً عنيفاً على الإسرائيليات في التفسير وكان ينتقدها بشدّة، وانتقد كعب الأحبار، فكان لا يأخذ بالإسرائيليات إلا ما وافق الأدلّة، لكنه مع ذلك لم يخلُ كتابه منها، مع أنّه كان نقّاداً للأسانيد( ٥٩).

2 ـ الجواهر الحسان، للثعالبي (876هـ)

هذا التفسير لأبي زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي (876 هـ) يتعرّض للقراءات والنحو، ويذكر الروايات بلا أسانيد، وهو متهم بالتعصّب( ٦٠).


3 ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطي (911هـ)

هذا التفسير لجلال الدين أبي الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي (911هـ)، اعتمد فيه التبسيط والاختصار وحذف الأسانيد، وهو يذكر الآية ويذكر تحتها الروايات المتصلة بها دون أيّ تعليق، ولذا احتوى كلّ أنواع الروايات من الغث والسمين والإسرائيليات وغيرها.


4 ـ تفسير الصافي، للفيض الكاشاني (1091هـ)

بعد القرون الأولى، جاء عصر الموسوعات التفسيرية الأثرية عند الشيعة الإماميّة، فالسنّة عرفوا هذه الموسوعات مع الطبري (310هـ) ثم ابن كثير (774هـ)، أما الشيعة فلم يتركوا موسوعة في التفسير الأثري سوى ما أسلفناه عن الطوسي والطبرسي مما كانت مشكلته في إيجازه وعدم نقل الكثير من النصوص الحرفية فيه، وعدم تمحّضه في التفسير الأثري، لهذا انتقلوا بعد ذلك إلى مرحلة الموسوعية في التفسير الأثري، لكن على نطاق النبي وأهل البيت في الغالب، وأهمّ هذه التفاسير ظهر في العصر الإخباري كما سوف نرى، ومن أهمّها تفسير الصافي للفيض الكاشاني.

هذا التفسير للفقيه المحدّث الفيلسوف محسن محمد بن مرتضى ويعرف بالفيض الكاشاني، وقد ترك ثلاثة تفاسير: كبير ومتوسط وصغير، سمّاها على الترتيب: الصافي والأصفى والمصفّى.

يجمع هذا التفسير (الصافي) بين الرواية والدراية مع غلبة الرواية، وهو يستوعب القرآن كلّه، وقد اعتمد في النقل على تفسير البيضاوي، ثم على الروايات. وهو يمتاز بمقدمة من اثني عشر فصلاً، تتحدّث في قضايا التفسير والتأويل وعلوم القرآن، وتعدّ ذات قيمة كبيرة جداً.

أما منهجه فيعتمد اللغة أولاً، ثم النحو، ثم المأثور، ولا يطيل إلا إذا وجد في الآية ما يمكن أن يأخذ منه شاهداً على مبدأ(٦١ ). وأكثر الكتب التي استقى منها رواياته هي تفسير القمي وتفسير العياشي وغيرهما، بيد أنه لا يحقّق في الروايات لا سنداً ولا دلالةً، وقد ذكر العلامة معرفة أنّ فيه الكثير من الإسرائيليات ومن الروايات الضعاف(٦٢ ).


5 ـ البرهان في تفسير القرآن، للسيد البحراني (1107هـ)

هذا التفسير للسيد هاشم بن سليمان بن إسماعيل الحسيني البحراني الكتكاني (1107 أو 1109هـ)، وهو محدّث جمّاع للحديث، لكنه لم يناقش أيّ حديث سنداً أو دلالةً، وكان على مسلك الإخباريين في ذلك.

اعتمد البحراني في تفسيره على عدد واسع من المصادر بما فيها مصادر، مثل التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري، وتفسير القمي، والاحتجاج للطبرسي، وكتاب سُليم بن قيس الهلالي التي نوقش في اعتبارها على الأقلّ( ٦٣)، ولعدم تدقيقه في النقل والمصادر والأسانيد كان يسند الرواية والتفسير إلى المعصوم مباشرةً، وقد اعتبر العلامة معرفة ذلك منافياً لـ شريعة الاحتياط في الدين(٦٤ )، لكن لديه أسانيد في الكتاب.

وعلى خلاف تفسير الصافي، لا يحوي هذا التفسير كلّ آيات الكتاب، لهذا لا يعدّ تفسيراً كاملاً، وقد وصفه العلامة معرفة بالقول: هو تفسير غير كامل، فضلاً عن ضعف الأسانيد وإرسالها، ووهن غالبية الكتب التي اعتمدها، كما هو خال من أيّ ترجيح أو تأويل، عند مختلف الروايات، ولدى تعارض بعضها مع بعض(٦٥ ).

وهناك من يرى أنّ عدم ترجيحه كان لتديّنه وتواضعه عن مرتبة الرأي والنظر، ويرى هؤلاء أنه لا توجد في رواياته أيّ تناقض، كما يرون قلّة الروايات الإسرائيلية فيه(٦٦ ).

اشتمل التفسير على مقدّمة جيدة، ويعتمد تفسير القرآن بالرواية، وفي الغالب عن أهل البيت، وأحياناً عن بعض الصحابة والتابعين، وينقل عن كتب التفسير والحديث الشيعية وغيرها، وكان يميّز المكي والمدني من القرآن، ويبيّن فضائل السور، وأسباب نزولها.


6 ـ نور الثقلين، للحويزي (1112هـ)

هذا التفسير من تأليف الشيخ عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي (1112هـ) أحد علماء الإخبارية، وهو محدّث فقيه وأديب سكن في شيراز، وتخرّج على يديه بعض العلماء مثل السيد نعمة الله الجزائري.

يمثل هذا التفسير الكبير جمعاً كبيراً للروايات المتصلة بالآية الكريمة ولو بأدنى درجات الاتصال حتى لو لم تكن بصدد تفسيرها مباشرةً، ولا يستوعب هذا التفسير كلّ آيات الكتاب، كما لا يذكر الآية نفسها، وإنما يقتصر على سرد الروايات تباعاً وفقاً للتسلسل القرآني.

يضاف إلى ذلك، لا يتدخل المؤلّف في شرح الروايات أو نقدها أو تحليلها سنداً أو دلالة أو حلّ التعارض بينها، وهو يصّرح في مقدّمة كتابه بأنّ ما أورده ليس كلّه عن اعتقاد أو عمل، وأنّه يورده للرواية حتى لو كان يخالف أصول المذهب( ٦٧).

وبهذا يلقي المحدّث الحويزي عن نفسه مسؤولية بعض الروايات التي أوردها أو بعض الأخبار المتعارضة التي ذكرها، فقد كان همّه جمع التراث التفسيري المأثور عند الإمامية.

ويعتقد العلامة معرفة أنّ أسانيده ضعيفة أو مرسلة إلا القليل المنقول في الجوامع الحديثية المعتبرة( ٦٨).


7 ـ كنز الدقائق، للمشهدي (1125هـ)

تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب من تأليف الميرزا محمد بن محمد رضا بن إسماعيل بن جمال الدين القمّي المعروف بالمشهدي (1125هـ)، كان تلميذاً للفيض الكاشاني، ولهذا سار على طريقته في هذا التفسير، فأخذ عن البيضاوي والطبرسي والزمخشري وغيرهم، كما تأثر بتفسير نور الثقلين( ٦٩).

جمع هذا التفسير بين العقل والنقل، فقد ذكر الروايات الواردة في الآيات الكريمة ثم علّق عليها بما رآه أو التفت إليه فيها، أو نقل كلاماً لعالمٍ ما له صلة بالموضوع، وكانت له التفاتات عرفانية وأدبية.

وقد أعرض المشهدي عن الإسرائيليات في الغالب، من هنا أثنى عليه العلامة معرفة بقوله: تفسير جامع شامل لجوانب عدّة من الكلام، حول تفسير آي القرآن، الأمر الذي جعله فذاً في بابه، وفرداً في أسلوبه، وممتازاً على تفاسير جاءت إلى عرصة الوجود ذلك العهد(٧٠ ).

ويمتاز هذا التفسير عن تفسير نور الثقلين ـ كما يقول الآغا بزرك الطهراني ـ بأنه ذكر الأسانيد، وربط الآيات ببعضها، وبيّن إعرابها، لكنّه أخذ الكثير منه (أي من نور الثقلين)، وكأنه هو وزيادة( ٧١).


8 ـ بحر العرفان، للبرغاني القزويني (1270هـ)

تفسير بحر العرفان ومعدن الإيمان في تفسير القرآن، للمولى صالح بن آغا محمد البرغاني (البرقاني) القزويني الحائري (1270هـ)، كان له ثلاثة تفاسير: كبير في 17 مجلّداً وهو هذا التفسير، ومتوسّط في 9 مجلدات، وصغير في مجلّد واحد.

وقد جمع في هذا التفسير المخطوط تفاسير الأئمة للآيات، مرتباً إياها على السور والآيات، مقتصراً على ما يراه صالحاً منها، إذاً فهو مجتهد في اختيار الآثار المروية( ٧٢).

كانت هذه أهم التفاسير الأثرية المرجعية عند الشيعة والسنّة، والتي مهما ناقشنا فيها واختلف الرأي حول قيمتها وخصائصها، تظلّ تعبّر عن مرحلة هامة في تطوّر التفسير والحديث معاً في التراث الإسلامي.


سادساً: إشكاليّات التفسير الأثري، عرض واقتراحات

تحدّثنا فيما سبق عن الأدوار التي يلعبها التفسير الأثري وآثاره الإيجابية في حركة التفسير، ومن الضروري أيضاً أن نتكلّم عن المشكلات التي يواجهها التفسير الأثري وبعض الآثار السلبية التي قد تصاحبه، وذلك بهدف السعي لكسب أكبر قدر ممكن من الإيجابيات، وتجنّب أكبر قدر ممكن من السلبيات.

وأهم ما يمكن ذكره هنا ما يلي:


1 ـ إشكالية ضعف الأسانيد

تعاني التفاسير الأثرية عند السنّة والشيعة على السواء من إشكالية ضعف أكثر أسانيدها، سواء بحذف السند أساساً بالإرسال أم بوجود مهملين أو مجاهيل في السند أو بوجود ضعاف أو وضاعين، بل لقد وجدنا أنّ بعض المصادر التفسيرية غير محرزة النسبة إلى أصحابها، مثل التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري، أو يوجد نقاش حولها مثل تفسير علي بن إبراهيم القمي. بل إذا بنينا على نظرية العلامة معرفة وغيره من عدم كفاية غير العلم والاطمئنان في باب التفسير الأثري( ٧٣)، فسوف يكون الحال أوضح.

بل هناك بعض الكلام حتى في حال بعض أصحاب التفاسير أنفسهم من حيث الوضع أو التدليس أو الجهالة أو نحو ذلك، مثل ما قيل عن الضحاك بن مزاحم، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدّي الكبير، ومحمد بن السائب الكلبي، ومقاتل بن سليمان، ومحمد بن مروان السدّي الصغير(٧٤ )، وفرات الكوفي، وابن سيار وغيرهم، وهذا ما يضع التفاسير المأثورة أمام مشكلة عظيمة( ٧٥).

إنّ مشكلة الأسانيد لا يمكن التعامل معها إلا من خلال الخطوات التالية:

أولاً: السعي لرصد كلّ مصادر الحديث والأثر عند المسلمين في جميع كتبهم في القرون الهجرية السبعة الأولى، لاسيما كتب الحديث المعتمدة التي تقوم على الإسناد كالكتب الأربعة والصحاح التسعة، ثم جمع كلّ ما يتصل ـ بشكل أو بآخر، ولو بطريق خفيف ـ بآية هنا أو أخرى هناك، فإنّ هذا سوف يوفّر نصوصاً مسندة للتراث التفسيري؛ نظراً لما عرف عن المحدّثين من الاهتمام الأكبر من غيرهم بأمور الإسناد، وبذلك سوف تتوفر لدينا مجموعة من الأحاديث والآثار تحوي أسانيد جيدة أو لا بأس بها. وقد لاحظنا كتب الحديث فوجدنا عدداً ضافياً من الروايات التفسيرية التي تستحقّ الوقوف عندها، فقد رأينا في كتاب الكافي للشيخ الكليني عشرات الروايات التفسيرية.

ثانياً: جمع كل نصوص التراث الأثري عند جميع المسلمين في موسوعة واحدة، فإنّ الضعف السندي قد يرقى إلى مستوى الوثوق بالصدور عندما تجتمع فيه عدّة روايات متعدّدة الإسناد وعند المذاهب المختلفة، وهذا ما قد يساعد على الخروج ببعض النتائج الموثوقة.

ثالثاً: اعتماد منهج المتن من خلال رصد الشواهد المتنية التي قد تطيح برواية صحيحة، وقد تصحّح روايةً ضعيفة.

بهذا الطريق ـ وعبر هذه الخطوات الثلاث ـ نستطيع الإشراف على الموروث التفسيري الأثري عند المسلمين كافة، والاقتراب أكثر من النتائج النهائية لموضوع السند.


2 ـ إشكالية الوضع والإسرائيليات

انطلاقاً من كون القرآن مرجعاً أساسياً، لهذا تكثر الدواعي لاختلاق روايات في تفسيره في محاولة للانتصار به لمصلحة هذا الفريق أو ذاك، ولهذا ظهر في التفاسير الأثرية الكثيرُ من الروايات الموضوعة ذات الطابع الأسطوري والخرافي، فنجد قصصاً فظيعة وأحداثاً مذهلة في هذه التفاسير يجلّ النبي وأهل بيته و.. عنها، ولكثرة نفوذ النصوص المنكَرة المتن إلى روايات التفسير حتى حكم بعضهم بأنّ كل تفسير الإمام العسكري موضوع.. حصلت حالةٌ من انعدام الوثوق بالروايات التفسيرية، حتى أنّه ينقل عن الإمام أحمد بن حنبل أنّه جعل روايات التفسير والمغازي والملاحم مما لا أصل له، في إشارة إلى عدم وجود مصادر معتبرة لهذه المجالات الثلاثة، وإن كان في هذا الكلام مبالغة، كما أشار الدكتور الذهبي( ٧٦).

وقد أفاض العلامة معرفة وغيره في الحديث عن ظاهرة الوضع والإسرائيليات في الحديث والتفسير، وذكر نماذج كثيرة يمكن مراجعتها في محلّه( ٧٧).

والحلّ المعقول في قضية الوضع والإسرائيليات في الحديث والأثر التفسيريين، هو القيام بالخطوات التالية:

أولاً: استخدام قواعد اكتشاف الحديث الموضوع التي بحثناها في محلّه، بدون تمييز ولا انتقائية، مركّزين على قواعد نقد المتن، وعلى مرجعية النص القرآني نفسه كونه يساعدنا في كثير من الأحيان على ترجيح رواية على أخرى من روايات تفسيره.

ثانياً: رصد أسماء الوضّاعين أو المتهمين أو المغالين أو الذين عرفوا بالنقل عن كتب أهل الكتاب ومصادرهم ودراسة رواياتهم وتحليلها للتوصّل إلى الخيوط المشتركة التي يمكن من خلالها اكتشاف مؤشرات الوضع في سائر الروايات.

ثالثاً: خلافاً لجماعة يتشدّدون في أمر الروايات الفقهية ويتساهلون في غيرها.. لابد من الانضباط التام بقواعد اعتبار صدور الأحاديث رجالياً حديثياً وتاريخياً عبر نظام النقد السندي من جهة، ونظام حشد الشواهد والقرائن من جهة ثانية؛ لأنّ المسائل التفسيرية تطال الفقه والأصول والعقيدة والأخلاق والسلوك واللغة والتاريخ والمستقبل، فخطورة الروايات التفسيرية أنها تطال مختلف القضايا الدينية بلا استثناء تقريباً.


3 ـ إشكالية التعارض

عندما نرصد الروايات التفسيرية عند المسلمين قاطبةً، نجد تعارضاً في تفسيرها للكتاب في جملة وافرة من الموارد، لاسيما في ما يتعلّق بأسباب النزول، وما يختصّ بقضايا الخلاف المذهبي، وفي هذا الإطار عندما يُصار إلى إعمال القواعد والخطوات التي أشرنا إليها سابقاً عند الحديث عن إشكاليّتي: الضعف السندي والوضع، سوف تتقلّص بشكل كبير ظاهرة التعارض هذه؛ إذ ستسقط جملة كبيرة من الروايات التفسيرية عن الاعتبار والحجية بعد ممارسة قواعد النقد السندي والمتني عليها.

ونضيف هنا بأنه من الضروري لمواجهة كلّ من ظاهرة التعارض وظاهرة الوضع في الروايات التفسيرية من التأسيس الأصولي لحجية الروايات التفسيرية من حيث مصدرها، بمعنى أن نثبت أنّ قول مصدر هذه الروايات حجة، وهذا ما سيخفّف من مشاكل كثيرة، فمثلاً هل قول التابعين وتابعيهم في التفسير حجّة؟ فإذا قال مقاتل بن سليمان بتفسير آية بمعنى ما دون أن يقيم وجهاً مقنعاً أو يذكر سنداً فهل قوله حجّة؟ وهل كل قول الصحابي أو التابعي حجة؟ وهل قول أهل البيت حجّة؟ هذا ما لابدّ من بحثه بمنهج أصولي اجتهادي؛ لأنه سيؤثر على قيمة كلّ الروايات الواردة في مجال القرآن الكريم وتفسيره.

 

ـــــــــ

(*) نشر هذا البحث في العدد 64 من مجلة المنهاج في بيروت، عام 2012م، ونشر في كتاب (دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر) المجلّد الأوّل، للمؤلّف.
(١) انظر: محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون 1: 153، دار الكتب الحديثة، مصر، الطبعة الثانية، 1976.
(٢) انظر: حيدر حب الله، حجية السنّة في الفكر الإسلامي: 349 ـ 368.
(٣) فصّلنا الحديث عن اتجاهاتهم ومواقفهم في حجية الأخبار في غير الفقه، بما يتصل بشكل أو بآخر ببحثنا هنا، وذلك في كتابنا: نظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعي: 681 ـ 712.
(٤) انظر: الموافقات 4: 396 ـ 437.
(٥) مهدي مهريزي، القرآن والسنة، قراءة في دور السنّة في خدمة النص القرآني، مجلّة نصوص معاصرة، العدد 2: 188، ربيع 2005م، ترجمة: حيدر حب الله.
(٦) نصر حامد أبو زيد، الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية: 117 ـ 119، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2007م.
(٧) مقدّمة ابن خلدون: 438.
(٨) لمزيد الاطلاع حول مناقشة أدلّة الأطراف هنا، انظر: الذهبي، التفسير والمفسرون 1: 48 ـ 49.
(٩) انظر: الإتقان في علوم القرآن 2: 502 ـ 539.
(١٠) هدى جاسم محمد أبو طبرة، المنهج الأثري في تفسير القرآن الكريم: 32، نشر مركز الإعلام الإسلامي، إيران، الطبعة الأولى، 1994م.
(١١) السيوطي، الإتقان 2: 493.
(١٢) انظر في هذه الخصائص: الذهبي، التفسير والمفسرون: 97 ـ 98؛ وأبو طبرة، التفسير الأثري: 44 ـ 45.
(١٣) أبو طبرة، التفسير الأثري: 46.
(١٤) انظر: محمد هادي معرفة، التفسير والمفسّرون في ثوبة القشيب 2: 27.
(١٥) انظر ـ لمزيد بن الاطلاع ـ: الذهبي، التفسير والمفسرون 1: 101 ـ 128.
(١٦) لمزيد من الاطلاع، راجع: المصدر نفسه 1: 130 ـ 131.
(١٧) هدى جاسم محمد أبو طبرة، التفسير الأثري: 113 ـ 114.
(١٨) ابن حجر، الإصابة 4: 127.
(١٩) التفسير الأثري: 116؛ والذهبي، التفسير والمفسرون 1: 74 ـ 77.
(٢٠) انظر: الإتقان في علوم القرآن 1: 347 ـ 377.
(٢١) انظر: الذهبي، التفسير والمفسّرون 1: 70 ـ 74؛ ولمزيد من الاطلاع حول تفسير ابن عباس، راجع: التفسير الأثري: 112 ـ 119.
(٢٢) انظر: التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب 2: 326.
(٢٣) راجع: الداوري، أصول علم الرجال بين النظرية والتطبيق: 163 ـ 180.
(٢٤) محمد هادي معرفة، التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب 2: 327.
(٢٥) رجال النجاشي: 350.
(٢٦) المصدر نفسه.
(٢٧) الطباطبائي، تفسير العياشي 1: 5، المقدّمة.
(٢٨) المجلسي، بحار الأنوار 1: 28.
(٢٩) الذريعة 4: 295.
(٣٠) تفسير العياشي 1: 5، المقدّمة.
(٣١) انظر: معرفة، التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 2: 323.
(٣٢) المصدر نفسه 2: 325.
(٣٣) انظر: حرز الدين، تفسير الثمالي: 59 ـ 60، المقدمة.
(٣٤) المصدر نفسه: 60.
(٣٥) لمزيد من الاطلاع حول التفسير، انظر: تفسير فرات الكوفي: 9 ـ 42، مقدّمة المحقق محمد كاظم.
(٣٦) انظر: معجم رجال الحديث 13: 157، و21: 186.
(٣٧) المصدر نفسه 13: 157.
(٣٨) خاتمة مستدرك الوسائل 5: 192 ـ 200.
(٣٩) حول المؤيدين والمعارضين، انظر الرسالة التي كتبها الشيخ رضا أستادي ونشرت في آخر تفسير العسكري: 680 ـ 703.
(٤٠) انظر: الذهبي، التفسير والمفسّرون 2: 97 ـ 98.
(٤١) المصدر نفسه 2: 79.
(٤٢) المصدر نفسه 2: 174.
(٤٣) محمد هادي معرفة، التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب 2: 312.
(٤٤) انظر: المصدر نفسه 2: 313.
(٤٥) انظر: المصدر نفسه 2: 318 ـ 319.
(٤٦) انظر: المصدر نفسه: 319 ـ 322؛ وحسين علوي مهر، روش ها وكرايش هاي تفسيري: 151 ـ 152.
(٤٧) انظر: التفسير الأثري: 147 ـ 151.
(٤٨) المصدر نفسه: 151 ـ 152.
(٤٩) لمزيد من الاطلاع حول تفسير الطبري، انظر: الذهبي، التفسير والمفسرون 1: 205 ـ 224.
(٥٠) انظر: معرفة، التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب 2: 373 ـ 381.
(٥١) التبيان 1: 1.
(٥٢) المصدر نفسه 1: 3 ـ 21.
(٥٣) انظر: التفسير الأثري: 183 ـ 187.
(٥٤) نعمت الله صالحي نجف آبادي، حديث هاى خيالي در مجمع البيان: 21 ـ 22.
(٥٥) مقدمة ابن خلدون: 440.
(٥٦) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 2: 344.
(٥٧) المصدر نفسه 2: 345؛ وانظر لمزيد من الاطلاع: الذهبي، التفسير والمفسرون 1: 227 ـ 234.
(٥٨) لمزيد من الإطلاع على هذه التفاسير، انظر: الذهبي، التفسير والمفسرون 1: 224 ـ 226، 234 ـ 238.
(٥٩) انظر: التفسير الأثري: 191 ـ 201؛ والتفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 2: 340 ـ 342؛ والذهبي، التفسير والمفسرون 1: 242 ـ 247.
(٦٠) التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب 2: 345.
(٦١) الذهبي، التفسير والمفسرون 2: 148.
(٦٢) انظر حول هذا التفسير: معرفة، التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب 2: 337.
(٦٣) انظر: المصدر نفسه 2: 331.
(٦٤) المصدر نفسه 2: 331.
(٦٥) المصدر نفسه.
(٦٦) انظر: التفسير الأثري: 205 ـ 212.
(٦٧) نور الثقلين 1: 2.
(٦٨) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 2: 327.
(٦٩) انظر: معرفة، مقدمة تفسير كنـز الدقائق 1: 10.
(٧٠) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 2: 339.
(٧١) الذريعة 18: 152.
(٧٢) انظر حوله: الذريعة 3: 41 ـ 42؛ والتفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 2: 334؛ وأعيان الشيعة 7: 377.
(٧٣) انظر: التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 2: 31 ـ 32.
(٧٤) راجع: التفسير الأثري: 235 ـ 237.
(٧٥) لمزيد من الاطلاع، راجع: الذهبي، التفسير والمفسرون 1: 201 ـ 203.
(٧٦) التفسير المفسرون 1: 47 ـ 48.
(٧٧) انظر: التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 2: 33 ـ 311؛ والتفسير الأثري: 237 ـ 244؛ والذهبي، التفسير والمفسرون 1: 157 ـ 201.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً