أزمة التصوّرات المغلوطة عن الوحي
أ. هادي شريفي(*)
هذه نتائج عدم تهذيب النفس!! ــــــ
لن أنسى حديث النبي الأكرم ‘، وقد سمعته من لسان الشهيد مرتضى المطهري &، وهو يقول: «قصم ظهري رجلان: عالم متهتك؛ وجاهل متنسِّك».
وما أروع ما قاله علماء الأخلاق، من أن العلم إذا لم يقترن بتهذيب النفس أفضى إلى العجب، وعندها يرى العالم نفسه معصوماً من الخطأ، وبذلك يسمح لنفسه أن يأتي بما يتناقض مع الدين، وقد قال تعالى: {وَمَا أوتِيتُم مِّن العِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85).
وقد تؤدي هذه الظلمة بالعالم إلى نسبة رأيه الخاطئ إلى الدين، مما يعتبر بعيد الصدور عن طالب مبتدئ، فضلاً عن عالم متمرّس.
قال الدكتور سروش في موضع من حواره: «إن الوحي (إلهام)، وهو التجربة التي يخوضها الشعراء والعرفاء، وإن كان النبي يخوضها بدرجة أرفع وأسمى. في العصر المتطور يمكننا فهم الوحي من خلال الاستعارة الشعرية، كما قال أحد الفلاسفة المسلمين: الوحي أسمى درجات الشعر. إن الشعر أداة معرفية تختلف في وظيفتها عن العلم والفلسفة، فالشاعر يتصور أن مصدراً خارجياً يلهمه، وإن الشاعرية استعداد وقريحة، مثل الوحي تماماً، فيمكن للشاعر أن يفتح آفاقاً جديدة أمام الناس، وأن يريهم العالم من زاوية أخرى…
طبقاً للرواية التقليدية لم يكن النبي سوى وسيلة، حيث يؤدي إلى الناس ما يأتيه به جبريل، ولكنني أرى أن النبي كان له دور محوري في خلق القرآن. وإن الاستعارة الشعرية تساعد على توضيح هذه الحقيقة، فالنبي يحسّ ــ مثل الشاعر تماماً ــ أن قوة خارجية تستحوذ عليه، ولكنه في الواقع وفي جميع الأحوال يقوم بكل شيء…، إلا أن النبي خالق للوحي بشكل آخر، فالذي يحصل عليه من الله هو مضمون الوحي، ولكن هذا الوحي لا يمكن بيانه للناس بذلك المضمون؛ لأنه يفوق مستوى فهمهم، بل هو فوق مستوى الكلمات، فهذا الوحي فاقد للصورة، وعلى النبي أن يصوغه في إطار صوري؛ ليجعله في متناول فهم الجميع، فيقوم كما يفعل الشاعر بصياغة هذا الإلهام بأدواته اللغوية وأسلوبه الخاص، وما يتوفر له من علم وثقافة. كما أن لشخصيته دوراً مهماً في صياغة هذا النص، وكذلك سيرته وحياته، بما في ذلك والده، ووالدته، ومراحل صباه، وحتى حالاته الروحية، ولو قرأتم القرآن تشعرون أن النبي أحياناً يكون في قمة الجذل والفصاحة، بينما يكون في أحيان أخرى مفعماً بالملل، وتجده عادياً في كلامه، وجميع ذلك قد ترك تأثيره على النصّ القرآني، وهذه هي الناحية البشرية التامة من الوحي».
تناقض مقولة سروش مع الكتاب والسنّة ــــــ
وفي معرض مناقشة هذه الكلمات يجب القول: إنه ما من شك في أن النبي محمد المصطفى هو رسول الله، حيث جاء في حديث قدسي بعد أن خلق النبي ‘: «حبيبي، أنت المريد، وأنت المراد»، وأصرح من ذلك الحديث القدسي الآخر، والذي يقول: «يا محمد، لولاك ما خلقت الأفلاك».
وينبغي التذكير بأن الفارق بين النبي محمد وسائر الخلق يكمن في اصطفائه ‘، حيث قال تعالى على لسانه ‘: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (الكهف: 110)؛ وقال تعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ} (إبراهيم: 11).
و يستفاد من هذه الآيات أن النبي محمد ‘ قد اجتباه الله بالرسالة والوحي الإلهي. ولا شك في أنه أسمى مقاماً وأعلى درجة من أمين الوحي جبريل، ولذلك تخلَّف عنه في أثناء المعراج، ليواصل النبي مسيرته منفرداً، وفي ذلك قال تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أو أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أوحَى * مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى} (النجم: 7 ــ 11).
وهكذا يواصل القرآن بيان ارتقاء النبي مراحل القرب من الله، ولم يكن هذا القرب إلا لعبودية النبي، حيث يقول تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ}، ورغم ذلك يقول النبي: «ما عرفناك حقّ معرفتك، وما عبدناك حقّ عبادتك»…
هذا وإن كلام النبي هو الوحي الإلهي النازل، قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى} (النجم: 3 ــ 5)؛ كما أنه ليس شعراً، فقد قال تعالى: { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} (يونس: 69).
ولا نشك في أن الدكتور سروش قد أمعن النظر مراراً في جميع هذه الآيات وتدبّر فيها، فربما كانت آراؤه المخالفة لها والمتعارضة معها ناتجة عن العجب والغرور الذي يصيب العلماء، حيث يركنون القرآن والسنة والعقل والإجماع ويرجمون بالظن، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: 92)؛ وما أروع قوله تعالى: {مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً} (الكهف: 5).
وبما أنه يتمتع ببيان قوي فإنه يصوغ ظنونه في إطار بياني جميل، يمهد له سبيل التأثير على مخاطبيه، ولكن رغم ذلك عليه أن يتدبّر في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجرات: 9).
الهوامش
(*) باحث في مجال الفكر الديني المعاصر.