د. آزاده عبّاسي(*)
الخلاصة
تستمرّ حياة الإنسان بعد الموت بحَسَب تعاليم الأديان الإلهية. ورغم أن الاعتقاد بالمعاد، جَسَديّاً كان أم روحيّاً، من أهمّ أركان تلك الأديان، إلاّ أن ثمّة اختلافاتٍ في طبيعة النظرة لكيفية الحياة الأخروية. وتُعَدّ «الجنّة»، باعتبارها أحد الأجزاء المهمّة في حياة الدار الباقية، إحدى العقائد المشتركة بين الإسلام والمسيحيّة. الجنّة عبارةٌ عن المكان الذي تذهب إليه أرواح المحسنين. وفي الوقت الذي تعطي الأديان الإلهية للجنّة مكانةً عليا، فإنها تتجنَّب بطريقةٍ ما تحديد مكانٍ معين لها. تُقدَّم الجنّة على أنها مكان النعيم الأبديّ. توجد الكثير من الاختلافات في وجهات النظر لدى الأديان الإلهيّة في ما يتعلَّق بموضوع الزواج في الجنّة. كما تعتبر جنّة آدم وحوّاء من القواسم المشتركة بين الأديان الإلهية، ولكنْ ثمّة الكثير من الخلاف حول مكانها. وتهدف هذه الدراسة إلى مناقشة المعتقدات المشتركة بين الإسلام والمسيحيّة في ما يتعلَّق بالجنّة، وبحث الاختلافات بينهما. وعليه سوف يتمّ الرد على الشبهة المُثارة حول أن الجنة الموصوفة في القرآن تطابق ميول وشهوات عصر نزول القرآن.
المقدّمة
تعتبر القيامة من الضروريات الهامّة في التعاليم الدينيّة الأساسية في جميع الأديان الإلهية. وتستمرّ حياة البشر، وفقاً لتلك الأديان، بعد موتهم الجَسَدي. وإن الإيمان بالمعاد، سواء الجَسَديّ أو الروحيّ، والإيمان بالخروج من الأجداث، من أركان الأديان الإلهيّة. لكنْ حصل خلافٌ في وجهات نظرهم وآرائهم حول تفاصيل الآخرة وكيفيّتها.
وعلى الرغم من أوجه التشابه في هذه المسألة بشكلٍ عامّ، وهناك إجماعٌ من حيث المبدأ على أصل وجود المعاد والحياة بعد الموت، فإنه لدى مقارنة هذه المسائل المشتركة مع بعضها يتبين وجود اختلافاتٍ بينها.
وعليه فإن تلك الأديان تولي اهتماماً خاصّاً لموضوع القيامة والحياة بعد الموت؛ ويولي الإسلام من بين كلّ الأديان الإلهيّة الأخرى، أي المسيحية واليهودية والزرادشتية، أكبر قدر من الاهتمام بالقيامة وجزئيّات ما بعد الموت، فقد اهتمَّتْ الزرادشتية والمسيحية واليهودية على التوالي، من بعد الإسلام، بمسألة الآخرة. كما يمكن القول: إن الإسلام هو أكمل وأوضح الأديان الإلهيّة من حيث المبادئ؛ إذ يذكر القرآن الكريم موقف القيامة والنار والبرزخ والسماء مرّاتٍ عديدة، وقد تمّ تصوير جزئيّات الحياة الأخرويّة وعالم ما بعد الموت في القرآن الكريم، الذي يرفض أيّ شكٍّ في البعث، ويقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ (الحجّ: 5).
وبالنظر إلى الآية 11 من سورة التوبة، وأيضاً المواضيع التي أُثيرت في الأديان الأخرى، ينبغي الانتباه إلى أن هذه المسألة ليست مقتصرةً على الإسلام، فلدى المسيحيّة مثلاً مواضيع متنوّعة حول القضايا والمعتقدات الأخروية، سواء في العهد القديم والجديد أو في كتب التاريخ التي أعقبَتْها.
لا يوجد في العهد القديم تعريفٌ محدَّد للحياة الآخرة([1])، وما هو واضحٌ فيه فقط هو الإيمان بالخلود. وتشير المعتقدات المبكِّرة في العهد القديم إلى أن «يهوه» هو التجسيد الكامل للعدالة.
كانت لديهم في العصور القديمة فكرةٌ مختصرة وبسيطة وإجمالية عن اعتقادهم أن الموتى سوف يسقطون في التجاويف والحُفَر بعد الموت، وأنه سيكون هناك وجودٌ لا لون له، ولا طعم، وحياةٌ مُبْهَمة. وكانوا يسمُّون هذا المكان بلغتهم الخاصة «شيول»، وهو الظلام التامّ والصمت والنسيان. وقد انقرض هذا الاعتقاد في وقتٍ لاحق تدريجاً، واستبدلَتْ به عقائد أخرى أكثر تفصيلاً. ويبدو أن العلماء، وفقاً لمصادر أخرى، قد حكموا فيما بعد بأن العالم الأبديّ يتكوَّن من جزءَيْن: أحدهما: للأرواح الشرّيرة؛ والآخر: للأرواح الخيِّرة، وكلاهما أبديٌّ. تذهب أرواح الأتقياء إلى مأمنٍ أبديّ، وهو مكانٌ لكلّ أنواع السعادة، حيث ترافقهم ملائكة الخير أيضاً([2]). ولدى التأمل في الأسفار الخمسة للتوراة لا نجد ذِكْراً للقيامة والعقاب والجنّة والنار، ولا يوجد سوى إشاراتٍ مقتضبة عن الحياة بعد الموت في سائر كتب العهد القديم([3]). وتجدر الإشارة إلى أنه رغم نُدْرة تناول موضوع القيامة في العهد القديم، فإن من المؤكَّد في المسيحية وجودَ يوم دينونةٍ وعقابٍ لجميع الناس، وفي ذلك اليوم سيصل الصالحون إلى مرتبة لذّة الكلام مع الله؛ وسيواجه الأشرار عواقب وخيمةً لابتعادهم عنه.
وفي ما يلي بعض الأمثلة من العهدين القديم والجديد([4]): وَكَثِيرُونَ مِنَ الراقِدِينَ فِي تُرَابِ الأرْضِ يَسْتَيْقِظُونَ؛ هؤُلاءَِ إلَى الْحَيَاةِ الأبَدِيةِ؛ وَهؤُلاءَِ إلَى الْعَارِ؛ لِلازْدِرَاءِ الأبَدِي([5]). تَحْيَا أمْوَاتُكَ، تَقُومُ الْجُثَثُ. اسْتَيْقِظُوا، تَرَنَّمُوا يَا سُكّانَ التُّرَابِ؛ لأن طَلّكَ طَلّ أعْشَابٍ، وَالأرْضُ تُسْقِطُ الأخْيِلةََ([6]). الربّ يُمِيتُ وَيُحْيِي؛ يُهْبِطُ إلَى الْهَاوِيَةِ وَيُصْعِدُ([7]). لا تَضِلّوا! الله لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ؛ فَإن الذِي يَزْرَعُهُ الإنْسَانُ إيّاهُ يَحْصُدُ أيْضاً([8]). فَلا نَفْشَلْ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ؛ لأَننَا سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إنْ كنُا لا نَكِلّ([9]).
ويبدو أن أصل وجود المعاد في الأديان الإلهيّة من الضروريات. هذه القضية ليست خاصّةً بالإسلام والقرآن الكريم فقط. ويكمن الاختلاف بين تلك الأديان في نوعيّة وكمّية الحياة بعد الموت.
وتعتبر الجنّة والنار والبرزخ من الأمور التي تناولتها الأديان الإلهيّة بأشكالٍ متعدّدة، والتطرُّق إلى هذه المواضيع والتعبير عن نِعَم الجنّة لا يقتصر على الإسلام والقرآن، مع الاعتراف بشموليّة تناول القرآن لهذا البحث.
إذن الجنّة من أهمّ المفاهيم التي تناولَتْها جميع الديانات الإلهيّة؛ حيث يذكر القرآن الكريم صراحةً أن الجنّة وعدٌ إلهيّ بشَّرَتْ به الأديان الإلهيّة كافّةً: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ﴾ (التوبة: 11).
ومن هنا سوف نتناول في هذه المقالة الجنّة، كأحد أجزاء الدار الباقية. وفي هذا السياق ستتمّ مناقشة الجوانب المشتركة بين الأديان الإلهيّة في ما يتعلَّق بموضوع الجنّة، وكذلك توضيح الاختلافات المحتملة حول ذلك.
موضوع البحث
بعد طرح سؤالِ البحث لا بُدَّ من إيضاح نقطةٍ، وهي أنه يُثار بين علماء الدين نقاشٌ حول: هل نزل القرآن وفق ثقافةٍ معيَّنة أم لا؟ وبعبارةٍ أخرى: هل القرآن متأثِّرٌ بثقافة زمانه؟
وتمّ القيام بالكثير من الدراسات في هذا المجال. وقدَّم كلٌّ من المؤيِّدين والمعارضين أدلَّتهم في هذا الصدد.
ومن الجوانب الهامّة في هذا البحث ذلك الاهتمام الذي انصبّ على صفات الجنّة في القرآن. والنقطة المهمّة هي: هل نقل القرآن أوصاف الجنّة التي تتماشى مع حَسَرات عَرَب الجاهليّة، مثل: الأنهار الجارية و… بينما هذه الأوصاف ليست جذّابةً للناس في البلدان الأخرى؟
سنحاول في هذا المقال أن نتناول بدقّةٍ وانتباه الجوانب المشتركة بين القرآن والعهدَيْن في بحث المعاد، والإيمان به وبالحياة بعد الموت في الأديان الإلهيّة، وكذلك مسألة الجنّة كأحد أركان الحياة بعد الموت. وستقدَّم الإجابةُ عن الأسئلة التالية: هل وصف القرآن للجنّة فريدٌ من نوعه أم أنه موجودٌ أيضاً في العهدين؟ وبما أن الجنّة من وجهة نظر الأديان الإلهيّة أمرٌ حتميّ، فأين مكانها؟ وما هي النِّعَم الموجودة فيها؟ وهل نعيمُها أبديٌّ؟ وهل يُعَدّ الزواج من نِعَم الجنّة من وجهة نظر تلك الأديان؟ وما هو الفَرْق بينها في ما يخصّ جنّة آدم وحوّاء؟
كلّ هذه الأسئلة تتمّ الإجابة عنها من خلال إلقاء نظرةٍ فاحصة على الجنّة.
أسماء الجنّة
الجنّة، من وجهة نظرٍ دينيّة، هي المكان الذي تصل فيه أرواح المُحْسِنين والأتقياء إلى النعيم الأبديّ بعد الموت. ولطالما كان الإيمان بالجنّة أحد المعتقدات البشريّة التابعة ـ غالباً وبصورةٍ جزئيّة ـ لمسألة الحياة بعد الموت، التي تعتبر من أهمّ الانشغالات الفكريّة للإنسان. ومع ذلك يجب أن يقال: إن الإيمان بالجنّة في التعاليم الإلهيّة لم يكن قطّ قطعيّاً وصريحاً، مثل الإيمان بالنار.
ورد في القرآن الكريم ذكر الجنّة والنار بالتساوي. ولكنْ بعد دراسة مضامين الكتب المقدَّسة في الأديان الإلهيّة الأخرى، يبدو أنه لا يفترض ذكر هذه المساواة؛ ففي القرآن الكريم يَرِدُ اسم «الجنّة»، وكلمة «الجنّة» تعني بشكلٍ عامّ حديقة مغطّاة. لكنّ مؤلِّفي المعاجم يصفون هذه الحديقة باختلافٍ طفيف: الجنّة: كلّ حديقة ذات شجر، تغطي الأرض بأشجارها([10])؛ وقيل أيضاً: إن الجنّة هي حديقة نخلٍ وشجر، وأصلها من الفراش، وبما أن أغصانها تغطّي كلّ شيءٍ تُسمّى «الجنّة»([11])؛ وفي بعض الأقوال: الجنّة هي حديقةٌ فيها أشجارٌ ونخل، وفي ذلك نوعٌ من التخصيص، فيُقال للنخل وغيره([12])؛ يقول الفراهيدي: الجنّة هي بستانٌ، وهو بستانٌ فيه أشجارٌ ونماء([13]).
وينبغي التذكير أن ابن منظور ينقل عن كتاب التذكرة لأبي عليّ أنه لا توجد كلمة (جنّة) في كلام العرب. هذه الكلمة مستخدمةٌ فقط في القرآن الكريم، وفيما بعدُ في الأحاديث، ويُقْصَد بها دار النعيم الإلهيّ في الآخرة([14]).
ورد اسم الجنّة في القرآن تحت أسماء مختلفة، قال ابن عبّاس عن تلك الأسماء: «جمع كلمة جنّة هو جنّات؛ وذلك بسبب الجنّات السبع، وهي: جنّة الفردوس، عدن، جنّة النعيم، دار الخلد، جنّة المأوى، دار السلام، عليّين([15]). وتجدر الإشارة إلى أنه قد ذكرت أسماء أخرى للجنّة في القرآن، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾ (النساء: 124)؛ و﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً﴾ (الكهف: 107)؛ و﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً﴾ (مريم: 61)؛ و﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ (المطفِّفين: 18).
ويُطْلَق على الجنّة في الأناجيل، كما في القرآن، أسماء متعدِّدة، يمكن أن نذكر أربعة منها: الجنّة، أعلى عليّين، الفردوس، وعدن.
يقول بولس في رسالته الثانية عن حلمه: قَبْلَ أرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً. أفِي الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أعْلمَُ، أمْ خَارِجَ الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أعْلمَُ. اللهُ يَعْلمَُ. اخْتُطِفَ هذَا إلَى السمَاءِ الثالِثَةِ. وَأعْرِفُ هذَا الإنْسَانَ: أفِي الْجَسَدِ أمْ خَارِجَ الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أعْلمَُ. الله يَعْلمَُ. إنهُ اخْتُطِفَ إلَى الْفِرْدَوْسِ، وَسَمِعَ كلَِمَاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا، وَلاَ يَسُوغُ لإنْسَانٍ أنْ يَتَكلَّمَ بِهَا([16]). «إذْ صَعِدَ إلَى الْعَلاَءِ سَبَى سَبْياً، وَأعْطَى الناسَ عَطَايَا»([17]).
لكلمة «فردوس» أصلٌ في اللغة الفارسية، كما يقول هاكس، وتعني حديقةً وبستاناً([18]). وقد استعملت هذه الكلمة في الأناجيل، كما في القرآن الكريم: «فَقَالَ لهَُ يَسُوعُ: «الْحَقّ أقُولُ لَكَ: إنّكَ الْيَوْمَ تَكوُنُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ»»([19]). وينبغي الانتباه إلى أن كلمة «فردوس» مذكورةٌ فقط في إنجيل لوقا([20]).
وظهرت كلمة «عدن»، التي تمّ حذفها من الترجمة اللاتينية للكتاب المقدَّس، لأول مرّةٍ في النصّ العبري، الباب 2 من سفر التكوين، على شكل (gan Eden). وعدن هي تلك الحديقة التي أسكن الله فيها آدم وحوّاء بعد الخلق([21]). جاء في التلمود: «يعطون لكلّ مَنْ كان عادلاً ومحسناً منزلاً في جنّة «حديقة» عدن، يناسب شأنه ومنزلته»([22]).
مكان الجنّة
بعد أن أصبح واضحاً لدينا أن الآخرة والحياة بعد الموت من ضروريات الأديان الإلهيّة، وأن الجنّة جزءٌ مهمّ من حياة الآخرة، يأتي هذا السؤال: أين مكان الجنّة؟ وما هي نظرية الأديان الإلهيّة في هذا الصَّدَد؟
وكما ذكَرْنا سابقاً يثير دين الإسلام النقاش الأكثر تفصيلاً ووضوحاً عن المعاد. ومع ذلك يجب الاعتراف بأن مكان الجنّة من وجهة نظر الإسلام ولغة القرآن الكريم يعتبر أمراً غيبيّاً، فالقرآن الكريم لا يذكر إلاّ اتّساعها في آيتين: ﴿…وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ﴾ (آل عمران: 133)؛ ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾ (الحديد: 21).
ويقول التفتازاني عن استحالة تحديد مكان الجنّة: لا يوجد دليلٌ واضح على مكان الجنة، لكنّ الغالبية يعتقدون أن مكان الجنّة فوق السماوات السبع؛ وقد استندوا في ذلك إلى قوله تعالى: ﴿عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾ (النجم: 14 ـ 15). ولكنّ الحقّ في هذا المسألة رفض الإدلاء ببيانٍ محدَّد، وترك علمه لله تعالى([23]).
وتُلاحَظ في بعض الروايات الإسلامية معلوماتٌ عن مكان الجنّة؛ فقد جاء في الروايات أن «السماء» هي مكان الجنّة. وهذه الروايات غالباً ما يرويها أحدُ تلامذة ابن عبّاس، وهو كاذبٌ. لذلك لا يمكن الاعتماد على رواياته([24]).
وهناك اختلافٌ في الرأي بين المسيحيّين، ولا سيَّما علماء مصر القديمة، حول مكان الجنّة؛ حيث يعتقد بعضٌ أن الجنة تحت الأرض؛ أو خلف جبل غربيّ، حيث تغرب الشمس؛ أو تقع على جزيرة في وسط البحر الأبيض المتوسط([25]). مع الإشارة في هذا الصدد إلى وجود عدّة آراء أخرى([26]).
الجنّة من وجهة النظر المسيحيّة هي عالم المَلَكوت، وتقع وراء السماء المرئيّة.
وكما هو مذكورٌ في الأناجيل فقد تمّ الكلام عن السماء على أنها «الفردوس»([27]). وفي المسيحية وفي العهد الجديد السماء هي عالم المَلَكوت. وإن درجة السعادة الأبدية لأرواح المتّقين تتناسب مع مدى تلقّيهم لفَيْض لقاء الله، ورؤية جماله وجلاله؛ لأن هذا اللقاء هو كمال السعادة، ولا يمكن تصوُّر أيّ شيءٍ فوقه.
وكما ذكَرْنا لا يوجد في العهد القديم إشارةٌ واضحة إلى «الجنّة» والمأوى الأبديّ للأرواح المغفور لها. ثمّة إشاراتٌ قليلة في العهد القديم حول عالم ما بعد الموت؛ إذ تمّ وصفه بأنه مكانٌ بارد ومظلم، وهو أرضُ الظلام والصَّمْت.
وإليكم بعض الأمثلة في هذا الصدد: تَدْخُلُ إلَى جِيلِ آبَائِهِ، الذِينَ لا يُعَايِنُونَ النورَ إلَى الأَبَدِ([28])، قَبْلَ أنْ أذْهَبَ وَلا أعُودَ إلَى أرْضِ ظُلْمَةٍ وَظِلّ الْمَوْتِ، أرْضِ ظَلامٍ مِثْلِ دُجَى ظِلّ الْمَوْتِ، وَبِلا تَرْتِيبٍ، وَإشْرَاقُهَا كاَلدُّجَى»([29]). فَنَثِقُ وَنُسَر بِالأوْلىَ، أنْ نَتَغَرَّبَ عَنِ الْجَسَدِ، وَنَسْتَوْطِنَ عِنْدَ الربّ([30]).
ويستنتج ممّا سبق حول مكان الجنّة من وجهة نظر الأديان الإلهية أنها على الرغم من إعطائها مكانةً عالية ورفيعةً للجنّة، إلاّ أنها تجنَّبَتْ، بطريقةٍ ما، تحديد مكانٍ معين للجنّة، فقد اكتفَتْ بذكر أن الجنّة في مكانٍ أعلى فحَسْب.
الجنّة دار الخلود والبقاء
تستمرّ الحياة الروحيّة للبشر بعد الموت في نظر الأديّان الإلهية، وكيفية الحياة الآخرة تعتمد على نوعيّة أعمالهم وسلوكهم في الحياة الدنيا. وكما ذكَرْنا فإن الجنّة من وجهة نظر تلك الأديان هي مكان المُحْسِنين. الجنّة دار النعيم الإلهيّ، والحياة فيها خالدةٌ.
وقد جاء في الإسلام والمسيحيّة أن في الجنّة حياةً خالدة، ونعيماً أبديّاً؛ ففي القرآن الكريم: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ (التوبة: 21 ـ 22)، والمعنى أن هؤلاء المؤمنين (يبشِّرهم ربُّهم برحمةٍ منه) عظيمةٍ، لا يُقَدَّر قَدْرُها، (ورضوان) كذلك، (وجنّاتٍ لهم فيها نعيمٌ مقيم)، لا يزول ولا ينفد، حال كونهم (خالدين فيها أبداً)، لا ينقطع خلودهم بأجلٍ ولا أمدٍ([31]). ويؤكِّد القرآن الكريم في هاتين الآيتين على ثلاث عبارات، هي النِّعَم الأبديّة للجنّة: العبارة الأولى: «مقيم»، أي دائمٌ وغير منقطع؛ العبارة الثانية: «خالدين فيها»؛ والعبارة الثالثة: «أبداً»، وهو نهاية الثواب عند الله([32]).
وفي المسيحية تمَّت الإشارة أيضاً إلى أبديّة النِّعَم الإلهية. ومن الأمثلة على ذلك: «إن أجْرَةَ الْخَطِيّةِ هِيَ مَوْتٌ، وَأما هِبَةُ الله فَهِيَ حَيَاةٌ أبَدِيةٌ»([33]). «وَكُلّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتاً أوْ إخْوَةً أوْ أخَوَاتٍ أوْ أباً أوْ أمّاً أوِ امْرَأةً أوْ أوْلاداً أوْ حُقُولاً مِنْ أجْلِ اسْمِي يَأخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ، وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الأبَدِيةَ»([34]). «لَيْسَ أحَدٌ تَرَكَ بَيْتاً أوْ وَالِدَيْنِ أوْ إخْوَةً أوِ امْرَأةً أوْ أوْلاداً مِنْ أجْلِ مَلكَوُتِ الله إلاَّ وَيَأخُذُ فِي هذَا الزَّمَانِ أضْعَافاً كثَِيرَةً، وَفِي الدهْرِ الآتِي الْحَيَاةَ الأَبَدِيّةَ»([35]). «وَكثَِيرُونَِ مِنَ الراقِدِينَ فِي تُرَابِ الأرْضِ يَسْتَيْقِظُونَ، هؤُلاء إلَى الْحَيَاةِ الأَبَدِيةِ، وَهؤُلاء إلَى الْعَارِ؛ لِلازْدِرَاءِ الأَبَدِيّ»([36]). «دار الفرح والسعادة الأبديّة، ومنزل النعيم الخالد للأبرار، اسمها جنّة عدن، أو حديقة عدن، التي هي الجنّة المعروفة»([37]). وتوجد أمثلةٌ أخرى لهذا البحث([38]). وهكذا فإن خلود الجنّة مقرّرٌ في كلٍّ من الإسلام والمسيحية.
الجنّة مكان الراحة والنعيم
الجنّة دار الراحة والطمأنينة، والمكان الذي كلّه خَيْرٌ وفَرَحٌ، الذي تسكن فيه أرواح الفضلاء الأتقياء والمؤمنين الحقيقيّين بعد الموت. الجنّة دار النعيم الدائم. والآن السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي هذه النِّعَم الأبدية، ومِمَّ تتكوَّن؟ وما هي النِّعَم التي يتمتَّع بها أهل الجنّة؟
بشكلٍ عامّ عندما يتحدَّث القرآن عن نِعَم الجنّة يؤكِّد عَظَمتها، وعدم قدرة البشر على تصوُّرها: ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (السجدة: 17). وذكر في آياتٍ أخرى أيضاً أن النِّعَم الإلهية في الجنّة لا يمكن تصوُّرها وإدراكها([39]). وقد صُرِّح بهذا المعنى في الروايات النبويّة كذلك: «أعدَدْتُ لعبادي الصالحين في الجنّة نِعَماً لم تَرَها عينٌ، ولم تسمع بها أذنٌ، ولم تخطُرْ على قَلْب بَشَرٍ»([40]).
وتوجد على غرار هذه الآيات والأحاديث مسائل مشابهة في تعاليم المسيحية: مَا لمَْ تَرَ عَيْنٌ، وَلمَْ تَسْمَعْ أذُنٌ، وَلمَْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إنْسَانٍ: مَا أعَدَّهُ الله لِلذِينَ يُحِبُّونَهُ([41]).
وتنقسم نِعَم الجنّة بشكلٍ عامّ إلى قسمين: معنويّ؛ ومادّي.
ونجد هذا التقسيم، بالإضافة إلى القرآن، في النصوص المسيحيّة المقدَّسة أيضاً.
وهناك اختلافاتٌ بين المسيحيين حول طبيعة الدار الباقية، أي إنهم يختلفون حول ما إذا كانت نِعَم الجنّة مادّيةً أم معنويّة؟ وفي هذا الصدد ينقسم المسيحيّون إلى مجموعتين([42]): يعتقد بعضٌ أنه لا يوجد أكلٌ وشربٌ ونكاحٌ في الجنّة؛ ويستشهدون بإنجيل مرقس لإثبات وجهة نظرهم. تؤمن هذه المجموعة أن نعيم الجنّة يقتصر على التواصل مع الله، ولقاء الله وذاته الأقدس؛ وفي المقابل تعتقد المجموعة الثانية أن حياة الآخرة تشبه الحياة في الدنيا، وفيها طعامٌ وشرابٌ وزواجٌ؛ وتستند هذه المجموعة إلى إنجيل متّى ويوحنّا([43]). ولكنّ هذا النوع من الحياة يختلف عن الحياة الدنيوية، أي إنه لا توجد مشقّةٌ هناك([44]).
أـ النِّعَم المعنويّة
تشير النصوص الدينية المقدَّسة إلى النِّعَم المعنويّة في الجنّة. وهذه النِّعَم ليست في نطاق الزمان والمكان، ولا يمكن مقارنتها بالنِّعَم الدنيوية الموجودة. بعض هذه النِّعَم المعنوية هي: سلام الله على الصالحين([45])، رضا الله([46])، عدم وجود أيّ خَوْفٍ أو حُزْنٍ في الجنّة([47])، السعادة والفرح([48]) المغفرة والرحمة الإلهيّة([49])، مرافقة الصالحين وأهل الجنّة والملائكة([50]).
الأمن والسلام والراحة، ومرافقة سائر سكّان الجنان، جزءٌ من النِّعَم المعنوية في الجنّة، التي وردَتْ في عدّة آياتٍ من القرآن الكريم. قال تعالى: ﴿لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾ (الحجر: 18).
وتصادفنا بعض هذه النِّعَم المعنوية أيضاً في تعاليم المسيحية. وإليكم بعض الأمثلة على ذلك: جاء في رسالة بولس إلى أهل فيلبي: وَسَلاَمُ الله الذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْلٍ، يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأفْكاَرَكمُْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ([51]). مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إنْسَانٍ: مَا أعَدَّهُ الله لِلذِينَ يُحِبّونَهُ»([52]).
يعتبر لقاء الله من نِعَم الجنّة المعنوية، والتي يُشار إليها عادةً من قِبَل الأديان الإلهيّة. جاء في آيات القرآن الكريم: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾ (الكهف: 110). وتوجد أمثلةٌ أخرى لهذا البحث في الآية 154 من سورة الأنعام.
ووفقاً للتلمود فإن أعلى نِعَم الجنّة، وأفضل لذّةٍ يمكن أن يتمتَّع بها الصالحون في الجنّة، هي وجودهم في جنّة عدن، وفي محضر الله. «سوف يعدّ الذات المقدّس المبارك في العالم الباقي وليمةً للعادلين والصالحين في جنّة عدن… وفي هذه الأثناء سوف يعمل هكذا بنو إسرائيل في حضور الذات القدّوس، هل يمكن أن يعدّ المضيف وليمةً لضيفه ولا يجلس معهم بنفسه؟ وفي تلك اللحظة سيعلن نزوله بإجلال إلى جنّة عدن([53]).
ب ـ النِّعَم المادّية
كثيرةٌ هي نِعَم الجنّة المادّية بشكلٍ عامّ. ويمكن اعتبار الطعام والشراب وملابس الجنّة والأَسِرّة المزيَّنة والجداول المتدفِّقة و… جزءاً من نِعَم الجنّة المادّية. ويتّضح ذلك من خلال دراسة عدّة آياتٍ من القرآن الكريم؛ ففي الجنّة التي يصوِّرها القرآن لا يوجد جوعٌ ولا عَطَشٌ؛ وفيها كلّ أنواع الفاكهة([54])؛ وأنواعٌ مختلفة من اللحوم، وخاصّة الدواجن([55])؛ ومشروباتٌ متعدِّدة([56])؛ مضافاً إلى عدم وجود بَرْدٍ شديد([57]).
وترسم المسيحيّة أيضاً صورة الجنّة المعدّة للأتقياء، والتي تظهر كلّ النعيم المادّي في الجنّة لأهلها. فقد جاء في العهد الجديد: «وَأنَا أجْعَلُ لَكُمْ كمََا جَعَلَ لِي أبِي مَلكَوُتاً، لِتَأكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلكَوُتِي، وَتَجْلِسُوا عَلَى كرََاسِي تَدِينُونَ أسْبَاطَ إسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ»([58]). «لَنْ يَجُوعُوا بَعْدُ، وَلنَْ يَعْطَشُوا بَعْدُ، وَلاَ تَقَعُ عَليَْهِمِ الشمْسُ، وَلاَ شَيْءٌ مِنَ الْحَرّ»([59]).
وينبغي أن يُقال بخصوص التعاليم التلمودية عن نِعَم الجنّة: «سوف يعدّ الذات القدّوس المبارك مائدةً من لحم لفياتان للعادلين والصالحين»([60])، «سيكون نبيذاً من ستّة أيام الخَلْق محفوظاً في العنب»([61]). وتجدر الإشارة إلى أن هناك بعض النقاط المحفِّزة على التفكير في جزءٍ من التلمود: «في العالم الآتي لا يوجد طعامٌ ولا شراب»([62]).
ونستنتج ممّا تقدَّم أنه تمَّتْ الإشارة، بل التصريح، بوجود نِعَمٍ مادّية في الجنّة.
الزواج في الجنّة
يمكن ـ بشكلٍ عامّ ـ تقسيم نِعَم الجنّة إلى قسمين: مادّي؛ ومعنويّ.
والزواج هو أحد النِّعَم المادّية في الجنّة التي تهتمّ بها كلّ ديانةٍ إلهيةٍ بطريقةٍ ما.
وبالطبع فإن اهتمام كلٍّ منها يختلف عن الأخرى، وأحياناً يتناقض معها.
فالقرآن الكريم يذكر الزواج بالحُور العِين كأحد النِّعَم الإلهية، وينصّ على تمتُّع أهل الجنّة بهذه النعمة الإلهيّة.
وقد قيل: لا سبيل إلى الزواج في الجنّة، ولكنّ المقصود هو أن يقترن أهل الجنّة بالحُور العِين([63]).
ويوجد وجهتا نظرٍ بين المفسِّرين المسلمين حول كيفية زواج الجنّة؛ فيعتقد بعضهم أن للزواج في الجنّة كلّ خصائص الزواج الدنيويّ، ويعتبرون كلمة «زواج» في الآيات تعني «نكاح»، كما في الآية التالية ﴿…وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾ (الدخان: 54، الطور: 20). يقول الأخفش: إن معنى «الزواج» في هذه الآية هو النكاح المعروف([64]). وكذلك يقول مجاهد: معنى هذه الآية أننا في الجنّة نتزوَّج حوريّةً بنكاح أهل الجنّة([65]). ويقول الطبري في شرحه: إن معنى «الزواج» في هذه الآية هو النكاح([66]).
ويعتقد بعضٌ آخر أن الزواج في الجنّة لا يعني النكاح فقط، ولكنّه يدلّ على التقارب، وأن يكون كلٌّ منهم قريناً للآخر. يقول الطبرسي في ذيل الآية التالية: ﴿وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾: المراد بزواج أهل الجنّة من الحُور العِين أنهم متقارنون معهم؛ لأن هذا الزواج لا يقصد به الزواج الاصطلاحي، بل هو هنا الاقتران، وهو المعنى اللغويّ الأساسي له([67]). وقد طرح هذا الرأي أيضاً العلاّمة الطباطبائي([68]).
وورد في المسيّحية، وفي الأناجيل، أنه لا يوجد زواجٌ في الدار الباقية. كما جاء في إنجيل متّى: إنّهُمْ فِي الْقِيَامَةِ لاَ يُزَوّجُونَ وَلاَ يَتَزَوّجُونَ، بَلْ يَكوُنُونَ كمََلاَئِكةَِ الله فِي السَّمَاءِ([69]). يقول الشيخ جواد البلاغي، في احتجاجاته: إن هذا الاعتقاد، أي عدم وجود الزواج، هو أحد الخرافات التي تسرَّبت إلى الدِّين المسيحيّ([70]).
والعهدُ القديم، كما في حالاتٍ أخرى، صامتٌ عن هذه النقطة، ولم يذكر أيّ شيءٍ مهمّ. ومع ذلك يمكن رؤية بعض هذه الصُّوَر في التراث اليهوديّ، كمآدب الجنّة، والأَسِرّة المزيَّنة المُعَدّة للصالحين. لكنْ لم يتمّ الحديث عن الزواج. وتُظْهِر دراسة المعتقدات الموجودة في هذا المجال أنه لا يوجد اتفاقٌ في الأديان الإلهيّة على ما إذا كان الزواج من نِعَم الجنّة أم لا.
يتناقض رأي المجموعة الأولى من المسلمين بشكلٍ صارخ مع معتقدات المسيحيّين، ويبدو أنه لا يوجد أيُّ تشابهٍ. لكنّ نظرة المجموعة الثانية من المسلمين تتماشى تماماً مع الآراء والمعتقدات الواردة في العهد الجديد.
طبيعة جنّة آدم وحوّاء
يعتبر بحث الجنّة التي سكن فيها آدم وحوّاء من أهمّ الموضوعات في الأديان الإلهيّة.
في أيّّ جنّةٍ عاش آدم وحوّاء؟ وما هو سبب نزولهما؟
يستنتج من كلّ آيات القرآن التي تتعلَّق بخَلْق الإنسان أن آدم وحوّاء خُلقا منذ البداية ليعيشا على الأرض. ولهذا جاء في القرآن الكريم: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30). وتمثِّل أحداث سَكَن آدم في الجنّة، ومن ثمّ هبوطه إلى الأرض، في الواقع، جزءاً من القَوْس النزولي لخَلْق الإنسان. يسكن آدم، في سَيْره النزولي، بدايةً في جنّة البرزخ، الذي هو عالَمٌ أدنى من عالَم الملائكة والأرواح، وأعلى من المادّة والتراب، فالجنّة التي أقام فيها آدم مؤقَّتاً قبل نزوله إلى الأرض لم تكن هي الجنّة الأخروية الخالدة؛ إذ أوّلاً: جنّة الآخرة (جنّة الخلد) خالدةٌ ودائمة، وتمّ التأكيد على ذلك في كثيرٍ من الآيات، وأنه إذا دخلها أحدٌ فلا يخرج منها أبداً؛ وثانياً: لا سبيل في جنّة الآخرة (جنّة الخلد) لإبليس والوساوس الشيطانية، بينما جاء في نصٍّ صريح من القرآن الكريم أن الشيطان خَدَعَ آدم وحوّاء في تلك الجنّة: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ… فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ﴾ (الأعراف: 20، 22). كما يوجد شواهد في التعاليم الإسلامية أيضاً أن جنّة وآدم وحواء لم تكُنْ من سِنْخ جنان الأرض. ويمكن أن نشير من بينها إلى الآيات الخاصّة بالنزول إلى الأرض([71]).
وأما جنّة آدم وحوّاء في العهد القديم فهي المكان الذي خلق فيه الله (يهوه) آدم وحوّاء في بداية الخليقة، وأراد أن تكون المسكن الأَبَديّ للبشريّة؛ حتّى يكون الإنسان في مأمنٍ من الألم والمرض والشيخوخة والموت، وتكون له سعادةٌ أبديّة. ولكنّ آدم طُرد من هذه الجنّة؛ بالخطيئة بأكل ثمرة الشجرة الممنوعة التي سبَّبتها حوّاء، ومنذ ذلك الوقت لم يبْقَ هناك أثرٌ لهذه الجنّة التي كانت «عدن»([72]). وتجدر الإشارة إلى أنه لم تعُدْ تُذْكَر جنّة عدن في التوراة بعد الإصحاحات الأولى لسِفْر التكوين([73]). ويبدو أن اليهود فقدوا هذه «الجنّة الأصلية» إلى الأبد. البشر في العهد الجديد هم مخلوقات الله المختارة، من بعد الملائكة؛ فقد خلق الله الإنسان على صورته، معصوماً وبلا عَيْبٍ، وأسكنه جنّة عدنٍ؛ ليعيش فيها بصفاءٍ، وبدون ذنوب. لكنّ آدم وحواء؛ بغرورهما وطموحهما، عصيا أمر الله، الذي ألزمهم به على سبيل الامتحان بالامتناع عن الأكل من ثمرة شجرة «معرفة الخير والشرّ»، وبهذه الطريقة عَصَوْا الله، وتمّ طَرْدُهم([74]): وَأخَذَ الربُّ الإلهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنّةِ عَدْنٍ؛ لِيَعْمَلهََا وَيَحْفَظَهَا. وَأوْصَى الربُّ الالهُ آدَمَ قَائِلاً: «مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنةِ تَأكلُُ أكْلاً، وَأمّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشرّ فَلا تَأكُلْ مِنْهَا؛ لأَنّكَ يَوْمَ تَأكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ»([75]).
ويُستنتج من مجموع هذه الدراسات أن جنّة آدم وحوّاء التي وردَتْ في القرآن الكريم تشبه إلى حدٍّ ما، من حيث خصائصها، الجنّة التي يدخلها المؤمنون بعد الموت وفي العالم الباقي. ومن الضروريّ الانتباه إلى حقيقة أن الجنّة التي كان فيها آدم قبل الهبوط لم تكن جنّةً أَبَديّة، بل جنّةً بَرْزَخيّة، حيث ظهرَتْ وتجلَّتْ فيها الغرائز البشرية([76]). وهناك شواهد كثيرةٌ على اختلاف جنّة آدم وحوّاء عن جنّة الآخرة؛ لأن هذه الأخيرة هي نهاية سَيْر الإنسان، وتلك بداية سَيْره([77]).
وتعتبر هذه الجنّة في المسيحيّة أوّل مكانٍ للبشر، ولا دَوْر لها في مستقبل الإنسان، ومصيره في العالم الأبديّ يتقرَّر في جنّةٍ آخرى.
ويُستَنْتَج من العهد القديم أن الله أسكن الإنسان في أرض عدن، تلك الأرض التي أَوْجَدَها الله له.
لكنّ القرآن يقدِّم الجنّة على أنها السَّكَن الأوّل للبشر([78]).
النتيجة
كما أن الله في الأديان الإلهيّة هو بداية كلّ شيءٍ، كذلك هو نهاية كلّ شيءٍ. يبدأ خطّ السَّيْر الوجوديّ للإنسان في جميع الديانات التوحيدية بالله، وينتهي به. لا تنتهي حياة الإنسان من وجهة نظر الأديان الإلهية في هذا العالم، وإنما ترسم هذه الأديان صورة الحياة الآخرة لأتباعها، حيث تكون الجنّة هي مسكن الصالحين والأتقياء والمؤمنين الحقيقيين.
مكان الجنّة الحقيقيّ غير معروف على وجه اليقين. والمؤكَّد فقط هو علوّ رتبتها ومكانتها. نعيم الجنة خالدٌ، وأهل الجنّة خالدون في الجنّة إلى الأبد، وهي بالنسبة إليهم مكانٌ للسرور والسعادة الأبدية.
ذَكَرَتْ الأديان الإلهية، من خلال إيراد أسماء مختلفة للجنّة، نِعَمها المادّية والمعنوية. وعلى الرغم من الآراء العديدة والمختلفة حول جزئيّات الجنّة، إلاّ أن هذه الاختلافات لا تضرّ بأصل مسألة الجنّة ونِعَمها الأبدية. والشيء المؤكَّد أن الجنّة جزءٌ لا يتجزّأ من الدار الباقية، ومكانٌ للصالحين.
وما يمكن استخلاصُه بوضوحٍ من هذا المقال هو أن الجنّة ونِعَمها ليست مقصورةً على دين الإسلام. ولم يذكر الله هذه النِّعَم في القرآن الكريم فقط بما يتوافق مع رَغَبات العَرَب. ولهذا فإن القول بأن نِعَم الجنّة كانت تتناسب مع حال الناس وقت نزول القرآن ليس صحيحاً. وبعبارةٍ أخرى: من خلال النقاط التي أُثيرَتْ في هذا المقال يتّضح أن التمتُّع بنعيم الجنّة، وخاصّة النِّعَم المادّية، لا يخصّ الإسلام والقرآن؛ إذ لم يقطع الوَعْد للمسلمين فقط بالفردوس الأعلى، وإنّما هذا هو الحال أيضاً في تعاليم الأديان الإلهيّة الأخرى. وهذه النقطة هي الجواب الرئيس والمهمّ للظّانّ بأن وَصْف القرآن للجنّة كان متوافقاً مع ذَوْق وفَهْم العرب في زمن نزول القرآن! وتُظْهِر هذه الدراسة أن الحياة بعد الدنيا والجنّة قد ذُكرَتْ في جميع الأديان الإلهيّة، وتفاصيلها متشابهةٌ في الأديان المختلفة.
الهوامش
(*) أستاذٌ مساعِدٌ في جامعة علوم القرآن والحديث في مدينة الرِّيّ ـ طهران.
([1]) راجِعْ: أحمد شلبي، مقارنة الأديان (اليهوديّة): 195، ط3، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1973م.
([2]) جان بيناس، تاريخ الأديان الشامل: 549، ترجمة: علي أصغر حكمت، ط8، الدار العلمية والثقافية، طهران، 1375هـ.ش.
([3]) راجع: العهدين، ترجمة تفسيرية، نشر عام 2002، المزامير 49: 19؛ 88: 22؛ 17: 115؛ سفر أيّوب 10: 22؛ 17: 16؛ سفر الجامعة 9: 10.
([4]) راجِعْ: سفر التثنية 32: 39؛ سفر إشعياء 26: 19، رسالة كورنثوس 5: 10؛ إنجيل لوقا 23: 43؛ رسالة بولس إلى أهل رومية 8: 11؛ إنجيل متّى 25: 46؛ 19: 29؛ إنجيل يوحنّا 3: 15؛ 4: 14؛ 6: 39.
([8]) رسالة بولس إلى أهل غلاطية 6: 7.
([9]) رسالة بولس إلى أهل غلاطية 6: 9.
([10]) الراغب الإصفهاني، المفردات في غريب القرآن، مادة (جنّ)، ط2، المكتبة المرتضوية، 1362هـ.ش.
([11]) فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين 1: 228، تحقيق: السيد أحمد الحسيني، ط3، مكتب نشر الثقافة الإسلامية، 1408هـ.
([12]) محمد بن مكرم (ابن منظور)، لسان العرب 13: 100، منشورات أدب الحوزة، قم، 1405هـ.
([13]) خليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين 6: 22، تحقيق: مهدي المخزومي، مؤسّسة دار الهجرة، بيروت، 1409هـ.
([14]) ابن منظور، لسان العرب 3: 100.
([15]) الراغب الإصفهاني، المفردات في غريب القرآن 1: 204.
([16]) رسالة كورنثوس الثانية 12: 2 ـ 4.
([17]) رسالة بولس إلى أهل أفسس 4: 8.
([18]) جيمس هاكس، قاموس الكتاب المقدَّس: 647، دار نشر أساطير، طهران 1377هـ.ش.
([20]) فيض الله أكبري دستك، مقال «مقترحات الإنجيل الأربعة في القيامة، ومقارنتها بالاقتراحات القرآنية»، مجلّة البحث الديني، العدد 15: 174، 1386هـ.ش.
([21]) دنيز ماسون، القرآن والعهدين (المواضيع المشتركة): 955، ترجمة: فاطمة السادات تهامي، دار السهروردي للنشر، طهران، 1386هـ.ش.
([22]) أبراهام كوهين، كنوز من التلمود: 388، مترجم من النصّ الإنجليزي: أمير فريدون گرگاني، دار زيبا للطباعة، 1350هـ.ش.
([23]) سعد الدين التفتازاني، شرح المقاصد في علم الكلام 2: 220، دار المعارف النعمانية، باكستان، 1401هـ.
([24]) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 8: 127، تحقيق: مجموعة من المحقِّقين، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1403هـ.
([25]) فرج الله عبد الباري، يوم القيامة بين الإسلام والمسيحية واليهودية: 34، دار الآفاق العربية.
([26]) انظر: أنطون ذكرى، الأدب والدين عند قدماء المصريين: 113، مطبعة المعارف ومكتبتها، 1923م.
([30]) رسالة كورنثوس الثانية 5: 8.
([31]) السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 9: 274، ترجمة: السيد محمد باقر الموسوي الهمداني، مكتب المطبوعات الإسلامية، قم، 1374هـ.ش.
([32]) فخر الدين الرازي، مفتاح الغيب 16: 15، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1420هـ.
([33]) رسالة بولس إلى أهل رومية 6: 23.
([37]) كوهين، كنوز من التلمود: 387.
([38]) راجِعْ: إنجيل يوحنّا 4: 14؛ 6: 68؛ 3: 15؛ إنجيل متّى 25: 46؛ رسالة بولس إلى أهل رومية 6: 22.
([40]) محمد بن الحسن الطوسي، تهذيب الأحكام 6: 22، تحقيق: حسن الموسوي الخرسان، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1407هـ.
([41]) رسالة كورنثوس الأولى 2: 9.
([42]) محمد أحمد الخطيب، يوم القيامة في المسيحية: 24، جامعة قطر، الدوحة.
([43]) راجع: إنجيل متّى 26: 39؛ 19: 29.
([44]) فرج الله عبد الباري، يوم القيامة بين الإسلام والمسيحية واليهودية: 33.
([45]) يس: 58؛ الأعراف: 46؛ الزمر: 73؛ النحل: 32؛ الرعد: 24.
([46]) الحديد 20؛ آل عمران: 21؛ التوبة: 21، 72.
([47]) الأعراف: 49؛ الزخرف: 68.
([49]) النساء: 96؛ التوبة: 21؛ آل عمران: 133، 136.
([51]) رسالة بولس إلى أهل فيلبي 7: 4.
([52]) رسالة كورنثوس الأولى 2: 9.
([53]) أبراهام كوهين، كنوز من التلمود: 389.
([54]) الواقعة: 29، 32؛ الرحمن: 68؛ الأنعام: 99، الأنبياء 31 ـ 32.
([55]) انظر: الواقعة: 21؛ الطور: 22.
([56]) راجِعْ: الإنسان: 5، 17، 21؛: 1: المطفِّفين: 25 ـ 26؛ محمّد: 15؛ الواقعة: 18.
([60]) كوهين، كنوز من التلمود: 389.
([63]) الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان 9: 105، مؤسّسة الاعلمي للمطبوعات، بيروت، 1415هـ.
([64]) الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان 9: 5.
([65]) جلال الدين السيوطي، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 6: 33، مكتبة المرعشي النجفي، قم، 1404هـ.
([66]) محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن 25: 82، دار المعرفة، بيروت، 1412هـ.
([67]) الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان 23: 326.
([68]) انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 18: 229.
([70]) محمد جواد البلاغي، الرحلة المدرسية 1: 159 ـ 162، دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1414هـ؛ محمد جواد البلاغي، الهدى إلى دين المصطفى 1: 344 ـ 246، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1405هـ.
([74]) راجِعْ: سفر التكوين 2: 10 ـ 14.
([75]) سفر التكوين 2: 15 ـ 17.
([76]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 8: 46.
([77]) راجِعْ: ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المُنْزَل 1: 187، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1374هـ.ش.
([78]) عباس أشرفي، مقارنة القصص في القرآن والعهدين: 194، أمير كبير، طهران، 1385هـ.ش.