أحدث المقالات

الشيخ سعيد نورا(*)

 

تمهيدٌ

إنّ دراسة المذاهب المختلفة ومقارنتها من الأساليب المهمّة في تطوير العلوم، الأمر الذي لم يَحْظَ بالاهتمام اللازم في علم الكلام الإسلامي. وفي هذا السياق يسعى هذا المقال أن يتناول أحد الموضوعات الكلامية المهمّة أي «عالم الذَّرّ»؛ ليدرس رؤية مدرسة بغداد حوله، التي تعتبر من أهمّ المدارس الكلامية المتقدّمة في الإمامية.

في البداية سوف نحاول أن نلتقط الأفكار والنظريات التي وصلتنا من علماء مدرسة بغداد، وندرسها في سلسلةٍ تاريخية؛ لنحصل على صورةٍ أكثر انسجاماً ودقّة عن موقف مدرسة بغداد تجاه فكرة «عالم الذَّرّ»، لننتقل بعد استخراج العناصر والمؤلّفات المشتركة فيما بينهم إلى دراسة هذه العناصر واحداً تلو الآخر. ولن نكتفي في هذه الدراسة بعرض النظريات والأقوال، بل نحاول قَدْر الإمكان أن نسلِّط الضوء على الزوايا المختلفة لهذه الفكرة، ونقوم بالتقويم والتحليل هنا وهناك.

 

المرحلة الأولى: موقف مدرسة بغداد تجاه فكرة «عالم الذَّرّ»

بدايةً سوف نقوم بعرضٍ مختصر عن تاريخ نشوء حوزة بغداد العلمية؛ لننتقل بعد ذلك إلى دراسة الآراء والنظريات المطروحة من قِبَل علماء بغداد الإمامية حول فكرة «عالم الذَّرّ» في سلسلةٍ تاريخية.

 

حوزة بغداد العلميّة، عرضٌ مختصر([1])

تأسَّست مدينة بغداد على يد العبّاسيين سنة 148هـ. ومع أنّها كانت عاصمة للعباسيين نجد الكثير من علماء الشيعة نشأوا فيها، مثل: آل يقطين بن موسى البغدادي، الذي كان معاصراً للإمام الصادق×؛ وكذلك أبناؤه، ومن أبرزهم: عليّ بن يقطين(182هـ)، من أصحاب الإمام الكاظم×، وكذلك نرى من بينهم: محمد بن عيسى بن عبيد، من أصحاب الإمام محمد بن عليّ الجواد×؛ ومحمد بن أبي عمير(217هـ)، من كبار الرواة في الإمامية، قد وُلد في بغداد وكان يعيش فيها.

ثم نصل إلى همام بن سهيل؛ وابنه محمد الإسكافي(336هـ). وكان همام يحظى بمنزلةٍ كبيرة بين الإمامية، وكانت مكاتباتٌ بينه وبين الإمام الحسن العسكري×. وابنه الإسكافي أيضاً كان من المحدِّثين الكبار، وصاحب كتاب «منتخب الأنوار في تاريخ الأئمّة الأطهار».

وقد تنامَتْ نشاطات مدرسة بغداد في القرنين الرابع والخامس الهجريّين بشكلٍ مثير، ورُبَما كان تزامن هذه الفترة مع البويهيّين مؤثِّراً في ذلك.

وكما قلنا أُسِّست بغداد لتكون عاصمةً للعباسيين، ولم تكُنْ مدينةً شيعية، وكانت تضمّ في داخلها مدارس واتّجاهات فكرية مختلفة، منها: المدرسة الكلامية الاعتزالية في بغداد، التي كانت من أهمّ مدارس الاعتزال([2]). والانتباه إلى هذه القضية قد يساعدنا في دراسة رؤى متكلِّمي الإمامية.

 

أبوسهل النوبختي([3])

كان إسماعيل بن عليّ بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت شيخ المتكلِّمين في عصره في بغداد([4]). ويقول النجاشي في ترجمته: «إسماعيل بن عليّ بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت: كان شيخ المتكلِّمين من أصحابنا وغيرهم، له جلالةٌ في الدنيا والدِّين، يجري مجرى الوزراء في جلالة الكتاب»‌([5]). لكنْ مع الأسف الشديد لم يصلنا الكثير من كتبه، فلذلك لا نستطيع أن نستخرج موقفه من فكرة «عالم الذَّرّ» بالتحديد.

وقد نتكهَّن من عناوين كتبه أنّه كان يتمتَّع برؤيةٍ عقلية، كأغلبيّة متكلِّمي بغداد، ورُبَما لم يكن يقبل فكرة «عالم الذَّرّ» لذلك. ولكنّ هذا كلّه احتمالٌ، ولا يمكن البتّ في هذا الموضوع.

كان آل نوبخت من الركائز الأساسيّة في مدرسة بغداد، ونشأ في هذا البيت أعلامٌ كُثُر، مثل: أبي إسحاق إبراهيم بن نوبخت، صاحب كتاب «الياقوت في علم الكلام»، لكنْ ثمّة خلافٌ في تاريخ وفاته، وقد اعتبره بعضهم من علماء القرن الرابع الهجري. وعلى أيّ حال لم نجِدْ في هذا الكتاب أيضاً شيئاً يتّصل بفكرة «عالم الذَّرّ».

 

الشيخ المفيد(413هـ)

كان الشيخ المفيد من أبرز متكلِّمي الإمامية، وقد وصلَتْ إليه زعامة الشيعة في زمانه، وألّف قرابة مئتَيْ مصنَّفٍ في حياته([6]). وهو يتحدَّث بالتفصيل في المسائل السرورية عن فكرة «عالم الذَّرّ»، والإشكالات التي قد تُسجَّل عليها، ويعتبر الروايات في هذا الموضوع مختلفة الألفاظ والمعاني، والرواية الوحيدة التي يراها صحيحةً في هذا السياق هي: «والصحيح أنّه أخرج الذُّرّية من ظهره كالذَّرّ، فملأ بهم الأفق، وجعل على بعضهم نوراً لا يشوبه ظلمةٌ؛ وعلى بعضهم ظلمةً لا يشوبها نورٌ؛ وعلى بعضهم نوراً وظلمة، فلما رآهم آدم× عجب من كثرتهم وما عليهم من النور والظلمة…»([7]). وبعد نقل هذا الحديث بكامله يقول: «فأنبأه الله تعالى بما يكون من ولده، وشبههم بالذَّرّ الذي أخرجه من ظهره، وجعله علامةً على كثرة ولده. ويحتمل أن يكون ما أخرجه من ظهره أصول أجسام ذرّيته، دون أرواحهم، وإنما فعل الله تعالى ذلك ليدلّ آدم× على العاقبة منه، ويظهر له من قدرته وسلطانه وعجائب صنعه، وعلمه بالكائن قبل كونه؛ ليزداد آدم× يقيناً بربِّه، ويدعوه ذلك إلى التوفُّر على طاعته، والتمسُّك بأوامره، والاجتناب لزواجره»([8]).

يطرح المفيد في هذه العبارة احتمال أن يكون المقصود من الذَّرّ أصول أجسام ذرّية آدم، لا نفس ذرّية آدم في شكل الذَّرّ، بحيث كانت تحمل معها الروح؛ إذ خَلْق الأرواح قبل الأبدان من الإشكالات الأساسية عنده في قضية «عالم الذَّرّ»، والغاية من وراء هذا العمل هي إظهار قدرة الله سبحانه وسلطانه، فكأنّ الله يريد بذلك أن يزيد في إيمانه ويقينه؛ ليتمسّك آدم بأوامره، ويجتنب عن نواهيه.

ثمّ يشير إلى سائر الروايات في هذا الباب، ويعتبر الروايات الدالّة على نطق ذرّية آدم في عالم الذَّرّ من أخبار التناسخية، حيث يقول: «فأما الأخبار التي جاءت بأنّ ذرّية آدم× استنطقوا في الذَّرّ، فنطقوا، فأخذ عليهم العهد، فأقرّوا، فهي من أخبار التناسخية، وقد خلطوا فيها ومزجوا الحقّ بالباطل. والمعتمد من إخراج الذرّية ما ذكرناه، دون ما عداه ممّا يستمرّ القول به على الأدلّة العقلية والحجج السمعية، وإنما هو تخليطٌ لا يثبت به أثرٌ على ما وصفناه»([9]). فهو يخالف بشدّةٍ حياة بني آدم ونطقهم في عالَمٍ قبل هذه الدنيا التي نعرفها، فيعتبر الروايات التي تقع في هذا السياق من أخبار التناسخية والحَشْوية، وإنّما يعتبر الرواية التي نقلها هي الرواية الصحيحة التي يمكن الاعتماد عليها، ولكنّ سائر الأخبار عنده ممّا خلط الحقّ بالباطل، التي تخالف الأدلة العقلية والحجج السمعية (الكتاب والسنّة).

ثم يشير بعد ذلك إلى أحد الإشكالات الأساسية في مقابل اتّجاهه هذا، محاولاً الجواب عنها.

فإنّه كان يصرّ على أنّ الذَّرّ الذي أخرجه الله سبحانه من ظهر آدم× لم يكن حيّاً ناطقاً، واعتبر هذا القول مؤيِّداً للتناسخ. ولكنّنا نجد في القرآن الكريم آيةً تصرِّح بنطق ذرّية بني آدم، حيث قال عزَّ وجلّّ: ﴿وإِذْ أَخَذَ رَبُّك مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (الأعراف: 172)، فتصرّح الآية هذه بنطقهم، حيث أجابوا: ﴿بَلَى شَهِدْنَا﴾، وهذا يخالف ما كان يدَّعيه الشيخ المفيد من مخالفة الروايات الدالّة على النطق للأدلة السمعية، بل هي موافقةٌ لما جاء في القرآن الكريم.

يستند المفيد في الجواب عن هذا الإشكال إلى المجاز والاستعارة، ويقول: «فالجواب عنه أنّ هذه الآية من المجاز في اللغة، كنظائرها ممّا هو مجازٌ واستعارة، والمعنى فيها أنّ الله تبارك وتعالى أخذ من كلِّ مكلَّفٍ يخرج من ظهر آدم وظهور ذرّيته العهد عليه بربوبيّته، من حيث أكمل عقله ودلَّه بآثار الصنعة على حدوثه، وأنّ له محدثاً أحدثه، لا يشبهه، يستحقّ العبادة منه؛ بنِعَمه عليه، فذلك هو أخذ العهد منهم، وآثار الصنعة فيهم هو إشهاده لهم على أنفسهم بأنّ الله تعالى ربّهم»([10]).

ثم يأتي بشواهد أدبيّة (من أشعار العرب)، وكذلك بعض الآيات القرآنية، ليؤكِّد ما يدَّعيه هنا.

فعلى سبيل المثال: جاء في ضمن أشعار العرب:

وقالت له العينان سمعاً وطاعةً *** وأسبلتا بالدرّ لما يثقب

استخدم الشاعر هذه الطريقة في التعبير لكي يشكِّل صورةً أدبية جميلة، ويرسم لنا البكاء بطريقةٍ أدبية جميلة.

وكذلك رُوي عن عنترة أنه قال في وصف فرسه:

فازورّ من وقع القنا بلبانه *** وشكا إليَّ بعبرةٍ وتحمحم

فالفَرَس لا يستطيع النطق والكلام، ولكنّ الشاعر استخدم مفهوم الشكاية الذي يخصّ الناطقين؛ ليخلق تصويراً أدبيّاً في شعره هذا. وهذا أمر رائجٌ في الأدب العربيّ، بل لا يخصّ هذا اللغة العربية، وإنما نجده في كثيرٍ من لغات العالم.

يدّعي الشيخ المفيد أنّ هذه الطريقة للتعبير أمرٌ رائجٌ في اللغة العربية. وثمّة نماذج عديدة في النظم والنثر عند العرب تستفيد من هذا النوع من التعبير؛ لبيان المقصود. والقرآن الكريم أيضاً استخدم هذه الطريقة هنا، بل نجد نماذج أخرى أيضاً في النصّ القرآني يستخدم هذه الطريقة من التعبير، كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا ولِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ (فصّلت: 11)، فيستخدم القرآن الكريم هنا تعبيراً يشبه ما ورد في ذرّية بني آدم، فلم تتكلَّم السماء والأرض بقولٍ صريح، وإنما «انفعلتا بمشيئة الله تعالى، ولم يتعذّر صنعهما عليه، فكانتا بذلك كالمجيب لمَنْ دعاه مسرعاً، وأطاعه باخعاً»([11])، بل نستطيع أن نضيف هنا: إنّ النطق هنا لو كان نطقاً حقيقياً؛ استناداً إلى أصالة الحقيقة، فهو لا يضرّ ما ادّعاه المفيد هنا؛ لأنّ ما يهمّه عدم خلق الأرواح الإنسانية قبل الأجساد. وهذه الآية لا تستطيع أن تثبت ذلك، وغاية ما في الأمر أنّ الذَّرّ كان ينطق، ولكنّه لا يعني أنّه كان يحمل الأرواح البشريّة، بل يمكن أنّه كان ينطق كما نطقت السماء والأرض.

وعلى أيّ حالٍ اعتبر المفيد هذا التعبير في الآية الشريفة من قبيل: الاستعارة والمجاز في اللغة، فيكون المقصود من العهد في هذه الآية إكمال عقول الإنسان، بحيث يتمكَّن من معرفة ربِّه؛ وخلق الآيات في الآفاق والأنفس؛ لكي يدلّه ذلك على حدوث العالم؛ وفطر في عقله أن كلَّ حادثٍ يحتاج إلى مُحْدِث؛ وكذلك أودع في نفسه وجوب شكر المُنْعِم. ومع هذا كلّه ستكون الحجّةُ على الإنسان تامّةً.

وبالإضافة إلى ذلك، في موضعٍ آخر من «المسائل العكبرية» يذكر جواباً آخر، وهو يفتح تساؤلاً كبيراً أمام علاقة هذه الآية بفكرة «عالم الذَّرّ» التي طُرحت في الروايات، حيث يقول: «والجواب أنّ الآية تتضمَّن أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذرّيتهم، وليست متضمّنةً أخذها من ظهر آدم، على ما تخيَّله فريقٌ من الناس…». ثم يذكر التفسير الذي سبق ذكره في فهم الآية، بأنّ العهد هنا هو إكمال عقول الناس و…. فما ورد في هذه الآية الشريفة يختلف تماماً عمّا ورد في بعض الروايات؛ لأنّ الآية هذه تتحدّث عن ذرّية بني آدم، ولكنّ الروايات تتحدَّث عن خروج الذَّرّ من ظهر آدم× نفسه. فعلينا أن نعيد النظر في علاقة هذه الآية بالروايات التي وردَتْ في موضوع خروج الذَّرّ من ظهر آدم×.

بل نستطيع أن نُكمل المسير، ونقول: لا نرى في هذه الآية ما يؤكِّد على أنّ الميثاق قد أُخذ في لحظةٍ معيّنة ومتزامنة، على الأقلّ لا نجد شاهداً في نفس الآية على إثبات ذلك، بل غاية ما يُستفاد من الآية أن الله تبارك وتعالى أخذ الميثاق عندما أخذ الذرّية من ظهور بني آدم، ولرُبَما حدث ذلك عندما أراد الله سبحانه أن يخلق الذرّية في هذه الدنيا، لا في عالَمٍ قبلها، فلا يمكن اعتبار الآية مؤيِّداً للطريقة التي وردت في الروايات بالنسبة إلى هذا الموضوع.

ولكي نفهم البِنْية التحتيّة لهذا الاتّجاه عند الشيخ المفيد لا بُدَّ أن نتحدَّث قليلاً عن موضوعٍ آخر، وهي معضلة خلق الأرواح قبل الأبدان، حيث جاء في بعض الروايات أنّ الله تبارك وتعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفَيْ عام، مثل: رواية صالح بن سهل، عن أَبِي عَبْدِ اللهِ×: «إِنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ×، وهُوَ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَسَلَّمَ عَلَيهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَنَا واللهِ أُحِبُّكَ وأَتَوَلاَّكَ، فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ×: «كَذَبْتَ»، قَالَ: بَلَى واللهِ، إِنِّي أُحِبُّك وأَتَوَلاَّكَ، فَكرَّرَ ثَلاثاً، فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ×: «كَذَبْتَ، مَا أَنْتَ كمَا قُلْتَ؛ إِنَّ اللهَ خَلَقَ الأَرْوَاحَ قَبْلَ الأَبْدَانِ بِأَلْفَيْ عَامٍ، ثُمَّ عَرَضَ عَلَينَا الْمُحِبَّ لَنَا، فَوَاللهِ مَا رَأَيتُ رُوحَكَ فِي مَنْ عُرِضَ فَأَيْنَ كُنْتَ؟!»، فَسَكَتَ الرَّجُلُ عِنْدَ ذَلِك، ولَمْ يرَاجِعْهُ»([12]).

وقد فهم الشيخ المفيد الروايات التي وردَتْ في موضوع الذَّرّ أنها تصبّ في هذا الإطار، فلذلك خالفها، واعتبرها من أخبار التناسخية والحَشْوية؛ لأنّه يخالف فكرة خلق الأرواح قبل الأبدان، واعتبر الروايات التي وردَتْ في هذا المضمون من أخبار الآحاد، ويقول: «أما الخبر بأنّ الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفَيْ عامٍ فهو من أخبار الآحاد، وقد روَتْه العامّة كما روَتْه الخاصّة، وليس هو ـ مع ذلك ـ بما يقطع على الله سبحانه بصحّته، وإنّما نقله رواتُه لحُسْن الظنّ به»([13]).

فالمفيد ملتفتٌ إلى أنّ الخاصّة والعامّة قد روَتْ هذه الروايات، ولكنّه لا يعتمد عليها؛ إذ يراها مخالفةً للعقل، فلا يحصل القطع بها، ويبرِّر نقل الرواة لهذه الروايات عبر فكرة حُسْن الظنّ.

وبعد ذلك يحاول أن يلتمس معنىً مقبولاً لهذه الأخبار، ويقول في هذا الصدد: «وإنْ ثبت القول فالمعنى فيه أنّ الله تعالى قدَّر الأرواح في علمه قبل اختراع الأجساد، واخترع الأجساد ثمّ اخترع لها الأرواح، فالخلق للأرواح قبل الأجساد خَلْقُ تقديرٍ في العلم كما قدَّمناه، وليس بخلقٍ لذواتها كما وصفناه»([14]). فإذا أرَدْنا أن نقبل بهذه الأحاديث فلا بُدَّ من تقديم تفسيرٍ لها لا يخالف العقل، حيث يرى المفيد أنّ خلق الأرواح قبل الأبدان محالٌ عقلاً، ومن هنا يفسِّر هذه الروايات بأنّها تتحدَّث عن التقدُّم في العلم الإلهيّ، لا في الخارج، فإنّ الله تبارك وتعالى قدَّر الأرواح في عمله قبل خلق الأجساد، ولكنْ في الخارج خلق الأرواح بعد الأبدان.

وهذا تفسيرٌ مخالِفٌ لظاهر الروايات جدّاً، فلا يمكن الالتزام بها؛ إذ لا نقبل بتفسير النصوص، ولو عبر فكرة المجاز والاستعارة، إلاّ إذا كان التفسير وجيهاً لدى العُرْف، وهذا ممّا لا تحتمله النصوص هنا؛ فإمّا أن نقبل بها؛ أو نترك علمها إلى أهلها، لا أن نأتي بتفاسير تبعد عن ظاهر النصّ غاية البُعْد.

وكما قلنا: ينطلق المفيد في مخالفته لهذه الفكرة من منطلقٍ عقليّ؛ حيث يرى خلق الأرواح قبل الأجساد بمعنى أنّ الأرواح لم تكن بحاجةٍ إلى الأجسام، وهي مستقلّةٌ عنها، مع أنّنا نعلم بأنّ الأرواح تحتاج إلى آلاتٍ؛ لكي تحملها، وهي الأبدان. وكذلك نعلم بأنّ العلم من شؤون الأرواح، فإذا كانت أرواحنا مخلوقةً قبل أبداننا هذه يلزم أن نكون عالمين بما كان يجري قبل هذه الدنيا، وهو أمرٌ لا يمكن القبول به، وبتعبيره: محالٌ لا خفاء بفساده.

ثمّ يشير إلى روايةٍ أخرى في هذا السياق تقول: «الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ؛ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ؛ ومَا تَنَاكرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ»([15]).

وحَسْب كلام المفيد اعتبر الحَشْوية هذه الرواية ناظرةً إلى عالم الذَّرّ. لكنّه يحاول أن يفسِّر هذه الرواية أيضاً بتفسيرٍ آخر، ويقول في تفسيرها: «فالمعنى فيه أن الأرواح التي هي الجواهر البسائط تتناصر بالجنس، وتتخاذل بالعوارض؛ فما تعارف منها باتّفاق الرأي والهوى ائتلف؛ وما تناكر منها بمباينةٍ في الرأي والهوى اختلف. وهذا موجودٌ حسّاً ومشاهدةً»([16]). وبناءً على هذا التفسير ليست هذه الروايات ناظرةً إلى عالَمٍ قبل هذه الدنيا أساساً، بل تريد أن تتحدَّث عن كيفية خلق الأرواح، بحيث تتناصر بالجنس، ولكنْ تتخاذل بالعوارض، واتّفاق الرأي والهوى هو سبب الائتلاف فيما بينها، ومباينة الرأي والهوى يوجب الاختلاف بينها.

النقطة الأخرى التي أثارت حفيظة الشيخ المفيد بالنسبة إلى عالم الذَّرّ بالطريقة التي ذُكرت في بعض الروايات هي معضلة التكليف؛ لأنّ الخطاب عنده لا يمكن أن يتعلَّق إلاّ بالمكلَّفين؛ إذ لا معنى لإتمام الحجّة إلاّ إذا كان الشخص متمكِّناً من أداء التكليف، فيخرج عن هذا الخطاب الأطفال والمجانين([17]).

 

السيد الرضيّ(406هـ)

كان السيد الرضيّ، أخو الشريف المرتضى، من تلامذة الشيخ المفيد. ولكنّه ليس في مجال الكلام كأخيه. وعادةً يعرف الرضيّ من كتابه «نهج البلاغة»، الذي جمعه من كلمات الإمام عليّ×. لم يصِلْنا شيءٌ معتدّ به عن السيد الرضيّ حول فكرة «عالم الذَّرّ»، وكلّ ما في الأمر بيتٌ من الشعر، وهو:

ألست من القوم الأولى قد تسلَّفوا ***ديون العلى قبل الورى في الأظلّة

يتحدّث هذا البيت عن الأظلّة، فاعتبرها بعضٌ إشارةً إلى عالم الذَّرّ([18]).

ولكنّ إثبات ذلك يحتاج إلى بحثٍ مستقلّ؛ إذ نحن نجد في الروايات مفهوم «الأظلّة» أيضاً. وقد يُقال: إن عالَم الأظلّة مختلفٌ عن عالَم الذَّرّ. وعلى أيّ حالٍ لا نستطيع أن نستفيد من هذا البيت شيئاً يُعتَدّ به بالنسبة إلى موقف الرضيّ من فكرة «عالم الذَّرّ».

 

الشريف المرتضى(436هـ)

يتبع الشريف المرتضى أستاذه في هذا الموضوع حَذْوَ النعل بالنعل، ويتَّخذ مواقف تشبه ما قاله أستاذه من قَبْل، حيث يُسْأَل المرتضى في رسائله: «ما تقول في الأخبار التي رُويَتْ من جهة المخالف والموافق في الذَّرّ، وابتداء الخلق على ما تضمّنت تلك الأخبار، هل هي صحيحةٌ أم لا؟ وهل لها مخرجٌ من التأويل يطابق الحقّ؟»([19]).

يبدأ المرتضى الجواب عن هذا السؤال بذكر مقدّمةٍ جديرة بالاهتمام، وهي: «إنّ الأدلّة القاطعة إذا دلَّتْ على أمرٍ وجب إثباتُه والقطع عليه، وأن لا يرجع عنه بخبرٍ محتمل، ولا بقولٍ معرَّضٍ للتأويل، وتحمل الأخبار الواردة بخلاف ذلك على ما يوافق تلك الدلالة ويطابقها، وإنْ رجعنا بذلك عن ظواهرها. وبصحّة هذه الطريقة نرجع عن ظواهر آيات القرآن التي تتضمَّن إجباراً أو تشبيهاً».

يشير المرتضى هنا إلى نقطةٍ مهمة في منهج فهم النصوص الدينيّة، ألا وهو معضلة التعارض بين العقل والنصّ؛ أو التعارض بين النصّ القطعي وظاهر النصّ. وهذا من البحوث القديمة، التي كانت مطروحةً بين العلماء، وخاصّة الأصوليّين منهم. وبالنسبة إلى تقديم النصّ القطعي (من الناحية الدلالية) على ظاهر النصوص لا نجد خلافاً ظاهراً بين العلماء؛ لأنّه مطابق للسيرة العقلائية في التعامل مع النصوص التي هي المعيار في فهمها، وإنْ كان بعضُهم شكَّك في أصل إمكان القطع بالدلالة، معتبراً أنّ فهم النصوص لا يرقى إلى مستوى الظهور من الناحية الدلالية.

وأما عند تعارض العقل مع النصّ ـ وهو أحد العوامل الأساسية في النزاع بين الاتّجاه الأخباري والاتّجاه الأصولي عبر تاريخ الفكر الإسلامي([20]) ـ فالشريف المرتضى، ككثيرٍ من الأصوليّين، يرجِّح جانب العقل على النصّ، ويحكم بضرورة تأويل النصّ لحساب العقل.

بعد هذه المقدّمة يذكر القضايا العقلية ـ من وجهة نظره ـ التي يراها متعارضةً مع الأخبار التي تتحدَّث عن فكرة «عالم الذَّرّ»:

1ـ إنّ الله تبارك وتعالى لا يكلِّف إلاّ البالغين كاملي العقول.

2ـ إنّ الله سبحانه لا يخاطب إلاّ مَنْ يفهم عند الخطاب.

وينتج من ذلك أن الذين كانوا في عالم الذَّرّ، وخاطبهم الله، وأخذ منهم الميثاق، لا بُدَّ أن يكونوا بالغين كاملي عقولٍ، ويفهمون عند الخطاب؛ إذ لا يحسن خطاب مَنْ لا يفهم، ولا أثر لإقراره أو إنكاره. ونتيجة ذلك نصل إلى نقطةٍ مهمة، وهي: لزوم استذكار هذه القضية ولو عند بعض الناس. إذا افترضنا أن الذَّرّ كانوا كاملي عقولٍ، وكانوا يفهمون الخطاب، يجب أن يستذكر الإنسان تلك القضية المهمّة التي تفترض أن يكون لها وقعٌ في النفوس، مع أنّه لا يستذكره أحدٌ منّا، مع استذكار الكثير من القضايا العادية في حياتنا.

أما القول بأن الإنسان لا يستذكر الكثير من الأمور التي حصلت له في طفولته فلا يضرّ بهذه الدعوى؛ إذ عقل الإنسان في طفولته غير كاملٍ، ولكنّ المفروض أنّ الذَّرّ كانوا كاملي العقول، والإدراكُ شأنٌ من شؤون الروح والعقل.

وأمّا الاستناد إلى تخلُّل الموت أو العدم في تبرير هذا النسيان فغير موفَّقٍ أيضاً؛ إذ بعد فرض كمال العقل لا يوجب تخلُّل العدم أو الموت النسيان بجميع ما جرى؛ كما أن تخلُّل الموت والسكر ونحوه لا يوجب النسيان لكلّ شيءٍ عند الإنسان؛ بل نستطيع أن نضيف بأنّ تخلُّل العدم يوجب نقض الغاية من أخذ الميثاق في عالم الذَّرّ؛ إذ بعد فرض عدم تلك الذَّرّة فما هو الموجب للاحتجاج على البشر في هذه الدنيا؟! لأنه لا تبقى أيّ علاقةٍ بين البشر في هذه الدنيا وتلك الذَّرّة في عالَمٍ آخر؟

إذن، بعد تعارض ظاهر هذه الأخبار مع القضايا العقلية الواضحة ـ عند المرتضى ـ لا نستطيع أن نقبل ظاهر هذه الأخبار؛ فإما أن نحكم ببطلان هذه النصوص ووَضْعها؛ وإما أن نلتمس لها تأويلاً آخر لا يخالف تلك القضايا العقلية، مثل: التأويل الذي يذكره لقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّك مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (الأعراف: 172).

فلكي نصل إلى رؤيةٍ مكتملة عن موقف الشريف المرتضى تجاه هذه الفكرة لا بُدَّ أن نذهب إلى كلماته حول هذه الآية وتأويلها، حيث يتحدَّث بتفصيلٍ أكثر عن هذا الموضوع في أماليه، ويبدأ كلامه هكذا: «وقد ظنّ بعضُ مَنْ لا بصيرة له، ولا فطنة عنده، أنّ تأويل هذه الآية أنّ الله تعالى استخرج من ظهر آدم× جميع ذرّيته، وهم في خلق الذَّرّ، فقرَّرهم بمعرفته، وأشهدهم على أنفسهم. وهذا التأويل ـ مع أنّ العقل يُبطله ويُحيله ـ ممّا يشهد ظاهر القرآن بخلافه»([21]).

يعتبر المرتضى هذا التفسير للآية مخالفاً للعقل من جهةٍ؛ ومن جهةٍ أخرى مخالفاً لظاهر القرآن الكريم. ويستدلّ لإثبات كلامه بشواهد أربعة، وهي:

الشاهد الأوّل: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّك مِنْ بَنِي آدَمَ﴾. تتحدّث هذه الآية عن بني آدم، لا آدم نفسه، بينما حَسْب الروايات التي وصلتنا حول عالَم الذَّرّ كانت القضية تخصّ آدم، والله تبارك وتعالى أخرج ذرّيته من ظهره هو. فالروايات مخالفةٌ في هذه النقطة للآية.

الشاهد الثاني: ﴿مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ﴾. استخدمت الآية ضمير «هُمْ» الذي يرجع إلى بني آدم، وهو شاهدٌ آخر للتأكيد على عدم اختصاص هذه القضيّة بآدم.

الشاهد الثالث: ﴿مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيتَهُمْ ﴾. هنا أيضاً استُخدم في الآية ضمير «هُمْ» الذي يرجع إلى بني آدم.

الشاهد الرابع: بتصريح هذه الآية والآية التي تأتي بعدها فإن الغَرَض من هذا الإشهاد أوّلاً: ﴿أَنْ تَقُولُوا يوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾؛ وثانياً: ﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَك آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وكنَّا ذُرِّيةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (الأعراف: 173)، فالغرض هو إتمام الحجّة، وعدم الاعتذار بشرك الآباء، وهذا يقتضي أن الآية لا تتناول وُلْد آدم× لصلبه؛ إذ إن آدم كان موحِّداً، فهذه الآية تختصّ ببعض ذرّية آدم×، لا كلّهم، خلافاً لما نجده في بعض الروايات.

والشواهد الثلاثة الأولى كلُّها راجعةٌ إلى نقطةٍ واحدة، وهي عدم اختصاص القضية الواردة في الآية بآدم×؛ لأنّها تتحدَّث عن بني آدم. وحاول بعضهم الجواب عن هذا الإشكال بأن الآية هنا فصَّلتْ ما أجملَتْه الروايات، فسيأتي مزيدُ توضيحٍ لذلك في المرحلة الثانية.

وأما الشاهد الرابع فلا يمكن الاعتماد عليه؛ إذ الآية تذكر غرضان لهذا الإشهاد، ويعطف بينهما بـ «أو»، ونحن نعلم أن التركيب الفصلي هذا يقتضي صحّة القضية مع صحّة واحدةٍ منهما، فلا موجب لكي يصدق كلا الغرضين في جميع الموارد، بل يكفي صدق واحدٍ منهما في بعضها، وصدق الآخر في بعضها الآخر، فعدم صحة الغرض الثاني بالنسبة إلى ولد آدم× لصلبه لا يمنع من عموميّة هذا الإشهاد؛ إذ يكفي صدق الغرض الأوّل في حقّهم. إذن لا يمكن الاستناد إلى ذلك لإثبات اختصاص الآية ببعض ذرّية آدم×.

ثمّ يتناول المرتضى الشواهد العقلية لبطلان هذه الفكرة، مثلما ذكر أستاذه المفيد من قَبْل، ثمّ يضيف نقطةً في الجواب على فرضية النسيان الذي طرحها موافقو فكرة «عالَم الذَّرّ»؛ إذ يعتبرها منافيةً للغرض الذي ذكر في الآية لهذا الإشهاد.

وتوضيحُ ذلك: لقد جاء في بعض الروايات أنّ الناس نسُوا الموقف. على سبيل المثال: جاء في كتاب «المحاسن» عن زرارة: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ× عَنْ قَوْلِ اللهِ: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّك مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾؟ قَالَ: ثَبَتَتِ الْمَعْرِفَةُ فِي قُلُوبِهِمْ، ونَسُوا الْمَوْقِفَ. سَيذْكرُونَهُ يوْماً مَا، ولَوْلاَ ذَلِك لَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَنْ خَالِقُهُ، ولاَ مَنْ رَازِقُهُ»([22]). واعتمد أنصار نظرية عالَم الذَّرّ على مثل هذه الروايات للجواب عن الإشكال الذي طرحه أمثال: الشيخ المفيد والشريف المرتضى، حيث اعتبروا عدم استذكار الإنسان هذه القضية دليلاً على عدم صدقها.

ويتصدّى السيد المرتضى هنا لهذا الجواب، ويعتبره ناقضاً للغرض المذكور في الآية؛ إذ الغرض من هذا الإشهاد ـ بتصريح الآية ـ هو صدُّ باب اعتذار الناس بالغفلة عن يوم القيامة، أو بشرك آبائهم، مع أننا لو قلنا بجواز النسيان سقطَتْ الحجّة وزالت.

بل نستطيع أن نضيف: إنّ الإنسان لم يكن مقصِّراً في هذا النسيان، بل كان لا بُدَّ أن يكون بإرادةٍ من الله تبارك وتعالى، وإلاّ لما نسيه البشرُ كلُّهم، فإذن لا يمكن لَوْم الإنسان بسبب هذا النسيان، بأن نقول: الإنسان هو الذي نسي هذه القضية بتقصيرٍ منه، والحجّةُ ما تزال تامّةً، بل النسيان كان بفعلٍ إلهيّ، فالحجّة في فرض النسيان تكون ساقطةً. وسيأتي مزيدُ توضيحٍ وتكميلٍ لهذه الفرضية في المرحلة الثانية.

بعد أن أشكل المرتضى على هذا التأويل للآية ينتقل إلى التأويل الذي يراه صحيحاً في فهم الآية، ويذكر في ذلك احتمالين:

الاحتمال الأوّل: أن نقول بأن الآية لا تشمل جميع ذرّية آدم×، وإنما عنَتْ جماعةً من ذرّية آدم، خلقهم الله تبارك وتعالى، وبلّغهم وأكمل عقولهم، وقرَّرهم على ألسن رسله بمعرفته وما يجب من طاعته، فأقرّوا بذلك وأشهدهم على أنفسهم به؛ لئلاّ يقولوا يوم القيامة: إنّا كنّا عن هذا غافلين، أو يعتذروا بشرك آبائهم.

ثمّ يشير إلى إشكالٍ، ويجيب عنه، وهو أن بعضهم ظنّ أن كلمة «الذُّرّية» لا تطلق في اللغة إلاّ على مَنْ لم يكن كاملاً عاقلاً. ويجيب عن هذا الإشكال بأنّنا نستطيع أن نَصِفَ جميع البشر بأنّهم ذرّية آدم×. ثمّ يستشهد بآيةٍ قرآنية لتأييد كلامه، حيث جاء: ﴿رَبَّنَا وأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ومَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وأَزْوَاجِهِمْ وذُرِّياتِهِمْ إِنَّك أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكيمُ﴾ (غافر: 8)، وتعتبر الآية الذُّرّية من الصالحين، ونحن نعلم أن لفظة الصالح لا يطلق إلاّ على العاقلين البالغين، فكلمة «الذُّرّية» لا تختصّ بغير البالغين.

وحَسْب هذا التفسير تكون هذه القضية الواردة في الآية قضيةً واقعية تحقَّقت في الخارج، ولكنّه يخصِّصها بفئةٍ معيَّنة، ولا تشمل جميع البشر، الأمر الذي قد يُقال بأنّه مخالفٌ لظاهر القرآن الكريم.

الاحتمال الثاني: والتأويل الثاني يشبه ما قاله أستاذه المفيد من قَبْل، بأن نقول: إن الآية هنا لا تريد أن تتحدّث عن قضيةٍ حقيقية وقعَتْ في الخارج، وإنّما استخدمَتْ سبيل المجاز والتمثيل؛ لكي تقول بأن الله تبارك وتعالى عندما خلق البشر، وركّبهم تركيباً يدلّ على معرفته، ويشهد بقدرته، ووجوب عبادته، وأراهم العِبَر والآيات والدلائل في أنفسهم وفي غيرهم، كان بمنزلة المُشْهِد لهم على أنفسهم، وكانوا في مشاهدة ذلك ومعرفته وظهوره فيهم على الوجه الذي أراده تعالى، وتعذّر امتناعهم منه، وانفكاكهم من دلالته بمنزلة المُقِرّ المعترف؛ وإنْ لم يكن هناك إشهادٌ، ولا اعترافٌ على الحقيقة.

ثمّ يستشهد بشواهد قرآنية، مثل: قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ (فصّلت: 11)، وإنْ لم يكن منه تعالى قولٌ على الحقيقة، و لا منهما جوابٌ‏.

أو ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ (التوبة: 17). ونحن نعلم أنّ الكفّار لا يُقِرُّون بكفرهم بلسانهم، ولكنْ لما ظهر ذلك منهم على طريقةٍ لا يمكن لهم إنكاره كانوا بمنزلة الشاهدين والمُقِرِّين بذلك على أنفسهم.

ثمّ يشير إلى بعض الشواهد اللُّغَوية، مثل: «جوارحي تشهد بنعمتك، وحالي معترفةٌ بإحسانك»؛ و«سَلْ الأرض: مَنْ شقّ أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؟ فإنْ لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً»، فكلُّها تدلّ على وقوع مثل هذه التعابير في اللغة العربية.

 

الشيخ النجاشي(450هـ)

أحمد بن عليّ النجاشي أحد العلماء البارزين في مدرسة بغداد الإماميّة أيضاً، ومصنَّفه في الرجال يعتبر اليوم من المصادر الأساسية لعلم الرجال عند الإماميّة. وقد تتلمذ النجاشي على يد الشيخ المفيد والشريف المرتضى والسيّد الرضيّ. ولا نجد في آثاره مصنَّفاً في علم الكلام، ولكنْ بما أن المواقف الكلامية لعلماء الرجال كانت تؤثِّر على موقفهم من الرواة فقد نستطيع أحياناً التكهُّن بمواقفهم الكلاميّة عبر مواقفهم تجاه الرواة. وفي هذا الموضوع نستطيع أن نشير إلى نصٍّ للنجاشي في رجاله، حيث يقول النجاشي في ترجمة عبدالرحمن بن كثير الهاشمي: «عبد الرحمن بن كثير الهاشمي مولى عباس بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس، كان ضعيفاً، غمز أصحابنا عليه، وقالوا: كان يضع الحديث. له كتابُ فضل سورة ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾. أخبرنا أحمد بن عبد الواحد قال: حدَّثنا عليّ بن حبشي قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن لاحق قال: حدَّثنا عليّ بن الحسن بن فضّال، عن عليّ بن حسّان، عن عمّه عبد الرحمن بن كثير، به. وله كتاب صلح الحسن×. أخبرنا محمد بن جعفر الأديب في آخرين قال: حدَّثنا أحمد بن محمد قال: حدَّثنا محمد بن مفضّل بن إبراهيم بن قيس بن رمانة الأشعري، عن عليّ بن حسان، عن عمّه عبد الرحمن بن كثير، بكتاب الصلح. وله كتاب فدك. وكتاب الأظلّة كتابٌ فاسدٌ مختلط»([23]).

يشير النجاشي في ضمن كتب عبدالرحمن إلى كتاب الأظلّة، معتبراً إياه كتاباً فاسداً مختلطاً. وكما نعلم اعتبر بعضهم عالَم الأظلّة نفس عالَم الذَّرّ، أو على الأقلّ ثمّة اشتراك فيما بينهما. من هنا قد نستطيع أن نتكهَّن من موقفه هذا تجاهَ كتاب الأظلّة أن موقفه سلبيٌّ إزاء فكرة عالَم الذَّرّ. وتجدر الإشارة إلى أنّنا نجد نقد كتاب الأظلّة عند الآخرين من علماء الرجال أيضاً، فعلى سبيل المثال: يقول الكشّي في ترجمة عليّ بن حمّاد الأزدي: «محمد بن مسعود قال: عليّ بن حماد متَّهمٌ، وهو الذي يروي كتاب الأظلّة»([24])، وكأنّ فساد كتاب الأظلّة كان واضحاً عندهم.

 

الشيخ الطوسي(460هـ)

كان الشيخ الطوسي، الملقَّب بشيخ الطائفة، من كبار علماء بغداد. وقد هاجر في أواخر عمره إلى النجف بعد سقوط بغداد، وأسّس حوزة النجف العلمية. وقد ألّف الطوسي عدّة كتبٍ في مجالاتٍ مختلفة، ومنها: علم الكلام. كذلك يُعتَبَر كتابه التبيان في تفسير القرآن من المصادر الأساسيّة للوصول إلى آرائه في مختلف المسائل.

يتحدَّث الطوسي في سياق التفسير للآية (172 من سورة الأعراف) عن فكرة عالَم الذَّرّ، ويتَّخذ موقفاً يشابه السابقين عليه من علماء بغداد ([25]).

يُصرّ الطوسي أيضاً على أن الآية لا تشمل جميع بني آدم×، وإنّما تخصّ بعضهم؛ ويستشهد لإثبات ذلك بشاهدين:

الشاهد الأوّل: لا تشمل الآية ولد آدم× من صلبه؛ إذ تقول: ﴿وإِذْ أَخَذَ رَبُّك مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيتَهُمْ﴾، فاستخدم بني آدم بَدَلاً من آدم، وهذا يدلّ على خروج ولد آدم من صلبه على الأقلّ من هذه الآية.

الشاهد الثاني: وكذلك الآية لا تشمل أولاد المؤمنين الذين لم يكُنْ في سلسلة آبائهم مشركٌ؛ إذ جاء في الآية: ﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَك آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وكنَّا ذُرِّيةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾.

إذن، لا تشمل الآية جميع البشر، وتختصّ ببعض ذرّية آدم×.

ثمّ يتعرّض إلى نقد الرواية التي تتحدَّث عن إخراج الذُّرّية من ظهر آدم×، وأخذ الميثاق منهم، ويبدأ نقده هذا من أسانيدها، ويعتبر الرواي لها سليمان بن بشّار الجهني مجهولاً.

ثمّ يشير إلى مخالفة هذه الرواية للقرآن الكريم.

ولا نجِدُ في هذه المداخلات إشكالاً جديداً للشيخ الطوسي، وإنّما يذكر المداخلات التي كان يذكرها علماء بغداد من قَبْل. لكنْ في مخالفته لفرضية النسيان التي كان يطرحها أنصار فكرة عالَم الذَّرّ نجد تحليلاً أكثر تفصيلاً عند الشيخ الطوسي، محاولاً التأكيد على بُعْد واستحالة هذه الفرضية.

قد يُقال في الدفاع عن فرضية النسيان بأن هذه القضية قد حدَثَتْ في زمانٍ بعيد جدّاً، وكذلك كانت في مدّةٍ قصيرة من الزمان، لذلك نَسِيَها الإنسان كما ينسى الكثير من الأمور في حياته.

ويتصدّى الشيخ الطوسي للجواب عن هذا الإشكال، ويشير إلى نقطةٍ مهمة جدّاً، حيث يذهب ليحلِّل آلية الحافظة عند البشر، ويقول: «إنّما يجوز أن ينسى ما لم يتكرَّر العلم به، ولايشتدّ الاهتمام به؛ فأمّا الأمور العظيمة الخارقة للعادة فلا يجوز أن ينساها العاقل«([26]).

ثمّ يشير إلى مثالٍ يناسب عصره، ويقول: لو دخل واحد منّا بلاد الزنج، ورأى الأفيلة ولو يوماً واحداً في حياته، لا يجوز أن ينسى ذلك حتّى لا يذكره أصلاً، مع شدّة اجتهاده واستذكاره.

ثمّ يخطو خطوةً إلى الأمام ويقول: «ولو جاز أن ينساه واحدٌ لما جاز أن ينساه الخلق بأجمعهم». ونستطيع أن نوضِّح ما قاله الشيخ الطوسي هنا مع حساب الاحتمالات، بأن نقول: بعد أن فرضنا أنّ الجميع كانوا حاضرين في هذه الواقعة، ونفترض أن احتمال نسيان كلّ واحد منهم ½، إذن سيكون احتمال نسيان الجميع لهذه الواقعة = n(½) (n = جميع البشر)، وهذا يميل إلى الصفر، ولا يلتفت العقل البشري إلى هذا الاحتمال الضئيل جدّاً، ويولِّد للإنسان ما يسمّيه السيد الصدر (اليقين الذاتي).

بل حتّى لو كان احتمال النسيان أكثر بكثيرٍ من ½، بأن نقول: إن احتمال النسيان هنا بسبب طول العهد وقصر المدّة و…، وكان كبيراً جدّاً، مع ذلك عندما نحسبه في حساب الاحتمالات فإن احتمال نسيان الجميع لهذه الواقعة سوف يكون ضئيلاً جدّاً.

ثمّ يشير إلى مثالين؛ كي يؤكِّد صحّة كلامه: المثال الأوّل: هو أهل الآخرة، حيث يذكرون أحوالهم في هذه الدنيا مع طول العهد وتخلُّل الموت؛ والمثال الثاني: هو أصحاب الكهف، حيث كانوا نائمين لمئات السنين ولكنَّهم كانوا يستذكرون أحوالهم قبل نومهم.

ويشير الشيخ الطوسي أيضاً، كأستاذه، إلى مسألة التناسخ، ويعتبر أن القبول بفكرة «عالَم الذَّرّ» بالطريقة التي ذُكِرَتْ في بعض الروايات يؤدّي إلى قبول التناسخ، وهو يقول: «ولو جوَّزنا ذلك للزمنا مذهب التناسخ، وأن الله كان قد كلَّف الخلق فيما مضى، وأعادهم؛ إمّا لينعِّمهم؛ أو ليعاقبهم، ونسوا ذلك. وذلك يؤدّي إلى التجاهل»([27]).

 

المرحلة الثانية: عناصر موقف علماء بغداد الإماميّة من فكرة عالَم الذَّرّ، نقدٌ وتحليل

بعد هذا العَرْض التاريخي لموقف علماء الإمامية في بغداد تجاه فكرة «عالَم الذَّرّ» رأينا أن موقفهم تجاه هذه الفكرة كانت قريبةً جدّاً، وكلّ واحدٍ منهم كان يسعى لإثبات هذا الاتّجاه بشواهد وأدلّة مختلفة. وبشكلٍ عام نستطيع أن نعتبر علماء مدرسة بغداد من المنكرين لفكرة «عالَم الذَّرّ» بوصفها واقعةً وقعَتْ في عالَمٍ قبل هذه الدنيا التي نعيش فيها، وحضر فيها جميع البشر بأرواحهم، وأخذ الله تبارك وتعالى منهم الميثاق؛ إذ يرَون ذلك مخالفاً للأدلة السمعية والعقلية، معتبرين ذلك في سياق التناسخ، وفسَّروا هذه القضية؛ إما على أنّها قضيةٌ تمثيلية، تريد أن تقول: إن الآيات الإلهيّة في الآفاق والأنفس تسدّ باب الاعتذار بالغفلة أو بشرك الآباء؛ وإمّا على أنها قضيّةٌ تخصّ جماعةً محدودة من الذين خلقهم الله قبل هذه الدنيا، وأكمل عقولهم، وقرَّرهم على ألسن رُسُله بمعرفته، فأقرّوا بذلك.

في المرحلة الثانية سوف نحاول أن نستخرج العناصر الأساسية لموقف علماء مدرسة بغداد تجاه فكرة «عالَم الذَّرّ»، ونرصد الإجابات التي قدَّمها أنصار هذه الفكرة، محاولين تقييمها؛ للوصول إلى أفضل تقريبٍ لهذا الموضوع.

 

العنصر الأوّل: الضعف السندي والنقد الصدوري لهذه الروايات

كما رأينا فإن أحد الإشكالات الأساسية لعلماء مدرسة بغداد تجاه الأخبار الواردة حول عالَم الذَّرّ يرجع إلى النقد الصدوري والضعف في أسانيد هذه الروايات. ورأينا أن الشيخ المفيد قد حكم بصحّة روايةٍ واحدة من هذه الروايات؛ والشيخ الطوسي حكم بضعف الرواية التي تحكي عن عالَم الذَّرّ؛ استناداً إلى جهالة سليمان.

لكنْ في المقابل، قد يعتبر أنصارُ هذه الفكرة هذه الروايات متواترةً، بل فوق التواتر([28]). فعلى سبيل المثال: نجد أن السيد نعمة الله الجزائري يرى روايات هذا الباب أكثر من خمسمئة رواية، بينها: صحيحٌ وحَسَنٌ وموثَّق([29])؛ وكذلك يكتب الطهراني رسالةً في تفسير الآية (الأعراف: 172)، وقد أشار فيها إلى 19 آية و130 رواية حول عالم الذَّرّ والميثاق الأوّل، معتبراً أربعين منها صحيحة السند([30]).

ويبدو لي أنّ أحد أسباب الاختلاف في عدد الرويات هنا هو الاختلاف في فهم الروايات المتقاربة مع هذا الموضوع؛ فثمّة روايات تصرِّح بفكرة عالَم الذَّرّ، وهي روايات محدودة؛ وثمّة روايات أخرى لا تتحدَّث صراحةً عن عالَم الذَّرّ، ولكنْ قد يُفْهَم منها أنها ناظرةٌ إلى عالَم الذَّرّ أو مؤيِّدةٌ له. إذن البتّ في عدد روايات هذا الباب بحاجةٍ إلى دراسة جميع الروايات المتقاربة مع هذا الموضوع، مثل: روايات عالَم الأظلّة، والميثاق، و…

الخلاف الثاني الذي يؤثِّر في تقييم الروايات هنا اختلافُ الباحثين في معايير النقد السندي؛ إذ نعلم أن العلماء منذ القِدَم يختلفون فيما بينهم في معايير النقد السندي، ومدى صحّة واعتبار الروايات؛ بين مَنْ يقبل تقريباً بجميع الروايات؛ ومَنْ يتشدّد كثيراً في هذا الموضوع، بحيث لا يستطيع أن يقبل إلاّ برواياتٍ معدودة. إذن تقييم أسانيد الروايات في هذا الباب يختلف من مبنىً إلى آخر.

الأمر الآخر الذي يحظى بأهمِّيةٍ بالغة هنا هو موضوع التواتر؛ فإنّ المباني في حقيقة التواتر، وبالتالي عدد الروايات التي يجب أن يكتمل كي نحكم بتواتر موضوعٍ ما، مختلفةٌ تماماً؛ بين مَنْ يتعامل مع موضوع التواتر تعاملاً تعبّدياً، ويتّجه إلى تحديد عددٍ معين لحصول التواتر، استناداً إلى بعض النصوص الدينية([31])؛ ومَنْ يراه أمراً عقلائيّاً، يفسِّره على حساب الاحتمالات، الأمر الذي يختلف من موضوعٍ إلى موضوعٍ آخر، حيث تؤثِّر العناصر الداخلية والخارجية المختلفة في حصول الاطمئنان أو عدم حصوله عند الإنسان، فمثلاً: قد يحكم بتواتر أمرٍ نتيجة ورود خمسين رواية فيه، ولا نستطيع أن نحصل على التواتر في موضوعٍ آخر مع وجود أكثر من مئة رواية.

والأمر الثاني: نوع التواتر الذي يُدَّعى في المقام؛ فإن المتأخِّرين ميَّزوا بين ثلاثة أنواع للتواتر. والانتباه لهذه الأنواع الثلاث وميِّزاتها ضروريٌّ جدّاً؛ كي لا نقع في أخطاء في الاستدلال. وبقولٍ موجَز: هناك ثلاثة أنواع للتواتر([32]):

التواتر اللفظيّ: إذا تواتر نقلُ لفظٍ معين، بحيث حصل اليقين بصدوره بعَيْنه، يُسمَّى هذا النوع من التواتر بالتواتر اللفظي. قد وقع خلافٌ بين علماء المسلمين في وجود هذا النواع من التواتر في الأخبار([33])، ونطاقه. ولكنْ على أيّ حالٍ هذا النوع من التواتر خارجٌ عن محلّ بحثنا؛ إذ لا نجد مَنْ يدَّعي هذا النوع من التواتر في أخبار هذا الباب.

التواتر المعنويّ: بأن تتطابق الأخبار في المضمون والمحتوى، وإنْ اختلفَتْ الألفاظ، سواء كانت الدلالة تضمُّنيةً أو التزامية، ويحصل يقينٌ بصدور هذا المضمون.

التواتر الإجماليّ: بأن نضع يدَنا على مجموعةٍ من الأخبار لا تلتقي في مدلولٍ مطابقيّ أو تضمُّني أو التزاميّ، وغاية ما في الأمر أنّنا نرى آخذاً بعين الاعتبار حساب الاحتمالات بأنّ واحداً منها على الأقلّ قد صدر واقعاً، كما لو لاحظنا جميع الروايات الموجودة في الكافي فإننا نقطع بعدم وَضْع جميع هذه الروايات، فلا بُدَّ أن تكون بعض هذه الروايات ـ ولو رواية واحدة ـ صادرةً واقعاً، ولذلك سُمِّي هذا النحو من التواتر بالتواتر الإجمالي؛ إذ يقوم على العلم الإجماليّ بصدور خَبَرٍ ضمن مجموعة أخبار. وهو تعارضٌ لم يتعرَّض له الأصوليّون والمحدِّثون القدماء، بل وَجَدْناه عند المتأخِّرين، ولا سيَّما بعد الشيخ الخراساني(1329هـ)، الذي رُبَما يُعَدّ من أقدم الذين نظَّروا لفكرة التواتر الإجمالي.

إذن، مَنْ يدّعي التواتر في أيّ مجالٍ لا بُدَّ أن يعيِّن نوع التواتر المدَّعى؛ إذ تختلف النتائج بينها، وكذلك طريقة الاستدلال على كلٍّ منها.

أما تحقُّق التواتر اللفظي في هذه الروايات فبعيدٌ جدّاً؛ وأما التواتر المعنوي، على فرض إثبات معنىً واحد مشترك بين جميع هذه الأخبار، وتحقُّق سائر الشروط للتواتر، فسيكون ثابتاً، ولكنْ سوف تكون النتيجة ثبوت المعنى المشترك في جميع هذه الأخبار، ومنها: الخبر الذي حكم المفيد بصحّته. وبناءً على ذلك لا نستطيع أن نثبت أكثر من أصل خروج الذَّرّ من صلب آدم×، دون أن يلزم من ذلك حياتهم و…، الأمر الذي لا يخالفه الشيخ المفيد أيضاً. والإشكال كلّ الإشكال عندهم وقوع هذه القضيّة في عالَمٍ قبل هذه الدنيا، لجميع البشر مع أرواحهم، ولكنْ إخراج أصول الأجسام مثلاً من ظهر آدم×؛ لإظهار الله تعالى قدرته وعظمته، فلا يخالفه المفيد وأمثاله.

وأما التواتر الإجمالي فهو أيضاً لا يستطيع أن يثبت أكثر ممّا يثبته التواتر المعنوي، بل التواتر الإجمالي قد يكون أضعف من التواتر المعنوي؛ إذ نتيجة ثبوت هذا النوع من التواتر نستطيع أن نثبت صدور روايةٍ غير معيَّنة، ورُبَما لذلك شكَّك بعض العلماء في أصل جدوائية هذا النوع من التواتر([34]).

 

العنصر الثاني: تعارض الأخبار مع القرآن الكريم

الإشكال الآخر الذي كان يركِّز عليه أصحاب مدرسة بغداد هو تعارض أخبار عالم الذَّرّ مع القرآن الكريم. وهذا التعارض من جهتين:

الأولى: تصرِّح الآية في صدرها: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَتَهُمْ﴾؛ بينما الروايات تتحدَّث عن نفس آدم×.

الثانية: مقتضى التعليل الوارد في الآية، وهو عدم الاعتذار بشرك الآباء، اختصاصُ هذه القضية ببعض ذرّية آدم×. وهذا أيضاً مخالفٌ لظاهر الروايات، الذي يفيد التعميم.

وكما أشَرْنا سابقاً فإن الجهة الثانية لا تثبت الاختصاص؛ لأن هذا التعليل معطوفٌ بـ «أو»، ممّا يعني كفاية صدق أحد التعليلين: التعليل الأوّل أو التعليل الثاني.

وأما الجهة الأولى من المعارضة فبعضهم حاول أن يجيب عنها بأنّه لا معارضة بين الروايات والآية أساساً، بل غاية ما في الأمر أن الآية فصَّلت هذه النقطة، بينما أجملتها الروايات؛ فقد أخرج الله سبحانه في البداية ولد آدم× من صلبه من ظهره، ومن ثمّ أخرج ذرّية ولد ولد من آدم من ظهورهم، وهكذا، ولكنْ بما أنّ الجميع في الحقيقة يرجع إلى آدم× اكتفَتْ الروايات في توصيف هذا المشهد بذكر آدم×، بينما فصّلت الآية في ذلك، وقالت: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَتَهُمْ﴾. إذن لا يوجد تعارضٌ بين الآية والروايات([35]).

ولكنْ لا أجد هذا الجواب تامّاً؛ إذ لا يتناسب مع ظاهر الآية. فعندما تعبِّر الآية بـ ﴿ظُهُورِهِمْ﴾ فإن الظاهر منها أنّ الذرّية التي أخذ الله سبحانه من ظهورهم لهم جوارح، منها: الظهر، وهذا لا يتناسب مع كونهم بأنفسهم ذَرّاً، حَسْب التفسير الذي قدَّمه صاحب هذا الجواب لنا. إلاّ أن نقول: إن الذَّرّة كانت على شكل الإنسان، لها جوارح تشبهه، ولكنْ في حجمٍ صغيرٍ جدّاً. ولا أدري مدى صحّة هذا الاحتمال.

ويجب أن أضيف أنّ هذا لا يوجب بطلان الروايات بسبب المخالفة للقرآن الكريم؛ لأن المعيار في طرح الروايات هو ثبوت المعارضة، وهذا لا يثبت المعارضة هنا، إلاّ إذا أثبتنا وحدة الواقعة التي تحدَّثت عنها الروايات والواقعة التي تصفها لنا الآية. وهذا لم يثبت هنا. ولرُبَما كانت الروايات في مقام بيان واقعةٍ حدثَتْ في عالَمٍ قبل هذه الدنيا لجميع بني آدم×، وكانت الآية في مقام بيان واقعةٍ أخرى، إلاّ أن يُقال: إن وحدة السياق، مثل: مفهوم الميثاق و…، تشير إلى وحدة الواقعتين.

 

العنصر الثالث: حمل النصوص على الاستعارة والمجاز

يفسِّر الشيخ المفيد وتلامذته الآية (الأعراف: 172) على أنّها تعبيرٌ مجازي تمثيلي، بل يحمل الشريف المرتضى الروايات على هذا التفسير أيضاً. وبناءً على هذا التفسير ليست النصوص الدينية في مقام بيان واقعةٍ حقيقية حدثَتْ في الخارج قبل هذه الدنيا مثلاً، وإنّما هي تعبيرٌ أدبي لبيان كفاية الآيات الإلهيّة في الآفاق والأنفس، بما يغلق باب الاعتذار أمام الناس بالغفلة أو شرك الآباء.

لكنّ بعضهم أشكل على هذا التفسير، واعتبره خروجاً عن ظاهر النصّ. ومع شهادة الروايات المتواترة على وقوع ذلك لا مجال لتأويلها، والحمل على الاستعارة والمجاز([36]).

ولكنّ هذا الإشكال مبنيٌّ على قبول تواتر هذه الروايات، وقد مضى الحديث عنه.

وإضافةً إلى ذلك، حتّى على فرض قبول التواتر المعنوي أو الإجمالي هنا فإنّما يثبت الحدّ الأدنى من مضمون الروايات. وهذا لا يضرّ الشيخ المفيد؛ إذ المفيد أيضاً يقبل بروايةٍ من مجموع هذه الروايات، ولكنه لا يراها منافيةً لما يدّعيه؛ لأنّه حَسْب هذه الرواية كلُّ ما يثبت أصل إخراج الذَّرّ من ظهر آدم× منفكٌّ عن موضوع الإشهاد والإقرار…، وهذا ما لا يخالفه المفيد بنفسه. إذن الاستناد إلى التواتر المعنوي أو الإجمالي في هذه الروايات لا يثبت إشكالاً على ما يدَّعيه المفيد هنا.

والجدير بالذكر أنّ هذا الاستدلال يبتني على الاتّجاه السائد في التعامل مع النصوص الدينية على أساس الأصول اللفظيّة، ويعتبر أصالة الحقيقة أصلاً سارياً في جميع النصوص، فمن هُنا يعتبر حمل النصوص على المجاز والاستعارة محتاجاً إلى القرائن. وهذه الطريقة للتعامل مع النصوص وإنْ كان صحيحاً في نفسه، ولكنّه بحاجةٍ إلى دراسة قضيّةٍ مهمّة قبل ذلك، وهي: هل أن القرآن الكريم نصٌّ أدبيّ، يقوم على اللسان التمثيليّ كسائر الكتب الأدبيّة والرمزيّة؛ أو أن القرآن كتابٌ علميّ تاريخيّ…، يقوم على بيان الحقائق والوقائع؛ أو أنه أمرٌ آخر تماماً؟ فإذا قلنا بأن القرآن كتابٌ جاء لبيان الحقائق والوقائع، مثل كتب التاريخ والفلسفة و…، فرُبَما نستطيع أن نقبل بهذه الطريقة في التعامل معه. ولكنْ إذا قلنا بأن القرآن كتابٌ رمزيّ تمثيليّ، يستخدم الأساليب الأدبية لبيان أغراضه ومقاصده، فيكون الأمر مختلفاً تماماً. وهنا لا نستطيع أن نتحدَّث عن تطبيق أصالة الحقيقة في تفسير الآيات القرآنيّة؛ إذ هناك قرينةٌ عامّة تعمّ جميع النصوص القرآنيّة، وهي كون القرآن رمزيّاً تمثيليّاً.

 

العنصر الرابع: استحالة تقدُّم الروح على الجسم

كما تقدَّم يخالف علماء بغداد فكرة تقدُّم الروح على الجسم مخالفةً جادّة، ويرَوْن ذلك مخالفاً للعقل. ومن هنا أنكروا الروايات التي تشير إلى ذلك، أو التمسوا تفسيراً آخر لها. وبما أنّ الأخبار التي تتحدَّث عن عالَم الذَّرّ قد تقع في هذا السياق فقد عارضوها أشدّ المعارضة؛ إذ اعتبروا أن مفاهيم من قبيل: الخطاب، والإقرار، والإشهاد، وما شابه ذلك، لا تتناسب إلاّ مع كون الذَّرّ لذاوت أرواحٍ عاقلين كاملين، وهذا سوف يؤدّي ـ من وجهة نظرهم ـ إما إلى التناسخ؛ أو تقدُّم الروح على الجسم، وهذا أمرٌ باطل لا يمكن القبول بها، إلاّ بأن نقول: هذه القضية كانت تخصّ جماعةً خلقهم الله تبارك وتعالى قبل هذه الدنيا (مع أجسامهم)، عاقلين كاملين، وأقرّهم وأشهدهم، وهم أقرّوا بذلك. ومن هنا نجد الشيخ المفيد عندما يقبل روايةً واحدة من هذه الروايات يقول: «…يحتمل أن يكون ما أخرجه من ظهره أصول أجسام ذرّيته، دون أرواحهم»؛ كي لا يحصل تقدُّم الروح على الجسم. والدليل الذي ذكروه لاستحالة تقدُّم الروح على الجسم هو عدم استغناء الأرواح عن الآلات، وهي الأجسام.

وهذا الموضوع في الحقيقة قضيّةٌ فلسفية، تحتاج دراستها إلى مقالةٍ مستقلّة. والفلاسفة عادةً يعارضون تقدُّم الروح على الجسم، ولهم أدلّتهم الخاصّة في ذلك؛ وفي المقابل ثمّة رواياتٌ تشير إلى خلق الأرواح قبل الأجساد، فليراجَعْ في محلّه([37]).

 

العنصر الخامس: ثنائيّة التكليف الحَسَن والقبيح

أحد المنطلقات الأساسية في منهج أصحاب مدرسة بغداد في التعامل مع قضية «عالَم الذَّرّ» هي فكرة العدل الإلهيّ، بتفسيرهم الخاصّ له، والذي يتعامل مع الصفات الإلهيّة في ثنائية الحُسْن والقُبْح العقليّين. فبما أنهم يرَوْن تكليف الذَّرّ غير العاقلين وغير البالغين قبيحاً لا يستطيعون القبول بخطاب الذَّرّ في عالَمٍ قبل هذه الدنيا، إلاّ إذا كانوا عاقلين بالغين، وهذا سوف يؤدّي إلى محذوراتٍ أُخَر عندهم، التي سوف يأتي الحديث عنها، ولذلك يعارضون هذه الفكرة من أساسها.

لم أجِدْ من أنصار فكرة «عالَم الذَّرّ» من الإمامية مَنْ يتَّخذ موقفاً سلبيّاً تجاه هذه الفكرة، وكأنّهم قبلوا بهذا المبدأ الذي يعتبر من أصول عقائد العَدْلية، من هنا اتّجهوا لطرح أفكار أخرى، مثل: طرح فكرة «النسيان»، وما شابه ذلك.

وللجواب عن هذا الإشكال نقول: قد نستطيع القول بأنّه لا موجب لفرض البلوغ أو كمال العقل هنا؛ إذ لا نتعامل هنا أساساً مع التكليف، ورُبَما وقع هذا الخلط من مفهوم الخطاب، حيث تصوَّره علماء مدرسة بغداد خطاباً تشريعيّاً، ولذلك شرطوا في ذلك شروط التكليف، من البلوغ والعقل، مع أنّنا لو دقَّقْنا النظر فلن نجد في قضية عالَم الذَّرّ ما يرتبط بالتكليف؛ كي نلزم شروطه، بل رُبَما كان كلّ ما في الأمر إظهار العظمة الإلهيّة بطريقةٍ يذعن الذَّرّ الذي أخرجه الله سبحانه من ظهر آدم أو بني آدم بربوبيّته، وبتعبيرٍ آخر: يكون الأمر من مقولة «الانفعال»، لا من مقولة «الفعل»؛ كي نحتاج إلى تحقُّق شرائط التكليف، كالبلوغ والعقل.

 

العنصر السادس: فرضيّة النسيان

أنصار فكرة «عالَم الذَّرّ» يتصدُّون للجواب عن عدم استذكار أحدٍ لهذه الواقعة من خلال فرضية النسيان؛ استناداً إلى الروايات التي قد صرَّحَتْ بذلك. فعلى سبيل المثال: رواية ابْنِ مُسْكانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ×: «﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّك مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾، قُلْتُ: مُعَاينَةً كانَ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَثَبَتَتِ الْمَعْرِفَةُ، ونَسُوا الْمَوْقِفَ، وسَيذْكرُونَهُ ـ ولَوْلا ذَلِك لَمْ يدْرِ أَحَدٌ مَنْ خَالِقُهُ ورَازِقُهُ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ أَقَرَّ بِلِسَانِهِ فِي الذَّرِّ ولَمْ يؤْمِنْ بِقَلْبِهِ، فَقَالَ اللهُ: ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ﴾…»([38]).

أحد الأجوبة الأساسية التي يقدِّمها علماء مدرسة بغداد هو عدم معقولية نسيان جميع البشر لهذه الواقعة العظمية، مع أن المفروض أنّ الذَّرّ كانوا عاقلين كاملين (راجِعْ العنصر الخامس). وقد استندوا لاستبعاد بل استحالة نسيان الجميع لهذه الواقعة إلى تحليلات ونقاط مهمّة، قد تحدَّثنا عنها في المرحلة الأولى من البحث.

وحاول بعضهم الجواب عن هذا الإشكال بأنّنا لا نستذكر أحوالنا حال كوننا في أرحام أمّهاتنا أو في أيّام الرضاعة، بل لا نستذكر الكثير من الوقائع التي حدثَتْ لنا في حياتنا، ولكنّ النسيان لا يدلّ على الإنكار([39]).

لكنْ لا نرى هذا الجواب صحيحاً، بل نجد الجواب عنه في كلمات علماء بغداد أنفسهم؛ إذ المفروض عندهم أن الإنسان كان عاقلاً كاملاً عندما خاطبه الله سبحانه في عالم الذَّرّ؛ ليصحّ الإقرار والإشهاد، وتتمّ الغاية من وراء هذه القضية، ولكنّ الإنسان في بطن أمّه أو في الرضاعة لا يتمتّع بعقلٍ كامل، ولم يصِلْ بَعْدُ إلى مرحلةٍ من النموّ والكمال لكي يحتفظ في ذاكرته بما يجري معه. فالقياس هنا غير صحيحٍ. وكذلك الحال بالنسبة إلى ما ينساه الإنسان في كِبَره؛ فالإنسان عادةً ينسى قضيّةً لم تكن متكرّرةً أو لم تكن في ظرفٍ خاصّ له وقعٌ في النفوس، ولكنّ هذه الواقعة كانت عظيمةً جدّاً، فكيف نسيها الإنسان مع عظمتها، ونحن نستذكر الكثير من القضايا التي هي أبسط من ذلك بكثيرٍ. بل إنْ قبلنا باحتمال النسيان لفردٍ أو أفراد من البشر فلماذا لا يستذكره أحدٌ من البشر العاديّين؟

وهناك محاولةٌ أخرى للجواب عن هذا الإشكال بأن نقول: مَنْ قال: إنّ أحداً من الناس لم يستذكر هذه القضية، بل هناك مَنْ يستذكر هذه القضية، كلّها أو بعضها، وعلى رأسهم الأئمّة^، حيث أخبرونا عن هذه القضية في أحاديثهم؛ وكذلك نُقل عن بعض العارفين أنه حصل لهم شهودٌ ببعض ما جرى في عالَم الذَّرّ، فلا نستطيع القول بأن الجميع قد نسي هذه القضيّة([40]).

ولكنّ هذا الجواب أيضاً لا يبدو مقنعاً؛ إذ ما يُنقل عن بعض العُرَفاء، بغضّ النظر عن صحّته أو عدم صحّته، قضيّةٌ شخصية لا يمكن تعميمها للآخرين، فالشهود أمرٌ شخصيّ، لا اعتبار له للآخرين. بالإضافة إلى أن الشهود أمرٌ خارج عن إطار عملية الذاكرة في الإنسان، والإشكال ناتجٌ عن تحليل الذاكرة عند الإنسان، واستبعاد عدم استذكار هذه الواقعة مع الذاكرة العاديّة عند البشر.

والاستنادُ إلى ما وَصَلَنا من الروايات ـ بالإضافة إلى أن الكلام هنا في أصل إثبات صدور هذه الروايات، فلا يمكن الاستناد إلى نفس الروايات ـ لا يرفع الاستبعاد هنا باستذكار فئةٍ محدودة من البشر، قياساً لعظمة هذه الواقعة، وكثرة مَنْ حضر فيها (وهم جميع البشر عبر التاريخ منذ خلقة آدم أبو البشر إلى يوم القيامة).

يبدو لي أنّ الطريقة الأفضل للجواب عن ذلك الاستنادُ إلى الفعل الإلهيّ، بأن نقول: هذا النسيان نتج عن إرادةٍ إلهيّة، وهو خارجٌ عن الإطار الطبيعي والعادي لحياة البشر. فالله تبارك وتعالى قادرٌ على كلّ شيء، يستطيع أن يمحو هذه الواقعة من ذاكرة الجميع، وإنْ كانت راسخةً في أعماق ذاكرتهم. وفي الروايات ما يمكن أن يُستفاد منه ذلك، مثل: رواية زرارة، حيث جاء فيها: قلتُ لأبي جعفر×: «أرأيتَ حين أخذ الله الميثاق على الذَّرّ في صلب آدم، فعرضهم على نفسه، كانت معاينة منهم له؟ قال: نعم، يا زرارة، وهم ذَرٌّ بين يدَيْه، وأخذ عليهم بذلك (ذلك) الميثاق بالربوبية [له]، ولمحمّد| بالنبوة، ثمّ كفل لهم بالأرزاق، وأنساهم رؤيته، وأثبت في قلوبهم معرفته، فلا بُدَّ من أن يخرج الله إلى الدنيا كلّ مَنْ أخذ عليه الميثاق؛ فمَنْ جحد مما أُخذ عليه الميثاق لمحمّد× وآله لم ينفعه إقراره لربّه بالميثاق، ومَنْ لم يجحد ميثاق محمد| نفعه الميثاق لربّه»([41]).

وهذه الفرضية معقولةٌ جدّاً، وإنْ كانت النصوص التي جاء فيها هذا المضمون (الاستناد إلى الفعل الإلهي) محدودةً جدّاً، وتعاني من مشاكل من حيث الاعتبار الصدوري وفق معيار النقد السندي. ولكنْ على أيّ حالٍ كفرضيّةٍ معقولة يمكن أن يُستَنَد إليها للجواب عن الإشكال الذي طرحه علماء مدرسة بغداد.

ولكنّ الإشكال الأهمّ هنا انسجامُ أو عدمُ انسجام النسيان مع الغاية التي ذُكرَتْ في الآية، فإذا نسي الإنسان هذه القضية بفعلٍ إلهيّ فكيف يُحْتَجّ عليه؟ وهذا ما نتناوله في العنصر التالي.

 

العنصر السابع: الغاية من وراء عالَم الذَّرّ

الأمر الآخر الذي التفت إليه علماء بغداد هو الغرض من وراء فكرة «عالَم الذَّرّ»؛ إذ نجد في الآية أنّ الغرض من ذلك هو إتمام الحجّة على الناس، وعدم قبول اعتذارهم بالغفلة أو بشرك الآباء. ومن هنا استنتجوا اختصاص هذه القضيّة بفئةٍ خاصّةٍ من الناس. وقد مضى نقدُه.

وكذلك استندوا إلى هذا الغرض في نفي فرضيّة النسيان التي طرحها أنصار فكرة عالَم الذَّرّ للجواب عن الإشكال الذي كان يطرحه علماء مدرسة بغداد، كما سبق.

ونستطيع أن نجيب على أصل عدم معقوليّة النسيان بإرجاعه إلى الله تبارك وتعالى (الإنساء)؛ ولكنّ الإشكال الأهمّ هنا نَقْض الغرض الذي ذُكر في الآية، حيث لا معنى لإتمام الحجّة مع فرض النسيان.

ولكنْ قد يُجاب عن هذا الإشكال بأنّ اللازم في إتمام الحجّة أصل ثبوت المعرفة، وإنْ لم يتذكَّر الإنسان جميع ما جرى له في تلك الواقعة. فالمهمّ حصول المعرفة، وقد صرَّحت بعض الروايات: «ثَبَتَتِ الْمَعْرِفَةُ فِي قُلُوبِهِمْ، ونَسُوا الْمَوْقِفَ». لا أريد أن أستدلّ بهذه الروايات، وإنّما أريد أن أقول: هذا وجهٌ معقول لا يمكن إنكاره بسهولة. فالله تبارك وتعالى قادرٌ أن يخلق في نفوس البشر عبر تلك الواقعة معرفةً فطريّةً راسخة، ولكنْ يمحو عن ذاكرة الإنسان نفس الواقعة وتفاصيلها. ورُبَما يشبه ما نسمِّيه اليوم بالعقل الباطن أو العقل اللاواعي.

 

العنصر الثامن: عدم إمكان تعميم عالَم الذَّرّ

كما تقدَّم كان علماء مدرسة بغداد يصرّون على أنّ هذه القضية لا يمكن أن تعمّ جميع البشر إذا أخذناها بمعناها الحقيقيّ، وإنّما كانت تخصّ فئةً خاصّة من البشر، خلقهم الله تبارك وتعالى، وأكمل عقولهم. وكانوا ينطلقون في هذا التخصيص من منطلقين:

المنطلق النصّي والاستظهاري: إنّ صدر الآية يستخدم تعبير: «بني آدم»، وكذلك تستخدم الآية ضمير الجمع في ذرّيتهم وظهورهم…، فاستنتجوا من ذلك أن هذه الواقعة لم تكن تشمل ولد آدم من صلبه.

وكذلك تصرِّح الآية بأن الغرض من ذلك هو: ﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَك آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وكنَّا ذُرِّيةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾، فاستنتجوا من ذلك أنه لا بُدَّ أن يكون في سلسلة آباء هذه الذرّية مشركٌ على الأقلّ.

وقد مضى عدم صحّة هذه المقاربة.

المنطلق العقلي: بالإضافة إلى المنطلق الاستظهاري، فإن للاستدلال العقليّ مكانه ودَوْره في تخصيص هذه الحادثة بمجموعة خاصّة من البشر. وبما أنه من وجهة نظر علماء مدرسة بغداد يكون خطاب غير المكلَّفين (غير البالغين وغير العاقلين) قبيحاً فإن هذه الحادثة تكون خاصّةً بالمكلَّفين فقط.

ومن هنا فإن أحد التأويلات التي طُرحَتْ من قِبَل علماء مدرسة بغداد لهذه القضية هو أنّ الله خلق جماعةً من الناس، وبلَّغهم وأكمل عقولهم، وقرَّرهم على ألسن رسله بمعرفته وما يجب من طاعته، فأقرّوا بذلك، وأشهدهم على أنفسهم به؛ لئلاّ يقولوا يوم القيامة: إنّا كنا عن هذا غافلين، أو يعتذروا بشرك آبائهم.

وقد مضى نقد هذا النوع من التأويل.

 

العنصر التاسع: العلاقة بين فكرة «عالَم الذَّرّ» والتناسخ

أحد عناصر القلق عند علماء مدرسة بغداد حول فكرة «عالَم الذَّرّ» علاقة هذه الفكرة مع فكرة «التناسخ»؛ فإن علماء الإمامية منذ القِدَم كانوا معارضين لفكرة التناسخ بأشكالها أشدّ المعارضة. ويبدو أن علماء بغداد كانوا مهتمّين لذلك، وكتبوا كتباً ورسائل مستقلّة في ذلك. فعلى سبيل المثال: نجد في كتب الحسن بن موسى النوبختي كتاب «الردّ على أصحاب التناسخ»([42])، بل نجد في كلمات بعض الرجاليّين أنهم يستندون للقدح في الرواة بمسألة التناسخ، معتبرين إيّاه دليلاً على فساد مذهب الرواي([43]).

الحساسية الشديدة عند المفيد والشيخ الطوسي بالنسبة إلى هذا الموضوع مشهودةٌ تماماً. ويبدو أنهما كانا يعتبران القبول بفكرة «عالَم الذَّرّ»، حَسْب ما جاء في بعض الروايات، ملازماً للقول بنوعٍ من التناسخ، أو على الأقلّ تمهيداً لدخول مثل هذه الأفكار في منظومة العقائد الإماميّة، فلذلك عارضوها بشدّةٍ.

والبتّ في هذا الموضوع يحتاج إلى دراسةٍ كاملة لموضوع التناسخ. وأدلّة امتناعه أو فساده من ناحيةٍ؛ وكذلك دراسة قضيّة عالَم الذَّرّ من حيث مدى انطباقها أو التقائها مع فكرة التناسخ من ناحيةٍ أخرى، فهو خارجٌ عن محطّ بحثنا هنا([44]). لكنْ تجدر الإشارة إلى نقطةٍ، وهي: إنّ فكرة التناسخ ـ إجمالاً ـ ترجع إلى نقل الأرواح من جسمٍ إلى جسمٍ آخر؛ فإذا قلنا بأن الذَّرّ التي أخرجها الله سبحانه من ظهر آدم أو بني آدم هي التي سوف تنمو في هذه الدنيا، وتصنع أبدان البشر، فلا يوجد نقلٌ للأرواح هنا؛ كي يستلزم منه التناسخ؛ والعلم الحديث أيضاً قد أثبت أنّ جسم الإنسان يبدأ من خليّةٍ واحدة، تنمو وتشكِّل الجوارح التي نعرفها في الإنسان.

 

الخاتمة

نظراً إلى العَرْض التاريخي الذي ذكرناه في المرحلة الأولى من البحث اتّضح أن علماء مدرسة بغداد اتّخذوا موقفاً واحداً تقريباً تجاه فكرة «عالَم الذَّرّ»، وكلّ واحدٍ من علماء هذه المدرسة حاول بدَوْره أن يقدِّم شواهد وأدلّة تقوّي هذا الاتّجاه. وبقولٍ إجماليّ: نستطيع أن نعتبر علماء مدرسة بغداد من المُنْكِرين لفكرة «عالَم الذَّرّ» كواقعةٍ حدثَتْ في عالَمٍ قَبْلَ هذه الدنيا التي نعرفها، والتي عمَّتْ جميع ذرّية آدم. وإمّا أنهم خصَّصوا ذلك بجماعةٍ معيّنة، خلقهم الله سبحانه وأكمل عقولهم و…؛ وإما أنهم فسَّروها على أنها تعبيرٌ رمزيّ وأدبيّ لوجود الآيات الإلهيّة في الآفاق والأنفس، ممّا يُتِمّ الحجّة على الجميع، فلا يقبل اعتذارهم بالغفلة أو شرك الآباء.

وبعد أن عَرَضْنا أقوال علماء مدرسة بغداد عَرْضاً تاريخياً انتقلنا في المرحلة الثانية من البحث إلى استخراج العناصر والمؤلِّفات الأساسيّة لهذا الاتجاه، وحاولنا أن نقيِّمها، ونذكر الإشكالات التي ذُكرَتْ أو يمكن أن تُذْكَر بالنسبة إليها. ووصلنا إلى أنه لا دليلَ واضحاً يثبت استحالة وقوع حادثةٍ من هذا النوع، وكلّ ما في الأمر أن النظر في الأدلة الإثباتية، التي تنحصر بالنصوص الدينية، وخاصّةً الروايات، والدراسة الصدورية والدلالية لهذه النصوص، لا تتّسع لها هذه المقالة، وآمل أن يوفِّقني الله سبحانه وتعالى لدراسة ذلك في مقالةٍ مستقلة.

 

 

الهوامش

(*) باحثٌ في الحوزة العلميّة في قم، وطالبٌ في مرحلة الدكتوراه في قسم «الكلام الإمامي» في جامعة طهران ـ پرديس فارابي.

([1]) لمزيدٍ من الاطلاع انظر: دانشنامه جهان إسلام 1، مقالة «حوزه علميّه بغداد»، رقم 6637.

([2]) لمزيدٍ من الاطلاع انظر: د. السيد مرتضى موسوي وپريسا فيضي، تبيين تاريخي وكلامي مكتب معتزله بصره وبغداد، پژوهش نامه تاريخ، السنة الثامنة، الرقم 31.

([3]) قد اعتبر بعضهم هشام بن الحكم من علماء بغداد؛ استناداً إلى ما قاله النجاشي في كتابه: «كان ينـزل بني شيبان بالكوفة، انتقل إلى بغداد سنة تسع وتسعين ومائة، ويقال: إنه في هذه السنة مات». رجال النجاشي: 433. لكنْ هناك خلافٌ في تاريخ وفاته، فعلى سبيل المثال: ينقل الكشّي عن الفضل بن شاذان أن هشام بن الحكم توفّي سنة 179هـ في الكوفة، فيكون مخالفاً لما نقله النجاشي. لكنّه على أيّ حالٍ لا نستطيع أن نعتبره من علماء بغداد، وإنْ صحَّتْ مقالة النجاشي؛ لأنّه توفّي حَسْب نقل النجاشي في نفس السنة التي انتقل فيها إلى بغداد. ولمزيدٍ من الاطّلاع انظر: أبو القاسم الخوئي، معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة 20: 321 ـ 322؛ اختيار معرفة الرجال 2: 526 ـ 564.

([4]) الشيخ الطوسي، فهرست كتب الشيعة وأصولهم وأسماء المصنِّفين وأصحاب الأصول: 31: «إسماعيل بن عليّ بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت، أبو سهل. كان شيخ المتكلِّمين من أصحابنا ببغداد، ووجههم، ومتقدّم النوبختيين في زمانه».

([5]) رجال النجاشي: 31.

([6]) معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة 18: 217.

([7]) المفيد، المسائل السروية: 44.

([8]) المصدر السابق: 45 ـ 46.

([9]) المصدر السابق: 46 ـ 47.

([10]) المصدر السابق: 47 ـ 48.

([11]) المسائل العكبرية: 114.

([12]) الكافي 1: 438، (طبعة الإسلامية).

([13]) المفيد، المسائل السروية: 52.

([14]) المصدر السابق: 53.

([15]) مَنْ لا يحضره الفقيه 4: 380.

([16]) المفيد، المسائل السروية: 53 ـ 54.

([17]) المفيد، المسائل العكبرية: 114 ـ 115.

([18]) لقد جاء ذلك في مقدّمة كتاب تلخيص البيان في مجازات القرآن: 60؛ وكذلك في مقدّمة كتاب حقائق التأويل في متشابه التنـزيل: 77، حيث جاء فيهما: «الأظلّة: عالَم المجرّدات، وهو ما يُسمّى بعالَم الذَّرّ، سُمِّي بذلك لأن الأشياء فيه أشياءٌ وليست بأشياء، كالظلّ؛ وقد جاء في أحاديث الإمامية عنه وعن شأن الأئمّة فيه ما لا حاجة إلى ذكره».

([19]) رسائل الشريف المرتضى 1: 113 ـ 115.

([20]) إن النـزاع بين الأخباري والأصولي بشكله السائد اليوم بدأ تقريباً من محمد أمين الإسترآبادي، ولكنْ ترجع جذور هذا النـزاع إلى مئات السنين قبل ذلك؛ فإنّ الاختلاف بين مدرسة قم ومدرسة بغداد مؤشِّرٌ على ذلك.

([21]) أمالي المرتضى 1: 28.

([22]) أحمد بن محمد بن خالد البرقي، المحاسن 1: 241.

([23]) رجال النجاشي: 234 ـ 235.

([24]) اختيار معرفة الرجال، المعروف برجال الكشّي (مع تعليقات: الميرداماد الإسترآبادي) 2: 673.

([25]) الطوسي، التبيان في تفسير القرآن 5: 27 ـ 30.

([26]) التبيان 5: 29.

([27]) الطوسي، التبيان في تفسير القرآن 5: 29.

([28]) علي الأفضلي، پاسخ به إشكالات كلامي وفلسفي درباره «عالَم ذَرّ»، مجلة فلسفه دين، العدد 4: 92، السنة السادسة.

([29]) انظر: السيد نعمت الله الجزائري، نور البراهين، 2: 184. وفي المقابل لا يقبل بعضُ الباحثين مثل هذا التواتر. انظر، على سبيل المثال: صغرى رادان، محمد تقي دياري بيدگلي، بررسي روايات تفسيري عالَم ذَرّ، مجلة حديث پژوهي، العدد 22: 169 وما بعد، السنة 11.

([30]) آغا بزرگ الطهراني، الذريعة إلى تصانيف الشيعة 4: 323.

([31]) انظر: العلاّمة الحلّي، نهاية الوصول إلى علم الأصول 3: 321 ـ 325.

([32]) لمزيدٍ من الاطلاع انظر: السيد محمد باقر الصدر، بحوث في علم الأصول 4: 335 ـ 338؛ وكذلك: حيدر حبّ الله، حجّية الحديث: 73 ـ 89.

([33]) على سبيل المثال: يقول ابن حِبَّان: «فأما الأخبار فإنها كلّها أخبار آحاد…». انظر: الإحسان في تقريب صحيح ابن حِبّان، 1: 156.

([34]) الطباطبائي، الحاشية على الكفاية 2: 237 ـ 238.

([35]) مرتضى خوش‌صحبت، نقد وبررسي ديدگاه شيخ مفيد در باب آموزه «عالَم ذَرّ»، مجلّة معرفت كلامي، العدد: 1: 86، السنة السابعة، صيف 1395هـ.ش.

([36]) المصدر نفسه.

([37]) لمزيدٍ من الاطلاع حول هذا الموضوع انظر: علي الأفضلي، پاسخ به إشكالات كلامي وفلسفي درباره «عالَم ذَرّ»، مجلة فلسفه دين، العدد 4: 97 ـ 102، السنة السادسة.

([38]) التفسير (المنسوب إلى) القمّي 1: 248؛ وكذلك القريب منه: مختصر البصائر: 412.

([39]) علي الأفضلي، پاسخ به إشكالات كلامي وفلسفي درباره «عالَم ذَرّ»، مجلة فلسفه دين، العدد 4: 104، السنة السادسة.

([40]) المصدر نفسه.

([41]) تفسير العيّاشي 1: 181.

([42]) رجال النجاشي: 64؛ ابن النديم، الفهرست: 252.

([43]) على سبيل المثال: في تضعيف محمد بن نصير نميري انظر: اختيار معرفة الرجال 2: 805؛ وكذلك في تضعيف أحمد بن محمد بن سيّار انظر: رجال ابن داوود: 423.

([44]) لمزيدٍ من الاطلاع حول هذا الموضوع انظر: محمد تقي اليوسفي، معصومه اعتصامي نژاد، بررسي رابطه عالَم ذَرّ وتناسخ، مجلة آيين حكمت، العدد 30، السنة الثامنة، شتاء 1395هـ.ش.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً