قراءة استدلالية في مبادئ العلاقات الدولية
ـ القسم الأوّل ـ
تمهيد
تتصل قضية الجهاد الابتدائي اتصالاً وثيقاً بقراءة الإسلام للعلاقة مع الآخر، فهذا الجهاد ـ بالمفهوم السائد في التراث الفقهي ـ يؤسّس لعلاقة الحرب مع غير المسلم، أو ما يسمّى بأصالة الحرب في الإسلام، فطبقاً للقول بوجوب الجهاد الابتدائي مرّةً على الأقل كل عام فإنّ المجتمع الإسلامي ـ مادام قادراً ـ سيظلّ يعلن الحرب على الآخرين حتى لو لم يعلنوا هم الحربَ عليه، حتى أنّ الفقه الإسلامي تحفّظ ـ عند العديد من الفقهاء ـ على توقيع معاهدات سلام مع غير المسلم لمدّة تزيد في الحدّ الأقصى على عشر سنوات، وهذا معناه أنّ الدولة الإسلامية ملزمة ـ حال القدرة ـ على شنّ هجمات متواصلة على الآخرين لا تنتهي سوى بإسلامهم أو قتلهم أو إخضاعهم.
من هنا، كان هذا الموضوع بالغ الحساسية والأهمية، ويشكل أهم مبدأ دستوري تقوم عليه العلاقات الدولية في الإسلام، ويتصل مباشرةً بالحريات الدينية في العالم، وقد استغلّه الكتّاب والباحثون الغربيون وغيرهم لتوجيه النقد على الإسلام وثقافته التي نعتت بالهجومية العدوانية،وكان جزءاً لا يتجزءاً من تكوين ما يسمى بـ (الإسلام فوبيا). ولا يعنينا نقدهم أو تجريحهم أو تهجّمهم إذا ثبت بالدليل المنطقي المعتبر أنّ الله أراد ذلك منّا فيما نفهمه من العقل والنصوص الدينية، إنّما المهم أن نبحث هذا الموضوع، الذي قلّما تعرّض الفقهاء القدامى لأصل شرعيّته؛ لهذا افترضوه واضحاً، ولا نجد عندهم كثير جدلٍ وكلام في مبدأ الجهاد الابتدائي أو جهاد الدعوة في الإسلام؛ من هنا، يمكن أن يُبحث هذا الموضوع مجدّداً من زاوية فقهية اجتهادية تقرأ الأدلّة الشرعية، لتنظر في مديات دلالتها على هذا النوع من الجهاد.
والبحث في الجهاد الابتدائي يقع على مرحلتين: إحداهما تعريف هذا الجهاد وتحديد مفهومه ومقوله، كي لا يحصل التباس في النقطة التي يدور حولها البحث والتنقيب، وثانيهما في حكمه من حيث الشرعية وعدمها ومن حيث الوجوب وعدمه، وفي الإطار الثاني نبحث تارةً عن شرعية هذا الجهاد وكذلك دليل وجوبه، ثم نبحث مرّةً أخرى في الأدلّة على عدم شرعيته من رأس ووجود ما يمنع تسويغه في النصوص الدينية والأدلّة الفقهية، لكن ونظراً لسعة البحث وطوله نقتصر هنا ـ بعد تحديد مفهوم الجهاد الابتدائي ـ على دراسة نظرية شرعيّته وتقييمها، تاركين البحث في أدلّة عدم شرعيته إلى فرصة أخرى، إن شاء الله تعالى.
1 ـ الجهاد الابتدائي الدعوي التحريري، البُنية والمفهوم والحقيقة
يقصد بالجهاد الابتدائي، ابتداء المسلمين للكافرين بالحرب بهدفٍ واحد هو الدعوة إلى الإسلام وبذل الجهد لجعلهم مسلمين أو خاضعين للمسلمين، فإن كان الكفّار مشركين أو مطلق غير أهل الكتاب، وضعوا أمام خيارين هما: القتل أو الإسلام، وإن كانوا من أهل الكتاب وضعوا أمام خيارات ثلاثة: إما أن يسلموا، وإما أن يخضعوا ويصبحوا من أهل الذمّة فيدفعون الجزية، وإما أن يُقتلوا([1])؛ ولهذا السبب يسمّى هذا الجهاد أحياناً بجهاد الدعوة، وجهاد التحرير؛ لأنه يحرّر النفوس من الكفر، أي إن الهدف منه دعوة الكفار للإسلام، فسبب البدء به ليس اعتداء الكفار، بل كفرهم؛ فلتطهير الأرض من الشرك وبسط يد الإسلام على المعمورة ـ بحيث لو ظلّ الكفر ببعض أنواعه يبقى تحت هيمنة الإسلام ـ يقوم هذا الجهاد.
هذا هو المشهور المعروف في معنى الجهاد الابتدائي، وإن لم يفرد أكثر العلماء تعريفاً اصطلاحياً للجهاد في كتبهم الفقهية، بل لقد عدّه الفقهاءُ الجهادَ الأصليَّ في الإسلام، فيما ألحقوا به ــ إلحاقاً ــ الجهاد الدفاعي، يقول الشيخ النجفي (1266هـ): «لا ريب في أنّ الأصليّ منه قتال الكفار ابتداءً على الإسلام.. ويلحق به قتال من دهم المسلمين منهم، وإن كان هو مع ذلك دفاعاً..»([2]). ويقسّم الشيخ جعفر كاشف الغطاء (1228هـ) الجهاد إلى خمسة أقسام، يعود أربعة منها في الحقيقة إلى الجهاد الدفاعي، فيما الخامس هو الابتدائي فيقول: «الخامس: جهاد الكفر والتوجّه إلى محالهم؛ للردّ إلى الإسلام، والإذعان بما أتى به النبي الأمي المبعوث من عند الملك العلام، عليه وآله أفضل الصلاة والسلام»([3]). ويقول الميرزا القمي (1231هـ): «وأما الحقيقة الفقهية، فالذي هو موضوع كتاب الجهاد في أكثر الكتب الفقهية، هو الجهاد مع الكفّار حال حضور الإمام وبإذنه، وكذا مع البغاة كذلك، وقد ذكروا حكم قتال من دهم من الكفّار بحيث يخاف منه على بيضة الإسلام والمسلمين من الاصطدام والاستيصال، فيه استطراداً…»([4])، فهذا النصّ واضح في أن أحكام الجهاد المسطورة في أكثر كتب الفقه الإسلامي ترجع إلى غير الجهاد الدفاعي الذي يدهم فيه المسلمين عدوّ، ومثل ذلك يقول الشهيد الثاني (965هـ): «وهو أقسام: جهاد المشركين ابتداءً؛ لدعائهم إلى الإسلام.. والبحث هنا عن الأوّل، واستطرد ذكر الثاني [الدفاعي] من غير استيفاء..»([5])، فالدفاعي جاء بحثه استطراداً أيضاً، ويقول الشيخ المنتظري: «وقسّم الفقهاء الجهاد إلى قسمين: الجهاد الابتدائي، والجهاد الدفاعي، وأرادوا من الأوّل قتال المشركين والكفار لدعائهم إلى الإسلام والتوحيد والعدالة..»([6]). ويقول ابن رشد الحفيد (595هـ): «اتفق المسلمون على أنّ المقصود بالمحاربة لأهل الكتاب ــ ما عدا أهل الكتاب من قريش ونصارى العرب ــ هو أحد أمرين: إما الدخول في الإسلام، وإما إعطاء الجزية..»([7]). وفي كتاب الفتاوى الهندية للشيخ نظام ــ وهو من كتب الحنفية ــ جاء: «كتاب السير.. الباب الأوّل: في تفسيره شرعاً وشرطه وحكمه، أما تفسيره، فالجهاد هو الدعاء إلى الدين الحقّ والقتال مع من امتنع وتمرّد عن القبول، إما بالنفس أو بالمال..»([8])، وقال الحصكفي (1088هـ) في تعريف الجهاد: «الدعاء إلى الدين الحق وقتال من لم يقبله»([9]).
من هنا، نلاحظ على العديد من الفقهاء أنّه عندما عرّف الجهاد في مقدّمة بحثه في كتاب الجهاد لم يعرّف سوى الجهاد الابتدائي، ولا أقل من التركيز عليه أكثر([10])؛ مما يشي بأن المرتكز في وعيهم أنّه هو المفهوم الأصيل للجهاد،الأمر الذي يعيد تشكيل تصوّرنا عن الوعي الفقهي لمفهوم الجهاد، وأنّ الجهاد الابتدائي إنّما غُيّب بسبب ضعف قدرات المسلمين عن الحرب، لا بسبب عدم وجود مفهوم له في الفقه الإسلامي، وهذه نقطة بالغة الأهمية.
وقد جاء التعبير بــ«الجهاد الابتدائي أو جهاد الدعوة أو جهاد التحرير أو جهاد الطلب» متأخراً بين الفقهاء والباحثين، ولم يكن هذا المصطلح رائجاً، إنما كانت معانيه تُفهم من خلال كلامهم، وإذا تمّ البناء على وجوب هذا الجهاد من جهة وعدم اشتراطه بحضور المعصوم من جهةٍ أخرى، بناءً على ما ذهب إليه جماعة من المتأخرين([11])، والقول باشتراطه كلّ عام مرّةً، ينفتح بحث هام جداً نسمّيه: أصالة الحرب أو أصالة السلم في الإسلام، وهو المبدأ الأوّل في العلاقات الدولية في الفقه الإسلامي؛ إذ طبقاً لهذه الأحكام الثلاثة قد يقال بأصالة الحرب، وأنّ السلم يحتاج إلى عنوان طارئ هو المعاهدة أو الذمة أو.. وعليه فبحث الجهاد الابتدائي من أهمّ مباحث فقه الجهاد والعلاقات الدولية في الإسلام.
وقد أخذ مفهوم هذا الجهاد بالتحوّل لدى بعض الفقهاء والباحثين في القرن العشرين شيعياً وسنياً، مثل القول: إنه الجهاد حال منع الدولة الكافرة من نشر الإسلام فيها، فيكون جهاداً لتحقيق الحرّية أو دفاعاً عن حقوق الإنسان في المعتقد، أو دفاعاً عن التوحيد، أو تحريراً للإنسان من عبودية غير الله، أو ممارسة للأبوّة المشفقة على الناس لهدايتهم وغير ذلك، مما يرجع إلى ما يسمّى في عُرف الدراسات القانونية الدولية بالتدخل الإنساني([12])، مع الالتفات إلى وجود بعض ملامح هذه التحليلات في كلمات بعض العلماء السابقين، مثل ابن تيمية الحراني([13])، ثم ظهر من لم يقبل هذا التحويل لمفهومه فأخذه كما هو أو رفضه مطلقاً([14]).
2 ـ نظرية شرعية الجهاد الابتدائي ووجوبه
يكاد وجوب الجهاد الابتدائي ــ فضلاً عن شرعيته ــ أن يكونا من مسلّمات الفقه الإسلامي، سوى كلمات قليلة توحي بعكس ذلك، كما فيما ينسب إلى الإمام الثوري وابن شبرمة، وابن عمر، وعطاء، وعمرو بن دينار… من عدم وجوب غير الدفاعي([15])، وهو يحتمل مشروعية الابتدائي، وسقوط وجوبه فقط. وقد بلغ وضوح الأمر حداً أنّ الفقهاء لم يبذلوا جهداً مركّزاً للبرهنة عليه، وكأنهم اتفقوا على أن نصوص الكتاب والسنّة عندما تحدّثت عن الجهاد إنما قصدت هذا النوع منه؛ لذلك لم يجدوا حاجةً للبرهنة عليه بعنوانه، إذ أصل وجوب الجهاد في الإسلام من الواضحات التي يعرفها كلّ من قرأ الإسلام بمصادره، حتى قال الإمام الشوكاني (1250هـ): «أما غزو الكفار، ومناجزة أهل الكفر، وحملهم على الإسلام، أو تسليم الجزية، أو القتل، فهو معلوم من الضرورة الدينية، ولأجله بعث الله رسله …» ([16]).
ولابدّ لنا من بحث هذا الموضوع؛ إذ في ضوئه يُفهم باب الجهاد بأكمله، ويُعرف لماذا عندما تحدّثوا عن شروط الجهاد حصروها بالابتدائي؟ إذ إنهم كانوا يرون الدفاعيّ على الهامش غير مركّز عليه ـ بالدرجة عينها ـ في الكتاب والسنّة؛ من هنا، لابدّ لنا من ذكر أدلّة الجهاد الابتدائي، وتناولها بجديّة أكبر، لنرى ما توصلنا إليه، وهي:
أدلّة نظرية شرعيّة الجهاد الدعوي، استعراض وتقييم
1 ـ 2 ـ المستند القرآني لنظرية الجهاد التحريري الدعوي
في سياق المستند القرآني، يمكن تقريب الاستدلال من خلال عدّة بيانات:
أ ـ النصوص القرآنية الخاصّة المشرعنة للجهاد الابتدائي
البيان الأوّل: الاستناد إلى آيات خاصّة اعتبرت ظاهرة في تشريع الجهاد الابتدائي، وقد ركّز عليها أنصار نظرية جهاد الدعوة([17])، وأبرزها ما يلي:
الآية الأولى: وهي آية السيف كما يسمّيها بعضهم، قوله تعالى: قاتِلُوا الَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدينُونَ دينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذينَ أُوتُوا الْکِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (التوبة: 29).
فهذه الآية تأمر شديداً بالقتال، وهي من أواخر آيات الجهاد، ولا ترى غايةً لتوقف الحرب سوى إعطائهم الجزية، أي خضوعهم لسيطرة المسلمين، وإلا تواصلت الحرب معهم، اعتدوا على المسلمين أم لم يعتدوا، وبهذا الفهم للآية غصّت كلمات العلماء هنا بلا حاجة لنقلها، وقد فهم العديد منهم أن الجزية في الآية وضعت عقوبةً من الله تعالى على أهل الكتاب، لعنادهم الحقّ، وكفرهم بما جاء به الرسول‘([18])، وقد استدلّ بعض الفقهاء بهذه الآية للسماح بقتل الشيوخ والعجزة، حتى لو لم يكن لهم رأي ولم يقاتلوا المسلمين، نظراً لإطلاق الآية هنا([19])؛ بل تخطى بعضهم إلى احتمال أنّ الغاية في الآية غايةٌ لوجوب مقاتلة أهل الكتاب، فتفيد سقوط وجوب مقاتلتهم عند إعطائهم الجزية، وهذا لا يمنع عن جواز مقاتلتهم ولو قدّموها، ومن ثم فالآية لا تمانع من الإطاحة بوجود أهل الكتاب من العالم حتى لو استعدّوا لتقديم الجزية([20])، وهو ما يخالف ما ذكره مثل النووي من أن الآية وضعت نهايةً للإباحة([21]).
الآية الثانية: قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِکينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ کُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّکاةَ فَخَلُّوا سَبيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحيمٌ (التوبة: 5).
فهذه الآية صريحة في الدلالة على أن المشركين يُقاتَلون وبشدّة حتى تتحقق منهم التوبة المتجلّية تماماً في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والذي هو تعبير كنائي عن إسلامهم، ففي الآية بيانٌ للغائية المرسومة للجهاد، كما أنّ فيها مفاداً شرطياً، وهو أنّهم إذا أسلموا خلّيَ سبيلهم، ومعنى ذلك ــ بمقتضى مفهوم الشرط ــ أنهم إذا لم يسلموا فلا تخلية لسبيلهم، بل الحرب والأخذ والقبض عليهم يبقى سائراً سارياً، إما على نحو الوجوب كما هو ظاهر كلمات العلماء أو على نحو الإباحة من خصوص هذه الآية، كما هو ظاهر الشربيني في مغني المحتاج([22])؛ فالآية من الآيات الواضحات على هذا الحكم هنا، وأنّ قتالهم لكفرهم، وهذه هي روح الجهاد الابتدائي([23]).
وباجتماع هاتين الآيتين قد نفهم بعض مبرّرات الحكم المعروف بين الفقهاء في التمييز بين أهل الكتاب وغيرهم؛ فإن الآية الأولى التي تحكي عن أهل الكتاب جعلت منتهى الحرب إعطاء الجزية، ومن الواضح أنّ دخولهم في الإسلام يوقف الحرب بالتأكيد، فإذا كانت الجزية توقفها فالإسلام يفعل ذلك بطريق أولى، مما يجعل الاحتمالات في حقّ أهل الكتاب ثلاثة: القتل أو الإسلام أو الجزية، وهي تعبير آخر عن صيرورتهم أهل ذمّة أو معاهدين خاضعين.
أما في الآية الثانية، وهي الآية التي يتركّز خطابها في المشركين، فهي تجعل منتهى الحرب التوبة، أي الإسلام، مما يجعل الخيارات المطروحة في موضوع المشرك أقلّ: إما القتل أو الإسلام، وهذا ما يطابق ــ كما أسلفنا ــ وجهة النظر الفقهية السائدة.
وأكثر من ذلك، حيث ذهب المتمسّكون بهذه الآيات ــ سيما هاتين ــ إلى اعتبارها ناسخةً نسخاً تاماً لكافّة الآيات التي تتحدّث عن الجدال بالتي هي أحسن والدعوة إلى سبيل الإسلام بالحسنى والكلمة الطيبة وأنه لا إكراه في الدين والحث على الصلح والسلم، إلى غيرها من المفاهيم السلمية، فتكون بتمامها منسوخةً، مما يعزّز كون الأصل في معاملة الكافرين هو الشدّة والقتال لا اللين والحوار الحسن وما شابه ذلك.
الآية الثالثة: قوله تعالى: وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَکُونَ فِتْنَةٌ وَ يَکُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمينَ (البقرة: 193)، بل الأرفع منها دلالةً قوله:
وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَکُونَ فِتْنَةٌ وَ يَکُونَ الدِّينُ کُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصيرٌ (الأنفال: 39).
فهذه الآية تضع حدّاً للحرب، وهو mارتفاع الفتنةn، والمراد بالفتنة ـ كما ذهب إليه أكثر المفسّرين من الصحابة والتابعين، كابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وزيد بن أسلم و.. ـ الشرك، وهو المعروف أيضاً، أو الكفر كما ذكره جماعة([24])، ومعناه أنّه يجب عليكم قتالهم كي لا يكون هناك شرك، والملفت في الآيتين أن تعبير mفتنةn قد ورد نكرةً في سياق النفي، أي أنّه يجب عليكم القتال إلى أن ينعدم الشرك في الأرض مطلقاً، فلا يبقى مظهرٌ له، إذ النكرة في سياق النفي تفيد العموم في لغة العرب، بل تفيد شمول تمام معاني الفتنة أيضاً([25])، بل تكملة الآيتين توضح المطلوب أكثر؛ حيث إنها تتحدّث عن صيرورة الدين لله، بمعنى أنّ الغاية ليست محض القتل وسفك الدماء، بل صيرورة الإسلام هو الدين الظاهر الغالب، وهذا كلّه كلام صريح في أنّنا إنّما نحاربهم لا لأنهم اعتدوا أو لم يعتدوا فحسب، بل لكي يزول الشرك ويعلو صوت الإسلام غالباً عالياً.
الآية الرابعة: قوله تعالى: کَيْفَ يَکُونُ لِلْمُشْرِکينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَکُمْ فَاسْتَقيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقينَ(التوبة: 7).
فهذه الآية تؤسّس أحد المبادئ في معاهدة المشركين، وهو سقوط تمام المعاهدات معهم، فلا عهد لهم ولا سلام معهم، ومعنى ذلك أنّ الأساس معهم ــ طبقاً لأواخر ما نزل في الجهاد ــ هو عدم العهد، فيكون العهد أمراً ثانوياً طارئاً يراه حاكم المسلمين لضرورات وحالات استثنائية، لا أنّه الأصل الذي تقوم عليه العلاقة مع المشرك، إذاً، فلا عهود معهم، ولا معنى لذلك إلاّ أن يحاربوا أو يغدوا مسلمين، والآية رتبت الحكم على وصف المشرك دون أن تزيد قيداً آخر، مما يجعلها في صيغة الإخبار تقريباً عن أنّ المشركين بعد اليوم إلى يوم القيامة لن يحفظوا عهداً ولن يفوا بوعد، وهذا ما يؤكّده تاريخ العلاقة بين المسلمين والكافرين على امتداد الزمن، حتى المعاصر.
أما ذيل الآية، فهو يطالب المؤمنين بالمحافظة على عهدٍ واحد فقط وقع مع الجماعة التي اتفقوا معها عند المسجد الحرام، فهذه الجماعة الخاصّة يطالب الله المؤمنين بالوفاء بعهدهم معها ما داموا وفوا بالعهد، فهذا هو العهد الوحيد الواجب الوفاء به، فهذا الاستثناء لا يبطل القاعدة في صدر الآية، بل يؤكّدها.
وقد عزّز أصحاب هذا الاتجاه([26]) تفسيرهم لهذه الآية بما تلاها من آية: کَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْکُمْ لا يَرْقُبُوا فيکُمْ إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً يُرْضُونَکُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَ تَأْبى قُلُوبُهُمْ وَ أَکْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (التوبة: 8)، فهي تؤكد عدم استحقاق المشركين بعد اليوم للعهد، والسبب في ذلك ــ كما يخبرنا الله سبحانه ــ أنّهم لا يفون بالعهود ولا يفوّتون فرصةً للانقضاض على المسلمين، فهذا إنباءٌ إلهي إلى يوم الدين أنّ هذه الفئة من الناس لا أمان لها ولا عهد، إذاً فلا سبيل معهم سوى الحرب إلى أن يسلموا.
الآية الخامسة: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذينَ يَلُونَکُمْ مِنَ الْکُفَّارِ وَ لْيَجِدُوا فيکُمْ غِلْظَةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقينَ (التوبة: 123)؛ فهذه الآية صريحة في أنّ الحرب هنا ليست لردّ العدوان أو الحرابة، بل لفتح البلاد، فهي تقول بوجوب قتال من يلي المسلمين منهم، بحيث يُبدأ بالأقرب فالأقرب، من هنا أشار بعض المفسّرين ــ كالقرطبي وابن كثير و..([27]) ـ إلى أنّ النبيّ‘ قد طبق هذه الآية بأن بدأ بالعرب، ثم لما استسلمت له أقاليم الجزيرة، بدأ بالروم والفرس وهكذا([28]).
كانت هذه أهمّ الآيات الكاشفة عن معيارية الكفر في شنّ الحروب في الإسلام، وأنّ إستراتيجية الجهاد في القرآن إنما هي إستراتيجية دعوية بامتياز.
وقفات تحليلية نقدية مع نصوص جهاد الطلب في القرآن الكريم
هذا البيان للاستدلال القرآني على شرعية الجهاد الابتدائي يواجه مجموعةً من الملاحظات، أبرزها:
الملاحظة الأولى: إنّ آية الجزية التي استدلّوا بها على الجهاد الابتدائي بملاك الكفر تبطل نظرية أصحابها، لأنّها تجعل منتهى الحرب، ليس الإسلام وإزالة الكفر من على وجه الأرض، بل خضوع الطرف الآخر لنظام الجزية، ونظام الجزية يجامع بقاء الكفر في العالم، فكيف يمكن أن تلتئم أجزاء هذه النظرية التي ترى الحرب في الإسلام بملاك الكفر لا الحرابة، مع آية الجزية التي تقبل انتهاء الحرب بإخضاعهم ولو لم يسلموا؟ فأين هو تحقق الملاك؟ وكيف كانت الحرب مقدّمةً له؟([29]).
وهذه الملاحظة دقيقة من جانبٍ دون آخر، فهي دقيقة من حيث إفساد نظريّة الكفر في الحرب، لكنّ ذلك لا يساوق إبطال الجهاد الابتدائي، وبعبارةٍ أخرى يجب التمييز بين أمرين هنا هما: شرعية الجهاد الابتدائي، ورجوع ملاك هذا الجهاد إلى نشر الدعوة وإبادة الكفر، فآية الجزية ــ بالبيان الذي تقدم للمستدلّ ــ تفيد في إبطال أيّ تصوّر يقول بأنّ غاية الحرب في الإسلام إبادة الكفر تماماً، إلاّ أنّها لا تبطل أساس الجهاد الابتدائي لهيمنة الإسلام على العالم بالقوّة بقطع النظر عن تحديد ملاك هذه الحرب، فإذا كانت الآية قد رأت نهاية حرب اليهود والنصارى في دفعهم الجزية لا في ردّ عدوانهم فهي تدلّ على شرعية الابتدائي حتى لو لم نستطع البرهنة بها على تحديد ملاك الحرب.
بل يمكن الترقي أكثر بالقول: إنّ القول بأنّ ملاك الحرب هو الكفر لا الحرابة يحتمل معنيين: أحدهما كون الكفر لوحده سبباً لاندلاع الحرب، سواء كان يهدف من الحرب إلغاء الكفر أو إبقاءه مع هيمنة الإسلام مادياً عليه. ثانيهما: كون الكفر سبباً للحرب بمعنى إرادة إلغائه من وراء قيامها؛ فعلى التفسير الثاني تصحّ الملاحظة المذكورة، أما على التفسير الأوّل فلا، بل قد يدّعي الطرف القائل بملاك الكفر أن إبقاء أهل الكتاب لا ينافي كون الجهاد لدعوتهم إلى الإسلام لا لردّ عدوانهم، وذلك أن خضوعهم للدولة الإسلامية يمثل مقدّمةً رئيسة لنشر الإسلام في أوساطهم ـ كما يقول الرازي وابن العربي وغيرهما([30])ـ ومعه يصحّ أن يقال: إن الجهاد كان طريقاً لنشر الدعوة، إما فوراً كما هي الحال مع المشرك، أو عبر الواسطة كما في حالة أهل الكتاب.
وعلى أيّة حال، فلا تلغي المناقشة المذكورة ــ لوحدها ــ طبيعة استدلال المستدلّ بآية الجزية على شرعية الجهاد الابتدائي، ولسنا نحتمل كثيراً أن يقصد هذا المستدلّ قتل تمام الكافرين، فإن نظام الذمّة الذي يُبقي على ديانات أهل الكتاب من واضحات الفقه الإسلامي بمذاهبه؛ من هنا نتحفّظ على فعل من خلط في تحليل كلمات العلماء بين عدم جعلهم القتل أصلاً في التعامل مع الكفّار، وبين كون القتال أصلاً في علاقتنا بهم؛ فهذا خلط بين موضوعين([31])، وكلمات مثل ابن تيمية واضحة في هذا التمييز([32]) . يضاف هنا أنّ السيد الخوئي حاول رفع معيارية الكفر في آية الجزية بأنّ القرآن فرّق بين المشركين وأهل الكتاب، فالمشرك يحارب بسبب كفره، دون أهل الكتاب الذين لابدّ أن يصدر منهم شيء حتى يحاربوا، كحربهم للمسلمين أو كعدم إعطائهم الجزية، فعدم إعطاء الجزية بمثابة فعل يقوم المسلمون بردّ الفعل عليه وهو الحرب، وهذا ما تريده آية الجزية([33]).
لكن هذا الكلام غير واضح، فإن دفع الجزية كناية عن الخضوع والنزول تحت سيطرة المسلمين، وهناك لا معنى لفرض وجود طرف آخر يقوم بفعل ونحن نردّ عليه، وإلا فهل يأمر الإسلام بمحاربة أهل الكتاب فقط لأجل الحصول على المال؟! وهل صحيح ما ذكره القرطبي وغيره من أنّ الأمر بمنع المشركين من دخول الحرم الذي فيه خوف الفقر والعيلة عوّضهم الله عنه بالتزامه بقانون الجزية([34])، رغم أنه لا يوجد دليل على الربط بين الآيتين؟! وهل هو تفسير عقلائي أن نعتبر عدم إعطاء مجتمع بشري معين أموالاً لنا دون أن يكون قد فعل شيئاً ضدّنا بمثابة فعل فيما محاربتنا له هو ردّ الفعل، دون ملاحظة مبرّرات أخرى؟!
الملاحظة الثانية: إنّ آية الجزية وكثيراً من آيات الكتاب وردت بصيغة «المقاتلة» لا «القتل»، فلم تقل: اقتلوا، بل قاتلوا، وهناك فرق لغوي بينهما، فالأولى بمعنى وجود من بدأ الحرب لتصحّ صيغة المفاعلة؛ فيما الثانية لا تفترض ذلك، مما يجعل أيّ آية فيها صيغة المقاتلة ظاهرة في رفع العدوان، وبدء الطرف الآخر بالحرب مسبقاً، فلا تدلّ على شرعية الجهاد الابتدائي([35]). وقد حاول بعض الفقهاء ـ كما في بدائع الصنائع ـ أن يستفيد من هذه الصيغة لإثبات أن الآية تفترض أهلية القتال في الطرف الآخر؛ فلا تشمل المجنون والصغير والأنثى و..([36])، وهذا ما يصبّ ويلتقي مع روح هذه الملاحظة وإن لم يطابقها، لانفراده بالأهلية وذهابها إلى الفعليّة.
وسوف تكون لنا وقفة مركّزة حول الفرق بين «قاتل» و«قتل» لدى الحديث عن الروايات في هذا الباب، حيث ورد بعضها بهذه الصيغة، فنؤجل ذلك إلى محلّه، حيث سيتبيّن عدم صحّة هذه الملاحظة في الجملة.
الملاحظة الثالثة: إنّ آية انسلاخ الأشهر الحرم، قد يدّعى وجود قرائن عديدة فيها وشواهد تخرجها عن سياق تأسيس شرعية الجهاد الابتدائي بملاك الكفر، وهذه الشواهد هي:
الشاهد الأوّل: إنّ الآية اللاحقة لهذه الآية تقول: وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِکينَ اسْتَجارَکَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ کَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِکَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (التوبة: 6)، وهذا معناه أنّه لو كان القتل والحرب بسبب الكفر لكان المفترض الحكم بقتله بعد كلّ هذا التشدّد في آيات سورة براءة، إذاً فليس من تفسير للاستجارة هنا سوى أنّ المشرك إنما دخل دار الإسلام مسالماً لا معلناً الحرب وعدوانياً، والجدير ذكره هنا أنّ الآية لم تجعل سماع كلام الله هدفاً للمستجير، بل جعلت إجارته من جانب المسلم ذات هدفٍ رسالي، أي إن استجارك لسببٍ ما فأجره حتى يكون في إجارته ما يوجب سماعه كلام الله فلعلّه يُسلم، إذاً فهي شاملة لمطلق الاستجارة بغية أن يتعرّف على حياة المسلمين علّه يهتدي، كما أنّ الآية صريحة في المشرك الذي لا مجال فيه إلاّ للإسلام أو القتل، فبأيّ وجهٍ جاز إبلاغه مأمنه رغم بقائه على كفره؟!([37]).
وهذا الشاهد ــ بهذه الصيغة ــ يقبل النقاش؛ من حيث إنّه لما كان الجهاد الابتدائي جهاد دعوة، كان من الطبيعي أن يركّز على موضوع الدعوة ويكون مجرّد سبيلٍ لها، وعليه فالآية عندما تسمح بالاستجارة لهدفٍ دعوي لا تكون منافيةً لمبدأ تشريع الجهاد الابتدائي، فقوله: حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ، سواء كان غايةً لقبول الاستجارة فقط، كما ذكر المستدلّ بهذا الشاهد هنا، أو كان غاية للطرفين كما ذكره جمع من المفسّرين، هو ما يرفع المنافاة هنا، وبعبارةٍ أخرى: لمّا أرادت الشريعة من قتال المشركين نشر الإسلام وتطهير الأرض من الشرك، كان من الطبيعي أن تسنح بالفرصة كي يُسلم المشرك، ولهذا أشارت للغاية، مما يعني أنه لولاها لم يجز قبول أمانه الذي يطلبه، وأما مسألة جواز إبلاغه مأمنه رغم بقائه على كفره فهذا أمر طبيعي احتراماً لعقد الأمان، بمقتضى: أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ، ولا يضرّ بمبدأ لزوم قتله؛ فإن أمانه هنا كان لدليلٍ حاكم هو العقد الشرعي المتفق عليه معه، ولا ضير في تشريع حرب مع احترام العهود فيها، كالسفير المحترم؛ وبهذا يظهر أنّ مبرّر عدم قتل هذا المشرك ليس سلميّته وعدم عدوانيته كما قيل، بل غرضيّة الدعوة ووفاء بالعقود، فهذا هو المقدار المؤكّد من الآيات هنا.
نعم، يمكن أن يُستفاد من هذه الآية أنّ الإسلام يفضّل إسلام الطرف الآخر على قتله، وشاهد ذلك أنّه في أشدّ آيات الجهاد قوّةً وتشدّداً يفسح المجال لإسلام الطرف الآخر، وذلك أنّها تأمر بقبول استجارة الكافر لا أنّها تعلّق الأحكام على قبولها، فهي تقول: {فأجره}، أي إن استجار وجبت إجارته بغية دعوته للدين، مما يجعل إسلامه أهمّ ومقدّماً على قتله، لهذا لم تقل: فأجرته كما هو واضح، بناءً على تفسير الأمر هنا بالوجوب لا بالإباحة لوقوعه موقع توهّم الحظر.
هذا، وقد ادّعى بعض أنصار الجهاد الابتدائي أنّ آية الاستجارة منسوخة بآية انسلاخ الأشهر الحرم التي وقعت قبلها أو بغيرها من آيات الجهاد الحاسمة، لكنّ أحداً لم يقدّم شواهد تاريخية على هذا النسخ بحيث يلغي الآية، وعليه، يرجع تحديد النسخ إلى طبيعة ملاحظة الآيتين، والذي نجده فيهما أنّه لا تنافي بينهما إطلاقاً، فالأولى تصدر حكماً عاماً بحقّ جماعة المشركين بالقتل، فيما الثانية تصدر حكماً خاصّاً أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِینَ اسْتَجَارَكَ ، محصوراً بصورة طلب الأمان، فموضوع الآيتين مختلف، نعم آية الاستجارة أخصّ من آية انسلاخ الأشهر الحرم، فالمفترض أن تخصّصها وقد وقعت معها ضمن سياق واحد، ولو فرض أنهما نزلتا منفصلتين واجتمعتا في المصحف على هذا النحو فلا دليل ــ كما يقول العلامة شمس الدين([38]) ــ على تحديد المتأخر والمتقدّم، حتى يدّعى نسخ الأولى للثانية، مع أنّ المفترض في دعوى النسخ إثبات هذا الأمر.
والنتيجة أن دعاوى النسخ الاعتباطية كثيرة في كتب التفسير عند المسلمين، فالآيتان لا تناقض بينهما، فقد قبل الفقه الإسلامي عقد الأمان الفردي واحترام السفراء رغم أنّ الحرب قائمة، إذاً لا موجب لدعوى النسخ هذه.
الشاهد الثاني: الآية اللاحقة على آية الاستجارة، قال تعالى: کَیْفَ یَکُونُ لِلْمُشْرِکِینَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِینَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَکُمْ فَاسْتَقِیمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُتَّقِینَ ، فهذه الآية تبقي على عهد المسلمين للمشركين، فلو صحّ أن مثل آية انسلاخ الأشهر الحرم ناسخة لتمام آيات موادعة المشرك لكان المفترض الإطاحة بهذا العهد الذي وقع عند المسجد الحرام أيضاً، إذاً فحتى بعد جعل القتال أصلاً كانت المعاهدات نافذة المفعول، وليس من معنى لذلك سوى عدم كون الكفر معياراً للحرب، وإلا وجب قتال حتى المعاهدين لفرض كفرهم، بل العدوانية هي المعيار هنا([39]).
وقد سجّل بعض أنصار هذا الشاهد نقداً على أنفسهم بأنّ هذا العهد الذي تستثنيه الآية كان سابقاً على آية انسلاخ الأشهر الحرم؛ لهذا احترمه القرآن، والذي ندّعيه المنع من اليوم فصاعداً عن استخدام سياسة المعاهدات معهم، واستبدالها بسياسة القتال، وهذا غير الوفاء بمعاهدة سابقة، فهو مثل إلّا ما قد سلف.
وقد أجاب الناقد نفسه بأنّ هذه الملاحظة غير واردة؛ لأنّ المفروض أن مثل آية السيف تلغي المعاهدات السابقة، فهذا هو سياق النصوص الأولى من سورة التوبة، فعدم إلغائها شاهدٌ على احترامها([40])، بل لا معنى للنسخ حينئذٍ.
وهذا الشاهد يمكن أن يلاحظ عليه أنّ معنى الآية ليس أنّهم لم يستقيموا لكم لكن استقيموا أنتم لهم، كما قد يستوحى للوهلة الأولى، بل معناها استقيموا لهم ما استقاموا لكم([41])؛ فحرف «ما» هنا ليس للنفي، بل بمعنى «ما داموا»، وهذا المعنى ينسجم مع الواقع؛ حيث يراد من هذه الجماعة بقية فئات العرب التي دخلت مع قريش العهد يوم الحديبية، ولم تخلفه، بل أخلفته قريش وبنو الدئل من بكر، وبقيت على العهد بنو خزيمة، وبنو مدلج، وبنو ضمرة و..
إذن، وطبقاً لهذا المعنى، تستثني الآية المعاهدات السابقة التي وفى أصحابها، احتراماً منها للعهود، دون أن يعني ذلك رخصة في العهود الجديدة، ولا يوجد إلغاء للمعاهدات السابقة في غير صورة إلغاء الطرف الآخر لها أو خوف خيانته، فالتمييز بين العهود القديمة السابقة والجديدة اللاحقة بهذا المعنى تمييز معقول ومتصوّر، ولهذا قال أنصار الجهاد الابتدائي: إنّ هذا الاستثناء يؤكّد القاعدة ولا يلغيها.
نعم، مقولة النسخ المدّعاة تغدو باطلة هنا؛ لأنه لو حصل نسخٌ لكل أوامر الموادعة مع الكافر فلا معنى لشرعية حتى العهود السابقة، بل المفترض أنّها نسخت عملياً، ولا نجد خصوصيةً تعبديّة لتلك الجماعة المتبقية من صلح الحديبية، مما يكشف عن عدم وجود نسخ أصلاً في المقام.
الشاهد الثالث: ما جاء في الآية اللاحقة:کَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْکُمْ لا يَرْقُبُوا فيکُمْ إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً يُرْضُونَکُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَ تَأْبى قُلُوبُهُمْ وَ أَکْثَرُهُمْ فاسِقُونَ(التوبة: 8). فهذه الآية وقعت ضمن السياق نفسه، وهي تبيّن سبب موقف القرآن منهم ومن إبطال عهودهم والتنزّه عنها، إذ تؤكّد أنّ هذا الفريق يتربّص بالمسلمين وينافق في حقهم، وأنه ما زال مصمّماً على أذيّتهم، من هذا المنطلق كان هذا الموقف القرآني متشدّداً منه ــ أي من هذا الفريق ــ مطلع سورة براءة. وهذا الشاهد وما سبقه من شواهد جاء عقب آية الانسلاخ مباشرةً ولا شاهد على تقدّمه الزماني؛ فلا وجه لادعاء النسخ فيه([42]).
وهذا الشاهد جيّد، خصوصاً لآية نفي العهود التي سبقت هذه الآية، والتي لا يبعد وحدة النـزول معها، مع فهم الإخبار في الآية عن وضع تاريخي لا عن قضية حقيقية، كما سوف نذكر لاحقاً بعون الله، نعم يبقى أن يحتمل التعدّد في النـزول هنا، بمعنى نـزول هذه الآية منفصلةً عن آية انسلاخ الأشهر الحرم، فلا يصحّ حينئذٍ جعلها قرينةً وشاهداً، فعدم ثبوت تقدّمها أو تأخرها لا يؤكّد تقارنها معها، وإن كانت وحدة النـزول وانسجام السياق يعزّزان ذلك.
لكن حتى مع هذا الشك وعدم التأكّد من وحدة النـزول، يمكن إبطال الاستدلال بآية انسلاخ الأشهر الحرم باحتمال قرينيّة الموجود، حيث لا يبعد تمسّك العقلاء بالشك في اتصال القرينة وانفصالها لرفع اليد عن الظهور الأولي المخالف للقرينية، فينعقد الإجمال في آية الانسلاخ من هذه الزاوية، ولا يعود يمكن التمسّك بها، وبعبارة ثانية: نحن لا نعرف هل كانت الآية الثامنة قرينة متصلة بحيث نزلت مع آية الانسلاخ أم قرينة منفصلة نزلت بعدها أو قبلها؟ فعلى الاحتمال الأوّل سيتمّ تماماً الشاهد الأخير، وعلى الاحتمال الثاني لن يكون تاماً؛ لأنّ ظهور أي جملة يتمّ بتمام القرائن المتصلة فلا يعود للآية الثامنة تأثير على دلالة الآية محلّ الشاهد، فمع الشك في الاتصال والانفصال سوف نشك في أنّ هذا الموجود بين أيدينا ــ وهو الآية الثامنة ــ هل هو قرينة أم لا؟ وهذا ما يسمّى بالشك في قرينية الموجود، ومعه لا تجري أصالة عدم القرينة، كما تقرّر في أصول الفقه، بل الصحيح هو الإجمال بمقدار دلالة القرينة.
الشاهد الرابع: جملة الآيات اللاحقة المتحدة السياق، والتي تعطي ميزةً جديدة، وهي: اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَليلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما کانُوا يَعْمَلُونَ*لا يَرْقُبُونَ في مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً وَ أُولئِکَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ*فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّکاةَ فَإِخْوانُکُمْ فِي الدِّينِ وَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ*وَ إِنْ نَکَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا في دينِکُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْکُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ*أَ لا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَکَثُوا أَيْمانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُکُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنينَ(التوبة: 9 ــ 13).
وميزة هذا السياق تأكيده على أنّ هذا الموقف الغاضب كان لنقضهم العهود، وداخل ذلك ــ ومعه ــ تؤكد على لزوم الوفاء لهم بالعهود على تقدير عدم نكثهم الأيمان، فالتركيز على نكث العهود والأيمان شاهد على أنّ الموضوع موضوع فئة خرقت الاتفاقات وكانت هي المعتدية البادئة، ومع سياق من هذا النوع ــ حتى مع الشك في الاتصال ــ كيف يمكن الجزم بأنّ النص هنا يتحدّث بالمطلق، ويطوي صفحة المعاهدات والتوافق حتى يؤمنوا، سيما وأنّ هذه المجموعة من الآيات قد كرّرت مسألة التوبة ضمن السياق المذكور، مما يشير إلى أن شرط التوبة لا يعني جعل باب الحرب مفتوحاً، بل معناه أنّ هذه الفئة التي لا عهد لها بسبب كثرة نقضها للعهود وتربصها بالمؤمنين لا نهاية في الحرب معها إما الموت أو أن تُسلم، لا بمعنى أنّ هدف الحرب معها هو الإسلام، بل بمعنى أن تحقق الإسلام ــ حيث قال: إن تابوا ولم يقل: كي يتوبوا أو ليتوبوا ــ يحول دون استمرار الحرب، وفرق بين الأمرين، علماً أن الآيات نفسها تشير إلى بدء الطرف الآخر بالاعتداءات وإخراج الرسول أيضاً، وهذا كلّه يضع آيات مطلع سورة التوبة في ضمن سياق دفاعي.
وحصيلة الكلام في آية الانسلاخ ــ بحسب أسباب نزولها وبحسب سياقها الكامل حتى مع الشك في اتصال القرينة ــ أنها تعلن الحرب التي لا نهاية لها سوى بالقضاء على الطرف الآخر، لكنّها لا تريد شمول حكمها لكل غير مسلم هادفةً إسلامه أو إخضاعه، بل هي مختصّة بفريق من الكافرين لا يفون بالعهود ولا يكفّون ـ متى استطاعوا ـ عن الاعتداء، فأرادت تحقيق حالة ردع تنهي خطرهم فيها، غايته أنّه لو أسلموا انتهت الحرب معهم، لا أنّ هدف الحرب كان إسلامهم، ولا أقلّ من عدم الظهور في هذا المعنى، ومفاد الشرطية يظلّ سارياً هنا؛ لهذا فتفسير «المشركين» في آية الانسلاخ بـ «الذين نقضوكم وظاهروا عليكم» كما فعل العيني في عمدة القاري([43]) هو المتعيّن.
والإشكالية التي وقع فيها أنصار الجهاد الدعوي هنا أنّهم ظنوا الآيات إخباراً على نحو الإنباء الغيبي غير المحدّد بزمان ولا مكان، فيما الآيات ظاهرة في الحديث عن فرقة خاصّة تظلّ تهدّد أمن الجماعة المسلمة مهما وقّعنا معها من عقود، فهذا هو السياق التاريخي واللفظي المحيط بمطلع سورة براءة، ومن أين لنا أن نعمّم لمطلق المشركين بحيث يكون المقصود هنا حتى المشرك الذي كان موجوداً في شرق آسيا آنذاك؟! فلا دليل على كون الألف واللام في (المشركين) للجنس، بل الأقرب ـ ولا أقلّ أنّه القدر المتيقّن ـ أنّه إشارة لمشركي العرب الخارجيين الذين كانوا يواجهون عمليّاً الدعوة الإسلامية وكان سلوكهم الغدر ونقض العهود بصورة متكرّرة كما حصل تاريخياً، فغير هذا يحتاج إلى دليل.
الملاحظة الرابعة: إن الآية الرابعة التي ذكروها، وهي الآية السابعة من آيات سورة التوبة، قد تبيّن عدم صحّة الاستدلال بها، فهي لا تريد إلغاء العهود مطلقاً، بل المقدار المؤكّد من دلالتها ــ بحسب ما يعطيه السياق المحيط ــ هو أصالة الحرب مع الذين يكيدون بالدين شرّاً وينكثون العهود كلّما سمحت لهم الفرصة، فهذا الفريق يُجْزَم بشمول الآية له، أما غيره فلا، ويشهد له أنّ الآية نفسها استثنت المعاهدين الملتزمين بالمعاهدة التي وقعت عند المسجد الحرام في صلح الحديبية، فهي بهذا الاستثناء تؤكّد أنها لا تريد إلغاء العهود، بل خصوص عهود من لم يستقم، لهذا تلزم بالوفاء طالما الوفاء من الطرف الآخر قائم، ولا يرد علينا هنا أننا لم نقبل بقرينية هذه الآية هنا، لأن مناقشتنا في القرينية كانت بلحاظ آية الانسلاخ، لا بلحاظ الآية نفسها، فلو بقينا والآية يظهر بوضوح أنّها عندما تبطل العهد في صدرها تربط الوفاء به في ذيلها بالاستقامة، وسبب ذلك أنّ الآيات جميعها ترفض العهد مع المعتدي، وبدون النتيجة التي توصّلنا إليها سابقاً قد يصعب الجواب هنا.
الملاحظة الخامسة: إنّ قتال من يلوننا من الكفار كما أفادته الآية 123 من سورة التوبة، لا يدلّ على القتال لفتح البلدان، وإن اشتهر، بل على وجوب قتال من كانوا على مقربة من المسلمين وتماسّ معهم، وهو ما ينسجم ــ أيضاً ــ مع دفاعية الجهاد، فقد تريد الآية الإشارة إلى لزوم قتال الأقرب لا الأبعد حتى مع عدوانية الطرفين، بحيث يأمن المسلمون حدودهم القريبة، فحماية أنفسهم من القريب أولى من البعيد.
وبعبارةٍ أخرى: الآية بصدد وضع آلية حربية تعمل بها الدول في العصر الحديث، كما يقول الإمام محمود شلتوت([44])، بل نضيف: إنّ كلّ ما في الآية هو لزوم قتال الأقرب، بلا أيّ إشارة إضافية إلى نوعية هذا القتال، وتطبيقه على الفتوحات شأن يرجع للمفسّرين، وليس عليه أيّ شاهدٍ من كتاب أو سنّة، نعم، قد يتمسّك هنا بإطلاق الآية، أي سواء اعتدوا أم لم يعتدوا، لكنّ هذا يرجع إلى البيان الثاني للاستدلال القرآني وسيأتي، وهذا غير ما نحنُ فيه من استعراض نصوص تفيد خصوصية الابتدائية والدعوية وملاك الكفر في الحرب.
وقفة مع تشريع القرآن القتال حتى لا تكون فتنة و..
الملاحظة السادسة: أمّا آيات القتال حتى لا تكون فتنة، والتي فسّرها كثيرون بالشرك أو الكفر، فينبغي التوقف عندها قليلاً لتحقيق معنى الفتنة لغوياً وقرآنياً؛ ونظراً لأهمية الموضوع نتعرّض لكلمات اللغويين، حيث يقول الفراهيدي في العين: m.. والفتن إحراق الشيء بالنار.. وقوله تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (الذاريات: 13)، أي يحرقون، وكان أصحاب النبي‘ يفتنون بدينهم، أي يعذّبون ليردّوا عن دينهم، ومنه قوله تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ(البقرة: 191)، والفتنة: العذاب، والفتنة: أن يفتن الله قوماً، أي يبتليهم، والفتن: ما يقع بين الناس من حروب..n([45]). وجاء في صحاح الجوهري: فتن: الفتنة: الامتحان والاختبار.. والفاتن المضلّ عن الحقّ..n([46]). وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: mفتن: الفاء والتاء والنون: أصلٌ صحيح، يدلّ على ابتلاء واختبار، من ذلك الفتنة..([47]). وجاء في لسان العرب لابن منظور: «فتن: الأزهري وغيره: جماع معنى الفتنة الابتلاء والامتحان والاختبار، وأصلها مأخوذ من قولك: فتنت الفضة والذهب إذا أذبتهما بالنار لتميّز الرديء من الجيد.. والفتن: الإحراق.. ابن الأعرابي: الفتنة الاختبار، والفتنة المحنة، والفتنة المال، والفتنة الأولاد، والفتنة الكفر، والفتنة اختلاف الناس بالآراء، والفتنة الإحراق بالنار، وقيل: الفتنة في التأويل الظلم.. ابن سيده: الفتنة الخبرة، وقوله عز وجل: إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ ، أي خبرة، ومعناه أنهم أفتنوا بشجرة الزقوم وكذبوا بكونها.. والفتنة: إعجابك بالشيء. والفتنة: الضلال والإثم، والفاتن: المضلّ عن الحق.. والفتنة: الجنون، وكذلك المفتون، وقوله تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ معنى الفتنة ها هنا الكفر، كذلك قال أهل التفسير، وفي التنـزيل العزيز: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ، والفتنة: الفضيحة.. والفتنة: العذاب..n([48]). ونحو هذه الكلمات ما جاء في مختار الصحاح وغيره([49]).
وبمراجعة المصادر اللغوية لا يبدو أنّ الكفر أو الشرك من الدلالات اللغوية الرئيسة لكلمة mفتنةn، على خلاف الاختبار، والبلاء، والاختلاف، والحرب، وربما لهذا عندما ذكر ابن منظور مثل الآية التي نحن فيها نسب تفسير الفتنة بالكفر إلى المفسّرين، وكأنه لا يجد الأمر لغوياً بحتاً.
وانطلاقاً مما أعطتنا إياه مصادر اللغة، نحتمل جداً ـ ويلوح من بعضهم ـ أنّ المفسّرين لم يعتمدوا على معطيات لغوية بحتة في تفسير الفتنة بالكفر في الآية، بل الذي دعاهم إلى ذلك هو الآية نفسها من حيث اشتمالها بعد ذلك على تعبير: وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ، إضافةً إلى حضور مفهوم الجهاد الابتدائي في وعي المفسّرين أيضاً، فهذا الذيل هو الذي عزّز عندهم فرضية الكفر والشرك، وإلا فكلمة الفتنة في أصلها إذا أعطت هذا المعنى فهو من الدرجة الثانية أو الثالثة، ولهذا لم يبدأ أيّ من اللغويين ــ بحسب تتبّعنا ــ لدى تفسيره جذر كلمة mفتنn بمعنى الكفر والشرك، مما يشهد ــ عادةً ــ على أنّ هذا المعنى يقع مدلولاً للكلمة بدرجة لاحقة، فيكون بحاجة إلى شواهد حافّة.
وفرضية بُعد احتمال إرادة الشرك أو الكفر يُساعدها أن هذا المعنى جاء وليد الثقافة الإسلامية؛ فعرب الجاهلية المشركون لا يعتبرون الشرك فتنةً؛ لأنّهم لا ينظرون إليه بمنظار سلبي تختزنه كلمة الفتنة، وهذا معناه الحاجة إلى حشد شواهد لتكريس هذا المفهوم الديني للكلمة، لأنه أقرب إلى المصداق منه إلى المفهوم.
وإذا تخطينا اللغة، إلى الاستخدام القرآني لجذر (ف . ت . ن) نجد الأمر عينه، قال تعالى: وَ کَذلِکَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ (الأنعام: 53)، وقال: قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَکَ مِنْ بَعْدِکَ وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (طه: 85)، وقال: وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناکَ مِنَ الْغَمِّ وَ فَتَنَّاکَ فُتُوناً (طه: 40)، وقال: وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتي أَرَيْناکَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ (الإسراء: 60)، وقال: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَ اصْطَبِرْ (القمر: 27)، وقال: إِنَّما أَمْوالُکُمْ وَ أَوْلادُکُمْ فِتْنَةٌ (التغابن: 15)؛ وقال: وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا عَلى کُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (ص: 34)، وقال: أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَکُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ*وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ… (العنكبوت: 2 ـ 3)، وقال: إِنَّ الَّذينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ (البروج: 10)؛ وقال: وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصيبَنَّ الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْکُمْ خَاصَّةً… (الأنفال: 25)، وقال: وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُکُمْ وَ أَوْلادُکُمْ فِتْنَةٌ (الأنفال: 28)، وقال: کُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ نَبْلُوکُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً (الأنبياء: 35)، وقال: وَ جَعَلْنا بَعْضَکُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ وَ کانَ رَبُّکَ بَصيراً (الفرقان: 20)، وقال: أَ ذلِکَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ*إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمينَ (الصافات: 62 ـ 63) إلى غيرها من الآيات التي تعني الامتحان والاختبار أو العذاب وما شابه ذلك، ومع هذا الاستخدام الواسع إلى جانب المعطيات اللغوية، كيف نجزم بأن المراد بالفتنة هو الشرك أو الكفر؟!
وطبقاً لمجمل ما تقدّم، نضع فرضيات في تفسير الآيتين، ويجب في ضوئها أن تجيب ــ لزوماً ــ على معنى: وَيَكونَ الدِينَ للّه ؛ لأنّ أي تفسير لا ينسجم مع هذه التكملة سيكون باطلاً، وهذه الفرضيات التفسيرية هي:
الفرضية الأولى: أن يكون معنى الفتنة هو الكفر أو الشرك؛ فيكون معنى صيرورة الدين لله، أن لا يكون هناك دين آخر غير الدين الإلهي، وهذا هو تفسير أنصار جهاد الدعوة.
وهذه الفرضية منسجمة مع نفسها، ويكون ذيلها قرينة صدرها، كما أسلفنا، وهي إن فسّرت بالشرك انسجمت مع مشهور فتاوى الفقهاء من أنّ المشرك مخيّر بين الموت أو الإسلام، ومعه فلا تشمل هذه الآية غير المشركين فلا تدلّ على الجهاد الابتدائي مع أهل الكتاب، أما إن فسّرت بمطلق الكفر، فقد يُتساءل حينئذٍ عن أهل الكتاب، مع أنّ قتالهم لا ينتهي بإسلامهم، بل بالجزية، كما تصرّح بذلك آية الجزية نفسها وفق ما تقدّم، فكيف يمكن تفسير ذلك؟! هل نسخت آية الجزية هذه الآية هنا كما قد يستوحى؟!
لا سبيل لتفسيره سوى بضمّ هذه الآية إلى مثل آية الجزية، حيث يجري التقييد، فيعلم أنّ أهل الكتاب خارجون مثلاً، أو بالقول بأنّ المراد من mالدينn في الآية شيء آخر مثل الإذعان والتسليم، أي فيسلّمون لله سبحانه، ولو على مستوى الإذعان المادي الدنيوي، بخضوعهم لدولة الإسلام، وهذا لا يثبت حينئذٍ فتوى المشهور باقتصار تخيير المشرك بين القتل والإسلام، أو يقال: إن أهل الكتاب يذعنون بالله تعالى ويدينون له، غايته أنّهم لا يدينون الدين الحقّ، على خلاف المشركين الذين لا يدينون لله، بل للأصنام.
الفرضية الثانية: ما يظهر من كلام الماوردي (450هـ)؛ حيث ساق الآية لدى حديثه عن التخذيل والتخويف داخل الجيش المسلم، فيكون المعنى ـ عنده ـ أمرٌ بالقتال حتى لا يفتن بعض الجيش المسلم بعضاً ويتخاذلون ويضعفون([50]).
لكن هذا التفسير بعيد عن سياق الآية التي تربط مختلف قطعاتها بالطرف الآخر، لا بقضيّة تأتي في سياق الوضع الداخلي للجيش المسلم.
الفرضية الثالثة: أن تكون الآية ـ كما نقل ابن عبدالبر وغيره ـ خاصّة بكفّار العرب، لا غير([51])، فيكون أمدها قد انتهى اليوم…
وهذه الفرضية لا شاهد عليها؛ لعدم وجود أيّ قرينة على التخصيص؛ فهي محض تأول وتحكّم بلا دليل، نعم من تحدثنا الآية عن قتاله في مطلعها قد يمكن افتراض أنّه كفار العرب، فتشير إليهم، لكن المهم هو ملاحظة سائر فقرات الآية، أي ما بعد (حتى) لأنّه عام يفترض أن لا يقتصر على العرب آنذاك.
الفرضية الرابعة: أن يكون معنى الفتنة هو المحنة والامتحان والاختبار، كما هو المدلول اللغوي الأبرز للكلمة، فيكون معنى الآية: قاتلوهم حتى لا يكون امتحان، ولا معنى لهذا الكلام سوى أن يكون الامتحان بمعنى المحنة والعذاب، أي قاتلوهم حتى لا يقع عذاب ــ مطلقاً ــ فيكون فيه مشاق لكم وامتحان عسير، أو يكون فيه ظلم عليكم([52])، شبيه قوله تعالى في الحديث عن الدفع والإذن بالجهاد: أُذِنَ لِلَّذينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَديرٌ*الَّذينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْکَرُ فيهَا اسْمُ اللَّهِ کَثيراً (الحج: 39 ـ 40)، أي أنكم إن لم تقاتلوهم تكن فتنة في الأرض وفساد وامتحان وبلاء ويقع عليكم تعذيب الكفار و..
الفرضية الخامسة: أن يكون المقصود بالفتنة في الآية هو الإضلال وزوال الجماعة المسلمة، وقد تقدّم في اللغة أنّ من معاني الفتنة الإضلال وأن الفاتن هو المضلّ عن الحق، فيكون المعنى أنّه يجب عليكم قتالهم؛ لأنكم إذا لم تقاتلوهم فإنهم سيفرضون عليكم بقوّتهم الخروج من الدين الإسلامي، أو سيبيدون كلّ مسلم، فيكون الجهاد في هذه الآية دفاعاً عن وجود الجماعة المسلمة التي يراد فرض الكفر عليها بإخراجها عن دينها، كما كانت تريد قريش تماماً بملاحظة بعض الآيات التي سنشير إليها قريباً إن شاء الله. وقد تكون آية الدفع المتقدّمة شاهداً على هذه الفرضية أيضاً، بل هي أقرب إليها من الفرضية السابقة، من هنا فأقرب الفرضيات للغة ولمعنى الآية هما الفرضيّتان الأخيرتان.
أما قوله: وَيَكوُنَ الدِينَ كُلُه لله ، والذي ربما يكون في تقديري أهم نصّ قرآني على جهاد الدعوة، فيكون معناه ـ وفقاً للفرضية الأخيرة على الأقلّ ـ أن تصبح الطاعة والانقياد لله، بمعنى أنكم إن لم تقاتلوهم فلن يكون الدين لله بل سيفنونكم وسيكون الدين على وجه الأرض للأصنام وأمثالها، فليس المقصود بالدين اسم الديانة (لعدم حصره لغةً بذلك بل هو استئناس غلب على معنى هذه الكلمة فيما بعد) أي تفسد الديانات إلاّ دين الله، بل بمعنى أنكم بقتالكم تجعلون الولاء والطاعة لله سبحانه؛ فلا تسمحوا بالقضاء على هذه الظاهرة، تماماً كما هو معنى آية الدفع، فهي تطالب بالدفع؛ إذ لولاه لهدّمت بيوت العبادة ودور الصلاة فلا يصير الدين، أي الطاعة والإذعان، لله سبحانه؛ وبهذا تنسجم الفقرتان في الآية ويكون المعنى: قاتلوهم كي لا يقع إضلال المسلمين عن الدين الحقّ، فيزول الإسلام؛ أي حتى لا يتحقق ذلك، بل يكون الدين والطاعة لله، ومن الواضح أن وجود هذه الطاعة رهينٌ بوجود الجماعة المسلمة، لا بجعل العالم بأسره مسلماً أو فرض الإسلام هيمنته عليه، وبعبارة أخرى: إذا لم تتحقق الفتنة فسوف يكون الدين لله، لأن رفع الفتنة بالقتال معناه أنّ الطاعة ستكون كلّها لله لا للأصنام فقط ولا شركة بين الله وغيره.
يضاف إلى ذلك أنّ الغائية هنا المدلول عليها بـ (حتى) غائية لوجوب القتال لا للقتال الواجب، بمعنى أنّه يجب عليكم القتال بصرف النظر عن تحديده، والغاية من ذلك (تشريع وجوب القتال من حيث المبدأ) رفع الفتن وصيرورة الدين مهيمناً، لا أنّ نهاية وضع السلاح ووقف إطلاق النار هو صيرورة الدين كلّه لله، وهذا له نظير كثير، تقول لولدك مثلاً: أنا أضعك في المدرسة حتى تصبح طبيباً، مع أنّ المدرسة تنتهي قبل أن يكون طبيباً، فيكون المؤدى بعبارة أخرى: إن الجهاد دفاعاً عن الجماعة المسلمة يساهم في هيمنة الدين الحق؛ لهذا وجب، تماماً مثل قوله تعالى: هُوَ الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ کُلِّهِ وَ لَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ (التوبة: 33)؛ بناء على تفسير الإظهار بالغلبة المادية، فقد توفي الرسول الذي أرسله الله ولم يتحقق هذا الإظهار ولا حصلت هذه الغلبة، دون أن يعني ذلك أنّ الإرسال لم تكن غايته الإظهار ولم يساهم فيه ولو تحقق بعد حين.
والذي يعزّز هذا التفسير في آية سورة البقرة أنّ السياق بأكمله هو سياق الدفاع؛ إذ جاء: وَ قاتِلُوا في سَبيلِ اللَّهِ الَّذينَ يُقاتِلُونَکُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدينَ*وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوکُمْ وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوکُمْ فيهِ فَإِنْ قاتَلُوکُمْ فَاقْتُلُوهُمْ کَذلِکَ جَزاءُ الْکافِرينَ*فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحيمٌ*وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَکُونَ فِتْنَةٌ وَ يَکُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمينَ*الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْکُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْکُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقينَ (البقرة: 190 ــ 194)؛ فهذا السياق بقرينة: وَ قاتِلُوا في سَبيلِ اللَّهِ الَّذينَ يُقاتِلُونَکُمْ وَ لا تَعْتَدُوا و مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوکُمْ و فَإِنْ قاتَلُوکُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، و فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمينَ ، وكذا الآية الأخيرة التي تتحدّث عن الرّد بالمثل و.. هذا السياق واضح في الدفاعية، لا أقلّ من أنّه يعيق استظهار الابتدائية إعاقةً تامة، مما يبعّد الفرضية الأولى في التفسير لصالح الفرضية الرابعة أو الخامسة، كما هو واضح، علماً أن جعل الفتنة أشدّ من القتل واضح في أنه لو جعلوكم تتركون دينكم فهذا أشدّ من قتلهم لكم أو قتلكم لهم، ويساعد عليه قوله تعالى: ا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوکَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ (المائدة: 49)؛ وكذلك قوله تعالى: وَ لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَکُمْ حَتَّى يَرُدُّوکُمْ عَنْ دينِکُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا (البقرة: 217). كما يؤيده ما رواه البخاري بإسناده عن ابن عمر، لما ذكرت له الآية قال: «فعلنا على عهد رسول الله وكان الإسلام قليلاً، فكان الرجل يفتن في دينه، إما قتلوه وإما يعذبوه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة…»([53])، فقد فهم ابن عمر من الفتنة ما فهمناه منها واستشهدنا له بكلمة الفتنة في القرآن الكريم، وهذا ما يربط الجهاد في الإسلام بالحرية الدينية ببعض أنواع الربط، وسيأتي الحديث عن ذلك قريباً.
نعم، هذا السياق حضوره في آية سورة الأنفال غير بارز بالدرجة عينها في آية سورة البقرة، وهي ـ آية الأنفال ـ التي تشتمل على إضافة قيد mكلّهn، الذي يعزّز الفرضية الأولى، وهذا ما يجعل الفرضية الأولى أقرب في الآية الثانية، غايته أنّه لا يوجد دليل لغوي معتدّ به لصالح تفسير الفتنة بالكفر أو الشرك، لا سيما مع استخدامات القرآن المتقدمة لتعبير الفتنة، مضافاً إلى أنّ كلمة mكلُّهn قد يراد منها عدم إشراك غير الله في الطاعة إطلاقاً، لا جعل كلّ الديانات لله، علماً أنّ تشابه الآيتين جداً مع وجود سياق دفاعي في إحداهما قد يعيق أمام المفسّر الفصل بين دلالتهما، ولا أقلّ من الإجمال هنا، فهو الذي يهمّنا؛ فنحن لا نريد هنا إثبات الدفاعية في هذه الآيات، وإنّما الهدف إعاقة إثبات الابتدائية والدعوية.
نقد نظرية ربط الجهاد الابتدائي بحرية الدعوة الدينية
تقدّم فيما سبق أن العديد من الباحثين في الفقه الإسلامي حاولوا الربط بين الجهاد الابتدائي وبين حرية العقيدة، بمعنى أن الجهاد المذكور يقع عندما يمنع الكافرون حرية العقيدة، فيحولون بين الناس والإسلام؛ فهنا تجب محاربتهم ابتداءً، بوصفه شكلاً من أشكال التدخل الإنساني، وهذا هو الجهاد ضدّ الذين يصدّون عن سبيل الله، حتى لو لم يبدؤا المسلمين بالحرب.
لكن هذه النظرية غير صحيحة بل ولا منسجمة مع الموروث الفقهي، ويمكن التعليق:
أولاً: إنّ الأدلّة التي استندوا إليها لا تبرز هذا المفهوم، كما تعرّضنا لها وسيأتي، فمن أين جاؤوا بهذا القيد لشرعنة الجهاد الدعوي؟! نعم، إذا قصد أن الكافر يقوم بإيذاء المؤمنين وفتنتهم عن دينهم والحدّ من حرياتهم ليرجعوا عن الإسلام، فهذا قد يكون مقبولاً في سياق ما تقدّم في تحليل آية القتال حتى لا تكون فتنة، تماماً كما فعلت قريش والعرب، أما مجرّد أن لا تسمح الدولة غير المسلمة بحرية الدعوة فيها، ولا تعطي الإذن للدعاة كي يتجولوا فيها للدعوة إلى دينهم، فهذا لا يبدو من النصوص القرآنية الحديث عنه، حتى نأخذه عنصراً مقوماً في نظرية الجهاد التحريري هنا.
ثانياً: يلزم على هذه النظرية سقوط شرعية الجهاد الابتدائي في عصرنا الحاضر سقوطاً تاماً تقريباً؛ وذلك أن وسائل الاتصال والمعلوماتية وأجهزة الإعلام بأشكالها، لم تعد عاجزة عن الوصول إلى أسماع الشعوب حتى لو منعت الدول، وعليه فإذا كان الجهاد الابتدائي مشروعاً لتأمين حرية حركة الدعاة كي يهدوا الناس إلى الإسلام؛ فإن هذه الحرية متوفرة اليوم بدرجة كبيرة، وليس تامّة، فأيّ معنى لإعلان الجهاد الابتدائي؟!
ثالثاً: وفقاً لهذه النظرية، يقف الجهاد الابتدائي عندما تسمح الدولة غير المسلمة بالتبليغ للدين الإسلامي فيها، ففي مثل كثير من الدول الغربية اليوم وغير الغربية، هناك حرية للدعاة والمبلغين الدينيين للدعوة، غايته أن الناس قد لا تؤمن أو لا تتأثر بدعوة هؤلاء المبلغين، ومعه فلا معنى لفرض الجهاد عندما تكون حرية الدعوة الدينية مكفولة في الدول الأخرى.
رابعاً: إذا قصد أصحاب هذه النظرية أن نظريتهم تمثل تفسيراً لنظرية الجهاد الدعوي الموجودة في التراث الفقهي الإسلامي … فيسجّل عليهم أننا لم نجدها في كلمات مشهور العلماء وجمهور الفقهاء، بل ظاهر الكلمات الفقهية هو الإطلاق، سواء سمحت الدولة غير المسلمة بحرية الدعوة فيها أم لم تسمح، فهذه النظرية لا تنسجم مع الموروث الفقهي.
نعم، إذا قصدوا تأسيس نظرية جديدة، فلا تسجّل عليهم هذه الملاحظة، لكنّهم مطالبون بالأدلّة عليها؛ وقد ظهر من خلال مناقشتنا السابقة، واللاحقة، أنه لا يظهر على هذه النظرية دليل واضح.
آية الجزية والسياق العقائدي
الملاحظة السابعة: وتبقى آية الجزية التي لا ينافي سياقها مفهوم الابتدائية، وهي واضحة الدلالة على أنّ منتهى القتال هو إعطاء الجزية، إلاّ أنّ ذلك لا يجعل إعطاء الجزية شاهداً على الابتدائية، بحيث لا يندرج التمسّك بهذه الآية ضمن سياق البيان الأوّل للاستدلال القرآني، وذلك أنّ التمسّك في الحقيقة قد يقال: إنه بإطلاق صدرها، ونحن لا نعرف من هو المراد في صدرها: الكفار مطلقاً أم خصوص المعتدين؟ فعلى تقدير خصوصية المعتدين تكون الجزية خاصّة بهم، من هنا يلوح في كلمات مثل ابن حزم أن الآية تدلّ على أننا أمرنا بقتالهم إن قاتلونا، حتى يعطوا الجزية([54])، وتابعه في ذلك بعض المفسرين في القرن الأخير([55])، وقد استند غير واحد إلى السياق التاريخي للنزول حيث نزلت في مناخ غزوة تبوك التي جهّز أهل الكتاب جيشاً فيها شمال الحجاز، مما يفرض وجود تعاون بينهم وبين أهل الكتاب في الجزيرة العربية، الأمر الذي يضعهم في سياق الاعتداء على المسلمين، حتى أن الشيخ مغنية خصّص الآية بأهل الكتاب العرب وإن خالفه في ذلك سيد قطب([56]).
وهذا كلام لا ينكر من حيث المبدأ، لكنّ سياق الآية من أوّله إلى آخره ظاهر ـ بدرجةٍ ما ـ في أنّ الاختلاف العقيدي هو منطلق الحرب معهم حتى يعطوا الجزية، فعدم الإيمان بالله أو عدم تحريم ما حرّم الله أو عدم التدين بالدين الحق.. كلّها عناصر تؤكّد أنّ هذا الأمر قد قام على الاختلاف العقيدي، فلسنا ننطلق هنا من إطلاق، بل من الأوصاف الدخيلة في حربنا للآخر، وهي أوصاف ترجع إلى دينه، فتكون كاشفةً عن معيارية العقيدة في هذه الحرب، سيما وأن السياق سياق الحديث عن كفرهم، حيث جاء بعدها ــ على تقدير وحدة النـزول، وقد يناقش فيه ــ: وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِکَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذينَ کَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَکُونَ*اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ الْمَسيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِکُونَ31يُريدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ کَرِهَ الْکافِرُونَ*هُوَ الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ کُلِّهِ وَ لَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ (التوبة: 30 ــ 33)؛ فالصحيح أنّ هذه الآية لوحدها لها شيءٌ من الظهور بهذه الدرجة، ولهذا نقل ابن العربي عن أبي علي ابن عقيل الحنبلي أن قوله: (لا يؤمنون بالله) هو سبب المقاتلة([57]). اللهم إلا أن يقال: إنّ حديث القرآن عن الآخر من خلال الأوصاف الدينية ليس تعبيراً ـ بما هو هو ـ عن مدخلية هذه الأوصاف، بل لأنّ هوية الطرف الآخر ـ اجتماعياً وسياسياً آنذاك ـ هي هوية دينية، وتفصيله نذره إلى مناسبة أخرى، لجريانه في بعض النصوص دون بعض.
ونتيجة الكلام في البحث حول النصوص القرآنية الخاصّة بموضوع الجهاد الابتدائي أنّ الاستدلال القرآني غير تام، سوى في آية الجزية بدرجةٍ ما، بل الذي نراه في الحد الأدنى وجود إجمال في النصوص، هذا كله معلّقاً على ما سنذكره في مقاربة النصوص القرآنية بعد قليل، وفي نهاية البحث أيضاً، إن شاء الله تعالى.
ب ـ الخطابات القرآنية الجهاديّة العامّة والتأسيس لجهاد الدعوة، مطالعة نقدية
البيان الثاني: إنّ مطلقات آيات الجهاد كلّها الواردة في القرآن الكريم دليلٌ على شرعية ووجوب الجهاد الابتدائي؛ وذلك أنّ آيات الجهاد تأمر بمقاتلة المشركين والكافرين، دون أن تقول: إن ذلك كان لأجل مقاتلتهم المسلمين، فيُعلم من ذلك أن قتالهم كان لأجل الكفر؛ إذ حينما تقول: قاتل الكافر، ولا تشير إلى اعتدائه أو حربه ضدّك، فمعنى ذلك أنّ قتاله سوف يكون لكفره؛ وهذا هو لبّ بحث شرعية أو عدم شرعية الجهاد الابتدائي، فإن هذا الجهاد إذا كان لكفرهم فمعناه كون الحرب بملاك الكفر، وإن كان لاعتدائهم فمعناه كونها للحرابة، فنحن أمام احتمالين: إما الجهاد للكفر أو للحرابة، فأيّ المعيارين هو سبب الجهاد؟ والجواب: إنه حيث تعلّق الجهاد بمقاتلة من يتصف بالكفر دون بيان سبب الحرابة، دلّ ذلك على أن معيار الحرب هو الكفر بعينه لا غير، وإلا لكان هناك حاجة لتقديم بيان إضافي في الموضوع.
وهذا البيان من الاستدلال بالقرآن بيان شمولي عام، يتناول الآيات القرآنية عموماً تقريباً، فالآيات القرآنية التي لم يُذكر فيها قيد العدوان ولم يُفرض فيها الاعتداء المسبق، يمكن الاستدلال بها لاستفادة تعميم قتالهم، سواء كانوا معتدين أم غيره، فيشرع الجهاد معهم مطلقاً، وهذا كافٍ في البرهنة على شرعية، بل وجوب، الجهاد الابتدائي بعلّة كفرهم لا عدوانهم.
إلاّ أنّ الاستناد إلى مطلقات الجهاد يواجه مشاكل، أهمّها:
المشكلة الأولى: إنّه من غير المعلوم أن تكون هذه المطلقات ــ إلاّ مع قيام شاهد ــ في مقام البيان من هذه الناحية، أي من ناحية من يجب أو يشرع قتاله ومتى، فلعلّها في مقام بيان أصل وجوب الجهاد والحث عليه فحسب، تماماً كأدلّة وجوب الصلاة الواردة في القرآن مثل: أَقِيمُوا الصَّلوةَ
حيث لم ترد في مقام البيان من حيث عدد ركعات الصلاة أو أجزائها أو شرائطها، ومعه فلا يصحّ الاستناد إلى السكوت لنفي جزئية محتمل الجزئية أو شرطية محتمل الشرطية؛ وعليه، فلابد من إحراز مقدّمات الإطلاق، ومنها أن يكون المتكلّم في مقام البيان من الجهة التي نريد التمسّك بالإطلاق فيها.
المشكلة الثانية: إنّ آيات الجهاد وإن كانت دائمةً وعامة إلى قيام يوم الدين، إلاّ أنّ المفترض ــ لحظة صدور النصّ ــ أن يكون له ما يبرّره على أرض الواقع، فإذا ثبت أنّ حروب النبي‘ ــ لا أقلّ في الأغلبية الساحقة منها ــ كانت دفاعيةً، فنزول آيات لزوم مقاتلة الكافر حينئذٍ لا يُحرز انعقاد إطلاق فيها يشمل الابتدائية، ما دامت تحث المسلمين على مواجهة الفئة المقابلة لهم.. وبعبارةٍ أخرى: إنّ مركوزية الدفاعية في حياة المسلم المعاصر للنبي قد تشكّل قرينة على أنّ الله حينما طلب منهم الجهاد فإنما أراد هذا النوع منه، لا أقلّ من الانصراف عن غيره أو إعاقة تكوّن الإطلاق الشامل له، فهذا أشبه بقولنا اليوم ونحن في سياق حروب دفاعية على مختلف الصعد: يجب الجهاد في سبيل الله، فإن النصّ وإن كان مطلقاً في حد نفسه وعلى مستوى صورته؛ إلاّ أنّ العرف لا يفهم منه ــ في هذا السياق الخارجي المحيط ــ غير الدفاعية، فهذا ليس من باب المورد لا يخصّص الوارد، بل من باب عدم تكوّن إطلاق عند العرف يستوعب بعض الأشكال، ويكفي حصول الشك في انعقاد الإطلاق حتى يُستند إلى أصالة عدمه الأولية عند الشك كما بحثناه في علم الأصول.
وهذه المشكلة مبنية على أنّ السياق المحيط بحروب النبي‘ هو السياق الدفاعي، بحيث غدا ذلك جزءاً من وعي المسلمين عصر صدور النص ونزوله، وسوف يأتي البحث عن هذه النقطة بإذن الله سبحانه.
المشكلة الثالثة: إن صدور حكمٍ بقتال الكفار دون بيان ملاكه لا يدلّ على أنّ الملاك هو الكفر، بل يحتمله ويحتمل غيره، والسبب في ذلك أنّ تقسيم القرآن الكريم للناس كان على الأساس العقيدي، وطبيعة الحرب التي عاشها المسلمون كانت على هذا الأساس؛ لذا فمن الطبيعي أن يتحدّث عن الطرف المقابل آخذاً بعين الاعتبار هذه الصفة؛ لأنّ الذين كانوا يقفون في طرف المواجهة مع المسلمين لم يكونوا قوميةً خاصّة يمتازون بها أو عشيرة خاصّة، لاسيما بعد معركة الأحزاب، مما يفرض أخذ العنوان الجامع، وهو عنوان الكفر بالإسلام، فهذا مثل قولنا ـ وهو كثير في استخدامات العرف ـ: يجب مقاتلة الروس في الشيشان، فإن عنوان (الروس) ليس هو الملاك الأبدي؛ وإنّما استخدمناه لكونه الصفة التي تجمع الطرف الآخر على مستوى الاجتماع السياسي اليوم في ظل الدولة القومية والعلمانية و .. وهكذا لو قيل: يجب مقاتلة حلف الأطلسي و.. ومع هذا كلّه لا يكون هناك ظهورٌ في العليّة، وقديماً قالوا: الوصف مشعر بالعلية، إلاّ أنّ ظهوره فيها ــ وهو موضوع الحجية ــ يحتاج إلى قرينة.
المشكلة الرابعة: إن هذا الوجه بصيغته الرئيسة لو تمّ فهو محكوم لأيّ ملاكٍ يستظهر من الآيات؛ أي أن نسبة الظهور فيه أضعف من أيّ نسبة، فهو يعتمد على وصف الطرف الآخر بالكافر دون إشارة إلى ملاك الحرب، فإذا دلّ دليل على أنّ ملاك الحرب ليس هو الكفر فسوف يكون ذاك الدليل مقدّماً على هذا الوجه، وهذه نقطة مهمّة لفهم طبيعة ومستوى الأدلّة عند الوصول إلى مرحلة تعارض المعطيات، كما سنرى قريباً بعون الله.
المشكلة الخامسة: إنّ آيات القرآن الكريم تقع ــ في الحدّ الأدنى ــ على نوعين:
النوع الأوّل: الآيات التي لا تحتوي على قيد الدفاعية وردّ العدوان، وهي الآيات التي ندرسها حاليّاً.
النوع الثاني: الآيات التي تحوي هذا القيد، وهي كثيرة: مثل: أوّل آيات الجهاد على قول: أُذِنَ لِلَّذينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَديرٌ*الَّذينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ (الحج: 39 ــ 40)، أو مطلع آيات البراءة، وفق ما بيّناه سابقاً، أو مثل قوله تعالى بعد الحديث عن الأشهر الحرم: وَ لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَکُمْ حَتَّى يَرُدُّوکُمْ عَنْ دينِکُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا (البقرة: 217)، وقوله تعالى: وَ قاتِلُوا في سَبيلِ اللَّهِ الَّذينَ يُقاتِلُونَکُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدينَ (البقرة: 190)، وقوله:لا يَنْهاکُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ لَمْ يُقاتِلُوکُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوکُمْ مِنْ دِيارِکُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطينَ*إِنَّما يَنْهاکُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ قاتَلُوکُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوکُمْ مِنْ دِيارِکُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِکُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ (الممتحنة: 8 ــ 9)، وقوله:
وعليه، لا شك في عدم وجود نسخ وفق ما بيّناه سابقاً وسيأتي، فمع وجود مثل هذه الآيات المركّزة لمفهوم الدفاعية، هل يجب على الله تعالى في كلّ آية جهاد أن يشرح هذا المفهوم؟ وألا يحتمل اعتماده على مثل هذه الآيات في ترسيخ هذا المفهوم، ثم إطلاق بعض النصوص اعتماداً عليها؟
وبعبارةٍ أخرى: لا يصحّ أن نقرأ آيات الجهاد بشكل مجزّء، كلّ آيةٍ على حدة، بل لابد من قراءتها بوصفها كلاً له أبعاض، إذ نزلت لمواجهة مسلسل متتالٍ من الأحداث، فلا يصحّ اقتطاعها كما حصل مع بعضهم، إلاّ مع ثبوت حصول ترقي في الخطاب القرآني، وسيأتي بيانه، وعليه، فوجود مجموعة معتدّ بها من آيات الدفاعية يمنع عن انعقاد إطلاق عادي لم تقم قرينة خاصّة عليه، سيما إذا جاءت هذه الإطلاقات بعد تلك النصوص الدفاعية، فإن احتمال عدم ذكر مفهوم الدفاعية فيها ــ اعتماداً على ما سبق ــ وارد، فلا يطالب المتكلّم بتكرار هذا القيد كلّما حثّ على الجهاد، اكتفاءً بمركوزيته المنطلقة من النصوص السابقة ـ والسياق التاريخي للحروب النبوية ـ التي ركّزت المفهوم؛ وعليه لا يصحّ الاعتماد على إطلاقات القرآن الكريم هنا.
وهذه المناقشة الأخيرة موقوفة على صحّة فهم الدفاعية من الآيات التي بيّناها، وإلا فالكلام كلّه يصبح عقيماً، أما إثبات ذلك، وردّ ما قيل من مناقشات على دفاعية آيات الجهاد الدفاعي، فقد بحثناه بالتفصيل عند استعراض أدلّة عدم شرعية الجهاد الابتدائي.
قصّة النبي سليمان× وجهاد الدعوة الدينية
يمكن هنا تسليط الضوء على قصّة نبي الله سليمان× مع أهل سبأ وملكتهم، فسياق الحديث الذي جاء حول هذه القصّة يدلّل على أن الهدهد لم يظهر في الاجتماع العام الذي عقده سليمان، ثم جاء مخبراً عن قوم يعبدون الشمس من دون الله تعالى، وهنا كان ردّ سليمان، بحسب الآية القرآنية، عقب إعلام الهدهد له بعدم عبادتهم لله سبحانه، ما يلي: قالَ سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ کُنْتَ مِنَ الْکاذِبينَ (النمل: 27)، ثم طلب منه إيصال كتابه إليهم، ويخبرنا القرآن الكريم عن مضمون الكتاب في النص التالي: قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ کِتابٌ کَريمٌ*إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ*أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُوني مُسْلِمينَ (النمل: 29 ـ 31)، فاقترحت ملكة سبأ أن ترسل لسليمان هدية، لكن ردّ سليمان كان صارماً، ليعلن بعده ما يلي: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَ هُمْ صاغِرُونَ (النمل: 37)، وفي نهاية أحداث القصة يظهر لنا القرآن خاتمة العلاقة حين تقول ملكة سبأ: قيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَ کَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَواريرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسي وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمينَ (النمل: 44).
هذه القصّة القرآنية تدلّنا على نهج جهاد الدعوة عند النبي سليمان× والذي ينقله لنا القرآن دون أيّ تعليق سلبي على ما حصل، ومن الواضح من ثنايا القصة أن مشكلة أهل سبأ لم تكن في اعتدائهم على سليمان وعلى المسلمين معه، بل كان العنصر الأساس الذي قدّمه الهدهد في معلوماته حولهم يكمن في عدم عبادتهم لله، وعبادتهم للشمس، وعقب ذلك قرّر سليمان أن يأتوه مسلمين وإلا أرسل لهم جنوداً، ونهاية القصّة تؤكّد أن الرسالة الأخيرة لها هي إسلام هذه المرأة مع سليمان لله رب العالمين، فهذه القصّة خير دليل على منطق الجهاد الدعوي في القرآن الكريم، بلا حاجة للذهاب إلى النصوص القرآنية ذات الطابع التقنيني والتشريعي لنتمسّك بشاهد هنا أو بإطلاق هناك، إذ لا مبرر لسليمان في استخدام العنف ضدّهم سوى عدم عبادتهم لله، بل لقد زاد محمد الطاهر بن عاشور (1393هـ) عندما رأى أن مشروع سليمان كان لاجتلاب خيرات بلاد اليمن إلى مملكته الصغيرة آنذاك في الأردن وتخوم مصر وبحر الروم، وجعل تلك البلاد طريقاً لتجارته أيضاً([59]).
هذا ما يمكننا بيانه للاستدلال بقصّة سليمان، وبعد طرحها وبحثها وجدت أن الشيخ نعمة الله صالحي نجف آبادي قد تعرّض لها أيضاً([60]).
وقد يناقش الاستدلال بهذه القصّة القرآنية انطلاقاً من أنها ترجع إلى زمن الشرائع السابقة، والمفروض أن الإسلام نسخ تلك الشرائع؛ فالاستناد إلى موقف النبي سليمان استناد في غير موضعه الصحيح.
وهذه الملاحظة تصحّ لو قلنا بأن مجيء الدين اللاحق ينسخ ـ بمجرّده ـ تمام الديانات السابقة، على المستوى التشريعي، فمجرّد إرسال النبي عيسى× معناه أن التشريعات الموسوية صارت لاغيةً بأكملها إلا إذا جاء نصّ عيسوي يقرّ تشريعاً ما أو يعيد إنتاجه مجدداً، أما لو قلنا ـ كما هي وجهة نظر جماعة من علماء المسلمين ـ بأن مجيء الديانة اللاحقة لا يبطل قانون الديانة السابقة برمّته، بل يظل على حاله، وإنما نتتبع الحالات الجزئية التي قد تنسخ الديانة اللاحقة فيها بعض قوانين الديانة السابقة، فشرع من قبلنا حجّة علينا، ما لم يرد دليلٌ ناسخ، إذا قلنا بهذا كانت قصّة سليمان دليلاً؛ بعد فرض عدم وجود دليل ناسخ لمنطق الجهاد الدعوي الموجود فيها. علماً أنّ نقل القرآن لها في سياق تعريف المسلمين بالحدث نوعٌ من الضخّ المؤيد لمضمون القصّة، وإلا كان المفترض أن يعلّق الكتاب أو السنّة الشريفة على هذا الأمر، وهو ما لا نراه ولا نلمسه.
لكن ـ ومع عدم صحّة الملاحظة السابقة ـ نقف أمام إشكالية أخرى، وهي أن القصّة القرآنية المذكورة تريد بالدرجة الأولى أن توصل لنا رسالةً رئيسة، وهي رسالة القوّة عند سليمان، وليست في مقام بيان حكم الجهاد الدعوي حتى ينعقد لها إطلاق، فغاية ما تفيد أن سليمان مارس الجهاد الدعوي محقاً، لكن هذا لا يعطينا مؤشراً على أن الجهاد الدعوي مارسه سليمان من موقع ظروفه التاريخية أم من موقع أنه الأصل والتشريع الأولي، فالفعل النبوي ـ كما بحثناه مفصّلاً في دراستنا في أصول الفقه الإسلامي ـ دليل صامت يؤخذ فيه بالقدر المتيقن، ونحن لا نعرف الملابسات التي سمحت لسليمان باستخدام هذا المنهج، نعم القصّة تدلّ على مبدأ شرعية جهاد الدعوة، لكن لا نعرف هل بالعنوان الأولي كجزء مكوّن من قوانين الدين أم بعنوان ثانوي ظرفي تاريخي؟ فنحن نتحدث عن واقعة ترجع إلى آلاف السنين ضمن مناخات خاصّة؛ والآيات القرآنية وإن كانت دليلاً لفظياً له بطبعه طاقة الإطلاق؛ لكن المفترض أننا لا نستدل بالآية عبر دلالة لفظية مباشرة على موضوعنا، بل بفعل النبي سليمان الذي أخبرت عنه الآية، فلا إطلاق فيه، بل قد برهنّا في علم أصول الفقه أن الشك في تاريخية حكم ما لا يثبت في مورده التأبيد إلا بحشد شواهد، وتفصيله موكول إلى محلّه.
مقاربة ومناقدة للعلامتين: فضل الله وصالحي نجف آبادي
حاول العلامة السيد محمد حسين فضل الله تفسير هذه القصّة بما لا يلتقي مع منطق القوّة الدعوية بالمعنى الذي يطرح في الجهاد الابتدائي؛ فرأى أنّ سليمان قال «… هذا للرسول، وهو يعرف أنهم سيستسلمون له عندما يعرفون حجم القوّة ومستوى الردّ، ولكنه أراد أن يواجههم بالقوّة المستمدة من الغيب الذي منحه الله بعض وسائله، ليكون ذلك وسيلةً للاقتناع عندما يعرفون عظمة القدرة الإلهية التي تتمثل في هذا الفعل العجيب الذي يدلّ على أن القضية ليست قضية مُلْك يراد له أن يتوسّع ويكبر، بل هي قضية رسالةٍ يراد لها أن تتركّز في العقول والقلوب والمواقف… وهكذا التفت إلى أعوانه من الجنّ … »([61]).
وكأن فضل الله التفت إلى النقطة التي أشرنا إليها مطلع الحديث، فأراد أن يبعد منطق الجهاد الدعوي هنا بهذه الطريقة، ولا يبعد ـ بقرينة السياقات الإعجازية وخاتمة الأحداث بإسلام ملكة سبأ عن قناعة ـ أن يكون إطار القوّة قد جاء كما قال السيد فضل الله.
والذي يزيدنا إصراراً على خصوصية الحدث السليماني، أن سليمان لم يقم باستخدام قوّاته لإخضاع العالم فقد كانت حكومته محدودة جغرافياً، ولو كان بهدف إخضاع الأرض لفعل طبقاً للقوّة العملاقة التي منحه الله إياها، لكننا لم نجده يستخدم ذلك أبداً، فقصّة أهل سبأ قد تكون تعبيراً عن رغبة سليمان من أوّل الأمر أن يستخدم أسلوب التهديد كي تأتيه المرأة والملأ معها، فيروا المعجزات التي عنده فيسلموا، لا أن يريد إخضاعهم لأغراض الملك أو السلطة، فضلاً كذلك عما يفهم من كلمات ابن عاشور التي ألمحنا إليها سابقاً؛ والتي تنافي روح الآيات القرآنية المتحدّثة عن ملك سليمان، إذاً هذا كلّه يعزّز الخصوصية في الحدث السليماني، ووجود ملابسات غير واضحة لنا، حتى لو كان الجهاد الدعوي جائزاً لسليمان وليس واجباً.
على خطّ آخر، سجّل الشيخ صالحي نجف آبادي بعض الملاحظات على الاستدلال بقصّة سليمان هي:
1 ـ إن سياق الآيات يوحي باستبدادية دولة سبأ وقمعها الناس وعدم إعطائهم حقهم في ممارسة حياتهم، فلا حرية عندهم، ولهذا انطلق سليمان لتحريرهم من الاستبداد والظلم والقمع، ولهذا دعا السلطة الحاكمة ولم يدع الشعب في سبأ([62]).
وهذه الملاحظة فيها بعض الغرابة؛ فلا مؤشر في القصّة القرآنية على ما قيل، بل ملكة سبأ سارعت فور وصول الرسالة إليها لجمع الملأ واستشارتهم؛ وهذا دليل عكسي محتمل على عدم وجود منطق الاستبداد، بل منطق التشاور؛ ولا يمكن دعوة شعب بأكمله إلى مملكة سليمان؛ فمن الطبيعي توجيه الدعوة لوجوه القوم ورؤوسهم.
2 ـ المناخ الاستبدادي هو المشكلة؛ لهذا هدّد سليمانُ السلطة ولم يهدّد الشعب؛ كما لم يطرح فرض عقيدة خاصّة توحيدية؛ وإنّما طلب إخضاعهم، يضاف إليه أن سليمان لم يُعمل تهديده بل كانت المصلحة في نفس التهديد لهدايتهم([63]).
وهذه النقطة إن رجعت إلى ما قلناه نحن سابقاً كانت جيدة، وإلا فمن الطبيعي أن لا يهدّد الشعب، ما دامت علاقة الملوك مع السلطة ولم تكن هناك وسائل إعلام تخاطب الشعب كلّه، كما في عصرنا الحاضر.
وخلاصة القول: إنّ قصّة سليمان ذات دلالة بدرجة معيّنة، غير أنّها غير قادرة على منحنا أهم مبدأ دستوري في العلاقات الدولية في القانون الإسلامي؛ لأنّها حدث، وملابساته التاريخية غير جليّة، والنص القرآني يريد الحديث عن إسلام ملكة سبأ و.. ومن غير المعلوم أنّه بصدد تقنين مبدأ الحرب في العلاقة مع غير المسلم، علماً أنّها لو تمّت لما دلّت على الجهاد الابتدائي مع أهل الكتاب، بل مع عبدة الشمس أو مطلق المشرك.
نظرية الشيخ مرتضى المطهري في تحليل النصوص الجهاديّة القرآنية
وفي هذا السياق، طرح الشيخ مرتضى مطهري ـ وتبعه الشيخ جعفر السبحاني ـ تصوّراً خاصاً في منهج التعامل مع آيات القرآن الكريم هنا، لا بأس بملاحظته، وحاصل ما رآه أن الآيات هنا على مجموعات خمس هي:
المجموعة الأولى: الآيات الآمرة بمطلق القتال، وهذه تشمل مختلف أنواعه، فتشرّع الابتدائي والدفاعي.
المجموعة الثانية: الآيات الآمرة بالقتال نتيجة مقاتلة العدو للمسلمين ونقضه العهد معهم. وقد رأى مطهري والسبحاني هنا أنّ المجموعة الأولى أوسع دائرةً من الثانية، لهذا تقيّد الثانيةُ الأولى، تحكيماً لقانون المطلق والمقيّد.
المجموعة الثالثة: ما دلّ من الآيات على لزوم نصرة المظلومين والدفاع عنهم، نحو قوله تعالى: وَ ما لَکُمْ لا تُقاتِلُونَ في سَبيلِ اللَّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ الَّذينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها (النساء: 75).
المجموعة الرابعة: ما دلّ على نفي الإكراه في الدين، والحثّ على الكلمة الطيبة، وجعل الإيمان والشرك من الأمور التي ترجع إلى مشيئة الإنسان نفسه.
المجموعة الخامسة: ما دلّ على الصلح والتعايش، نحو قوله تعالى: والصلح خيرٌ(النساء: 128)، وقوله: وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها (الأنفال: 61)، وقوله: فَإِنِ اعْتَزَلُوکُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوکُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْکُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَکُمْ عَلَيْهِمْ سَبيلاً (النساء: 90).
وقد سعى مطهري والسبحاني للجمع بين المجموعتين: الرابعة والخامسة وما سبقهما، عبر جعل المجموعة الثالثة دفاعيةً، أي دفاعاً عن المظلومين، فيما حملا ما سوى ذلك على صورة استبداد الحاكم بحيث يمنع عن نشر الإسلام، فيكون قد منع حقاً من حقوق الناس فيقاتل لظلمه لهم، وبهذا اعتبر مطهري والسبحاني أن الحروب كلّها دفاعية، وإن قسّمها الفقهاء إلى دفاعية وابتدائية، مقرّين بأن أغلب حروب النبي‘ كانت دفاعية، وأن الجهاد شرّع للدفاع، لكن النقاش يكون في الدفاع عن ماذا؟([64]).
ولدينا هنا بعض التعليقات على كلمات هذين العالمَين، وهي:
أولاً: لقد قيّد مطهري والسبحاني، وكذلك فعل نعمة الله صالحي نجف آبادي([65]) المجموعة الأولى بالثانية، مع أن المجموعتين مثبتتان، فكلتاهما توجب الجهاد، غايته إحداهما بلا قيد، وثانيتهما مع إضافة قيد، وقد تقرّر في أصول الفقه أنّ المثبتين لا تعارض بينهما إلاّ مع العلم بوحدة الملاك فيهما؛ فيغدو مردّداً بين الأضيق والأوسع، وهذا يعني أنّ ادعاء التقييد يُفترض فيه إثبات ذلك، وهو ما لا يتمّ سوى بإلغاء احتمال الترقي في الخطاب أو النسخ كما ذكره الآخرون، لا التسرّع بافتراض التقييد، نعم رفض مطهري فكرة النسخ لأن المورد كان مورد تقييد؛ فبعض الآيات يقيّد بعضاً لهذا لا معنى للنسخ عنده([66]).
نعم، قد يُستند في الإطلاق والتقييد هنا إلى باب المفاهيم، فإن بعض الآيات التي ورد فيها التقييد بصورة الدفاع جاء على نحو القضية الشرطية أو ما هو في قوّتها، فيُفهم منه أن من لم يُقاتل المسلمين لا جهاد معه، فتكون النسبة بين مفهوم أدلة الدفاع ومنطوق الأدلّة المطلقة هي نسبة العموم والخصوص المطلق الدائر بين السلب والإيجاب؛ فيقع التقييد، بل هناك تقييد بين منطوق مثل الآية التي تنفي السبيل على الكافرين عندما يعتزلوا عن قتالنا، فهي تسلب المسلم حقّ السلطنة على الكافر المحايد، فتقيّد مطلقات الجهاد حينئذٍ.
هذا بناءً على وجود إطلاقات، أما طبقاً لما قلناه من عدم إحراز انعقاد إطلاق في هذه النصوص، إما لعدم إحراز كون المتكلّم في مقام البيان أو لغير ذلك، فلا معنى للتقييد، كما هو واضح، ولا معنى أيضاً لافتراض مجموعة مطلقة من الأساس.
ثانياً: ثمّة تهافت في نظرية الشيخين: المطهري و السبحاني، ففي بدايتها قيّد المطلق بالمقيد الخاص بالدفاعي، فيكون بذلك قد ألغى فكرة الجهاد الابتدائي، أما بعد ذلك وعندما أراد الجمع بين المجموعة الرابعة والخامسة من جهة والمجموعات الثلاث الأولى من جهة أخرى.. جعل ما سوى الثالثة وما بعدها محمولاً على صورة منع الحاكم من نشر الإسلام، مع أنّه التزم أنّ الأولى والثانية صارتا مختصّتين بالدفاع، نتيجة التقييد الذي افترضه؛ ففي نظريته بعض الغموض والارتباك، إلاّ إذا فرض أن حمل الأولى عنده على الدفاعية معناه الدفاع حتى عن حقّ الناس في اختيار دينها، وقد تقدّم الكلام في قضية ربط الجهاد الابتدائي بالدفاع عن حريّة المعتقد، وأنّ هذا الربط ـ ببعض تفسيراته ـ استنتاج لا يستند إلى دليل من النصوص؛ بل إنّ أدلّة الجهاد الابتدائي عند القائلين به تشمل ـ فقهياً ـ حالة سماح الطرف الآخر بحرية الاعتقاد وعدمها.
وعلى أيّة حال، فالمستَنْتَج من الاستدلال القرآني ــ ببيانيه ــ أنّه لم يقم دليل ظاهر واضح ــ حتى الآن ــ سوى آية الجزية لو بقينا معها لوحدها، أمّا لو ربطناها بسلسلة الآيات الأخرى فقد يدّعى قيامها على المرتكز في ذهن المتشرّعة آنذاك من دفاعية الحرب زمن النبي، فليس في القرآن نصّ واضح على الجهاد الابتدائي وأقصاه نصٌّ محتمِل لوجوه، وسنبقيه ـ دون بتّ سلبي أو إيجابي ـ للنظر فيه نهاية البحث إن شاء الله سبحانه بعد جمع عناصر الأدلّة الأخرى.
نظرية التطوّر التصاعدي في التشريع القرآني للجهاد
وفي سياق تحليل فهم التراث الفقهي والتفسيري الإسلامي لنصوص الجهاد في القرآن، نجد في تحليل بعض العلماء لنصوص السماحة والصلح والسلم وغيرها إشارات توحي باعتقادهم بحصول نسخ شديد في آيات العلاقة السلمية مع الآخر، وأن تشريعات العلاقة مع الآخر جاءت على عدّة مراحل:
المرحلة الأولى: وهي مرحلة اللاحرب، والدعوة السلمية والجدال بالتي هي أحسن وما شابه ذلك من مفاهيم تنهى عن القتال. وهذه هي الفترة المكية من عمر الدعوة الإسلامية التي قيل: إن سبعين آية نزلت فيها تنهى عن القتال.
المرحلة الثانية: وهي مرحلة الإذن بالجهاد دون فرضه على المسلمين، وذلك ما كان أوّل الهجرة، وربما ـ على رأي ـ في الفترة المكّية نفسها.
المرحلة الثالثة: وهي مرحلة وجوب الجهاد الدفاعي، الذي جاء في بداية تشريعات الجهاد، إلى أواخر الحقبة المدنية، ونزلت في هذه الفترة نصوص جهاد الدفاع ونصوص الصلح إذا أوقف العدو الحرب، ونصوص الحياد السلمي، وغير ذلك من النصوص.
المرحلة الرابعة: وهي المرحلة الحاسمة، التي جاءت مع مثل آيات سورة التوبة لتعلن نهاية العلاقة السلمية وعلاقة الدفاع، وتطلق المسلمين من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم، وبهذا شرّع الجهاد الابتدائي، ونسخت النصوص السابقة التي تهيمن عليها صفات الموادعة والسلم والمصالحة و..
هذا الفهم التصاعدي لنظرية الجهاد في القرآن هو ما نجده في كلمات بعض العلماء الباحثين في قضايا الصلح والهدنة وغيرهما([67]). حيث يرون أن آيات سورة التوبة أنهت مرحلة المهادنات وأعلنت مبدأ الحرب بوصفه المبدأ الدستوري الأوّل في العلاقات الدولية مع غير المسلمين. وهذه النظرية لا تتمّ إلا إذا ثبت أن آيات مثل سورة التوبة تريد فعلاً الشروع بمرحلة جديدة، وأن فيها دلالة على ذلك، الأمر الذي وجدنا أنه غير واضح من خلال دراسة تركيبية الآيات وسياقها ومناخها، علماً أننا استعرضنا تفصيلات كثيرة تتصل بنصوص الصلح والهدنة لدى دراستنا هذا الموضوع في دراسة أخرى.
من هنا، يلاحظ على ما ذكره بعضهم من عدم وجود دليل على تخصيص الآيات المطلقة هنا، والتي هي الآيات المتأخرة نزولاً؛ إذ لا دليل عليه، كما أن التخصيص في قوّة النسخ، وإذا أخضعناه لنظام الناسخ والمنسوخ لزم أن يكون الناسخ ـ أي المخصّص هنا ـ متأخراً زماناً عن المنسوخ، والحال أن المنسوخ ـ الذي هو آيات سورة براءة ـ هو المتأخر زمنياً عن الناسخ؛ فمعيار النسخ والتخصيص لا ينطبق هنا، حتى أن آيات الصلح والمهادنة لا نسخ بينها وبين آيات سورة براءة لاختلاف حالتهما وموضوعهما ونطاقهما([68]).
وقد استنتجنا مما أسلفنا في تحليل الآيات نقد هذه التصوّرات وذلك:
1 ـ إنّ مفهوم ـ بل منطوق ـ جملة من آيات الدفاع بصلح لتقييد إطلاقات أدلة مثل سورة براءة، كما أسلفنا.
2 ـ إنّ نظام التخصيص وإن كان شكلاً من أشكال النسخ وفقاً لبعض النظريات في أصول الفقه الإسلامي، لكنّ شرط التأخر لا يؤخذ فيه إطلاقاً؛ لأن النسخ بالتخصيص كما يمكن أن يكون بعد ولادة المطلق والعام، كذلك قد يولد المطلق والعام مقيّدين بمفاد النصّ المخصّص السابق زمناً عليهما؛ فإذا جاء نصٌّ يحرّم أكل غير السمك في البحر، ثم جاء يجيز الأكل بصيغة الإطلاق مثل: «لك أن تأكل ما في البحر»، فهنا كما يحتمل أن يكون المطلق قد ألغى الخاص بنظام النسخ، كذلك يحتمل جداً أن يكون ولد مقيداً بما سبق وأنه بيّنه المقنّن من قبل، وهذا يجوز فيما إذا كان حكم الخاص قد رسخ في ذهن المتشرّعة بحيث لم يعد يحتج المقنّن إلى بيان خروجه اعتماداً على مركوزيته، فيصبح في قوّة القرينة المتصلة لا المنفصلة.
3 ـ كيف تم إخراج نصوص الصلح والمهادنة عن نظرية النسخ ـ بهذا المعنى ـ مع أن بعض هذه النصوص ـ كما درسناه مفصلاً في بحث الصلح والهدنة ـ يشمل حالة الجهاد الابتدائي، فيعارض الموقف؟! فوجوب الجنوح للسلم عند ميل الطرف الآخر له مطلقٌ يشمل تمام الأزمنة، فيعارض وجوب الجهاد الابتدائي مع هذا الطرف، وليس في أدلة الصلح والهدنة تقييد بحالة ضعف المسلمين كما تصوّره أكثر الفقهاء وناقشناه في موضعه مفصّلاً.
إذن، فنظرية التشريع التصاعدي ـ إذا صحّت ـ تصح فيما عدا المجموعة الأخيرة التي ادّعي نسخها لعشرات الآيات القرآنية، وهي دعوى ثقيلة تكلّف صاحبها حشد المزيد من الشواهد، حتى أن بعض العلماء ذكر أن آية السيف وأمثالها نسخت مائةً وأربعاً وعشرين آية في القرآن تتحدّث عن الصفح عن المشركين وعن العلاقات السلمية معهم([69])، وهذا ـ على حدّ قول الزحيلي ـ إسراف في القول بالنسخ في القرآن([70])، كما قيل: أن آية انسلاخ الأشهر الحرم نسخت سبعين آية في القرآن الكريم([71]).
الجدير بالذكر أننا هنا ننفي النسخ بملاحظة الآيات القرآنية، وإلا فسيأتي أنّ بعض الروايات تؤكّد مقولة النسخ هنا في الجملة، وسنبحثها فيما بعد بإذن الله.
4 ـ إن بعض آيات المجموعات الأخرى تأبى النسخ ولا تحتمله في حدّ ذاتها؛ فقوله تعالى: وَ قاتِلُوا في سَبيلِ اللَّهِ الَّذينَ يُقاتِلُونَکُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدينَ (البقرة: 190) لا تحتمل النسخ، فهي تعتبر ـ بحسب هذا التفسير ـ أن مقاتلة من لم يقاتلنا اعتداء، والاعتداء منبوذ، فهو ظلم، فكيف تأتي الآيات اللاحقة لنسخ هذا الحكم؟ فهل تريد أن تجيز الظلم والاعتداء؟!([72])، بل هذا التعبير موجود في بعض الآيات التي استدلّ بها هنا، كآية القتال حتى لا تكون فتنة، إذ ورد في ذيلها النهي عن العدوان إذا انتهى؛ لأن العدوان لا يكون إلا على الظالمين، كما فهم ذلك سيد سابق في فقه السنة، رغم توسعته مفهوم الدفاع لمن منع تبليغ الدين([73]).
وهذه الملاحظة التي ذكرها الزحيلي قد يسجل عليها أن القرآن ألغى اعتبار هذا الفعل ظلماً وقبيحاً في مرحلة لاحقة، أي أنه سلب عنه هذا الوصف. وهذه الملاحظة قد تتم بناء على نظرية التحسين والتقبيح الشرعيين لكنها لا تتم بناءً على التحسين والتقبيح العقليين، إلا إذا قيل: إن تغيّر الظروف جعل مهاجمة غير المقاتل غير عدواني، بحيث كان عدوانياً ثم ألغي هذا الوصف منه؛ لأن المقاتلة ليست قبيحاً ذاتياً وإنّما فيها اقتضاء القبح عندما تكتمل ظروف ذلك.
البحث القرآني، ملاحظات واستنتاجات
الذي يبدو من مجمل ما أسلفنا الإشارة إليه أن القرآن الكريم لم يطرح ـ بوضوح ـ شيئاً اسمه الجهاد الابتدائي الدعوي بالتفسير الذي عرفه الفقه الإسلامي، ولا حتى بتفسيرات بعض الإسلاميين المحدثين الذين تأوّلوا في هذا الموضوع. والنصوص التي اعتمد عليها ليست بهذه الدرجة من الوضوح لتأسيس ما نراه أهم مبدأ دستوري في العلاقات الخارجية، والمشكلة الأساس هنا أنه درست النصوص ـ عند بعضهم ـ دراسة خالية من:
1 ـ الرصد التاريخي المحيط بنزول النصوص، فآيات مطلع سورة براءة جاءت في سياق اعتداء ضدّ المسلمين وسلسلة خيانات عرفها المسلمون كان آخرها نقض صلح الحديبية بالاعتداء على خزاعة، وهذا السياق التاريخي الواضح لا يمكن فصله عن الشدّة التي تريدها الآيات، بل هي نفسها صرّحت بخرقهم العهود، وترصّدهم وكيدهم، فمثل هؤلاء لا مجال بعد هذه الفرص للوثوق بهم والعمل باتفاقات معهم؛ إذ طفح الكيل من اعتداءاتهم، وهذا المنطق التصاعدي ـ بهذا المعنى ـ وجدناه أيضاً في سياسة الرسول‘ مع يهود المدينة، حتى وصل الأمر إلى ما وصل إليه مع بني قريظة؛ إذ جرّب النبي ـ وقد بحثنا هذا الموضوع مفصلاً في دراسة أخرى ـ سياسة الطرد من المدينة، لكنه لم يجد معها سوى المؤامرة، كما فعل حيي بن أخطب وبنو النضير بعد طردهم إلى خيبر وإلى شمال المدينة المنوّرة.
كان من الطبيعي للمناخ التصاعدي لتأزم الأوضاع وتتالي الاعتداءات وخرق الاتفاقات أن يصدر قرارٌ حاسم، حتى لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين؛ فهذا هو المنطق العقلاني، لكنّ بعض الباحثين في الفقه الإسلامي ترك السياقات التاريخية جميعها ـ وما أكثر نسيان التاريخ في بعض الدراسات ـ ونظر للنصّ بطريقة مجتزءة، فكان أن فهم الجهاد الدعوي؛ فيما الآيات إنما استثنت إسلامهم لا لكون الجهاد غرضه الإسلام؛ بل لأن هؤلاء لا وقف للحرب معهم؛ لأن المعاهدة لم تعد مجدية مع مثلهم بعد التجربة.
2 ـ ونتيجة لغياب الرصد التاريخي السياقي عند بعضهم، جرى فهم النصوص التي تتحدّث عن صفات المشركين والكافرين على أنها قضايا حقيقية، لا خارجية، فكأنها تخبرنا أن المشركين لا عهد لهم إلى يوم القيامة، أو تنبؤنا أنهم سيخونون إلى يوم القيامة، مع أنّ الرصد التاريخي يؤكد أن هذه النصوص كانت في الغالب ناظرة إلى الواقع التاريخي السائد آنذاك، والأحداث المتتالية التي وقعت، لكن لا بمعنى تلاشي الآيات لأجل زوال تلكم الأقوام، بل بمعنى أن الأوصاف الخارجية التي طرحتها الآيات كان لها تأثيرات في الأحكام التي شهدتها سورة براءة بالخصوص، وهذه نقطة مهمة.
3 ـ قراءة أكثر معقولية لظاهرة النسخ في القرآن؛ فالطريقة التي تعاطى بها بعض المفسّرين والفقهاء جعلت من آية أو بضع آيات قليلة ناسخة لأكثر من مائة آية؛ وهذا أمر يستحق أن نقف عنده؛ فبدل أن تؤخذ النصوص السابقة الكثيرة على أنها تحوّلت لمفاهيم راسخة في الوعي، ولهذا لم تحتج الآيات اللاحقة لإعادة تكرار بعض المفردات، خصوصاً مع نزولها أواخر العهد النبوي، وهذا شيء منطقي وطبيعي يعمل به الناس في بياناتهم القانونية، وتستخدمه البنود القانونية والدستورية في العالم.. بدل ذلك أطيح بحوالي خُمس آيات الأحكام، أي خمس الفقه القرآني كما هو المشهور في عدد آياته، لصالح ما لا يزيد عن أربع أو خمس آيات ليست كلّها واضحة الدلالة، وحصل اضطراب غير عادي في هذا الأمر يلحظه كل من راجع كتب تفاسير المسلمين.
أيّهما هو الأصحّ منطقياً: افتراض النسخ بهذه الطريقة أم افتراض ما نسمّيه الاستبطان؟ أي أن آيةً ما تستبطن مفهوماً لا تذكره اعتماداً على جهود آيات أخرى قامت بتركيزه؛ وهذا شيء طبيعي يضاف إليه نظام الإطلاق والتقييد.
ـ للبحث صلة ـ
الهوامش
([1]) هذا يفهم من كلمات الكثير منهم، وانظر: محمد مهدي شمس الدين، جهاد الأمة: 73، 107، 113.
([2]) النجفي، جواهر الكلام 21: 4.
([3]) كاشف الغطاء، كشف الغطاء 4: 289.
([4]) القمي، جامع الشتات 1: 368.
([6]) المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية 1: 115، وانظر له: نظام الحكم في الإسلام: 58.
([7]) ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد 1: 312.
([9]) الحصكفي، الدرّ المختار 4: 296.
([10]) أنظر: الفتاوى الهندية 2: 188؛ والرعيني، مواهب الجليل 4: 535 ـ 536؛ والآبي الأزهري، الثمر الداني: 411؛ وجواهر الإكليل 1: 250؛ والكركي، جامع المقاصد 3: 365 و..
([11]) أنظر ـ على سبيل المثال ـ : الخوئي، منهاج الصالحين 1: 364 ـ 366؛ والمنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 1: 117 ـ 121؛ والخامنئي، أجوبة الاستفتاءات 1: 331؛ والتبريزي ـ كما يستوحى منه ـ في صراط النجاة 3: 359؛ ومثله: فضل الله، المسائل الفقهية 1: 27.
([12]) أُنظر على سبيل المثال: سيد سابق، عناصر القوة في الإسلام: 210 ـ 211، نشر دار الكتاب العربي، بيروت، 1986م، وله كلام في الفتنة عن الدين ص222؛ ومحمد عزة دروزة، الجهاد في سبيل الله: 48؛ وأحمد شلبي، الجهاد والنظم العسكرية في التفكير الإسلامي: 58 ـ 62، نشر مكتبة النهضة، مصر، طـ 3، 1982؛ ومطهري، الجهاد وحالاته المشروعة في القرآن: 7، 21، 31 ـ 38، 42 ـ 44، ترجمة: ناظم شيرواني، نشر منظمة الإعلام الإسلامي، قسم العلاقات الدولية، طهران، 1404هـ؛ وعلي عبدالحليم محمود، ركن الجهاد أو الركن الذي لا تحيا الأمة إلا به: 71، نشر دار التوزيع والنشر الإسلامي، سوريا، الطبعة الأولى، 1995م؛ وصادق خلخالي، زاد المعاد في أحكام الجهاد: 35 ـ 37، نشر تفكر، إيران، الطبعة الأولى، 1414هـ؛ وكامل سلامة الدقس، آيات الجهاد في القرآن الكريم: 81 ـ 90؛ ووهبة الزحيلي، آثار الحرب في الفقه الإسلامي: 90 ـ 94؛ 125؛ وإن كان في بعض عباراته بعض الغموض في تحديد موقفه؛ والطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 2: 64 ـ 69، 4: 164؛ والمنار 10: 281؛ وسيد قطب، في ظلال القرآن 3: 1633؛ والمنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 1: 115 ـ 116؛ و 2: 711؛ والأمثل 2: 26 ـ 29، و5: 426؛ ومحمد الصدر، ما وراء الفقه 2: 373 ـ 374 و..
([13]) أنظر: ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية: 160، ضمن: مجموع الفتاوى، مج 16، ج28، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2000م.
([14]) وهم كثر، يظهرون من خلال الإحالات والهوامش في هذا البحث، وانظر: محمد خير هيكل، الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 1: 597 ـ 604؛ هذا وقد ذُكر أن الدفاعية في الحروب الإسلامية مقولة غزت كتّاب التاريخ الإسلامي والنبوي المتأخرين، وغيرهم، ومنهم: عبدالرحمن عزام في كتابه: الرسالة الخالدة، وأحمد أمين ومحمد حسين هيكل في كتابيهما المعروفين، ومحمد حسين فضل الله في كتابه: الجهاد، ومحمد مهدي شمس الدين في كتابه: جهاد الأمّة، وصالحي نجف آبادي في كتابه: جهاد در إسلام، ومحمد سعيد رمضان البوطي في كتابه: الجهاد في الإسلام، وجودت سعيد في حوار لمجلة الحياة الطيبة معه، ومحمد عزة دروزة في كتابه: الجهاد في سبيل الله، والحكيم، والعقاد، وشيث خطاب، والشرقاوي، وعبدالحميد جودة السحار، وغيرهم كثير، وانظر أيضاً: الزايد، فيما ينقله عنه صالح اللحيدان في كتاب الجهاد في الإسلام: 104.
([15]) أُنظر: وهبة الزحيلي، آثار الحرب في الفقه الإسلامي: 86 ـ 87؛ وأكبر الظن أن الدكتور الزحيلي فهم من هذا القول الذي يرى الجهاد تطوّعاً إلا لدفع الأعداء.. أنهم لا يوجبون الجهاد، لهذا علّق بأن القول بالتطوّع غير صحيح.. والذي يبدو أنهم يقولون بوجوب الجهاد الدفاعي دون الابتدائي؛ فإنه تطوّع، فهم لا ينكرون الابتدائي، ولا يقولون بمحض الدفاعية، كما لا ينكرون أصل الوجوب، وبهذا تسجّل الملاحظة عينها على ظافر القاسمي ونجيب الأرمناني، فانظر: الجهاد والحقوق الدولية العامة في الإسلام: 175.
([16]) الشوكاني، كتاب السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار 4: 488، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، نشر لجنة إحياء التراث الإسلامي بوزارة الأوقاف، مصر، 1988م.
([17]) لمزيد من الإطلاع أُنظر: الشيخ عبدالله بن عبدالزايد فيما ينقله عنه صالح اللحيدان في كتاب: الجهاد في الإسلام بين الطلب والدفاع: 102 ـ 111؛ وياسين سويد، الفن العسكري الإسلامي: 46، 62 ـ 63، نشر شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، طـ2، 1990م؛ وبسام العسلي، المذهب العسكري الإسلامي: 30، دار النفائس، بيروت، طـ 1، 1993م؛ حيث استدل بآيات سورة براءة؛ وحسين الحاج حسن، النظم الإسلامية: 476 ـ 478، نشر المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1987م و…
([18]) أُنظر: المفيد، المقنعة: 269؛ وفخر المحققين، إيضاح الفوائد 1: 389؛ وكلانتري، الجزية وأحكامها: 14.
([19]) أُنظر: الطوسي، الخلاف 5: 520.
([20]) المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 3: 366 ـ 367؛ والمارديني، الجوهر النقي 9: 184؛ وابن حزم، الإحكام 7: 904.
([21]) النووي، المجموع 19: 417؛ وانظر: ابن قدامة، المغني 10: 577؛ والشرح الكبير 10: 603.
([23]) أُنظر فهمهم لهذه الآية بهذه الطريقة تقريباً في مثل: الطوسي، الخلاف 1: 690؛ والمبسوط 2: 51؛ والروضة البهية 2: 380؛ وكتاب الأم 1: 293؛ والمحلى 11: 196؛ وبداية المجتهد ونهاية المقتصد 1: 311؛ والميزان في تفسير القرآن 9: 151 ـ 152؛ والأمثل 5: 535 ـ 536، رغم أنه في موضع آخر فهم اختصاص الآية بالمشركين العدوانيين، فانظر: الأمثل 18: 254؛ وجامع البيان 5: 271 ـ 272؛ والجصاص، أحكام القرآن 3: 105؛ وابن العربي، أحكام القرآن 2: 456؛ وتفسير القرطبي 8: 74؛ والغرناطي، التسهيل لعلوم التنـزيل 2: 71؛ والخوئي، منهاج الصالحين 1: 360.
([24]) استند عدد من الفقهاء والمفسّرين لهذه الآية هنا وفسّروا الفتنة بالكفر أو الشرك أو ذكروه وطرحوه منهم: الأردبيلي، زبدة البيان: 309؛ والمنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 1: 116؛ و 3: 375؛ والخوئي، منهاج الصالحين 1: 360؛ والشافعي، كتاب الأم 4: 181 (ينقل ذلك)، و 303، و7: 319؛ والسرخي، المبسوط 10: 2، و26، و26: 132؛ وابن رشد، بداية المجتهد 1: 306؛ والمازندراني، شرح أصول الكافي 12: 267؛ وبحار الأنوار 20: 321؛ وعمدة القاري 18: 108؛ وتفسير العياشي 2: 60 ـ 61؛ وتفسير القمي 1: 278؛ وتفسير التبيان 2: 147 ـ 148، و 5: 120 ـ 121؛ والكشاف 1: 342، و2: 157؛ وجوامع الجامع 1: 190، و 2: 24؛ ومجمع البيان 2: 31 ـ 32، و4: 466؛ والراوندي، فقه القرآن 1: 343، 345؛ والطريحي، تفسير غريب القرآن: 551؛ وتفسير الأصفى 1: 438؛ وتفسير الميزان 2: 62 ـ 63؛ وتفسير شبّر: 68، 194؛ وتفسير الأمثل 2: 22 ـ 25، و5: 426؛ وتفسير مجاهد بن جبر 1: 98 (وإن جعل المقاتلة لمن يقاتلنا فقط)؛ وتفسير مقاتل بن سليمان 1: 101، و2: 17؛ وتفسير الثوري: 119؛ والشافعي، أحكام القرآن 2: 51؛ وتفسير الصنعاني 1: 73؛ وتفسير الطبري 2: 264 ـ 267، و9: 327 ـ 330 (وان نقل من فسّر الفتنة بالامتحان و ..)؛ وتفسير ابن أبي حاتم الرازي 1: 327، و5: 1701؛ والنحاس، معاني القرآن 1: 108، و3: 154 ـ 155؛ والجصّاص، أحكام القرآن 1: 316، و3: 65، 147؛ وتفسير السمرقندي 1: 154، 420، و2: 21؛ وتفسير ابن أبي زمنين 1: 205، و 2: 177؛ وتفسير الثعلبي 2: 89، و4: 356؛ وتفسير الواحدي 1: 155، 440، وتفسير السمعاني 1: 193، و2: 165؛ وتفسير البغوي 1: 162، و2: 248؛ وتفسير النسفي 1: 94، و2: 65؛ وابن العربي، أحكام القرآن 1: 146، 154 ـ 157 (واحتمل أن يراد أن لا يفتن أحد عن دينه من المسلمين في ج2: 399، واستعرض هذا الاحتمال وغيره ابن عطية الأندلسي في المحرّر الوجيز 2: 527، 528)؛ وابن الجوزي، زاد المسير 1: 182، و3: 243؛ وتفسير القرطبي 2: 353 ـ 355، و6: 213، و7: 404؛ وتفسير البيضاوي 1: 477، و3: 108؛ والغرناطي، التسهيل لعلوم التنـزيل 2: 65 ـ 66؛ والأندلسي، تفسير البحر المحيط 2: 75 ـ 76، و4: 489؛ وتفسير ابن كثير 1: 234؛ والفيروزآبادي، تنوير المقباس: 26 ـ 27، 148 (لكنه خصّصها بالشرك في الحرم لا مطلقاً)؛ وتفسير الثعالبي 1: 403، و3: 132 ـ 136؛ والإتقان 2: 95؛ والدر المنثور 1: 205؛ وتفسير أبي السعود 1: 204، و4: 21؛ والشوكاني، فتح القدير 1: 191 ـ 193، و2: 308 (وإن ذكر الفتنة عن الدين)؛ والآلوسي، روح المعاني 2: 76، و9: 207؛ والسعدي؛ تيسير الكريم الرحمن: 89، 321؛ والشنقيطي، أضواء البيان 4: 79، و5: 289، 559 ـ 560، و6: 118، و7: 545؛ ومحمد الصدر، ما وراء الفقه 2: 374 و..
([25]) لاحظ: ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير 2: 203 ـ 206.
([26]) أنظر: البرّاك، ردود على أباطيل وشبهات حول الجهاد: 81؛ والطباطبائي، الميزان 9: 404.
([27]) راجع وإن لم يُفهم منه الابتدائية: تفسير القرطبي 2: 350 و8: 297؛ وابن العربي 1: 145؛ وابن كثير 2: 416 و..
([28]) أُنظر البرّاك، ردود على أباطيل وشبهات حول الجهاد: 82 ــ 84.
([29]) فضل الله، كتاب الجهاد: 212؛ وشمس الدين، جهاد الأمة: 240 ــ 241.
([30]) ابن العربي، أحكام القرآن 2: 482 ـ 483؛ والتفسير الكبير 16: 27؛ وتفسير المراغي 4: 95؛ والمنار 10: 289؛ والزحيلي، التفسير المنير 10: 178.
([31]) وقع في ذلك ظافر القاسمي لدى تحليله كلمات مثل ابن الصلاح الشهرزوري، فانظر له: الجهاد والحقوق الدولية العامّة في الإسلام: 176 ـ 178، دار العلم للملايين، ط1، 1982م؛ وكذلك قفز وهبة الزحيلي من نصّ شبيه للشربيني (مغني المحتاج 4: 210)، إلى فهم مبدأ الدفاعية المحضة، فانظر: آثار الحرب في الفقه الإسلامي: 89 ـ 90.
([32]) ابن تيمية، السياسة الشرعية: 160.
([33]) انظر: الخوئي، البيان: 289؛ ومحمد باقر الحكيم، علوم القرآن: 207 ـ 208.
([34]) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 8: 109؛ وابن كثير، تفسير القرآن العظيم 2: 360؛ والدر المنثور 3: 228.
([35]) شمس الدين، جهاد الأمة: 240؛ وفضل الله، كتاب الجهاد: 212 ــ 213.
([37]) فضل الله، كتاب الجهاد: 210؛ وشمس الدين، جهاد الأمة: 235 ــ 236.
([38]) شمس الدين، جهاد الأمّة: 236 ـ 237.
([39]) فضل الله، كتاب الجهاد: 211؛ وشمس الدين، جهاد الأمة: 239.
([40]) فضل الله، كتاب الجهاد: 211.
([41]) راجع: الطبرسي، مجمع البيان 5: 14، وغيره من المفسّرين.
([42]) فضل الله، كتاب الجهاد: 211 ــ 212؛ وراجع: شمس الدين، جهاد الأمة: 239 ــ 240.
([43]) العيني، عمدة القاري 1: 178.
([44]) محمود شلتوت، تفسير القرآن الكريم: 531، نشر المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب، طهران، 1421هـ.
([45]) الفراهيدي، العين 8: 127 ــ 128.
([46]) الجوهري، صحاح اللغة 6: 2175 ــ 2176.
([47]) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة 4: 472.
([48]) ابن منظور، لسان العرب 13: 317 ــ 321.
([49]) مختار الصحاح: 255؛ وعمدة القاري 5: 9.
([50]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 37؛ مركز النشر، مكتب الإعلام الإسلامي، إيران، الطبعة الثانية، 1406هـ.
([51]) ابن عبدالبر، التمهيد 2: 123.
([52]) الملفت أن العلامة الحلي فهم من الآية الظلم، فانظر له: الرسالة السعدية: 148؛ وفهم منها جودت سعيد تعذيب الكفار وحلول العذاب منهم على المسلمين، فانظر الحوار معه في مجلة الحياة الطيبة، العدد 10: 70، صيف، 2002م.
([53]) أُنظر: صحيح البخاري 5: 157، 200، و8: 95؛ وانظر نحو هذا الخبر مما يفيد فهم هذا الأمر منهم: سنن ابن ماجة 2: 1296.
([54]) ابن حزم، المحلّى 7: 348.
([55]) أنظر: تفسير المراغي 4: 95؛ والمنار 10: 289؛ والتفسير المنير 10: 175، 178؛ ويظهر من مطاوي كلام مغنية في تفسير الكاشف 4: 32.
([56]) أُنظر: تفسير الكاشف 4: 32؛ وفي ظلال القرآن 3: 1620؛ وابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير 10: 64.
([57]) ابن العربي، أحكام القرآن 1: 156؛ وانظر: القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 8: 110.
([58]) أ. ج نوراني، الجهاد والإسلام، التحيّز في مواجهة الواقع: 82، ترجمة: رياض حسن، دار الفارابي، بيروت، ط 1، 2007.
([59]) ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير 19: 252.
([60]) صالحي نجف آبادي، جهاد در إسلام (الجهاد في الإسلام): 92 ـ 94.
([61]) محمد حسين فضل الله، تفسير من وحي القرآن 17: 207.
([62]) صالحي نجف آبادي، جهاد در إسلام: 94 ـ 95.
([63]) المصدر نفسه: 96 ـ 97، وقد سجّل ثمانية إشكالات يرجع المهمّ منها إلى ما قلناه، حيث كرّر وداخل بين الإشكالات.
([64]) انظر: مطهري، الجهاد وحالاته المشروعة في القرآن: 19 ـ 26، 30؛ والسبحاني: «رسائل ومقالات» 2: 114 ــ 122؛ ودفاعية حروب النبي بل والصحابة أشار إليها مثل: تفسير المراغي 4: 92؛ وتفسير المنار 10: 281؛ ومحمود شلتوت، تفسير القرآن الكريم: 526 ـ 529، 589 ـ 600.
([65]) أنظر: صالحي نجف آبادي، جهاد در إسلام: 32، 34.
([66]) مطهري، الجهاد وحالاته المشروعة في القرآن: 39 ـ 40.
([67]) أنظر: ابن حجر، فتح الباري 7: 218؛ والسرخسي (والشيباني)، شرح السير الكبير 1: 187 ـ 188؛ وله أيضاً: المبسوط 10: 2 ـ 3؛ وبعض هذه المراحل جاءت ـ مع تأكيد واضح على فكرة الابتدائية ـ في كلمات ابن تيمية في السياسة الشرعية: 157 ـ 162؛ والشربيني ـ مع اختلاف طفيف في المراحل ـ في مغني المحتاج 4: 208 ـ 209؛ وابن عابدين، حاشية ردّ المحتار 4: 298؛ وصالح اللحيدان، الجهاد في الإسلام بين الطلب والدفاع: 43 ـ 53، دار الصميعي، الرياض، ط5، 1997م؛ وينقل أيضاً عن دراسة للشيخ عبدالله بن عبدالله الزايد فانظر ص 102 ـ 106؛ وعلي عبدالحليم محمود، ركن الجهاد: 52 ـ 61؛ والموسوعة الفقهية (الكويتية) 16: 125 ـ 126.
([68]) أنظر: الشيخ عبدالله بن عبدالله الزايد، فيما ينقله عنه صالح اللحيدان في كتاب: الجهاد في الإسلام بين الطلب والدفاع: 103 ـ 108.
([69]) أنظر: ابن الجوزي، نواسخ القرآن: 173 ـ 174؛ والسيوطي، الإتقان 2: 64؛ وابن عطية الأندلسي، المحرّر الوجيز 3: 8؛ والزركشي، البرهان 2: 40.
([70]) آثار الحرب في الفقه الإسلامي: 130.
([71]) أنظر: تفسير السمرقندي 2: 39 ـ 40.
([72]) وهبة الزحيلي، آثار الحرب في الفقه الإسلامي: 110 ـ 111.