سنحاول في هذه الدراسة ـ بعون الله ـ معالجة موضوع يلتقي من جهة بمسألة الحريات الدينية، ومن جهة ثانية بقضية الجهاد في الفقه الإسلامي، ألا وهو موضوع الجهاد الابتدائي الدعوي الذي تقوم به الدولة الإسلامية من دون سابق عدوان من قبل الطرف الآخر، هادفةً بذلك إخضاع غير المسلمين لها أو قهرهم على الدخول في الدين الإسلامي وإلا تعرّضوا للقتل والهلاك، فإذا لم يكونوا من أهل الكتاب لم يروا مع عدم الإسلام إلا الموت، وأمّا إذا كانوا منهم فإنّ أمامهم ثلاثة خيارات: الإسلام أو الخضوع لنظام الذمّة ودفع الجزية، فإن رفضوا الاثنين فالموت والهلاك.
وتوجد هنا نظريّتان: إحداهما المعروفة والسائدة في الموروث الفقهي الإسلامي عامّة، وهي التي تتحدّث عن شرعيّة هذا الجهاد، بل وجوبه ضمن تحديد زمني وضعت جدولته هناك، ونظرية أخرى تذهب إلى حظر هذا الجهاد ومنعه واعتباره غير شرعي وفاقداً للأساس المبرّر له في النصوص الدينية.
وقد قمنا في دراسة أخرى مفصّلة بتحليل النظرية الأولى، وتفكيك مستنداتها ومبرّراتها العقلية والنقلية، وفقاً لأصول الاجتهاد الإسلامي السائد، وتوصّلنا هناك إلى عدم توفّر دليل حاسم ومقنع على نظرية شرعيّة هذا الجهاد أو وجوبه بهذه الطريقة([2])، من هنا سوف نحاول في هذه الوريقات التعرّض للنظرية الثانية (عدم شرعيّة الجهاد الابتدائي)، والتي تتخذ في بعض الأحيان من نصوص الحريات الدينية أساساً لقيامة تصوّرها، لكن دون أن يكون موضوع الحريّات الدينية هو محلّ قراءتنا هنا بالتفصيل؛ لأنّنا لن نقترب منه إلا بمقدار اقتراب موضوعة الجهاد الابتدائي منه، ومن ثم لن يكون حديثنا مرتبطاً ـ مثلاً ـ بمسألة الردّة وحدّ الارتداد.
لم تطرح هذه النظرية بشكل واضح وصريح في الوسطين: الشيعي والسنّي، سوى في القرنين الأخيرين، وقد قدّمت في هذا المجال بعض الآراء والأفكار، وكان من أبرز الشخصيّات الشيعية التي عالجت هذا الموضوع لتختار عدم وجود الجهاد الابتدائي في الشريعة الإسلامية العلامتان المغفور لهما: الشيخ محمد مهدي شمس الدين في كتابه (جهاد الأمّة)، والسيد محمد حسين فضل الله في (كتاب الجهاد)، وكذلك المغفور له الشيخ نعمة الله صالحي نجف آبادي في كتابه (جهاد در إسلام/الجهاد في الإسلام)، أما على صعيد أهل السنّة فقد تمّ تداول أسماء بعض الشخصيات كذلك، مثل الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، وبعض كلمات الشيخ محمود شلتوت، والدكتور محمد عبد الله دراز، وعلي علي منصور، وبعض كلمات الدكتور وهبة الزحيلي وغيرهم، وقد تعرّضت بعض كتابات هذه الشخصيات للنقد، لاسيما منها الشيخ البوطي، ممّا لا يهمّنا التعرّض له هنا؛ نظراً لخروج دراستنا هذه عن معالجة السياق التاريخي.
من الجليّ أنّه لا يوجد لدى أنصار الحرية الدينية النافين لشرعيّة الاجتهاد الدعوي إمكانيّة للاستناد إلى أيّ إجماع إسلامي أو مذهبي؛ لأنّه لا توجد معطيات تاريخية لصالح نفي هذا الجهاد، إن لم نقل بأنّها تميل لصالح اشتهار الاعتراف به في الموروث الإسلامي، وهذا أمرٌ واضح.
كما أنّه لا توجد إمكانية لهم أيضاً في الاستناد إلى السيرة الإسلاميّة أو الفعل النبوي؛ لأنّ السيرة والفعل ـ من حيث كونهما دليلاً لبياً ـ لا ينفيان شرعية الجهاد الابتدائي، بل غاية ما يثبتان أنّ النبي لم يمارس هذا النوع من الجهاد في حياته أو أنّ المسلمين لم يفعلوه أيضاً، وعدم الفعل لا يدلّ على عدم الشرعيّة بالضرورة ما لم تقدّم شواهد معيّنة.
وانطلاقاً من استبعاد مقولات السيرة والفعل والإجماع والشهرة وأمثال ذلك، وجدنا أنّ الفريق المناصر للحرية الدينية ورفض الجهاد الدعوي قد ركّز نظره على الكتاب الكريم بالدرجة الأولى، وعلى تحليل أساسيات المفاهيم الإسلامية في المرحلة الثانية، وتقديم مبرّرات عقليّة في الدرجة الثالثة، إلى جانب اهتمامه النقدي بتفنيد المبرّرات التي قدّمها أنصار الجهاد الدعوي، ممّا تعرّضنا له في دراستنا المستقلّة المشار إليها آنفاً.
لكن قبل كلّ شيء، لابدّ من الإجابة عن هذا السؤال: ما هو الأصل في هذا الموضوع؟ وهل هناك من أصل أو قاعدة أو مستند قبلي يُرجع إليه في موضوعة الجهاد الابتدائي؟
يذهب العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين إلى وجود أصل عقلائي مسلّم في باب تنجّز التكاليف، مركّب من أمرين:
الأمر الأوّل: وصول التكليف بنحوٍ يعقله الإنسان المكلّف، وهذا الأمر كما يجري في المسائل العملية، بأن يعرف المكلّف الحكم ويلتفت إليه حتى يتنجّز عليه، كذلك يجري في المسائل العقائدية، بأن تحصل له قناعة بالأمر العقائدي وتصديق بمضمونه، وإلا فمجرّد التعبير اللفظي الحاكي عن هذا الأمر العقائدي لا يكفي.
الأمر الثاني: القدرة على الفعل والترك، وهذا ما يستدعي أن يكون المتعلّق اختيارياً، نظراً للترابط الشديد ــ كما برهن في علم الكلام الإسلامي ــ بين القدرة والمشيئة، وهنا إذا كان الأمر من المسائل العملية فإنّ معنى الاختيار أن يكون المكلّف بحيث إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وأما إذا كان من العقائديات فلابدّ أن يكون بحيث حصلت المقدّمات الموجبة للقناعة به، فلا يمكن الاقتناع بأمرٍ عقائدي دون حصول البرهان في نفس المكلّف بما يؤدّي إلى حصول العلم عنده، ويرشد إلى هذا الأمر قوله تعالى: ]لا إكراه في الدين[ (البقرة: 256).
وطبقاً لهذين الأمرين، نحلّل الجهاد الابتدائي فنقول: إنه إما أن يراد به حمل الكافرين على اعتقاد الإسلام والعمل بأحكامه، أو يقصد من ورائه مجرّد إخضاعهم لسلطان الإسلام السياسي وصيرورتهم تحت حكم الإسلام ويد المسلمين.
أ ــ فإذا أريد منه الأوّل، فهو واضح البطلان، إذ هو ــ ما لم يقم دليل يقنع الكافرين ــ مخالفٌ للأصل الأولي في باب التكاليف؛ إذ الإيمان دون اعتقاد وقناعة أمرٌ غير مقدور ــ كما تقدّم ــ كما أنّ الإلزام العملي دون اختيار إلجاءٌ لا يتحقق الامتثال معه.
ب ــ وأما إذا أريد الثاني، فهو:
أولاً: خلاف صريح كلماتهم من أنّ هذا الجهاد إنّما هو للدعوة من حيث المبدأ.
وثانياً: خلاف ظواهر الآيات الدالّة على أنّ هدف الجهاد هو الدفاع وردّ الأذى لا الإخضاع.
وثالثاً: إنه يخالف كلام الفقهاء أنفسهم، حيث لم يقبلوا من غير الكتابيين مجرّد الإخضاع، بل خيّروهم بين الإسلام والقتل.
من هنا يلاحظ أن آيات القرآن في مجال الدعوة تنقسم إلى قسمين:
أحدهما: ما دلّ على أنها لا تكون سوى بالشرح والبيان، نحو قوله تعالى: ]قل يا أيها الناس قد جاءكم الحقّ من ربّكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها وما أنا عليكم بوكيل[ (يونس: 108)، وغيره من الآيات([3]).
ثانيهما: ما دلّ على عدم كون استعمال القوّة ووسائل الإكراه من أدوات الدعوة، وإنما الهدف النبويّ كان الدعوة بالحسنى، نحو قوله تعالى: ]ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن[ (النحل: 125)، وغيره من الآيات([4]).
هذا هو الإطار والأصل الذي يُرجع إليه في مسألة الجهاد الابتدائي وفقاً لنظريّة العلامة شمس الدين([5])، وهو يستدعي رفض الجهاد الابتدائي بمعنييه.
ويمكن لنا إبداء مجموعة من التعليقات على ما قدّمة العلامة شمس الدين، نكتفي بأهمّها:
التعليق الأوّل: كان يُفترض أن يُلاحَظ الأصل بمعنييه هنا، أي الدليل أو المرجع الأوّلي العام والنصوص التشريعيّة العليا (كالعمومات الفوقانية)، والأصل العملي الذي يُرجع إليه حال فقدان الدليل، والذي يبدو أنّ الأصل بهذه الصيغة التي قدّمها شمس الدين مقتصرٌ على الناحية الأولى، دون الثانية.
وعليه، فالذي يمكن أن يكون مرجعاً عملياً عند فقدان الأدلّة هنا هو أصالة البراءة عن وجوب الجهاد الابتدائي، فالمفروض أنّنا نشك في وجوبه، والأصل الشرعي أو العقلي والشرعي معاً هو عدم الوجوب.
هذا على مستوى الوجوب، وأما على مستوى الشرعية، فالأصل هو عدم ولاية أحدٍ على أحد وعدم نفوذ تصرّفاته في أمواله ونفسه وعرضه وما يتعلّق به، فما لم يدّع عدم ملكية الكافر لشيء أو عدم احترام نفسه وملكيّته لشيء ما، فالأصل عدم نفوذ تصرّفاتنا في نفسه وأمواله، ومن الواضح أنّ مقولة الجهاد الابتدائي من أبرز مصاديق التدخّل في هذا المجال، فالأصل عدم نفوذ تصرّف المسلمين هذا.
هذا على مستوى الولاية والحكم الوضعي ونفوذ التصرّف، وأما على مستوى جواز الفعل العسكري ـ أو غيره من العقوبات الدنيويّة على تقدير الكفر ـ من الحكم التكليفي، فالأصل الجواز عندهم؛ لعدم دليلٍ على الحرمة.
لكن ذكر الشيخ محسن كديور أصلاً مقابلاً أسماه أصل البراءة من العقوبة الدنيوية على تقدير الكفر([6])، وأنّ أي فعل عقابي مثل الحدود أو غيرها يحتاج إلى دليل.
ويبدو لي أنّ كلا الأصلين غير صحيح:
أ ـ أمّا أصل الجواز، فلأنّه متفرّع على أصالة حرمة النفس والمال في الطرف الآخر، فلو ثبتت الحرمة المذكورة كان مقتضى القاعدة هو الحرمة التكليفية؛ لأنّ الفعل حينئذٍ سوف يعبّر عن تصرّف عدواني في حقّ الطرف الآخر الذي ثبتت الحرمة لنفسه وماله وعرضه، وهو ظلمٌ مشمول لحرمة التصرّف في الغير بدون إذنه. وهذا يعني أنّ المسألة هي مسألة حدود حرمة الغير، فإذا بنى الفقيه على أصل عدم حرمة الإنسان ما لم يُسْلِم أو يعاهد أو يخضع لنظام الذمّة صحّ الاستناد هنا، أمّا إذا بنى على ما هو الصحيح الذي تعرّضنا له في محلّه من أصل حرمة الإنسان، فيكون مقتضى القاعدة هنا هو حرمة التصرّف والعقاب في حقّ غير المسلم ما لم يقم دليل خاصّ؛ لأنّ أصالة البراءة ستكون محكومة لأصل الحرمة الثابت بالدليل حينئذٍ. نعم، لو شكّ في حرمة الإنسان من الأوّل كان أصل عدم الحرمة هو المحكّم.
ب ـ وأمّا أصل البراءة من العقوبة الدنيوية الذي تحدّث عنه كديور، فهو ناظر إلى الطرف الذي ينـزل فيه العقاب أو تعلن ضدّه الحرب، فنقول: هو برئ من أيّ تهمة توجب عقاباً، لكنّ هذه البراءة القانونية هنا مغايرة لأصل البراءة عن الحكم التكليفي الذي نجريه في الحقيقة في حقّ الطرف الذي يريد إنزال العقاب بالكافر، أو إعلان الحرب عليه، ولو نفعت أصالة البراءة من العقوبة لأفادت في مجال حدّ الردّة، لكنّها لا تفيد في مجال الجهاد وفرض الدين؛ لعدم كونهما من باب العقوبات كما هو واضح، فلا يكون في مقابل أصل البراءة عن فعل الطرف المهاجم للكافر أيّ أصل معارض، ما لم نقل بحرمة أصل الإنسان كما تقدّم.
التعليق الثاني: لا شك في توقّف تنجّز التكليف على وصوله للعبد، كما تمّ تبيين هذا الأمر في علم أصول الفقه، كما لا شك في أنّ من الشروط العامة للتكليف الاختيار، وعليه فإذا أريد من الجهاد الابتدائي ــ أو بعض أنواعه ــ فرض الإسلام بالقوّة بالمعنى العقائدي للإسلام، فهو خلاف الأصول العامة المقرّرة في أصول الفقه وفي الفقه الإسلامي، إلاّ أنّ الفقهاء لا يذهبون إلى فرض الإسلام العقائدي بجهاد الدعوة، فهذا التفسير لجهاد الدعوة تفسيرٌ غير فقهي، ويجب أن نفهم طريقة تعامل الفقهاء مع هذا الموضوع، لنحلّل أساسيات تفكيرهم، حيث يقصدون من التخيير بين الإسلام والقتل، الإسلام الصوري الظاهري لا الإسلام القلبي الحقيقي، وإلا فلا يكاد يخفى عليهم أنّ القوّة بهذه الطريقة لا تحصّل إيماناً بالشهادتين، بل تحصّل شخصاً يلفظ الشهادتين ولو لم يؤمن بهما، على أن يسير في ظاهر حياته ــ ولو مضطرّاً ــ ضمن الحدّ الأدنى من ظاهر سيرة المسلمين، فليست الرؤية الفقهية رؤيةً عقائدية، بل تهدف التعامل مع ظواهر الأمور، ولهذا قد يقول أنصار الجهاد الابتدائي: إنّ هذين الأصلين المذكورين، وهما: أصل ربط التنجّز بالوصول أو أصالة الاختيار، لا يمسّان جهاد الدعوة؛ لعدم فرض الإيمان العقدي الوجداني فيه، هذا بعيداً عن أيّ ظهورات لأدلة أخرى، وبقاءً مع أساس هذين الأصلين.
ولا يمنع ذلك من صدق عنوان الإكراه على الدين؛ لأنّ الإكراه عليه كما يُفهم في سياق الإكراه على أمرٍ قلبي، كذلك يمكن في اللغة العربية أن يُفهم في سياق الإكراه على الشكل الظاهري للالتزام بهذا الدين والانتماء له والاندماج في اجتماعه السياسي، ويشهد لذلك قوله تعالى: ]من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم[ (النحل: 106)، فإنّ ذكر الإكراه مع اطمئنان القلب بالإيمان بعد ذكره الكفر بالله بعد الإيمان، يفهم منه أنّ الإكراه كان على الكفر، ورغم أنّه لم يكن هناك كفرٌ قلبي بصريح الآية الكريمة إلا أنّها مع ذلك عبّرت بالإكراه، ممّا يشهد لصحّة التعبير بالإكراه على الدين في غير مجال الفعل القلبي الباطني.
التعليق الثالث: إنّ تسمية الجهاد الابتدائي بجهاد الدعوة وحصره بها تسميةٌ متأخرة، وأنّ الفقهاء المسلمين لم يطلقوا عليه تسميات من هذا النوع، فحتى لو فرضنا أنّ هذا الجهاد لم ينسجم ــ في بعض أشكاله ــ مع الدعوة، فلا يصحّ إبطال هذه الأشكال لذلك؛ لعدم إحراز إدراجه تحت هذا العنوان دائماً، فالنقض على إخضاع الكافرين في هذا الجهاد بأنّه خُلف الدعوة إنّما هو نقضٌ على مفسّري هذا الجهاد بجهاد الدعوة حصراً بها، لا على الآيات والروايات التي استندوا إليها، من هنا يظهر أنّ الاعتماد على الآيات التي تتحدّث عن الدعوة بالحسنى وعدم الإكراه لا يصحّ هنا إلاّ بناءً على تفسير هذا الجهاد بأنه للدعوة لا غير، فإذا جعلناه متعدّد الأغراض ـ ومنها الدعوة ـ لم يصحّ الركون إلى هذه الآيات للتوصّل إلى شيء أساسي في موضوعنا، إذ ليس من البعيد أن يقال بعدم وجود دليل على أنّ الدعوة للدين هي الملاك الرئيس المباشر لهذا الجهاد، وإنّما هو سيطرة قد تشكّل تمهيداً للمشروع الدعوي.
يطرح الرافضون لهذا النوع من الجهاد مجموعةً من الأدلّة التي يرون فيها سدّاً منيعاً أمام منح الشرعيّة له، وأهّم ما قدّموه في هذا المجال أو يمكن أن يقدّموه ما يلي:
ثمّة مجموعات نصيّة قرآنية يمكن أن تشكّل مستنداً لرفض فكرة الجهاد الابتدائي، وقد تبلغ في مجموع كلمات الباحثين في هذا الموضوع سبع أو ثماني مجموعات، لكنّنا نتجاهل هنا ما نعتقد أنّه واضح في ابتعاده عن الموضوع، ونقتصر على النصوص المحتملة حقّاً، وهي:
من أبرز أدلّة رفض الجهاد الابتدائي النصوص القرآنية الدالّة على رفع الإلزام بالقتال أو إثبات الإلزام بعدمه عندما لا يُقاتل الطرف الآخر، فهذه المجموعة من الآيات تريد أن ترفع وجوب القتال عن المسلمين عندما لا يقاتلهم الطرف الآخر، بل في بعضها ما يدلّ على أنّه لا يجوز قتالهم في هذه الحال، ونلفت إلى أننا لا نريد هنا ذكر الآيات التي تدلّ أقصى ما تدلّ على الجهاد الدفاعي، فهذه لا تدل على الابتدائي ولا تنفيه، إنما المقصود هنا ما دلّ ــ صراحةً أو ظهوراً بالمنطوق أو المفهوم ــ على نفي وجود شيء اسمه الجهاد الابتدائي.
أ ـ قوله تعالى: ]لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحبّ المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم ومن يتولّهم فأولئك هم الظالمون[ (الممتحنة: 8 ــ 9).
فهذه الآية الكريمة ترفع وجوب الجهاد ــ على تقديره ــ ضدّ من لا يحارب المسلمين ولا يسعى لإضعافهم، بل هي ترى البرّ لهم والقسط، وهو ما يجعل رفع النهي هنا بمثابة الوجوب؛ إذ لا معنى لرفع النهي عن القسط سوى وجوبه، فإن القسط ــ وهو العدل ــ واجب، فالآية تريد القول: إنّه حيث لا موجب للجهاد لزم التعامل معهم بالعدل والقسط، فإذا كان الجهاد الابتدائي واجباً، وهو الأصل في علاقة غير المسلمين مع المسلمين، فكيف يمكن تفسير هذه الآية الكريمة؟! بل كيف يمكن فهم الجواز فيها؟!
ومن الممكن أن يقال: إنّ هذه الآية وما قاربها في المضمون منسوخة بنصوص سورة براءة([7]).
والجواب ما درسناه في محلّه مفصّلاً ممّا أشرنا له سابقاً من عدم ثبوت النسخ من جهة، مضافاً إلى أننا قد توصّلنا في آيات سورة براءة إلى عدم دلالتها على الجهاد الابتدائي أساساً. وقد حاول العلامة الطباطبائي ردّ مقولة النسخ هنا بالتمايز بين موضوعي الآيات في براءة وهذه الآية الكريمة، من حيث إنّ الآيات هناك جاريةٌ في أهل الحرب، فيما هذه جارية في أهل الذمّة والمعاهدين وأمثالهم، فلا ترابط بين الموضوعين حتى نفترض النسخ([8])، وهو كلام تابع فيه ـ إجمالاً ـ ما قاله الفخر الرازي([9])، ويتناسق مع ما توصّلنا إليه هناك، بعد فرض أنّ المعاهدين وأمثالهم يشملون ـ من حيث العنوان ـ مطلق من لم يحارب، وإلا فاختصاص الآية الكريمة هنا بالمعاهدين بمعنى الذين وقعت اتفاقية منصوصة بينهم وبين المسلمين لا دليل عليه؛ لأنّ موضوع الآية هو عدم الحرب لا توقيع المعاهدة.
ب ـ قوله تعالى: ].. فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السَّلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلّما ردّوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلّم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئك جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً[ (النساء: 90 ـ 91).
وهذه الآية الشريفة ظاهرة في أنّ السبيل الثابت للمؤمنين في قتال غيرهم إنما هو اعتداء الغير وعدم رغبته في تهدئة الوضع، وإلا فإذا لم يصدر منه أمرٌ من هذا النوع فلا سبيل للمؤمنين عليه، فلو كان الجهاد الابتدائي مشروعاً مطلقاً، فما معنى نفي السبيل هنا مع أنّ السبيل ثابتٌ إلى يوم القيامة؟!
وامتياز هذه الآية عن سابقتها أنّ ظهورها في النهي قويٌّ، فيما تدلّ السابقة على رفع الإلزام، مع احتمال ظهورها فيما هو أزيد، كما ألمحنا، فتكون هذه الآية معارضةً ــ بوضوح ــ لما دلّ على الوجوب في هذه الحال، ومسألة النسخ بآيات سورة البراءة وغيرها تقدّم جوابه.
ج ـ قوله سبحانه: ]وإن جنحوا للسَّلْم فاجنح لها وتوكّل على الله إنّه هو السميع العليم وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين[ (الأنفال: 61 ــ 62).
المعطى في هذه الآية الكريمة يفيد أنّه إذا تأكّدنا من ميل الطرف الآخر للسلام ورفع الحرب والاعتداء لزم على المؤمنين الإجابة لذلك، مع الأخذ بعين الاعتبار موضوع الخديعة، ولو كان الجهاد الابتدائي ثابتاً لم يكن معنى للإلزام بالمسالمة عندما يميل إليها الطرف الآخر مطلقاً، كما هو واضح، بل وجب قتاله حتى لو تأكّدنا من إصراره على السّلم، ولهذا حرّم غير واحدٍ من الفقهاء أن تزيد مدّة معاهدات الهدنة مع غير المسلمين على العام الواحد، وأوصلها بعضهم إلى عشر سنوات، حتى لو أراد الطرف الآخر الهدنة لأكثر من ذلك.
د ـ قوله تعالى: ]وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين[ (البقرة: 190).
تأمر هذه الآية الكريمة ـ أولاً ـ بمقاتلة من يُقاتل المسلمين، ثم تنهى ـ ثانياً ـ عن الاعتداء، وهذا ما يُفهم منه بوضوح أنّ القتال محصور بمن يُقاتل، وأنّ مقاتلة من لا يقاتل تُعتبر اعتداءً، والله لا يحبّ المعتدين، فتكون محرّمةً، وهذا ما يلغي الجهاد الابتدائي؛ لأنّ الجهاد الابتدائي ليس قتالاً لمن يُقاتل، فيندرج ضمن مفهوم الاعتداء الذي نهت الآية عنه، فيكون حراماً.
إلاّ أنّه قد يناقش الاستدلال بهذه الآية الكريمة:
أولاً: من الممكن أن يكون المراد من النهي عن الاعتداء هو تجاوز الحدّ في مقاتلة من يُقاتل المسلمين، كما في مثل التمثيل بجثث قتلى الكفار أو التعذيب قبل القتل أو استخدام أساليب غير شرعية ولا أخلاقية وهكذا، وليس من الضروري أن يكون الاعتداء باستئناف حرب، فتكون الآية خاصّة بالجهاد الدفاعي دون أن تدلّ ــ سلباً أو إيجاباً ــ على الجهاد الابتدائي، ومع التردّد والاحتمال يصعب الترجيح.
ثانياً: قد يُراد بالآية الكريمة وجوب مقاتلة المقاتل دون غيره، أي الرجل دون المرأة والشيخ الفاني والصغير و.. فتكون الآية بصدد الإلزام ــ سواء في الجهاد الابتدائي أم الدفاعي تمسّكاً بالإطلاق الوارد في صدرها ــ بمقاتلة خصوص المقاتلين، فيكون معنى الاعتداء مقاتلة غيرهم من النساء وغيرهنّ، وعليه فالآية لا تنهى عن الجهاد الابتدائي، بل لا تختصّ ــ بمقتضى إطلاق «وقاتلوا» ــ بالجهاد الدفاعي أيضاً([10]).
وعلى أيّة حال، فالآيات الثلاث الأولى كافية في الدلالة على عدم وجوب، بل عدم شرعية، مقاتلة من لا يُخشى منه على المسلمين، وهو ما ينفي الجهاد الابتدائي من الأساس.
نقصد بنصوص الحرية الدينية تلك الآيات القرآنية التي تدلّ على إيكال أمر الهدى والضلال إلى الإنسان نفسه لا غير، وأنّ الأمر إليه إن شاء اتبع هذا الدين وإن شاء تركه، وهو ما يعني حرية المعتقد الذي يساوق عملياً حريّة بيان العقيدة وإبدائها للغير، لأنّ حريّة المعتقد إنّما يقصد بها قانونياً حرية إظهاره للآخرين([11])، وإلا فالجانب الذاتي الباطني عند الإنسان ليس موضوعاً للبحث القانوني، وإنما هو قضية أخلاقية أو فكرية، ومن الواضح أنّ حريّة المعتقد في الإسلام لا تعني تصويب كلّ معتقد يختاره الإنسان، من هنا قالت الآيات القرآنية: ]إنّ الدين عند الله الإسلام[ (آل عمران: 19)، و]من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين[ (آل عمران: 85).
من هنا يظهر لنا جليّاً أنّ التمييز بين حريّة المعتقد وحرية التفكير ـ كما فعل بعض العلماء([12]) ـ جاعلاً بعض آيات حرية المعتقد راجعاً إلى حريّة التفكير، وأنّ الإسلام أعطى حرية التفكير لكنّه لم يعط الحرية العقديّة، في الوقت الذي لم يقبل بفرض العقيدة.. يبدو لي هذا التمييز حاوياً لبعض الالتباس؛ فإنّه عندما تفسّر الحرّية الفكرية بأنّها الحرية في مجال استخدام مقدّمات العقيدة من النظر والبحث ووسائلهما؛ لأنّ الاعتقاد أمر قهري يلحق المقدّمات لحوقاً قهرياً([13])، ثم تنفى الحرية العقديّة ويرفض معها فرض العقيدة فرضاً، فإنّ هذا الاصطلاح غير قانوني، وإنما هو راجع إلى التحليل الفلسفي؛ لأنّ الباحث اعتبر العقيدة أمراً قهرياً راجعاً إلى علاقة العليّة الحتمية بين المقدّمات والنتيجة في الذهن، فالنتيجة عنده هي العقيدة، ومن ثم لا اختيار فيها؛ لأنّ أمرها قهري يأتي بتبع تبلور المقدّمات في الذهن، على خلاف الحال في المقدّمات نفسها فإنّ الاشتغال عليها أمر سلوكي حرّ يمكن للإنسان فعله ويمكن تركه.
وسبب الالتباس هنا هو الخلط بين الاعتقاد بوصفه ظاهرة باطنية، وحريّة العقيدة بوصفها ظاهرة إثباتية بيانية، ولهذا لم تقصد شرعة حقوق الإنسان من حرية المعتقد ذلك البُعد الفلسفي، وإنّما البيان والإبداء، ولهذا أيضاً ربطت حرية العقيدة هناك بحرية البيان.
وعندما نتحدّث عن حريّة البيان الاعتقادي في الإسلام فنحن نقصد أدنى معاني البيان، وهو إظهار الفرد أنّه يعتقد بغير الإسلام، مقابل التفتيش والإلزام العقائدي والمنع عن إعلان الاعتقاد، أما حريّة البيان بالمعنى الواسع الشامل لحرية التجمّعات والإعلام والصحافة والمطبوعات، فهذا موضوع مختلف من زاوية القوانين الإسلاميّة، لا ربط له ببحثنا هنا.
وعلى أيّ حال، فأهمّ الآيات الكريمة التي تتداول في سياق إثبات حريّة المعتقد، هو:
أ ـ قوله تعالى: ]وقل الحقّ من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنّا أعتدنا للظالمين ناراً..[ (الكهف: 29).
فالآية الشريفة دالّة على أنّ الحقّ ـ أي الإسلام ـ من عند الله تعالى، وأنّ الأمر راجعٌ إلى الناس أنفسهم، فإن شاؤوا الإيمان فبها ونعمت وإلا فليكفروا، وعلى تقدير كفرهم لم تشر الآية إلى الحياة الدنيا وأنّ هناك أثراً سيترتّب على كفرهم فيها، كلّ ما في الأمر أنّهم سيواجهون جزاءهم في الآخرة، الأمر الذي يؤكّد أنّ الكفر لا آثار دنيوية له على مستوى العقوبات([14])، وهذا ما يقف على النقيض من مفهوم الجهاد الابتدائي.
لكنّ الاستدلال بهذه الآية لوحدها قد يواجه بعض المشكلات:
أولاً: إنّها قد لا تشكّل دليلاً يواجه أدلّة الجهاد والعقوبات، لاسيما بعد كونها مكيةً؛ إذ لعلّ العقوبات أو الإجراءات الدنيوية المترتبة على الكفر والإيمان لم تكن قد نـزلت بعد.
إلاّ أنّ المفيد فيها هو إيكال أمر الكفر والإيمان إلى الإنسان، وأنه هو من يختار بين الأمرين، ومن ثمّ فهي في حدّ نفسها ـ وبصرف النظر عن النصوص التي لحقتها في النزول زماناً ـ لها حكاية عن أنّ القرآن الكريم يرخّص في الدنيا للكافر في أن يكفر، ويعطيه هذه المشيئة، وأنّ نتائج اختياره الممنوح له هذا تقع عليه في الآخرة وتمثل أمامه هناك.
ثانياً: إنّ الآية تجعل الحرّية في الإيمان والكفر، وهما أمران قلبيّان، وقد تقدّم سابقاً أنّ الجهاد الابتدائي لا يُهدف منه الإيمان الحقيقي، بل الإيمان الظاهري، فيظلّ الإيمان الحقيقي شأناً اختيارياً، فلا يكون هناك أيّ تنافٍ بين المفهوم الذي تعطينا إياه الآية الكريمة وبين مفهوم الجهاد الابتدائي.
لكن يجاب عن هذا الكلام بأنّ التفريق الذي قلناه سابقاً بين الرؤية الكلامية والرؤية الفقهية لمفهوم الجهاد الابتدائي إنما يصحّ في الأمور بحسب الواقع، ولهذا ذكرنا هذه التفرقة في مقام الحديث عن الأصول والقواعد العقلية في باب العهدة وتحمّل المسؤولية، أما عندما تدخل المسألة باب الظهورات اللفظية فلابدّ من الرجوع إلى العرف ليُرى ما هو المراد من منح مشيئة الكفر والإيمان للإنسان؟ فهل تخيير إنسانٍ بين الموت والإسلام هو بنظر العرف مفهومٌ موافقٌ لهذه المشيئة التي يقدّمها نصّ الآية السابقة أم لا؟ وسيأتي مزيد تفصيل لهذا الأمر إن شاء الله تعالى.
ثالثاً: قد يناقش في دلالة هذه الآية أيضاً بما ذكره العديد من المفسّرين وعلماء القرآنيات، بأنّ صيغة الأمر الواردة فيها ليست للطلب أو للتخيير، وإنّما هي للتهديد، تماماً مثل قوله تعالى: ]ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون[ (النحل: 55)، ومن ثمّ فلا معنى لربط الآية بالحرّية الدينية ومنح اختيار العقيدة([15]).
إلا أنّ هذا الكلام غير صحيح؛ بل هو فهم للصيغة نتيجة فهم مسبَق للمعنى نفسه، فلو صحّ هذا لكان معنى (من شاء فليؤمن) هو التهديد أيضاً، مع أنّه واضح في عدم إمكان ذلك، ولعلّ ما دفعهم إلى هذا الأمر عدم تعقّلهم إمكان أن يخيّر الله الناس بالكفر أو يطلبه منهم فيجعله في مصاف الإيمان، بما يوحي بأنّ الكفر فعلٌ جائز، تماماً كما هي خصال الكفارات المخيّرة، مع أنّ الآية الكريمة لا تعني ذلك، بل هي واضحة في ترجيح الإيمان من خلال المقطع اللاحق منها والمتحدّث عن النار، فهي تريد أن تقول: إذا أردتم الإيمان فلكم أن تؤمنوا ولن يكون لدينا مقابل إيمانكم هذا أيّ ردّ فعلٍ سلبي، وإذا أردتم الكفر فلكم ذلك أيضاً، ولن تجدوا في مقابله إلا الجزاء الأخروي، فلا يضرّ هذا التخيير بأيّ مبدأ عقدي أو كلامي، نعم لو كانت الآية بصدد الأمر بالكفر فقط أو الترخيص به ثمّ التوعّد بالنار، لصحّ ذلك تهديداً، كأن تقول: اكفروا وسترون ما لا تحبّون، مع أنّ هذه الآية بالخصوص ليست كذلك.
رابعاً: حاول العلامة الطباطبائي أن يجعل هذا المقطع (فمن شاء فليؤمن…) خارجاً عن مقول القول، فيكون معنى الآية: قل لهم: (إنّ الحقّ من ربّكم)، فمن شاء منهم أن يؤمن بعد قولك ذلك له فليؤمن، فلا إيمانه ينفعنا ولا كفره يضرّنا([16])، فلا تكون الآية في سياق إعلان بيان قانوني بالتخيير ومنح الحرية العقديّة.
ولكنّني لا أعتقد أنّ تغيير مساحة مقول القول مؤثرة هنا في الدلالة على موضوع البحث؛ فسواء كانت من مقول القول أم لا، فإنّه في نهاية المطاف قد حظينا بنصّ قرآني يعلن التخيير، وإضافة أنّ الإيمان لا ينفع الباري تعالى والكفر لا يضرّه، إنّما جاءت من العلامة نفسه، وليس لها في الآية وجود حتى ندرجها فيها، فيكون معنى الآية ـ بعد الإخراج عن مقول القول ـ: وقل الحق من ربكم، فمن أراد منهم بعد قولك هذا له أن يؤمن فله ذلك، ومن أراد أن يكفر فهو حرّ مختار، لكننا سنواجهه بالعذاب يوم القيامة.
ب ـ قوله تعالى: ]إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحقّ فمن اهتدى فلنفسه ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها وما أنت عليهم بوكيل[ (الزمر: 41).
إنّ هذه الآية الشريفة تقرّر أنّ الأمر في الهداية والضلال راجعٌ إلى الإنسان نفسه، فتكون حاكيةً عن مفهوم الحرية الفكرية والدينية([17]).
وقد يناقش ــ بصرف النظر عن الجملة الأخيرة من الآية الكريمة ــ بأنها لا تدل سوى على عود نفع الهداية وضرر الضلال على الإنسان نفسه، وهذا أمر واضح صحيح، سواء كان هناك جهاد ابتدائي أم لم يكن، فهي لا تقرّر مبدأ المشيئة بهذا المعنى، بل تقرّر مبدأ النفع والضرّ.
ومثل هذه الآية ما جاء في سورة يونس، في الآية المائة وثمانية، إلى غيرها من الآيات التي طرحت في مسألة الحرية في اختيار الدين.
ويبدو لي من أكثر هذه الآيات أنها قد لا تنافي مسألة الجهاد الابتدائي عدا الآية الأولى في الجملة، لكنها تشكّل مدماكاً في هذا السياق، خصوصاً وأنّ جميعها أو أغلبها مما نزل في مكّة حيث لم يكن التشريع الدنيوي بادياً في النصّ القرآني بوضوح.
يُقصد بهذه النصوص تلك الآيات الدالّة على أنّ وظيفة النبي هي الهداية والإبلاغ وإيصال الحقّ، أما الإلزام به وتحقيقه خارجاً فهو أمر خارجٌ عن شؤونه ووظائفه.
1 ـ 2 ـ قوله تعالى: ]فذكّر إنّما أنت مذكّر لست عليهم بمسيطر إلاّ من تولّى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر[ (الغاشية: 21 ــ 24).
إنّ هذه الآية هنا لا ترى من مسؤوليات النبي$ سوى التذكير وأنّه ليس بمسيطرٍ عليهم ليلزمهم بديانته ولا بمتسلّط على شؤونهم ليدخل الإيمان فيهم، مما يكشف ــ بشهادة أداة الحصر ــ أنه ليس من وظائف النبي غير ذلك([18])، فلو كان الجهاد الابتدائي واجباً لما صحّ سياق مثل هذه الآية ولسانها، كما هو واضح.
لكن قد يلاحظ هنا أولاً: إنّ هذه الآية مكية، فلعلّ المراد: حيث إنك لست بمسيطر عليهم ولا تملك إلزامهم بشيء فليس أمامك سوى وظيفة التذكير والبيان دون أن يؤدّي ذلك إلى افتراض النسخ بآيات القتال([19])، لفرض كون الآية معلّقة منذ البداية على عدم تسلّطه عليهم ــ وهو إخبار لا إنشاء ــ فيكون تغيّر الحكم لوجود تحوّل في موضوعه القائم عليه، لا لوجود النسخ. وأما الاستثناء الوارد في الآية فهو ــ بقرينة الآية التي لحقتها ــ منقطع لا متصل، كما صرّحوا به([20]).
لكنّ هذا الاحتمال لو استطاع إرباك فهمنا لهذه الآية الكريمة، إلا أنّه سوف يتلاشى تدريجيّاً عندما نجد أنّ الآيات الأخرى تؤكّد مفهوم عدم السلطنة، بوصفه أساساً في المشروع النبوي، لاسيما مع كون بعضها مدنيّاً.
ثانياً: فهم العلامة فضل الله والسيد كاظم الحائري من هذه الآية السيطرةَ التكوينية على العقل والوجدان، وأنّ هذا الأمر من مختصّات القدرة الإلهيّة، فتكون الآية بصدد نفي سيطرته التكوينية على القلوب لا نفي السلطنة الظاهرية التي تكون بالإكراه على اعتناق دين ما([21]).
ولكنّ هذا التفسير وأمثاله للآيات ربما يواجه مشكلة الفهم العرفي، فإنّ بعض المفسّرين ـ لاسيما العلامة الطباطبائي ـ ربط مجمل الآيات التي نذكرها في هذا البحث بالبُعد الوجداني والقلبي الباطني، معتبراً ذلك أساساً، مع أنّ العرف لا يحصر فهمه بهذه الطريقة المنبثقة من تحول التديّن إلى فعل قلبي وإخراجه عن أن يكون اندماجاً في الاجتماع الديني، فأنت تقول لزيد ذكّر بكراً بما يجب عليه فعله وليس مطلوباً منك أكثر من هذا فأنت لا تملك سلطةً عليه ولا سيطرة، أو تقول ذكّره بالدين وليس مطلوباً منك أكثر من هذا فلست مسلّطاً عليه، إنّ هذا التركيب يفهم منه القهر والإكراه لا البعد الباطني فقط، علماً أنّ ما يذكّر به النبيّ ليس خصوص الاعتقادات، بل يشمل السلوك والتصرّفات والأخلاقيات أيضاً، مما يمكن أن يكون له مباشرةً مدلول عملي ظاهري، وليس من أفعال القلوب فقط، فالآية في محصّلتها تريد أن تبيّن للنبي أنّ وظيفتك البيان، وليست لك أيّ سلطة عليهم بحيث تستطيع إدخالهم في دينك، فأولئك الذين يتولّون منهم إنما يكون التعاطي معهم عندي عبر العذاب الأكبر الذي ينتظرونه.
ومثل هذه الآية الشريفة، قوله تعالى: ]نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبّار فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد[ (ق: 45)([22]).
وقد تواجه هذه الآية المشكلة نفسها؛ فإنّ السورة مكية، ومعنى جبّار أي متسلّط عليهم، وقيل: فظّ غليظ([23])، فيكون المعنى: ذكّر يا محمد من ينتفع بذكراك فليس عليك وأنت في مكّة مقهوراً غير متسلّط عليهم سوى ذلك، فلا تكون دالّةً ــ مع هذا الاحتمال ــ على الموقف في غير الحال المكيّة، فهناك قصور في دلالتها، إلا إذا صحّ ما قدّمناه آنفاً.
3 ـ 11 ـ قوله تعالى: ]ما على الرسول إلاّ البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون[ (المائدة: 99)، ومثله قوله تعالى: ]إنّ الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب فإن حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد[ (آل عمران: 19 ـ 20)، وقوله تبارك اسمه: ]قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولّوا فإنما عليه ما حمّل وعليكم ما حمّلتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين[ (النور: 54)، وقوله عز من قائل: ]وإن تكذّبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين[ (العنكبوت: 18)، وقوله سبحانه: ]وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرّمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين[ (النحل: 35)، وقوله تعالى: ]إنما أمرت أن أعبد ربّ هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فقل إنما أنا من المنذرين[ (النمل: 91 ـ 92).
وهذه الآيات ـ المكيّة والمدنيّة ـ تقرّر المبدأ عينه الوارد في سورة الغاشية، وهي أنّه ليس على الرسول إلاّ البلاغ، وأنه إزاء كفر الناس لا يكلّف بما هو أزيد، وأنّه ليس له أن يحمل الناس على الإيمان([24])، فكيف يكون الجهاد الابتدائي، المنطلق من خاصّية كفر الناس، من تشريعات ديانة هذا النبي؟!
فهذه الآيات الشريفة تنفي وجوب أيّ أمر آخر على النبي إزاء كفر الطرف الآخر، ومنه الجهاد الابتدائي بملاك الكفر، لكنها لا تنفي شرعيّته، وأما مقاتلة النبي المعتدين أو استلامه شؤون الدولة وقيامه بوظائف أخرى فليس له علاقة بذلك، فهي لا تريد إسقاط الصلاة عن النبي والحجّ والصوم لتثبت عليه البلاغ فحسب، بل الحصر فيها إضافي ونسبي، أي بالنسبة إلى إبلاغ الدين وصفته الدعوية النبوية والرسوليّة ليس عليه سوى ذلك، فإن لم يهتد الطرف الآخر فلا وظيفة غير ذلك ملقاة على كاهل النبي إزاء الطرف المبلَّغ، وإلا لبيّنت، أما في الجهاد الابتدائي فالمفروض بدايةً هو دعوة الطرف الآخر فإن قبل وإلا وجب جهاده، فلو كان هذا التشريع من وظائف النبي للزم بيانه، على الأقلّ في الآيات المدنية من هذه المجموعة؛ لأنّه على صلة بالوظيفة الدعويّة، من حيث ترتّبه على إعراضهم عنها، في حين نجد أنّ هذه الآيات جميعها ترتّبُ على إعراضهم إعلانَ حصر وظيفته بالجانب الدعوي البياني، فلا تناسب بين المفاهيم.
وفي هذا السياق أيضاً، قوله تعالى: ]ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرّهم وكان الكافر على ربّه ظهيراً وما أرسلناك إلاّ مبشراً ونذيراً قل ما أسألكم عليه من أجر إلاّ من شاء أن يتخذ إلى ربّه سبيلاً[ (الفرقان: 55 ــ 57).
فهذه السورة رغم كونها مكيةً، إلاّ أنّ في لسانها البياني تعميماً؛ إذ ربطت التبشير والإنذار بغرض الله تعالى من الرسالة، أي أنه ليس من وظائفك سوى الإنذار والتبشير، ولا مسؤولية عليك غير ذلك إزاء من يرفض دعوتك، وهذا المفهوم لا يناسب مفهوم الجهاد الابتدائي. ولا تعليق في الآية على عدم القدرة حتى يُقال بأنّ ذلك راجع إلى كونه في مكّة المكرّمة.
وكذلك يأتي في هذا المضمار، قوله تعالى: ]وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن تولّيتم فاعلموا أنّما على رسولنا البلاغ المبين[ (المائدة: 92)، حيث تركّز هذه الآية الكريمة على المفهوم المتقدّم عينه، وهو أنّه على تقدير عدم طاعة الله ورسوله ليس على الرسول من وظيفة إزاء إعراض الطرف الآخر سوى البلاغ المبين، والسورة مدنية، فلو كان الجهاد الابتدائي مفهوماً إسلامياً للزم ضمّ هذه المسؤولية تجاه ذلك.
لكنّنا لو راجعنا سياق هذه الآية الشريفة بالخصوص فيما سبقها وما لحقها من آيات، لوجدناها تتحدّث مع المسلمين وأنّهم إذا تولّوا عن إطاعة الله ورسوله فليس أمام الرسول إلا البلاغ. ويبدو لي ـ إذا لم نشكّك في وحدة نزول هذه الآية مع سياقها ـ أنّ التولّي هنا هو الإعراض عن طاعة الله ورسوله، فإذا قصد المعنى الشامل دلّ على الارتداد، فتكون الآية معارضةً لحكم المرتدّ المعروف في الفقه الإسلامي، وإلا لزم القول بأنّ أنظمة العقوبات لا تكون من وظائف الرسول بما هو رسول، وإنما يكون تفعيلها من وظائف الولاية الثابتة له نتيجة العقد الاجتماعي والمواضعة على النزول عند حكمه أو غير ذلك، وبحثه يكون في الفقه السياسي.
وفي هذا الصدد، نجد كذلك قوله سبحانه: ]وإن ما نرينّك بعض الذي نعدهم أو نتوفيّنك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب[ (الرعد: 40)، وإن كانت هذه الآية غير ظاهرة إلا في الحصر الإضافي الذي نعلم حاله من المقطع الأخير، أي عليك أنت البلاغ فقط وليس عليك الحساب، فإنّه علينا، فلا يكون لها دور في موضوعنا ما لم نعمّم الحساب لغير الحساب الأخروي.
12 ـ 18 ـ قوله تعالى: ]فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلاّ البلاغ..[ (الشورى: 48)، وقوله سبحانه: ]قل يا أيها الناس قد جاءكم الحقّ من ربّكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها وما أنا عليكم بوكيل[ (يونس: 108)، وقوله تبارك اسمه: ]وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل[ (الأنعام: 66)، وقوله تعالى: ]قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ[ (الأنعام: 104)، وقوله تعالى: ]اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل[ (الأنعام: 106 ـ 107)، وقوله عز من قائل: ]إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضلّ عليها وما أنت عليهم بوكيل[ (الزمر: 41)، وقوله سبحانه: ]والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل[ (الشورى: 6).
وهذه الآيات رغم أنّ بعضها مكيّ، إلاّ أنها لمّا رُبطت بالإرسال عنت أننا لم نرسلك لكي تكون حفيظاً عليهم تحفظهم من أنّ يضلّوا كما أنّك لست بموكلٍ بهم، فليس عليك إلاّ البلاغ، فلا تحزن لأمرهم([25])، وهي دالّة على هذا المبدأ في التعامل مع غير المسلمين، فكيف يمكن أن ينسجم هذا المفهوم الذي تعطيه هذه الآية الشريفة مع الصورة الإجماليّة للجهاد الابتدائي في الموروث الفقهي الإسلامي؟! فإنّ تلك الصورة تقول: فإن أعرضوا فقاتلهم واقتل من لا يؤمن منهم، ما لم يكن من أهل الكتاب، وإلا فأخضعه للجزية ونظام الذمّة.
وقد فهم العلامة الطباطبائي من آيات نفي كون النبي موكلاً بالناس، أنّها تريد أن توكل أمرهم إلى الله سبحانه والتخلية بينه وبينهم من حيث المصير، لا أنّها تريد بيان حريّة المعتقد([26]).
لكنني لم أفهم عملية فكّ الارتباط بين مفهوم التخلية ومفهوم الحرية الدينية، فإذا كانت هذه الآيات تريد أن تقول للنبي: اتركهم لي، ألا يستبطن ذلك عرفاً أن لا تمارس القهر والعذاب والعقاب عليهم، وإلا فما الذي كان يمكن أن يفعله الرسول غير هذا؟ وإذا كانت تريد أن تقول بأنّ أمرهم موكولٌ إلى الله سبحانه، فإنّ هذا أيضاً ـ عندما لا يبيّن خصوص النظر إلى الجانب الأخروي في هذه الآيات ـ يفيد أن ليس المطلوب من النبي غير البيان، وأنّ الإجراءات العملية المترتبة على كفرهم ليست من وظائف النبي، فليترك هذا الأمر لله، فهو الذي يجري عليهم حكمه، فلماذا لا تكون هذه الآيات شاهداً على مبدءٍ رئيس هنا؟!
نعم، يبقى في النفس احتمالٌ قد يهدم الاستدلال بمجموعة الآيات التي عبّرت بالوكيل والحفيظ وأمثالهما، لا بكلّ آيات هذه الطائفة الثالثة، وهو أن يكون المراد إسقاط مسؤولية فعلهم عن النبي، فالحفيظ والموكل بأمر يتحمّل مسؤولية هذا الأمر، فكأنّ الآيات تريد أن تقول: يا محمد، إذا قمتَ بما كلّفناك به سقطت المسؤولية عن كاهلك، وأنت لا تتحمّل مسؤولية وضعهم وانحرافهم، فلست موكلاً بهم على نحو توكيل الوالد بولده الصغير أو حفيظاً عليهم على النحو عينه، حتى إذا عرض له شيء تحمّل الوالد تلك المسؤولية، وتوجّه اللوم إليه في أنّه لم يحفظ ابنه، مع أنّه في عهدته وتحت وكالته ونظره، إنّ القضيّة هنا ليست كذلك، فعليك القيام بواجبك، وانحرافهم لا يؤثّر عليك، فلا تحزن لأمرهم ولا يضرّك ضلالهم وزيغهم، فنفي الوكالة والحفظ هنا تخفيفٌ عن الشعور بالمسؤوليّة لا سلباً للسلطنة عليهم قانونيّاً.
ومع هذا الاحتمال، تصبح بعض آيات هذه المجموعة غير وافية بالدلالة على المدّعى، ولعلّ هذا هو نظر ومراد من ناقش فيها.
ومع هذا كلّه، فقد يلاحظ على الاستدلال بهذه الآيات الكريمة برمّتها:
أولاً: إنّها خاصّة بالنبي$ من حيث وظيفته الرسالية، فما المانع من وجوب الجهاد الابتدائي من حيث وظيفة المسلمين أو وظيفته من غير ناحية تبليغ الرسالة؟
والجواب: إنّ بعض هذه الآيات ــ وهو مدنيٌّ ــ ربط أصل إرسال النبي$ بهذا الأمر، فإذا كان الجهاد الابتدائي من شرائع دينه كان ينبغي ذكره. وبعبارة أكثر دقةً: إننا لا نستدلّ هنا بمعارضة حدّية بين هذه الآيات وبين نصوص الجهاد، وإنما نقارن المفاهيم ونقول: لو كان مفهوم الجهاد الابتدائي حاضراً في الشريعة لما كانت هذه الآيات المتكرّرة دقيقةً في التعبير عن واقع الأمر.
ثانياً: من الممكن أن يقال بأنّ آيات الجهاد الابتدائي تنسخ الآيات المذكورة هنا بمجموعاتها، فلا يعود هناك معنى للتمسّك بهذه الآيات.
ويجاب بأنّ بعض الآيات هنا ليس قابلاً للنسخ بحسب صيغته؛ لأنه ليس من شؤون التشريع، فعندما يقول الله تعالى: إنه لم يرسل هذا النبي سوى لكذا وكذا، هل يصحّ القول: إنه غيّر رأيه وإرادته وقصده من الإرسال إلى غرض آخر، فالقضية ترجع إلى الغاية التي وضعها الله للرسالة، لا إلى بيان حكم شرعي قابل للنسخ.
يضاف إلى ذلك أنّ تكرّر مجموعة آيات سابقة في تأكيد فكرةٍ ما، مع مجيء آية واحدة لا نظر لها إلى ما سبق، يصعب معه قبول النسخ فيه؛ إذ يرى العرف أنّ التصرّف الدلالي في الدليل الجديد أقرب من نسخ جملة آيات مؤكّدة لمفهوم واحد، علاوةً على أنّ الآيات المدنية هنا لا نعلم سبقها أو لحوقها لآية الجزية التي جعلناها سابقاً الآية الوحيدة الدالّة، وبذلك لا يوجد ما يؤكّد النسخ حينئذٍ.
ثالثاً: إنّ أقصى ما تعطيه أغلب نصوص هذه المجموعة من الآيات الكريمة هو نفي وجوب الجهاد الابتدائي، لا نفي مشروعيّته.
وردت في القرآن الكريم نصوص تنفي الإكراه في الدين، وفد فصلناها عمداً عن نصوص الحرية الدينية المتقدّمة؛ لأنّ إطارها البياني ينفي الإكراه على الإسلام، فيما الإطار البياني لتلك المجموعة يمنح الرخصة في إظهار غير الإسلام، والآيات هنا هي:
أ ـ قوله تعالى ــ حاكياً على لسان نوح ــ: ]ويا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربّي وآتاني رحمةً من عنده فعمّيت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون[ (هود: 28).
وهذه الآية مكية تتحدّث عن الحوار الذي جرى بين نوح% وقومه، وكأنها تؤكّد ــ باستفهامها الإنكاري في آخرها ــ على قضية عقلائية مستكنّة في الوعي الإنساني، وهي أنلزمكم بما بان لي واتضح مع أنكم كارهون له؛ إنّ هذا أمر غير منطقي.
وعليه، فتكون الآية تقريراً لمبدأ عدم الإكراه في الدين، إذ ماداموا لم يقتنعوا بالحقيقة، كيف يمكن إلزامهم بها وإكراههم عليها؟!([27])، فهي تقرّر مبدأ نفي الإكراه منذ أقدم الشرائع، وهي شريعة نوح%، وتسوقه على شكل مضمون راسخ مفروغ منه، مما يؤكّد قواعديّة هذا المفهوم وعقلائيّته.
ب ـ قوله تعالى: ]ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلّهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين[ (يونس: 99).
فهذه الآية تربط الهدى والإيمان بالمشيئة الإلهية، وتستتبع ذلك باستفهام إنكاري موجّه إلى النبي$ في إكراهه الناس كي يكونوا مؤمنين، أي أنّ الله قادر على جعلهم مؤمنين لكنّه لم يشأ، فكيف تُكرههم أنت على ذلك وأنت غير قادر([28])؛ فتكون النتيجة تقبيح إكراههم على ذلك، فلو كان الله يريد هدايتهم ولو بالقوّة لفعل ذلك ولمّا لم يفعل ذلك فلماذا تكرههم أنت عليها؟!
إنّ هذه الآية الكريمة تعتبر محاولات الإكراه بهدف تحقيق الإيمان مرفوضة ومعارضة للسنن الإلهيّة، فهذا المنطلق لو أراده الله لفعله، فلماذا تسلكون عكس ما يريده الحقّ تعالى؟! وربط هذه الآية بالجانب التكويني الباطني، كما فعل بعض المفسّرين، سبق أن تحدّثنا عنه([29]).
ج ـ وهي أبرز آيات نفي الإكراه، عنيت قولَه تعالى: ]لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ فمن يؤمن بالله ويكفر بالطاغوت فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم[ (البقرة: 256).
وتوضيح الاستدلال بهذه الآية الكريمة، أنّها استئناف بياني بعد تقرير الحقّ والوحدانية وأصول العقيدة الإلهيّة في آية الكرسي، وهي تؤسّس حكماً لنفي الإكراه في الدين، بمعنى الحمل عليه بجعله ذا كراهية بما يكون عبر التخويف بما هو أشدّ كراهية منه، فالدين لا إكراه فيه ولا سبيل له إليه، فتكون بمثابة القاعدة العامّة التي لا يُخرج عنها إلا بدليل، فالآية تحتمل النفي والنهي لكنها تقرّر عدم التناغم بين الدين والإكراه، وبمقتضى إطلاقها لا تختصّ بديانة الإسلام، بل تشمل مطلق الديانات أيضاً([30]).
وفي أسباب نـزول هذه الآية الشريفة ذكر أنها نزلت في رجلٍ من الأنصار كان له غلام أسود، كان يكرهه على الإسلام، إلى غيرها من القصص الواردة في المضمون عينه تقريباً([31])، وقصص أسباب النزول تدعم رفض الإكراه بالشكل الذي فسّرناه.
وقد تعدّدت وجهات النظر في هذه الآية الكريمة، وذلك كما يلي:
أولاً: لاحظ العلامة الطباطبائي وغيره على الاستدلال بهذه الآية هنا أنّها إمّا جاءت للنفي فتكون الجملة خبريةً، أو للنهي فتكون إنشائيةً، فإذا كانت خبريةً كان معناها الإخبار عن أنّه لا سبيل للإكراه إلى الدين؛ لأنّ الدين من أفعال القلوب، وأفعالها لا معنى للإكراه عليها، فإمّا تتحقّق مقدّماتها أو لا تتحقّق، فلا يكون للآية علاقة بحكم شرعي هو حرمة الإكراه، إذ لا متعلّق لهذا الحكم، حيث لا إكراه خارجاً يمكن تحقّقه، وأما إذا كانت إنشائيةً فيكون معناها النهي عن الإكراه على أساس أنّه يناقض حقيقةً تكوينية، وهي عدم وجود منفذ للإكراه إلى الدين؛ لما أشرنا إليه، وعليه فالمرجع إلى هذه الحقيقة التكوينية.
ووفقاً لذلك، لا ينافي دليل الجهاد هذه الآيةَ الكريمة؛ لأنّه لا يُكره على الدين؛ لعدم إمكانه، وإنما يوفّر الأرضية لانتشار الدين وميل الناس له، على أساس أنه لا وسيلة لذلك آنذاك من دونه([32]).
ولكي نحلّل هذه الآية الشريفة، لابدّ من ملاحظة الجملة التالية: ]قد تبيّن الرشد من الغي[ فهذا المقطع ــ كما ينصّ عليه المفسّرون([33]) ــ بمثابة التعليل لصدر الآية، وهنا إما أن نقول: إنه لا إكراه في الفعل القلبي على نحو الجملة الخبرية؛ لأنّ الرشد والغي قد بانا، أو نقول: إنه لا يجوز الإكراه الظاهري؛ لأنّ الرشد والغيّ قد بانا، والأنسب ــ بحسب سياق التعليل ــ هو الثاني؛ لأن استبانة الحقّ والباطل ليست علةً ولا مؤثراً في نفي الإكراه في القلبيات، فسواء ظهر أم خفي لا مجال لهذا الإكراه، لعدم إمكان تحقّق المعلول ـ وهو الاعتقاد ـ دون تحقّق علته وهي مقدّماته الفكرية، إذاً فهذا ليس تعليلاً فلماذا ذكرته الآية؟!
أما على تقدير الإنشاء غير الراجع إلى هذه القضية الخبرية التكوينية، فالمعنى ربما يكون واضحاً أكثر، إذ يصير المعنى: لا تجبروا أحداً إجباراً ظاهرياً على اعتناق الدين؛ لأنّ الحق والباطل صارا واضحين جداً، فليوكل الأمر إلى الإنسان نفسه كي يختارهما ويتحمّل مسؤولياته تجاههما؛ إذ لو كان الحقّ والباطل غير باديين لم يكن يمكن تحميل الإنسان مسؤولية الاختيار بينهما؛ لأنّه لن يرى الأمور حينئذٍ، مما يجعل تحميله لأحد الطرفين ــ حيث لن يُقدم بنفسه عن وعي وبصيرة ــ متصوّراً فيه الإكراه والتوجيه القهري تماماً كحال الطفل غير المدرك للأمور، فهذا المعنى الثاني أقرب إلى تناغم صدر الآية وذيلها، هذا مضافاً إلى أنّه ما الفائدة في إخبار الله تعالى لنا أنّ أفعال القلوب لا معنى للإكراه فيها على نحو الجملة الخبرية، وماذا تريد الآية أن توصل إلينا عبر هذه الجملة الخبرية على هذا التقدير؟
قد يقال: إنّ الآية لا يمكن أن تنهى عن أمرٍ لا يمكن تحقّقه، فإذا كان الدين من أفعال القلوب ولا يمكن الإكراه فيها، فلماذا تنهى الآية عن هذا الإكراه؟ فهذا أشبه شيء بالنهي عن الجمع بين النقيضين.
والجواب: إنّ هذا الكلام قد يرد على رأي العلامة الطباطبائي، لكننا ألمحنا سابقاً إلى أنّ العرف هو المرجع هنا، والفهم العرفي والعقلائي يرى أنّ الإكراه الظاهري على الإسلام الظاهري مما يصدق عليه أنه إكراه في الدين، ولهذا لما ذكروا شأن نـزول الآية تعرّضوا لأمثلة لا علاقة لها بأفعال القلوب، مما يكشف عن أنهم استساغوا توصيف ذلك بأنه إكراه ولم يأنفوا منه، حتى لو كانت الرواية في أصلها غير ثابتة، وشاهد ذلك ما تراه من نفسك ووجدانك لو خيّر إنسان بين الموت والإسلام، ألا يقول العرف، وألا نرى في وجداننا: أنه أكره على الإسلام؟ فمعنى الآية ظاهري، وإن كان الفعل القلبي لا معنى للإكراه فيه فلسفياً.
واللافت أنّ السيد كاظم الحائري أقرّ بأنّ البقاء مع آية نفي الإكراه لوحدها يفيد نفي الإكراه الظاهري فيتمّ الاستدلال بها، لكنّ السبب في العدول عن ذلك هو ضرورات الجمع والتوفيق بينها وبين آيات الجهاد، فنلتزم بحملها على نفي الإكراه الباطني، مقرّاً بأنّ مجموعات الآيات كلّها تدلّ بنفس الطريقة([34]).
ثانياً: إنّ هذه الآية منسوخة بآيات القتال وآية الجزية وآيات سورة براءة وأمثالها، فلا معنى للاستناد إليها هنا([35]).
والجواب ـ بعد صرف النظر عن أنّ هذا الفريق من العلماء قد فهم من آية نفي الإكراه ما فهمناه، لا ما فهمه العلامة الطباطبائي، ولهذا اضطرّ لافتراض النسخ ـ: إنّ هذه الآية محكمة، إذ لا معنى لنسخها، وذلك ــ كما يقول العلامة الطباطبائي ــ لأنها معلّلة، وهذا التعليل لا يمكن القول بنسخه، إذ الحقّ والباطل قد بانا، فهل ينسخ ذلك بأنهما لم يتبيّنا بظهور الإسلام، فالناسخ ما لم ينسخ علّة المنسوخ لا يمكنه نسخ حكمه([36]).
ويضاف إلى ذلك، أنّ هذه الآية مدنية وتلك الآيات مدنية أيضاً، ولا يتوفر لنا سبيل حاسم للتأكّد من المتقدّم منهما والمتأخر حتى يدّعى النسخ ويجزم به، وإن قيل بنزول سورة براءة في آخر ما نزل، ولسان هذه الآية أبعد عن النسخ من آيات الجزية و.. هذا مضافاً إلى عدم دلالة تلك الآيات ـ غير آية الجزية ـ على الإكراه والجهاد الابتدائي كما مرّ حتى نفترض النسخ، وسيأتي الحديث عن آية الجزية أيضاً إن شاء الله تعالى.
ثالثاً: ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ آية نفي الإكراه في الدين خاصّة بغير المشركين فيما سائر آيات القتال والجهاد خاصّة بالمشركين ومن لم يؤدّ الجزية من أهل الكتاب([37])، وبهذا لا يوجد أيّ تنافٍ بين مضمون الآية هنا والنتائج الفقهيّة السائدة بين الفقهاء في التعامل مع المشرك وغيره.
إلا أنّ هذا الكلام لا شاهد له، فإنّ بيان آية نفي الإكراه لا حديث فيه عن المتعلّق والمكرَه أساساً، وإنّما هو بصدد الحديث عن أصل الظاهرة بعينها، والجملة اللاحقة التي تتحدّث عن بيان الرشد والغي متساوية النسبة لكلّ أصناف غير المسلم، بلا فرق بين الكتابي وغيره، فهذا التفسير فيه ضربٌ من التأوّل والتحكّم الذي لا دليل عليه، بل المفترض ـ قواعديّاً ـ أن تقدّم آية نفي الإكراه على آيات القتال وفرض الإكراه؛ لأنّ هذه ذات دلالة صريحة ونصيّة، وتلك إنّما جاءت بالإطلاق لا غير، ما لم يدّع النسخ الذي علّقنا عليه.
رابعاً: ذكر السيد الخوئي ـ في سياق رفضه النسخ والتخصيص في هذه الآية الكريمة ـ أنّ الكره في اللغة يأتي بمعنيين: أحدهما ما قابل الرضا، وثانيهما ما قابل الاختيار، ولكي تدلّ الآية على نفي الإكراه بالمعنى السائد الذي يعارض آيات الجهاد لابدّ من تفسيرها بما قابل معنى الرضا، وهو تفسير غير مقبول؛ لأنّه تفسير بأحد المعنيين المشتركين دون قرينة مرجّحة، كما أنّه لو صحّ لكان معناه أنّه لا يوجد في الإسلام إكراه، مع أنّ وجوده يقيني كإكراه السارق على ترك السرقة، وإكراه الزوجة على إطاعة زوجها([38]).
ويبدو أنّ الخلفية التي انطلق منها السيد الخوئي هي تارةً خلفية أنّ الدين أمر قلبي لا معنى لسلب الاختيار فيه، فلزم ربط الإكراه عنده بما قابل الرضا لا بما قابل الاختيار، أو الاعتقاد بأنّ نفي الإكراه في الآية معناه أنّ الدين الإسلامي ليس فيه أيّ حكم إكراهي، لا أنّ المعنى هو أنّه لا إكراه على التديّن بالدين الإسلامي، من هنا يمكن أن نلاحظ على كلام السيد الخوئي، أنّ فرض الإسلام على المشرك وإلا قُتل يعدّ إكراهاً على الدين عرفاً، والشاهد على ذلك هو المقطع الأخير من الآية الكريمة الذي رَبَطَنا بالجانب العقدي، باعتباره كلَّ من يؤمن بالله ويكفر بالطاغوت مستمسكاً بالعروة الوثقى، وهذا المقطع وإن كان يمكن أن يجعل مجرّد بيان لمصداق من المصاديق، وهو الجانب العقدي مقابل مجموع الجانبين العقدي والفرعي، إلا أنّه يمكن أيضاً أن يشكّل نصّاً متصلاً يحتمل أن يكون قرينة على اختصاص الآية بالجانب العقدي، فيمنع عن إمكانية التمسّك بالإطلاق فيها وفقاً لقواعد أصول الفقه، ومن ثم لا يصحّ ما ذكره السيد الخوئي من الإكراهات في القضايا القانونية والعلائقيّة؛ لأنّها غير مربوطة بالآية، فيكون القدر المتيقن من دلالة الآية ـ لو تنزلنا ـ هو الإكراه على الدين، لا الإكراه بوصفه قانوناً يعمل به في مكان ما من منظومة قوانين الدين.
وما يدلّنا أكثر هو أنّ الإكراه الشامل للفروع لا يمكن نفيه في الإسلام مطلقاً حتى لو فسّرناه بالمعنى الذي يقابل الاختيار لا الرضا، فإنّ السلطة القانونية والإجرائيّة لها في الإسلام الحقّ في سلب الأفراد اختيارهم بإجبارهم على بعض الأمور إجباراً قهريّاً إلجائيّاً، كمصادرة الأموال لتسليمها للغير وفقاً للأحكام القضائيّة، فماذا يفعل السيد الخوئي في هذه الحال؟
خامساً: حاول الشيخ محمد عبده وسيد قطب وآخرون رفع التنافي بين آيات الجهاد وآية نفي الإكراه في الدين، بأنّ الثانية موضوعها الأفراد، فيما الأولى موضوعها تحقيق الحريّة العقديّة والعوائق التي تقف أمام الدعوة الإسلاميّة وحرّيتها([39]).
وهذه هي نظريّة ربط الجهاد الابتدائي بمفهوم حريّة الدعوة وتسهيلها، وقد قلنا مراراً بأنّه ربط لا مستند له في النصوص، وإنّما هو محاولة عقلانيّة اختارها بعض العلماء مؤخراً([40]).
سادساً: ذهب ابن عاشور إلى أنّ آية نفي الإكراه في الدين لابدّ من اعتبارها ناسخةً لآيات القتال على الدين؛ لأنّ مفهومها لا ينسجم مع شريعة الجهاد الابتدائي الموجودة في مثل حديث ابن عمر المشهور، وذلك أنّ آيات القتال على ثلاثة أنواع: فأحدها آيات القتال الدفاعي، وهذه لا تنافي آية نفي الإكراه؛ لأنّ القتال الدفاعي ليس إكراهاً على الدين. وثانيها آيات الأمر بقتال المشركين مطلقاً دون غاية، وهذه يمكن تقييدها بآية الجزية لتكون الغاية هي الخضوع لسطان المسلمين لا التديّن بالإسلام، فلا تنافي أيضاً آية نفي الإكراه. وثالثها ما كانت له غاية هي كون الدين كلّه لله، وهذه تعارض آية نفي الإكراه، فتُنسخ بكلّ من آية الجزية وآية نفي الإكراه، وتكون النتيجة أنّه قد شرّع الإكراه على الدين لسنوات في المدينة المنوّرة، ثم نُسخ وألغي بهذه الآية، وبقي الجهاد الابتدائي الذي غايته الخضوع للمسلمين بدفع الجزية لهم، وهذا الرأي يقف على النقيض من الأقوال المشهورة بين المفسّرين([41]).
وهذه المحاولة التي قدّمها ابن عاشور يصعب إثباتها تاريخياً، لاسيما بعد اشتهار تأخّر نزول سورة براءة، ومن ثم يكون إثبات النسخ بهذه الطريقة عسيراً أيضاً، حيث يمكن للطرف الآخر أن يدّعي تقدّم نزول آية نفي الإكراه على مجموع آيات الجهاد الابتدائي، ثم نسخها من قبل تلك الآيات، ثم حصول نسخ داخل تلك الآيات بين آية الجزية وغيرها، على الطريقة التي عرضها ابن عاشور نفسه، وهذا ما يضطرّه لإثبات عدم إمكان نسخ آية نفي الإكراه، ولو من خلال تعليلها بتبيّن الرشد والغيّ كما تقدّم، فغذا فعل ذلك ـ كما هو الصحيح ـ اقترب من تصويب الجمع.
وبالنسبة لنا، فحيث لم نجد دلالة في آيات القرآن الكريم على الجهاد الابتدائي غير آية الجزية ـ على كلام كان لنا فيها ـ فإنّ نظرية النسخ بهذه الطريقة لن نحتاج إليها من الأساس، وسيأتي حلّ التعارض بين النصوص القرآنية إن شاء الله.
سابعاً: ذكر السيد محمد باقر الصدر أنّه «يسيء البعض فهم القرآن الكريم في هذه الآية: «لا إكراه في الدين قد تبيّن الرّشد من الغي»، فيظنّ أنّ القرآن كفل للإنسان حرّية التدين وعدمه، ومنع من الإكراه عليه أخذاً بمبدأ الحرّية الشخصية الذي تؤمن به الحضارات الحديثة. ولكن هذا خطأ؛ لأنّ الإسلام الذي جاء لتحرير الإنسان من عبودية الأصنام على أساس التوحيد لا يمكن أن يأذن للإنسان بالتنازل عن أساس حريته والانغماس في عبوديّات الأرض وأصنامها، كما أنّ الإسلام لا يعتبر عقيدة التوحيد مسألة سلوك شخصي خاص كما ترى الحضارات الغربية، بل هي القاعدة الأساسية لكيانه الحضاري كله، فكما لا يمكن للديمقراطية الغربية مهما آمنت بالحرية الشخصية أن تسمح للأفراد بمناوءة فكرة الحرية نفسها، وتبنّي أفكار فاشستية دكتاتورية، كذلك لا يمكن للإسلام أن يقرّ أيّ تمرّد على قاعدته الرئيسية. وإنما يهدف القرآن الكريم حين ينفي الإكراه في الدين، إلى أنّ الرشد قد تبيّن من الغي، والحقّ تميّز عن الضلال، فلا حاجة إلى إكراه مادام المنار واضحاً والحجّة قائمة، والفرق بين الظلام والنور لائحاً لكلّ أحد..»([42]).
أ ـ إنّ إضافة فكرة الحاجة التي قام بها السيد الصدر، ووافقه عليها بعض الفقهاء المعاصرين([43])، هي إضافة لا تحكي عنها الآية؛ فإذا كانت الآية تنفي الإكراه في الدين؛ لأنّ الحقّ قد بان، وأنّه لا حاجة إلى الإكراه، فكيف يفسّر الصدر ظاهرة الجهاد الابتدائي والتخيير بين القتل والإسلام؟ فإذا لم تعد هناك حاجة للإكراه، فلماذا شرّع الجهاد الابتدائي بهذه الطريقة وسُنَّ القتلُ في حقّ من لا يريد الإسلام إذاً؟! بل لقد جعله الفقهاء من الواجبات، وبعضهم فرضه مرّة كل عام على الأقلّ مع قدرة المسلمين، فتشريع الجهاد الابتدائي بهذه الطريقة معناه أنّ هناك حاجة للإكراه تفرض تشريعه والحكم بوجوبه، فكيف يفسّر السيد الصدر الآية بانتفاء الحاجة المذكورة؟
ب ـ إنّ نفي الإكراه وإثبات الحرية الشخصيّة لا ينافي أساس الإسلام كما صوّره السيد الصدر؛ لأنّ النقاش هنا ليس في الترخيص بمعنى القبول الفكري بما اختاره الطرف الآخر، وإنّما هو بمعنى القبول القانوني، فأين تكمن المشكلة فيما لو أعطى الإسلام الحريّة الشخصيّة من جهة ورفض ـ فكريّاً ـ بعض الخيارات التي يمكن أن تنبثق عن هذه الحرية الشخصيّة؟ نعم لو رخّص الإسلام في محاربة التوحيد وقمع أهله لكان هذا الكلام معقولاً، بينما ما يطرحه هنا أنصار الحرية العقدية إنّما هو الحق لكلّ فرد باختيار العقيدة التي يراها صحيحةً، حقّاً قانونيّاً فقط، بحيث يبقى للإسلام الحقّ في تفنيد هذا الاختيار واعتباره خطأ. ونحن نسأل السيد الصدر: كيف سمح الإسلام لأهل الكتاب بإعلان ديانتهم والبقاء عليها؟ أليس في منحهم هذا الحقّ تهديداً لأصل الرسالة المحمّدية؟ كيف نجمع بين منحهم هذا الحق من جهة وبين رفض مضمون عقائدهم رفضاً تامّاً غصّت به آيات القرآن الكريم من جهة ثانية؟ ولعلّ مقصود السيد الصدر شيئاً آخر لم نفهمه، ربما يكون بلوغ حالة رفض التوحيد مبلغاً يطيح بوجود التوحيد في الأرض، وهذه حالة استثنائيّة لا تشكّل قاعدةً لتخترق مبدأ الحريّة الفردية العقديّة.
وخلاصة القول: إنّ آية نفي الإكراه يرجح فيها الدلالة على عدم مشروعية الإكراه على الدين.
ما نستخلصه من استعراض مجموعات النصوص القرآنية المتقدّمة عدّة نقاط:
1 ـ إنّ المجموعة الأولى من الآيات، وهي الدالّة على رفع القتال عند عدم الاعتداء، تامّة الدلالة على نفي فكرة الجهاد الابتدائي، عدا الآية الرابعة والأخيرة.
2 ـ إنّ المجموعة الثانية، وهي آيات الحريّة الدينية، تواجه مجموعة من المشاكل تمّ الكشف عنها عبر بعض المداخلات المتقدّمة المسجّلة عليها، وقد رأينا أنّها لا تنهض مستنداً في موضوع بحثنا عدا الآية الأولى، وإن كوّنت مناخاً مفهوميّاً حافّاً ومساعداً.
3 ـ إنّ المجموعة الثالثة، وهي نصوص وظائف النبي، والبالغة ثماني عشرة آية، قد ذكرنا أنّ بعضها لا يفيد هنا، لكنّ مجموعةً وافرة منها يمكن لها ـ بضمّ بعضها إلى بعض ـ أن تكتسب دلالةً جيّدة.
4 ـ إنّ المجموعة الرابعة، وهي نصوص نفي الإكراه، قادرة على القيام بدور الإثبات للمضمون الذي نبحث عنه هنا.
إلاّ أنّ هناك ملاحظة يمكننا أن نسجّها على المجموعات الثلاث الأخيرة برمّتها، وهي أنّها لا تبطل الجهاد الابتدائي، وإنما تبطل أحد الأحكام الواردة فيه، وهو القتل على تقدير عدم الإسلام في غير أهل الكتاب، فإنّ هذا الحكم المتداول في مصنّفات فقهاء الإسلام هو الذي لا ينسجم مع هذه المجموعات حتى لو كانت دالّة بأجمعها على مطلوبها، وإلا فلو كان الجهاد الابتدائي يعني إخضاع الكافرين لسلطان الدولة الإسلامية مهما كانت ديانتهم دون مساس باعتقادهم، فإنه لا ينافي بتاتاً الحريات الدينية التي دلّت عليها نصوص المجموعات الثلاث الأخيرة، والقضيّة لا تكون حينئذٍ بالضرورة طلباً للإسلام وإلا أخذت أراضيهم وألزموا بالجزية، حتى تفسّر هذه الحالة أيضاً بأنّها شكلٌ من أشكال الإكراه، بل تكون سيطرةً على بلاد الكفر بعد عدم انضمامها طواعيةً عبر دخول أهلها في الإسلام، فإن أحبّ شخصٌ الإسلام حاز على بعض الامتيازات الإضافيّة، وهذا هو الذي يفهم من مثل آية الجزية.
من هنا، تسجّل ملاحظة على ما يتصّوره بعضهم من أنّ تفنيد فكرة قتل غير أهل الكتاب يساوي إبطال مفهوم الجهاد الابتدائي، مع أنّه غير صحيح، فقد يُتصوّر الأخير ـ أي الجهاد الابتدائي ـ دون تصوّر الأوّل، أي تشريع القتل في حقّ غير أهل الكتاب إذا لم يسلموا. نعم، لو كان الدليل الدالّ على الجهاد الابتدائي يؤكّد في الوقت عينه على مفهوم التخيير بين القتل والإسلام بحيث لم يعد يمكن التفكيك بينهما؛ لعدم وجود دليل يدلّ على الجهاد الابتدائي ولا يدلّ على الحكم المذكور، أمكن قبول هذا الكلام، إلاّ أنّ الواقع على خلافه في بعض النصوص التي كانت المستند الشرعي للقول بالجهاد الابتدائي، فآية الجزية مثلاً ـ بناءً على الأخذ بإطلاقها لأهل الكتاب وغيرهم كما قال به بعضٌ ـ لا تدلّ على القتل بتاتاً مقابل عدم الإسلام، بل تخيّر بين ثلاثة، وحينئذٍ يكون القتل مقابل عدم الخضوع لنظام الدولة لا مقابل عدم الإسلام، فلا يضرّ بمبدأ الحريات الدينية، كما قرّرناه.
إذن، وطبقاً لما توصّلنا إليه، فإذا كان المستند التشريعي للفقيه في الجهاد الابتدائي هو كلّ آية أو حديث يقرن أو يَشْرط الجهاد الابتدائي بثنائيّة القتل والإسلام كانت هذه الآيات معارضة له، أمّا إذا كانت النصوص/المرجع لديه لا تحوي ربطاً بين هذين المفهومين، فلا موجب للتخلّي عن فكرة الجهاد الابتدائي لأجل المجموعات النصيّة القرآنية الثلاث الأخيرة هنا. وحيث كان أقوى أدلّة الجهاد الابتدائي عندنا، كما تعرّضنا له في محلّه، هو آية الجزية، فلا تنافي هذه الآيات برمّتها وجوب هذا الجهاد. نعم، تكون هذه الآيات عندما نعرض عليها الروايات المخيّرة بين الإسلام والقتل، سواء كانت صحيحة السند أم ضعيفة، ومنها خبر ابن عمر المشهور، تكون دليلاً على لزوم طرح هذه الروايات؛ لسقوطها عن الحجيّة بمعارضتها القرآن الكريم وفق البيانات المتقدّمة، فهذه المجموعات الثلاث الأخيرة تبطل خبر ابن عمر وأمثاله، لكنها لا تسقط الاستدلال بمثل آية الجزية على شرعية الجهاد الدعوي.
ومعه، يبقى من أدلّة الجهاد الابتدائي آية الجزية فقط، وهي تعارض آيات المجموعة الأولى هنا، فهذه الآيات هنا تسقط شرعية القتال عند عدم الاعتداء، فضلاً عن وجوبه، فيما تثبت ذلك آية الجزية وأمثالها على مستوى إطلاقها، والصحيح تقديم آيات هذه المجموعة الأولى هنا؛ لأنّ دلالتها أصرح وأخصّ من الدلالات الإطلاقية لمثل آية الجزية، ودعوى النسخ تقدّمت المناقشة فيها مراراً، ولا أقلّ من التساقط، فيسقط وجوب الجهاد الابتدائي.
أمّا إذا أصرّ المفسّر والفقيه المسلم على دلالة آيات القتال ليكون الدين لله وأمثالها، وفهم أنّ انتهاء الحرب يكون بإسلامهم أو قتلهم، وقع التعارض المستحكم بين الآيات بمجموعاتها هنا، وليس فقط مع المجموعة الأخيرة، فلزم حينئذٍ إمّا الأخذ بالنسخ على طريقة ابن عاشور لعدم إمكان نسخ آية نفي الإكراه وأمثالها كما قلنا، أو الأخذ بآيات الجهاد الابتدائي ونسخ طوائف هذه الآيات جميعها، والأوّل أرجح كما بيّنا مبرّره سابقاً، فيسقط الجهاد الابتدائي مع غير أهل الكتاب بمجمل المجموعات المتقدّمة هنا من الآيات؛ لأنّه يستبطن الإكراهَ على الدين والحربَ مع من لم يعتدِ على المسلمين، كما ويسقط الجهاد الابتدائي مع أهل الكتاب بمثل المجموعة الأولى من مجموعات الآيات المتقدّمة، بل يحكم بحرمته وفقاً لطبيعة دلالة بعض هذه المجموعات من نفي السبيل عليهم أو نفي الإكراه في حقّهم، الظاهر في الحرمة لا في عدم الوجوب فقط.
قد ينطلق بعض الرافضين لفكرة الجهاد الابتدائي من منطلقات عقليّة تارةً وعقلانيّة أخرى، ويمكن صياغة الهواجس المطروحة([44]) في هذا الإطار ـ باختصار ـ عبر القول بأنّ الهجوم على بلاد الآخرين والسيطرة على ثرواتهم ونفوسهم وممتلكاتهم لمجرّد الاختلاف العقدي معهم، يشكّل في الذهن العقلائي عدواناً على الغير، وهذا العدوان يفهمه العقل بوصفه مصداقاً من مصاديق الظلم، والمفروض أنّه محرّم شرعاً بعد اندراجه في الظلم المحكوم عليه بالقبح عقلاً، بناءً على الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.
وهذا النوع من الاستدلال يمكن النظر إليه تارةً من زاوية استنباطيّة، أي بوصفه محاولة اجتهادية للخروج بموقف الشريعة من الجهاد الابتدائي، وأخرى من زاوية نقديّة، أي توجيه سهام النقد على الشريعة بعد ثبوت حكمٍ من هذا النوع فيها.
فإذا كنّا في السياق الأوّل، فمن الصعب ـ لاسيما بعد ورود النصوص ـ أن نجزم بالقبح؛ لأنّ الطرف الأخر قدّم لهذا الجهاد مصالح عليا، فإذا كان يحقّ للمجتمع الدولي التدخّل عسكريّاً لضرب نظام يقمع شعبه، إنقاذاً لهذا الشعب من الظلم النازل عليه وإصلاحاً لحاله، فلماذا في منطق الدين لا يجوز فعل ذلك لإخراج الشعوب من ضلالة الكفر إلى نور الهداية والرشاد؟! لماذا لا تكون العمليات القيصرية هذه لمصلحة المريض نفسه؟! من الصعب جداً الحديث عن حكم عقلي ضمن المنطق الديني، مهما حاولنا استبعاد الفروض واستغراب المشاهد.
وأمّا إذا دخلنا في السياق الثاني، فالموضوع يختلف تماماً ويصبح أكثر تعقيداً، لكنّه ليس هو محلّ بحثنا هنا.
إنّ القول بشرعية الجهاد الابتدائي أو وجوبه بملاك الكفر دون معيار الحرابة والعدوان، لم يثبت عليه دليلٌ واضح في الفقه الإسلامي، بل إنّ الأدلّة القرآنية تواجهه وتحدث تشكيكاً عميقاً فيه، ويعزّز ذلك ما توصّلنا إليه في مباحث شروط الجهاد حيث لم نعثر على دليلٍ في أيّ من هذه الشروط يميّز بين أنواع الجهاد، فالصحيح أنّ الجهاد الواجب أو المشروع في الإسلام هو الجهاد الدفاعي بالمعنى غير الضيّق لكلمة دفاع، بل بما يشمل المدلول السياسي لها، مما يستوعب الحروب الاستباقية والضربات الوقائية، والدفاع عن حقّ الدولة والمجتمع في الحياة الإنسانية، فلو منعت المياه عن الدولة وكان ذلك اعتداءً لا يمكن تفاديه وتوقف عيش المسلمين على الحرب كانت دفاعيةً، وهكذا سائر الحقوق المجتمعية والدولية وغيرها، كلٌّ بحسبه، وهذا هو المعنى العرفي والعقلائي للدفاع كما صار واضحاً.
نعم، حيث لم يكن الجهاد الابتدائي مشروعاً أو واجباً، وجب على الحاكم الشرعي مراعاة هذا الحكم الإلهي، إلاّ إذا رأى مصلحةً في موردٍ؛ فيجوز هذا الجهاد، إما من باب قانون التزاحم وتقديم الأهم على المهم، أو من باب الولاية العامة المطلقة للفقيه ـ بناء على ثبوتها ـ حينما يرى مصلحةً في الأمر، لكنّ هذا ــ على أيّ تقدير ــ يبقى الاستثناء الراجع إلى نظر الحاكم، وإلا فمع عدم إصداره لحكمٍ في الحالات الخاصّة يكون الحكم هو عدم شرعية ـ فضلاً عن وجوب ـ هذا الجهاد، والله العالم بأحكامه.
([1]) نشر هذا المقال في مجلة الحياة الطيبة في بيروت، العدد 25، ربيع عام 2012م.
([2]) انظر: حيدر حب الله، الجهاد الابتدائي الدعوي في الفقه الإسلامي، قراءة استدلالية في مبادئ العلاقات الدولية، دراسة منشورة في كتاب: العنف والحريات الدينية، قراءات واجتهادات في الفقه الإسلامي 2: 9 ـ 132، مؤسسة الانتشار العربي، الطبعة الأولى، 2011م؛ ومنشورة أيضاً في كتاب: دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 1: 59 ـ 200، مؤسّسة الفقه الإسلامي المعاصر، الطبعة الأولى، 2011م.
([3]) انظر: الكهف: 29، والأنعام: 104، وهود: 121 ــ 122، والحجر: 1 ــ 2، والبقرة: 256، والقلم: 44 ــ45.
([4]) انظر: الغاشية: 21 ــ 24، والشورى: 48، والمائدة: 92، 99، والرعد: 40.
([5]) انظر: شمس الدين، جهاد الأمة: 107 ــ 113.
([6]) انظر: محسن كديور، حريّة الدين والعقيدة في الإسلام، مطالعة فقهيّة، ترجمة: علي الوردي، دراسة منشورة في كتاب: العنف والحريات الدينية 1: 104.
([7]) انظر: الطوسي، التبيان 3: 287؛ ومجمع البيان 3: 153، و9: 450.
([8]) الطباطبائي، الميزان 19: 234.
([9]) انظر: التفسير الكبير 29: 303 ـ 304.
([10]) راجع: عبد الملك البراك، ردود وأباطيل وشبهات حول الجهاد: 86.
([11]) راجع: منوجهر طباطبائي مؤتمني، آزاديهاى عمومى وحقوق بشر: 90 ـ 91، نشر دانشكاه طهران، الطبعة الثانية، 1996م.
([12]) انظر: مرتضى مطهري، مجموعه آثار (المجموعة الكاملة) 20: 252؛ ومحمد حسن قدردان قراملكي، آزادى در فقه وحدود آن: 105 ـ 108، مؤسّسة بوستان كتاب، قم، إيران، الطبعة الأولى، 2003م.
([13]) انظر: محمد حسن قدردان قراملكي، آزادى در فقه وحدود آن: 101 ـ 102.
([14]) انظر: مرتضى مطهّري، مجموعه آثار (المجموعة الكاملة) 20: 237؛ ومحسن كديور، حرية الدين والعقيدة في الإسلام، مصدر سابق: 108؛ وحسن الجواهري، بحوث في الفقه المعاصر 6: 227، 249؛ ومحمد الحسيني البهشتي، آزادى ارزش بنيادين اسلام، ضمن كتاب: رابطه دين وآزادى: 87؛ وأسعد السحمراني، حوار حول الحريات الشخصيّة، مجلّة المنهاج، العدد 11: 261؛ ومحمّد تقي فاضل ميبدي، دين وآزادى در تقابل يا تعامل، ضمن كتاب: رابطه دين وآزادى: 142 ـ 143.
([15]) راجع ـ على سبيل المثال ـ: التبيان 3: 18، و5: 236، و7: 36؛ ومجمع البيان 6: 338؛ والنحّاس، معاني القرآن 4: 74؛ والسرخسي، أصول الفقه 1: 192 ـ 193؛ والتفسير الكبير 21: 120.
([16]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 13: 303 ـ 304.
([17]) محسن كديور، آزادي عقيده ومذهب در اسلام، مجلة آفتاب، العدد 23: 59؛ ومنصورة باقري بور، مبدأ نفي الإكراه في الإسلام، مجلّة الاجتهاد والتجديد، العدد 8: 185.
([18]) انظر: وهبة الزحيلي، حقوق الإنسان في الإسلام: 174، دار الكلم الطيب ودار ابن كثير، دمشق وبيروت، الطبعة الثانية، 1997م؛ ومحسن كديور، حرية الدين والعقيدة في الإسلام، مصدر سابق: 110؛ ومحمد علي أيازي، مباني حقوق بشر إسلامي، ضمن كتاب حقوق بشر در جهان امروز: 63، شركت سهامي انتشار، الطبعة الأولى، 2004م؛ ومحمد الشيرازي، الصياغة الجديدة: 335، مركز نشر الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1985؛ وهاشم آقاجرى، صورت بندى جمعى آزادى در جامعه دينى، ضمن كتاب: رابطه دين وآزادى: 52.
([19]) راجع حول دعوى النسخ: الطبرسي، مجمع البيان 10: 728.
([20]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: المصدر نفسه 10: 725.
([21]) الحائري، المرجعيّة والقيادة: 238؛ وفضل الله، من وحي القرآن 24: 231 ـ 232.
([22]) انظر: محمد الشيرازي، الصياغة الجديدة: 335؛ وحسن الصفار، التعدّدية والحرية في الإسلام: 67، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، الطبعة الرابعة، 2010م.
([23]) انظر: الطبرسي، مجمع البيان 9: 226 ــ 227.
([24]) وافق الشيخ الطوسي على تفسير جملة: ليس على الرسول إلا البلاغ، بمعنى أنّه ليس عليه حملهم على الإيمان، فانظر له: التبيان 8: 195.
([25]) انظر حول تفسير الآية: الطبرسي، مجمع البيان 9: 54؛ وراجع: هاشم آقاجرى، صورت بندى جمعى آزادى در جامعه دينى، ضمن كتاب: رابطه دين وآزادى: 52.
([26]) راجع: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 123.
([27]) انظر حول تفسير الآية: الطبرسي، مجمع البيان 5: 235؛ والطباطبائي، الميزان 10: 204 ــ 207؛ وراجع: محسن كديور، حرية الدين والعقيدة في الإسلام، مصدر سابق: 107 ـ 108؛ ومحمّد تقي فاضل ميبدي، دين وآزادى در تقابل يا تعامل، ضمن كتاب: رابطه دين وآزادى: 143.
([28]) انظر: الطبرسي 5: 206؛ والطباطبائي، الميزان 10: 126؛ وتفسير المنار 3: 38، دار المعرفة؛ ومرتضى مطهّري، مجموعه آثار (المجموعة الكاملة) 20: 237؛ ووهبة الزحيلي، حقوق الإنسان في الإسلام: 171، 174؛ وحسن الصفار، التعدّدية والحرية في الإسلام: 66؛ ومحمد الحسيني البهشتي، آزادى ارزش بنيادين اسلام، ضمن كتاب: رابطه دين وآزادى: 92 ـ 93؛ وعماد الهلالي، الردّة وحرية الاعتقاد في القرآن الكريم، ضمن كتاب: العنف والحريات الدينية 1: 152؛ ومحمّد تقي فاضل ميبدي، دين وآزادى در تقابل يا تعامل، ضمن كتاب: رابطه دين وآزادى: 142؛ وحسن الجواهري، بحوث في الفقه المعاصر 6: 227؛ ومحمد علي أيازي، مباني حقوق بشر إسلامي، مصدر سابق: 62؛ ومحسن كديور، حرية الدين والعقيدة في الإسلام، مصدر سابق: 107؛ وعلي عبد الواحد وافي، حقوق الإنسان في الإسلام: 220، دار نهضة مصر، الطبعة الخامسة، 1979م؛ ومحسن آرمين، دين وآزادى وواقعيتهاى اجتماعى وفرهنكى، ضمن كتاب: رابطه دين وآزادى: 23.
([29]) راجع: فضل الله، من وحي القرآن 11: 369.
([30]) انظر: تفسير المنار 3: 36 ـ 37؛ وابن عاشور، التحرير والتنوير 2: 499 ـ 502؛ ومرتضى مطهّري، مجموعه آثار (المجموعة الكاملة) 20: 236؛ ومحسن كديور، آزادي عقيده ومذهب، مجلّه آفتاب، العدد 23: 58؛ ومحمد الشيرازي، الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام: 319، 334، وله أيضاً: الأسئلة والأجوبة، اثنا عشر رسالة 12: 24، وفقه العولمة: 179؛ وحسن الصفار، التعدّدية والحرية في الإسلام: 19، 63؛ ومحمد الحسيني البهشتي، آزادى ارزش بنيادين اسلام، مصدر سابق: 87؛ ووهبة الزحيلي، حقوق الإنسان في الإسلام: 171، 172؛ ومحمّد الخامنئي، آزادي هاي فردي در إسلام، ضمن كتاب: حقوق بشر از ديدكاه اسلام: 75 ـ 76 (وإن ظهر منه في ص 248، أنّه يميل لرأي العلامة الطباطبائي الآتي)؛ وعماد الهلالي، الردّة وحرية الاعتقاد في القرآن الكريم، مصدر سابق 1: 148 ـ 151؛ ونعمة الله صالحي نجف آبادي، جهاد در اسلام: 16؛ وسيد قطب، في ظلال القرآن 3: 291 ـ 293؛ ومحسن آرمين، دين وآزادى وواقعيتهاى اجتماعى وفرهنكى، مصدر سابق: 22؛ وعلي عبد الواحد وافي، حقوق الإنسان في الإسلام: 220؛ ومحمّد علي أيازي، مباني حقوق بشر إسلامي، مصدر سابق: 62؛ وحسن الجواهري، بحوث في الفقه المعاصر 6: 227، 249؛ وأبو الفضل موسويان، آزادي عقيده وجهاد ابتدائي، ضمن كتاب مجموعه مقالات همايش بين المللي حقوق بشر وكفتكوى تمدنها: 298، 306، طبع 2001م؛ وأحمد حافظ نجم، حقوق الإنسان بين القرآن والإعلان: 124، دار الفكر العربي؛ وحميد آيتى، آزادى عقيده وبيان: 29، انتشارات فردوسي، إيران، الطبعة الأولى، 1994م؛ ومحمد حسين فضل الله، من وحي القرآن 5: 46 ـ 48؛ وهاشم آقاجرى، صورت بندى جمعى آزادى در جامعه دينى، مصدر سابق: 43، 52؛ ومحمّد مهدي شمس الدين، حوار حول الحريات الشخصيّة، مجلّة المنهاج، العدد 11: 270 ـ 271؛ ومحمّد تقي فاضل ميبدي، دين وآزادى در تقابل يا تعامل، مصدر سابق: 141 ـ 142.
([31]) راجع: جامع البيان 3: 23 ـ 26؛ ومجمع البيان 2: 630 ــ 631؛ والميزان 2: 346 ــ 347.
([32]) راجع: الراوندي، فقه القرآن 1: 344؛ والطباطبائي، الميزان 2: 342 ــ 343، ومحمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية (المجموعة الكاملة 19): 364؛ ومحمد حسين الطهراني، ولاية الفقيه في حكومة الإسلام 4: 205 ـ 209؛ وعبد الله جوادي آملي، فلسفه حقوق بشر: 261، نشر مركز إسراء، إيران، الطبعة الثانية، 1998م.
([33]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: ابن عاشور، التحرير والتنوير 2: 501؛ والطباطبائي، الميزان 2: 343 ـ 344.
([34]) الحائري، المرجعيّة والقيادة: 238 ـ 240.
([35]) راجع ـ على سبيل المثال ـ: ابن حزم، الناسخ والمنسوخ: 30؛ وابن الجوزي، نواسخ القرآن: 93.
([36]) الطباطبائي، الميزان 2: 343 ــ 344.
([37]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: الطبري، جامع البيان 3: 25 ـ 26.
([38]) أبو القاسم الخوئي، البيان في تفسير القرآن: 307 ـ 308.
([39]) انظر: تفسير المنار 3: 39؛ وسيد قطب، في ظلال القرآن 3: 293 ـ 295.
([40]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: سيد سابق، عناصر القوة في الإسلام: 210 ـ 211، نشر دار الكتاب العربي، بيروت، 1986م، وله كلام في الفتنة عن الدين ص222؛ ومحمد عزة دروزة، الجهاد في سبيل الله: 48؛ وأحمد شلبي، الجهاد والنظم العسكرية في التفكير الإسلامي: 58 ـ 62، نشر مكتبة النهضة، مصر، طـ 3، 1982؛ ومطهري، الجهاد وحالاته المشروعة في القرآن: 7، 21، 31 ـ 38، 42 ـ 44، ترجمة: ناظم شيرواني، نشر منظمة الإعلام الإسلامي، قسم العلاقات الدولية، طهران، 1404هـ؛ وعلي عبدالحليم محمود، ركن الجهاد أو الركن الذي لا تحيا الأمة إلا به: 71، نشر دار التوزيع والنشر الإسلامي، سوريا، الطبعة الأولى، 1995م؛ وصادق خلخالي، زاد المعاد في أحكام الجهاد: 35 ـ 37، نشر تفكر، إيران، الطبعة الأولى، 1414هـ؛ وكامل سلامة الدقس، آيات الجهاد في القرآن الكريم: 81 ـ 90؛ ووهبة الزحيلي، حقوق الإنسان في الإسلام: 171، وله أيضاً: آثار الحرب في الفقه الإسلامي: 90 ـ 94؛ 125؛ وإن كان في بعض عباراته بعض الغموض في تحديد موقفه؛ والطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 2: 64 ـ 69، 4: 164؛ والمنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 1: 115 ـ 116؛ و 2: 711؛ وتفسير الأمثل 2: 26 ـ 29، و5: 426؛ ومحمد الصدر، ما وراء الفقه 2: 373 ـ 374 و..
([41]) ابن عاشور، التحرير والتنوير 2: 499 ـ 501.
([42]) محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية (المجموعة الكاملة 19): 364.
([43]) راجع: عبد الكريم الموسوي الأردبيلي، فقه الحدود والتعزيرات 4: 270 ـ 271.
([44]) يمكن مراجعة بعض ما ذكروه من مضارّ ومفاسد عملية لمنطق الإجبار على العقيدة عند: أبو الفضل موسويان، آزادى عقيده وجهاد ابتدائي، مصدر سابق: 309.