أحدث المقالات

س1: هناك من يعتقد أنّ لوناً من ألوان التدوين غائب عن الساحة الحوزيّة، وهو التدوين التعليمي والذي يُراعى فيه عنصري التربية والتعليم، وما يؤيّد هذه الفكرة هو أنّ أغلب المقررات في الحوزة لم تُكتب لغرض التدريس إنما لأغراض أخرى واستفيد منها في التّدريس. ما هو أسباب هذا الغياب؟

 

حبّ الله: عندما لا تندفع الطاقات في الحوزة العلمية للتفكير أو للعمل على إعداد برامج أو كتب دراسيّة، فمن الممكن أن يكون خلف ذلك بعض المنطلقات المفترضة، وسأكتفي هنا ببعضها:

فهناك افتراض معقول، وهو غياب الشعور بضرورة البرامج والكتب الدراسية الجديدة من الوعي العام في الحوزات العلميّة، فعندما ننظر إلى موضوع ما على أنّه لا يحوي أهمّية أو تأثيراً فمن الطبيعي أن لا نندفع نحوه، ولا أستبعد أنّ الحوزة العلميّة لم تشعر حقّاً ـ في تلك الفترة ـ بضرورة هذه الأمور، ولم تحسّ بوجود نقص على هذه المستويات، وما عزّز عدم شعورها هذا هو نشوة السعادة التي امتلكتها من خلال الكتب السابقة التي تنافس العلماء على مدحها، فإنّ هذا المدح عندما يدخل مجالاً كمجالنا هنا، فهو يقوم ببثّ إحساس عام بأنّه لا ضرورة تدفع نحو التغيير في البرامج أو الكتب الدراسيّة، وما يعزّز ذلك هو ظهور أجيال فذّة من العلماء خلال القرنين الأخيرين، فإنّ ظهور مثل هذه الأجيال سيعطي إيحاءً بنجاح البرنامج العام الذي تسير الحوزة عليه، فعندما ترى نجاحاً في النتائج فمن الطبيعي أن تتنبّأ بأنّ المقدّمات كانت في محلّها.

ويوجد افتراض آخر يمكن طرحه هنا، وهو خوف المؤسّسة الدينية عموماً من أيّ خطوة تعديلية من هذا النوع؛ لأنّ أيّ تغيير في البرامج سيوحي بأنّنا بتنا نقترب من المنافس، وهذا ما سيفقدنا أصالتنا، تعالوا معي لنتصوّر ظهور الجامعات والمدارس العصرية في العالم الإسلامي منذ القرن التاسع عشر، وكلّنا يعرف أنّ المدارس والجامعات العصريّة قد وقع جدل في شرعيّتها وضرورتها في المجتمع الإسلامي وأنّ هناك من تحمّس لرفضها بحجّة أنّها عملية مكتملة لتصدير الثقافة الغربية. إنّ الخطوات الجادّة التي كانت تريدها الحوزة العلمية على صعيد الكتب الدراسيّة مثلاً كانت تتمحور حول أشياء حظيت الجامعات بها من قبل، بل صارت شعاراً لها، ومن ثم سيخلق ذلك إحساساً بأنّنا نقترب من ثقافة لطالما اعتبرناها منافساً، ومن الطبيعي أنّ عنصر التنافس هذا منذ بدايات القرن العشرين من شأنه أن يعيق أيّ تقدّم نحو إصلاح أوضاع يوحي إصلاحها بشكلٍ من أشكال الاقتباس.

يضاف إلى ذلك وجود قلق عام في الحوزة العلميّة من أنّ أيّ تغيير باتجاه النمط الجامعي قد يؤثّر سلباً على المستوى التعليمي في الحوزة، ويمكن أن يقدّم هؤلاء شواهد قويّة على ذلك، كتجربة الأزهر التي انتقدها بعض علماء أهل السنّة بعد عقودٍ من تأسيسه جامعيّاً، حيث اعتبروا أنّها سطّحت مستوى خرّيجي العلوم الدينية في المعاهد الدينية السنيّة، لهذا من المترقّب أن تعيش الحوزة قلقاً من تكرار تجارب من هذا النوع في الوسط الإمامي. أعتقد بأنّ علينا في تحليل مثل هذه الأمور أن ندخل أكثر إلى مناطق اللاشعور، حتى نحدّد المنطلقات بشكل أدقّ.

 

س2: هل يمكن تلمّس الآليات التي يتمّ من خلالها اختيار هذا الكتاب أو ذاك كمقرر دراسي في الحوزة العلمية؟ وما هو تأثير شخصيّة المؤلِّف في هذا الاختيار؛ فمن الملاحظ أنّ أكثر المقرّرات الدراسية كان لأصحابها نحو من الزعامة في الوسط الشيعي، كالمفيد والطوسي والعلامة والبهائي والأنصاري والآخوند، وأخيراً الخوئي الذي بدأت بعض الأوساط تعتمد كتبه كمحور يدرو عليه بحث الخارج؟

حب الله: دعني في البداية أميّز بين اعتماد المتون والدوران حولها في البحوث الفقهية، وبين اعتمادها كتاباً دراسيّاً، فأن تسير دروس البحث الخارج على وفق كتاب العروة مسألةً مسألة فهذا شيء يتصل بمركزيّة المتن، ولي ملاحظات عليه وأراه يعطّل بشكل لا بأس به مجال الإبداع الهندسي في رسم تصاميم جديدة للدراسات الفقهية والأصوليّة، لكنّ هذا شيء يختلف عن الكتاب الدراسي الذي كان لشخصيات المؤلّفين دور في اختياره. ومع ذلك لا أوافق على أنّ المؤلّف كان له الدور الوحيد في اختيار الكتاب، بل كانت هذه الكتب تحوي قدراً كبيراً من التميّز في الدراسات الفقهية والأصوليّة، ولهذا تمّ اختيار ـ ولو بطريقة عفويّة تراكميّة ـ كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري دون كتاب الزكاة أو الطهارة له، وتمّ اختيار كتب الشيخ الأنصاري والشيخ الخراساني مثلاً دون كتب علماء آخرين لا يقلّون عنهما في العلم والنفوذ. يجب الإقرار بأنّ هذه الكتب كانت تحوي عناصر لها دور جيّد في التربية والتعليم، بصرف النظر عن وجود ملاحظات عليها، فعندما آخذ كتاب (شرائع الإسلام) مثلاً فإنّني أجد نظاماً رائعاً لتنسيق الأبواب والفصول والمسائل الفقهية، وأجد لغةً مذهلة في الصياغة القانونية. الأمر ليس صدفةً أو عنصراً اجتماعيّاً فقط. وبالنسبة لي فإنّني أعتقد أنّ الكثير من الكتب التي اختيرت للتدريس في الحوزات العلمية كان اختيارها في حينه مناسباً إلى حدّ بعيد، كما تشهد به المقارنة التاريخية، لكنّ المشكلة معها اليوم هي في استمرارية اعتمادها مقرّراً دراسيّاً رغم التغيرات والتحوّلات التي طرأت على مناهج التربية والتعليم من جهة، وعلى الوضع العلمي للفقه والأصول وغيرهما من جهة ثانية.

ولعلّ ما يساعد على اعتماد كتاب دراسي، انطلاقاً من شخصية مؤلّفه ونفوذه وتأثيره، هو غياب اللجان العليا والأجهزة التي تقرّر موضوعات من هذا النوع، فيلجأ العقل العملي عند الناس إلى اعتماد طرق تحظى بثقة كبيرة كشخصيّة المؤلّف أو ما شابه ذلك.

 

س3: تجديد المقرّرات ضرورة! ولكن المختَلَف فيه: ماذا نجدّد؟ اللغة، الأسلوب، المنهج، الموضوعات… وبعبارة أخرى، ما هي مشكلات المقرّرات الدراسية الحالية حتى يتمّ علاجها أو تجديدها؟

حب الله: أعتقد أنّ مجال التجديد هو كلّ هذا الذي ذكرتموه، ولا أريد أن أدخل في تكرار، لكن يمكن الإشارة إلى مشاكل تعاني منها الكتب الدراسيّة، وقلّما يُشار إليها:

أ ـ هناك مشكلة الوعي التاريخي للبحوث العلمية، فالطالب يقرأ الفقه والأصول والفلسفة ولا يتعرّف على السياقات التاريخية لولادة الأفكار والنظريات وتحوّلاتها ومنعطفاتها، وهذا نقص كبير في الكتاب الدراسي.

ب ـ وهناك مشكلة عدم استيعاب الكتاب الدراسي لمستجدّات الدرس الفقهي والأصولي والفلسفي من خارج السياق، وهذه قضيّة أعتقد أنّها مهمّة وما تزال غير مراعاة، فنحن اليوم في الدراسات النقدية واللسانيات والهرمنوطيقا نواجه مقولات بالغة الحساسية يمكنها أن تطيح بكلّ منظومة فهم النص عندنا، والتي تبلورت بشكل رئيس في مباحث الألفاظ وباب التعارض من علم أصول الفقه، وقد تصدّى بعض العلماء للكتابة في هذا المجال وجزاهم الله خيراً، لكنّ هذه الكتابات ظلّت خارج الجسم الرئيس للبحث الأصولي، مع أنّه كان يفترض أن يتلقفها الدرس الأصولي على مستوى بحث الخارج، لتصبح جزءاً من الموضوعات الأصوليّة، ثم لتصاغ بعد ذلك في الكتاب الدراسي، كي يتعرّف عليها الطالب منذ المراحل الأولى أو الوسطى، وهناك عشرات الأمثلة على هذا الموضوع في علومنا الدينية: الهرمنوطيقا ومشكلاتها، نظرية المقاصد، نظرية المصلحة، نظرية العرف بشكلها الحديث، نظرية تاريخية الكتاب والسنّة والكثير، هذا في علم الأصول، وفي الفقه ما شاء الله، فضلاً عن الفلسفة التي شهدت تطوّراً كبيراً جدّاً على مستوى فلسفة الدين ونظريات علم المعرفة. وكذلك الحال في علم الكلام الذي أضيفت إليه أفكار كثيرة جدّاً ما زالت تتناول في المصنّفات والمقالات والمحاضرات التي تقع ـ في الغالب ـ على هامش الدرس الفلسفي والكلامي في الحوزة العلميّة. إنّ إدخال كلّ هذه الموضوعات في الجسم الرئيس لعلم الفقه والأصول والفلسفة وغير ذلك هو أكبر مهمّة تواجه من يريد إعداد كتاب دراسي يستطيع تربية الطالب على ثقافة تواكب تطوّر العلم الذي يدرسه، وإذا كان السيد محمد باقر الصدر قد فعل ذلك عبر مواكبته في (الحلقات) لمنجزات العلماء: النائيني والعراقي والخوئي والإصفهاني، فإنّه قد ظهرت بعد هؤلاء أمور كثيرة، تصدّى لها العديد من العلماء بدراسات جادّة، فلماذا تبقى هذه الدراسات على الهامش؟!

ج ـ المشكلة الأخرى هنا هي تحيّز الكثير من الكتب الدراسيّة لآراء أصحابها، وهذا النمط غير منتج في الكتاب التعليمي؛ لأنّ الطالب يفترض أن ينشأ على تفهّم النظريات المختلفة، ووعيها وكأنّ أصحابها ينطقون بها، لا أن تكون هناك نظريّة تحظى بالبحث والتفصيل والدعم فيما يشار إلى سائر النظريات إشارة عابرة نقديّة فقط، كما نجد مثل ذلك في كتاب الكفاية للشيخ الخراساني، وقد حاول السيد الصدر أن يتلافى هذه المشكلة، وكانت خطوته موفّقة إلى حدّ كبير، وإن كنّا بحاجة إلى تعميم أكبر.

د ـ حيث إنّ موادّ الفقه والأصول بالخصوص، تدرّس في مرحلة السطوح بهدف تهيئة الطالب لمراحل الاجتهاد، فإنّ من الخطأ أن يكون محور الدروس هو الموضوعات، بحيث يغرق الطالب في الموضوعات ويغيب ـ من حيث لا يشعر ـ عن المنهج والتدرّب عليه، لكي يكون مستعدّاً لخوض مرحلة البحث الخارج خوضاً عمليّاً، من هنا فبدل الدوران المشوّش لذهن الطالب بين الموضوعات والقيل والقال، وشعوره مع بعض الكتب ـ بلا داعي لذكر أسماء ـ بأنّ الكاتب نفسه مشوّش ولا يقرّ له قرار ويظلّ متذبذباً بين هذا وذاك، فيرجع على هذا ويعود إلى ذاك ثم يرجع مرّةً أخرى.. يفترض أن يُصار إلى التركيز على المنهج، وتعليمه كيف نريد أن نناقش هذه الفكرة؟ وما هي أصول وطرائق النقد الاجتهادي؟ لكن ليس على شكل نظري فحسب، بل في نفس الكتاب الدراسي في مرحلة السطوح، فبدل أن نناقش نحن الرأي الفلاني، نغيّر العبارة بطريقة توحي للطالب أنّه يتعلّم كيف يأخذ بزمام المبادرة النقديّة لذلك الرأي، وليس معي مجال لتوضيح الفكرة حتى لا أطيل، مثلاً نقول: وفي مناقشة هذا الرأي يفترض علينا التركيز على تفكيك الفكرة نفسها التي طرحها هذا الرأي، ويمكننا تحليلها إلى خمس نقاط.. وسوف نجد أنّ النقطة التي لم يُثبتها هذا القول هي النقطة الثالثة مثلاً، بل طواها بشكل ضمني. إنّ تعليمك الطالب كيف وصل الفقيه للمناقشة والإشكال، لا كيف أشكَلَ الفقيهُ، أمرٌ مهم، أي ما الذي جرى في ذهن الفقيه من مقدّمات أوصلته للإشكال؟ لا كيف صاغ لنا الإشكال بعد وصوله إليه؛ لأنّه مهما عرّفتَ الطالب على الإشكالات لن يتعلّم كيفية الوصول إليها إلا بشقّ الأنفس وبسماعه آلاف الإشكالات، ولهذا تجد كثيراً من الطلبة يدرس لسنوات كتاب المكاسب مثلاً، لكنّه لا يعرف كيف يسجّل إشكالاً. أتمنّى أن أكون قد أوضحت هذه الفكرة فالمجال ضيّق مع الأسف.

 

س4: الملاحظ على مشاريع التجديد في المقرّرات أنّها لم تطل كلَّ العلوم والمعارف التي تدرس في الحوزة، فلو أردنا رصد هذه المشاريع فسنجد أنّ علم أصول الفقه كان له النصيب الأكبر من هذه المشاريع؛ في حين علوم أخرى لها ذات المركزية لم تحظَ بمثل ذلك، كالفقه والرجال والحديث و… . لماذا أصول الفقه دون غيره؟

 

حب الله: أعتقد أنّ لذلك عدّة أسباب معقولة ولها مبرّراتها، فهناك الصعوبة البالغة في علم أصول الفقه، إن من ناحية الفكرة والمعنى وإن من ناحية اللغة واللفظ، حيث امتاز هذا العلم بضغط العبارة، فيما أخذ علم الفقه مجاله في الكلام والبسط أكثر، الأمر الذي أشعر الجميع بالحاجة إلى كتاب دراسي في هذه المادّة. وهناك سبب آخر، وهو أنّ التجديد في الكتاب الفقهي مسألة معقّدة، من حيث حاجته إلى الشمولية والاستيعاب والتطويل، ومشكلة اختيار الأبواب الفقهية حيث يصعب اشتمال الكتاب الدراسي في مرحلة السطوح على كلّ الأبواب الفقهيّة؛ إذ سيكون ذلك على حساب المضمون، والمشكلة أنّ كتاب (المكاسب) قدّم أنموذجاً مبسوطاً جدّاً للكتاب الفقهي الموسّع فاقت مستوى مرحلة السطوح بتقديري، وأيّ محاولة لتصنيف كتاب دراسي بمستوى (المكاسب) مثلاً دون أن يكون بحجم جولانه وتطويلاته وتفصيلاته سيواجَه بوصفه تراجعاً في الكتاب الدراسي، على خلاف الحال مع (الكفاية) مثلاً، حيث يمكن تقديم مادّة أصوليّة أوسع من حجم (الكفاية) ومضمونها. وهناك أيضاً عامل الاهتمام بالعلم نفسه، فعلم الحديث والرجال والقرآنيات ونحو ذلك ليست علوماً تحظى بالأولويّة في الدرس الحوزوي إلى فترة قريبة، بل إلى اليوم في بعض الأوساط، ولهذا لم يكن هناك شعور عند المجدّد بأنّ كتاباً دراسيّاً فيها يمثل حاجة للطالب، حيث لا توجد مادّة دراسيّة مقرّ بها لكي نضع لها كتاباً؛ لأنّ العلم نفسه ليس مدرجاً في حسابات التعليم في الحوزة العلميّة، ولذلك سيكون من السابق لأوانه تدوين كتاب دراسي فيه، فعليك أولاً أن تعطي هذا العلم حضوره في الحوزة، ثم بعد ذلك تفكّر في تدوين كتاب دراسيّ له، وإلا تحوّل الكتاب الدراسي فيه إلى مجرّد مادّة يهدف الطالب منها تقديم الامتحانات، ككثير من الموادّ التي أضيفت مؤخّراً وتعيش ـ رغم أهميتها ـ هذا الجوّ في أذهان الطلاب مع الأسف الشديد.

ويجب أن ننتبه إلى أنّ المجدّد في الكتاب الدراسي يهمّه أن يحظى بضمانات لترويج كتابه أو تبنّيه من جهة عليا في الحوزة أو أن يكون الجوّ العام يطالب بمثل هذا الكتاب، وإلا فقد يرى أنّ جهده عبثي، وأنّ ما فعله هو إلقاء كتاب في السوق ربما يهمل كغيره من الكتب، لاسيما وأنّنا رأينا الكثير ممّن كتب في التدوين التعليمي في الحوزة، لكنّ كتبهم طمرها النسيان، بل بعضها لم يحظ بالذكر حتى يُنسى.

وأشير أخيراً إلى أنّ ما ذكرتموه من عدم وجود كتب دراسيّة في بعض المواد قد رأينا فيه تحوّلاً، فهناك في علم الرجال والدراية جهودٌ لبعض العلماء وكتبٌ صارت اليوم موادّ دراسيّة في بعض الحوزات، كالذي كتبه أستاذنا الشيخ باقر الإيرواني، وما كتبه العلامة الشيخ جعفر السبحاني حفظهما الله تعالى.

 

س5: ثمّة رأي ـ الآن ـ يؤكّد على مركزيّة علمَي الفقه وأصوله في الحوزة، وأنّ وظيفة الحوزة كمؤسّسة تعليمية هو تربية طلاّب متخصّصين في الفقه والأصول، دون غيرهما من المعارف والعلوم. بمطالعة الدور المرسوم للحوزة ودورها التاريخي، كيف يمكن تقييم هذا الرأي؟

حب الله: لست أدري ما هو المبرّر الديني لمثل هذا القول، أليس من وظيفة الحوزة العلميّة تربية جيل من علماء العقيدة يستطيع مواجهة أمواج النقد العاتية القادمة من الداخل الإسلامي الآخر ومن الخارج معاً؟ كيف ستخرّج علماء كلام كما كان المفيد والمرتضى ـ وليس مجرّد جدليين مماحكين ـ إن لم تتمّ تربيتهم بطريقة متفوّقة ومعمّقة؟ ألم تواجه الحوزة العلميّة منذ الستينيات وإلى يومنا هذا مدارس الفلسفة الحديثة، المادية ومن أتى بعدها؟ فلو لم يكن عندنا مثل العلامة الطباطبائي والجيل الذي تعلّم على يديه كيف كان يمكن أن نواجه مثل هذه الأمور؟ هل برواية صحيحة السند؟ أم بمسألة فقهية تقوم على التوثيق التاريخي؟ وهذا هو القرآن الكريم يتعرّض لأوسع نقد من الكتّاب الغربيين والمسلمين، ويخرجون لك منه عشرات التناقضات، هل يمكن ـ دون تربية جيل من المتعلّمين في القرآنيات ـ مواجهة هذا كلّه؟ وهل يمكن بمنطق التبسيط الاستخفاف بكلّ هذا الواقع. نعم علم الأصول والفقه لهما قدرة تدريبية عالية على تنشيط الذهن في عمليّات التحليل وقراءة النصّ، لكنّ مجرّد إعطاء القدرة شيء وتفعيل هذه القدرة في المجالات المختلفة وبطريقة تحفظ لتلك المجالات خصوصيّاتها شيء آخر، خذوا هذا المثال: أحد الباحثين انتقد تشكيكات الهرمنوطيقيين في معرفة مراد المؤلّف، بالاستناد إلى السيرة العقلائيّة وإمضاء الشارع لهذه السيرة. أعتقد لو أنّ باحثاً مشبع الذهن بنظريات التأويل والهرمنوطيقا المعاصرة قرأ مثل هذا النقد لأثار ذهوله، فالهرمنوطيقي لا يبحث في الحجيّات ولا في التنجيز والتعذير، وإنّما في الجانب المعرفي الواقعي للأمور، حتى لو عمل كلّ البشر بهذا فهذا لا يعنيه، فهذا مثل الفيلسوف الذي يذهب إلى القول بأصالة الوجود، مع أنّها عقليّة عنده ولكنّها بعيدة عن الذهن العقلائي، فيما أصالة الماهية أصالة عقلائية بحسب تعبير المحقّق الإصفهاني، فالعقل الأصولي أوجب وقوع باحثنا العزيز في خطأ منهجي؛ إذ ليست كلّ العلوم تدار بالذهنية الأصولية، كيف وعلم الفقه والأصول من شؤون عالم الاعتبار، وكثير من البحوث الأخرى من شؤون عالم الواقع والحقيقيات، كما قال العلامة الطباطبائي والشهيد المطهري، حتى لو لم نوافقهما في مساحة فكرتهما. أعتقد أنّه يجب أن لا نستخفّ بإشكاليات وتحدّيات العلوم الأخرى.

وحتى لو تغاضينا عن هذا كلّه، هل هذا الرأي موافق للقرآن الكريم والسنّة الشريفة وتعاليمهما؟ إنّ أقلّ من عُشر القرآن ـ على المشهور ـ هو في الفقه، فهل مقتضى التدبّر في القرآن الكريم أن نترك التسعة أعشار الأخرى؟ وهل كانت بنية النصّ القرآني في آيات الأحكام تحتاج لدقّة وتعمّق بينما بُنيَة غيرها لا تحتاج لشيء؟ فما ظنّك بكتب الحديث الكلامية التي تحتاج إلى الكثير من البحث والتنقيب وحلّ أنواع المعارضة بينها، وتحقيق أسانيدها ومتونها، واستخراج ما فيها من أفكار وقيم وحقائق عبر المقارنات والمقاربات بينها، كأصول الكافي والتوحيد وكمال الدين و.. للصدوق، وغيرها من الكتب، فبأي مبرّر شرعي أضع جهود عشرات الآلاف من الطلاب في بعض النصوص الدينية، ثم أترك كلّ هذا الكمّ الهائل من النصوص كي يتناولوه ـ إذا أرادوا ـ من باب الفسحة والتنزّه! أرى ذلك غريباً عن الثقافة الدينية، ولا أظنّ أن قائل تلك الفكرة التي ذكرتموها يقبل بهذا، كيف والتفقّه في الدين ـ ممّا حثنا القرآن الكريم عليه ـ لا يقتصر على الفقه، بل هو تأمّل في الدين كلّه، بفقهه وأخلاقه وتاريخه وعقائده وغير ذلك. وما نقوله يشهد عليه تاريخ علماء المسلمين من المذاهب كافّة.

 

س6: ذكرتم في إحدى محاضراتكم: ((…أنّ تضخّم مادة الفقه والأصول لم يترك أثراً سلبيّاً على المنهج الدراسي في مرحلتي السطوح والبحث الخارج فحسب، بل ترك أثراً على العقل الديني حتى صار عقلاً فقهياً…)). ما هي مشكلة أن يكون العقل الديني عقلاً فقهياً؟ ولماذا لا نقول بأنّ هذا الأثر السلبي الذي تركه تضخّم الفقه والأصول راجع إلى صورتهما الحاليّة، فلو أعيد إنتاجهما وفق معايير جديدة فهل سيكون لهما هذا الأثر؟

 

حب الله: هذا السؤال مرتبط بالذي قبله، وما ذكرناه آنفاً يطلّ عليه. من وجهة نظري المتواضعة فإنّه توجد مشكلة في أن يكون العقل الديني عقلاً فقهيّاً فقط، وهذا الموضوع يحتاج لبسط كلام، لكن باختصار يمكن القول: إنّ العقل الفقهي له ميزاته وخصوصيّاته التي تؤثر على نمط فهمنا للدين وتقديمنا له وصياغتنا لأولوياته، لو أريد تسريته إلى مجالات أخَر واعتباره الناطق الرسمي باسم الدين كلّه، فالعقل الفقهي هو عقل قوانين ونظم وعلاقات، وإذا سيطر سيعني ذلك أنّ الحياة ستفرّغ من المضمون الروحي والأخلاقي؛ لا لأنّ الفقه يتناقض مع الروح والأخلاق، بل هو يتكامل، وإنّما لكون الفقه لا يشتغل على الملفّ الروحي والأخلاقي، فهل الأسرة تقوم على الفقه فقط، أم تقوم على الفقه والأخلاق والقيم العاطفية المتبادلة؟ وفي الإسلام لا يوجد حول الأسرة فقهٌ فقط، بل هناك آيات وأحاديث روحيّة وتربويّة وأخلاقيّة وقيمية، فلم يقرأ الإسلام الأسرة بوصفها مكاناً لصبّ قوانين فقهيّة تنظيمية فحسب، بل وإلى جانب ذلك كانت له رؤى مختلفة.

هناك مشكلة أخرى يسبّبها تضخّم العقل الفقهي، وهو مركزّية الظواهر؛ لأنّ الفقه معنيٌّ بالظواهر في حياة الفرد والاجتماع، فعندما يتمّ التركيز عليه بوصفه النظّارات التي نقرأ من خلالها كلّ شيء، فسوف تكون قراءتنا للأمور قراءة من زاوية ظواهرها. فلو رأينا اليوم مثلاً شخصاً يحلق لحيته ـ بناءً على حرمة حلق اللحية ـ فسوف يُنظر إليه في الوسط الديني بطريقة مختلفة، بل قد نبدأ نتخذ معه إجراء إقصائيّاً، بينما هذا الشخص نفسه لو أرخى لحيته وحافظ على الظواهر والطقوس، ولكنّه كان حسوداً في قلبه أو قاسي القلب مع الله لا يعيش معه علاقة الحبّ والروحانية والتعلّق، فإنّنا لا نقصيه ولا نتعامل معه بمنطقٍ يشبه المنطق الأوّل، لا يهمّني هنا أنّ هذا حلال وهذا حرام، بقدر ما يهمّني أنّ العقل الفقهي يضع معايير خاصّة به لتقييم الأشخاص والتجارب، في حين هناك مساحات كبيرة تحدّث عنها القرآن والسنّة تؤكّد أنّ المعيار هو التعلّق بالله تعالى والقيم الروحيّة، وليس فقط الأمور الشكليّة، ولهذا فالعقل الفقهي والعقدي من دون الروح والأخلاق والمعنويات، يمكنه ـ كما رأينا عند بعض التيارات السلفية في بعض المذاهب الإسلاميّة ـ أن يصنع شخصاً فظّاً لا يعيش في حياته العاطفة، ولا يعرف الروح في علاقاته الاجتماعيّة.

ما أريد أن أوصله هو أنّ العقل الفقهي ضرورة، لكنّه ليس كافياً لوحده لبناء اجتماع إسلامي يقوم على القيم الدينية الرفيعة، والمسألة ليس لها علاقة بكيفية إنتاجنا للفقه، بل لها علاقة بكيفية وضعنا للفقه في موقعه الطبيعي من المنظومة الدينية. لقد نزل القرآن الكريم واستطاع بناء نخبة صالحة من المسلمين في الفترة المكيّة، حيث لا فقه ولا منظومات قانونية مفصّلة في المعاملات والسياسات والإدارات، ولكنّ تلك الفترة كانت من أعمق الفترات روحانيةً واقتراباً من قيم السماء. إنّ ما أزعمه هنا ليس بالأمر الجديد، فلطالما تحدّث علماء الأخلاق والعرفاء وشكوا همّهم من غياب المعنويات في الأوساط العلميّة الدينية فضلاً عن غيرها، مع أنّ الفقه هناك حاكم وله الجولة تلو الجولة، لقد قال العرفاء والمتصوّفة دائماً: إنّ روح الإسلام تكمن في البنية العلائقية مع الله، وأنّ سائر الأمور هي المناخ والبيئة الحاضنة لتنامي هذه العلاقة العميقة، ولا ينبغي أن أملك ـ فقط ـ عقلاً يقف بي عند حدود توفير المناخات، بل أريد معه عقلاً آخر ينطلق بي مستغلاً هذه المناخات نفسها. إنّني أنشر الإسلام حيث أنشر أساسيات هذه العلاقة وأحقّق الوجود الروحي في القلوب، لا عندما أنشر فقط الوضوء وجواز النكس في مسح القدمين، مع الاعتراف الكامل بضرورة هذه كما هو واضح، وإذا كان هناك شيئان ضروريان فلا يعني ذلك أنّهما في الموقع والأولويّة متساويان.

 

س7: مرّ الدرس الفلسفي في المؤسّسات الدينية بحركة مدٍّ وجزر، ولعلّ طيلة الخمسين سنة الماضية بلغ الاهتمام بالدرس الفلسفي مبلغاً عالياً. إلا أنّ الملاحظ نشوء أو عودة تيار نصّي في الوسط الديني الحوزوي يرفض ترويج بل وجود هذا الدرس لأسباب كثيرة ذكروها. ما هي أسباب عودة التيار النّصي بعد هذا التنامي للتيار العقلي؟ وكيف تقرأ المستقبل؟

 

حبّ الله: هناك أسباب متعدّدة لهذا الموضوع، سأحاول الإشارة إلى بعضها:

أولاً: إنّ محاربة الفلسفة في المؤسّسة الدينية ـ سنيّاً وشيعيّاً ـ ليس أمراً جديداً، فهناك تاريخ من الأزمات بين الفريقين: الفلاسفة والفقهاء، وإذا توقّفت هذه الحرب قليلاً على المستوى الشيعي خلال العقود الأخيرة فذلك بفضل الحاجة للدرس الفلسفي الذي فرضته وجود مدارس فلسفية ماديّة لا يمكن مواجهتها إلا بالنمط الفلسفي، ولهذا من يحارب الفلسفة اليوم لا يرى مانعاً منها عندما تُستخدم وسيلةً دفاعية ضدّ المادية أو غيرها، إنّما يحاربها عندما تصوّب نظرها نحو الداخل. وإلى جانب ذلك كانت شخصيّة الإمام الخميني والشهيد الصدر بنزعتهما الفلسفيّة ـ وإن اختلفت الأنماط بينهما ـ مؤثرةً في رفد الفلسفة بجرعة روحية ومعنوية للنهوض، لكن عندما ذهب الآخر الفلسفي بزوال المادية الديالكتيكية وتنامت قوّة الفقهاء في الاجتماع الإسلامي ولو عبر وجود دول أو حركات إسلاميّة قويّة تخضع لهم، لم تعد المشكلة بحاجة إلى عقل فلسفي من وجهة نظر المؤسّسة الدينية التي خفّ شعورها بالحاجة للفلسفة في مواجهة الآخر بعد أن حقّقت تقدّماً كبيراً على الأرض في المجتمع الإسلامي خلال العقود الثلاثة الأخيرة، لهذا عاد الوضع إلى سابق عهده.

ثانياً: إنّ القضيّة تابعة لمجمل الوضع الإسلامي العام، فهناك غزو العولمة منذ بدايات التسعينيات، وهذا الغزو الذي قام على نشر قيم مثل العقل والعقلانية والحرية وغير ذلك يعدّ مقلقاً لأهل الأديان عموماً؛ لما يصاحبه من مشاكل على مستوى الاعتقادات الدينية والممارسات كذلك، إنّ مجيء عصر العولمة أخّر الفكر الديني عموماً عند جميع المذاهب الإسلاميّة من مرحلة البناء والنهضة، إلى مرحلة القلق والخوف على الهويّة، فصار حذراً من كلّ شيء. ومبرّر هذا الحذر معقول، فالآخر الحضاري قويّ جدّاً، ويتراءى للجميع أنّه يلتهم كلّ شيء، فلابدّ من انتفاضة في وجهه، بتجفيف كلّ منابع البقاء والاستمرار له، وأهمّها وجود مرجعيّة معرفيّة تفوق مرجعيّة النصّ أو تقف إلى جانبها، وليس هناك إلا العقل ينادي به الغرب معياراً وحيداً للأمور. والذهنية الفلسفيّة تساعد على تقديم مرجع معرفي قويّ إلى جانب النصّ، والإرث التاريخي قلقٌ أيضاً من تطويع الفلاسفة للنصوص الدينية، وهذا الأمر يعني ـ في مناخٍ من هذا النوع ـ أنّ تنشيط العقل الفلسفي، لاسيما بعد تطوّر الفلسفة وتنوّع مدارسها شرقاً وغرباً، سيترك أثراً سلبيّاً على الهويّة الدينية والمذهبية وسيساعد على تفتيت خصوصيّتهما.

ثالثاً: ما حصل على الصعيد العام كان له ظهور آخر في الداخل، فحركات الإصلاح الديني التي نهضت منذ بدايات القرن العشرين واصلت مسيرها بقوّة، لكن مع دخول عصر العولمة، بدأنا نشهد نمطاً آخر من تيارات الإصلاح الديني، وقد بدت تيارات الإصلاح هذه مقلقةً للمؤسّسة الدينية؛ كونها اعتمدت معايير ومقولات من شأنها زعزعة كلّ البنية التحتية لمنظومة التفكير الديني المدرسي. إنّ مرجعيّة العقل كانت واضحةً أيضاً في هذه الحركات، سواء تلك التي اعتمدت المنهج الفلسفي والعرفاني كالذي حصل في إيران، أم تلك التي اعتمدت المنهج التأويلي (نقد النص) كما حصل في مصر والمغرب، إنّ الذهنيّة الفلسفية ساعدت هذه التيارات على تبرير ذاتها أمام المسلمين، والموروث الفلسفي والصوفي والعرفاني كان شاهداً قويّاً لدعم مسيرة هذه التيارات، ومن الطبيعي أن تقلق المؤسّسة الدينية من هذا الوضع فتسعى لتجفيف منابعه عبر توجيه حصار قويّ على العقل الفلسفي والعرفاني عموماً.

رابعاً: دخول المنطقة الإسلاميّة في التجاذب المذهبي أثّر في تقديري على النشاط الفلسفي؛ لأنّ الحركة السلفيّة السنيّة التي تقوم أساساً على تجريم الفلسفة والتصوّف والعقاب عليهما، فرضت منطقها الخاصّ، وعندما اشتدّ الصراع الطائفي في المنطقة منذ مطلع الألفية الثالثة ـ مصحوباً بشبه سيطرة سلفية على الطرف السنّي ـ فرض الجدل المذهبي نمطاً خاصّاً في تناول الموضوعات الدينية، ابتعد كلّ البعد عن أنماط الفهم الفلسفي والعرفاني، فدخلا تحت شعاع ضوئه القويّ، وغابا عن الأنظار، وخرجا من السياق التداولي إلى حدّ كبير، فأثّر ذلك على مسيرة الفلسفة لصالح مسيرة الجدل العقدي القائم على النمط الكلامي من جهة، والجدل التاريخي القائم على النصوص من جهة ثانية. إنّ شخصيّة الخصم تترك أثراً عليك في مكانٍ ما، والحاجة إلى مواجهة هذا الخصم تفرض استخدام أدوات تقترب منه، وحيث إنّه لا يمتّ بصلة إلى العقل الفلسفي في فهم الدين والوجود والحياة، فمن الطبيعي أن يقلّ الاهتمام العام بالدرس الفلسفي، كونه ليس حاجة اللحظة الحاضرة، على خلاف فترة الستينيّات والسبعينيات حيث فرض الخصم استخدام المنهج الفلسفي.

 

س8: مع وجود التنوّع النسبي في العلوم في الحوزة، إلا أنّ هناك غياباً للدرس المقارِن في دراسة هذه العلوم، سواء بإفرادها تحت عنوان درس مقارن أو في داخل نفس الدرس التقليدي. كيف يمكن صناعة بيئة للدرس المقارن في الحوزة؟ وهل هناك محاولات في هذا المضمار؟

 

حب الله: هناك ـ في العادة ـ حاجتان تجرّان لاستحضار الدرس المقارن، الأولى: الحاجة الدفاعيّة التي تفرض الدرس المقارن بغية نقد الآخر أو بهدف إظهار التفوّق الذاتي، والثانية: الحاجة المعرفيّة التي تعني أنّ الدرس المقارن هو ضرورة لتنمية قدراتي الخاصّة والاستفادة من جهود الآخرين.

أمّا الحاجة الثانية، فأعتقد انّ المناخ المذهبي العام لا يتقبّلها، فالثقافة السائدة عند المذاهب الإسلاميّة كافّة، لا ترى في منجزات الآخر أيّ قيمة إضافيّة على ما عندها، لهذا من الصعب أن تجد حماساً للدرس المقارن بهدف الحاجة المعرفيّة. أمّا الحاجة الدفاعيّة أو لإظهار التفوّق المذهبي، فنحن لا نجد اليوم تحدّياً من هذا النوع بالنسبة للحوزة العلميّة، إلا على الصعيد الكلامي والتاريخي؛ لأنّه لا يوجد صراع فقهي أو أصولي أو حديثي أو رجالي أو فلسفي أو عرفاني، بين الشيعة والسنّة، ولو كان هناك صراع فهو محدود ببعض القضايا الفقهية كالزواج المنقطع أو غير ذلك. إنّ الصراع يتبلور مذهبيّاً في جانبين: العقيدة والتاريخ. وكما تعلمون فإنّ قراءة التاريخ في سياق الجدل المذهبي تتخذ طابعاً عقديّاً أيضاً، ومعنى ذلك أنّنا أمام ملفّ واحد تظهر الحاجة فيه للدرس المقارن (النقدي)، وهو علم الكلام بعرضه العريض، وحيث لم يأخذ علم الكلام نفسه طريقه للحضور بوضفه مادّةً دراسية رئيسة في الحوزات العلميّة لهذا كان من الطبيعي أن لا نشهد درساً مقارناً فيه.

ومع ذلك، فنحن نجد نشاطاً في الدراسات المقارنة ـ لا الجدليّات ـ في الحوزة العلميّة الشيعيّة، فهناك ـ إلى جانب جهود مثل الشيخ محمد إبراهيم الجناتي، وجهود مجمع التقريب بين المذاهب على مستوى موسوعة أصول الفقه المقارن ـ مشروع دائرة معارف الفقه المقارن التي يشرف عليها المرجع الديني الشيخ ناصر مكارم الشيرازي حفظه الله، وكذلك مشروع موسوعة الفقه الإسلامي المقارن التي يشرف عليها أستاذنا المرجع الديني السيّد محمود الهاشمي حفظه الله، ويحظى هذان المشروعان بالخصوص بقيمةٍ مضافة، وهي أنّه يشرف عليهما مرجعان بارزان في الحوزة العلميّة، الأمر الذي يعطي لهذه المسيرة شحنةً قويّة للاستمرار، ويذكّرنا بمشروع السيد البروجردي في تحقيق كتاب الخلاف للشيخ الطوسي خدمةً للدراسات المقارنة بين المذاهب أيضاً. هذا كلّه إلى جانب عددٍ لا بأس به ـ في حدود معلوماتي ـ من الكتابات والرسائل الجامعية والحوزوية التي عالجت الكثير من الموضوعات الدينية بطريقة مقارنة، لكنّنا ما نزال نحتاج إلى وضع مادّة دراسيّة قويّة في هذا الإطار، وتوفير أساتذة أكفاء متخصّصين في مجال فقه وكلام وتفسير المذاهب الأخرى، فقد واجه العاملون في بعض الموسوعات التي أشرت إليها قبل قليل مشاكلَ جادّة، من ناحية قلّة عدد المتخصّصين بالفقه والأصول السنيَّين، وهذه نقطة ضعف نسأل الله سبحانه أن نتجاوزها لكي تصبح دراساتنا أكمل وأجود وأحسن إن شاء الله.




(*) أعدّ هذا الحوار ونشر في مجلّة (إرشاد) الطلابية التي تصدر عن مجموعة من الطلاب العرب في إيران، وذلك في العدد 17، خريف عام 2012م.


Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً