أحدث المقالات

الشيخ محمد تقي أكبر نجاد(*)

ترجمة: نظيرة غلاب

 

 

مقدّمة: تحرير محل النزاع

تعدّ سيرة العقلاء من الأدلّة المعمول بها في الفقه والأصول بلا منازع. فكثيراً ما يعتمد الفقيه في إثبات أصل من الأصول أو قاعدة أو حكم فقهي على سيرة العقلاء. لذلك وجدنا الأصوليين والفقهاء قد أسهبوا في الحديث عن حجية السيرة العقلائية أو عدم حجيتها، وعملوا على تعريفها، وتشخيص موضوعها ومسائلها. بل ذهب بعض الأصوليين إلى أبعد من ذلك، حيث قاموا بتنظيم مباحث مستقلة في الأصول خاصة بمباحث السيرة العقلائية، بيَّنوا فيها المبادئ التصوُّرية لها، وفصلوا في حجيتها، والجوانب التي تتميز فيها عن الحكم العقلي والحكم العرفي.

والمشهور أن حجية السيرة العقلائية تقف عند تأييد أو عدم ردع الشارع عنها. وبهذا اللحاظ تكون السيرة المستحدَثة أمام المعضلة؛ لبعدها عن زمن الشارع. لذلك وجدنا أغلب العلماء يقولون بعدم حجيتها؛ لأنّه لا يمكننا بأيّ شكل إثبات إمضاء الشارع لها، رغم أن البعض حاول بتكلُّفٍ كبير إثبات عدم ردع الشارع عنها.

وسعينا في هذا المقال إلى تبيين العلاقة بين العقل العملي وبناء العقلاء؛ لنصل إلى إثبات رجوع البناء العقلائي إلى الأحكام الاضطراريّة للعقل العملي، وبتعبير أصولي: إثبات الحجية الذاتية لهذه السِّيَر، كاشفين عن مدى تهافت الفقهاء والأصوليين في تحليلهم للسير العقلائية؛ حيث وقفوا أكثر من مرّة على حدود القول بعقلائيتها، لكنهم؛ ولغفلتهم عن المسألة التي سنبيِّنها في المقال، قالوا بعدم كاشفيتها، وبالتالي احتياجها إلى تقرير المعصوم× بالإمضاء، أو لا أقلّ بعدم الردع عنها.

 

الآثار الفقهية والأصولية لهذا البحث

تكمن أهم الآثار في:

1ـ إن معظم مسائل علم الأصول وقواعد الفقه التي صرَّح الفقهاء أنها ذات مبنى عقلائي تندرج ضمن زمرة مسائل التحليل العقلي، حيث ستنقل الأصول والقواعد من علم تعبُّدي إلى علم عقلي. وهذا تطوّر وتغيير عظيم في مجال الفقه والأصول.

2ـ إن تحليل الأصول والقواعد الفقهية تجعل الفقيه يكشف الروابط المنطقية بينها، ومن خلال هذه الروابط يتمكَّن من معرفة كيفية تأثيرها في تحليل مسائل أخرى، ومقدار تدخلها فيها، ممّا يعطيه القدرة والإحاطة بتأثيرها في أصول وقواعد فقهية أخرى مختلفة. وبعبارة أوسع: إن مسألةً واحدة قد ترتبط بأكثر من قاعدة، وأكثر من أصل، وتؤثِّر في كل واحد بحَسَبه، وإذا استطاع الفقيه أن يُدْرك الارتباط بين نفس القواعد والأصول فإنّ تأثير تلك الأصول والقواعد في المسألة الفرض سيظهر له بشكلٍ قويّ وواضح.

3ـ إن السِّيَر جديدة الظهور ـ على فرض وجودها ـ إذا تم إرجاعها إلى العقل العملي ستكون في غير حاجةٍ إلى تقرير المعصوم×، كما أنه لن يكون هناك من محذور أمام حداثتها.

4ـ وفق هذا الأساس ستصبح الكثيرُ من البيانات القرآنية والروائية المشرفة على مسائل أصولية وقواعد فقهيّة إرشاديةً، بعد أن كان يُنظر إليها وفق المبنى المشهور على أنّها أمور مولويّة.

 

تعريف العقل العملي

جاء العقل العملي في التعريف الاصطلاحي على معنيين في أقلّ تقدير. ونحن هنا سنتعرَّض لهما باختصار؛ حتى يتعين المقصود.

التعريف المشهور: يرى أنّ العقل بلحاظ نوع المدركات ينقسم إلى: عملي؛ ونظري. فإذا لم يكن للمدرك العقلي شأنية العمل فهو النظري؛ أما إذا كانت له تلك الشأنية فهو العملي. وبهذا فإدراك أنّ «الله واحد» هو إدراك نظري، بينما إدراك أن «الظلم قبيح» سوف يكون مدركاً عمليّاً. والظاهر أنّه يتمّ التعاطي مع مدركات العقل النظري في معظم الموارد بواسطة العمل، بل هي تشخّص الجانب السلوكي، نظير: الاعتقاد بوحدانية الله سبحانه وتعالى. فهذا يعمل على تغيير مسار الفكر والتوجُّه الفكري والسلوكي للجماعة وللفرد. أما وحدانية الله فهي في ذاتها غير قابلة للعمل، بل هي تُحْسَب على الحكمة والمعقولات النظرية. وهذا التعريف هو مبنى هذا المقال في العقل العملي.

أما التعريف غير المشهور فيرى أن العقل النظري يشمل جميع ما يدركه الإنسان، كما يشمل جميع الشؤون العلمية. لذا فالقضايا نظير: «الظلم قبيح» يدركها، لذلك يشملها العقل النظري. ويطلق على القوّة المحفزة إلى الخير والصلاح العقل العملي. وعلى هذا فالعقل العملي ليس من سنخ الإدراك، وإنما هو مجرد القوّة المحفزة إلى الفعل.

 

معيار عقلانية الدليل

في هذا المقال يكون معيار عقلية القضايا بلحاظ قابلية إقامة الدليل البرهاني في إثباتها. ومن هنا لا فرق بين أن تكون من سنخ الاعتباريات أو من سنخ التكوينيات، حتّى أنّ قضية مثل «الأكل»، مع أنّ لها منشأ غريزيّاً، إلا أنها بلحاظ قابلية الاستدلال عليها تعدّ عقليةً؛ لأن العقل من خلال إدراكه لضرورة التغذية في حفظ البقاء والنموّ أوجد هذا الحكم. وكذلك رغم كون قضية «اعتقال المظلوم» ذات منشأ شعوري ونفسي، فهذا لا يعدّ مانعاً من وضعها في خانة القضايا العقلية؛ لأن العقل إنما يستقبح السكوت على ظلم الظالم، وليس المظلوم. وهكذا كل قضية، سواء كانت ذات منشأ غريزي أو عاطفي، وسواء كانت اعتبارية أو تكوينية، ما دامت لها القابلية في إقامة الدليل والبرهان في إثباتها فهي تدخل ضمن القضايا العقلية، ولا اعتبار لمنشئها.

 

تعريف العُرْف وسيرة العقلاء

تكرار الحركة نحو الفرد يولد العادة، وتكرار الحركة نحو المجتمع أو المجموعة البشرية يخلق العُرْف. وبعبارة أخرى: العرف هو عادة المجتمع، والاجتماع يبدأ من أصغر وحدة جامعة مثل: البادية والقرية، إلى العادات المقبولة علمياً عند جميع بني البشر. مثلاً: جرت العادة عند بعض القرى أن يضعوا على رأس العروس وشاحاً أحمر، وهم يمارسون هذه العادة في مقابل كلّ العالم؛ حيث تبادلوها بظاهر الكلام، أو بخبر الثقة. ويطلق على هذا (العُرْف العام)، الذي يشمل جميع الناس على اختلاف عاداتهم واعتقاداتهم، السيرة العقلائية. وانطلاقاً من هذا التعريف فإنّ علاقة العُرْف بالسيرة العقلائية هي عمومٌ وخصوص مطلق، رغم أن العرف في الإطلاق الاصطلاحي يُطلَق ويراد به شيء آخر غير السيرة العقلائية. وهذا التمايز بسبب أنّ لكلا العُرفين: العرف العام؛ والعرف غير العام، أحكاماً مختلفة. وعلى هذا فلا مانع من عدّ العُرْف وبناء العقلاء مسألتين اثنتين، وليس مسألة واحدة.

وقد عرف السيد محمد تقي الحكيم سيرة العقلاء قائلاً: يراد به صدور العقلاء عن سلوك معين تجاه واقعة ما، صدوراً تلقائياً، ويتساوون في صدورهم عن هذا السلوك على اختلافٍ في أزمنتهم وأمكنتهم، وتفاوتٍ في ثقافتهم ومعرفتهم، وتعدُّد في نحلهم وأديانهم. وأمثلته كثيرة، منها: صدور العقلاء جميعاً عن الأخذ بظواهر الكلام، وعدم التقيُّد بالنصوص القطعية منه، على نحو يحمّل بعضهم بعضاً لوازم ظاهر كلامه، ويحتجّ به عليه»([1]).

ورغم أن معظم الأصوليين لم يتعرَّضوا لبناء العقلاء بالبحث والتعريف ضمن بحث خاصّ، لكنّ استعمالاتها في مباحث الأصول، وبيان لوازمها، يجعلنا نحكم باتّفاقهم على ما قاله السيد الحكيم في خصوصها.

فالشيخ المظفَّر، المعاصر للسيد الحكيم، حين أراد أن يستدلّ على حجية خبر الواحد ببناء العقلاء قال: إنه من المعلوم قطعاً الذي لا يعتريه الرَّيْب استقرار بناء العقلاء طرّاً، واتّفاق سيرتهم العملية، على اختلاف مشاربهم وأذواقهم، على الأخذ بخبر مَنْ يثقون بقوله، ويطمئنون إلى صدقه، ويأمنون كذبه، وعلى اعتمادهم في تبليغ مقاصدهم على الثقات. وهذه السيرة العملية جارية حتّى في الأوامر الصادرة من ملوكهم وحكامهم وذوي الأمر منهم»([2]).

كذلك وجدنا الإمام الخميني&، في استدلاله على أصالة الصحة، يأخذ بدليل البناء العقلائي، والذي يعتبره دليلاً لا يقبل الخرم، حيث قال: والدليل عليه هو بناء العقلاء والسيرة العقلائية القطعية، من غير اختصاصها بطائفةٍ خاصة، كالمسلمين…، كقاعدة اليد، وكالعمل بخبر الثقة، معمولاً بها بين الناس منتحليهم بالديانات وغيرهم. والمسلمون كانوا يعملون بها كسائر طبقات الناس، من غير انتظار ورود شيءٍ من الشرع…، كلّها يرجع إلى هذا الأمر العقلائي الثابت لدى جميع العقلاء. وهذا واضحٌ جدّاً»([3]).

كذلك هو كلامه عن إطلاق بناء العقلاء، واستدلاله بالقول: إنه إذا لم يعتبر جريان الأمارات العقلائية فإنّ نظام الحياة البشرية سيتعرَّض للخلل، وسيفقد توازنه. وهو الكلام الذي يكشف شمولية وعمومية البناء العقلائي.

ونكاد لا نحتاج إلى التذكير بأنّ بحثنا في هذا المقال يدور حول البحث الرئيس في حجية بناء العقلاء. لذا فنحن لن ننظر إلى المناقشات والتعاريف اللغوية واللفظية، غرضنا من ذلك العروج إلى إثبات شمولية وعمومية هذا البناء؛ لأنها إذا ثبتت فهي لوازم تفرض العدول عن القول المشهور فيها.

 

أقسام بناء العقلاء

1ـ التقسيم الأول بلحاظ كون السيرة معاصرة للمعصوم×، حيث يكون تقرير الإمام إمّا موافقاً لها أو رادعاً عنها. وأما حين جاءت بعد المعصوم× فليست بذلك معاصرة له، فلا نعلم شيئاً عن تقرير المعصوم× حولها. فهي تقسم بهذا اللحاظ إلى: معاصرة؛ ومستحدَثة.

2ـ التقسيم الثاني ناظرٌ إلى موضوعها. فهل ترجع إلى الضروريات، أو ما يصطلح عليه بالبديهيات للحياة، كظواهر الكلام، أم أنها تنظر إلى لوازم سلامة وأمن الحياة، كالتأمين، فتقسم إلى: اضطرارية أولية؛ واضطرارية اختيارية (ثانوية)؟ وتوضيح هذا التقسيم:

هناك بعض الأمور ضرورية في حفظ بقاء النوع (الإنسان)، كالأكل والشرب؛ وهناك أمور أخرى، كحجية الظواهر، والعمل بخبر الثقة، وقاعدة اليد، وكل ما يدخل في عنوان أصل أو قاعدة فقهية، حيث يكون ضرورياً في بقاء الحياة الاجتماعية للإنسان. كذلك هناك أمور، مثل: التأمين، الهواتف الثابتة والمحمولة (الجوّال)، ركوب الطائرات والاستفادة من وسائل النقل المتطوِّرة، تعدّ ضروريّةً لتكامل الحياة البشرية، ورفع مستوى السقف الاجتماعي للحياة. لكن كل واحد من هذه الضروريات يحتلّ رتبةً تختلف عن الآخر في سلَّم الأولويات.

فالإنسان من جهة حفظ الحياة وديمومة البقاء ليس في حاجةٍ إلى الهاتف، فهو مخيَّر بين أن يقبل به أو لا يقبل به. لكنْ لكي يخطو خطوة نحو التطوّر والترقّي يحتاج إلى الأخذ بالمكانيزمات الجديدة للحياة المتقدِّمة، في العمل، وفي البيت، وفي الحياة الاجتماعية. فمثلاً: لا يمكنه الاستغناء عن الهاتف، فهو يجد نفسه مضطراً لهذه الآليّات، لا يمكن المشي قدماً بدونها. والأمر يشبه الوضوء بالنسبة إلى الصلاة، فالصلاة المستحبّة ليست ضروريةً، لكنْ إذا قرَّر شخص الإتيان بصلاة النوافل فلا بُدَّ له من الوضوء. فالإنسان في أيّ ملة وقوم إذا اختار التطوُّر والعيش في نفس مستوى العالم الجديد لا استغناء له عن التكنولوجيا الحديثة. فالضرورة بهذا اللحاظ تفرض استخدامها. وحيث إن هذا المستوى من الحياة قد أوجده الإنسان باختياره فإنّ إثبات هذه السيرة لا شكّ يحتاج إلى هِمّة مضاعفة، ولعلنا سوف نتعرَّض لبعضه ضمن النقاط التالية:

 

منشأ حجّية سيرة العقلاء

كلّ سِيَر العقلاء ترجع في جذورها إلى بناء العقلاء

المطلب الأول الذي يستوقف الباحث في بناء العقلاء من المتقدِّمين والمتأخِّرين هو قبول هذا البناء للتحليل وإقامة البراهين العقلية عليه، بحيث تكون كل البراهين عليه واضحة وبديهية، لا تحتاج إلى الاستدلال النظري.

والمسألة الثانية التي تأخذ حيِّزاً كبيراً في البحث والنظر هو شمولية وعمومية سيرة العقلاء.

إنّ ما نؤكِّد عليه في تعريف بناء العقلاء أن شمولية وعمومية السيرة العقلائية تحمل معها التساؤل التالي: كيف أمكن لأمرٍ أوجده الإنسان بمحض اختياره، وهو قابل للتغيير، أن يروج بين جميع البشر، ويفرض نفسه عليهم، ليتحول إلى عادةٍ وسلوك نوعي، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ التواصل بين أبناء البشر في أقصى نقاط العالم لم تكن ممكنةً؟! كيف استطاع هذا السلوك وهذه العادة، التي ليست ضرورية، وتعاقدية صرفة، أنْ تشمل كل العالم، ويلتزم به كلّ البشر في ظلّ حالة من الاختلاف في الأعراف والعادات من منطقةٍ إلى أخرى، ومن قوم إلى آخر؟!

من هنا ننتقل إلى منشأ ظهور هذه السِّيَر، ودليل شيوعها واستمرارها، أي ما هو المقوِّم التكويني والضروري الذي بُنيت عليه هذه السِّيَر، وتأسَّست عليه، حتى صار هذا الاضطرار المتعاقد عليه موجباً لأن يخضع له جميع البشر؟

ولأجل مزيدٍ من التوضيح والتفصيل سنوسِّع من دائرة هذا البحث، ونبسِّطه بالقدر الذي يفي بالغرض.

يتمّ تقسيم العقل العملي إلى أقسام متعدِّدة من حيثيات مختلفة. ومن هذه التقسيمات تقسيمه بلحاظ الاضطرار وغير الاضطرار:

 

العقل الاضطراري والعقل غير الاضطراري

يقبل العقل العملي القسمة بلحاظات مختلفة إلى أقسام متعدِّدة، أحدها: الاضطرار؛ وعدم الاضطرار، بالنسبة إلى الأخذ به والانصياع له، بمعنى أن بعض أحكام العقل العملي ترتبط بالحياة، سواء تعلق الأمر بالفرد أم بالمجتمع، حيث بدون الإذعان لها تتوقَّف عجلة الحياة، ويكون البقاء غير ممكن. وهذه الضرورة مدركة بالعيان، ومحسوسة، لا تحتاج إلى جهدٍ في التفكُّر والتأمُّل. هذه الأحكام غالباً ما تكون شاملة للحياة المادية، لذلك تجد أنّه لا بُدَّ للأفراد من الخضوع، وهم مجبرون على الاستسلام لها. ولا يقف اختلاف الأديان والمعتقدات مانعاً أمامها، بل الإنسان، بمختلف أشكاله الفكرية والمذهبية، خاضعٌ ومستسلم لها، بدون استثناء. ونمثِّل لهذه الأحكام بمسألة الأكل والشرب و…. نعم، هذه الأحكام تدخل ضمن نطاق العقل العملي، لكنها تدخل بالموازاة ضمن الضروريّات التي تحفظ النوع، وتضمن بقاءه. ونظراً لكونها تهتمّ بالجانب المادي للحياة فهي تشمل كلّ الناس، غير ناظرة إلى دينهم ومعتقدهم.

أو نمثِّل له بخبر الثقة. فالإنسان يدرك أنْ لا مفرّ له ولا مهرب له في عالم الأعيان من تحصيل العلم، وحيث ينسدّ باب تحصيل العلم في أكثر الموارد، وبلحاظ كون عدم تحصيله ملازماً لإيجاد الاختلال في نظام الاجتماع، وباعثاً على توقف رحى الحياة، والتي تقوم في حركاتها وسكناتها على العلم، أصبح عنده خبر الثقة حجّة، ولم يُولِ عناية للخطأ والاشتباه الذي يكون طبيعياً في هذا العمل.

وقد جلب هذا توجُّه الأصوليين، فاستدلوا به في العديد من الموارد.

فالشيخ الأنصاري& في مؤلَّفه (مطارح الأنظار) اعتبر أنّ هذا الاضطرار عاملٌ أصلي في عمل العقلاء بالأمارات الظنية، قائلاً: إن الموارد التي يستكشف منها حال العقلاء في أمور معادهم ومعاشهم، من اكتفائهم بالظنّ في السلامة، إنما هو بواسطة انسداد طرق العلم لهم، بحيث لو اقتصروا على المنافع المعلومة والمضارّ المعلومة لزم اختلال نظامهم»([4]).

وقد كان هذا الاضطرار دليلاً عند الشيخ المظفر&، اتَّخذه في الاستدلال بسيرة العقلاء في العمل بالأخبار غير القطعية، فقال: وعلى هذه السيرة العملية قامت معايش الناس، وانتظمت حياة البشر، ولولاها لاختلّ نظامهم الاجتماعي، ولسادهم الاضطراب؛ لقلّة ما يوجب العلم القطعي من الأخبار المتعارفة، سنداً ومتناً»([5]).

ورأى الإمام الخميني& أن الاضطرار هو الدليل المقوِّم للسيرة العقلائية. لذلك فالشارع ليس جاعلاً لهذه الأحكام والسِّيَر، بمعنى أنها ليست جعلية من طرف الشارع، بل هي تكوينية فطرية: إن الأمارات المتداولة على ألسنة أصحابنا المحقِّقين كلّها من الأمارات العقلائية، التي يعمل بها العقلاء في معاملاتهم وسياساتهم وجميع أمورهم، بحيث لو ردع الشارع عن العمل بها لاختلّ نظام المجتمع، ووقفت رحى الحياة الاجتماعية»([6]).

ولم يقتصر الأمر في الاستدلال بالاضطرار إلى العمل بالأمارات الظنّية على هؤلاء الأعلام، بل هناك العديد من الأصوليين الذي استندوا إلى هذا في استدلالاتهم([7]).

وفي مقابل هذا النوع من أحكام العقل العملي هناك نوعٌ آخر غير اضطراري، رغم وجود الإقرار والإذعان له بشكلٍ عام، لكن ليس هناك التزام به بشكلٍ تامّ؛ والسبب:

أوّلاً: إنّ آثار عدم الالتزام به لا تظهر سريعاً.

ثانياً: إن أصل بقاء الإنسان واستمراره لا يتوقَّف عليه.

ثالثاً: إن الالتزام به غالباً ما يؤدّي إلى أن يضحي الشخص بمصالحه المالية من أجل الآخرين، مع العلم أن هذا العمل وإنْ كانت له هذه المضار، إلا أنه لا يخلو من الآثار الإيجابية التي تظهر ثمارها في المستقبل.

كلّ هذه الأسباب جعلت الأفراد لا يستسلمون لها، ولا يلتزمون بها. نظير العدالة، التي يستحسنها كلّ عاقل، كما أنها تعود بالخير الكثير على الحياة الاجتماعية للفرد والمجتمع، وتدفع بالمجتمع إلى التطوُّر والنموّ، لكنْ بلحاظ أن عدم الاستسلام للعدالة والانصياع لها لا تظهر آثاره في الحال، ولأن إجراء العدالة وتفعيلها قد يفوِّت المصلحة على الشخص لأجل الآخرين، فإن هذا النوع من أحكام العقل العملي غالباً ما تبقى في الهامش، ولا يتم تفعيلها، وتبقى حاضرة في الجانب النظري فقط. المحبة، والصداقة، والعدالة، والشجاعة، والصبر، والتحمُّل، والمواساة، والتكافل، و…، هذه مجموعة من الأحكام التي يجتمع كل البشر على مدحها وتمجيدها، والآداب التي يجمع العقلاء عليها نظرياً، رغم أن الالتزام بها عملياً يعرف تفاوتاً، وقد يغيب عند الأكثرية.

 

بداهة الأحكام الاضطرارية

من خلال هذا التوضيح تبين أن ليس فقط الأحكام الاضطرارية يتم إدراكها بالبداهة، بل إن المعلوم بالبداهة يطال مجموعة من الأحكام غير الاضطرارية؛ لأنها جزء من الأولويات المقوّمة للبقاء، والأساسية في استمرار الحياة الاجتماعية. والمعلوم أن الأمور التي تُعلَم بالبداهة لا تحتاج إلى أن يقوم عليها الدليل، ويستدلّ عليها؛ فالبديهيات لا تعلَّل، وإنما يتمّ عرضها في قوالب برهانية بسيطة. كما لو سئل أحدٌ: لماذا تأكل؟ فالتعجُّب يكون الجواب العفويّ لهكذا سؤال. كذلك لو سئل: لماذا تعمل بخبر الثقة؟ فالجواب يكون: إذا لم نعمل به فماذا نعمل؟! وإذا سألت: لماذا نلتزم بظواهر الكلام؟ فإنّ الجواب يكون: إذا لم نلتزم بظواهر الكلام فلماذا نتكلَّم؟! أو كيف سننقل للآخرين مرادنا؟!

فدليل العمل بسيرة وعمل العقلاء هو الاضطرار، الذي يشمل مجموعة من القضايا البديهية. فهل هناك دليلٌ أعلى مرتبة من الاضطرار؟ وحين القول بأن بقاء النوع واستمرار حياة الاجتماعية متوقِّف على مجموعة من الأمور فهذا دليلٌ محسوس على أنّ تلك الأمور حقيقية، وأنها أمور ممضاة في حياة الإنسان، ولازمة الإجراء. ثم ألا يُعتبر ذلك دليلاً على أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان بحيث لا يمكنه البقاء بدون مجموعة من الأمور، وفي النتيجة فإن هذه الأمور بلحاظ الخلقة ضرورية وواجبة، بحيث إنه في غير هذه الصورة يكون التناقض في الخلقة. فالإنسان خلق بحيث تتوقَّف خلقته على مجموعة من العناصر والمسائل، وبقاؤه متوقِّف عليها، ومتقوِّم بها، ومن جهةٍ يتمّ منعه منها.

 

مقولة الإمام الخميني& وبعض الأصوليّين في بداهة السِّيَر العقلائية

كما بين العلاّمة الطباطبائي السيرة العقلائية بقوله: «فلا يخالفه إنسان بالفطرة»([8]) كذلك نجد الإمام الخميني يبيِّنها بما يشبه بيان العلاّمة، حيث قال: «فإنّه من فطريّات العقول»([9]).

فما هو المراد من كونها من فطريات العقول، أو القول بعدم مخالفتها للفطرة؟ فإذا كان الأمر اتّفاقيّاً، بمعنى أنّه ليس واقعيّاً، ومجرَّد أمر جعليّ، هل سيكون معرّفاً بالنسبة للفطرة حتّى يتوافق معها؟! فكون الشيء فطرياً هو علامة على واقعيته، وأنه ليس أمراً اتفاقياً، بل هو واقعي. وهذا هو الأمر الذي نعمل على تبيانه وإثباته للسيرة العقلائية. فسيرة العقلاء تندرج ضمن القضايا التي تشمل ضروريات الحياة البشرية، ومقوماتها. فهي ترجع إلى الأمور الوجودية للإنسان، وقد سبق لنا أن تعرَّضنا لهذا الموضوع بالتفصيل ضمن المقالة التي تمّ نشرها تحت عنوان «حقيقة الأحكام العقلية». فإذاً العقل الفطري هو الإدراكات والتصورات التي تشكل الهيكل الفطري والجِبليّ لوجود الإنسان، بحيث لا تنفكّ عنه، ولا يتاح للإنسان التعرُّف عليها إلاّ بالتأمُّل في العلوم النظرية. وقد عرف الميرزا الآشتياني في بحر الفوائد العقل الفطري بقوله: لا يخفى عليك أن المراد من العقل الفطري في كلامه وكلام غيره هو أوّل البديهيات وأبدهها، بحيث يكون مركوزاً في النفوس والجبلة الإنسانية، فلا يخلو عاقلٌ منه بالنظر إلى فطريته»([10]).

يرى الإمام الخميني& في (تهذيب الأصول) أن حكم المالك على ملكه من فطريات العقول: نعم، العقل الفطري يحكم بنفوذ حكم خالقه في عباده وخلائقه؛ لكون حكمه تصرفاً في ملكه وسلطانه»([11]).

وذهب أكثر علماء الأصول إلى القول: إن التخلف عن السيرة العقلائية موجبٌ للاختلال في نظام الحياة. وهنا يطرح السؤال: ما لو أنشأت هذه العلاقة ولو على مستوى الأمارات الأصولية والقواعد الفقهية؟! هل يكون كافياً في جعل القضايا العقلائية عقلانية وبديهية؟!

 

 موقف الطباطبائي من امتناع الردع عن البناء العقلائي

قال في حاشيته على الكفاية: تحقق البناء من العقلاء بما هم عقلاء واقعون في ظرف الاجتماع وطريق الاستكمال، فلا يخالفه إنسان بالفطرة، ولو فرضت هناك مخالفة كانت موافقة في عين أنها مخالفة. وهو ظاهرٌ عند التأمُّل. مثال ذلك: إن الإنسان مفطورٌ على العمل طبق العلم، ولو فرضنا أن إنساناً قال لصاحبه: لا تعمل بما وصل إليك منّي بالعلم، بل بخلافه فقط؛ لمصلحة اقتضت ذلك، كان عمل صاحبه بخلاف علمه في كلّ موردٍ مورد، في عين أنه طرحٌ للعمل بالعلم، وأخذ بخلافه، عملاً بالعلم؛ من حيث امتثال تكليفه الأوّل، فافهم.

ثم إنك عرفت في بحث الوضع أن اعتبار الوضع والدلالة اللفظية ممّا تقضي به الفطرة الإنسانية ونظام الاجتماع، فهو ما بنى عليه العقلاء، ولا معنى للردع عنه، كما عرفت. نعم، يمكن تصوير الردع عنه بحيث يكون من حيث إنه ردع أخذاً، كما مر. ومن هنا يظهر أوّلاً أنّ بناء العقلاء حجّة بالذات، بمعنى أنه ليس حجة يوسط (يريد الحدّ الوَسَط)»([12]).

 

تحقيق

يعتبر العلامة الطباطبائي أوّل علماء الأصول القائلين بالحجّية الذاتية للسيرة العقلائية، وعدم قابليتها للردع. وقوله بالحجية الذاتية لها لم يحصره في بحث الوضع، كما قال بالحكم الكلّي فيها. وفي هذه الصورة يرِدُ عليه إشكالان:

الأوّل: مخالفاً ما قاله عن الحجية الذاتية لبناء العقلاء نجده في ختام بحثه في إثبات حجّية خبر الواحد يصرِّح بالقول: وبالجملة فبناؤهم على ذلك مستقرّ استقراراً متّصلاً، قبل ظهور الشرع وبعده، ولم يرِدْ منه ردعٌ بالنسبة إليه. ولو كان لبان، فيكشف عن رضا الشارع به، وإمضائه»([13]).

فرغم ما أكَّده من الحجية الذاتية لبناء العقلاء، واستحالة إمكان الردع عنها، نجده يقول في حجّية خبر الواحد: إن عدم ردع الشارع عنه أمر عقلائي، لازمه الحجية له. والملفت أنه في العمل بخبر الثقة قال: إنه مبنيّ على الحسن والقبح العقليين عند العقلاء: بحيث ينكرون [العقلاء] على مَنْ أقدم على خلاف ذلك، مع ثبوته، وينقطعون إذا احتجّ عليهم بذلك»([14]).

ومن الممكن أن يستشكل عليه بالقول: إن مراد العلاّمة ليس الحسن والقبح العقليين، وإنما نفس الإنكار والقبول الذي يكون في أيّ أمر مقبولاً لدى العرف. فالناس يلومون كل مَنْ عمل بخلاف العُرف، ويوافقون مَنْ عمل به، ويثنون عليه.

والجواب عنه: ما هو المميَّز ووجه الامتياز في تشخيص التحسين والتقبيح العقليين والعُرْفيين؟ فهل صرف مخالفة الشخص للعُرْف موجب للملامة والذمّ أم لأنه عندهم عمل غير عقلاني، وتحرك سفيه، ومنبئ عن السفاهة والحمق؟ والافتراض الثاني عندنا هو الصحيح، وهو مراد العلاّمة، ونرجع المستشكل المحترم إلى النصّ الأصليّ، فراجع.

الثاني: إن السيرة العقلائية غير قابلة للردع من جهتين:

الأولى: إن الردع عنها ملازم لإيجاد الاختلال في نظام الحياة. وهذا الأمر قد ذكره جميع الأصوليين، ولم يقتصر على العلاّمة.

الثانية: إن إنكاره يحتاج إلى الإثبات، مع العلم أن الاستدلال عليه لا يكون إلاّ من نفس السيرة العقلائية. وهنا نواجه إشكالاً آخر، مفاده أنّه في الحال الذي يكون إنكار السيرة بالسيرة يلزم منه نفي السيرة بإثبات السيرة، وهو محالٌ؛ لأنه يستلزم الدور. ومثاله: أن نقول: إن المولى طرح حجية الظواهر بـ «النصّ» الذي هو متن قطعي الحجّية (المراد بالنصّ ما لا يحتمل إلا معنى واحداً)، أو أن تطرح حجية خبر الثقة بخبر قطعي، كأن يقول شخصٌ: إذا أتاك خبر ثقة عنّي فلا تقبله. فهذا لازمه الدور.

وعلى أيّ حال فالعلاّمة& كان له السبق في القول بالحجّية الذاتية للسيرة العقلائية، رغم أنه لم يلتزم بهذا المبنى، بل انتقده في مباحث أخرى يتمّ إثباتها بنفس السيرة.

 

بيان السيد البروجردي& في عقلانية بناء العقلاء في الظاهر

ضمن مبحث إن كان إثبات حجية الظواهر تامٌّ من خلال العقل يطرح السؤال: إذا كنا في مقام الاحتجاج على الغير فهل نستدل بسيرة العقلاء أو لا نستدل بها، وإنّما نستدل بحكم العقل مباشرةً؟

وكان جوابه: لا إشكال في أن الصحيح هو الاحتمال الثاني؛ فليس مرجع الاستدلال إلى جعل بناء العقلاء حداً وسطاً للإثبات، حتّى يقال: إن البرهان في المقام «إنّي» أو «لمّي»؟ مثلاً، بل مرجعه إلى دعوى كون الحجية للظاهر مثلاً من الأحكام الضرورية لكلّ عقل. ويرجع ذلك إلى الحسن والقبح العقليين. فيحكم كلّ عقل بحسن عقوبة المولى عبده إذا خالف ظاهر كلامه المتضمِّن لحكم إلزاميّ، مع احتمال إرادة خلاف الظاهر، وقبح عقوبته إذا وافقه وإنْ ترتَّبت عليها مخالفة حكم إلزاميّ آخر، من دون أن يحتاج كلّ عاقل في إثبات ذلك إلى إقامة البرهان والاستمداد من سائر العقول»([15]).

ومراده من «الأحكام الضرورية للعقل» الأحكام البديهية العقلية؛ بدليل أنه في ختام كلامه صرَّح بأن إثبات هذه الأحكام لا يحتاج إلى برهان؛ لقاعدة: الذاتي لا يعلَّل. نعم، القول بعدم الحاجة إلى الإثبات لا يعني بأيّ وجهٍ نفي قابلية وإمكان ذلك، فهناك العديد من المسائل التي لا تحتاج إلى إقامة الدليل والبرهان عليها، لكن إذا تمَّت الرغبة في ذلك فيمكن إقامة صورة برهانية عليها.

وفي استئنافه للبحث يتساءل السيد البروجردي بقوله: هل حجية الظواهر ذاتية أو عرضية؟ ومراده من الذاتي هو الظواهر، مثل: العلم واليقين، التي لها جوانب ذاتية موجبة للحجّية؟ وهل ذاتية الظواهر تحتاج إلى الحجّية أم أن هناك عنصراً خارجياً فيها هو الذي يحتاج إلى إثبات حجّيته؟

ونجده يختار الاحتمال الثاني، حيث يقول: الإفادة والاستفادة في ذلك ومرجع ذلك إلى القول بانسداد باب العلم واقعاً عند العقلاء في إفهام المقاصد ورفع الحوائج.

ويرى أن الظواهر في حدِّ ذاتها لا حجّية ذاتية لها؛ لأن الظواهر في عين ذاتها ليست لها الكاشفية، ولكنْ هناك عنصرٌ خارجي واضح هو الذي أعطى للظواهر حجية تشبه الحجية الذاتية. وفي تبيينه لهذا العنصر الخارجي يقول: انحصار طريق الإفادة والاستفادة في ذلك، ومرجع ذلك إلى دعوى انسداد باب العلم عند العقلاء في إفهام المقاصد.

وبيان ذلك: إن الانسان مدني بالطبع، يحتاج في إمرار معاشه إلى التعاون، فلا يمكنه إمرار الحياة إلاّ بأنْ يتصدّى كلّ واحد لجهةٍ من الاحتياجات. ولأجل ذلك يحتاجون إلى العقود والإيقاعات وإفهام المقاصد إلى الغير، حتى يطَّلع كل واحد منهم على ما في ضمير غيره؛ ليرفع حوائجه. وارتباط القلوب بغير وسيلة جعلية غير ميسَّر، فلا محالة احتاجوا إلى وسيلة جعلية تتوسَّط بينهم في الإفادة والاستفادة، وهي منحصرةٌ في الألفاظ؛ إذ غيرُها من الوسائل لا يفي إلاّ بأقلّ قليل من المقاصد. وممَّنْ يحتاج إلى إفهام مقاصده إلى الغير الموالي بالنسبة إلى عبيدهم، حيث يحتاجون إلى توسيط العبيد في رفع حوائجهم، أو تنبيههم إلى ما فيه صلاحهم أو فسادهم، فلا محالة ينحصر الطريق المتوسِّط بين الموالي والعبيد في الألفاظ الموضوعة للمعاني؛ بسبب الوضع، أو بسبب القرائن المحفوفة، فصارت هي المدار للاحتجاج، والوسيلة للمخاصمة واللجاج. فاذا صدرت من المولى ألفاظٌ دالة على معنى خاصّ؛ بسبب الوضع أو القرائن المحفوفة، فخالف العبد مضمونها، معتذراً بعدم العلم بمراد المولى، حَكَم العقل بحسن عقوبته.

وبالجملة، لما كان طريق التفهيم والتفهُّم بين الموالي والعبيد منحصراً في الألفاظ، وانسدّ فيهما باب العلم بما في الضمير، صار هذا سبباً لحجية ظواهر الألفاظ. وهذا الانسداد ملازمٌ للأخذ بالظواهر دائماً، فصارت الحجية كأنّها ذاتية للظواهر، فتدبَّر»([16]).

وفي توضيح العبارة الأخيرة نقول: إنّ الحجية تكون ذاتية إذا كانت ذات الشيء تقتضي ذلك، وبعبارة أخرى: ذاتيته هي نفس حجيته، مثل ذاتية العلم التي هي عين الكاشفية، وحجيته هي نفس الكاشفية. لذا فحجيته ذاتية للعلم. نعم، هذه الحالة لا توجد في الظواهر؛ لأن الظواهر ليست عينها الكاشفية، بل الخطأ محتمل فيها. لكنْ من جهة كون الظواهر هي الطريق الوحيد لفهم ما في الضمير فلا بُدَّ من اعتبارها حجّة، ولها الكاشفية الظنية. وهذه الحجية لا يمكن سلبها عن الظواهر، ولهذا صارت بهذا اللحاظ شبيهة بالعلم. وبهذه الطريقة عمل السيد البروجردي على تبيين حجية الظواهر، بالإضافة إلى أنه تحدَّث عن حاجة الحياة الاجتماعية إلى الفهم والتفهيم، ووضع الألفاظ ضمن المباحث الاجتماعية في مبحث الوضع، وعمل على إثبات فطريته.

 

تحقيق

هذه النظرية تعمل على التفصيل في إرجاع البناء العقلائي في الظواهر إلى البداهة والضرورة العقلية، كذلك قابليتها للحسن والقبح العقليين. وهو نفس الموضوع الذي نعمل على التفصيل فيه في هذا المقال. لكنْ مع هذا التحليل الذي أدلى به هنا يَرِد على بعض مباحثه الأصولية إشكالٌ، مفاده أن هذا النوع من الاستدلال غير مختصّ بالظواهر، بل يسري على باقي الأمارات والسِّيَر العقلائية، حذو النعل بالنعل. فالضرورة والبداهة العقلية في كلٍّ من: خبر الثقة، وقاعدة اليد، ورجوع الجاهل الى العالم، و…، سارية وجارية، وكما لزم بالضرورة العقلية وبالفطرة العمل بالظواهر فكذلك الأمر في باقي الأمارات الظنية الأخرى. وكما يجري الحسن والقبح العقليين في الظواهر يلزم جريانه في تلك الأمارات. فكما أنّ العقل يستحسن العمل بخبر الثقة، واجتناب العمل بالضعيف، كذلك ـ وبنفس الدرجة ـ يستقبح مَنْ لا يهتمّ لشأن الراوي، ولا ينظر إلى كونه ثقة أو لا. فليس هناك دليلٌ يستدعي تخصيص الظواهر بكلّ تلك الاستدلالات، دون باقي الأمارات والسِّيَر.

بينما نجده في بعض مباحث حجّية الخبر لا يرى استقرار السيرة كافياً، بل يرى لابُدّية تحصيل عدم الردع، فيقول: «ولم يردع عن هذه الطريقة العقلائية الأئمة^، مع كونها قد جرت بمرآهم ومسمعهم، فيكشف بذلك رضاهم بما عليه بناء العقلاء»([17]).

وتجدر الإشارة هنا إلى أن العلاّمة متمسِّك كلّ التمسُّك بعقلانية وبديهية البناء العقلائي المستقرّة في باقي الأمارات المعتبرة، ويقول: «وقد عرفت منا سابقاً في باب حجية الخبر تحقيق حال هذه السيرة العقلائية، وأن منشأها والحكمة فيها هو الانسداد، فراجع»([18]).

وممّا يؤسَف له أنّ هذا البحث الذي أدلى به في الظواهر قد غاب كلّياً في مبحث حجية خبر الواحد، مع التذكير بأن بحثه في خبر الواحد لا يفصله عن مبحث الظواهر إلاّ وريقات معدودة. وقد يقوّي هذا في ذهن القارئ أنّه من الممكن أن يكون مراده الحكمة من استقرار بناء العقلاء في العمل بظواهر الخبر، ولجهة اشتراك المناط وقرب محل البحث اعتبره كذلك، وأنه نفس البحث الجاري في حجّية خبر الواحد. لكنّ الأمر مغايرٌ لذلك تماماً، بل هناك ما يؤيِّد موقفنا، حيث إن محل البحث عن منشأ استقرار بناء العقلاء في العمل بخبر الثقة موجودٌ بعينه هنا، فهو قبل البحث بحث في الآيات والروايات الدالّة على حجّية خبر الواحد، وليس في شيء آخر.

 

علّة الذهول عن عقلانية بناء العقلاء

إذا كان بناء العقلاء يرجع إلى البداهة العقلية فما السبب في إهماله والسهو عنه؟ ولماذا اشتهر عند العلماء القول بعدم الردع عنه؟

في الجواب لا بُدَّ من القول: على خلاف الانطباع الابتدائي فإن البداهة قد تكون مورد الغفلة، مثلها مثل نعمة الأمن والصحّة، فالإنسان دائم الغفلة عنهما ما لم يحرمهما؛ أو كنعمة الوالدين، فالإنسان غافلٌ عن قدرهما؛ أو كالشمس التي تطلع وتغرب كلّ يوم، حيث لا أحد يتطلّع إليها ليعرف قدر هذه النعمة، لكنْ ما أن تحلّ لحظات الكسوف أو الخسوف حتّى ترى الأعناق منشدّة إليها؛ وغيرها من الحالات. وما يحصل للسِّيَر العقلائية من سنخ ذلك. فالفكر البديهي العامّ؛ بسبب الاضطرار إليها، سرعان ما يتبدَّل نحو الفعل، والفعل كذلك، وبالتكرار الجماعي يتحوَّل إلى سيرة، وما يُرى في الخارج هو السيرة، وليس الفكرة. فالمسألة واضحة بالقدر الذي لا تكشف عن الفكر المحسوس، وبدلاً عنه نرى الفعل العامّ، والذي تكون له الاستمرارية والحضور الدائم. وبالتالي فإن الانتقال من الفكر إلى العمل، والذي من المفترض أن يكون نقطةً إيجابيّة في الرأي والنظر، قد أصبحت حجاباً حجب النظرية، وأخفاها عن الأنظار.

 

النظرية المشهورة: الحجّية على أساس تأييد وإمضاء الشارع

هذه النظرية هي مشهور علماء الأصول والفقه، حيث تكون سيرة العقلاء مجرّد عمل عامّ، وعادة شائعة بين جميع البشر. ولهذا فهي ليست منشأ هذا التفكُّر، بالإضافة إلى أنّه ليس لها كاشفية، ولا تعبِّر عن الواقع. بل هي عادة اجتماعية شائعة، وبهذا اللحاظ ليست لها الحجّية في ذاتها، ولا تثبت ما وراءها. كما أن حجيتها إنّما تثبت بتأييد الشارع وإمضائه. ولا تعدّ دليلاً مستقلاًّ إلى جانب القرآن والسنّة؛ لأن سيرة العقلاء في ظلّ هذه النظرية هي إحدى الطرق لإثبات السنّة.

وعلى أساس هذه النظرية لا بُدَّ من البحث في ما هو التكليف تجاه سيرة العقلاء التي لم تكن معاصرة للشارع؟ وإذا كانت معاصرة له، لكنّه لم يكن متَّحداً معهم في السلوك، ولم يكن في حاجة إلى هذه السيرة، مثل: استصحاب حكم شرعي، فكيف نثبت تأييده لها؟

يجيب السيد محمد تقي الحكيم قائلاً: حجّية مثل هذه السيرة إنما تكون بعد إثبات امتدادها تاريخياً إلى زمن المعصوم، وإثبات مشاركته لهم في السلوك في ما يمكن صدوره منه، أو إقرارها من قبله، ولو من قبيل: عدم ردعه عنها، مع إمكان الردع والاطّلاع عليها في ما لا يمكن صدورها منه. ومع عدم إثبات ذلك لا مجال للتمسُّك بها بحال…([19]).

ويقول مبيِّناً حاجة السيرة إلى تقرير وتأييد الشارع، واختلافها عن الدليل العقلي: والفرق بينه وبين حكم العقل أن حكم العقل في ما يمكنه الحكم فيه وليد اطّلاع على المصلحة أو المفسدة الواقعية، كما يأتي بيانه. وهذا البناء لا يشترط فيه ذلك؛ لكونهم يصدرون عنه ـ كما قلنا ـ صدوراً تلقائياً غير معلَّل. فهو لا يكشف عن واقع متعلَّقه من حيث الصلاح والفساد. ولعلّ قسماً كبيراً من الظواهر الاجتماعية منشؤه هذا النوع من البناء. ومع إقراره، أو عدم ردعه، أو صدوره هو عنه، يقطع الإنسان بصحّة الاحتجاج به عليه([20]).

وهناك نقطة لطيفة نستجيدها من كلام الشيخ المظفَّر&، وكلّ هؤلاء الذين يرَوْن حجية السيرة مشروطة بتأييد المعصوم، فقد كتب في أصول الفقه، في مبحث حجية السيرة: إن بناء العقلاء لا يكون دليلاً إلاّ إذا كان يستكشف منه على نحو اليقين موافقة الشارع وإمضاؤه لطريقة العقلاء؛ لأن اليقين تنتهي إليه حجّية كلّ حجّة([21]).

فملاك عدم دليلية سيرة العقلاء هو عدم كاشفيتها للواقع، بمعنى أن السيرة في حدّ ذاتها لا تثبت غيرها، وإنما تنحصر قوّتها في هذه الحال بأنها تثبت فقط وجودها. والحديث عن كون السيرة تفيد مصلحة، أو تدعم اليقين بالواقعة، عمل غير بيِّن في حقّها. لذا فهي تفتقر إلى إمضاء وإقرار المعصوم.

 

تحليلٌ وتحقيق

إن التناقضات جليّة في هذا القول من عدّة جهات. وسنحاول الإشارة إلى بعضها:

الأولى: إنّ من النقاط المهمة والمفتاح في هذا الموضوع معرفة منشأ ظهور سيرة العقلاء. فالملاحظ الغفلة عن هذا الموضوع، وظهور تعبيرات نظير: «صدوراً تلقائياً غير معلَّل»([22]). ولنقد النظرية نطرح السؤال التالي: إذا لم يكن لسيرة العقلاء فعلاً، من دون مبنى العقلاء، وجهة كاشفية، ولم تصدر عن جهةٍ خاصة من جانب العقلاء، فلماذا نجدها عند جميع بني البشر على اختلاف مِلَلهم ومذاهبهم وأديانهم واتّجاهاتهم الفكرية؟ ولماذا هذا الاتفاق وجودياً عند الكلّ؟ ولماذا لم تكن، كالعُرْف، خاصّةً بقومٍ وملة، بل هي تتخطى كلّ الحدود، كما أن الزمان لم يجعلها تندرس أو تبلى؟ أليس كلّ هذا دليلاً على أن سيرة العقلاء ليست أمراً جعلياً واتفاقياً، بل مثبتة؛ لكونها ضمن الكونيات والحقائق المكنونة لهذا العالم؟

والعجيب أن الأصوليّين، مع إقرارهم أنّ سيرة العقلاء علّة قوام النظام الاجتماعي، لم يلتفتوا إلى عقلانيتها ورجوعها إلى البناء العقلائي.

ونجد الشهيد الصدر، في بحثه في إثبات استمرار السيرة إلى زمن المعصوم بناء على الوضع الموجود، قد سعى إلى أن يبيِّن أن السيرة لا تنبثق من عوامل فطرية، وسليقة نوعية، وإنما تجتمع فيها أمورٌ مشتركة بين العقلاء، من عادات اجتماعية، وخصائص قومية:

يقول&: الطريق الأول: أنْ نستدلّ على ماضي السيرة العقلائية بواقعها المعاصر لنا. وهذا الاستدلال يقوم على… كون السيرة العقلائية معبِّرة ـ بوصفها عقلائية ـ عن نكاتٍ فطرية، وسليقة نوعية، وهي مشتركة بين العقلاء في كلّ زمان. ولكنّ الصحيح عدم صحّة هذا الاستدلال؛ إذ… إن السلوك العقلائي ليس منبثقاً دائماً عن نكاتٍ فطرية مشتركة، بل يتأثَّر بالظروف والبيئة والمرتكزات الثقافية، إلى غير ذلك من العوامل المتغيِّرة، فلا يمكن أن يعتبر الواقع المعاصر للسيرة دليلاً على ماضيها البعيد([23]).

والملاحَظ وقوع كلام الشهيد الصدر& في التناقض؛ إذ مع فرض عمومية السيرة فإنها لن تتأثّر بعوامل المحيط المتغيِّرة؛ لأنه اذا تقرّر أن عوامل المحيط مؤثرة في ظهورها وتغيرها، فلا بُدَّ أن نرى في كلّ مرحلة من مراحل الزمان تغيراً في العرف، وأعرافاً متعدّدة ومختلفة، وليس سيرةً مشتركة بين جميع البشر.

الثانية: تصريح علماء الأصول ـ وبالخصوص مَنْ ذكرناهم سابقاً ـ، في الفقه وفي الأصول، أنها ضرورية لحفظ بقاء النظام الاجتماعي ورشده، وأنها إذا انتزعت من بين الناس وقع الاختلال في نظام الحياة: إن الامارات المتداوَلة على ألسنة أصحابنا المحقِّقين كلّها من الأمارات العقلائية التي يعمل بها العقلاء في معاملاتهم وسياساتهم وجميع أمورهم، بحيث لو ردع الشارع عن العمل بها لاختلّ نظام المجتمع، ووقفت رحى الحياة الاجتماعية([24]).

وفي مطارح الأنظار: «إنّ الموارد التي يستكشف منها حال العقلاء في أمور معادهم ومعاشهم، من اكتفائهم بالظنّ في السلامة، إنما هو بواسطة انسداد طرق العلم لهم، بحيث لو اقتصروا على المنافع المعلومة والمضارّ المعلومة لزم اختلال نظامهم»([25]).

«وعلى هذه السيرة العملية قامت معايش الناس، وانتظمت حياة البشر، ولولاها لاختل نظامهم الاجتماعي، ولسادهم الاضطراب؛ لقلّة ما يوجب العلم القطعي من الأخبار المتعارفة، سنداً ومتناً»([26]).

فإذا قبلنا بأن الأمارات المعتبرة موجبة لانتظام حياة البشر، وهي قوامها؛ وأنّه بدون سيرة العقلاء تختلّ حياة الناس وتضطرب، وهذا ممّا لا يقبله الشارع، ولا يرضى به، إذاً كيف ومن دون الالتفات إلى الوقائع الخارجية تمّ اعتبار سيرة العقلاء أمراً اتفاقياً؟ وكيف نقول: إنها مشروطة ومنوطة بإذن المعصوم، مع الإقرار بأنّه حتّى الشارع لا يمكنه مخالفتها؟!

وحتّى مع إذعانهم بالرجوع إلى قول اللغوي لعدم ثبوت الردع عنها من لدن المعصوم نجدهم لا يستطيعون الاستناد إلى قول اللغوي فيما لو استقرَّت السيرة.

فمثلاً: نرى الشيخ المظفَّر يردّ على مَنْ يستند إلى سيرة العقلاء لإثبات حجية قول اللغوي بقوله: إن موافقة الشارع لبناء العقلاء لا تستكشف بمجرّد عدم ثبوت ردعه عنها، بل لا يحصل هذا الاستكشاف إلاّ بأحد شروط ثلاثة: إما أن تكون متّحدة المسلك مع الشارع، نظير: العمل بخبر الواحد والظواهر؛ أن يعلم جريان سيرة العقلاء في العمل بها في الأمور الشرعية، حتّى يستنتج من سكوته الرضا والتأييد لها؛ وفي غير هاتين الصورتين لا بُدَّ من قيام دليل خاصّ قطعي على رضا الشارع وإمضائه للسيرة العملية عند العقلاء. وحيث إنه لم يثبت فيها دليلٌ خاصّ، كالسيرة في الرجوع الى أهل الخبرة في اللغات، فلا عِبْرة بها، وإنْ حصل الظنّ منها؛ لأنّ الظنّ لا يغني عن الحقّ شيئاً([27]).

وقد طرح بعض الأصوليين نظير هذا الموقف في مبحث التقليد، فقال: «فرجوع الجاهل في هذه الأعصار إلى علماء الدين وإنْ كان فطرياً، ولا طريق لهم بها إلاّ ذلك، لكنّ هذا البناء ما لم يكن مشفوعاً بالإمضاء، وهذا الارتكاز ما لم يَصِرْ ممضىً من الشارع، لا يجوز العمل على طبقه، ولا يكون حجّة بين العبد والمولى. ومجرّد ارتكازية رجوع كلّ ذي صنعة إلى أصحاب الصنائع، وكل جاهل إلى العالم، لا يوجب الحجّية، إذا لم يتّصل بزمان الشارع؛ حتّى يكشف الإمضاء»([28]).

ويلاحظ أنّه مع قبولهم أنّ العقلاء يرَوْن أن أخذ الدين لا يكون إلاّ بالرجوع إلى العلماء نجدهم يصرّون على أن حجية سيرة العقلاء منوطة بإذن الإمام×، مع العلم أن الإمام لا يمكنه أن يقف في وجه الأمور الضرورية للتوصّل إلى الدين، أو التي يكون تركها موجباً للاختلال في نظام الدين. وهذا ما أشار إليه العلامة الطباطبائي بقوله: ثم إنّك عرفت في بحث الوضع أن اعتبار الوضع والدلالة اللفظية مما تقضي به الفطرة الإنسانية ونظام الاجتماع، فهو ما بنى عليه العقلاء، ولا معنى للردع عنه([29]).

الثالثة: بعض الأصوليين يرَوْنها من فطريّات العقول. فسيرة العقلاء في أن الجاهل يقلِّد العالم هو من فطريات العقول، التي يعرفها الإنسان بالوجدان، ولا تحتاج إلى الدليل.

وقد قال الإمام الخميني&: فإنّه من فطريّات العقول([30]).

ومن المثير للدهشة أن نلاحظ أن هذه الزيادة «من فطريات العقول» هي القدر المتيقَّن من حجية العقل، وكاشفة عن بداهة ووضوح ميل الإنسان إلى أمر العقلاء والعمل بسيرتهم.

الرابعة: معظم الأصوليين حين يستحضرون سيرة العقلاء يذكرون معها قيد «بما هم عقلاء». وهذا القيد احترازي يخرج كلّ الحالات الأخرى الممكنة، نظير: «بما هم عاطفيون»([31])، أو «بما هم معتادون»([32])، أو «بما هم متشرِّعة»([33])، وإلا فلا لزوم لهذا القيد، ولا موضوعية له.

ومن خلال التأمّل في موارد استعمال سيرة العقلاء يتَّضح أنّهم في الغالب يستعملون قيد: «بما هم عقلاء». والسؤال المطروح هنا: إذا كانت سيرة العقلاء تلقائية، ومن دون احتياط عقلاني، فما الداعي لإضافة هذا القيد؟ وإذا كانت السيرة في حاجة إلى إمضاء الشارع فما هي قيمة هذا القيد؟؛ لأنه حينئذ سيكون عمل العقلاء بالسيرة حتّى مع قيد «بما هم معتادون، أو متشرعة، أو… » إذا لم يردع عنها الشارع حجّةً.

ونحن هنا نذكر بعض استعمالات العلماء للسيرة:

«واعتبار هذه السيرة منوط بإمضاء المعصوم، والبناء يطلق أيضاً على استقرار العقلاء بما هم عقلاء على أمرٍ شرعي، كبنائهم على اعتبار الخبر الموثوق الصدور»([34]).

«تحقق البناء من العقلاء بما هم عقلاء واقعون في ظرف الاجتماع وطريق الاستكمال، فلا يخالفه إنسان بالفطرة»([35]).

«من غير اختصاص هذا البناء بقومٍ دون قوم، وكانت طريقة جميع المسلمين بما هم عقلاء، من عهد رئيسهم إلى عصرنا، الاتّكال بخبر الثقة في جميع أمورهم»([36]).

وهنا يعود هذا السؤال ليجد طريقه مرة أخرى: إذا لم تكن لسيرة العقلاء الكاشفية، وتصدر من العقلاء من دون تحيُّز، فلماذا يجب تقييدها بقيد «بما هم عقلاء»؟ وهل في غير هذه الحالة يكون هذا القيد مبيِّناً لمنشأ السيرة؟ يعني أن العقلاء يعملون بخبر الثقة لا لكونه متشرعاً، أو أنه بدافع العواطف، بل لأن العقلاء يعملون به حين يكون الاختلاف، وهو ما يُعرَف بالحُسْن والقبح العقليين.

«إن العدلية إذ يقولون بالحسن والقبح العقليين يريدون أن الحسن والقبح من الآراء المحمودة، والقضايا المشهورة المعدودة من التأديبات الصلاحية، وهي التي تطابقت عليها آراء العقلاء بما هم عقلاء»([37]).

ما هو الفرق بين سيرة العقلاء بما هم عقلاء وآراء العقلاء بما هم عقلاء؟ أليس هو أنّ الواحد منهما هو نظر العقلاء بلحاظ كونهم عقلاء، والآخر عمل العقلاء بلحاظ كونهم عقلاء، وهذا العمل علامة على أنه مسبوقٌ برأي عقلائي.

واللازم؛ بدليل ملازمة حكم العقل لحكم الشرع، أن يكون حكم العقلاء بما هم عقلاء شرطاً محورياً في أخذ النظرية؛ لأن هذه النظرية متوقِّفة على أن حكم العقلاء إنما نشأ عن عقلانيتهم. فلو كان عن عواطفهم أو عاداتهم لم يكن ليشترك معه الشرع. فالشرع ليس عاطفياً، ولا من أهل العادة، بل هو عاقلٌ وسيد العقلاء. ولأن حكمه على أساس العقل اشترك مع العقلاء.

اللهمّ إلاّ إذا ادُّعي أن قيد «بما هم عقلاء» في بناء العقلاء لا يعني ما يعنيه نفس القيد في أدبيّات الصلاحية والآراء المحمودة، بحيث إنه يكون في مقابل «بما هم متشرِّعة أو مسلمون». أما في مباحث الحسن والقبح العقليين يكون في مقابل «بما هم عاطفيون».

ولأجل تقوية هذه النظرية يمكننا الاستفادة من الكيفية التي يتم بها طرح بناء العقلاء في مقابل سيرة المتشرِّعة، أو في مقابل تأسيس الشارع. وممَّنْ طرحها السيد البروجردي في مبحث حجّية خبر الواحد، حيث كتب يقول: «إن حجية الخبر ليست من تأسيسات الشارع قطعاً، بل العمل بالخبر ممّا استقرت عليه سيرة العقلاء»([38]).

والدليل عليه هو بناء العقلاء والسيرة العقلائية القطعية، من غير اختصاصها بطائفة خاصّة، كالمسلمين([39]).

وللإنصاف فإن قيد عقلائية السيرة هو لأجل إخراج التأسيس للسيرة من خلال الشارع، أو أن استقرار سيرة المتشرِّعة يكون على هذا المنوال. وفي هذه الحالة لن يكون مجال لورود الإشكال الوارد على القول المشهور، إلاّ إذا كان مراده أنه رغم إخراج فرض التأسيس الشرعي فإنّ استعمال قيد العقلاء هو بدلٌ من قيود أخرى، نظير: «سيرة الناس»، مع الإشارة إلى أن سيرة الناس هي بلحاظ كونهم عقلاء، ولإثبات هذا المدَّعى. فالقضية تحتاج إلى الكثير من النقض والإبرام، ممّا لا يتَّسع له المجال في هذا المقال.

 

حجّية السيرة العقلائية الذاتية

بناءً على ما سبق تبيَّن أن سيرة العقلاء مسبوقة بالحكم الاضطراري والبديهي العقلي، وهو لشدّة وضوحه قد اختفى، وبقيت السيرة العملية في الواجهة. وعلى هذا الأساس كلما اتخذ الفعل شكل السيرة فهذا دليلٌ على أن هناك حكماً قائماً على دليل عقلي، وتكون أحكامه تابعة للأحكام العقلية. ولهذا فالسيرة العقلائية من جهة كونها سيرة محضة ليس لها أيّ قيمة، لكنّها اكتسبت القيمة من جهة أنّ لها دعامات وركائز عقلية، ولكونها في دلالتها دالّةً على هذا الجانب العقلي.

وفي مقالنا، تحت عنوان «مساحة حجية العقل في فكر الأصوليين والأخباريين»، وفي البحث عن كيفية جريان حجّية العقل وأنحاء تصرّف الشارع تجاهها، أوضحنا أن الأحكام العقلية على ثلاثة أقسام: فالبعض لا يقبل التصرُّف من لدن الشارع نفياً وإثباتاً، سواء على نحو الكلّية أو الجزئية، وهي تهم الأحكام التنجيزية، مثل: حسن العدل، وقبح الظلم؛ والبعض الثاني يقبل النفي الكلي، والظاهر أنّه ليس له فرض خارجي؛ والبعض الثالث يقبل النفي الجزئي، مثل: إن الشارع لا يخالف بشكلٍ كلّي حجّية خبر الواحد؛ لأنه إنْ خالفه بشكلٍ كلّي كان ذلك باعثاً على وجود الاختلال في نظام الحياة الاجتماعية، لكنه يخالفه في بعض الموارد الخاصة، حيث لا يعدّه كافياً في إثبات القتل أو الفاحشة.

وسيرة العقلاء لا ترجع في جذورها إلى الأحكام العقلية فقط، بل هي نوع من الاضطرار العقلي. وبهذا اللحاظ لا إمكان للتصرف الكلّي فيها. والشارع يمكنه التصرف فيها بنحو الجزئية فقط، كأن لا يقبل الظهورات أو خبر الثقة في بعض الموارد الخاصة.

إن قبول تصرُّف الشارع بهذا المقدار في بعض الأحكام العقلية يستدعي قبل العمل بالحكم العقلي الاضطراري، أو بالسيرة العقلائية، مراجعة الشارع، والاطّلاع على كيفية تصرّفاته الجزئية، وفحصها. وعليه إذا كانت الحاجة مع هذا الفرض إلى مراجعة الشارع فسنكون مضطرّين، أحببنا أو كرهنا، إلى إمضاء الشارع، وبالتالي لا يكون لها في مقام العمل حجية ذاتية ومستقلّة، وإنما هي تابعة لجعل الشارع.

لكنّ الصحيح في هذا المقام أنّه رغم أننا نرى أن الأمر عقليٌّ، فهذا لا يلازم الاستقلال عن مراجعة الشارع. ونعتقد أنه من الممكن أن يكون الحكم عقلياً، ولا يكون مستغنياً عن مراجعة الشارع؛ لأنه في بعض الأحيان يُصدر العقل أحكاماً مشروطة، ولكي تتحقَّق هذه الشروط أو تنعدم لا بُدَّ من مراجعة الشارع. وأخذ هذه النكتة بعين الاعتبار يوضِّح لنا بعض التعارض المزعوم بين العقل والشرع، ويجيب عنه. ورغم ذلك فلا زال هناك فرقٌ بين نظرية إمضائية السيرة العقلائية وأنّ العقل يحكم بضرورة السيرة؛ فإنّ أصل هذا الحكم ثابتٌ، ولا يقبل التخلُّف، بينما في نظرية الإمضاء يغيب هذا الأصل الثابت، ليصبح الأصل هو الإمضاء. وفي نظرية الحجية الذاتية للسيرة يكون الرجوع إلى الشارع لجهة الاطمئنان الجزئي لا غير. وبهذا اللحاظ فالسيرة المستحدَثة، التي تشكلت بعد زمن حضور المعصوم، لن تواجه أيّ إشكالٍ في حجيتها.

 

تذكّر وتوضيح

إن الحجية الذاتية في اصطلاح العلاّمة الطباطبائي والسيد البروجردي هي الكاشفية الذاتية للسيرة العقلائية، بمعنى هل أنّها مثل العلم له الكاشفية أو أنها تحتاج إلى متمِّم، وأن ذاتها لا تكون لها الكاشفية. ولهذا أدلى البروجردي بتوضيح مفاده أنّ الظواهر لا تكون لها الكاشفية، وبهذا اللحاظ ذاتها ليست عين الكاشفية، لكنْ بلحاظ انحصار طريق الحقيقة والواقعية فيها فهي شبيهةٌ بالحجية الذاتية.

لكن الحجية الذاتية في اصطلاح هذا المقال تعني أنها عقلائية. فكونها ذات حجية ذاتية بمعنى أنها تأخذ حجّيتها من الدليل العقلي، وأنها مستقلّة عن التقرير.

 

هل للسيرة وجود خارجي؟

لأن سيرة العقلاء عملٌ فهي لا تملك لساناً تفرض به الأخذ بحدودها، وبعبارةٍ أخرى: إنّ تحديد السلوك أصعب من الكلام. ففعل الإنسان لا ينجو من الخطأ والزلل، حتى كاد يلازمه؛ لأنه في أغلبه، إنْ لم نقل في جلّه، يدور بين الإفراط والتفريط في كيفية أدائه وحدوده. والسبب يكمن في أن الانسان تحركه دوافع النفس الأمارة، التي ترمي به في أحضان تقليد الجاهل، لهذا تجده، حتّى في أشد الأعمال اضطراراً، لا يكون عمله وسلوكه سويّاً ومعتدلاً. وهذا ما عبَّر عنه القرآن في أكثر من آيةٍ بقوله تعالى: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ (البقرة: 100)، ﴿مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ﴾ (آل عمران: 110)، ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾(المائدة: 103)، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾ (الأنعام: 111). فهي تكشف عن أن السفاهة والجهل شاخصان معلومان لبني البشر. كما يخاطب نبيَّه مبيِّناً له أنه لو اتَّبع أكثر الناس لأضلّوه السبيل؛ لأنهم إنما يتبعون الظنّ وهوى النفس، معرضين عن سبيل الله، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ (الأنعام: 116).

وهذا يدفع بنا إلى التساؤل: هل للسيرة العقلائية، بالشكل الذي ندَّعيه، وجود خارجي؟ هل حقيقة العقلاء في حياتهم أنّهم يقتصرون في أخذ الأخبار على الثقة، ويستقصون ويبحثون حين شكِّهم في وثاقته؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فما هو السبب في وجود هذه الكثرة من الشائعات، التي لو صرف فيها مقدار بسيط من التأمُّل والتفكُّر لتبيَّن زورها وبهتانها؟ إذا كان للعقلاء هذا الحسّ العقلائي فلماذا يأتي القرآن بأدبيات الإنذار، يحذرهم وينذرهم اتّباع بلاغات وأنباء الفاسقين من الناس؟: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات: 6).

وما نراه في العالم الخارجي هو كثرة تعاطي العقلاء مع الأخبار الضعيفة، من دون تحقيق وبحث. فكيف تسنّى لنا اعتبار العمل بخبر الثقة، واجتناب أخبار الضعفاء، من بناء العقلاء؟! وما دام العقلاء يعملون بكلّ أنواع الأخبار فكيف يمكننا أن نثبت أن حجية العمل بخبر الثقة، دون خبر الفاسق أو المشكوك فيه، من البناء العقلائي؟ هذا مع وجود تأكيد وإصرار تامّ من علماء الأصول على نفي أن يكون العمل بخبر الفاسق من سيرة العقلاء، وأن الاستقرار إنّما هو لخبر الثقة.

ألا يدلّ هذا التناقض الواضح على أن هؤلاء العلماء قد اعتمدوا في أحكامهم تلك على الحُسْن والقبح العقليين، ونسبوها إلى العقلاء؟ لأن العقلاء وإنْ تخلَّفوا في فعلهم عن أحكام العقل، إلاّ أنهم نظرياً متَّفقون على تحسين الحسن وتقبيح القبيح. فرغم أنّ العمل بالضعيف شائعٌ بين العقلاء، إلاّ أنّهم متَّفقون على ذمّه وشجبه. ورغم أن العمل بخبر الثقة نادرٌ وقليل بينهم، إلا أنهم في المقابل يمدحون العامل به، ويثنون عليه كل الثناء.

وهذا، بالإضافة إلى كونه دليلاً على عقلائية سيرة العقلاء، يشير إلى أن السيرة العقلائية مجرَّدة عن الحُسْن والقُبْح العقليين. وعدم أخذهما في الاستدلال لن تكون مميّزة للحجة عن اللاحجة؛ لأنها ستكون دائمة الامتزاج بالهوس والجهل، وعمل غير المعصوم دائماً في معرض الخطأ والزلل. أمّا لو نظرنا إلى سيرة العقلاء بما هم عقلاء فسيكون نظرنا بلحاظ عقلانيتهم، وكونهم متّبعين للعقل، ومحتمين في حماه، وحينها تكون أعمالهم مورد الأحكام العقلية والعقلائية.

من الطبيعي أن يكون هذا الكلام محطّ تعجب؛ إذ إننا سعينا من بداية المقال إلى إثبات المنشأ العقلي للسيرة العقلائية، بينما تحوَّلنا في النقطة الأخيرة إلى نفي ذلك. لكنْ لا داعي للتعجب؛ لأننا عملنا وفق الموجود. وعلى فرض وجود السيرة العقلائية فسيتمّ ردّها إلى الأمور التكوينية، حيث إن الامور الجعلية لا تتحقَّق في كلّ الناس بشكلٍ واحد، وبالتساوي. لكنّ السؤال الجدّي الذي يجب أن يلتفت إليه القارئ المحترم: هل هناك وجودٌ لعمل مشترك بعنوان سيرة العقلاء في الواقع الخارجي؟

الواقع يكشف عن أن سيرة العقلاء لها وجود واقعي، وإنْ كان جدّ بسيط. لكنّ هذا الوجود بهذا الحجم لا يحلّ مشكلة، ولا يرفع إشكالاً، ولا يكون في مستوى حاجة الفقيه والأصولي. فمثلاً: العقلاء مشتركون في أصل الخبر، والإقرار بأنّ الاختلال واقع في عدم الأخذ به، لكنّ الالتزام العملي بخبر الثقة قليلٌ جداً، ولا يوجد مَنْ يتقيَّد به منهم. فلا أحد من الفقهاء يشكّ أو يتردَّد في أصل نظام الخبر، حتّى يكون دافعاً لإثباتها، لكنّ الاختلاف الحاصل هو في أوصاف الخبر، وأيٌّ من الأخبار يكون في موضع العلم؟

وقد يستشكل بأن كلّ الناس العلماء يعملون بظواهر الكلام، والسيرة متحققة في ذلك.

لكنْ في تحليل هذا الكلام نستطيع القول: رغم أن العقلاء يعملون بالظواهر ففي أكثر الأوقات لا يلتزمون بالضوابط اللازمة، حتى يكون استظهارهم متيناً وقابلاً للاعتبار؛ حيث يلاحظ عدم الاعتناء بالقرائن، والسرعة في الاستظهار قبل انعقاد كلّ الكلام وبلوغ نهايته. فالسيرة العقلائية لو وُجدت بدون قيد، وكانت بسيطة، لأمكن أن ينعقد لها بناء العقلاء، نظير: قاعدة اليد.

 

البناء غير الاضطراري، أو الاضطرار الثانوي

بعد إتمام البحث في البناء العقلائي الاضطراري، وبعد مجموعة من النقض والإبرام، ننتقل إلى البحث في بناءٍ ظهوره غير ضروري في حفظ وبقاء نظام الحياة، لكنّ ضرورته تكمن في جعل نظام الحياة أكثر ترتيباً ونظماً ورشداً، وكلّ مجتمع يبغي التطوُّر والرشد يجد نفسه مضطراً إليه. ورغم أنّه ليس اضطرارياً في بقاء النظام، لكنّ رشد النظام وارتقاءه تجعل له الاضطرارية والضرورة. ولهذا قسمنا البناءات العقلية إلى: اضطرارية أولية، وغير اضطرارية ثانوية. والأدلة على لغوية وعدم فائدة طرح هذا البناء الثانوي في مجالات الفقه والأصول متعدّدة.

الأول: مع هذا الترديد الموجود في أصل تحقّق البناء الاضطراري لا يكون هناك مكان لطرح الاضطرار الثانوي. فرغم دور هذا البناء في التمدّن والتطور الحضاري للمجتمعات البشرية فإنه ـ وبحسب رأينا ـ لم يتحوّل بأي شكل إلى نوع من الالتزام العامّ. فمثلاً: رغم مرور عقود على سنّ قوانين السير والتنقّل، وسعي الدول في جعلها ثقافة تشجع عليها حيناً، وتضع عقوبات أخرى، إلاّ أنها لم تتحول إلى التزام جمعي. فلا زلنا نرى العديد من النقائص وعدم التفوّق بشكلٍ كبير فيها. ونفس الشيء نراه بالنسبة إلى التأمين ونحوه. فحتى مع وجود اتّفاق عام في مختلف المجتمعات عليه، والتوافق عليه، إلاّ أن تعريفه وأشكاله لا زالت تعرف الاختلاف. وغيره كثير.

الثاني: ما أنجزنا القول فيه في خصوص الاعتبارات العلمية وضروريات البناءات العقلية، الظاهر أنّها ليست متواجدة بكثرة في البناءات من الدرجة الثانية (غير الاضطرارية)؛ لأنّ هذه الأمور لا تندرج ضمن الضرورات التي تتوقَّف عليها الحياة؛ ليصبح الإنسان مكرهاً ومجبوراً عليها، أو أن بداهته مانعةٌ من التوجُّه إلى أدلّة هذا النوع من الأمور غير الاضطرارية؛ لأن هذه البناءات مسبوقة بحاجات ورغبات الدولة والمجتمعات، وبعبارة أخرى: الدولة والمفكِّرون في مجتمع وأمّة يرون أن ارتقاء مجتمعاتهم ودولهم وأممهم في الجانب المعاشي والثقافي يفرض الالتزام بهكذا قانون. وضمن هذا الاستدلال يكون دليل عقلي يسبق التحرك نحو الفعل يظهر في شكل قانون، ليتحوّل في ظلّ تحرك الدولة إلى سلوك جمعي. لذلك يكون هذا الاستدلال موجباً لظهور قانون، ثم ينتقل إلى سيرة، وهو ما سيكون مناسباً للبحث والتحقيق الفقهي والأصولي، بمعنى أن هذا الاستدلال سيعتمد عليه الفقيه لينطلق في بحثه والتحقيق فيه. فإذا استقر عنده بأن هذا الاستدلال في حدّ البرهان، ويثبت الواقعة، وهذه الواقعة تكون ممتدة إلى الغاية من الخلقة التي تجعل الإنسان عبداً لله، وأن لا تكون مانعاً منها، في هذه الحالة سوف تثبت له الحجية، ولن تحتاج إلى التحقُّق في الخارج.

 

ثمرة البحث: عقلانية أو عقلائية علم الأصول

من خلال ما سبق فكلّ السير العقلائية لها منشأ عقلاني، وهي من الأحكام العقلية البديهية؛ بلحاظ الاضطرار إليها. فالنوع خاضع لها بتمام ملله ونحله، مستسلماً لها. ومرادنا من عقلانيتها قابليتها للاستدلال. متى كان للعقل مكانة في الاستدلال اليقيني؛ لإثبات أمرٍ من الأمور أو قضية من القضايا، كانت هذه الأخيرة عقلية، وبهذه المقدّمة إذا ثبت أن علم الأصول علم عقلائي فحينها نثبت أنه علم عقلي. لذا نحن في القسم التالي سنعمل على إثبات عقلائية علم الأصول.

 

علم الأصول علم عقلائي

فالقول «الأصول علم عقلائي» عبارة متداولة ومعروفة بين علماء الأصول. وكل مَنْ كان له اطّلاع على كتب علم الأصول سيلاحظ تداولها لاصطلاحات: «بناء العقلاء»، «سيرة العقلاء»، بشكلٍ يتجاوز المائة مرة. والأهم تصريح العديد من العلماء المذكورين بعقلائية الأمارات، والحجج، والقواعد العامة، ومباحث الألفاظ، رغم انتفاء الحاجة إلى إثبات عقلائية علم الأصول.

ومن أقولهم على سبيل المثال:

 

الميرزا النائيني

صرَّح العلاّمة النائيني& في بداية مبحث الظنّ وإمكان التعبُّد به بأن تمام الأصول والأمارات والقواعد الظنّية التي تبحث في علم الأصول قواعد عقلائية، وليست من جعل الشارع، وقد أقرها الشارع ولم يردَعْ عنها، ويقول: الطرق المبحوث عنها في المقام([40]) كلّها طرق عقلائية عرفية، عليها يدور رحى معاشهم ومقاصدهم ومعاشراتهم. وليس في ما بأيدينا من الطرق ما يكون اختراعية شرعية، ليس منها عند العقلاء عينٌ ولا أثر، بل جميعها من الطرق العقلائية. وتلك الطرق من حيث الإتقان والاستحكام عند العقلاء كالعلم، أي حالها عندهم حال العلم، من حيث الإصابة والخطأ. والشارع قرَّر العقلاء على الأخذ بها، ولم يردع عنها»([41]).

 

الإمام الخميني

صرّح الإمام الخميني&، كغيره من العلماء، في مواضع عديدة بعقلائية علم الأصول، كقوله: إن الأمارات المعتبرة شرعاً غالبها ـ إنْ لم يكن جميعها ـ طرق عقلائية، يعمل بها العقلاء في سياساتهم ومعاملاتهم، ولا تكون تأسيسية جعلية، كما اعترف به المحقِّق المتقدِّم&([42]).

وقال في مكانٍ آخر: فاعلم أنّ الأمارات المتداولة على ألسنة أصحابنا المحقِّقين كلّها من الأمارات العقلائية التي يعمل بها العقلاء في معاملاتهم وسياساتهم وجميع أمورهم، بحيث لو ردع الشارع عن العمل بها لاختلّ نظام المجتمع، ووقفت رحى الحياة الاجتماعية. وما هذا حاله لا معنى لجعل الحجية له، وجعله كاشفاً محرزاً للواقع، بعد كونه كذلك عند كافّة العقلاء. وها هي الطرق العقلائية ـ مثل: الظواهر، وقول اللغوي، وخبر الثقة، واليد، وأصالة الصحّة في فعل الغير ـ ترى أن العقلاء كافّة يعملون بها من غير انتظار جعل وتنفيذ من الشارع، بل لا دليل على حجّيتها، بحيث يمكن الركون إليه، إلا بناء العقلاء، وإنما الشارع عمل بها كأنّه أحد العقلاء. وفي حجّية خبر الثقة واليد بعض الروايات التي يظهر منها بأتمّ ظهور أنّ العمل بهما باعتبار الأماريّة العقلائية([43]).

 

السيد حسن الموسوي في منتهى الأصول

إن الشارع ما اخترع طريقاً خاصاً لتبليغ أحكامه، بل اعتمد على الطرق العقلائية وما اعتمدوا عليه. فلو كان في نظره أحد طرقهم أو أكثر غير مرغوب فيه فلا بُدَّ من ردعه، وتشديد النكير عليه، كما فعل في القياس([44]).

 

صاحب الأصول المهذّبة

ينتقد الشيخ غلام حسين التبريزي، في مقدّمة كتابه الأصول المهذّبة، تنقيح مباحث الأصول، ويرى أن أغلب مباحث هذا العلم فطريّة وارتكازية، قائلاً: ويطنبون في تنقيح مباحث الأصول، التي أكثرها فطريات وارتكازيّات، غاية الإطناب([45]).

وما سلف هو مجرّد قسم من إظهار النظر في علم الأصول بشكلٍ كلّي، وإلا فإنّ نظر الأصوليين في كلّ مبحث من مباحثه قد أفصح عن عقلائيتها، واستنادها إلى السيرة العقلائية. وهو الأمر الظاهر غير الخفيّ على أحدٍ منهم، وسنعمل على تبيين كيفية الاستدلال بالسيرة في بعض تلك المباحث.

 

أصول الفقه علم عقلي

مع إثبات الاعتراف بعقلائية علم الأصول، وبنائه على سيرة العقلاء، تتضح صغرى البرهان، بعد أن أثبتنا في الأقسام السابقة كبراه، وهي عبارة عن «كلّ سيرة عقلائية مبنيّة على قواعد عقلية». وتأخذ نتيجة هذا البرهان الشكل التالي:

علم الأصول علم عقلائي، ومبنيّ على سيرة العقلاء.

كلّ سيرة عقلائية مبنيّة على قواعد عقلية.

النتيجة: علم الأصول مبنيّ على قواعد عقلية.

والمقصود بعقلائيته قابليته للاستدلال، وأنّه ليس تعبُّدياً. وهي النتيجة التي سنحاول إثباتها، والتوصل إليها، عبر البحث في بعض القواعد الأصولية، وكيفية الاستدلال فيها.

من خلال ما سبق نستنتج أنّ الحكم بعقلائية علم الأصول من الأمور المعلومة عند علماء الأصول. وهنا لا بُدَّ من الإشارة إلى أن لازم التصريح بأنّ السيرة العقلائية تقوم على أدلّة عقلية ـ كما قال بذلك العديد من الأعلام، أمثال: العلامة الطباطبائي؛ والسيد البروجردي ـ عقلائيّة علم الأصول. ونرى البعض قد صرَّح بذلك في مقدّمة كتبهم: «بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين. قضايا وجدانية انتظمت في فصولٍ يحكم بها العقل السليم، والفطرة الموهوبة التي فطر الناس عليها، لتكمل النعمة، وتتمّ بها الحجّة؛ لئلا يكون للناس على الله حجّة»([46]).

 

النتيجة

تنقسم أحكام العقل بلحاظ الاضطرار إلى: أحكام اضطرارية؛ وأحكام غير اضطرارية.

الأحكام الاضطرارية هي تلك المجموعة من الأحكام التي يكون الإنسان مجبراً ومضطراً للعمل بها؛ لحفظ بقائه واستمرار حياته، نظير: الأكل والشرب، العمل بالظواهر، وأمور أخرى مماثلة. وميزة هذه الأحكام أن البعد العملي فيها أقوى من البعد العلمي؛ لأنها بلحاظ البعد العلمي لا تحتاج إلى التأمُّل ودقّة التفكر فيها، كما لا تحتاج إلى الاستدلال؛ لأن ضروريتها في الحياة جعلتها بديهيّة، حتى أن استدلاله عليها يأخذ شكلاً بسيطاً، بعيداً عن التوغُّل البرهاني والاستدلالي. وهذا هو السبب الذي جعل الناس يغفلون عنها كأحكام عقلية، واتَّخذ البعد العملي فيها شكل السيرة العقلائية، بشكلٍ غطّى عن البعد العلمي فيها. وقد أكد علماء الأصول مرّات ومرّات على أن استبعاد الأصول العقلائية لازمه إيجاد الاختلال في نظام الحياة. واذا كان الإقرار بهذا المستوى فكيف أمكن قول بعضهم: إن السِّيَر العقلائية ليست لها الكاشفية (الكشف عن الواقع)، في حين أن دليل العديد من الأحكام العقلية يرتكز على الاختلال أو عدم الاختلال في نظام الحياة؟! إذاً فسِيَر العقلاء ترجع إلى العقل، وبهذا تكون لها الحجّية الذاتية. ولأن الشارع له الاختيار الجزئي فإنه بالنسبة إلى موقفه في التصرُّفات الاحتمالية والجزئية صار الرجوع إليه واجباً. ووفق هذا المبنى يصبح ممكناً تحديد حدود السيرة العقلائية. لكنْ لأن السيرة سلوكٌ صرف، وسلوك الإنسان يكون مبتلىً بالجهل والهَوَس والضجيج، ما يجعله لا يملك أن يشخِّص الحقّ من الباطل، والحجة من اللاحُجّة.

ومن خلال هذه التوضيحات فعلم الأصول، الذي هو علم مبنيّ على القواعد المحصَّلة من البناءات العقلائية، هو علم عقلائي. والمستخلص من هذه النتائج خروج علم الأصول من ضيق التحليلات التعبُّدية، لينفتح على المحيط الاستدلالي العقلي. ومن خلال التناغم والتناسق بين القواعد الأصولية وكيفيتها ونظمها سيكون له الأثر الكبير في تعميق وتوسيع عملية الاستنباط.

الهوامش:

(*) باحثٌ وأستاذ في الحوزة العلمية.

([1]) الأصول العامة، النصّ: 191.

([2]) أصول الفقه 2: 320.

([3]) الرسائل 1: 320.

([4]) مطارح الأنظار: 249.

([5]) أصول الفقه 2: 91.

([6]) أنوار الهداية 1: 105.

([7]) لقد تحدّث الأصوليون عن السيرة العقلائية وضرورتها حين حديثهم عن الأمارات الأصولية والقواعد الفقهية. وبعبارة أخرى: إنّ كلامهم في الاضطرار ضمن المبنى العقلي ليس لإثبات الاضطرار لكلّ البناءات العقلية، وإنما كان لغرض الإثبات الجزئي، أي تلك المجموعة من البناءات التي استعملت في الأصول والفقه على أنها إذا رفعت حصل الاختلال في نظام الحياة وفسد نظامها.

وهنا قد يرد إشكال على هذا المقال؛ إذ نسعى إلى إثبات الاختلال والاضطراب بالنسبة إلى كل السيرة العقلائية، وليس لجزء منها، وهو ما يخالف رأي العلماء الذين أثبتوا الجزئي، دون الكلي.

والجواب على هذا الإشكال:

أولاً: إن المقال ليس في صدد نسبة القول بالاضطرار الكلّي في البناءات العقلية إلى الأصوليين. وسنعمل على نقل آرائهم، وتبيينها بكل أمانة.

ثانياً: الهدف الأصلي لهذا المقال هو البحث في ذلك القسم من السِّيَر العقلائية التي هي مورد الاستعمال في الفقه والأصول، وقبول وجود الاضطرار فيها يفي بغرض الفقيه.

ثالثاً: إن الإثبات الجزئي في مباحثهم لا يعني انتفاءه في باقي الموارد. ومن خلال تنقيح المناط في كلامهم نستطيع إثباته بنفس المقدار والكيفية لباقي الموارد، دون اختلاف.

رابعاً: الإثبات الجزئي ضمن الإشكال الذي ستتناوله المقالة يكفي على المبنى المشهور. فالمقال في صدد البحث عن السبب وراء عدم التزام علماء الأصول بعقلائية السيرة، في حين نجدهم مذعنون بالاضطرار في البناء العقلائي، وذهابهم إلى ضرورة إثبات عدم الردع للقول بالحجية.

([8]) السيد الطباطبائي، حاشية الكفاية 2: 205.

([9]) الخميني، الرسائل 2: 123.

([10]) بحر الفوائد 1: 36.

([11]) تهذيب الأصول 3: 144.

([12]) حاشية الكفاية 2: 205.

([13]) حاشية الكفاية 2: 212.

([14]) المصدر نفسه.

([15]) السيد حسين البروجردي، نهاية الأصول 1: 472.

([16]) المصدر نفسه.

([17]) نهاية الأصول: 519.

([18]) المصدر نفسه.

([19]) السيد محمد تقي الحكيم، الأصول العامة: 193.

([20]) المصدر السابق: 192.

([21]) أصول الفقه 2: 172.

([22]) الأصول العامة: 192.

([23]) الشهيد الصدر، دروس في علم الأصول 2: 115.

([24]) أنوار الهداية 1: 105.

([25]) مطارح الأنظار: 249.

([26]) أصول الفقه 2: 91.

([27]) المصدر السابق: 142.

([28]) الإمام الخميني، الرسائل 2: 123.

([29]) حاشية الكفاية 2: 205.

([30]) الرسائل 2: 123.

([31]) أصول الفقه 1: 227.

([32]) المصدر السابق: 228.

([33]) السيد محمد جعفر المروج الشوشتري، منتهى الدراية 7: 55.

([34]) حاشية الكفاية 2: 205.

([35]) البروجردي، الحاشية على الكفاية 2: 130.

([36]) ولا ينافي هذا أن العلم حسنٌ من جهة أخرى، وهي كونه كمالاً للنفس، والجهل قبيحٌ؛ لكونه نقصاناً.

([37]) نهاية الأصول: 519.

([38]) الرسائل 1: 320.

([39]) مجلة «كاوش نو در فقه»، العدد 62.

([40]) «المبحث الأول في إمكان التعبُّد بالطرق والأصول».

([41]) فوائد الأصول 4: 91.

([42]) أنوار الهداية 1: 194. ويقصد بالمحقِّق المتقدِّم الشيخ النائيني في كتابه فوائد الأصول 4: 91.

([43]) المصدر السابق: 105.

([44]) منتهى الأصول 2: 113.

([45]) المصدر السابق: 4.

([46]) الأصول المهذبة: 66.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً