الحداثة وما بعد الحداثة التعريف، الميزات، الخصائص
رضا دلاوري
ترجمة: حيدر حب الله
قبل البحث في ما بعد الحداثة، من الضروري الإشارة إلى الحداثة نفسها بوصفها حقيقةً تاريخية ثقافية، وبعد ذلك ندخل في بحث ما بعد الحداثة، لنقارن بينها وبين الحداثة نفسها.
الحديث (Modern) كلمة مشتقة من أصل لاتيني (modernus)، وقد حظي التحديث بانتشار واسع في اوروبا عقيب عصر التنوير (Enlightement)، وفي تلك الحقبة نفسها، أظهر الإنسان الغربي اعتماداً أكبر على عقله، وقد اتخذ هـذا الاعتماد على العقـل في مجمله طابـع العقلانية الشـكلية (Formalistnationality).
لعله يمكن – وبصورة إجمالية – تعداد الخصائص الأيديولوجية الرئيسية للحداثة، والتي تمثل بدورها خصائص التنوير على الشكل التالي:
1- الاتكاء على قدرات العلم والعقل الإنساني بهدف معالجة الأمراض الاجتماعية.
2- التأكيد على مفاهيم من قبيل التقدم (Progress)، والطبيعة (nature)، والتجارب المباشرة ( Direct experience).
3- المعارضة الواضحة للدين.
4- تعظيم الطبيعة، وعبادة الإله الطبيعي.
5- في المجال السياسي، كان هناك الدفاع عن الحقوق الطبيعية الإنسانية بواسطة حكومة القانون، ونظام الحيلولة دون سوء الاستفادة من السلطة.
6- أصالة الإنسان، أي أنسنة المجتمع، وكذلك أنسنة الطبيعة(Antropomorphism)
7- الاتكاء بشكل أساسي على المنهج التجريبي والحسي قبالَ المنهج القياسي والفلسفي.
8- الوضعية بوصفها البنية المنهجية للحداثة.
وبالإضافة إلى المميزات والخصائص المتقدمة، كانت للحداثة بوصفها حركةً تاريخية تمظهرات مختلفة في مجال الفلسفة، والثقافة، والاقتصاد، والسياسة، وعلم الاجتماع … وكمثال، مثّلث الفوردية (Fordism) خصيصة من خصائص الحداثة في مجال الاقتصاد، أما في مجال علم الاجتماع فهناك تجاوز لمرحلة التقليد إلى مرحلة التجدد وإيجاد مجتمع صناعي، وفي الثقافة كان هناك ظـهور لنوع مـن النخبوية (Elitism)، وفي الفلسفة نزعة مادية ماتريالية (materialism) طبيعية (Naturalism) ودنيوية (Secularism)، وفي العلم برز المنحى الميكانيكي (Mechanistic)…
والآن نشرع ببحث إجمالي لأهم الأسس الرئيسية للحداثة، وهي أصالة الإنسان، والعلمانية، والوضعية، وأصالة العقل، حيث تحوز هذه الخصائص على أكبر وأهم تأثير في تكوين وتكامل الحداثة أيديولوجياً.
1- الإنسيّة وارتباطها بالحداثة (humanism)
تعد الحداثة من الناحية التاريخية حصيلة عصر النهضة، ومن عصر النهضة أيضاً تنطلق الإنسيّة أو محورية الإنسان، وتطرح أصالة الإنسان فكرة محوريته بصورة مستقلة عن الله والوحي الإلهي، ويمكن اعتبارها بمثابة الجوهر والروح الباطن للاتجاه الحداثوي.
ويكتب رينيه غنون فيما يرتبط بالجوهر البنيوي لأصالة الإنسان، فيقول: «برزت الإنسيّة في صورتها الأولى نفيٍاً للروح الدينية في العصر الجديد، وحيث كانوا يريدون بوتقة كل الأشياء في الميزان البشري، تلك البشرية التي تحوّلت إلى غاية وحدّ لذاتها، لكنها – الإنسيّة – في النهاية أسقطت الوجود البشري وبشكل تدريجي إلى أحطّ الدرجات».
2- العلمانية الوليد الأبرز للحداثة
في إطار الحداثة يفتقد الدين مركزيته التي كان يتمتع بها في مجال الحياة الاجتماعية والسياسية، وينعكس بصورة دساتير وتعاليم أخلاقية وشخصية. إن النظرة الحداثوية للدين مجرد نظرة براغماتية نفعية، ولابد من اعتبار الاعتقاد بعلمنة الحياة الاجتماعية والسياسية بمثابة واحدة من مميزات الحداثة والتفكير الليبرالي، أي الاعتقاد بأن الدين إما أنه لا يجوز أن يكون له وجود أساساً أو أنه إذا كان له وجود فلابد من جعله أمراً شخصياً مؤطراً في إطار العبادات والأحكام الفردية، فلا يسمح للدين أن يكون مركز ثقل في الحياة السياسية والاجتماعية، بل لا بد له من التموضع في إطار المشهورات والتصديقات الإنسانية.
لعلّه يمكن – وبصورة موجزة – بيان أهم مظاهر العلمانية على الشكل التالي:
1- الرؤية الدنيوية أو دنيوية الحياة البشرية.
2- أفول أو انحسار تأثير الميتافيزيقيا وما بعد الطبيعة.
3- النظرة المادية للأخلاق.
4- الهداية العقلية.
كما تمكن الإشارة إلى عدّة مدارس كان لها تأثير في تكوّن العلمانية وظهورها، وهي الإنسيّة (Humanism)، والقومية (nationalism)، والى حد معين المذهب العلمي (Scientism) والذي بلغ أوجه في المدرسة الوضعية (Positivism)، كما مثّلت الليبرالية (Liberalism) واحداً من الأعمدة التي انبنت عليها العلمانية.
وتجدر الإشارة إلى أن الجذور الفلسفية للعلمانية ترتبط بمذهب التداعي لجيمز ميل (James Mill)، ومذهب أصالة الفائدة (Utilitarianism) لجيرمي بنتام ( Jermy Bentham).
3- الوضعية منهجُ الحداثة
لابد من الالتفات إلى وجود تداخل هام وأساسي بين الوضعية والحداثة، فالحداثة تؤخذ بوصفها أيديولوجيا الوضعية، فيما تمثل الوضعية المنهج لها، ويمكن أيضاً اعتبار البنية الأصـلية للعلوم المعاصرة، سيما النظريات الجديدة في العلوم الاجتماعية والسياسية بأنها بنية وضعية، تلك الوضعية التي كانت في الواقع ثورةً على الفلسفة والميتافيزيقيا، وغضباً مناهضاً للاتجاهات الدينية والأحكام الأخلاقية.
من وجهة نظر الوضعية، الدين جزء من التاريخ الذهني للإنسان لا غير، وليست له أية واقعية خارجية، الله عبارة عن مفهوم يصنّف جزءاً من التاريخ الفكري للبشر، إن من أهم الوسائل التي استخدمتها الوضعية في حملتها ضدّ الدين كان التشكيك في صدقية القضية الدينية وكونها ذات معنى بما لا نستطيع احتواءه ضمن هذا المختصر.
إذن، يمكن لنا قراءة النظريات الجديدة التي طرحت في القرن العشرين من ناحية معرفية ومنهجية في السياق الوضعي، ومن ناحية مضمونية في إطار الحداثة.
المذهب العقلي والاعتقاد بالعقل أساساً للمعرفة
المذهب العقلي – في الواقع – اتجاه فلسفي يرجع إلى القرنين السابع والثامن عشر الميلاديين، ومن وجهة نظر المؤيدين لأصالة العقل من غير المقبول أن تكون المكاشفة والشهود مصدراً من مصادر المعرفة الواقعية، ويعتقد مناصرو الاتجاه العقلي أن البراهين القياسية (Deductive) أو الاستقرائية (Inductive) يمكنها أن تمنحنا اطلاعاً دقيقاً وقابلاً للاطمئنان عن العالم.
لقد ساد اعتقاد في علم الاجتماع بتلازم المذهب العقلي مع وضعية القرن التاسع عشر، لقد كانوا يعتقدون بأن الهدف من الإرجاع إلى العقل الإنساني ليس هو المعرفة فحسب، بل إن رفاهية الحياة الاجتماعية كانت هي الأخرى مأخوذةً بعين الاعتبار، بعبارة أخرى لم يجر فهم العقل بوصفه ظاهرةً مسقطة مسبقاً من الأعلى، وإنما هو استعداد ينبغي أن يحظى بشمولية أكبر، وأن تخضع الحياة الاجتماعية والسياسية على أساسه لتحوّلات.
وهنا، لابـد من التمييز بين العقلانية (Rationality) ومذهب أصالة العقل (Rationalism) والعقلنة (Rationalization).
مفهوم حصول العقلانية كان يعدّ أساس تحليل ماكس فيبر للرأسمالية الحديثة، إذ يستبطن تحقيق العقلانية في السياسة – من وجهة نظره – أفول القيم التقليدية للشرعية، واتساع نطاق البيروقراطية.
5- تأثير الإسمية أو أصالة التسمية
في ظهور التفكير الحداثوي
يعني المذهب الإسمي (Nominalism) الاعتقاد بأن ما له وجود في هذا العالم إنما هو الأسماء لا غير، أما التصورات المجرّدة والمجردات فليس لها من وجود ولا واقع، والشيء الذي له ارتباط وتعلّق بهذا العالم إنما هو الكلمة فحسب، والفرد والمنفردات هي التي لها وجود واقعي تتعلق الأسماء به.
ويشتدّ توافق المدرسة الإسمية مع الفلسفة المادية والمذهب التجريبي، غيوم دوكام واحد من أشهر إسميي القرون الوسطى، وبلومن برغ في كتاب «شرعية العصر الجديد» وحول دور المدرسة الإسمية في تهيئة الأرضية للحداثة والتفكير الحداثوي، لديه اعتقاد بأن الإسمية – وبشكل غير مباشر – كان لها تأثير في نمط التفكير الحداثوي، ومن وجهة نظره فإن المذهب الإسمي بجعله المفاهيم الإلهية المسيحية مطلقة ومن ثم جعلها بلا معنى ولا ربط، هيء الفرص لظهور التفكير الحداثوي.
6– الحداثة والمنحى الميكانيكي للعلم
التمثيل الميكانيكي حصيلة القرن الخامس عشر وما بعد، وأهم خصوصيات الأنموذج الميكانيكي هي:
أ – الأنموذج الميكانيكي يقول بقابلية أي أمر يقع في مجال التمثيل للتجزئة، فرانسيس بيكون التجريبون كافّة يعتبرون أن الشرط الأول للعلم هو قابلية التجزئة، ومن وجهة النظر هذه يعدّ المجتمع مجموعة أجزاء ذات استقلالية، يتمظهر المجتمع ويتبلور عبر تركيبها.
ب – الأجزاء لابد أن يكون لها حالة علاقات متقابلة (Interaction).
ج – الأنموذج الميكانيكي – على عكس الأنموذج العضوي – غير قابل للرشد.
ويرى مفهوم الأنموذج الميكانيزمي أن الظواهر الاجتماعية مثل المجتمع والدولة تعدّ ظواهر مصطنعة، إن فكرة العقد الاجتماعي والتي تأخذ حيزاً رئيسياً من تاريخ النظريات السياسية تبتني على مثل هذه النتائج.
وهنا من الضروري البحث عن الفرق الموجود بين الحداثة والتحديث بمعنى التجدد، لقد كانت نظرية التجدد واحدةً من النماذج المهيمنة لعلم الاجتماع والعلوم السياسية الأمريكية في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، والتي ذهبت – وبهدف توضيح آثار ونتائج التغييرات الشاملة التي تتمكّن المجتمعات التقليدية عن طريقها من تحديث نفسها وإعادة بناء ذاتها من جديد – إلى القول بأن التجديد يتطلب إحداث التنمية في مختلف البنى والمؤسسات من قبيل الأحزاب، والبرلمان… واتخاذ القرارات على أساس مشاركة الشعب، وخفض معدلات الأمية، وتشجيع ظاهرة استيطان المدن، وأمور أخرى أيضاً.
وقد تعرّضت هذه النظرية لسيل من اعتراضات، كان منها أن التجدد مبني على التنمية التي حدثت في الغرب، وهذا الأنموذج إنما حدث على أساس مجتمعات وملل معينة.
وفي الحقيقة، لابد هنا من الإشارة إلى أنّ النظريات الجديدة في علم الاجتماع والعلوم السياسية كافّة، والقاسم المشترك ونقطة الاتصال بين كل هذه النظريات… ترجع إلى أيديولوجيا الحداثة والتحديث (Modernization)، ويمكننا هنا الإشارة إلى مجموعة أشخاص شكّلوا أبرز الشخصيات في مجال النظريات الجديدة للعلوم السياسية في الخمسينات والستينات من أمثال تالكوت پارسوتز، وغابريل آلموند، وديفيد ايستون، وكارل دويج، وقد قام هؤلاء أيضاً بدراسة النظريات الحداثوية ونقدها.
وفي الستينات والسبعينات، وبصورة تدريجية وفي مجال العلوم السياسية، ظهر ما يمكن تسميته بالجيل الثاني لمنظّري الحداثة أو الذين عرفوا بدعاة تجديد النظر، وفي الحقيقة شكّل هذا الفريق جيلاً انتقالياً من النظرية الحداثوية إلى نظرية ما بعد الحداثوية، بمعنى أنهم كانوا يقبلون بمبدأ ضرورة انتقال المجتمعات التقليدية إلى المجتمع الحديث، بيد أنهم – وفيما يتعلق بأسلوب الانتقال ومراحله ومفهوم التجدد والحداثة – قاموا بطرح مجموعة من الأبحاث مثيرين إشكاليّات مختلفة، ومسجّلين جملة انتقادات على الجيل الأوّل للمنظّرين الحداثويين.
ومن جملة الأشخاص الذين سجّلوا انتقاداتهم على النظريات الحداثوية والترابطية الكاتب الأمريكي غاسفيلد، وآندره غوندر فرانك، ويعدّ آندره من المنظرين المعروفين لنظريات الترابط، وقد سجّل انتقاده – وبصورة مباشرة – على نظرية المقابلة التي تجعل المجتمع التقليدي قبال المجتمع الحديث.
وقد تعرّضت الحداثة – من ناحية معرفية ومنهجية – للانتقاد أيضاً، وتمكن الإشارة هنا إلى الاعتراضات التي سجّلت على المذهب الوضعي بوصفه منهجاً للحداثة. وإذا أردنا الرجوع ووضع اليد على الجذور الأولية للانتقادات التي طالت الحداثة فلا بد لنا من العودة إلى القرن التاسع عشر، حيث سنلاحظ انتقادين رئيسيين وجّها إلى المذهب الوضعي.
المجموعة الأولى من الانتقادات طرحت من جانب ماركس والماركسيين، والتي انتهت إلى حدوث الانقسام بين الماركسيين أنفسهم، وفي هذا المجال، يمكن الإشارة إلى رايت (E.olinWright) واحداً من الناقدين الذين قاموا بتسجيل انتقاداتهم على المنهج الوضعي في نطاق المباحث الديالكتيكية، كما يمكننا ذكر نظريات مدرسة فرانكفورت في القرن العشرين، والتي تعد من جملة الماركسيين غير الوضعيين، ومدرسة فرانكفورت (Frankfurt school) تعبير يطلق على أولئك العلماء من اليهود المشتغلين بالعلوم الاجتماعية، والذين كانوا قد هاجروا من ألمانيا، ويمكن ذكر آدونو، ودبليو بنيامين، وإريك فروم، وفرانتس نويمان، وهوركهايمر، وماركوزه بوصهم أبرز رجالات هذه المدرسة، ويعدّ بعض هؤلاء – من أمثال ماركوزه – أبرز المعارضين للمذهب الوضعي، ليس فقط في نطاق المسائل الماركسية فحسب، بل في مجمل العلوم الاجتماعية في القرن العشرين، وأهمّ المسائل التي ركّز هؤلاء عليها هي:
1-نشر التحليل النقدي الاقتصادي في الماركسية الأورثوذكسية والرسمية وبسطه أيضاً.
2-وضع بناء معرفي لائق ومناسب، ونقد الرأسمالية الحديثة.
3-إقحام التحليل النفسي الفرويدي في النظريات الاجتماعية لماركس.
4-شنّ حملة على العقلانية الأداتية (Rationality Instrumental) بوصفها أصلاً أساسياً للمجتمع الرأسمالي.
ما بعد الحداثة
في الوقت الراهن، وبعد سقوط المعسكر الشيوعي، هناك حركة جديدة ضدّ الحرية والعقل، ولا تقف هذه الحركة عند حدود الأدب والفنّ المعماري، بل تتعدّاه – وما تزال – إلى علوم أخرى نظير الحقوق، والأخلاق، والسياسة، والاجتماع، والاقتصاد.
من ناحية لغوية (post) لها دلالة أكثر على استمرار أمر ما، وما بعد الحداثة لا تعني نهاية الحداثة، بل تعني نقدها واستمرارها أيضاً.
وقد استفيد من هذا المصطلح في تاريخ الأدب الأسپاني عقيب الحرب العالمية الأولى، وفي تاريخ الأدب الأمريكي اللاتيني في الفترة الفاصلة بين الحربين العالميتين.
وفي الواقع، لا تتجلّى في ما بعد الحداثة سوى نفس تلك الأسئلة الأساسية التي حملتها الحداثة نفسها، مع فارق، وهو أن هذه الأسئلة قد طرحت هذه المرة بشكل واعٍ أكثر.
ووفقاً لما تقدم، من الضروري عدم الخلط بين مفهوم ما بعد الحداثة وبين المجتمع ما بعد الحداثوي أو ما بعد الصناعي.
فقد طرح المجتمع ما بعد الصناعي للمرة الأولى – ليلقى صدىً – من قبل دانيل بيل في كتابه ( The Comail of post-industrailsociety)، وذلك في سنة 1974م بهدف توصيف التغييرات الاقتصادية والاجتماعية في أواخر القرن العشرين.
وقبل البحث في خصائص المجتمع ما بعد الصناعي، نحاول تبيين مميزات المجتمع الصناعي في البداية بصورة موجزة، وهي:
1-وجود دول قومية ووطنية منسجمة مستفيدة من التجانس القومي والثقافي، تقوم بإحداث تشكيلات مبنية على ثقافة ولغة مشتركة.
2-التصنيع التجاري.
3-سيطرة الصناعة الآلية، ومأسسة الصناعة في المصانع.
4-تحويل المجتمع إلى مجتمع مدني، مقابل الريفي.
5-النموّ العام فيما يرتبط بمستوى التحصيلات العلمية، ومحو الأمية.
6-ربط العلم بمختلف ساحات الحياة، وعقلنة الحياة الاجتماعية تدريجياً.
7-استفادة الشعب من حقّ إبداء الرأي والمشاركة في الانتخابات، وموضعة مختلف الأمور والنشاطات السياسية حول الأحزاب.
أما المجتمع ما بعد الصناعي، فهو يتشكّل في الاقتصاد على صورة زوال تصنيع البضائع والصناعات واستبداله بنظام الخدمات، ومن مميزات هذا المجتمع أيضاً بناء الاقتصاد فيه على العلم وحملة الإجازات والأخصائيين، الذين يشكّلون العنصر الأساسي للطاقة الإنسانية.
وكذلك، لابد من التنبّه أيضاً إلى الأبحاث التى طرحها آلوين تافلر فيما يرتبط بالتغيّرات التكنولوجية، حيث من الضروري أن لا نتلقّاها أبحاثاً متعلقةً بما بعد الحداثة، بل لا بد من التفتيش عن معنى ما بعد الحداثة بصورة أساسية في الاتجاهات الفكرية التي برزت في أواخر القرن العشرين، لا في التحولات التي ظهرت من الناحية التكنولوجية، كما هو التصوّر العام السطحي لما بعد الحداثة والذي يتناسب مع مثل ذلك.
يعتقد تافلر، بأن العالم قد مرّ بثلاث مراحل للتحديث، ونحن الآن على أعتاب المرحلة الثالثة، ويعالج كتابه «تداول السلطة» موضوع بناء الدولة في المرحلة الثالثة، وهو يعتقد أن حالة التضاد الموجودة اليوم في عالمنا المعاصر إنما تنجم عن حالة التضاد المستكنّة بين المراحل التحديثية الثلاث، كما أن سعي البلدان والدول للتنمية ليس شيئاً – عنده – سوى العبور من مرحلة إلى مرحلة أخرى، إذن قراءة تافلر قراءة حداثوية لا ما بعد الحداثوية.
ميزات وخصائص ما بعد الحداثة
ليس ثمّة توافق حول المحدّدات والخصائص لما بعد الحداثة، وكمثال يعتقد ليوتار أن العصر ما بعد الحداثوي هو عصر التشكيك وموت التعاريف المنطقية، وهو – أي التشكيك – نتيجة حتمية للتطوّر الحاصل في العلوم، كما يطرح ليوتار ما يمكن أن يقدّم بوصفه ثقافة معاصرة من قبيل موسيقى الروك، ومشاهدة البرامج الغربية، وتناول وجبات ماك دونالد، والجوارب اليابانية، واللباس الهونغ كونغي والألعاب التلفزيونية، وبشكل مختصر، يمكن تلخيص النظريات والأفكار السياسية لليوتار على الشكل التالي:
1-نهاية عصر ابتكار النظريات أو النظريات الشاملة في مجال السياسة والاجتماع.
2- فقدان نظرية مطلقة في مجال الأخلاق والقيم.
3-التشكيك الأخلاقي (morlskepticism) سوف يفضي في النهاية لا محالة إلى عالم اعتباري أو إلى الاعتبارية.
4-إعطاء أهمية استثنائية للمعنى، وإضفاء معنى على العالم، وجعل المعنى خاصّاً وشخصياً.
ويذهب جيمسون إلى أن عوامل ظهور ما بعد الحداثة عبارة عن:
1-فقدان العمق وضعف النظرة للتاريخ.
2-الخمود العاطفي الذي حصل في العصر ما بعد الحداثوي.
ويرى إبغلتون أن العصر ما بعد الحداثوي هو عصر فكّ الاستقلال الذاتي عن الفنون الأصلية، وهو – أيضاً – عصر زوال الحدود ما بين الثقافة والمجتمع السياسي.
لابد من الالتفات، إلى أنّ مجال استخدام مفردة «ما بعد الحداثة» ونفوذها كان لافتاً للنظر، وجدير بالاهتمام الإشارة إلى الموارد التالية وهي:
1-الموسيقى (استكاك هازن – هالي وي – لوري آندرسون – وترديسي).
2-الفن (ماخ – راوشن برغ – وباسيلنز).
3-الرواية (بارث – بالارد – وداكترو).
4-الفيلم (أفلام (Wether by) و(Thewedding) و (Body Heat).
5-التصوير (شرمان – لوين – يرنيس).
6-المعمارية (خبغز – بولين).
7-الأدب (إسپانوس – حسن – فيلور).
8-الفلسفة (ليوتار – دريدا – بادريلارد – وريتشارد رورتي).
9-علم الإنسان (كليفورد – ماركوزه – تايلر).
10-علم الاجتماع (دنزين).
11-الجغرافيا (soja).
ولعله تمكن الإشارة لخصائص ومميزات ما بعد الحداثة بصورة مفهرسة على الشكل التالي:
1-في علم النفس، إنكار الفاعل العاقل والمنطقي.
2-نفي الدولة بوصفها أنموذجاً للهوية الوطنية.
3-إلغاء الأنظمة الحزبية وأنشطتها السياسية بوصفها منافذ حصرية وتصوّرات جمعية.
4-الترويج للنسبية الأخلاقية.
5-معارضة السلطة أو الدولة الحديثة المركزية.
6-معارضة النمو الاقتصادي المؤدي إلى تلويث البيئة.
7-معارضة إلغاء الثقافات المتعدّدة لصالح ثقافة مهيمنة.
8-مخالفة النـزعة العرقية.
9-معارضة المراقبة البيروقراطية للصناعة والإنتاج.
10-إخضاع الرؤى والأفكار كافّة التي تحظى بقبول المجتمع للتساؤل والاستفهام.
11-التشكيك بقدرات العقل الإنساني، ورفض العقلانية، وأيضاً رفض واسع وشامل للتنوير.
12-معارضة البرامج الموزونة والمتمركزة القائمة على جهود الأخصائيين.
13-الاعتراف بالمذهب النسبي (Relatirism).
14-الاعتقاد بنهاية صراع الطبقة العاملة، واستحالته إلى داخل قلب النظام الرأسمالي.
15-الإعلان عن الدخول في مرحلة جديدة هي: ما بعد التاريخ.
من زاوية ايبستمولوجية، النظرة ما بعد الحداثوية نظرة هرمنيوطيقية تفهّمية، هانس غادامر واحد من أبرز أنصار هذه الرؤية، وقد بيّن نظرياته في كتابه «الحقيقة والمنهج» (Warheit and Method) هادفاً – وبالاستعانة بالفلسفة الهايدغرية – إلى إعادة طرح أسئلة العلوم الإنسانية، ويعتبر غادامر أنّ وضع الحد الفاصل بين الذات والآخر يعدّ فرضية قبلية أساسية للعلوم الإنسانية، هذه الفاصلة تتبلور في رؤية جديدة تقوم على أساس التقابل بين الذهني والعيني، وقد فصّل غادامر هذه النقطة على مستوى محاور ثلاثة هي: علم الجمال، والتاريخ، واللغة.
وتمثّل فلسفة غادامر – بشكل عام – حصيلة تركيب اتجاهين أو حركتين نسمّي الأولـى بالحركـة مـن الهرمنيوطيقا الخاصة regional)) إلى الهرمنيوطيقا العامة (general)، والثانية بالحركة من علم المعرفة في العلوم الإنسانية إلى علم الوجود.
وإذا كنّا في بحث الحداثة قد جعلنا الوضعية منهجاً لها، فلعلّنا نتمكّن هنا من اعتبار الاتجاه الهرمنيوطيقي – على وزان الوضعية – بمثابة المنهج لما بعد الحداثة، ولا شك أن الهرمنيوطيقا لها تاريخ طويل وجذور ممتدّة في جملة مسائل كان لها ارتباط بالتفاسير الإنجيلية، ويمكننا مشاهدة هذا الأمر في آثار البعض من أمثال دبليو ديلتاي وويندلباند (Windelband) وكارل مانهايم أو ريكرت (Rickert)، وبصورة عامة فإن البحث التفسيري أو التأويلي للنصوص يعدّ قسماً من الانتقادات التي تبلورت في علم الاجتماع من الوضعية.
نقد ما بعد الحداثة
نشر عام 1975م في إحدى الصحف الأمريكية بحث حمل عنوان «موت ما بعد الحداثة»، فيما كتبت صحيفة أخرى، أن ما بعد (ما بعد الحداثة) صار أمراً واقعياً وحقيقياً وأساسياً أيضاً. لقد سجلت – حتى الآن – الكثير من الانتقادات على ما بعد الحداثة، ويمكن الإشارة إلى ملاحظات بورغن هابرماس بوصفها أهمّ هذه الملاحظات.
فقد شرع هابرماس عام 1981م بحملات نقد شديدة ضدّ المناصرين لما بعد الحداثة، واعتبرهم محافظين جدد (Neo-conserratism)، كما اعتبر نظريتهم نظريةً ما قبل الحديثة (Premodern)، لقد وجه حملاته إلى أنصار ما بعد التحديث خصوصاً ليوتار وفوكو، ولم تكن اعتراضاته عليهم فقط، بل كانت له مناظرات أيضاً مع كارل پوپر وهانس آلبرت حول الوضعية، ومع نيكولاس لوهمان حول نظرية الأنظمة، ومع هانس غؤرك غادامر حول الهرمنيوطيقا، ومع كارل آتوآپل حول الأخلاق.
ويعدّ هابرماس من الأشخاص الذين تربطهم علاقة قوية بالمشروع والبرنامج الحداثوي، فلم يكن يريد تنحية هذا المشروع جانباً، وكذلك كانت له هجمات عنيفة على المثقّفين الفرنسيين. مقدّماً نفسه واحداًٍ من محافظي المشروع الحداثوي، واصفاً فوكو بالمناهض للعقلانيين، وبادريلارد أحد المحافظين الجدد.
وبالإضافة إلى انتقادات هابرماس لما بعد الحداثة، كانت هناك إجابات أخرى أيضاً من جانب المحافظين والكانطيين الجدد، من أمثال راولز (Rowls ) وأنصاره ضدّ انتقادات ما بعد الحداثويين على القيم الليبرالية.
ويعتقد راولز أن بإمكاننا – بل ويجب علينا – الدفاع عن قيمنا بشكل عقلاني، تلك القيم التي تحوي حقوق الإنسان والديمقراطية، وقد رأى المحافظون أيضاً ذلك، وذهبوا إلى أنه يجب علينا الدفاع عن قيمنا، كما يجب علينا إلى أبعد حدّ ممكن الارتباط بالقيم التقليدية، والرجوع إلى التاريخ.
نقلاً عن مجلة نصوص معاصرة – العدد الأول.