أحدث المقالات

بناء الحضارة الغربية

مكوّنات الحداثة وعناصر النهضة

هُدى العلوي

ترجمة: محمد عبدالرزاق

 بات من الواضح ما أنجزته المعلوماتية من انتشار واسع ومتـزايد، مع سرعة هائلة، في تناقل الأخبار الثقافية، والسياسية، والاقتصادية عالمياً. وكذلك لا يخفى في هذا السياق ما لأساليب وسائل الإعلام الغربية من نفوذ وسيطرة على عصر المعلومات والاتصالات.

وللمعلوماتية ووسائط الاتصال اليوم النصيب الأوفر فيما يطرأ على المجتمعات من تغيير وتحوّل، وليست الجمهورية الإسلامية الإيرانية خارجة عن هذه القاعدة.

ولا يمكننا الوصول تكوين تصوّرات سليمة عن الثقافات المختلفة، إلاّ إذا كانت لدينا خلفية مسبقة لسائر العقائد والاُصول المبتنية عليها تلك الثقافات، وهو ما لا يتحقّق – دون شك – إلاّ بدراسة الجذور والبنى التي كوّنت الركائز الأساسية للحضارة الغربية.

وهذه المقالة ترمي إلى إطلالة سريعة على مسار تبلور الأسس والقواعد المحورية التي نشأت عنها الحضارة الغربية.

وبإلقاء نظرة عابرة على تأريخ الثقافة والفكر الغربي، يمكننا استخراج التقسيم التالي لها:

1 – العصر القديم (من قديم الزمان وإلى القرن الرابع الميلادي).

2 – القرون الوسطى (من القرن الرابع إلى الرابع عشر).

3 – عصر النهضة (من القرن الرابع عشر إلى السابع عشر).

4 – عصر الحداثة (من القرن السابع عشر إلى القرن العشرين).

5 – عصر ما بعد الحداثة (من بداية القرن العشرين وحتى يومنا هذا).

وبديهي، لا يمكننا استقصاء هذه العصور جميعها في هذا الموجز، فهذه المقالة ليست سوى محاولة لقراءة أوّلية للأصول أو الأطر الناتجة عن عصر النهضة، لتسعى – عقب ذلك – إلى ترسيم المراحل الأساسية للفكر الحديث في عصر الحداثة.

لكن، وقبل الولوج في التفاصيل، نَوَدُّ أن نُذكِّر بعصر النهضة، وما خلّف من بصمات على عصر الحداثة.

 

عصر النهضة.. فكرة إجمالية

يعتمد مصطلح (النهضة) من الناحية اللغوية على أربعة معانٍ واستخدامات:

1 – الإحياء، النمو، وتنمية الفنون والتعليم، المتأطرة بالأطر الكلاسيكية التي ظهرت في نهايات القرون الوسطى في إيطاليا.

2 – الفترة الزمنية لهذه العملية أعلاه.

3 – الثقافات وسُبُل التكامل الفني والأدبي من رسم، وعمارة، وموسيقى .. الخ، والتي ظهرت في هذه الفترة وأخذت تنمو وتتـزايد.

4 – كلّ ظاهرة وعملية إحياء، أو تجديد وتنمية من هذا القبيل([1]).

وقد عرّف (دهخدا) النهضة: بأنها عصر التجديد، وإعادة الحياة وتطويرها، أو ولادة جديدة([2]).

وعلى أي حال يمكن القول – بلحاظ المعاني اللغوية – : إنّ عصر النهضة هو النهوض الثقافي الحاصل في أوروبا ما بين القرون الوسطى، وقبل عصر الحداثة (من القرن الرابع عشر إلى السابع عشر)، والذي نشأ عنه ظهور (الرأسمالية) بعد تشييدها على أنقاض (الإقطاعية) و(الكنيسة) في القرون الوسطى.

وبعبارة اُخرى: انتقال الحركة المعنوية والمادية – أواخر القرون الوسطى – من شرق الأرض وسواحل المتوسّط في شمال أفريقيا، إلى السواحل في الجانب الآخر من البحر المتوسّط. فالشعوب التي سادها الركود والعجز لقرون عديدة في الفترة المظلمة، قد أبصرت دُنياً جديدة، ولهذا السبب أطلقوا على هذه الفترة من الزمن اسم النهضة وعصر الأنوار، وتوجهوا فيها لإحياء القيم العلمية والإنسانية، والإصلاح الديني أو إصلاح الكنيسة أو قل: إصلاح التعاليم والديانة العيسوية، إن صحّ التعبير.

ويمكن القول: إنّ اكتشاف قارّة أمريكا، وبزوغ الأمل في القرن الخامس عشر، قد أحدث تحوّلاً في الاقتصاد العالمي، وقد أضفت بعض العوامل – من قبيل الحروب الصليبية، والإخفاق في أداء الكنيسة، وانعدام القيمة العلمية والعملية للتعاليم المسيحية – مسحةً ثقافية وكلامية على التحوّلات الاقتصادية آنذاك.

فيمكن – إذن – اعتبار عدّةٍ من العوامل الاقتصادية والعقائدية والثقافية وغيرها منشأً لظهور عصر النهضة.

ثم إنّ الاستيلاء على مصادر الثروة، واتساع طرق المواصلات التجارية الجديدة وتعدّدها، قد سمح للرأسمالية بالانتشار الواسع، والسيطرة على القوى المضادّة لها، خصوصاً الإقطاعية([3]).

تحت ظلّ هذه الظروف والتحوّلات، بدأ نشاط حركتي النهضة والإصلاح يأخذ مسارهُ؛ وأخذ يعطي لحياة الأوروبيين رونقها الجديد، ويُحرّر أذهانهم من التقليد الأعمى للكنيسة.

ورافق انقلاب عصر النهضة تحوّلات اقتصادية وسياسية، جاءت نتيجة للتحوّل والتغيير في البناءات المعرفية للقرون الوسطى، والتي كانت سبباً في إيجاد تحوّلات في جوانب الحياة الإنسانية برمّتها، وسرعان ما حظيت هذه التحوّلات العامة باعتراف الإنسان الغربي، ذلك لأنّ إخفاق الكنيسة وأربابها لم يترك مجالاً للتشكيك في قبول الثورة الجديد والانصياع لها([4]).

وبإلغاء جميع بني المعرفة في القرون الوسطى، رسم الإنسان النهضوي عصراً جديداً لنفسه، مطالباً بالتجديد في شتّى مجالات الحياة البشرية.

وقد نتج عن هذا التجديد – بعد مراحل التنمية والتقدم السريع – في آخر المطاف (عصر الحداثة)، وبإلقاء نظرة سريعة على الحداثة سوف نتطرّق للأسس والمباني المعرفية لها.

 

الحداثة والتجديد .. نبذة مختصرة

يذكر قاموس اصطلاحات أكسفورد العصري مصطلح الحداثة ويعرّفه بأنه: مجموعة من الأفكار والأساليب الجديدة التي حلّت محلّ الأفكار والأساليب الكلاسيكية (التقليدية)، وهي تشمل جوانب الحياة كافّة فردياً واجتماعياً – بالنسبة للفرد الغربي – وخصوصاً الجانب الديني، وكذلك الفنّ وجماليته([5]).

قاموس العلوم السياسية أيضاً في تعريفه للحداثة يذكر: أنّ الحداثة محاولة لوضع ترابط وتنسيق بين الأنظمة التقليدية وتطوّر العلوم والحضارة.

وفي هذا القاموس أيضاً وتحت مصطلح التجديد نقرأ: أنّ الحداثة هي المظهر الخارجي لحضارة الغرب الجديدة. والتجديد يشكل العناصر الداخلية الفكرية والفلسفية والثقافية للحداثة، وله مجموعة من المفاهيم الأساسية المترابطة فيما بينها([6]).

ويتلخّص مما تقدم أن كلمة الحداثة تعني – اصطلاحاً–: أساليب خاصة في الحياة والمجتمع، ظهرت بعد القرن السابع عشر في أوروبا، وأخذت تكتسب شكلاً من السيطرة العالمية تدريجياً([7]).

إذن، فالحداثة عصر مليء بالنقلات النوعية، فإنّ التقدّم السريع في مجال التكنولوجيا وتحوّلاتها، كان سبباً لنهضة سريعة في باقي المجالات. زِدْ على ذلك ولادة أصول جديدة، تحمل أشكالاً جديدة للمجتمع. لكن المهم في كلّ ذلك هو أن هذه التحوّلات جميعها، من اجتماعية واقتصادية وسياسية، كانت مبتنيةً على أسس معرفية مستجدّة، اسمها: التجدّد. وبعبارة اُخرى يمكن اعتبار الحداثة نتاجاً مظهريّاً واستعراضياً للتجديد، والذي استلهم بدوره تحوّلاته الأساسية من عصر النهضة وما أعقبها.

وعليه، يمكن القول: إنّ هناك مجموعة من العوامل قد رسمت الأطر الأساسية لصورة الحداثة، عوامل من قبيل: الاتجاه الإنساني، العقلانية، الفردية، العلمانية، الديمقراطية، الليبرالية والرأسمالية. وفيما يأتي سنتدارس ثلاثاً من هذه المفردات بقدر ما تتسع له مساحة البحث:

 

أولاً – المذهب الإنساني (Humanism)

1 – تعـريفه: بما أن Humanism ظاهرة وُلِدت ونمت في العالم الغربي، لذا يتحتّم علينا الرجوع إلى المعاجم الغربية لفهم معناها. فـ(بيل إدواردز) يذكر في صدد ذلك فيقول: إنّ الإنسانية في معناها البدائي، وهو مفهوم تأريخي، كانت دافعاً وركناً أساسياً للنهضة، نفس الدافع الذي بحث المفكرون من خلاله عن الكمال الإنساني في عالم الطبيعة والتأريخ، وعن هذا الطريق توصلوا إلى تفسير معنى الإنسان.

فكلمة (Humanism) وبهذا المعنى، مشتقّة من (Humanitas)، والذي كان يعني – في زمن (سيرون) و(فارو) – تحصين الإنسان بمفاهيم كان يصطلح عليها اليونانيون (پايديا) أي الثقافة([8]).

إذن فالاتجاه الإنساني، حركة فلسفية أدبية بدأت في إيطاليا في النصف الثاني من القرن الرابع عشر، وانتقلت إلى باقي الدول الأوروبية، هذه الحركة تُعتبر إحدى العوامل في الثقافة الجديدة، فهي عبارة عن فكرة فلسفية تقضي بوضع قيمة ومنـزلة لعزّة الإنسان وتتّخِذه محوراً لكل شيء، وبعبارة اُخرى هي اختيار الطبيعة الإنسانية وملائماتها ملاكاً ومعياراً في التقويم العام.

ويظهر مما تقدّم أنه يمكن اعتبار (الإنسية) حركةً بدأت نشاطها بعد عصر النهضة، الحركة التي أبدلت محورية الإله بمحورية الإنسان، وهي التي جعلت من الإنسان ميزاناً في تقويم المسائل جميعها، فيما كان ذلك – في القرون الوسطى – يتركّز على الكنيسة وتعاليمها فقط.

2 – مراحل التبلور: لو أردنا أن نتتبّع البذور الاُولى لنشأة المذهب الإنساني، فلا بد من مطالعة الظروف والأجواء التي كان يعيشها الإنسان في القرون الوسطى.

فالإنسان آنذاك كان مسيّراً ومؤدْلَجاً، لا يملك أيّ استقلالية في أمره.

وبعد سيطرة الكنيسة النسبية – في بادئ الأمر – أصبحت لها حاكمية مطلقة على أمور الحياة كلّها، حتى ما كان يتعلّق بالإمبراطور نفسه، فقد سلبت أحكام الكنيسة التعسفية أبسطَ الحرياتِ من المجتمع، فالمضايقة في هذه الفترة من قبل القساوسة كانت تضطر الجميع لإطاعتهم والانصياع إليهم، وعلى ذلك فلم تكن هناك حرية فكرية إطلاقاً، وهذا ما كان يعرقل مسيرة المفكّرين والعلماء.

إنّ تجاهل الإنسان ومطالبهُ، وانسداد باب العلم بوجه العلماء، وأيضاً إهمال حقوق الإنسان الفردية، هذه جميعها عوامل ساعدت على إثارة غضب الناس على الكنيسة وأساقفتها.

وبعبارة أخرى، كان الإنسان في العصور الوسطى متذبذباً بين مدينة الربّ ومدينة الشيطان، حتى أرهقهُ التهافتُ في ذلك، وهناك فروق عديدة بين هاتين الجبهتين، وهو ما ينشأ منه الفصلُ بين معنى السماء والأرض في كينونتهما.

أما إنسان القرون الوسطى، إذا ما أعطى أهميةً لنفسهِ، واعتنى بجسمهِ، فسوف تُسلَب منهُ الربّانية، وتنقطع علاقته بمدينة الربّ، إذْ يُفترض من الربّاني أن لا يعير أهميةً لبدنه([9])، فالاُمور المادية مختصّة بمدينة الشيطان، والاُمور الروحانية (التجردية) مختصّة بمدينة الإله.

ولم يكن يتسنّى لإنسان تلك العصور إقامة علاقة مع ربِه إلاّ بواسطة الأساقفة والقساوسة في الكنيسة. وهذا انتهاك صارخ لحرية الإنسان واستقلاليته([10]).

ونتيجةً لهذه الظروف القاسية، من تجاهلٍ للإنسان واحتياجاته، كان لا بد من ظهور حركة تسترجع الحريات المصادَرة، فبدأت الحركة بإصلاح ديني لتصل إلى إنكار كلّ ما يمتُّ للدين بصلة. فكلّ ما دنّستهُ الكنيسة وأربابها، قد محت الغبار عنه حركةٌ باسمِ (الإنسانية)، والمذهب الإنساني، وأعادت إلى الإنسان ماضيه القديم، وبعبارة اُخرى زمن (الشِرك) واللادين.

لقد كانوا يعتقدون أنّ الإنسان في تلك الأزمان كان متحرّراً من الدين والكنيسة، معتمداً كلّ الاعتماد على قابلياته الشخصية. وأنّ هذا يتحقق بالرجوع إلى الثقافة والأدب الكلاسيكي (التقليدي) والاستعانة بهما([11]).

3 – الأفكار والنشاطات: كان أصحاب المذهب الإنساني في غبطة لليونانيين ممن عاصروا سقراط، لأنّهم في زمن سقراط كانوا يملكون كامل الحرية، والتدخل في المسائل الدينية والسياسية.

لقد كانوا يزعمون – في بداية نشاطهم – أن الانشغال بالفن، وتقديم فنون مختلفة كالرسم والنحت… الخ، من أفضل السبل للفصل بينه وبين الفن عمّا كان عليه في القرون الوسطى. إذْ لم يعد الفن في المذهب الإنساني ليهتمّ بالغيب والآخرة، بل إنّه يرسم كل ما يشاهده بحقيقته العينية، وهكذا أخذ يشقّ طريقَهُ ليؤثّر بنـزعاته الإنسانية على بعض أصحاب الكنيسة أنفسهم، وكان أوّل أرباب الكنيسة انخراطاً في السلك الإنساني (نيكلن الخامس)، الذي كان يترك المناصب الروحانية للأفاضل من أهل العلم، ويقيم وزناً لمكانتهم العلمية([12]).

وهناك فلسفات عديدة في الغرب اعتبرت نتاجاً للفلسفة الإنسانية، كالشيوعية، والبراجماتية (الانتهازية)، والشخصانية.

أما إذا أردنا مطالعة الأفكار في الاتجاه الإنساني واُصوله وآرائه، فنستنتج النقاط التالية:

أ – إنّ الإنسان هو المبدأ الأول والأخير في كلّ شيء، وهو الملاك في التقويم.

ب – من أجل إحياء طاقات قابليات الماضين وتنميتها، يجب الرجوع إلى الثقافة القديمة. وهذا ما يتحقق بدراسة الآداب التقليدية لدى اليونانيين.

ج – التأكيد على حرية الإنسان الاختيارية.

د – إنكار الوسائط بين الربّ والإنسان، من قبيل: القساوسة، والأساقفة.

هـ – حصر القدرة في تعيين المصير بالإنسان ذاتِهِ، باعتباره محوراً للعالم.

و – افتراض المعادلة بين النفس الإنسانية والربّانية.

ز – العقل سيقود البشرية بعد إقصاء الدين عنها.

ح – إمكانية الكفاءة والجدارة الشخصية للأفراد دون إيمانهم بالله.

 

ثانياً – العلمانية:

1 – تعريفها: العلمانية (Secularism): مصطلح إنجليزي مشتق من أصل لاتيني (seculum)، أي الفترة المعينة من الزمن.

يذكر معجم (النشر الجديد) في معاني (secular) مرادفات عديدة منها: التذمّر الديني، ضد الربّانية، العُرفية، والمادية الدنيوية([13]).

هناك تعاريف مختلفة للعلمانية، بعضها ينظر من منظار فكري لها، فمثلاً بعضهم يقول: (العلمانية نظام عقلائي عام، تقوم فيه العلاقة بين الأحزاب والأفراد مع الدولة على أساس عقلي منسجم).

وهذا التعريف ناظر إلى جانب واحدٍ من جوانب العلمانية المتشعّبة؛ لذا فإنّه تعريف غير كامل.

وبعض التعاريف تنظر إلى المسار التكويني للعلمانية، والتي يُفترض خلالها انتقال الحقوق والوظائف، وحتى صلاحيات الكنيسة، للأنظمة غير الدينية.

وترى تعاريف أخرى العلمانية نظاماً فكرياً مترابطاً، ظهر بعد عصر النهضة بوصفه مفهوماً أو رؤيةً كونية، يختلف اختلافاً جذرياً عن المفاهيم الحاكمة في القرون الوسطى، ويتمحور حول الإنسانية، والعقلانية، والتجربة.

بناءً على هذا، هناك إشارة إلى فصل الدين عن السياسة بشكل يضمن عدم تدخل أحدهما بالآخر إطلاقاً([14]).

2 – العوامل المؤثرة في نشوء العلمانية:

تزامنت بدايات عصر النهضة مع إقصاء الكنيسة، وتجاهل الحتميات الإلهية الدينية.

والعوامل التي بلورت العلمانية، تكمن في الإخفاقات ذاتها، التي عاشتها القرون الوسطى، ونذكر منها:

أ – قصور التعاليم والأحكام المسيحية: إنّ سلطة الكنيسة النسبية – في بداية القرون الوسطى – تحولت إلى سلطة مطلقة فيما بعد، ممّا جرفها للطغيان والاستبداد باستعمال القوة، في تصوّر أنها قد أطلق لها العنان في الحكم، في حين أنّ التقدم العلمي والفكري قد وقف بقوة بوجه هذا التحدّي.

فمع تظافر الرؤى الكونية، واتساع باب المعرفة، أعلن مخاطبو الكنيسة أنّ من شروط حكومة الدين عليهم، تقديمها استدلالاً على كلّ ما تطرحه من معتقدات وقوانين، وهذا ما رفضته الكنيسة.

فعدم وجود نظام منسجم وعقلائي، سلب من الكنيسة قوّة الدفاع عن نفسها بموضوعية، ولذلك طالب الناس بحذف المسيحية من المجتمع. زِدْ على ذلك، التناقض الذي كانت تعيشه الكنيسة من أنّها تنفرد بالحقائق والدلائل لنفسها، بدون ملاك ربّاني حصين يجنّبها التحريف، والخرافات الكثيرة التي بدأت تتظافر على الدين، الأمر الذي عرقلَ مسيرة التطوّر والتنمية.

وبعد مرور فترة من الزمن، كان من الطبيعي أن تفقد الكنيسة مكانتها في المجتمع، وأنْ يتوجّه الناس للبحث عن مذهب وقوانين جديدة تحترم مطالبهم الفطرية. فقد كانت الكنيسة تتجاهل أبسطَ الحقوقِ الغريزية، كحب الاستطلاع، والبحث عن الحقيقة والدليل، وهو ميلٌ طبيعيٌ عند كلّ إنسان.

ولمّا لم تكن الكنيسة تمتلك القدرة على بثّ مفاهيمها الدينية وتلقينها، إضافة إلى قصور المفاهيم نفسها عن تلبية احتياجات المجتمع المتنامية، ممّا أفقدها قيمتها عند الناس، انعكس ذلك سلبياً عليها – أي الكنيسة – فكانت ردّة الفعل، أن تجاهلها الناس، ومن ثم جرى إقصائها عن المجتمع تماماً.

ب – الإصلاح الديني: النهضة الإصلاحية الدينية: نشاط شكّل عاملاً من عوامل إقصاء الدين عن المجتمع تدريجياً، وكان من أوائل المنظّرين لهذه الحركة (مارتن لوثر 1483 – 1546م)، فقد طرح آراءً جديدة من أجل إصلاح وتحسين شرعة المسيح(ع)، وإقامة الاستقرار فيها.

وقد أكّد على فكرة أن (كل شخص قسيسُ نفسه)، انطلاقاً من تأييده الفردية وتجشيعه عليها، ولهذا السبب ترجمَ الإنجيل للألمانية. وكان من جملة نظرياته المطروحة فصل الدين عن السياسة، وكان يرى أنّ الملوك يستمدّون قدرتهم من الله مباشرةً، وأنّ مسؤولية الكنيسة تنحصر بالاهتمام بالجوانب المعنوية الروحية فحسب.

وعلى أي حال، كانت النهضة الإصلاحية عاملاً مؤثراً في ظهور نمط فكري جديد، وقد ساعدت على اندحار الكنيسة، وظهور فلسفة سياسية جديدة.

وكان من عواقب هذه الحركة أيضاً، تناحر الفصائل الدينية فيما بينها، ممّا سبَّب هتك حرمة الدين، ومن ثم تمهيد الطريق لظهور العلمانية([15]).

كان مارتن لوثر من القساوسة المسيحيين، وكسائر زملائه لم يكن يعتقد بلزوم وساطة القساوسة لفهم الأناجيل الأربعة، بل كان يذهب إلى أنّ الإنسان بإمكانه أن يُؤدي دور القسيس بنفسه، وبمعونة ما اُوتي من رؤى عقلية يتمتّع بها كلّ إنسان، لذا قرّر أن يقف بوجه التحدّيات والخرافات المفتعلة التي نُسبت للكنيسة والدين.

وعلى هذا فقد خرج ذات يوم على الناس، ووقف في وسط المدينة حاملاً بيده مجموعةً من (صكوك الغفران)؛ ليمزِّقها أمام الملأ العام، ودعى الناس إلى تحكيم عقولهم لفهم الدين باستقلالية.

وقد حارب مارتن لوثر عبادة الخرافات والتـزمُّت، لكن التمادي المفرِط لدى الكنيسة لم يترك مجالاً للإصلاحات داخلها، ولم يبقَ أمامهُ سوى القضاء على الأنظمة والمؤسسات التي ترتبط بالدين، وبهذه الطريقة تهيّأت الأجواء لظهور العلمانية.

3 – القواعد الأساسية للفكر العلماني:

أ – الاتجاه الإنساني: الاهتمام بالإنسان هو الهُوِيَّة الجديدة التي تبنّاها الفكر الغربي، واتخذت هذه النظرية الفكرية من الإنسان نعياراً للتقويم، وقد مرّ تفصيل الموضوع فيما سبق عند الحديث عن المذهب الإنساني.

ب – الاتجاه العقلي (العقلانية):

الأصالة العقلية من المذاهب الفكرية التابعة للعلمانية، وتعني منح العقل صلاحيات واسعة في درك الحقائق، فالحكم النهائي في الحياة البشرية يرجع – بحسب هذه النظرية – للعقل لا غير، والمقصود بالعقل: ما استقلّ عن الوحي والإرشادات الدينية.

لقد كانت للعقل والفكر – فيما قبل عصر النهضة – منـزلة وأهمية خاصة في الأديان الأخر، لكنّ مقصودهم من العقل ذلك الرسول الباطني، أي العقل مع تدخّل واسطة، هي الوحي والمعارف الدينية. في حين تدلِّل الأوامر الإلهية القاضية بلزوم تدبّر الكون وإعمال العقل، والنهي عن التحجّر، كلها تدلِّل على ما للعقل من أهمية بالغة في الدين الإسلامي.

ويبقى الفارق بين العقلانية في عصر النهضة وباقي المذاهب العقلية، في استقلالية العقل عن الوحي والدين. أي التأكيد على أنّ البشر في غنىً عن القوى الغيبية، ويمكنهم أن يرسموا مفاهيم حياتهم بواسطة العقل وحده، هذا التعصّب الفكري تجاه الدين كان نتيجاً لإخفاقات الكنيسة وأربابها، وتجاهلهم هذا العنصر المهم – العقل – ودوره في توازن حياة الإنسان.

وفي حقيقة الأمر، وضع العقل – في عصر النهضة – مقابل الدين، حتى أصبح أساساً في آلية الفكر الغربي.

 

ثالثاً – الليبرالية:

1 – تعريفها: في المعاجم المتداولة سابقاً، كان يُقال للشخص: (ليبرالي) باعتباره الفرد المتحرِّر والمناصِر لإلغاء القيود، والحواجز الاقتصادية، والاجتماعية في العصر الإقطاعي. واليوم يُطلق على الشخص الذي يؤيّد – من الناحية الاقتصادية – عدم تدخّل الدولة أو الحدّ من الرقابة على النشاطات، وبعبارة أخرى، هو الشخص الذي يؤيّد الاقتصاد الجمعي المعتمِد على الأسواق الحرة، والحدّ من المضايقات الاقتصادية. ومن الجانب السياسي يكون مؤيّداً للحكومة البرلمانية، والحريات الفردية([16]).

والليبرالية من أكثر النظريات الفلسفية والسياسية انتشاراً، وأقدمها، ففي القاموس السياسي: تُطلق على الفترة التي شهدت عنفوان الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، وقد كان شعار الليبرالية حينها، هو الحرية في التجارة والأموال. وبما أنّ الإقطاعية وهيمنتها المطلقة كانت تُشكِّل حاجزاً في طريق حرية العمل، فقد أعلنت مخالفة الاستبداد والدفاع عن الانتخابات البرلمانية([17])، ودعم الحريات البرجوازية شعاراً لليبرالية السياسية.

وقد استُعملت هذه الكلمة – الليبرالية – بعد الثورة الفرنسية، من قبل المؤرّخ السياسي الفرنسي فرانسوا جيزو (1787 – 1874) ([18]).

2 – الاُسس المقوِّمة للّيبرالية: برزت الليبرالية بمعونة مفكريها أمثال جون لوك، وبأنماط شتى في مختلف المجالات الثقافية، والدينية، والاقتصادية، وكان تركيزها الأهم على تحرير الإنسانية من قيود الكنيسة، ومضايقاتها الاجتماعية والقانونية.

لقد تبوّأت بعض الاتجاهات الفكرية – كالليبرالية والديمقراطية – مواقعها في أذهان أولئك الذين أرهقتهم الضغوط والقيود المفتعلة من قبل الكنيسة، والأنظمة الدينية، فقد تعاطف الإنسان الغربي – وبكلّ رحابة – مع تلك الأفكار التحرّرية، بأمل الانعتاق من الالتـزامات الدينية.

وقد حاز هذا التفكير – خصوصاً في بداية التخلّي عن الدين والعناصر الدينية – على نسق رتيب في أذهان الغربيين، وعلى ذلك فقد احتلّ مكانته في المجتمعات الغربية، لكن هذا النمط من المفاهيم الفكرية لم يتمكن من صنع إنسان كامل الحرية، فمع أنّه قد استطاع النيل من الكنيسة والدين وزعزعة منـزلتهما في المجتمع، إلاّ أنّه أخفق بعد ذلك، عندما تمادى الإنسان الغربي في طغيانه على حساب إنسانيّته؛ ليقدّم أعلى مستويات الفساد والرذيلة في المجتمع. فالليبرالية والديمقراطية والأممية، كلّها نتائج سلبية منشؤها الإباحية، والتخلّي عن القوى الغيبية([19]).

محور الليبرالية عند جون لوك، وكما بيّنها هو، حرية البشر الطبيعية (التحرر من القوى الغيبية)، إلا أنّه ظلّ قابعاً في ورطة قوانين الطبيعة، والدعوة المتناقضة للحرية، فهو – من جهة – يرى أن يكون البشر متحرّرين من القوى الغيبية، لكنه لم ينفِ أصول التقنين والنظام عن حريته هذه، وهذا عين التناقض([20]).

كان الدور الذي لعبته الليبرالية عند (لوك) في غاية الأهمية والتأثير في بلورة الفكر (الليبرالي – الديمقراطي) في القرنين التاسع عشر والعشرين في الغرب، وخصوصاً أمريكا، إلى حدٍّ أنّ الأمريكيين قد أطلقوا على (لوك) اسم (رسول الثورة في أمريكا)([21]).

3 – اُصول الليبرالية: استُخدم مصطلح الليبرالية في بداية الثورة الفرنسية في إسبانيا، تحت شعار: (الحرية، المساواة، الأخوّة)، ثم أخذ بالتبلور – عقب ذلك – ليغدو فلسفةً ومذهباً سياسياً، نتيجة لما طرحه الليبراليون من أفكار.

 

ويمكن تلخيص اُصول الليبرالية بما يلي:

أ – الفردية Individualism:

الاتجاه الفردي مصطلح يقابل الاتجاه الجماعي (Collectivism)، والمقصود من المذهب الفردي الفكر الذي يرى في الفرد أساس التقويم، ليُؤوِّل تفسير الظواهر الاجتماعية والتأريخية إلى إرادة الفرد. وأيضاً الاعتراف بحقوق فردية كحقّ العيش، والتملُّك، والزوجية.

والغرض من فكرة الأصالة الفردية يرجع، في الواقع، إلى مناهضة التضييق على الحريات الشخصية، وهي ترمي إلى تنمية الحريات الفردية على أساس تفضيل رفاهية الفرد على رفاهية المجتمع.

ويقابل هذا المعنى الاتجاه الجماعي، الذي ينصّ – بدوره – على حفظ الحقوق الاجتماعية وتقديمها على الحقوق الفردية.

وقد اعتبرت الفردية الملكيةَ الشخصية شرطٍاً ضرورياً في تحقّق الحرية. وطالبت بتضييق سلطان الدولة في المجال الاقتصادي والاجتماعي، رافضةً السماح لها بالتدخّل إلاّ مع الحفاظ على حرية الفرد.

ب – أصالة القبول والعقد الاجتماعي:

ينصّ هذا الأصل على: أنّ شرعية السلطة لا تتحقّق دون موافقة الناس عليها، وتأييدهم لها، ويُذكر أنّ الفلسفة الليبرالية ترى شرعية الحكومة (Legitimacy) متوقّفة على رضى الناس وقبولهم لها. وقد استفاد بعض المفكرين الغربيين من نظرية (العقد الاجتماعي) ([22])، حين اعتبرها دليلاً على وجوب التحقّق من قبول الناس وموافقتهم.

ويتحقق القبول هذا في البلدان الليبرالية بمشاركة الأفراد في الانتخابات العامة؛ باعتبارها – أي الانتخابات – وسيلةً ومعياراً يعكس مدى قناعة الناس بالنظام السياسي.

ج – حرية الاختيار Freedomas choice

يراد بهذا الأصل، وجوب تمتّع الإنسان بحرية الاختيار بين فردين أو أكثر؛ ليقرّر حسب ما يرتئيه مزاجه الشخصي، وما يُشخِّصه من نفع أو مضرّة.

وتقوم هذه النظرية على أن الإنسان عاقل يمكنه تحديد مصلحته بعقله، إذن لا بد من أن يكون مستقلاً في الجانب العملي أيضاً، فالحرية في انتخاب العمل، وانتخاب الحاكم والحكومة، من جملة مصاديق هذه النظرية، وهي تخالف نظرية أفلاطون التي يقول فيها: إنّ عامة الناس لا يحكّمون عقولهم في قراراتهم، بل تكون قراراتهم – في الأغلب – على وفق مشاعرهم، وما تميل إليه عواطفهم. لكنّ المفكرين الليبراليين يقولون: إنّ أكثر الناس يملكون عقولاً ليتخذوا قراراتهم حسب الإرشادات العقلية.

 

من مجلة نصوص معاصرة – العدد الأوّل

الهوامش:



[1]) حسين علي النوذري، بلورة الحداثة وما بعدها: 81، ط. طهران، 2000م.

[2]) لغتنامه، علي أكبر دهخدا، مادة: نهض.

[3]) الإقطاعية (Feudalism) وقد تُرجمت بمعانٍ مُرادفة كـ((المالك الكبير))، و((نظام العمدة))، و((البيوت المالكة))، و((سلطة الرؤساء على الرعية)) أيضاً.

     والإقطاعية: قانون اجتماعي اقتصادي مبتنٍ على مفهوم (الإقطاع Feudlity) أي الإقطاع والهدية أو العارية من الأرض ــ من جانب السيد أو الملِك ــ تُعطى في مقابل خدمة معينة يؤدّيها المُقطَع العامل، للمُقطِع المالك، والخدمة هذه إما زراعية كمحصولات وغيرها أو شيء غير الزراعة. أو تُعطى هذه الهدية لأشخاص على حساب كفاءاتهم في مقابل رسومات سنوية. معجم المعين1: 1183، وقد كان التبادل الإنتاجي في المجتمع الإقطاعي يرتكز على أساس مالكية المقطعين للأرض، وتبعية المزارعين لهم، ففي هذا القانون لم تكن الرعية مستعبدة أو تباع بدون الأرض، بل كان يُباع المزارع مع الأرض، وينتقل مع انتقال ملكية الأرض للسيد الجديد. أنظر: آقا بخشي، قاموس العلوم السياسية: 123، ط. طهران، 1995م.

[4]) حميد بارسانيان، قصة المكيال: 113، ط. قم.

[5]) حمد الراهنمائي، الاستغراب: 132، ط. قم.

[6]) المصدر نفسه: 133.

[7]) انظونيا غيدنز، الحداثة وآثارها: 4، ترجمة: محسن الثلاثي، ط. طهران.

[8]) مريم صانع بور، نقد بنى المعرفة: 17، نقلاً عن دائرة المعارف، بل إدواردز.

[9]) المصدر نفسه: 38.

[10]) يُراجع: ويل ديورانت،  قصة الحضارة، ج5.

[11]) مريم صانع بور، نقد بنى المعرفة: 44.

[12]) برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية: 14، ترجمة نجف دريا بندري.

[13]) محمد رضا الجعفري، قاموس النشر الجديد: 1110.

[14]) محمد جواد النوروزي، الفلسفة السياسية: 46.

[15]) هارولدلسكي، طريق الحرية في اُوربا: 14، ترجمة رحمة الله المراغي.

[16]) قاموس العلوم السياسية: 187.

[17]) ((البرلمانية)) أو حكومة البرلمان، نظام يحتوي على دستور ينصُّ على: أنّ قيادة البلد، وإدارة اُموره تقع على عاتق البرلمان فقط، وتتحقق البرلمانية عندما تكون هنالك التـزامات من قبل الحكومة تجاه البرلمان. فهو النظام الذي يكون فيه مجلس نوابه، بمنـزلة القوة المقننة؛ ليتحتّم على الجهاز التنفيذي الالتـزام بما يُصوِّت عليه المجلس، وأيضاً لا يمكن تنصيب الوزراء إلاّ بتقديم أوراق اعتماد للبرلمان ليوافق عليهم.

[18]) قاموس العلوم السياسية: 187.

[19]) الاستغراب: 137.

[20]) جونز، أرباب الفكر السياسي2: 203، ترجمة: علي رامين.

[21]) الاستغراب: 139.

[22]) العقد الاجتماعي (Social Contract)، عنوان أحد كتب جان جاك روسو (1712 ــ 1778م)، وهو عبارة عن نظريته المعروفة القاضية: بأنّ كلّ نظام اجتماعي لا بد أن يكون ناتجاً عن قبول وموافقة، وعقد بين الناس أنفسهم. وتُبيّن هذه الفكرة أساساً من الاُسس الفلسفية للدولة، أي استبدال رضى الناس ــ من أجل العيش في ظلّ السلطة والعدالة ــ بدلاً عن حق الملوك الإلهي في السلطة، وقد نشأت هذه النظرية في القرن السابع عشر والثامن عشر في أوروبا، وتبدأ النظرية بتبيين أصل تأسيس الدولة بوصفه فرضيةً ذات سمة طبيعية. فقد يتمتع الناس بحريات فردية، لكن مع تحمّل مسؤوليات شخصية ومالية، لذا فإنّ الناس، ومن أجل تفادي هذه المخاوف، يشتركون في عقد اجتماعي، ترجع عن طريقه الحريات الفردية للدولة؛ ليقع على عاتقها أيضاً الالتـزام بضمان الأمن والنظام، وتلبية الاحتياجات الاجتماعية.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً