أحدث المقالات

إيمان شمس الدين

للإنسان قدرتان: الأولى حيوية متمثلة بالتفاعلات السلوكية، والثانية فكرية، والقدرة الحيوية تتأثر بعدة مؤثرات أهمها المؤثرات الفكرية والمؤثرات الخارجية والداخلية خاصة النفسية، وهذا التأثر يخلق العديد من الانفعالات التي تتحرك في كثير من الأحيان نحو محاولات إشباع تتم عن طريق الأشياء والأفعال، وتتدخل الطاقة الفكرية هنا بدورها الوظيفي في التحكم بنوع الإشباع وصفته، وبالتالي يتحقق الاشباع بناء على البنية المفاهيمية ونظم المعلومات والأفكار التي يتبناها الإنسان.

وتختلف بذلك الأفكار والأفعال والانفعالات وفق اختلاف المفاهيم والرؤى الفكرية، وحيث أن القوى الفكرية والسياسية تتشكل بناء على انجذاب المتشابهين فكريا، وبالتالي هذا الانجذاب يخلق بيئة تفاعلية متشابهة مع القضايا الخارجية ضمن التيار الفكري والسياسي، بالتالي تصبح المفاهيم التي تعتنقها القوى والتيارات الفكرية والسياسية متناقضة ومختلفة أو تتشابه في مشتركات، فإن مواقفها أيضا اتجاه الأحداث والقضايا السياسية والفكرية ستكون مختلفة.

“فالمعارضة في الواقع: اختلاف بين المفاهيم نتج بسبب تناقضها أو بسبب تناقض فهمها، ويتفرع عنه اختلاف في المواقف بين البشر.

والمعارضة السياسية: هي خلاف بين المفاهيم السياسية يتفرع عنه خلاف في المواقف السياسية بين القوى السياسية”[1].

المعارضة السياسية من زاوية فكريا – كما يرى عبد الحكيم عبد الله – تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: معارضة مبدئية: وهي الاختلاف السياسي والفكري على أسس مبدئية، كالاختلاف بين الإسلام والكفر، فمفاهيم الإسلام لا يمكن أن تلتقي مع مفاهيم الكفر، والصراع بين مفاهيم الإسلام ومفاهيم الكفر هو صراع دائم.. والمعارضة المبدئية تحتم تبني سياسة المواجهة بشكل دائم ضد مفاهيم الكفر التي تصوغ المصالح ومنها الأهداف للقوى السياسية، سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي.

الثاني: معارضة استراتيجية: وهي الاختلاف السياسي على أسس استراتيجية. ولما كان بناء الاستراتيجيات يستند إلى قواعد صلبة وأسس مبدئية، وهي خادمة لمصالح وأهداف المبدأ، لذلك قد يكون الاختلاف الاستراتيجي في بعض الأحيان راجعا إلى اختلاف مبدئي، وفي هذه الحالة، أي كون المفاهيم الاستراتيجية تتعارض مع المبدأ، يجب محاربتها وتبني سياسة المواجهة ضدها، ولكن ذلك لا يمنع من العمل على احتواء هذه الأفكار أو المفاهيم، والعمل على تغيير جوهرها لكي لا تتعارض مع المبدأ، بل مسخرة لخدمة المبدأ ومصالحه.

الثالث: معارضة عرضية: وهي الاختلاف السياسي على أمور إدارية أو مبدئية فرعية لا تمس أصول المبدأ، والاختلاف الإداري، قد يتعارض مع المبدأ فيعامل مثل المعارضة المبدئية، وقد لا يتعارض معه فيعامل مثل المعارضة الاستراتيجية[2].

وعادة المعارضة قد تشكل أكثرية أو أقلية، إلا أن الميزان في تشخيص شرعيتها يعتمد على مدى ما تطرحه في أسباب معارضتها من حق، ومن مبادئ كبرى ولا تعتمد الشرعية على الأكثرية أو الأقلية العددية. فالغرب يعتبر المعارضة السياسية هي رأي الأقلية المخالف لرأي الأكثرية، حيث تتمثل الديموقراطية في وصول الأكثرية إلى الحكم، بالتالي تنبثق المعارضات من الأقليات المختلفة مع الحكم، حيث يتجسد رأي الأقليات في القوى السياسية المعارضة، ورأي الأكثرية في الحزب الحاكم ومناصريه، ولذلك ووفق مبادئ النظام الديموقراطي، فإن رأي الأكثرية هو الرأي الشرعي النافذ، وهو رأي أغلبية الشعب، أما الرأي الآخر فهو رأي الأقلية التي تقر بشرعية هذه السلطة، لاتفاقها في أمور مبدئية معها، واختلافها في أمور فرعية، ويتم استغلال هذه الاختلافات الفرعية في محاولات تشكيل معارضات وأحزاب معارضة سياسية تهدف للوصول إلى السلطة وتطبيق المنهج الذي تؤمن به هذه الأقليات.

تأخذ المعارضة في الفكر السياسي أشكالا متعددة، إلا أن وجودها دليل مهم لتمتع المجتمع بنسب حرية كبيرة، إذ أن التاريخ يثبت أن الحرية دائما تموت عندما يموت النقد في المجتمع. وبغياب المعارضة لا توجد بالأصل عملية سياسية، بل توجد عملية قهر وابتزاز، وبدلا من حكم محدد بضوابط سيكون الحكم مطلقا.

فأّهم أشكال المعارضة:

  • المعارضة السلمية، من خلال تقديم العرائض والشكاوى للحاكم لنصحه وتقويم مساره، وهذآ أدنى مستوى من مستوياتها، ويعتبر الخطوة الأولى في مسيرة المعارضة التصاعدية.
  • الاحتجاج والرفض لأوامر الحاكم في حال خالفت أسس العدالة، وعدم تطبيقها ومحاولة تقويمه بكل الوسائل السلمية والقانونية المتاحة، ومنها الاحتجاجات السلمية، وهذه خطوة متقدمة في حال الحاكم النصح ولم يلتفت للعرائض.
  • العصيان المدني من خلال تعطيل مؤسسات الدولة، وتعطيل روافد الاقتصاد. وهي مرحلة تصاعدية في سلم المعارضة السلمية، لتقويم مسار الحاكم، شريطة أن تكون المطالب محقة وفي مسار تحقيق العدل.
  • المعارضة المسلحة، وهي أقصى مرحلة يلجأ إليها المعارضون، في حال لجأ الحاكم للعنف والقتل والتهديد لحيوات المعارضين، أي واجه مطالبهم السلمية بالعنف والعسكر، فهنا يصبح من حقهم الدفاع عن أنفسهم، وحقهم ممارسة الاعتراض وتمكين الناس من حقهم السياسي في المشاركة، وفي تحقيق الحق والعدل.

وأهم أنواع المعارضة كما يرى عبد الحكيم عبد الله:

معارضة حقيقية: وهي الموقف السياسي العملي الذي يتجسد في القوى السياسية إزاء المفاهيم التي تناقض مفاهيمها السياسية، فتعارضها وفق ما تتطلبه هذه المفاهيم.

المعارضة الخادعة: هي التلبس بالموقف السياسي العملي من قبل القوى السياسية، تجاه المفاهيم السياسية التي تناقض مفاهيمها في الأسس والقواعد.

المعارضة الخاطئة: هي عدم التلبس بالموقف السياسي العلمي من قبل القوي السياسية تجاه المفاهيم السياسية التي تختلف عن مفاهيمها في الأمور الفرعية أو الاستراتيجية أو الإدارية.[3]

وعادة ما تنشأ المعارضة لأسباب التوترات والقلق والاستفزاز الاجتماعي والسياسي، بحيث تنطوي فيها شعور الإنسان بالغبن والقهر والتذمر في درجاته الدنيا، والتمرد في درجاته العليا، وهذا يحدث بسبب التناقض الذي يظهر بين السلطة والشعب، أو السلطة والقوى السياسية عادة، هذا القلق يؤدي لتكتلات تتفق فيما بينها علي عدة أمور أهمها:

  • الاختلاف مع السلطة؛
  • الشعور بالظلم وعدم العدالة؛
  • ضرورة مواجهة السلطة وتحقيق التغيير والإصلاح.

هذه التكتلات السياسية قد تأخذ شكل قوي سياسية وأحزاب لديها برنامج ترغب في تطبيقه يختلف مع برنامج السلطة، فتسعى هذه المعارضة للوصول إلي السلطة وتحقيق ما تصبو إليه وتراه في الشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وما تراه محققا للعدالة، ولكن قد تتشكل المعارضة على هيئة تجمعات ومؤسسات أهلية مدنية، تمارس دور (المراقب ثم الناقد ثم الضاغط) على السلطة، ولكن هذه المؤسسات لا تسعى للوصول إلى السلطة، بل سعيها هو تحقيق وعي ذاتي اجتماعي، يحقق مستوى وعي سياسي شعبي، بحيث تبقى عين الشعب هي الرقيب والناقد والضاغط على طول مسار العمل السياسي للسلطة في الدولة ومؤسساتها.

وتقوم المعارضة على قاعدة وركيزة مهمة ورئيسية هي الاختلاف، وكما أشرنا سابقا فقد يكون اختلاف في المبادئ والمفاهيم الكبرى المؤثرة في تحقيق العدالة، وقد تكون اختلافات في المبادئ الفرعية، أي اختلاف في قراءة وتطبيقات المفاهيم الكبرى على الواقع وآليات التطبيق والممارسة السياسية. إلا أن هذا الاختلاف له أشكال متعددة:

  • اختلاف في المبادئ والمفاهيم الكبرى التي تمس هوية المجتمع، وأسس تحقيق العدالة، بالتالي تختلف أيضا في الأهداف.
  • اختلاف في المبادئ والمفاهيم الفرعية، التي تختلف فيها المناهج والأدوات لكنها تؤدي إلى نفس الأهداف.

ويختلف أداء المعارضة وفقا لطبيعة الاختلاف، فقد تتعايش المعارضة مع هذا الاختلاف بالحد الأدنى، ولكنها تسعى لتحقيق مفاهيمها الكبرى ومبادئها وتقليل مساحات الاختلاف وتوسيع مساحات الاشتراك فهي تختلف مع الحكومة لا مع النظام، وقد لا تتعايش المعارضة مع هذه الاختلافات كونها جوهرية، وتمس روح العدالة الاجتماعية، بالتالي تسعى للتغيير بشتى الطرق، لانعدام المساحات المشتركة بشكل لا يسمح للتعايش مع هذه الاختلافات الجوهرية، وهنا يكون الاختلاف مع النظام وبالتالي مع الحكومة.

وكان المسلمين في عهد كل من الخلفاء أبو بكر الصديق و عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب× لهم الحق في مراقبة الحكم ونقده ومحاسبته انطلاقا من واجب الأمة في ممارسة الخلافة التي أو كلها الله لعباده.

فالجماعة المسلمة لم تسلب الحق في أن تمارس دورها في النقد والرقابة، وتعطي حق التوقف عن دعم الحاكما فيحال ارتكابه للمعصية أو خروجه عن مشروع الأمة الالهي والسير به بعيدا، وهو ما اضطر الخليفة أبو بكر إلى إعلانه السياسي قائلاً: «يا أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فان ضعفت فقوموني وانأحسنت فأعينوني.. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فان عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم»[4].

وللخليفة الثاني عمر بن الخطاب موقفا واضحا في هذا الصدد، فهو الذي خاطب المسلمين قائلاً: «ماذا لو رأيتم فيّ اعوجاجا؟ فأجابوه والله لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناك بسيوفنا. وقال: الحمد لله الذي وجد من يقوم اعوجاج عمر»[5]. وفي عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، حيث كثرت فيه الثورات نتيجة تسلط بعض أقطاب بني أمية على مقومات الدولة، كان أمثال عمار بن ياسر وأبي ذر وغيرهما يمارسون دورهم في الارشاد والنقد، والدخول الى بيت الخلافة وتوجيه النقد وتقديم العرائض بل وصل الامر الى الثورة والانقلاب، وكان الإمام علي× يمارس النصح لعثمان حول اعوجاج بعض الممارسات التي يمارسها ولاته في ظل حكمه، وعدم اتخاذه مواقف حازمة بحقهم في مواجهة فساد بعضهم.

أما الإمام علي فخاطب الناس بأنه وربَّمَا اِسْتَحْلَى اَلنَّاسُ اَلثَّنَاءَ بَعْدَ اَلْبَلاَءِ فَلاَ تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ لِإِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ إِلَيْكُمْ مِنَ اَلتَّقِيَّةِ اَلْبَقِيَّةِ فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا وَ فَرَائِضَ لاَ بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا فَلاَ تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ اَلْجَبَابِرَةُ وَ لاَ تَتَحَفَّظُوا بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ اَلْبَادِرَةِ وَ لاَ تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ وَ لاَ تَظُنُّوا بِي اِسْتِثْقَالاً فِي حَقٍّ قِيلَ لِي وَ لاَ اِلْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي فَإِنَّهُ مَنِ فَلاَ تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ وَ لاَ آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي، فَإِنّي لَسْتُ في نَفسي بِفَوقِ أَنْ أُخْطِئْ، وَ لا آمَنُ مِنْ ذلِكَ من فِعْلى إِلّا أَنْ يَكْفي اللّه من نفسي ما هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنّي. فَإِنمّا أَنا وأَنتم عَبيدٌ ممْلوكون لِرَبّ لا رَبّ غَيْرَه “[6]

فالخليفة الثاني عمر أكد على ضرورة تقويم اعوجاج الحاكم، وهذا لا يكون إلا بممارسة المسلمين لمسؤوليتهم في الرقابة، ومتابعة شؤون الحاكم، وتقييمه وفي حال أخل بالعدالة، فعليهم أن ينتقدوه ويعارضوه ويقوموه.

وقد حددها الإمام علي بضوابط:

  • النقد بحق، أي النقد ليس لأجل النقد والمواجهة ليست مجرد انفعالات نفسية، بل النقد والمواجهة عليها أن تكون محقة، ومن أوجه الحق الالتزام بالضوابط الأخلاقية والمبادئ القرآنية في النزاع والخصومة.
  • المشورة بعدل، وهنا يؤكد على مشاورة الناس في آليات تحقيق العدل في حال اعترض أخدهم على ذلك. فيفعل دور الناس في المشاركة السياسية ومراقبة أداء الحاكم.
  • تأكيده على مساواته كحاكم بالناس، كونهم جميعا عبيد مالكهم الله تعالى، وهذا التأكيد يحثهم على أداء دورهم السياسي في المشاركة والنقد والتقييم، والهدف تحقيق العدل.

وبالنظر إلى مسار الإمام الحسين× الرافض لبيعة يزيد غير الشرعية، لأنه انحرف عن مسار الخلفاء في ضرورة أن تتوافر شروط الحكم الذي يعتبر حق، والحق كما أسلفنا عليه أن توافر فيه شرط المشروعية والمقبولية، نجده تدرج في مواجهة خروج يزيد على إجماع المسلمين في رفضه كحاكم، وفي عدم شرعية حكمه بالأصل.

 فهو أعلن في بدء الأمر رفضه للبيعة موضحا أسبابه، ومن ثم خرج من المدينة تجنبا لهذه البيعة وإصرارا على إعلام الناس بأنه خرج من أرضه وموطنه رفضا للبيعة، ثم بعد أن توالت عليه الكتب من أهل الكوفة تطلب منه المجيء ومواجهة يزيد ومنع استلامه للسلطة، توجه إلى الكوفة لا يقصد من خلالها المواجهة العسكرية، ولكن يقصد التحشيد لرفض البيعة وإعلان موقف إجماعي على ذلك كنوع من الاحتجاج، ثم العصيان العام للبيعة كتعطيل لتمريرها ومن ثم إكمال المسيرة التي ابتدأها والده علي× في إسقاط حكومة الشام غير الشرعية، فقد كان الإمام علي× قد خرج في مواجهة حكومة معاوية الذي رفض بيعة الإمام علي× الذي بايعه جموع المسلمين، فخرجت الشام ومعاوية كإقليم تابع لولاية علي الخليفة الشرعي، خرجت عن بيعة الإمام علي ع، هذا التناقض شق المجتمع الإسلامي في الدولة الإسلامية إلى شقين، ووجد في كل منهما جهاز إداري وسياسي لا يعترف بالآخر، فالشام تعرفت على الإسلام من خلال ولاية يزيد أخي معاوية، ثم بعد ذلك بولاية معاوية بن أبي سفيان، ولم يسمع إقليم الشام عن علي× وجهاده ومكانته، فعاش الإسلام من منظار معاوية بن أبي سفيان، وبالتالي خرج عن هذا الاجماع وأراد شق صف المسلمين بإقامة دولة هو حاكم عليها في الشام، فكانت واقعة صفين الشهيرة في مواجهة انحراف معاوية ولأن الإمام علي× هو الحاكم الشرعي والمسؤول عن الأمة الإسلامية وهويتها ووعيها ووحدتها.

 فكان يريد أن يقضي على هذا الانشقاق الذي وجد في جسد الأمة الإسلامية وذلك بشخصية هؤلاء المنحرفين، وإجبارهم بالقوة للانضمام لما أجمع عليه المسلمين من بيعة للإمام علي×، وذهاب الإمام علي× لحرب مباشرة لأنه كان يريد تصحيح الاعوجاج في مسار الأمة، وكان أجلى مصداق لهذا الاعوجاج هو منهج معاوية وما طرحه من إسلام بعيد عن إسلام النبي ص، هذا فضلا عن عدم شرعيته، بالتالي لا يمكن لأنصاف الحلول أن تطرح في مسار التصحيح وإعادة البناء، لأن إعادة البناء السياسي يجب أن تصاغ وفق الرؤية النبوية التي يمثلها علي× ويدركها ويفهم أبعادها ومفاصلها.

 لكن ما قام به معاوية ومناصريه من خدعة التحكيم والتي رفعت خلالها المصاحف تحت شعار “لا حكم إلا لله”، وأجمع من في جيش علي× علي التحكيم، بالتالي رضي الإمام علي× بما أجمع عليه المسلمون في التحكيم، بالرغم من معرفته أنها خدعة يريد من خلالها معاوية أن يهرب من هزيمته العسكرية المحتمة، لكي يلتف على وعي المسلمين بخداعه ويحملهم على التحكيم، فيبقى هو في حكم الشام، ويعيد رص صفوفه ليحقق مراده فيما بعد من أخذ الخلافة.

ثم بعد استشهاد وقتل الإمام علي ع، بايع المسلمون ابنه الحسن×، والذي باشر بتجهيز الجيش لإكمال مسيرة والده في أسقاط حكومة الشام لعدم شرعيتها، وأيضا تم الخداع السياسي، من خلال شراء ذمة قائد جيش الإمام الحسن× عبيد الله بن عباس، كما تنقل بعض المصادر، وانهزام الجيش ثم الترويج لمعاهدة الصلح التي لم يكن الحسن× طرفا فيها، وإنما روج لها معاوية من خلاله جهازه الإعلامي ونشرها كإشاعة، لتتحول بعد ذلك لواقع تحت الضغط الجماهيري الذي أجهدته كثرة الحروب، والتبست عليه قضية القتال الداخلي مع المسلمين. ولم يكن الإمام الحسين× ليشذ عن هدف والده وأخيه في إسقاط حكومة الشام لعدم شرعيتها بالأصل، لكن العهد الذي كان بينه وبين معاوية جعله يؤجل المواجهة إلى حين موته، فَعَلّه بعد ذلك يتمكن من استعادة حقه في الحكم، ومن ثم ممارسة عمليات إصلاح كبرى، إلا أن نقض معاوية للعهد، وتوريثه الحكم لابنه يزيد الذي اشتهر بفسقه بين المسلمين، دفع الإمام الحسين× أن يعلنها بشكل صريح من المدينة ردا على طلب بيعته ليزيد: “مثلي لا يباع مثله” وهو رفض صريح ونهائي للبيعة ورفض الحسين× صاحب الحق الشرعي في الحكم هو تصريح واضح بعدم شرعية هذا الحكم ولا حكامه، بالتالي هو مواجهة صريحة مع يزيد ونظامه الحاكم.

وقد حاول الإمام الحسين× أن يمارس دور المعارضة السلمية، سواء برفضه البيعة كحق، أو خروجه من المدينة، أو حتى ذهابه إلى الكوفة بعد توالي الرسائل إليه ليؤسس جبهة معارضة، تؤدي فيما بعد لمواجهة نظام يزيد وتغييره، لأن اختلاف المسلمون والإمام الحسين هنا مع يزيد هو اختلاف جوهري على النظام والمفاهيم والمبادئ الكبرى التي لا يمكن التعايش معها، لعدم تحقيقها للعدالة، ولانحرافها في نظامها السياسي عن المنهج الذي كان على عهد الخلفاء وكان يحفظ حق المسلمين في البيعة والرفض والنقد والمعارضة دون مساس بهم، وكان يخضع خلاله الخليفة للنقد والتقييم والاعتراض، إلا أن إصرار يزيد على مواجهة الحسين× وقتله، دفع الحسين× لمواجهة هذا الإصرار على القتل، إضافة لابتداء جيش يزيد للحرب، بمواصلة معارضته بالمواجهة العسكرية للدفاع عن نفسه ومن معه، ولتأكيد ثورته ومعارضته ضد يزيد ومحاولات اغتصابه للخلافة، حتى آخر رمق من روحه.

أخلاقيات المعارضة

الأخلاق والقيم من الثوابت على المستوى النظري، وإن تغيرت على مستوى الفعل، والإنسان دوما تواقا نحو الكمال، لكن الاختلاف دوما يقع في مصاديق الكمال وطرق الوصول إليه. وأي معارضة سياسية يفترض بها أن تحافظ على أصالة المجتمع وثقافته وأخلاقياته. هذا فضلا عن أن المعارضة تكون للأفكار والمفاهيم وليست معارضة شخصانية ذاتية، فالمعارضة تعني المنافسة الشريفة من أجل الرفع من شأن المجتمعات والمحافظة على هويتها وقيمها ومبادئها وأصالتها وكرامتها، وتحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

فأخلاقية الاعتراض تلزم جماعات المعارضة السياسية بأن يلتزموا في سلوكهم تجاه أنفسهم وتجاه الآخرين واتجاه جماهيرهم بمبادئ وقيم أساسية ثابتة، والالتزام بذلك هو نوع من الواجبات العامة الشخصية والجماعية لجماعة المعارضة، أي هي واجب فردي وجماعي.

فالأخلاقيات عبارة عن قواعد ثابتة عامة تصبح نسبية على مستوى الفعل والممارسة، وتعبر عن السلوك القيمي والمهني المطلوب من القائمين على المعارضة السياسية الالتزام بها. وتبقى هذه الأخلاقيات عديمة الفائدة ما لم تترجم إلى واقع عملي ملموس خلال ممارسة الاعتراض، حتى لو وصلت المعارضة إلى المواجهة العسكرية، وأهمها احترام كرامة الإنسان، وحماية المدنيين دون النظر لانتماءاتهم المذهبية ولاطائفية والسياسية.

وحتى المعارضة المسلحة هناك مجموعة ضوابط تلزم المعارضين اتباعها كوجوب عيني تكليفي في ساحات المواجهة، وفي كربلاء قدم الحسين× نموذجا إنسانيا في المعارضة حيث:

  • كيف يجب أن يكون الرمز، والقائد المتصدي للاصلاح وخاصة السياسي منه.
  • وكيف يجب أن يستغل حضوره الاجتماعي في قلوب الناس ليميل بهم نحو الحق، حتى لو تضررت مصالحه، بل حتى لو ضحى في سبيل ذلك بنفسه وأهله.
  • أخلاقية المعارضة وخاصة السياسية منها مع الخصم، إذ أن فساد أدوات الخصم في التعاطي مع المعارضين، لا يبرر للمعارضين المصلحين أن يستخدموا ذات الأدوات الفاسدة أو شبيها لفسادها في مواجهة الخصم السياسي، حتى في المعارك العسكرية، فهناك ضوابط أخلاقية وفقهية الالتزام بها يعد من لوازم تحقيق الأهداف من المعارضة والإصلاح، وتخليد المعارضين وقيمهم.

إن تضحيات الحسين× والدماء التي هيمنت على المشهد العاشورائي في كربلاء لها دلالات هامة نوجز أهمها:

١.أن الاصلاح السياسي مطلب حقيقي وواقعي لنهضة الأمة، على المؤهلين التصدي له.

٢.أن المصلح المتصدي يجب أن تتوافر فيه مجموعة معايير، أهمها:

أ. فهمه لله وشريعته فهما دقيقا في كل أبعاده، وفهما في آليات تطبيقه وتشخيصه للواقع.

ب. حضوره بين الناس وفي عقولهم وقلوبهم، واستعداده النفسي للتضخية بكل شيء لأجل رفع الظلم وإقامة العدل؛

ج. حفظ القيم والمبادئ حتى مع الخصم، أي عدم ازدواجية المعايير فالمعيار هو الحق وعدم الظلم؛

د. التجرد من كل قبليات مذهبية وقبلية وحزبية؛

هـ. موضوعيته في علاج الاشكاليات.

٣.مقارعة الحجة بالحجة، وعدم التعدي على الأشخاص، أي سلمية الطرح هي الأولى وفق طريقة الحجج البرهانية في تبيان شرعية المطالب. والسلمية لا تعني عدم الثورة والنهضة، بل تعني التدرج في مواجهة الاستبداد، وتشخيص كل واقع ومتطلبات التغيير اللائقة به، وتشخيص حجم الفساد وانعكاساته على العدالة وكرامة الأمة، بل تشخيص جهة الفساد وشخوصها، فالصهاينة وفسادهم له طريقة مواجهة تختلف عن فساد بعض الأنظمة، وفساد الأنظمة يختلف شدة وضعفا، بالتالي تختلف سبل المواجهة شدة وضعفا، وهو ما يتطلب شخصية في طول شخصية الإمام الحسين ع، قادرة على تشخيص كل مقام ومرض وبالتالي تشخيص العلاجات المناسبة له. فالسلمية في المواجهة ليست خيارا مطلقا، كما أن المواجهة الثورية ليست خيارا مطلقا.

فالحسين× لم يعتد على معسكر خصومه، واستخدم كل دليل يمكن أن يستدل به على حراكه المطلبي وثورته السياسية والاجتماعية ليجلي الحقيقة، حتى أمام معسكر العدو، عل هناك من يهتدي ويلتحق به، فبادروا هم للحرب ومن ثم هو وأتباعه ردوا بالدفاع وثبتوا على مطالبهم حتى استشهدوا جميعا، وهذا لا ينافي مبدأ الثورة، ولكنه يقننها وفق منهج وطريق عليها أن تسلكه في تحقيق الأهداف.

٤.النبل في الخصومة وعدم الفجور مع المختلف الأخر في السياسة والعقيدة، بل إنصاف العدو من النفس من خلال تطبيق قوانين الشريعة معه، حتى لو يضعف ذلك حراكي المطلبي، فالأولى ترسيخ القانون وقيام العدل ورفع الظلم، أي درء المفسدة وليس جلب المنفعة.

هذا فضلا عن أن المعارضة لا تعني ممارستها لذاتها، بل هي وسيلة للإصلاح والتقويم، ووسيلة للرقابة وإزالة كل العقبات لتحقيق العدالة، ومتى ما تحققت العدالة وتحقق الإصلاح، تصبح المعارضة هنا أمام وظيفة جديدة، وهي مراقبة ديمومة العدالة، وعدم الوقوع مجددا في الفساد بكافة أشكاله، فهي من جهة أداة مراقبة، ومن جهة أداة مساعدة على تطبيق القانون الذي لا يتنافى ومبدأ العدالة، وعدم الضلوع في الفساد.

ومن أشد أنواع الفساد السياسي سلب الناس حقهم في التعبير الحر ونقد السلطة ومراقبتها، وفي حقهم في قبول ورفض الحاكم، وهي المقبولية التي تعد شرطا هاما في حق الحاكم في الحكم.

فالاستبداد يهدم إنسانية الإنسان، والطغيان يحيل البشر إلى عبيد، وإذا تحول الناس إلي عبيد وحيوانات فقدوا قيمهم، فلا إخلاص، ولا أمانة، ولا صدق ولا شجاعة، بل كذب ونفال وتملق ورياء وتذلل ومهانة، ومحاولة للوصول إلى الأغراض بأحط السبل، وهكذا يتحول المجتمع في هد الطغيان، إلى عيون وجواسيس يراقب بعضها بعضها، ويرشد بعضها عن بعض.[7]

وقد طرح السيد السيستاني ما يؤكد قراءته للمعارضات السياسية التي حصلت في عهد الإمام علي× وعهد أهل البيت والإمام الحسين× واستخلص منها مجموعة من الضوابط حينما واجه الحشد الشعبي العراقي احتلال داعش للموصل في العراق جاء فيها:

نصائح وتوجيهات للمقاتلين في ساحات الجهاد

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين .

أمّا بعد: فليعلم المقاتلون الأعزّة الذين وفّقهم الله عزّ وجلّ للحضور في ساحات الجهاد وجبهات القتال مع المعتدين:

 1 ـ أنّ الله سبحانه وتعالى ـ كما ندب الى الجهاد ودعا إليه وجعله دعامةً من دعائم الدين وفضّل المجاهدين على القاعدين ــ فإنّه عزّ اسمه جعل له حدوداً وآداباً أوجبتها الحكمة واقتضتها الفطرة، يلزم تفقهها ومراعاتها، فمن رعاها حق رعايتها أوجب له ما قدّره من فضله وسنّه من بركاته، ومن أخلّ بها أحبط من أجره ولم يبلغ به أمله .

 2 ـ فللجهاد آدابٌ عامّة لابدّ من مراعاتها حتى مع غير المسلمين، وقد كان النبيّ| يوصي بها أصحابه قبل أن يبعثهم إلى القتال ، فقد صـحّ عن الإمام الصادق× أنّه قال : ( كان رسول الله| إذا أراد أن يبعث بسريّة دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول سيروا باسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله|: لا تغلوا، ولا تمثّلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبيّاً ولا امرأة، ولا تقطعوا شجراً إلاّ أن تضطرّوا إليها.

 3 ـ كما أنّ للقتال مع البغاة والمحاربين من المسلمين واضرابهم أخلاقاً وآداباً أُثرت عن الإمام علي× في مثل هذه المواقف، مما جرت عليه سـيرته وأوصى به أصحابه في خطـبه وأقواله، وقد أجمعت الأمّة على الأخذ بها وجعلتها حجّة فيما بينها وبين ربّها، فعليكم بالتأسى به والأخذ بمنهجه، وقد قال× في بعض كلامه مؤكّداً لما ورد عن النبي| ـ في حديث الثقـلين والغدير وغيرهما ــ : (انظروا أهل بيت نبيّكم فالزموا سمتهم واتبعوا أثرهم ، فلن يخرجوكم من هدى ولن يعيدوكم في ردى ، فإن لَبدُوا فالبدُوا[8]، وإن نهضوا فانهضوا، ولا تسبقوهم فتضلوا ، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا).

 4 ـ فالله الله في النفوس، فلا يُستحلّن التعرّض لها بغير ما أحلّه الله تعالى في حال من الاحوال، فما أعظم الخطيئة في قتل النفوس البريئة وما أعظم الحسنة بوقايتها وإحيائها، كما ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه، وإنّ لقتل النفس البريئة آثاراً خطيرة في هذه الحياة وما بعدها، وقد جاء في سيرة أمير المؤمنين× شدّة احتياطه في حروبه في هــذا الأمر ، وقد قـال في عهـده لمالك الأشـتر ــ وقد عُلِمت مكانتـُه عنده ومنزلـتُه لديه ــ ( إيّاك والدماء وسفكها بغير حلّها فإنّه ليس شيء ادعى لنقمة واعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدّة من سفك الدماء بغير حقّها والله سبحانه مبتدأ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة ، فلا تقويّن سلطانك بسفك دم حرام ، فإنّ ذلك مما يضعفه ويوهنه ، بل يزيله وينقله ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد لانّ فيه قود البدن).

 فإن وجدتم حالة مشتبهة تخشون فيها المكيدة بكم، فقدّموا التحذير بالقول أو بالرمي الذي لا يصيب الهدف أو لا يؤدّي إلى الهلاك، معذرةً إلى ربّكم واحتياطاً على النفوس البريئة.

 5 ـ الله الله في حرمات عامّة الناس ممن لم يقاتلوكم، لاسيّما المستضعفين من الشيوخ والولدان والنساء، حتّى إذا كانوا من ذوي المقاتلين لكم ، فإنّه لا تحلّ حرمات من قاتلوا غير ما كان معهم من أموالهم.

 وقد كان من سيرة أمير المؤمنين× أنّه كان ينهى عن التعرّض لبيوت أهل حربه ونسائهم وذراريهم رغم إصرار بعض من كان معه ـــ خاصّة من الخوارج ــ على استباحتها وكان يقول: (حارَبنا الرجال فحاربناهم، فأمّا النساء والذراري فلا سبيل لنا عليهم لأنهن مسلمات وفي دار هجرة، فليس لكم عليهن سبيل، فأمّا ما أجلبوا عليكم واستعانوا به على حربكم وضمّه عسكرهم وحواه فهو لكم، وما كان في دورهم فهو ميراث على فرائض الله تعالى لذراريهم، وليس لكم عليهنّ ولا على الذراري من سبيل).

 6 ـ الله الله في اتهام الناس في دينهم نكاية بهم واستباحة ً لحرماتهم، كما وقع فيه الخوارج في العصر الأول وتبعه في هذا العصر قوم من غير أهل الفقه في الدين، تأثراً بمزاجياتهم وأهوائهم وبرّروه ببعض النصوص التي تشابهت عليهم، فعظم ابتلاء المسلمين بهم.

 واعلموا إنّ من شهد الشهادتين كان مسلماً يُعصم دمُه ومالُه وإن وقع في بعض الضلالة وارتكب بعض البدعة، فما كلّ ضلالة بالتي توجب الكفر، ولا كلّ بدعة تؤدي إلى نفي صفة الاسلام عن صاحبها، وربما استوجب المرء القتل بفساد أو قصاص وكان مسلماً.

 وقد قال الله سبحانه مخاطباً المجاهدين: (يا أيّها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا، ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا). واستفاضت الآثار عن أمير المؤمنين× نهيه عن تكفير عامّة أهل حربه ـ كما كان يميل إليه طلائع الخوارج في معسكره ــ بل كان يقول انهم قوم وقعوا في الشبهة، وإن لم يبرّر ذلك صنيعهم ولم يصح عُذراً لهم في قبيح فعالهم، ففي الأثر المعتبر عن الامام الصادق عن أبيه’: (أنّ علياً× لم يكن ينسب أحداً من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق ولكن يقول: هم اخواننا بغوا علينا)، (وكان يقول لأهل حربه: إنا لم نقاتلهم على التكفير لهم ولم نقاتلهم على التكفير لنا).

 7 ـ وإياكم والتعرّض لغير المسلمين أيّاً كان دينه ومذهبه فإنّهم في كنف المسلمين وأمانهم، فمن تعرّض لحرماتهم كان خائناً غادراً، وإنّ الخيانة والغدر لهي أقبح الأفعال في قضاء الفطرة ودين الله سبحانه، وقد قال عزّ وجلّ في كتابه عن غير المسلمين ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا اليهم إنّ الله يحب المقسطين ). بل لا ينبغي ان يسمح المسلمُ بانتهاك حرُمات غير المسلمين ممّن هم في رعاية المسلمين، بل عليه أن تكون له من الغيرة عليهم مثل ما يكون له على أهله، وقد جاء في سيرة أمير المؤمنين× أنه لما بعث معاوية (سفيان بن عوف من بني غامد) لشن الغارات على أطراف العراق ـ تهويلاً على أهله ـ فأصاب أهل الأنبار من المسلمين وغيرهم، اغتمّ أمير المؤمنين× من ذلك غمّاً شديداً ، وقال في خطبةٍ له: ( وهذا أخو غامد قد وردت خيله الانبار وقد قتل حسان بن حسان البكري وأزال خيلكم عن مسالحها ، ولقد بلغني أنّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقـُلَبها وقلائدها وعاثها، ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع والاسترحام ، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلاً منهم كلم ، ولا أريق لهم دم، فلو أنّ امرأً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً ).

 8 ـ الله الله في أموال الناس، فإنه لا يحل مال امرئ مسلم لغيره إلاّ بطيب نفسه ، فمن استولى على مال غيـره غصـباً فإنّما حاز قطـعة من قطـع النيران، وقد قال الله سبحانه : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنّما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً ). وفي الحديث عن النبي| إنه قال: (من اقتطع مال مؤمن غصباً بغير حقه لم يزل الله معرضاً عنه ماقتاً لأعماله التي يعملها من البرّ والخير لا يثبتها في حسناته حتى يتوب ويردّ المال الذي أخذه إلى صاحبه).

 وجاء في سيرة أمير المؤمنين× أنه نهى أن يُستحلّ من أموال من حاربه إلاّ ما وجد معهم وفي عسكرهم، ومن أقام الحجّة على أن ما وجد معهم فهو من ماله أعطى المال إيّاه، ففي الحديث عن مروان بن الحكم قال : (لمّا هَزَمنا عليٌ بالبصرة ردّ على الناس أموالهم من أقام بيّنة أعطاه ومن لم يقم بيّنةٍ أحلفه).

 9 ـ الله الله في الحرمات كلّها، فإيّاكم والتعرّض لها أو انتهاك شيء منها بلسان أو يد ، واحذروا أخذ امرئ بذنب غيره، فإنّ الله سبحانه وتعالى يقول: ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ، ولا تأخذوا بالظنّة وتشبهوه على أنفسكم بالحزم ، فإنّ الحزم احتياط المرء في أمره، والظنة اعتداء على الغير بغير حجّة، ولا يحملنّكم بغض من تكرهونه على تجاوز حرماته كما قال الله سبحانه: ( ولا يجرمنّكم شنآن قوم ٍ على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى.).

 وقد جاء عـن أمير المؤمنين× أنّه قال في خطبة له في وقعة صفّين في جملة وصاياه : ( ولا تمثّلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا ستراً ولا تدخلوا داراً ، ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم إلاّ ما وجدتم في عسكرهم ، ولا تهيجوا امرأة بأذىً وان شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم )، وقد ورد أنه× في حرب الجمل ـــ وقد انتهت ــ وصل إلى دار عظيمة فاستفتح ففُتحت له، فإذا هو بنساءٍ يبكين بفناء الدار، فلمّا نظرن إليه صحن صيحة واحدة وقلن هذا قاتل الأحبّة، فلم يقل شيئاً، وقال بعد ذلك لبعض من كان معه مشيراً إلى حجرات كان فيها بعض رؤوس من حاربه وحرّض عليه كمروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير: (لو قتلت الأحبة لقتلت من في هذه الحجرة ).

 كما ورد أنه× قال في كلام له وقد سمع قوماً من أصحابه كحجر بن عدي وعمرو بن الحمق يسبّون أهل الشام أيّام حربهم بصفين: (إني أكره لكم ان تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إيّاهم ( اللهم احقن دماءنا ودمائهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالتهم، حتّى يعرف الحقّ من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به ) فقالوا له يا أمير المؤمنين: نقبل عِظتك ونتأدّب بأدبك.

 10 ـ ولا تمنعوا قوماً من حقوقهم وإن أبغضوكم ما لم يقاتلوكم، وقد جاء في سيرة أمير المؤمنين× أنه جعل لأهل الخلاف عليه ما لسـائر المسـلمين ما لم يحـاربوه، ولم يبدأهم بالحرب حتّى يكونوا هم المبتدئين بالاعتداء ، فمن ذلك أنّه كان يخطب ذات مرّة بالكوفة فقام بعض الخوارج وأكثروا عليه بقولهم ( لا حكم إلاّ لله ) فقال : (كلمة حقّ يراد بها باطل ، لكم عندنا ثلاث خصال : لا نمنعكم مساجد الله ان تصلّوا فيها ، ولا نمنعكم الفيء ما كانت ايديكم مع أيدينا ، ولا نبدأكم بحربٍ حتى تبدؤونا به).

 11 ـ واعلموا أنّ أكثر من يقاتلكم إنّما وقع في الشبهة بتضليل آخرين ، فلا تعينوا هؤلاء المضلّين بما يوجب قوّة الشبهة في أذهان الناس حتّى ينقلبوا أنصاراً لهم، بل ادرؤوها بحسن تصرّفكم ونصحكم واخذكم بالعدل والصفح في موضعه، وتجنب الظلم والإساءة والعدوان، فإنّ من درأ شبهة عن ذهن امرئ فكأنّه أحياه ، ومن أوقع امرئ في شبهة من غير عذر فكأنه قتله.

 ولقد كان من سيرة أئمة أهل البيت^ عنايتهم برفع الشبهة عمّن يقاتلهم، حتّى إذا لم تُرج الاستجابة منهم، معذرة منهم إلى الله، وتربيةً للأمة ورعايةً لعواقب الأمور، ودفعاً للضغائن لاسيّما من الأجيال اللاحقة، وقد جاء في بعض الحديث عن الصادق× أنّ الامام عليّاً× في يوم البصرة لما صلا الخيول قال لأصحابه: (لا تعجلوا على القوم حتّى أعذر فيما بيني وبين الله وبينهم، فقام اليهم، فقال: يا أهل البصرة هل تجدون عليّ جورة في الحكم؟ قالوا: لا، قال: فحيفاً في قسم؟ قالوا: لا. قال: فرغبة في دنيا أصبتها لي ولأهل بيتي دونكم فنقمتم عليّ فنكثتم بيعتي؟ قالوا: لا، قال فاقمت فيكم الحدود وعطّلتها عن غيركم؟ قالوا: لا). وعلى مثل ذلك جرى الإمام الحسين× في وقعة كربلاء، فكان معنيّاً بتوضيح الأمور ورفع الشبهات حتّى يحيا من حيّ عن بينّة ويهلك من هلك عن بيّنة، بل لا تجوز محاربة قوم في الإسلام أيّاً كانوا من دون إتمام الحجّة عليهم ورفع شبهة التعسّف والحيف بما أمكن من أذهانهم كما أكّدت على ذلك نصوص الكتاب والسنة .

 12 ـ ولا يظنّن أحدٌ أن في الجور علاجاً لما لا يتعالج بالعدل، فإنّ ذلك ينشأُ عن ملاحظة بعض الوقائع بنظرة عاجلة إليها من غير انتباه إلى عواقب الأمور ونتائجها في المدى المتوسط والبعيد، ولا إطّلاع على سنن الحياة وتاريخ الأمم، حيث ينبّه ذلك على عظيم ما يخلفه الظلم من شحنٍ للنفوس ومشاعر العداء مما يهدّ المجتمع هدّاً، وقد ورد في الأثر: (أنّ من ضاق به العدل فإنّ الظلم به أضيق)، وفي أحداث التاريخ المعاصر عبرةٌ للمتأمل فيها، حيث نهج بعض الحكّام ظلم الناس تثبيتاً لدعائم ملكهم، واضطهدوا مئات الآلاف من الناس ، فأتاهم الله سبحانه من حيث لم يحتسبوا حتّى كأنّهم أزالوا ملكهم بأيديهم.

 13 ـ ولئن كان في بعض التثبّت وضبط النفس وإتمام الحجّة ــ رعاية للموازين والقيم النبيلة ــ بعض الخسارة العاجلة أحياناً فإنّه أكثر بركة وأحمد عاقبة وأرجى نتاجاً، وفي سيرة الأئمة من آل البيت^ أمثلة كثيرة من هذا المعنى، حتّى أنهم كانوا لا يبدؤون أهل حربهم بالقتال حتى يبدؤوا هم بالقتال وإن أصابوا بعض أصحابهم، ففي الحديث أنه لما كان يوم الجمل وبرز الناس بعضهم لبعض نادى منادى أمير المؤمنين×: (لا يبدأ أحدٌ منكم بقتالٍ حتّى آمركم)، قال بعض أصحابه: فرموا فينا، فقلنا يا أمير المؤمنين: قد رُمينا ، فقال: (كفّوا) ، ثم رمونا فقتلوا منّا ، قلنا يا أمير المؤمنين: قد قتلونا، فقال: (احملوا على بركة الله)، وكذلك فعل الإمام الحسين× في يوم عاشوراء.

 14 ـ وكونوا لمن قِبَلكم من الناس حماة ناصحين حتى يأمنوا جانبكم ويعينوكم على عدوّكم ، بل أعينوا ضعفاءهم ما استطعتم، فإنّهم إخوانكم وأهاليكم، واشفقوا عليهم فيما تشفقون في مثله على ذويكم، واعلموا أنّكم بعين الله سبحانه، يحصي أفعالكم ويعلم نياتكم ويختبر احوالكم.

 15 ـ ولا يفوتنكم الاهتمام بصلواتكم المفروضة، فما وفد امرئٌ على الله سبحانه بعمل يكون خيراً من الصلاة، وإنّ الصلاة لهي الأدب الذي يتأدّب الانسان مع خالقه والتحية التي يؤديها تجاهه، وهي دعامة الدين ومناط قبول الأعمال، وقد خففها الله سبحانه بحسب مقتضيات الخوف والقتال، حتى قد يكتفى في حال الانشغال في طول الوقت بالقتال بالتكـبيرة عن كل ركـعة ولو لم يكن المرء مسـتقبلاً للقبلة كما قال عزّ من قائل: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين، فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً ، فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علّمكم ما لم تكونوا تعلمون ).

 على أنه سبحانه وتعالى أمر المؤمنين بأن يأخذوا حذرهم وأسلحتهم ولا يجتمعوا للصلاة جميعاً بل يتناوبوا فيها حيطةً لهم. وقد ورد في سيرة أمير المؤمنين وصيته بالصلاة لأصحابه، وفي الخبر المعتبر عن أبي جعفر الباقر× قال في صلاة الخوف عند المطاردة والمناوشة: (يصلّي كل إنسان منهم بالإيماء حيث كان وجهه وإن كانت المسايفة والمعانقة وتلاحم القتال، فإنّ أمير المؤمنين× صلى ليلة صفّين ـ وهي ليلة الهرير ـ لم تكن صلاتهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء ـ عند وقت كل صلاة ـ إلاّ التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد والدعاء، فكانت تلك صلاتهم، لم يأمرهم بإعادة الصلاة).

 16 ـ واستعينوا على أنفسكم بكثرة ذكر الله سبحانه وتلاوة كتابه واذكروا لقاءكم به ومنقلبكم اليه، كما كان عليه أمير المؤمنين×، وقد ورد انه بلغ من محافظته على وِرده أنه يُبسط له نطعٌ بين الصفين ليلة الهرير فيصلّي عليه وِرده، والسهام تقع بين يديه وتمر على صماخيه يميناً وشمالاً فلا يرتاع لذلك، ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته.

 17 ـ واحرصوا أعانكم الله على أن تعملوا بخُلُق النبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم) مع الآخرين في الحرب والسلم جميعاً، حتّى تكونوا للإسلام زيناً ولقيمه مَثَلاً ،فإنّ هذا الدين بُنِيَ على ضياء الفطرة وشهادة العقل ورجاحة الأخلاق، ويكفي منبّهاً على ذلك أنه رفع راية التعقل والأخلاق الفاضلة، فهو يرتكز في أصوله على الدعوة إلى التأمل والتفكير في أبعاد هذه الحياة وآفاقها ثم الاعتبار بها والعمل بموجبها كما يرتكز في نظامه التشريعي على إثارة دفائن العقول وقواعد الفطرة، قال الله تعالى: ( ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها) وقال أمير المؤمنين×: ( فبعث ـ الله ـ فيهم رسله وواتر انبياءه اليهم ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكّرهم منسيّ نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول)، ولو تفقّه أهل الإسلام وعملوا بتعاليمه لظهرت لهم البركات وعمّ ضياؤها في الآفاق، وإياكم والتشبّث ببعض ما تشابه من الاحداث والنصوص فإنّها لو ردّت إلى الذين يستنبطونه من أهل العلم ــ كما أمر الله سبحانه ــ لعلموا سبيلها ومغزاها.

 18 ـ وإيّاكم والتسرّع في مواقع الحذر فتلقوا بأنفسكم إلى التهلكة، فإنّ أكثر ما يراهن عليه عدوّكم هو استرسالكم في مواقع الحذر بغير تروٍّ واندفاعكم من غير تحوّط ومهنيّة، واهتموا بتنظيم صفوفكم والتنسيق بين خطواتكم، ولا تتعجّلوا في خطوة ٍ قبل إنضاجها وإحكامها وتوفير ادواتها و مقتضياتها وضمان الثبات عليها والتمسك بنتائجها، قال سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا)، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ)، وكونوا أشدّاء فوق ما تجدونه من أعدائكم فإنكم أولى بالحق منهم، وإن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون، اللهم إلا رجاءً مدخولاً وأماني كاذبة واوهاماً زائفة كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً، حجبتهم الشبهات بظلمـائها وعميت بصائرهم بأوهامها.

 19 ـ هذا وينبغي لمن قِبَلكم من الناس ممّن يتترس بهم عدوّكم أن يكونوا ناصحين لحماتهم يقدّرون تضحياتهم ويبعدون الأذى عنهم ولا يثيرون الظنة بأنفسهم، فإنّ الله سبحانه لم يجعل لأحد ٍ على آخر حقّاً إلاّ وجعل لذاك عليه حقّاً مثله، فلكلّ ٍ مثل ما عليه بالمعروف.

 واعلموا أنكم لا تجدون أنصح من بعضكم لبعض إذا تصافيتم واجتمعتم فيما بينكم بالمعروف حتى وان اقتضى الصفح والتجاوز عن بعض الأخطاء بل الخطايا وإن كانت جليلة، فمن ظّن غريباً أنصح له من أهله وعشيرته وأهل بلده ووالاه من دونهم فقد توهّم، ومن جرّب من الأمور ما جُرّبت من قبل أوجبت له الندامة. وليعلم أن البادئ بالصفح له من الاجر مع أجر صفحه أجر كل ما يتبعه من صفح وخير وسداد، ولن يضيع ذلك عند الله سبحانه، بل يوفيه إيّاه عند الحاجة إليه في ظلمات البرزخ وعرصات القيامة. ومن أعان حامياً من حماة المسلمين أو خلفه في أهله وأعانه على أمر عائلته كان له من الأجر مثل أجر من جاهد.

 20 ـ وعلى الجميع أن يدعوا العصبيات الذميمة ويتمسّكوا بمكارم الأخلاق، فإنّ الله جعل الناس أقواماً وشعوباً ليتعارفوا ويتبادلوا المنافع ويكون بعضهم عوناً للبعض الآخر , فلا تغلبنّكم الأفكار الضيقة والانانيات الشخصيّة، وقد علمتم ما حلّ بكم وبعامّة المسلمين في سائر بلادهم حتّى أصبحت طاقاتهم وقواهم وأموالهم وثرواتهم تُهدر في ضرب بعضهم لبعض، بدلاً من استثمارها في مجال تطوير العلوم واستنماء النعم وصلاح أحوال الناس. فاتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصّة، أمّا وقد وقعت الفتنة فحاولوا إطفاءها وتجنّبوا إذكاءها واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا، واعلموا أنّ الله إن يعلم في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم، إنّ الله على كلّ شيء ٍ قدير[9].

ومن أهم الاشكاليات التي نعاني منها عادة في الحراكات والمعارضة السياسية، تلاشي القيم والمبادئ تدريجيا أمام ازدواجية المعايير، والانتشار التدريجي للفلسفة النفعية[10]، والتكسب على كافة المستويات، وأهمها المستوى السياسي.

فمواجهة الاستبداد السياسي من خلال المعارضة السياسية حتى العسكرية منها، هي مواجهة حدثت عبر التاريخ، ومع الأنبياء وبأشكال مختلفة، لخطورة الاستبداد والطغيان على المجتمعات وطريقة معرفتها لله تعالى، ولتعارض الطغيان والاستبداد تعارضا تاما مع التوحيد ودعوة الله لعباده إلى التحرر، لتحرير الطاقات في صالح الناس، وفي صالح العدالة والحقوق وحفظ الكرامات.

يقول جون لوك[11] (١٦٣٢م – ١٧٠٤م) معرفا الطغيان” إذا كان الاغتصاب هو ممارسة إنسان ما لسلطة ليست من حقه، فإن الطغيان هو ممارسة سلطة لا تستند إلي أي حق، ويستحيل أن تكون حقا لإنسان ما”[12] ويستخدم الطاغية السلطة التي انفرد بها لصالحه حتى لو أدى صالحه للظلم وغياب العدالة، وينقل عن الملك جيمس في خطاب له أمام البرلمان الإنجليزي سنة ١٦٣٠ م قوله: “إن الفرق بين الملك والطاغية هو أن الأول يجعل من القوانين حدا تنتهي عنده سلطته، كما أنه يجعل من خير المجموع الغرض الأساسي لحكمه، أما الطاغية فلا حد لسلطانه، كما أنه يسخر كل شيء لإرادته ورغباته”[13]. بل الصفة المشتركة بين الملك والطاغي هو “عدم المساءلة” فهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

لقد طرج جورج استيورات (١٨٠٦ – ١٨٧٣ م) أسئلة في بحثه عن الحرية قائلا: ” لا يجوز إجبار الفرد على أداء عمل ما أو الامتناع عمل آخر بدعوى أن هذا الأداء وهذا الامتناع يحافظ على مصلحته، أو يجلب نفعا له، أو يعود بالخير والسعادة، بل حتى لو كان ذلك في نظر الناس جميعا هو عين الصواب وصميم الحق، ويرى أن الأفكار التي يتصور البعض أنها في صالح المجتمع عليهم بطرحها للنقاش – وهو ما أشار له الإمام علي× مشورة بعدل – لكن صحتها أو صلاحيتها في نظرهم لا تبرر إكراه الآخرين على الأخذ بها إن هم أصروا علي رفضها. – وقد تجلى ذلك في صفين عندما كان الإمام علي× يريد أن يكمل مواجهته مع معاوية وأصر الناس على التحكيم، فلم يجبرهم على القتال، وذهب إلى التحكيم رغم معرفته بمكر ودهاء معاوية وفشل عملية التحكيم، إلا أنه حقق رغبة الناس الذين كان أغلبهم يطالبون بالتحكيم ووقف القتال – ويكمل ستيورات فلو توصل حاكم إلى أفكار متقدمة رائعة فإن ذلك لا يبرر له فرضها على الناس القوة، بل عليه أن يعرضها عليهم وأن يقنعهم بها” لأن القهر والجر والإكراه من جانب السلطة أو تدخلها في سلوك الفرد، أمر غير جائز على الإطلاق، فيما يرى “مل” إلا في حالة واحدة فقط هي إذا كان تصرف هذا الفرد فيه مساس بالغير أو إلحاق للأذى بالآخرين”.[14]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] المعارضة السياسية، عبد الحكيم عبد الله، مجلة الوعي، العدد ١٢٦، السنة الحادية عشرة – رجب ١٤١٨ – تشرين الثاني ١٩٩٧م

[2] المصدر السابق بتصرف

[3] المعارضة السياسية، عبد الحكيم عبد الله، مجلة الوعي، العدد ١٢٦، السنة الحادية عشرة – رجب ١٤١٨ – تشرين الثاني ١٩٩٧م

[4] سيرة ابن هشام:٤/٢٤٠، عيون الأخبار لابن قتيبة: ٢/٢٣٤

[5] رواه الطبري في الكبير والأوسط وأبو يعلى ورجاله ثقات كما ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد، وصححه الشيخ الألباني وحسين أسد محقق مسند أبي يعلي.

[6] شرح نهج البلاغة، ابن أبي حديد المعتزلي، ج ١١، ص ١٠٢ ،١٠٣

[7] د، إمام عبد الفتاح إمام، الطاغية، مصدر سابق، ص ٦٣

[8] لبد : أقام، أي إن أقاموا فأقيموا .

[9] صدر إصدار مكتب سماحة السيد السيستاني دام ظله

 في الثاني والعشرين من شهر ربيع الآخر عام 1436 هـ

https://www.sistani.org/arabic/archive/25034/

[10] النفعية في الفلسفة الغربية هي نظرية أخلاقية تنص على أن أفضل سلوك أو تصرف هو السلوك الذي يحقق الزيادة القصوى في المنفعة. فيكون المعيار هو النفع، ولا يوجد ضوابط عامة للأدوات والسبل في تحقيق هذا النفع

[11] فيلسوف تجريبي ومفكر سياسي انجليزي.

[12] جون لوك “في الحكم المدني” فقرة رقم ١٩٩

[13] جون لوك” في الحكم المدني” فقرة رقم ٢٠٠

[14] J. S. Mill: Utiliarianism p. 73.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً