الإخوة المؤمنون، أيها الحفل الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إنّنا نعيش في مرحلةٍ تاريخية من عمر أمّتنا المسلمة، تتحوّل فيها الكثير من الواجبات الكفائية على الصعيد الاجتماعي العام إلى واجبات عينية إن صحّ التعبير، وتُثقل الأوضاع فيها وتسارُعُ وتائر الأحداث والتحدّيات من حجم المسؤوليات الملقاة على عاتق العاملين في الخطّ الإسلامي، وتزداد المسؤوليات ثقلاً وحملاً عندما تأتي إلى المؤسّسة الدينية والحوزة العلمية، بما تمثله من موقع المسؤولية الكبيرة في حمل لواء الدين ونشر القيم والمبادئ الإنسانية السامية، وتحرير الإنسان من مختلف مظاهر الظلم والاستعباد.
في مثل هذا العصر الذي لا يعرف التوازن إلا بالقوّة، لابدّ للفكر الإسلامي ـ كي يكون له حضوره ـ من أن يأخذ بأسباب القوّة هذه، ولا تقف القوّة عند حدود القوّة الماديّة، بل تتعدّاها إلى قوّة العلم والمعرفة، فالعلم لم يعُد صوراً ذهنية بحتة بقدر ما أخذ صيرورته كموقع للسلطة في الاجتماع البشري، فمن يملك العلم يملك القوّة والسلطة والنفوذ.
من هذا المنطلق، كان لابدّ للمؤسّسة الدينية من نهضةٍ جديدة ـ تضاف إلى سلسلة نهضاتها السابقة ـ تدفع المفكّرين وعلماء الدين الراشدين كي يملكوا مواقع القوّة على امتداد مساحاتها في الحياة الإنسانية، ونحن نجد أنّ تطوّر طرائق التفكير يعدّ أبرز البنيات التحتية لتوفير الظروف الملائمة لنهضةٍ حقيقيّة.
ولا تستطيع طرائق التفكير أن تنمو وتتعالى إلا بإعادة تنظيم أوراق الفكر والمعرفة وبلورتها ضمن جداول الأولويات الزمنيّة، ومن ثمّ كان تطوّر الوعي بحاجةٍ إلى الانفتاح على أنماط التفكير الأخرى وأساليب التعامل مع الظواهر الفكرية ومناهج تفكيك الأفكار، الأمر الذي لا يتسنّى إلا بنهضة حقيقيّة على مستوى مناهج البحث والكتابة والتأليف والتدوين والتحقيق والنقد والترجمة.
إنّ أهميّة الخطوة التي أقدمت عليها جامعة المصطفى العالمية مشكورةً، تكمن في أنّها دفعت جيلاً من طلاب العلوم الدينية إلى الإمساك بمفاصل الوعي العلمي والتصدّي للمجالات البحثية، في زمن لا تكاد تتوقف فيه الإشكاليات المتدفّقة سيلاً على الدين وقيمه ومفاهيمه، فعندما يندفع الطلاب ـ أو يُدفعوا ـ إلى مجال البحث العلمي والكتابة الفكرية، فإنّ مجموعاتٍ هنا وهناك سوف تتبلور ـ اختياريّاً هذه المرّة ـ لتبنّي هذا الخيار، الأمر الذي سيوفّر على المدى البعيد المقوّمات البشريّة الأولى لولادة مراكز دراسات وأبحاث، وكذلك لظهور جيلٍ من الكتّاب الإسلاميين المنفتحين القادرين ـ إذا جاز التعبير ـ على غزو الإعلام المقروء وغيره، وعلى اقتحام أسوار معاقل الفكر والثقافة في عالمنا المعاصر، مجهّزين بأحدث الأساليب الأكاديمية للتعاطي مع الأفكار من منطلق وعيها ومواكبتها، وربما أحياناً من موقع تخطّيها.
إذا كان المنبر والمسجد والخطابة ووسائل الإعلام المرئيّ والمسموع تعدّ شكلاً بالغ الأهميّة من أشكال الحضور الثقافي والفكري؛ نظراً لمديات قيمة التوزيع والنشر، فإنّ جهود الإنتاج الفكري ستظلّ قابعةً بين جدران مراكز الدراسات والمعاهد العلمية التي ستمارس إنتاج النُخَب والأفكار لتتلقّفها وسائل التخاطب الجماهيري على طريقتها، فتطبّق عليها منطق الاستهلاك والتوزيع، وبهذا يقع التناسب الحقيقي بين الإنتاج والاستهلاك، فلا يتعدّى التوزيع على الإنتاج فنعرُض للناس فكراً مستهلَكاً لا يضخّ بالجديد المفيد، ولا يعتاش إلا على جهود علماء أبرار سابقين وفوا بما عاهدوا الله عليه. كما لا تقف حركتنا عند الإنتاج فقط ليدور فكرنا في حلقةٍ مفرغة، ومن ثم لن تكون المعرفة بعدها مقدّمةً للتغيير والتطوّر والتقدّم على المستوى البشري والاجتماعي.
وإذا كانت هناك نواقص أو نقائض في سيرورة النهضة التي أطلقتها جامعة المصطفى العالمية، فإنّ ذلك يعبّر عن الطبيعة البشريّة التي لابدّ لها ـ إلا من عصم ربّي ـ أن تخطأ لتصوِّب حركتها؛ لأنّ الصواب على الصعيد الإنساني قد يكون وليد الوقوع في الخطأ أحياناً، ومن ثمّ فليس كلّ خطأ شرّاً مطلقاً، بل قد يكون خيراً عندما يقع في صراط مراكمة الوعي الإنساني بما حوله وبما عنده، وفي صراط السيرورة الطبيعية للفكر الإنساني باتجاه الكمال.
لا أريد أن أضع رأسي في الرمال كالنعامة لأصوّر مشهد التجربة رائعاً، وكأنّه لا مشكلة في هذه النهضة التي حصلت، فأعطي ذاتي إحساس الأمان والطمأنينة كما يحبّ بعضنا أن يتعامل مع المشاكل الراهنة والأزمات القائمة، لكنّني أريد أن أرى الأشياء في سياقها الطبيعي الزمكاني المحيط، فكما لا يصحّ أن نخاطب أمماً قد ماتت، كذلك لا يصحّ أن نتعامل مع أجيال لم تولد بعدُ، أي لا يصحّ لي أن أبتر الجيل الحاضر من سياقه التاريخي الذي لم يوفّر له مراكمة التجارب من الجيل السابق إلا بمقدار ضئيل، فالجيل السابق على جيلنا لم يشهد حركةً عامّة بهذا المستوى وعلى هذا الصعيد، وإنّما شهد ظهور أفراد مبدعين، والشرق غنيّ بأفراده ومبدعيه وليس غنيّاً على بعض الصعد بأمواجه وحركته الجمعية، فهذا السياق التاريخي لهذه التجربة الناهضة في جامعة المصطفى العالمية ينبغي أخذه بعين الاعتبار كي لا نقرأ الأمور بطريقةٍ غير واقعيّة، دون أن يمنع ذلك الحريصين من ممارسة النقد البنّاء حيث يحتاج الأمر.
وإذا كانت تجربةٌ ما قد رأت نجاحها في مكان ما ـ الغرب أنموذجاً ـ فليس من الضروري لتجربة أخرى أن تحرُق المراحل لتواكب تلك التجربة بتفاصيلها، إذ قد تصاب في القفزات الكبرى بتمزّق عضلي لم تتهيأ له من قبل، والمؤسف أنّنا إذا أردنا السير بهذه الطريقة المستعجلة أو القائمة على القفزات فإنّ الفشل الذي سيحصل نتيجة عدم التعامل مع منطق الأشياء التاريخي سوف يفضي بنا على جلد الذات ولعن النفس، ممّا لا يجرّ علينا سوى الإحباط والانزواء.
إنّني ـ ومن منطلق التجربة المتواضعة جدّاً ـ أدعو نفسي وإخواني الطلبة إلى اعتبار نهضة الكتابة والبحث والتدوين على مستوى جامعة المصطفى العالمية بمثابة بداية لمسيرة الألف ميل، وليست النهاية، نعم. ليست النهاية خلافاً لما يحصل مع كثيرين في الحوزات والجامعات ممّن يعتبرون أنّ أطروحة الدكتوراه هي نهاية مسيرته العلمية في منطق تفكير يهدف إلى كسب الشهادة لتأمين فرص العمل فقط، دون أن يكون للرصيد العلمي الذي أتى بهذه الشهادة احترامٌ يُذكر.
إنني كطالب في الحوزة العلمية هنا أتوق لأرى نفسي وإخواني الطلبة أشبه بخلايا النحل الهادرة التي لا تهدأ في حلقات البحث والمناقشة والتأليف والمراجعة والنقد، خلايا تنقضّ على كل جديد في ساحاتنا الفكرية والثقافية لتلتهمه وتشبعه بحثاً ونقداً وتمحيصاً وتقويماً بروح إيجابية غير معقّدّة من أحد ولا تبحث عن عفريت في كلامٍ هنا أو هنات، وأعتقد أنّ نهضة تدوين الرسائل الجامعية هذه سوف تكون مدماكاً أوّل لهؤلاء الطلبة كي يخوضوا هذا الميدان الرحب الفسيح.
وفي الختام، mمن لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالقn، لابدّ لي من أن أتوجّه ـ باسمي وباسم جميع طلاب الحوزة العلمية ـ بعرفان الجميل والشكر الجزيل من جامعة المصطفى العالمية، بشخص رئيسها وإدارتها وكافّة المسؤولين والعاملين فيها على المستويين الإداري والعلمي، وذلك على الجهود القيّمة التي بذلوها وما زالوا للارتقاء بالمستوى العام للحوزة العلمية في هذه المدينة الطيّبة، كما أشكر من ساهم ويساهم في هذا البلد الكريم ـ شعباً ودولةً ومؤسّسات ـ في توفير الأمن الروحي والاقتصادي والثقافي والسياسي ليكون هذا الأمن مناخاً صحيّاً لتحقيق التنمية الثقافية المنشودة. وأسال الله تعالى أن يوفق الجميع لكلّ معاني الخدمة في سبيله، إنّه وليّ التوفيق.
([1]) نصّ الكلمة التي ألقيت بتاريخ 21 ـ 4 ـ 2011م، في قاعة القدس في مدرسة الإمام الخميني، في مدينة قم المقدسة، بمناسبة اللقاء العام الأوّل حول نهضة الرسائل الجامعية في الحوزة العلمية.