ــ القسم الثالث ــ
الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي(*)
خامساً: الحوزة العلمية، الإخفاقات والأخطار
أـ مسؤولية الحوزة العلمية بصفتها عماد المؤسسة الدينية
مما لا شك فيه أن جميع رجال الدين ملزمون بالمحافظة على الأمانة التي أوكلت إليهم، وهي الإسلام العظيم، والدفاع عنه. فالجميع يتحملون المسؤولية تجاه هذه الأمانة الإلهية، ولا يستطيعون التنصل من أعبائها، وعليهم أن يبذلوا ما بوسعهم في هذا السبيل، حتى لو كلفهم ذلك حياتهم. ومن جهة أخرى يجب عليهم السعي لدراسة الإسلام دراسة متقنة ومعمّقة، والسعي كذلك لإيصاله إلى الآخرين، والعمل على إزالة الشبهات. ونحن نشعر اليوم بضرورة تنفيذ هذا الأمر أكثر من أي وقت مضى؛ لأننا اليوم نقف في مواجهة مختلف الفرق والأفراد، الذين انبرى كلٌّ منهم لمهاجمة أحد أبعاد الإسلام، ويسعون بشتى السبل للعمل على إضعاف إيمان الناس، وكسر شوكتهم.
ينبغي على العلماء أن تكون لديهم القدرة على التحدث مع كل شخص حسب اللغة التي يفهمها؛ فلو كان المتحدث يثير شبهة فلسفية ينبغي التحدث معه بلغة فلسفية؛ لأنه لا يقتنع بقراءة آية من آيات القرآن، أو أن تُسمعه حديثاً، وسيقول: «إن مستوى فهمكم للقرآن والحديث ليس كاملاً».
هذه الأمثلة نضربها لكي يُعلم بأنه عندما نريد أن نردّ على هذه الشبهات لا يمكن أن نقول: إن الشيخ الأنصاري قال كذا وكذا في كتاب الرسائل، وعليه فإن ادعاء المشكِّك باطل. إنهم يضربون المسألة من أسّها، وكما أشرنا فهم لا يقبلون حتى بمسألة الاستدلال بالقرآن، فيثيرون التساؤلات حول صدقيّة القرآن من جهة، وكيفية فهمه وإدراكه من جهة أخرى. ولذلك فإن مسؤولية العلماء ورجال الدين تستوجب أن يبذلوا ما بوسعهم في دراسة العلوم الإسلامية والمعارف المرتبطة بها أولاً، ومن ثم يتوجهوا نحو نشر المعارف الإسلامية وإيصالها إلى الآخرين.
يجب على العلماء أن ينزلوا إلى المجتمع، ويعلموا الناس أسس الكتاب والسنة بشكل صحيح. القرآن الكريم نزل لجميع الناس، ولا يختص بمجموعة من الأفراد الذين يعيشون في رقعة جغرافية معينة، أو في مرحلة زمنية معينة. كما أن الإسلام لا ينتشر بصورة غيبية وخارقة للعادة، وإنما ينتشر على أيدي البشر أنفسهم. ولو لم يكن مقرراً أن يقوم الناس أنفسهم بنشر الدين الإسلامي، وكان مقرراً أن ينتشر عن طريق الإعجاز، فإن هذا الإعجاز كان سيحصل في زمن النبي الأكرم’ والأئمة المعصومين^. وبناء على ذلك تقع مسؤولية نشر الدين الإسلامي على عاتق رجال الدين والحوزة العلمية. كما أن رجال الدين مسؤولون عن الحؤول دون حصول الانحراف العقائدي للمسلمين، ولا ينبغي لهم أن يخشوا أية قوة في هذا السبيل.
يجب أن يكون بين أفراد المجتمع مَنْ يكون قادراً على ردّ الشبهات المثارة من قبل المخالفين، ويحافظ على دين الناس. يقول البعض: رجال الدين ليسوا مسؤولين عن دين الناس، إلا أن الواقع غير ذلك، و «على رجال الدين أن لا يَدَعوا الناس يكفرون، وأن يشعروا بالمسؤولية تجاه تديّن الناس»([1])؛ ذلك أن الدين الإسلامي يحمل الأفراد مسؤولياتهم. يقول نبي الإسلام’: «كُلّكم راعٍ، وكُلّكم مسؤولٌ عن رَعِيَّته»([2]).
على المؤسسة الدينية أن تسعى لنشر الدين الإسلامي بالطرق والأساليب الصحيحة، ذات المسحة المشوقة، وبشكل محبَّب للناس. ولو أن علماءنا الأفاضل لم يعتبروا أنفسهم مسؤولين لما بقي شيء من الإسلام ومذهب أهل البيت^. إن إحساس السابقين بالمسؤولية هو الذي حافظ على بقاء إرث الإسلام والتشيّع. ولو أن العلماء كانوا يفكرون بأمورهم وأعمالهم الشخصية فقط لما ألّفت جميع هذه الكتب، ولما أنجزت هذه الأبحاث والدراسات بشأن المعارف الإسلامية. ويرى علماؤنا أن عملية تأليف الكتب والنشاطات العلمية الأخرى هي من أفضل العبادات.
ولابد أن نعلم أن هناك الكثير من الأخطار التي تهدد الإسلام ومذهب أهل البيت^. ويجب أن لا يسود الاعتقاد أن الأفراد المنتمين إلى المذهب الشيعي سيبقون على عقيدتهم على الدوام. إذا تصرفت المؤسسة الدينية بشكل جيد وأدت واجباتها سيكون لدينا الأمل بالحفاظ على هذه المعتقدات، ولكن إذا لم يعملوا بواجباتهم ـ لا سمح الله ـ، وحدث شرخٌ بين الناس ورجال الدين، فسيتعرض الناس حتماً للذئاب المتربِّصة بالدين، ويفقدون بالتالي جميع إرثهم الديني.
لقد أكّد أئمة أهل البيت^ في الكثير من الروايات الواردة عنهم على «الاهتمام بأفكار الشيعة لئلا يضلّوا». كما جاء في بعض الروايات مدح علماء آخر الزمان والثناء عليهم؛ لأنهم يتكفّلون أيتام آل محمد’، بمعنى أنه في غياب الإمام المعصوم× سيكون الشيعة كالأيتام، ويحتاجون إلى من يتكفّلهم. والمتكفِّلون لهم ليسوا سوى العلماء.
إن الأوضاع بعد الثورة خطيرة وحساسة جداً. وإن مسؤولية رجال الدين بنفس الدرجة من الأهمية والخطورة. قبل الثورة لم تكن قوة رجال الدين كبيرة، وبالتالي كانت مسؤوليتهم قليلة أيضاً، ولكن مسؤوليتهم في الوقت الحاضر كبيرة، وأيديهم مبسوطة أكثر لخدمة الآخرين. ولكن هذا لا يعني أنه لم تعترض عملهم أية مشاكل أو معوّقات، فالمشاكل كانت دائماً تعترض طريق تقدم الإسلام بشكل أو آخر، وسيبقى الأمر كذلك. ولكن إذا كان العلماء عاجزين عن الاضطلاع بمسؤولياتهم في الوقت الحاضر فمتى سيكون بمقدورهم القيام بذلك؟ إنّ طريق العمل مفتوح الآن أمام الجميع، وليس لأحد أي عذر عند الله تعالى.
في عهد النظام السابق، إذا تجرأ أحد الفقهاء، وأعرب عن رأيه، وقال مثلاً: إن هناك موضوعاً معيناً في كتاب الصف الثالث الابتدائي مخالفاً للدين الإسلامي، ويجب أن يحذف، كان يجب عليه أن يتصل بعدة وسطاء ومسؤولين، ويتحمل الكثير من المتاعب، حتى يتمكن بالتالي من طرح موضوعه، ولم يكن من المعلوم أنه سينجح في تصحيح ذلك الموضوع.
يجب على رجال الدين عدم التوقُّف على ما تحقق بعد انتصار الثورة الإسلامية من أعمال، والاكتفاء بها. ولا ينبغي أن يسود الاعتقاد أن الثورة قد انتصرت، وأن شخصاً تصدى لقيادتها، وقامت جماهير الأمة بإنجاحها من خلال تضحياتها الجسام، وبذلك نكون قد أدينا جميع مسؤولياتنا تجاه ديننا الحنيف. يجب أن يعلم العلماء أنه مازال هناك الكثير من التخلّف والعيوب في الأداء، وعلى رجال الدين تذليل نقاط الضعف الموجودة، وأن يعملوا على إعداد الأجيال القادمة على نحوٍ يبقون فيه ملتزمين بالثورة وقضاياها. ويجب النظر إلى هذه المسائل على أنها واجب كفائي معيّن.
في المرحلة التالية لانتصار الثورة يجب الاهتمام ـ وقبل كل شيء ـ بالبنية الثقافية. فعلى كل فرد أن يساهم في عملية إعادة البناء الثقافي، كلٌّ على قدر استطاعته وحسب الموقع الذي يشغله؛ إذ إن ثورتنا الإسلامية تستند من حيث الأساس على الثقافة. والحركة التي أوجدها الأنبياء في العالم كانت ذات صبغة ثقافية قبل كل شيء، ورسالتهم تداعب عقول الناس وقلوبهم، وتنسجم مع مستوى تفكيرهم. والقضايا الأخرى التي كانت تطرح من قبل الأنبياء هي أيضاً من الأدوات الثقافية ومستلزماتها. كما أن المنهج الأساسي لحركة الأنبياء هو المنهج الثقافي. والثورة الإسلامية، التي تعد امتداداً لحركة الأنبياء والأئمة الأطهار، تواصل هي الأخرى تلك الحركة الثقافية.
وبناء على ذلك ينبغي على رجال الدين تغذية الناس داخل وخارج البلاد من الناحية الفكرية، وعرض الآراء الإسلامية الصحيحة عليهم، والعمل على إشاعة القيم الإسلامية. إذاً يجب أن يقوم الإعلام الديني في الأساس على تبيين حقائق الإسلام، والترويج لآرائه وأفكاره. ولكن تجدر الإشارة إلى أنه توجد الكثير من النواقص في هذا السياق.
قد يرى البعض أن هذه الأعمال هي من واجبات الحوزة العلمية فقط، وأن الآخرين لا يتحملون أية مسؤولية تجاه الإسلام والمسائل العقائدية. وتجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من أن العمل الرئيسي للحوزة العلمية يتمركز حول العمل على نشر الإسلام، وإجراء الدراسات العلمية حول المعارف والعلوم الإسلامية، إلا أن هذا الأمر لا يمثل إرثاً خاصاً للحوزة العلمية، فإن الأمة الإسلامية بأسرها تتحمل المسؤولية في إرشاد بعضهم البعض، ونشر تعاليم الدين، ولكن من باب تقسيم العمل نذر فريق منهم أنفسهم لتحمل أعباء هذه المسؤولية. إن الحوزة العلمية والمؤسسة الدينية ليست بالمستوى الذي يجعلها قادرة على تلبية جميع المتطلبات الإعلامية داخل وخارج البلاد، من حيث الطاقات البشرية، وسائر الإمكانات الأخرى. وبصراحة يمكن القول: إن الحوزة العلمية لا تمتلك هذه القدرة.
قبل قيام الثورة لم يسمح نظام الشاه لرجال الدين بالقيام بالأعمال الإيجابية. وبعد قيام الثورة أدت الأوضاع الخاصة للثورة، والظروف الاجتماعية الصعبة، إلى أن ينشغل رجال الدين بالأعمال التنفيذية، والقضائية، وسنّ القوانين، وما إلى ذلك. وبدلاً من أن تستفيد الحوزة العلمية من الإمكانات المتاحة بعد قيام الثورة؛ لكي تنهض وتتطور، وتوائم نفسها مع الأوضاع الجديدة، فقد اضطر أساتذة الحوزة العلمية وأفرادها البارزين؛ بسبب ضرورات المرحلة، إلى الخروج من الحوزة العلمية، والانشغال بالأعمال الأخرى. ولكن تجدر الإشارة إلى أن العلماء حالياً يتحملون مسؤولية كبرى، إلا أن الحوزة العلمية ليست بالحجم الذي يمكِّنها من تلبية جميع الاحتياجات.
وعلى أية حال لا يصح أن نلقي مسؤولية جميع الأمور المتعلِّقة بالإسلام على عاتق رجال الدين، بل يجب على الناس أيضاً، وباقي المؤسسات الأخرى، من قبيل: جامعات البلاد، أن يتصدوا لتحمُّل أعباء الواجبات الثقافية ـ الدينية كذلك.
ب ـ الحوزة العلمية والنواقص
ما يطرح هنا تحت عنوان نواقص الحوزة العلمية إنما يأتي في الأساس بسبب وجود المشاكل في قسمين، هما:
1 ـ المؤسسة والخطّة.
2 ـ الطاقات البشرية الكفوءة.
تعاني الحوزة العلمية في هذين الجانبين الكثير من النواقص. وسنلفت الأنظار للبعض منها؛ لكي يأخذ أهل الخبرة والعاملين الحريصين بالتفكير الجادّ في إصلاح هذه النواقص.
يمدّ المجتمع يد الحاجة نحو الحوزة العلمية، ويتأمل من الحوزة بعض الأمور. ولكن المؤسف أن وضع الحوزة العلمية ليس على النحو الذي يمكِّنها من أداء الرسالة التي ألقيت على عاتقها، وخاصة بعد قيام الثورة الإسلامية. يحتاج مجتمعنا للعلماء الصالحين والواعين على مختلف المستويات، ولكن ـ مع شديد الأسف ـ نجد أن العدد الموجود أقلّ بكثير من مستوى الحاجة الفعلية. إن مختلف المؤسسات والدوائر في البلاد بحاجة لطاقات الحوزة العلمية: المؤسسة القضائية، الجامعات، دوائر التوجيه العقائدي ـ السياسي، الإذاعة والتلفزيون، البرامج الإعلامية، وحتى الحوزات العلمية في المحافظات، بل حتى الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة، إلا أن الأفراد القادرين على تذليل هذه الاحتياجات معدودون.
يرى كلّ شخص منّا أن هناك الكثير من المسائل المنحرفة التي تواجه جيرانه وأقرباءه وأصدقاءه، ولكن لا يوجد من يجيب عليها. فالشبهات المنحرفة تنحدر نحو الجامعات كالسيل الجارف. لو كان لدينا في البلاد أساتذة إسلاميون لما تجرأ أحد على طرح بعض المواضيع المنحرفة في الجامعات، ويقود طلبتنا نحو الضلال. والمؤسف أن مكان أمثال: الشهيدين مطهري وبهشتي خالٍ الآن. هذا ما يتعلق بحاجة مجتمعنا، فما بالك بحاجة البلدان الأخرى، التي لو أخذناها بنظر الاعتبار فإن أعباء المسؤولية ستزداد أكثر فأكثر!
إن الدين الإسلامي نزل للعالمين جميعاً, وهو كالأمانة بين أيدينا، ويجب أن نوصلها إلى أهلها. وبالإضافة إلى مسؤولية رجال الدين المتمثلة بوجوب تلبية احتياجات البلاد في المجالات العلمية، والثقافية، والدينية، فإنه يجب عليهم الاهتمام أيضاً باحتياجات البلدان الأخرى. أليس البقية عباد الله؟ أليس لهم الحق في أن يطلعوا على الدين الإسلامي؟ الكثير منهم يمدون أيديهم نحو الأوساط الثقافية في بلادنا، ويطلبون منها إرسال الكتب، والمجلات، والأقراص، والملزمات، أو الأساتذة، بلغتهم، ولكن مع الأسف لم نحقِّق أيّاً منها!
إن أيَّ مذهب من المذاهب الباطلة في العالم يستفيد من عدة مراكز إعلامية؛ للترويج لأفكاره، ويستعين بعدة لغات. ولكن الدين الإسلامي بكلّ ما له من عظمة وجلال، وفي الجمهورية الإسلامية، التي تعد الآن أمّ القرى بالنسبة للدول الإسلامية، ليس بإمكانه أن يلبي واحداً بالمائة من طلبات البلدان الأخرى. ومن المناسب هنا أن نشير إلى نموذج من النشاطات الثقافية التي تحصل في أماكن أخرى من العالم، ونجري مقارنة بين أعمالها وبين ما يجري تنفيذه في الحوزة العلمية.
يقال: إنه عندما أرادوا تأليف المعجم اللغوي الإنگليزي (webster) استخدموا أربعة آلاف شخص كأعضاء دائمين، وعدداً كبيراً آخر للعمل بشكل غير رسمي، واستغرقت كتابته حوالي ست عشرة سنة، حتى اكتملت كتابة المعجم. عندما يطلع المرء على هذه النماذج يقف أكثر على ضعف أعماله، وتظهر عيوب أعمالنا في الحوزة العلمية بأشكال متعددة. فعلى سبيل المثال: تقدّم قبل عدة أعوام ستمائة ألف طالب للقبول في الجامعات، في حين أنه لم يتقدم في نفس تلك السنة سوى أربعمائة طالب فقط للقبول في الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة، وأغلبهم من الطلبة الذين لم يكن لديهم أي أمل في القبول في الجامعات. والمؤكَّد أن أحد أسباب هذه المسألة هو أن المؤسسة الدينية لم تتمكن من الظهور كما ينبغي ويليق بها، وتثبت بالتالي كفاءتها وفاعليتها.
بماذا ستجيب المؤسسة الدينية ورجال الدين يوم القيامة إذا لم يقوموا بفعل شيء ما، على الرغم من كل هذه الحاجة الموجودة في المجتمع؟ وهل من الصحيح أن نقول: إن كل ما كان يقوم به الآخرون كنا نقوم به نحن أيضاً؟ إن عدم وفاء البعض بالتزاماتهم لا يعدّ مسوِّغاً لعدم قيامنا بأداء التزاماتنا. ولعل هذا البعض لم يشعر بأية حاجة إطلاقاً. يجب أن نكون على حذر، ولا نركن إلى التراخي والتساهل في أداء تكاليفنا الشرعية. إن أسلوب التقديس لا يمكن أن يقدم شيئاً، وبالتالي سيضيع دين الله تعالى. علينا أن نكون يقظين، ونستوعب مسؤولياتنا جيداً؛ لنفكر بإيجاد مخرج لقضايانا، ونعمل على إزالة العيوب والنواقص. يجب أن نعيد النظر في كتبنا ومناهجنا الدراسية وطريقة التدريس، ونتبع طرقاً أخرى؛ لكي نحقق نتائج أفضل في أقل فترة ممكنة.
ومن الممكن أن يقال: إننا كنا نمتلك على مدى تاريخ المؤسسة الدينية ـ وما نزال ـ رجالاً قدَّموا للمجتمع خدمات قيّمة وكبيرة. ومن هنا يصبح معلوماً لدينا أن الحوزة العلمية تمتلك القدرة اللازمة لإعداد هذا النمط من الرجال. وبناء على ذلك إذا كان هناك أي نوع من أنواع النقص فالسبب في ذلك هم رجال الدين، وإلا فالمنهج التعليمي للحوزة العلمية لا يوجد فيه أي نقص يذكر؛ ذلك أن هذا النظام التعليمي خرّج أفراداً مثل: المرحوم مدرّس، والإمام الخميني، والعلاّمة الطباطبائي، والشهيد مطهري، وغيرهم. وعند الإجابة على ذلك لابد من القول: إن هذا التساؤل لا يعدو كونه وهماً، وليس أكثر؛ لأنه عندما نقوم بتقييم فاعلية نظامٍ تعليميٍّ معينٍ يجب أن لا نأخذ الحالات الاستثنائية بعين الاعتبار. وفي هذه الحالة فإن أكثر أفراد هذا النظام هم نتاجه المتمخِّض عنه، وليس الأفراد الاستثنائيين الذين لهم صفات خاصة.
ومن الممكن أن يُسأل أيضاً: أليست نفس هذه الكتب الحوزوية هي التي أنتجت أفراداً كالشيخ الأنصاري ومطهري؟ فإذا كان الأمر كذلك لماذا يجب أن تتغير هذه الكتب؟ ومن الواضح أن هذا الاعتراض لا أساس له هو الآخر تماماً؛ إذ إن هذا السؤال يشبه من يسأل بقوله: ما هي الكتب التي درسها الشيخ الأنصاري حتى أصبح بهذا المستوى؟ إذاً فإن تلك الكتب تكفي، وعلى الآخرين أيضاً أن يدرسوا نفس تلك الكتب؛ ليصبحوا كالشيخ الأنصاري.
إذاً ما هي الضرورة التي دعته لتأليف كتاب الرسائل والمكاسب؟ وعليه فإن هذا الكلام غير منطقي تماماً. ولو كان الأمر كذلك لما حصل أيُّ تطوُّر في العلم على الإطلاق، ولبقي مستوى المعلومات على الدوام ضمن نطاق محدود, فيبعث أحياناً على الركود والانحطاط أيضاً. لقد درس الشيخ الأنصاري كتاب «القوانين» فصار «الشيخ الأنصاري»، وألّف كتاب «الرسائل»؛ ليتمكن الآخرون من الحصول على معلوماته بشكل أسرع وأفضل، ولكن لو درسنا نحن كتاب «القوانين» فليس معلوماً أننا سنصبح مثل الشيخ الأنصاري، ولو أصبحنا مثله من ذات الطريق نكون قد قمنا بعمل لا مبرِّر له؛ لأنه من الممكن أن نحصل على تلك المعلومات من طريق آخر أبسط منه.
ونفس هذا الكلام يصدق على صاحب القوانين([3]) أيضاً؛ فقد درس كتاب المعالم، ثم أصبح صاحب القوانين، فهل يمكن القول: إننا لسنا بحاجة للقوانين والرسائل والكفاية أيضاً، ويكفي أن ندرس المعالم فقط؛ لنصبح أفضل من الشيخ الأنصاري؟
ومن خلال المواضيع التي تم ذكرها بات من الواضح ضرورة القيام بإعادة النظر في بنية الحوزة العلمية كمؤسسة تربوية علمية. ومن المعلوم أن إعادة الهيكلة ليس بالأمر الهين، ويعترضه الكثير من الموانع والمعوّقات. وبناءً على ذلك ينبغي أن يبدأ العمل من المشاكل والنواقص الأصغر. وما حصلنا عليه من خلال تجارب العقود الأخيرة أن أفضل ما نقوم به في مثل هذه الحالة يكمن في خلق مؤسسات ثقافية، يمكن أن تصبح أنموذجاً يُحتذى به من قبل الآخرين، فضلاً عن قيامها بتلبية جانب من الاحتياجات. إن تربية مجموعة من فضلاء الحوزة العلمية الشباب بشكل يتمكنون معه من تلبية جانب من الاحتياجات يعدّ واجباً متعيناً، أي واجباً كفائياً ليس له مَنْ به الكفاية؛ لأن الطاقات الموجودة في الحوزة العلمية لا تكفي لسدّ الاحتياجات.
ومن المناسب هنا أن نشير للأعمال الإيجابية التي تمت في الحوزة العلمية؛ لسد الاحتياجات الجديدة في المجتمع. توجد الآن عشرة اختصاصات علمية في العلوم الإنسانية تدرّس في الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة، ويدرس في كلٍّ منها عشرة إلى ثلاثين طالباً. وقد أكمل عدد منهم الدراسة، والبعض الآخر منهم سافر إلى خارج البلاد؛ لإكمال دراسته. وفي ما يتعلق بالمسائل الفلسفية والكلام توجد عدة مجاميع متخصصة أيضاً. والأساتذة الذين يقومون بالتدريس في هذه الاختصاصات يقضون جلّ وقتهم في التدريس في الفروع الاختصاصية. كما تتم الاستعانة في بعض الحالات بالأساتذة الأجانب للتدريس في هذه الاختصاصات.
وقد خطونا حتى الآن ـ ولله الحمد ـ خطوات مؤثِّرة على الطريق الصحيح، يمكن أن تبعث على المزيد من الأمل للمستقبل. ونسأل الله تعالى أن يوفِّق قائد الثورة، والمراجع العظام، وأساتذة الحوزة العلمية، وجميع العاملين في الوسط الثقافي، لمتابعة هذه القضايا، وأن يستفيد أعزاؤنا الطلبة من الإمكانات القليلة المتاحة بأفضل ما يمكن.
ج ـ الحوزة العلمية والمخاطر
تهدِّد الإسلام والمسلمين اليوم الكثير من الأخطار. والأمر الذي تتحمل الحوزة العلمية ورجال الدين مسؤوليته بشكل مباشر هو المخاطر التي تبرز من خلال الاستعانة بالأدوات الفكرية والعلمية. والمخاطر الأخرى يجب أن تقوم المؤسسات الأخرى بالتصدي لها وإزالتها. كما يجب أن نسأل الله تعالى أن يرزقنا ـ أولاً ـ توفيق المعرفة الصحيحة لواجباتنا ومسؤولياتنا. وثانياً: أن يوفقنا في تحمل أعباء هذه المسؤولية، وأن نوصلها إلى برّ الأمان.
ونشير هنا إلى نوعين من المخاطر التي تتعلق بشكل ما بالحوزة العلمية ورجال الدين:
1 ـ المخاطر التي تهدِّد الإسلام والمعتقدات الدينية
كتب أحد الأشخاص، الذين وقعوا في فخ الأعداء وخدعوا بأحابيلهم، يقول: «الاقتصاد الإسلامي يقضي بأن يسيطر الحاكم الشرعي على جميع مصادر الإنتاج، ويعطي لكل فرد من أفراد المجتمع ما يحتاجه من خلال نظام البطاقة التموينية». ويدّعي أيضاً أن هذا النظام الاقتصادي هو حالة وسط بين الرأسمالية والشيوعية. فهل أنّ ما تدعيه الشيوعية بقولها: «عندما تتشكل الحكومة العالمية الواحدة سيعطى كل شخص على حسب حاجته» هو غير ما يقوله هذا الشخص بشأن الدين الإسلامي؟ ثم يقول هذا الشخص: «لو أشكلتم بقولكم: إن هذا الادّعاء يوجب نسخ بعض الأحكام، من قبيل: الخمس، والزكاة، وغيرهما؛ لأنه عندما لا يملك الشخص شيئاً فلن يدفع الخمس ولا الزكاة، فالجواب عن ذلك: كلا، هذا الأمر ليس نسخاً؛ لأن النسخ يعني إلغاء الحكم، في حين أنه يعني هنا إلغاء الموضوع، وليس إلغاء الحكم؛ لأنه في هذه الحالة لا يملك الشخص شيئاً ليدفع خمسه أو زكاته».
وألّف آخر كتاباً برهن فيه أن الحاكم الشرعي بمقدوره أن يستبدل قوانين الإسلام الاقتصادية.
والأمر الآخر الذي يقوم به الأعداء في هذا السياق هو أنهم يثيرون التساؤلات والشكوك حول مكانة وقيمة الروايات والأحاديث. إنهم يقولون: «صحيحٌ أن ناقل الحديث هو شخصٌ موثوقٌ به في زماننا، والمنقول عنهم هم الأئمة المعصومين^، ولكن نجد أن الفترة الزمنية التي تفصلنا عن الناقل والمنقول عنه تمتد إلى حوالي ثلاثة عشر قرناً، وأن الكثير من أيادي الأعداء تصرفت وتدخّلت في هذه الأخبار، وبنفس الشكل الذي يسعى فيه أيُّ بائع إلى أن يعرض بضاعته المغشوشة بعلامة أو ماركة محترمة؛ لكي تجد من يشتريها، فمهما كانت الأحاديث معتبرة من حيث الرجال والدراية، إلا أن ذلك لا يدعونا إلى أن نعتمدها ونثق بها؛ لأنه من الممكن أن تكون تلك الأحاديث موضوعة وذات ماركة أصلية».
يقول الأعداء: «أغلب هذه الأحاديث وضعها العلاّمة المجلسي وأتباعه في زمن الدولة الصفوية؛ لكي يتقربوا بها إلى السلاطين». ولإثبات كلامهم هذا يستندون إلى بعض الروايات الموضوعة، أو إلى بعض الروايات التي لها مدلول كبير، ولكنها لا تنسجم مع مستوى تفكيرهم المادي. وبهذا الشكل تراهم يتحدثون عن هذه الأخبار بأسلوب السخرية والاستهزاء، ويقولون: «أخباركم هي من صنيعة أيادي اليهود، والنصارى، والبوذيين، والمستعمرين، والمستبدّين، وغيرهم».
بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك، حتى أنهم قدحوا ـ لغواً، وبكل وقاحة ـ بالقرآن الكريم. ففي البداية فسَّروا قصص القرآن الكريم بأسلوب رمزيّ، فقالوا مثلاً: «قصة هابيل وقابيل هي إشارة للتفاوت الطبقي»، كما فسروا سائر عناوين القرآن الكريم ومواضيعه بنفس الشكل، وفق الأسلوب الرمزي، وبذلوا حتى الآن جهوداً مضنية على هذا الطريق.
ولغرض تبرير أسلوبهم هذا (التفسير الرمزي لآيات القرآن) يقولون: إن هذا العمل يشبه ما يقوم به العرفاء والأئمة الأطهار^ في تفسير الآيات؛ لأنه لدينا في الروايات أن القرآن له بطون([4])، وفسّر العرفاء والأئمة الأطهار^ آيات القرآن الكريم طبقاً لبطونه. ومن هنا فإن التفسير الرمزي أمرٌ صحيح طبقاً لرأي أئمة الإسلام^ وعلمائه.
ومن الواضح جداً أن أيّاً من الأئمة الأطهار^ والعارفين لم ينكروا حجّية ظواهر القرآن. ويبيِّن الأئمة الأطهار بعض الحقائق من بطن القرآن الكريم انطلاقاً من العلوم الغيبية التي يلهمها الله تعالى لهم، ومع ذلك فهم يصرِّحون بأن للقرآن ظهراً، وظهره الحجة. وكذا بالنسبة للعرفاء، فبعد إقرارهم بحجّية ظواهر القرآن تراهم يسعون إلى استخراج بعض الحقائق من بطنه أيضاً. ولكننا الآن لسنا بصدد الاعتراف بصحة جميع تأويلات العرفاء، بل نريد القول: إن العرفاء لم يكونوا من المنكرين لحجية ظواهر القرآن الكريم، في الوقت الذي يقول فيه هؤلاء الأفراد: إنه لا حقيقة لغير التفسير الرمزي. وعليه هناك بون شاسع بين ما يدّعون وبين أسلوب الأئمة الأطهار^ والعرفاء.
ويبدو لي هنا أنه من الضروري التذكير بمسألة معينة بشأن أهمية التعمق والتأمل في الآيات والروايات.
هناك اليوم أفرادٌ في جميع الاختصاصات يذهبون إلى التأمل والتعمق بشأن الموضوعات والمسائل المتعلِّقة بكل فرع من تلك الاختصاصات، وينتقدون أقوال وآراء بعضهم البعض، ويدرسونها. فعلى سبيل المثال: عندما يتحدث أحد السياسيين يدقِّق المفسِّرون والمحلِّلون السياسيون في المواضيع التي يتناولها، بل ويدقِّقون في كلماته أيضاً، ومن ثَمَّ يتوصلون إلى نتائج معينة، من خلال تحليلاتهم وتقييمهم لكلامه، لا يمكن أن يتوصل لها الفرد العادي على الإطلاق.
وانطلاقاً من هذا المثال كيف يمكن لكلام نزل من قبل الله تعالى؛ لإسعاد البشرية، أن لا يضم مثل هذه الملاحظات الدقيقة، ولا يحتاج إلى دقّة أهل الفن وتعمُّقهم فيه؟! وتوجد في القرآن الكريم ـ على الرغم من حجمه الصغير ـ مواضيع دقيقة، يجب على العلماء وأهل الفنّ بموجبها الغوص فيه عميقاً.
وكذا بالنسبة للروايات. فعلى الرغم من لغتها البسيطة، وأنها جاءت بلغة يفهمها عوام الناس، إلا أنها تشتمل أيضاً على نقاط تحتاج إلى الدقة البالغة من قبل أهل هذا الفن. فعلى سبيل المثال: بذلت المزيد من الجهود الحثيثة لشرح كتاب نهج البلاغة وتوضيحه من قبل علماء الفريقين، وتم تأليف الكثير من الكتب في هذا المجال. لو كان كتاب نهج البلاغة ليس بحاجة إلى الشرح والتفسير، وكان الاكتفاء بتلك المفاهيم الموجزة صحيحاً، لما تجرّع كبار العلماء، وبخاصة علماء السنّة، متاعب الأبحاث والدراسات. وسائر الروايات والأحاديث بهذا الشكل أيضاً.
من الممكن أن يسود الاعتقاد أحياناً أنه يكفي قدر معين من المعرفة باللغة العربية لفهم الكتاب والسنة، وأنه ليس من الضروري القيام بإجراء الأبحاث الواسعة في العلوم الإنسانية. ويتم طرح هذا الأمر إما بسبب الرؤية الناقصة والجهل؛ أو بسبب وجود الأغراض السيئة. وبعبارة أخرى: من الممكن أن يقال هذا الكلام بهدف إبعاد الناس عن حقائق الكتاب والسنة؛ لكي يتمكن الأعداء من إلصاق أية مسألة باطلة يريدونها بالقرآن الكريم والروايات، وفرضها على أفكار الناس.
2 ـ الأخطار التي تهدد المؤسسة الدينية
تُقسَّم الأخطار التي تتهدد الحوزة العلمية والمؤسسة الدينية بشكل عام إلى مجموعتين: المجموعة الأولى: هي النواقص والعيوب المرتبطة برجال الدين والمؤسسة الدينية. المجموعة الثانية: هي المؤامرات والنشاطات المعادية التي تنفذ من قبل بعض الأفراد والمجاميع ضد المؤسسة الدينية.
1ـ2ـ النواقص والعيوب
النواقص والعيوب الموجودة لدى رجال الدين، وبالخصوص في الحوزة العلمية في قم المقدسة، استقطبت أنظار الخبراء وأصحاب الرأي الواقعيين منذ عشرات السنين. ومنذ زمن السيد البروجردي فكَّر بعض الأفراد، أمثال: الدكتور بهشتي، والشيخ رباني الشيرازي، وبعض الفضلاء الآخرين، الذين مازال بعضهم على قيد الحياة، فكروا في القيام ببعض الإجراءات؛ لتذليل النواقص الموجودة في الحوزة العلمية؛ ليتمكنوا من المساهمة في إصلاح شأنها. ولكن رغم من تلك الجهود فإن الكثير من تلك النواقص مازال ملحوظاً حتى الآن في مؤسسة الحوزة العلمية.
تنقسم النواقص والعيوب الموجودة لدى رجال الدين ـ من إحدى الجهات ـ إلى قسمين، بحيث إن كلاًّ منهما يمكن أن يقسَّم إلى أقسام أصغر:
القسم الأول: يتعلق بالعلم والمعرفة؛ والقسم الثاني: يتعلَّق بالأعمال والنشاطات.
من الناحية العلمية توجد جملة من النواقص في الحوزة العلمية بخصوص المناهج الدراسية، ومستوى التدريس، والفروع العلمية التي يحتاجها المجتمع. فمن جهة نجد أن كل طالب يدرس الأدب العربي لمدة أربع سنوات، ابتداءً من كتاب جامع المقدمات، وصولاً إلى المغني والمطوّل وغيرها. وعلى مدى هذه السنوات من الممكن أن يتعلم الطالب الكثير من الأشياء، إلا أنه لا يستطيع أن يتكلم باللغة العربية. هذا هو حال اللغة العربية في حوزتنا العلمية. وفي الفقه والأصول أيضاً يدرس الطالب لمدة أربع أو خمس سنوات، من شرح اللمعة إلى الكفاية في مرحلة السطوح، ولكن عندما يُسأل عملياً في المجتمع عن مسألة فقهية لا يستطيع الإجابة عنها بسهولة.
ومن جهة أخرى فإن المواد الدراسية مرتبة بشكل لا يتطابق مع ما يحتاجه المجتمع، فقد تم إهمال بعض المواد الدراسية المتعلقة بالحوزات العلمية تماماً، والتي يجب أن تدرّس فيها، ويحتاجها المجتمع أيضاً بشدّة. وعلى سبيل المثال: يتعرض المجتمع اليوم إلى الخطر العقائدي بشكل جادّ، على خلفية العلاقات الثقافية التي برزت مع المجتمعات والبلدان الأخرى. والذين يتعاملون دائماً مع الأوساط الجامعية أدركوا بشكل أفضل أن المشكلة الأساسية التي يعاني منها شبابنا هي المسألة العقائدية. فما هي المؤسسة المسؤولة عن تأمين هذه الحاجة؟
من الواضح أن القيام بهذا الأمر هو من مسؤولية الحوزات العلمية. ولكن مما يؤسف له أنه لم تتخذ أية إجراءات جادة من قبل الحوزات العلمية بشأن هذه المواضيع، ولم تتمكن الحوزة العلمية حتّى الآن من القيام بأداء واجباتها بشكل جيد في هذا المجال.
ومن المؤسف أيضاً أنه من الناحية العملية يوجد بين ظهرانينا أفرادٌ لا يؤدي سلوكهم الاجتماعي إلى عدم استقطاب الآخرين إلى أحضان الإسلام ورجال الدين والثورة فحسب, بل إن سلوكهم يؤدّي إلى إبعاد الآخرين أيضاً. إن سلوك البعض من رجال الدين على نحوٍ لا يستقطب الآخرين نحو الإسلام، بل إن الكثير من المتدينين، الذين تم إعدادهم على أيدي كبار العلماء وروّاد الحوزة العلمية، أصبحوا لا يعيرون أهمية تذكر لرجال الدين والإسلام.
لقد كان الإمام الخميني&، ومنذ أن كان يدرس في الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة كمدرّس عادي، وعندما كان ينصح الآخرين أحياناً ويعظهم في المناسبات، وحتى آخر الخطب التي ألقاها بخصوص رجال الدين، كان يوصي دائماً أن يكون رجال الدين منزّهين عن الركون للدنيا والتعلُّق بها، وأنه يجب أن تكون حياة رجل الدين بسيطة.
إنّ احترام رجال الدين يأتي من خلال احترام الناس للإسلام، وتوجيه الإهانة لرجال الدين علامة على عدم الاهتمام بالدين. لذا يجب على رجل الدين أن يحيا بشكل ينطبق فيه سلوكه مع الأوامر الدينية، وليس بالشكل الذي يثير الناس معه التساؤلات حول سلوكه، فيقولون على سبيل المثال: «من أين للسيد فلان هذا البيت الذي قيمته مئة مليون؟ ومن أين جاء بهذه السجّادة الفاخرة المصنوعة من الحرير؟»، وأقوال أخرى من هذا القبيل. إذا أصبح الوضع بهذا الشكل فبماذا سيجيب رجال الدين؟
يجب أن ننقد أنفسنا، وأن نساوي أنفسنا مع جميع الناس، وليس أن نقارن معيشتنا بحياة باقي الناس، أو بمعيشة آبائنا، أو إخواننا، أو أقاربنا. وفي هذا الوقت الذي يوجد فيه هذا الكم الهائل من المشاكل والصعوبات إذا انشغل رجل الدين بزخارف حياته المعيشية فهل سيحظى بمحبة الناس له؟ وهل سيزداد تعلُّقهم وتمسكهم بالإسلام، أم على العكس من ذلك، سيعرضون عن الإسلام والثورة؛ بسبب سلوكه غير المناسب؟
ومن المؤسف أن البعض لا يعترف بعيوبه، ويسعى دائماً إلى تحميل الآخرين مسؤولية تقصيره. وهذا هو السبب الرئيس للانحطاط. إن حالات الغرور هذه، سواء كانت بشكل فردي أو جماعي أو طبقي، تؤدي ـ أولاً ـ إلى أن لا ينتقد المرء نفسه، ولا يتعرّف بالتالي على عيوبه؛ وثانياً: إذا انتقده أحد الأشخاص فهي تمنعه من تقبل الانتقادات الصحيحة. وبالتالي يحول هذا الغرور والاعتداد بالنفس دون إصلاح العيوب.
لو أردنا حقّاً أن نقدّم خدمة معينة للمجتمع فيجب أن نعمل بجدٍّ وإخلاص بين يدي الله تعالى. ولو كان بالإمكان خداع الناس فلا يمكن أن نخادع الله. إذاً يجب أن نجعل علاقتنا بالله تعالى خالصة، وأن نعقد معه ميثاق العبودية، ويجب أن نعبّر لله تعالى بأعمالنا، بل حتى بألسنتنا وأقوالنا، بأننا نريد أن نعبِّر عن عبوديتنا أمامك، وليس عن ربوبيتنا. يجب أن ننظر ماذا يريد الله منا فنعمل به، وأن نعزز هذه الروحية لدينا، ونقف على العيوب التي نجدها لدى الآخرين؛ فإذا كانت تلك العيوب موجودة لدينا أيضاً يجب علينا العمل على إصلاحها. كما يجب علينا أن نستفيد من أصدقائنا الصالحين، ونتعاون معهم، ونواسيهم، ونسعى في خدمتهم ما أمكننا إلى ذلك سبيلٌ، ونحرص على بعضنا البعض.
المشكلة الأخرى التي تعاني منها الحوزات العلمية، وبخاصة الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة، هي أن الكثير من الأساتذة والأفراد الأكفاء في الحوزة العلمية قد استشهدوا، أو انخرطوا في ممارسة المهام التنفيذية والوظيفية، أو توجهوا للجامعات. وبهذا الشكل أخذت الحوزة العلمية تعاني النقص في الأفراد الصالحين. إن الأوضاع الحالية للحوزة العلمية لا تبعث على الارتياح؛ لأن الكثير من الطلبة الشباب والأذكياء وأصحاب الذهنيات الوقادة قد انخرطوا في ممارسة الأعمال التنفيذية، أو توجَّهوا نحو الجامعات.
ولابد من القول: إن المهام التنفيذية والتدريس في الجامعات تعد من الأعمال الضرورية، ولكن تلبية احتياجات الحوزة العلمية بالنسبة لرجل الدين تعدّ مسؤولية هامة، وأحد المبادئ الأساسية؛ لأن الحوزة العلمية تمثل الجانب الأساسي والمحوري، والأعمال الأخرى تمثل الأغصان والأوراق المتفرِّعة عنها. يجب أن نقوم بما يحافظ على بقاء جذور هذه الشجرة ودوامها. ولو افترضنا أن شجرة تعطي في السنة مئات الأزهار، ولكنها تذبل وتيبس، فهل هي أفضل أم الشجرة التي لا تعطي أزهاراً لعدة سنوات، ولكنها تمدّ جذورها؛ لتتمكن من الإزهار لعشرات السنين؟
من الضروري الآن أن يتواجد رجل الدين في الأوساط الجامعية والمؤسسات الأخرى، ولكن يجب أن يتم هذا الأمر بشكل لا يوجه ضربة لكيان الحوزة العلمية، وإلا فمن الأفضل أن يصار إلى تأجيل هذا الأمر؛ لكي يتم في البدء اتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة بهذا الشأن.
إن الجذور المستقبلية للحوزة العلمية يمثلها الأفراد الأكفاء، والمجدّون المخلصون. ولو أنهم تركوا الحوزة العلمية، واتجهوا نحو الأعمال الأخرى، فسيبقى الذين لا يرجى منهم أي شيء. وعند ذاك كيف سيكون مستقبل الحوزة والإسلام؟ ولا يخلو التذكير بالأمر التالي من فائدة، وهو أن تأمين جميع احتياجات الحوزة العلمية يقع على عاتق الناس؛ ذلك أن الحوزة العلمية لم تهبط من السماء، وأساتذتها ليسوا من عالم آخر، بل إن الطاقات البشرية والمادية للحوزة العلمية يجب تأمينها من أوساط هؤلاء الناس. ما من شك في أن الحوزة العلمية تعاني الكثير من النواقص، من حيث الطاقات البشرية، والبنايات، والمكتبات، والتقنيات التدريسية الأخرى، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: مَنْ هو المسؤول عن رأب هذا الصدع؟ إنه من مسؤولية الناس أن يرسلوا الأفراد الصالحين والأكفاء إلى الحوزة العلمية، ويهتمّوا أيضاً بتذليل الصعوبات والاحتياجات المادية لها.
إن فقدان الثقة بالنفس، والاستسلام دون قيد أو شرط أمام أفكار الآخرين، يمكن أن يمثل خطراً كبيراً على الحوزة العلمية والإسلام على حدٍّ سواء.
إن عامة الناس لا يملكون القدرة على التمييز بين القضايا، وعندما يميلون لشخص أو حزب معين يأخذون بجميع أفكارهم وآرائهم، ولا يستطيعون الفصل بين هذا وذاك، أو التمييز بين الأمور؛ ليدعوا الأخطاء جانباً. ومما يؤسف له أن هذا الأمر موجود أيضاً بين شريحة رجال الدين، الذين هم جزء من الطبقة الواعية والمثقَّفة في المجتمع. فعندما ينظرون لشخصٍ ما على أنّه بطل لا يسمحون لأنفسهم بأن يدقِّقوا في أفكاره، أو أن يعطوا رأيهم فيها.
وهذه الحالة بمثابة حالة نفسية تبرز لدى المرء، وهي عندما يُلفت أحد الأشخاص رأي مقابله في عمل ما يتصور أن جميع أفكاره صحيحة، ولا يشخّص العمل الذي كان بطلاً ومتخصِّصاً فيه لكي يقبل منه ذلك.
قبل عدة سنوات حصل أمر يثير القلق، وأود أن أشير إليه بشكل مختصر.
لقد وقع بعض طلبة العلوم الدينية، المجتهدون في دراستهم، وقد درس بعضهم لعدة سنوات لدى المراجع، ومنهم: الإمام الخميني&، وكانت لهم سوابق حسنة أيضاً، وقع هؤلاء تحت تأثير بعض الأفراد ممَّن أصبحت لديهم مكانة اجتماعية طيبة؛ بسبب أعمالهم البطولية. فقد سُجن البعض من هؤلاء الطلبة، وتعرّفوا هناك على أولئك الأفراد, وبعد خروجهم من السجن أخذوا يمتدحون أفكارهم، ويعظِّمونها، ويريدون أن يُفهم الإسلام من خلال آرائهم وأفكارهم، وأن يُنظر إلى الإسلام من خلال رؤيتهم، ولم يكونوا يرغبون بأن يشكِّك أحد بآرائهم، ويقول: لعل رؤيتهم غير صحيحة. فكانوا يتصورون أن هؤلاء الأفراد فقط هم الذين فهموا الإسلام بشكل صحيح، وإذا كنا نريد نحن أن نفهم الإسلام بشكل صحيح فيجب علينا أن نفكر مثلهم أيضاً. وفي النهاية انتهت هذه الآراء إلى أسوأ حال.
2ـ2ـ مؤامرات الأعداء
قبل انتصار الثورة الإسلامية كانت هناك جملة من المخاطر التي تهدِّد الإسلام والمؤسسة الدينية، ولكن الأخطار بعد ذلك أصبحت أكثر جدّية وحدّة. إنّ الإجراءات المتَّخذة ضد المؤسسة الدينية قبل الثورة كانت تنطلق غالباً من حالة العداء السافر للإسلام، وكان الأعداء يقولون بكل صراحة: نحن نعارض الإسلام. فقد كانوا ماركسيين، أومن سائر الفرق غير الأصيلة، ومن عملاء أمريكا، والتابعين لجناح الشاه. ولكن المؤسسة الدينية تواجه اليوم في داخل البلاد أفراداً يعارضون المؤسسة الدينية باسم الإسلام، وبأسلوب رمزي غالباً. ولو نجح هؤلاء في مشروعهم ـ لا سمح الله ـ فسيؤول الأمر إلى إضعاف المؤسسة الدينية، والقضاء عليها تماماً. وعلى الرغم من أن الجماهير تحمل محبة قلبية خاصة تجاه المؤسسة الدينية، ولن تتخلى عن دعمها بسهولة، ولكن لا يمكن التعويل كثيراً على عامة الناس؛ ذلك أن آراء الناس تتغير بسهولة، وسلوكهم سرعان ما يتغير هو الآخر.
وفي أحداث الخامس عشر من خرداد سنة 1342هـ ش سالت الدماء في شوارع مدينة قم المقدسة؛ دفاعاً عن الإسلام، واستشهد الكثيرون، ولكن بعد مرور سنتين على هذه الحادثة ازدانت نفس شوارع هذه المدينة من قبل عملاء النظام، والناس من أصحاب النظرة الضيقة، على أثر حملاتهم الإعلامية المؤيِّدة للشاه، والمناوئة للإمام ولرجال الدين. وهناك الكثير من هذه النماذج. من هنا لا يمكن الاعتماد على أفكار الناس، وتعاطيهم مع الأحداث؛ انطلاقاً من هذه النماذج.
يتألف المناوئون للمؤسسة الدينية ولرجال الدين من عدة مجموعات:
الأولى: الأحزاب الملحدة أو اللقيطة، التي لم تتمكن من أن تجد لنفسها موقعاً بعد انتصار الثورة، لمواصلة نشاطاتها السياسية في الميادين السياسية للبلاد، وانزوت. لذلك اتجهت نحو ممارسة النشاطات الثقافية الخفية، ودسّت عملاءها، الذين غيّر البعض منهم أقنعتهم، وتلبَّسوا بالمسوح الإسلامية والثورية، في الدوائر التنفيذية. ومن الطبيعي أن مَنْ لم يؤمن بالإسلام من حيث المبدأ سوف لن يؤمن بالمؤسسة الدينية ورجالها كذلك، ولن يتوانى عن ممارسة أي جهد ضدها.
الثانية: الذين ينظرون للمؤسسة الدينية على أنها طبقة أو شريحة «تتألف من المستهلكين غير المنتجين في البلاد، ووجدت لنفسها منذ القِدم موطىء قدم لها بين فئات الشعب، وتمكنت من استقطاب الجهلة لنفسها بالخداع والحيلة. واليوم حيث انتصرت الثورة بقيادة رجال الدين أيضاً فقد ضيَّقوا على الآخرين، واحتلّ رجال الدين المناصب التي كان من المفروض أن يشغلها غيرهم». وكما هو ملاحظ فإن الدافع وراء معارضة هذه المجموعة لرجال الدين هو دافعٌ ماديٌّ، ومعارضتهم عبارة عن معارضة طبقية.
هل حقاً يعدّ الدفاع عن رجال الدين نوعاً من النضال الطبقي؟ لو كان الأمر كذلك فلا داعي للنضال؛ لأنه لو جعلت إحدى الفئات معاشها اليومي على الدين سرعان ما تنقرض. ولكن لو كان وجود المؤسسة الدينية ضرورياً لبقاء الإسلام فإن الدفاع عنها سيكون ضرورياً كذلك. كلنا يعرف أنه إذا كان يُراد للإسلام أن يبقى فهو بحاجة لعلماء الدين وخبرائه. ولو لم يكن رجل الدين موجوداً؛ ليتمكن من تحديد حقائق الإسلام من مصادره الأصيلة، وهو الخبير بالإسلام، فسوف لن تبقى للإسلام باقية.
الثالثة: الذين هم مسلمون ومحبون للإسلام وللثورة، أو على الأقل ليسوا من المعادين للإسلام وللثورة، ولكنهم لا يحملون مشاعر جيدة تجاه «رجل الدين». فهم يقولون: «في السابق كانت هناك ضرورة عملية بنحو معين لرجال الدين، ولكن برزت اليوم حالة اجتماعية وتاريخية جديدة لم يعد فيها تواجد رجال الدين ضرورياً، ولا يمكن للمؤسسة الدينية أن تلبي أية حاجة معها. وبناءً على ذلك ينبغي أن تطوى صفحة رجال الدين، ويتنازلوا عن موقعهم للآخرين».
ويلجأ الأعداء إلى استخدام شتى السبل للوقوف بوجه المؤسسة الدينية ورجال الدين. ويلاحظ الكثير من التزييف والاتهامات في تصرفاتهم. ومن أساليبهم: العمل على إبراز نقاط الضعف بشكل أكبر من حجمها الحقيقي، وإثارة الضجيج الإعلامي حولها؛ بهدف إضعاف المؤسسة الدينية. فهم يقولون مثلاً: «قام رجال الدين بشغل المناصب السياسية، في حين أنهم ليسوا جديرين بها؛ لأنهم لم يدرسوا في هذا المجال من جهة، ولا يمتلكون الخبرة السياسية اللازمة لها أيضاً».
يقول الأعداء: «يمتلك رجال الدين نفسية متعصبة، وهم غير مستعدين لسماع رأي الآخرين والتعاطي معهم، ويقولون: كل ما فهمناه هو الصحيح، وعلى الجميع أن يتبعونا، بل إنهم يختلفون فيما بينهم، ولا يتعاطون مع بعضهم بشكل منطقي».
إنهم يقولون أحياناً: إن «رجال الدين يتمسكون بمجموعة من الدروس والمسائل التي هي غير مفيدة أساساً، أو أنها قليلة الفائدة جداً. وقد وضعوا الدروس الإسلامية التي يمكن أن تساهم في حل المشاكل التي يعاني منها المجتمع جانباً. كما أن منهجهم في الأبحاث والدراسات غير مجدٍ وغير عملي».
وخلاصة القول: إننا يجب أن نعرف أنواع الأخطار، ونتخذ الأساليب الصحيحة لمواجهتها. وبغير ذلك سوف لن يكون هناك ما يضمن بقاء هذا النظام الإسلامي.
الهوامش
(*) من أبرز أساتذة الفلسفة في إيران، رئيس مؤسسة الإمام الخميني للبحوث والدراسات، وعضو في مجلس خبراء القيادة، اشتهر بمناهضته الشديدة لمقولات الفكر الإصلاحي الأخير في إيران. له مؤلَّفات عديدة قيِّمة.
([1]) هذا الكلام للعلامة السيد الحائري. وللسيد الحائري بعض الكرامات، ونقل عنه أنه تشرف أيضاً بلقاء الإمام الحجة #. كما نقل أستاذي أنه كان يبكي كثيراً في أواخر حياته، وعندما سألوه عن السبب وراء بكائه وحزنه؟ قال: «أخشى أن يقولوا يوم القيامة: إنني المسؤول عن عدم إسلام يهود مدينة يزد؛ لأنه لو كان تصرفك سليماً لأسلم أولئك اليهود».
([2]) محمد تقي المجلسي، بحار الأنوار 75: 38، الباب 35، الرواية 36.
([3]) الميرزا أبو القاسم القمّي (1231هـ).
([4]) إنَّ للقرآنِ ظَهراً وبَطناً، وإنَّ عِلمَ كُلِّ شَيءٍ في القُرآنِ، وإنَّ ذلكَ كُلَّهُ عِندَ الأئمَّة^، ولا يَعلمُهُ غَيرُهم إلاّ بِتعليمِهم. (بحار الأنوار1: 78، الباب 8).