السيد محمود الهاشمي(*)
ترجمة: نظيرة غلاب
تمهيد
إن الفروقات الجوهرية بين قانون الصيرفة اللاربوية والصيرفة الربوية تستوجب أن تؤخذ بالحسبان في كل السياسات المتبعة في المعاملات البنكية والمصرفية. ولا ينبغي النظر إلى كون المعاملات المصرفية اللاربوية الإسلامية مجرد أطروحة في الحقوق والعقود تعوِّض عن الربا والقروض الربوية؛ فهذا الفهم غير كافٍ في إضفاء الصبغة الإسلامية على المؤسسات المصرفية والمالية في البلد الإسلامي، بل لا بُدَّ من استيعاب كون جوهر المعاملة المصرفية الإسلامية يكمن في القطاع المصرفي، وفي السياسة المصرفية المتبعة.
وبشكلٍ عامّ فإن كل السياسات المالية التي تجري البنوك معاملات لها وخدمات لها، وتقدم تسهيلات لها، تستعين بتلك الخدمات والتسهيلات في الحصول على رؤوس الأموال وعلى الأرباح.
القدر المشترك بين المصارف الإسلامية وغيرها، والربوية وغيرها، أنّه لا بُدَّ من عمولة للبنوك، وبغضّ النظر عن مسمياتها، في مقابل ما تقدِّمه من خدمات وتسهيلات وحق العمل، وبعبارة أخرى: لا بُدَّ لها من الربح. وما تقدِّمه البنوك من خدمات ومعاملات منشطة لأوسع مجالات الاقتصاد أصبح لها قيمة اقتصادية، إلى جانب كونها مقبولة بلحاظ قانوني، وفي الفقه الإسلامي. فهذا العمل الذي يتَّسم بكل هذه المزايا لا بُدَّ أن يحصل على حق العمل، أو ما يصطلح عليه بالربح، ولا فرق بين الصيرفة الإسلامية وغيرها.
والفرق الأساس بين الصيرفة اللاربوية والربوية يكمن في طريقة الاستفادة من الأموال والودائع التي تودع عنده. فالبنك غير الإسلامي، سواء بلحاظ قانوني واقتصادي، وحتّى تاريخي، يرى المال، شيئاً، وسلعةً، وثروةً، ومالاً، مطمحاً لرغبته، يسعى من خلاله لكسب الربح الكثير. ملاك معاملاته يقوم على أخذ المال بأجرة قليلة، وإعطائه مقابل أجرة كبيرة. فالربح له مكانة محورية في عمل البنوك. وما يحصل عليه من هذا الفارق هو الذي يشكِّل رأس ماله، والذي يأخذه بعنوان مال التجارة.
لكنْ في الصيرفة الإسلامية الأمر مغاير تماماً. فبانعدام الفائدة وحرمة الربا يفقد المال أصالته وموضوعيته في المعاملات لديها، ويكون البنك مجرد واسطة بين أصحاب الأموال والودائع وبين المستثمرين. فالبحث الأساسي يقوم حول الواسطة بين أصحاب المال وبين مَنْ يأخذون هذه الأموال بشكل عقود مشروعة في الصيرفة الإسلامية، كالمضاربة، والشركة، والجعالة، والمرابحة، وغيرها من العقود. وحال هذه المصارف والبنوك كما يلاحظ خاصّة ومهمة في ترويج رأس المال في إطار شرعي. وهي الحال التي تكشف عن النظرة الفلسفية الإسلامية إلى المال، حيث يحلل المال فيها على أنّه وسيلة للتبادل. ورغم أن المال من وجهةٍ قانونية قد يكون بصورة سلع أو أموال، وتترتّب عليه آثار المال من وجهة نظر الفقه، إلاّ أنّه لا أصالة له في الاقتصاد الإسلامي، بمعنى أنّ الاقتصاد الإسلامي ينظر إلى المال على أنه وسيلة للمبادلة بين المودع والمستودع. لذا فطلبه وحاجته للمال ليس على نحو الموضوعية، بل هنا يشبه حالة «المشتقّ»، بمعنى أنه ليس مصدراً في الوساطة، وإنما لوحظ على نحو الاشتقاقي. وما يتوصل إليه من أرباح قائم على هذا اللحاظ الاشتقاقي، يعني قبل أن يحول هذه الأموال إلى التحويل والإنتاج، وأن تصبح استثمارات وإنتاجات، لم يكن يرى رأس مال من نفس المال، بل رأس ماله يأتي بعد الاستثمار والإنتاج. وهذا المبدأ مقبول وقابل للإثبات قانونياً. كما يمكن كشف شواهد متعدِّدة له في أحكام الفقه الإسلامي، حيث تحدّد معالمه، وترسم حدوده.
يقبل الاقتصاد الإسلامي أن يحدّد المصرف والبنك نسبة مئوية بين المودع، يعني صاحب المال، وبين المستفيد، أي المستثمر، وأن تكون جميع الأعمال المالية للمستثمر المتصلة بذلك الاستثمار الخاصّ بواسطة البنك، بمعنى أن يكون المصرف والبنك شريكاً ضمن العقود والمقرّرات القانونية المعمول بها في قانون الشركة. لذا علينا أن لا نكتفي بالجانب الصوري للمعاملة في الصيرفة اللاربوية، بل لا بُدَّ من الحفاظ على المبدأ الأصيل فيها. فالعملية لا تعني استبدال القروض، سواء الممنوحة أو المأخوذة بشكل مضاربة، ثم تقوم عليها الشركة، بل يجب أن نعمل على أن نحصل على نفس الأرباح التي تحصل عليها الصيرفة غير الإسلامية عن طريق تفاوت أسعار الفائدة. وفي هذا يتغاير شكل الصيرفة اللاربوية عن الربوية. إن الأساس أن تكون الأموال ديناميكية في السوق، بمعنى أن ندخل شركات لها قوّة حقيقية في الاستثمار، وفي الإنتاج، وفي الأنشطة الاقتصادية الفاعلة. فهذه هي المهمة الحقيقية للصيرفة اللاربوية، التي يجب أن يعمل على تحقيقها. من هنا يتبين أن وظيفة الصيرفة الإسلامية لا تقتصر فقط على عدم التعامل الربوي، والعمل ضمن العقود. وهذا الاختلاف لا يقتصر على الجانب القانوني، بل يمتد إلى اختلاف في المضمون، والمحتوى الاقتصادي، وإلى تفاوت واقعي وليس صورياً. فواسطة الصيرفة اللاربوية بين أصحاب رؤوس المال وبين عملاء البنك تتمّ في إطار القوانين واللوائح القانونية المسطرة، وأن لا يلجأ إلى الالتفاف والتحايل باستعمال بعض الطرق التي تغاير في الجوهر وفي الشكل القوانين والعقود الإسلامية المستعملة في هذا الباب، ولا بُدَّ من إظهار كون هذه الحيل في حقيقتها ربوية، لا يسمح قانوناً وشرعاً العمل بها في الصيرفة الإسلامية.
بعض الموارد المرتبطة بالربا، التي كان الامام الخميني& شديداً في تعامله معها
من الأمور التي امتاز بها الإمام الخميني& تحريمه للحيل الربوية بالنسبة إلى القروض. وكذلك كان نظر بعض الفقهاء، الذين رأَوْا أن الكثير من المعاملات في الحقيقة ربوية، حيث اكتفَتْ بتغيير شكل القروض والمبيعات، لتصبح على شكل المعاملات اللاربوية. وبالطبع فالحكومة التي تريد انتهاج الاقتصاد الإسلامي في كل أبعاده عليها أن تحرص على ممارسة أصوله، والعمل بمضامينه الفعلية، في كل معاملاتها الاقتصادية، وأن لا تقتصر على تغيير الصورة الخارجية فقط؛ لأن ذلك لا يعدو كونه مجرد غلاف وقناع. فمن الأمور الممارسة في ظلّ ما يسمى «الاقتصاد الإسلامي» و«المجتمع الإسلامي»، والتي تخالف عمق التعاليم الإسلامية، مسألة المال؛ حيث يتم التعامل معه على أنه وسيلة مهمة ورئيسة، فمنه يتمّ تحصيل رأس المال. وهذا مبدأ مرفوض في نظرة الإسلام إلى المال، أو الدخل والأموال التي يتمّ الحصول عليها من الاحتكار والادّخار، حيث يتم انخفاض عرض المواد والسلع المدَّخرة أو المحتكرة، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعارها بشكل قويّ، وقد حرم الإسلام الاحتكار والادّخار الذي يكون لهذا الغرض.
مسألة الضمان، حيث يمكننا حلّ مشكلتها من خلال الفصل بين الضمان الواقعي والضمان الحقيقي. والناس تتعاطى بالضمان الواقعي، وهو من وجهة نظر الشرع غير جائز؛ حيث يتمّ التعاقد على أنّ البنك يضمن رأس المال، ويضمن الفائدة أو الربح. ووجه الحيلة فيه أن يقوم مسؤول البنك بإعطاء ضمانات واقعية، دون ضمانات قانونية، حيث يكون غير ضامن قانوناً، ولكنْ لأنّ تلك الودائع هي في الحقيقة حاصل مجموعة من الشركات المنتجة يتمّ الإعلان عنها في ظرف زمنيّ معين، مثلاً: في كل ستّة أشهر أو سنة مع وجود الربح. وبعبارة أخرى: إنه في الظروف العادية تكون كل تلك الاستثمارات ومشاركات كلّ المودعين، حيث يكونون فيها أصحاب أسهم وشركاء، تكون نسبة الخسارة لهم جدّ ضعيفة. وبالتأكيد هذا هو الضمان الواقعي. ولهذه المزايا يفضِّل الناس الضمان الواقعي على الضمان الحقيقي.
مسألة سندات القروض هي الأخرى تتمّ في ظل الاقتصاد الإسلامي بشكلٍ غير شرعي. في الأصل الإعلانُ عن سندات القروض هي مسألة من اختصاص الدولة وسياسة الدولة، وليست من اختصاص البنك. وإذا كان الغرض منها نفس الاستثمار، الذي يتمّ من خلال بعض المعاملات البنكية، حيث يتمّ استثمار الودائع البنكية في مقابل تحديد فائدة سنوية، وإرجاع رأس المال بعد تمام الاستثمار، وفي الحقيقة فإن هذه المستندات ليست سندات القروض، ولكنّها سندات للاستثمار. فهذا النوع من الاستثمارات يكون عادةً في مقابل الأوراق أو السندات الاستثمارية؛ لأجل القيام بأحد المشاريع الاقتصادية التي تتطلّب وقتاً طويلاً، كبناء سدّ أو إحداث طريق ونحوها، والتي تفعِّل الاقتصاد، وتزيد من وتيرة إنتاجه. هذه المشاريع تعلن عنها الدولة من خلال نشر أوراق استثمارية، والناس الذين يقومون بشراء هذه الأوراق هم في الحقيقة أصحاب أسهم في هذا المشروع، فهم بذلك يملكون جزءاً من هذا المشروع بنسب متفاوتة، كلٌّ حسب قيمة الأوراق الاستثمارية التي اشتراها من الدولة. من هنا فإنها مثل السندات الاستثمارية، حيث المشترون هم مساهمون في المشروع، وليسوا مجرد مقرضين؛ لأنه واقعاً لا يوجد قرض في المسألة، بل استثمار، وتلك السندات هي سندات استثمارية (أسهم)؛ ولأن المشروع ليس للربح، والدولة لا تريد بيعه؛ لأن الدولة بعد انتهاء المشروع تستطيع شراء أسهم المشاركين لها فيه، والذين هم حقيقة مشاركين لها في ملكيته، من خلال شرائهم لسندات الاستثمار. وبهذا فالدولة تحصل على نفس الهدف الذي يكون من خلال سندات القروض، بفارق شرعي، هو أنّه من خلال سندات الاستثمار لا يوجد ربا، بينما في سندات القروض هناك ربا، وهو الشيء الذي يخالف التعاليم الإسلامية.
خلاصة
إن ما يجب التأكيد عليه، والعمل لأجله، أنْ لا يكون الاقتصاد الإسلامي تحت أيّ عنوان عاملاً لممارسة الربا داخل المجتمع الإسلامي. وبعبارة أخرى: إنّ على الدولة، مؤسسات وأفراد، العمل على أسلمة مضامين المعاملات الاقتصادية وروح الاقتصاد، بحيث تكون مطابقة للتعاليم الإسلامية، ومورد قبول الشرع، وعدم الاكتفاء بتغيير شكلها ووجهها الخارجي.
(*) أحد أبرز الفقهاء والمراجع المعاصرين، وتلامذة السيد الشهيد الصدر، الرئيس السابق للسلطة القضائية في إيران، ورئيس دائرة معارف الفقه الإسلامي، له مؤلّفات علميّة قيّمة.