د. قاسم محمد قصير([2])
تمهيد
كيف نشأت جماعات العنف التّكفيريّ؟ وكيف تطوَّرت إلى ما وصلت إليه اليوم؟ سؤال يطرح في أوساط العامّة والخاصّة، وهل من سبلٍ لاجتثاث جذور هذا العنف؟
لقد واجه العالم العربيّ والإسلاميّ خلال السنوات الأخيرة ظاهرة خطيرة تمثّلت ببروز «جماعات عنف تكفيريّة»، وهي من أخطر الظواهر التي عرفها العالم العربي والإسلامي في عصرنا الحديث والرَّاهن؛ بل على مدى تاريخه كلّه إلى الآن.
وهذه الظاهرة متمثّلة في ممارسات إجراميّة مرعبة، تقوم بها جماعات إرهابيّة، تُكفِّر الآخر (أي آخر) غير المنتمي إليها، وتُمارس تجاهه، انطلاقًا من ذلك، عنفًا تكفيريًّا، لا مثيل له، في هذه الحقبة التّاريخيّة من حياة الأمّة الإسلاميّة والعربيّة، ولذلك عُرِفَتْ هذه الجماعات، بأنّها «جماعات العنف التّكفيريّ»، الّتي تنسُبُ ما تقترفه من عدوان إجراميّ متعدّد الأشكال، إلى أوامر إلهيّة، تنفّذها لتوهِمَ العالم، أنَّ عنفها هذا، ليس سوى «عنفٍ مقدَّس»، إلاّ أنّه تلبّس لبوس الدين عامّة، والدين الإسلاميّ خاصّة، وذلك من خلال رفعها راية الإسلام، كتغطية شرعيّة لأعمالها. وفي الظاهر، تمارس في ظلّها نشاطاتها الإرهابيّة، باسم الله والدّين.
فهذه الجماعات الّتي اتّصفت بمدّها التّكفيريّ الدمويّ، على كامل أرجاء العالم العربيّ والإسلاميّ، قد طال أذاها، كلَّ المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، وعددًا من المجتمعات الغربيّة. فكان من جرّاء ذلك أن عملت هذه الجماعات على إلحاق الإساءة البالغة بسُمعة الدّين الإسلاميّ الحنيف. ومن خلال محاولاتها المطّردة والحثيثة، الّتي مكَّنتها من تشويه صورته الناصعة والنقيّة، استطاعت هذه الجماعات أن تُغيِّر النظرة الحقيقيّة إلى الإسلام، بفتحها أبواب التشهير به على مصاريعها، فما أظهرته نتائج أفعالها الشنيعة باسمه، وأدّت أعمال هذه الجماعات إلى اتّهام الدين الإسلاميّ بأنّه دين انغلاق وتقوقع وأنّه دين ظلاميٌّ، لا يعيش إلاّ على الإرهاب والتعسُّف والعنف والإجرام… إلخ. فبرزت مصطلحات ومفاهيم وصفت الدين الإسلاميّ، بصفات مجحفة، مثل: «العنف الإسلاميّ» و«الإرهاب الإسلاميّ».. إلخ، ذلك فالممارسات غير الإنسانيّة، الّتي ارتكبتها ـ ولا تزال ترتكبها جماعات العنف التّكفيريّ ـ بغية تحقيق أهداف خاصّة لا تمتّ إلى تعاليم الإسلام لا من قريب ولا من بعيد، فهذه ممارسات، أقلّ ما يُقال فيها إنّها، ممارسات وحشيّة، عمد أصحابها من خلالها إلى نشر الخوف والرّعب والهلع في نفوس الناس وقلوبهم.
فقد اعتمدت «جماعات العنف التّكفيريّ» القتل العمد والترويع المقصود بذاته ولِذاته، باستخدامها أدوات ووسائل وأساليب متنوّعة ومختلفة، فجسّدت بتلك الممارسات سلوكها العدوانيّ والوحشيّ البعيد كلّ البعد عن القيم الإنسانيّة، مستخدمة في ذلك شعارات أطلقتها من حقب تاريخيّة قديمة وأسقطتها على الواقع، ينطبق عليها وصفُ الخليفة الراشديّ الرابع الإمام علي بأنّها «كلامُ حقّ يُرادُ به باطل»([3])، فهذه الشعارات ذات الطابع الإسلاميّ هي تمويهيّة لتبرير أفعالهم الإجراميّة البشعة، الّتي لا يقرّها ـ على الإطلاق ـ لا شرع إلهيّ، ولا قوانين ولا أعراف وضعيّة (بشريّة)، وهي الظاهرة الّتي تُثير، في الواقع، إشكاليّات مصيريّة لا بدّ من الالتفات إليها، والحذر من التهاون في الانتباه إليها.
ولكن من أجل الفهم الصحيح لهذه الظاهرة اليوم علينا العودة إلى التّاريخ لدراسة متى ظهرت هذه الجماعات العنفيّة التّكفيريّة في تاريخ الإسلام والمسلمين، وصولاً إلى اليوم.
فقد عرف العالم الإسلاميّ جماعات مارست العنف طريقًا للوصول إلى أهدافها وغاياتها؛ فمن هي هذه الجماعات؟ وما هي الأسس الفكريّة والفقهيّة والتّاريخيّة الّتي اتكأت عليها لتبرير ممارساتها؟ وما علاقة الجماعات التّكفيريّة في عصرنا بتلك الجماعات على مستوى التنظير الفكريّ والفقهيّ؟
سنحاول في هذا المقال استعراض إحدى هذه الجماعات وتأثيراتها المختلفة، وهذا لا يعني أن العنف التّكفيري أو العنف العام انحصر بها، لأن هناك مجموعاتٍ أخرى مارست العنف بأشكال مختلفة، ولكننا اخترنا هذا النموذج الذي ربط بين العنف والتكفير والقتل، ألا وهو «الخوارج».
أـ التسمية
ذكر الشهرستانيّ في كتابه الملل والنحل أنَّ «كلّ من خرج على الإمام الحقّ الّذي اتّفقت الجماعة عليه يُسمّى خارجيًّا، سواء كان الخروج في أيّام الصحابة على الأئمّة الراشدين؛ أو كان بعدهم على التابعين بإحسان، والأئمّة في كلّ زمان»([4]).
أمّا الخوارج المقصدون في هذه الدّراسة، فهم الّذين خرجوا على طاعة الخليفة الراشديّ الرابع الإمام عليّ إثر احتجاجهم المشهور على قرار الخليفة بوقف الحرب في صفّين ضدّ معاوية بن أبي سفيان والي الشام، والفرق الّتي انبثقت من رحم عقيدتهم.
ب ـ سبب الظهور
بعد تسلّم الإمام علي بن أبي طالب الخلافة، رفض والي الشام معاوية بن أبي سفيان مبايعته قبل الاقتصاص من قتلة الخليفة الراشديّ الثالث عثمان بن عفّان. وبعد رفضه، أمر الإمام بعزله، فامتنع معاوية، ما أدّى إلى حرب صفّين الشهيرة بين الطرفين عام 37 للهجرة/ 657م، وكادت الحرب تنتهي لصالح الإمام عليّ وجيشه، عند ذلك حمل أصحاب معاوية المصاحف فوق رؤوسهم يطالبون بذلك الاحتكام إلى كتاب الله ووقف الحرب، علم الإمام أنّ في الأمر خديعة، لكنّه كان بين نارين، فإمّا أن يتابع القتال فيتعرّض لغضب قسم كبير من جيشه بعد رفع المصاحف، وإمّا أن يقبل بالتحكيم بين الطرفين ويُنهي الحرب والقتال، على الرغم من معرفته بعدم خضوع معاوية لأوامر خليفة المسلمين.
انتهى التحكيم لصالح معاوية، فما كان من جماعة قاتلت مع الإمام إلاّ أن غضبوا منه لقبوله التحكيم، فخرجوا على طاعته وتمرّدوا على أوامره، كما رفضوا الانضمام إلى معاوية([5]).
ج ـ فرق الخوارج الرئيسيّة
عرف التّاريخ فرقًا انبثقت من الخوارج، «وكبار الفرق منهم: المحكّمة، والأزارقة، والنجدات، والبيهسيّة، والعجاردة، والثعالبة، والإباضيّة، والصفريّة، والباقون فروع لهم. ويجمعهم القول بالتبرّي من عثمان وعليّ رضي الله عنهما، ويقدّمون ذلك على كلّ طاعة، ولا يصحّحون المناكحات [أي الزواج] إلاّ على ذلك، ويكفّرون أصحاب الكبائر ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السُّنَّة: حَقًّا واجبًا»([6]) إلاّ أنّ كلّ فرقة تميّزت بأفكار خاصّة بها واتّخذوا مواقف من الحكم والمجتمع سجّلها التّاريخ.
1ـ المُحَكَّمَة
المحكّمة الأولى كما يقول الشهرستانيّ هم «الذين خرجوا على أمير المؤمنين عليّ، رضي الله عنه، حين جرى أمر المحكّمين، واجتمعوا بِحَرَوْراءَ([7]) من ناحية الكوفة، ورأسهم عبد الله بن الكوّاء، وعتاب بن الأعور، وعبد الله بن وهب الراسبيّ، وعروة بن حدير، ويزيد بن أبي عاصم المحاربيّ، وحرقوص بن زهير البجليّ المعروف بذي الثُّدَيَّة، وكانوا يومئذ في اثني عشر ألف رجل أهل صلاة وصيام، أعني يوم النهروان([8])»([9]). وتسميّتهم بالمُحَكَّمة تعود إلى مسألة التحكيم الّتي أوقفت معركة صفّين([10]).
من أفكارهم وآرائهم
أـ رأيهم في إمامة المسلمين
أجازوا أن تكون الإمامة في غير قريش، وكلّ من نصبّوه برأيهم وعاشر الناس على ما مثّلوا له من العدل واجتناب الجور كان إمامًا، ومن خرج عليه يجب قتاله، وإذا غيّر السيرة وعدل عن الحقّ وجب عزله أو قتله، وأجازوا أن لا يكون في العالم إمام أصلاً، وإن احتيج إليه فيجوز أن يكون عبدًا أو حرًّا، أو نبطيًّا، أو قرشيًا([11]).
فقد تطوّر رأيهم في الخليفة الراشديّ الإمام عليّ من التخطئة إلى التّكفير، فقالوا أوّلاً: «أخطأ عليّ في التحكيم إذ حكّم الرجال ولا حكم إلاّ الله (…) وتخطَّوا عن هذه التخطئة إلى التّكفير، ولعنوا عَليَّا رضي الله عنه فيما قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين»([12]). لذلك سهل عليهم أن يصدروا فتوى بقتله، فقتله عبد الرحمن بن ملجم الخارجيّ في مسجد الكوفة في شهر رمضان من العام 40 للهجرة/ 661 للميلاد([13]). وأمّا موقفهم من معاوية، فإنّهم ناصبوه العداء وخرجوا لقتاله([14]).
هذه المقولة «لا حكم إلالله» الّتي رفعها الخوارج بوجه الإمام يلفّها الكثير من الضبابيّة، وقد استخدموها لتخطئة الخليفة أثناء التحكيم في صفّين، وكانت من دعواهم أنّهم قالوا: أخطأ عليّ في التحكيم إذ حكّم الرجال ولا حكم إلاّ الله، ولذلك قال عليّ لمّا سمعهم يقولون ذلك: كلمة حقّ أريد بها باطل([15]). أليس الإنسان هو الّذي يُظهر حكم الله!؟ فإذا وقع منازعة بين طرفين فمن يتولّى إدارة المسألة لفضّ النزاع؟
كما تبرّأوا من الخليفة عثمان بن عفّان على نحو حادٍّ؛ فعندما مدح عبد الله بن الزبير([16]) هذا الخليفة أمام الخوارج الّذين التفّوا حوله، «فَرّوا عَنْهُ وَفارَقوهُ وَقَصدوا بِلادَ العِراقِ وَخُراسانَ، فَتَفَرَّقُوا فِيهَا بِأَبْدَانِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ وَمَسَالِكِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ الْمُنْتَشِرَةِ، الَّتِي لَا تَنْضَبِطُ وَلَا تَنْحَصِرُ، لِأَنَّهَا مُفَرَّعَةٌ عَلَى الْجَهْلِ وَقُوَّةِ النُّفُوسِ، وَالِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ، وَمَعَ هَذَا اسْتَحْوَذُوا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْبُلْدَانِ والكور، حَتّى انْتُزِعَتْ مِنْهُمْ»([17]).
فلم يوفّر الخوارج الخليفة الراشديّ الثالث عثمان بن عفّان من الطعن، رفضًا لسيرته بين الرعيّة، كذلك طعنوا في قادة معركتي الجمل وصفّين([18])، اللّتين جرتا بين المسلمين([19]).
ب ـ رأيهم في أصحاب الذنوب وفي فيمن خالفوهم
إلى جانب تكفيرهم عليّ وعثمان ومعاوية وأصحابه وأصحاب الجمل والحكمين ومَن رضي بالتحكيم، رأى الخوارج من المحكّمة أنّ كلّ ذي ذنب كافر وكذلك أطلقوا هذا الحكم على مخالفي الخوارج([20]). وهذا الحكم خطير على حياتهم، حيث لا يرى أولئك الخوارج عندئذ بأسًا في قتلهم بلحاضهم كفّارًا، وهذا يخالف تعاليم الإسلام في القصاص والحدود.
ج ـ مصير أتباع هذه الفرقة
قيل إنّ جميع الخوارج من هذه الطبقة الّذين شاركوا في معركة النهروان عام 38هـ/ 659م قتلوا وما انفلت منهم إلاّ تسعة هربوا وتفرّقوا في البلدان وأظهروا فيها عقائدهم وبدعهم([21]).
2ـ الأزارقة
هم أتباع نافع بن الأزرق الحنفيّ المكنّى بأبي راشد وَلم تكن للخوارج قطّ فرقة أكثر عددًا وَلَا أَشدّ مِنْهُم([22]). تذكر كتب التراجم والتّاريخ أنّ ابن الأزرق صحب الصحابيّ المعروف عبد الله بن عبّاس المتوفّى عام 68هـ/ 687م. وكان هو وأصحاب له من أنصار الثورة على الخليفة عثمان بن عفّان، وكانوا من أتباع الإمام عليّ إلى أن كانت قضية التحكيم في صفّين([23]).
واستطاعت هذه الفرقة تعبئة الخوارج الّذين تفرّقوا في الأمصار، فخرج ابن الأزرق من البصرة فانضمّ إليه خوارج عُمان واليمامة فصاروا أكثر من عشرين ألفًا واستولوا على الأهواز وَمَا وراءها من أَرض فارس وكرمان وأخذوا خراجها وخاضوا حروبًا دمويّة مع الولاة حتى قتل ابن الأزرق عام 65 للهجرة 685 للميلاد([24]).
وكان في صفوف هذه الفرقة قادة خطباء، منهم عبيدة بن هلال اليشكريّ الّذي كان خطيبًا وشاعرًا (ت77هـ/ 696م)، وقطريّ بن الفجاءة المازنيّ الّذي كان من خطبائهم وشعرائهم والّذي وبقي ثلاث عشرة سنة يقاتل ويسلّم عليه بالخلافة وإمارة المؤمنين حتّى قتل عام 78هـ/ 697م.
من أفكارهم وآرائهم
أـ تكفير غيرهم من المسلمين: فإلى جانب القضيّة المشتركة بين فرق الخوارج بخصوص تكفير الإمام عليّ فإنّ الأزارقة «زادوا عليه تكفير عثمان، وطلحة، والزبير، وعائشة، وعبد الله بن عبّاس رضي الله عنهم، وسائر المسلمين معهم، وتخليدهم في النار جميعًا»([25]). وهذه سابقة في التّاريخ الإسلاميّ حيث أباحوا لأنفسهم قتل كلّ من خالفهم على مستوى العقيدة والرأي.
ب ـ تكفير الّذين يرفضون القتال في صفوفهم وإن كانوا موافقين لمعتقدات الخوارج، كما كفّروا الّذين لم يهاجروا إليهم من أتباعهم. هذا وغيره من الآراء والمعتقدات دفع عطيّة بن الأسود ـ وكان من قادتهم ـ إلى الانفصال عنهم والالتحاق بفرقة النجدات([26]).
ج ـ إباحتهم قتل أطفال المخالفين لهم، وإباحة قتل زوجاتهم([27]).
د ـ رأوا أنّ أطفال المشركين في النار مع آبائهم([28]).
بالإضافة إلى ذلك كان الأزارقة يمتحنون من يلجأ إليهم بإجباره على قتل أسير مُخالفين بذلك كلّ تعاليم الدين؛ فقد «أوجبوا امتحان من قصد عَسْكَرهمْ إِذا ادّعى أَنه منهم أَن يُدفع إليه أسير من مخالفيهم وأمروه بقتله فإِن قتله صدّقوه فِي دَعْوَاهُ أَنه منهم وان لم يقتله قالوا هذا منافق ومشرك وقتلوه»([29]).
3ـ فرقة النجدات
هم أتباع نجدة بن عَامر الحنفيّ (ت 69هـ/ 688م) وهؤلاء كانوا مع الأزارقة، ولكنّهم فارقوهم بعدما أظهر نافع بن الازرق البراءة من القعدة عنه (الذين لا يريدون القتال) وإن كانوا على رأيه وسمَّاهم مُشركين واستحل قتلّ أطفال مخالفيه ونسائهم، فتوجّهوا إلى اليمامة وبايعوا بها نجدة بن عامر وكفّروا من قال بتكفير الّذين لا يقاتلون معهم أو لا يهاجر إليهم، كما كفّروا مَن قال بإمامة نافع. وقيل للنجدات: العاذريّة، لأنهم عذروا بالجهالات في أحكام الفروع([30]).
وقد بقيت هذه الجماعة على إمامة نجدة إلى أن اختلفوا عليه في أمور فصاروا ثلاث فرق:
ـ فرقة صارت مع عطيّة بن الأسود الحنفيّ وذهبوا معه إلى سجستان وتبعهم خوارج سجستان ولهذا قيل لخوارج سجستان في ذلك الوقت عطويّة.
ـ وفرقة صارت مع أبي فديك، وهو عبد الله بن ثور من بني تغلب (ت 73هـ/ 692م) وحاربوا نجدة وهم الّذين قتلوه.
ـ وفرقة عذرت نجدة في أحداثه وأقاموا على إمامته([31]).
وإذا كانت فرقة النجدات اختلفت عن الأزارقة بخصوص عدم تكفير القاعدين عن القتال أو غير الراغبين بالهجرة إليهم، فإنّ أتباعها قاموا بأعمال منافية للدين، وكان زعيهم نجدة بن عامر الحنفيّ يعذر أتباعه إن قاموا بأعمال ثمّ تبيّن لهم عدم صوابيتها، من ذلك هجومهم على مدينة الطائف، وهي مدينة إسلاميّة وسبي الأطفال والنساء، واتخاذ تلك النساء إماء لهم. كما جهّز نجدة بن عامر جيشًا فأغار على المدينة المنوّرة وأخذوا جارية من بنات عثمان بن عفّان فكتب إليه عبد الملك في شأنها فاشتراها من الّذي كانت في يديه وردّها إلى عبد الملك بن مروان، ولم يرضَ أتباعه بردّها، فقالوا له إنّك رددت جارية لنا على عدوّنا([32]).
ومن معتقداتهم ما يظهره قول نجدة بن عامر: «من نظر نظرة، أو كذب كذبة صغيرة أو كبيرة وأصرّ عليها فهو مشرك. ومن زنى، وشرب، وسرق غير مصرّ عليه فهو غير مشرك. وغلظ على الناس في حد الخمر تغليظًا شديدًا»([33]).
4ـ فرقة البَيْهسيّة
تكوّنت من أصحاب أبي بَيْهَس وهو هَيْصَم الضبيعيّ (ت94هــ/713م) وضمنها جماعة يقال لها العوفيّة [أو العونيّة]([34]) الّتي انقسمت إلى قسمين:
ـ فرقة تقول: من رجع من دار الهجرة إلى القعود برئنا منه.
ـ وفرقة تقول: بل نتولاّهم، لأنّهم رجعوا إلى أمر كان حلالاً لهم.
والفرقتان تقول إنَّ الإمام إذا كفر كفرت الرعيّة: الغائب منهم، والحاضر([35]).
من آرائها
ـ إنّ صاحب الذّنب لا يحكم عليه بالكفر حتّى يرفع إلى الوالي فيحدّه، أي يقيم عليه القصاص([36])، وبذلك تكون هذه الفرقة اختلفت عن الخوارج الأوائل بخصوص تكفير أصحاب الذنوب.
ـ قالوا ليس على المسلم ذنب اقترفه إذا كان جاهله، لكن عليه أن يسأل إذا ابتُلِيَ به. أمّا إذا كان يعلم مسبقًا أنّه ارتكب ذنبًا ويعلم تحريمه فقد كفر. وهذا القول قالته جماعة منهم قيل لهم «أصحاب السؤال» وهم أصحاب شبيب النجرانيّ([37])، وهذه الجماعة قالت:
ـ إنّ أطفال المؤمنين مؤمنون، وأطفال الكافرين كافرون([38]).
ـ وافقوا القدريّة في القدر، وقالوا: إنّ الله تعالى فوّض إلى العباد، فليس ﷲ في أعمال العباد مشيئة. فبرئت منهم عامّة البيهسيّة([39]).
وقال بعضهم: إن السكّر إذا كان من شراب حلال فلا يؤاخذ صاحبه بما قال فيه وفعل.
وقالت العوفيّة أو العونيّة: السكر كفر، ولا يشهدون أنّه كفر ما لم يرتكب معه كبيرة أخرى من ترك الصلاة، أو قذف المحصن أي اتهام الأزواج بالزنا([40]).
5ـ فرقة العجاردة
العجاردة هم أصحاب عبد الكريم بن عجرد، الّذي كان من أصحاب أبي بيهس، ثمّ خالفه وتفرّد بآراء تبنتها هذه الفرقة:
ـ لا يحكم على الطفل حتى يدعى إلى الإسلام عند البلوغ.
ـ أطفال المشركين في النار مع آبائهم،
ـ ولا يرى المال غنيمة حتى يقتل صاحبه.
ـ لا يكفّرون القعدة إذا عرّفوهم بالديانة، ويرون الهجرة إليهم فضيلة لا فريضة.
ـ يكفّرون الّذين يرتكبون الكبائر.
ـ ينكرون كون سورة يوسف من القرآن، ويزعمون أنّها قصّة من القصص. وقالوا: لا يجوز أن تكون قصّة العشق من القرآن!
ثم إنّ العجاردة افترقوا أصنافًا، ولكلّ صنف مذهب على حياله، إلاّ أنّهم انتموا بعامتّهم إلى العجاردة، منها:
أـ الصلتيّة
أصحاب عثمان بن أبي الصلت، أو الصلت بن أبي الصلت. تفرّد عن العجاردة بأنّ الرجل إذا أسلم تولّيناه وتبرّأنا من أطفاله حتى يدركوا فيقبلوا الإسلام.
ب ـ الميمونيّة
أصحاب ميمون بن خالد. كان من جملة العجاردة إلاّ أنّه تفرّد عنهم بإثبات القدر خيره وشرّه من العبد، وإثبات الفعل للعبد خلقًا وإبداعًا، وإثبات الاستطاعة قبل الفعل، والقول بأنّ الله تعالى يريد الخير دون الشر، وليس له مشيئة في معاصي العباد.
وقيل إنّ هذه الجماعة كانت تجيز للرجل الزواج من بنات البنات، وبنات أولاد الإخوة والأخوات، وفسّروا الآيات بحسب فهمهم فقالوا: إنّ الله تعالى حرّم نكاح البنات، وبنات الإخوة والأخوات، ولم يحرّم نكاح أولاد هؤلاء.
وقالوا بوجوب قتال السلطان، وحده، ومن رضي بحكمه. فأمّا من أنكره فلا يجوز قتاله إلاّ إذا أعان عليه، أو طعن في دين الخوارج، أو صار دليلاً للسلطان.
ورأت أنّ أطفال المشركين في الجنّة.
ج ـ الحمزيّة
أصحاب حمزة بن أدرك، وافقوا الميمونيّة في القدر، وفي كلّ معتقداتهم ما عدا رأيهم في أطفال مخالفيهم والمشركين فقالوا: هؤلاء كلّهم في النار.
د ـ الخلَفِيَّة
أصحاب خلف الخارجيّ؛ وهم من خوارج كرمان ومكران.
خالفوا الحمزيّة في القول بالقدر، وأضافوا القدر خيره وشرّه إلى الله تعالى، وسلكوا في ذلك مسلك أهل السُّنّة.
وقضوا بأنّ أطفال المشركين في النار.
هـ ـ الأطرافيّة
فرقة على مذهب حمزة في القول بالقدر. كان رئيسهم غالب بن شاذك من سجستان.
أثبتوا واجبات عقليّة كما قالت القدريّة.
و ـ الشُّعَيْبِيّة
أصحاب شعيب بن محمّد، وكان مع ميمون من جملة العجاردة، إلاّ أنّه برئ منه حين أظهر القول بالقدر.
قال شعيب: إنّ الله تعالى خالق أعمال العباد، والعبد مكتسب لها قدرةً وإرادةً، مسؤول عنها خيرًا وشرًّا، مجازى عليها ثوابًا وعقابًا، ولا يكون شيء في الوجود إلاّ بمشيئة الله تعالى. وتتفق هذه المجموعة مع العجاردة في حكم الأطفال، وحكم القعدة، والتولّي والتبرّي.
ز ـ الحازميّة
أصحاب حازم بن علي أخذوا بقول شعيب في أنّ الله تعالى خالق أعمال العباد، ولا يكون في سلطانه إلاّ ما يشاء.
وقالوا إنّ الله تعالى إنّما يتولّى العباد على ما عَلِمَ أنهم صائرون إليه في آخر أمرهم من الإيمان، ويتبرّأ منهم على ما علم أنهم صائرون إليه في آخر أمرهم من الكفر، وأنه سبحانه لم يزل مُحبًّا لأوليائه مُبغضًا لأعدائه.
واختلفت هذه الجماعات عن الخوارج بخصوص الإمام عليّ(ع) فإنّها لم تصرّح بالبراءة منه، وصرّحت بالبراءة من غيره([41]).
6ـ فرقة الثعالبة
أصحاب ثعلبة بن عامر الّذي كان مع عبد الكريم بن عجرد يدًا واحدة إلى أن اختلفا في أمر الأطفال؛ فقال ثعلبة: إنا على ولايتهم صغارًا وكبارًا حتى نرى منهم إنكارًا للحق ّورضا بالجور. فتبرّأت العجاردة من ثعلبة. ونقل عنه أيضًا أنّه قال: ليس له حكم في حال الطفولة من ولاية وعداوة، حتى يدركوا ويدعوا، فإن قبلوا فذاك، وإن أنكروا كفروا.
وكان يرى أخذ الزكاة من عبيدهم إذا استغنوا، وإعطاءهم منها إذا افتقروا.
وهذه الفرقة تشعّبت إلى مجموعات، هي:
أـ الأخنسيّة
أصحاب أخنس بن قيس، من جملة الثعالبة.
حرّموا الاغتيال والقتل، والسرقة في السرّ.
وكانوا لا يبدأون بقتال المسلمين حتى يُدعى إلى معتقداتهم، فإن امتنع قوتل؛ سوى مَن عرفوه بعينه على خلاف قولهم.
وقيل إنّهم جوّزوا تزويج المسلمات من مشركي قومهم، أصحاب الكبائر، وهم على أصول الخوارج في سائر المسائل.
ب ـ المَعْبَديّة
أصحاب معبد بن عبد الرحمن، كان من جملة الثعالبة.
خالف معبدُ بن عبد الرحمن الأخنسَ بخصوص تزويج المسلمات من مشرك.
وخالف ثعلبة فيما حكم من أخذ الزكاة من عبيدهم.
ج ـ الرشيديّة
أصحاب رشيد الطوسيّ. ويقال لهم العشريّة، اختلفت هذه الجماعة عن الثعالبة بخصوص قضايا ماليّة لها علاقة بسقي الأنهار.
د ـ الشيبانيّة
أصحاب شيبان بن سلمة، وكان أعان أبا مسلم الخراساني ـ من مؤسّسي الدّولة العبّاسيّة ـ وعلي بن الكرمانيّ صاحب أبي مسلم على أعدائهما، فلمّا أعانهما برئت منه الخوارج. فلما قتل شيبان ذكر قوم توبته. فقالت الثعالبة: لا تصح توبته لأنّه قتل الموافقين لنا في المذهب، وأخذ أموالهم، ولا تقبل توبة من قتل مسلمًا وأخذ ماله إلاّ بأن يقتص من نفسه، ويرد الأموال، أو يوهب له ذلك.
فكانت عامة الشيبانيّة بجرجان، ونسا في خراسان، وأرمينية.
هـ ـ المُكْرَمِيَّة
أصحاب مُكْرَم بن عبد الله البجلي، كان من جملة الثعالبة وتفرّد عنهم بأن قال:
ـ تارك الصلاة كافر، لا من أجل ترك الصلاة ولكن من أجل جهله بالله تعالى، فالعارف بوحدانيّة الله لا يقدم على المعاصي.
و ـ المعلوميّة والمجهوليّة
المعلوميّة قالت: من لم يعرف الله تعالى بجميع أسمائه وصفاته فهو جاهل به، حتى يصير عالمًا بجميع ذلك؛ فيكون مؤمنًا.
وقالت: الاستطاعة مع الفعل، والفعل مخلوق للعبد.
وأما المجهوليّة فإنهم قالوا: من علم بعض أسماء الله تعالى وصفاته وجهل بعضها، فقد عرفه تعالى، وقالت: إنّ أفعال العباد مخلوقة ﷲ تعالى.
ز ـ البدعيّة
أصحاب يحيى بن أصدم، وهم الّذين قطعوا على أنفسهم بأن من اعتقد اعتقادهم، فهو من أهل الجنّة، ولا ولا داعي لقول «إن شاء الله» نحن في الجنّة؛ فإنّ ذلك شك في الاعتقاد، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله؛ فهو شاك، فقالوا: من أهل الجنة قطعًا، من غير شكّ([42]).
7ـ فرقة الإباضيّة
نسبة هذه الفرقة إلى عبد الله بن إباض الّذي خرج في أيّام مروان بن محمّد ـ آخر خلفاء بني أميّة ـ ولعلّ هذه الفرقة من فرق الخوارج هي الفرقة المتوازنة الّتي لم تتخذ العنف سبيلاً لفرض لعقائدها وأفكارها، وكُتب لها الاستمرار، فهي لا تزال منتشرة إلى يومنا هذا في سلطنة عمان وفي جنوب تونس (جزيرة جربة) وفي ليبيا وجنوب الجزائر والمغرب. وهنا نعرض بعضًا من أفكارها ومعتقداتها بحسب قولهم:
ـ إنّ مخالفي الخوارج من أهل القبلة كفّار غير مشركين.
ـ يجوز الزواج بهم، أي بالمخالفين، ويجوز دفنهم بحسب الطريقة الإسلاميّة.
ـ لا يؤخذ مال المخالفين إلاّ عند الحرب بصفته غنيمة، أمّا في السلم فيحرم أخذه.
ـ لا يجوز قتلهم وسبيهم في السرّ غيلة إلاّ بعد نصب القتال، وإقامة الحجّة.
ـ إنّ دار مخالفيهم من أهل الإسلام دار توحيد، إلاّ معسكر السلطان فإنه دار بغي.
ـ تُقبل شهادة مخالفيهم على أوليائهم.
ـ مرتكبو الكبائر موحّدون لا مؤمنون.
لكن كانت لهم مواقف متطرّفة كسائر الخوارج، فقد أجازوا تعذيب أطفال المشركين، وجوزوا على سبيل الانتقام من أهليهم.
وعرفت الإباضيّة جماعات تميّزت بأفكار خالفت الباقيات، من هؤلاء:
أـ الحفصيّة
هم أصحاب حفص بن أبي المقدام، تميّز عنهم بأن قال إنّ بين الشرك والإيمان خصلة واحدة، وهي معرفة الله تعالى وحده، فمن عرفه ثمّ كفر بما سواه من رسول أو كتاب أو قيامة أو جنة أو نار، أو ارتكب الكبائر من الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، فهو كافر لكنّه بريء من الشرك.
ب ـ الحارثيّة
أصحاب الحارث الإباضيّ، خالف الإباضيّة في قوله بالقدر على مذهب المعتزلة، وفي الاستطاعة قبل الفعل، وفي إثبات طاعة لا يراد بها الله تعالى.
ج ـ اليزيديّة
أصحاب يزيد بن أنيسة الّذي زعم أنّ الله تعالى سيبعث رسولاً من العجم، وينزل عليه كتابًا قد كتب في السماء، وينزل عليه جملة واحدة، ويترك شريعة المصطفى محمّد،ويكون على ملّة الصابئة المذكورة في القرآن، وليست هي الصابئة الموجودة بحران، وواسط([43]).
8ـ فرقة الصفريّة الزياديّة
أصحاب زياد بن الأصفر.
أبدت هذه الفرقة مرونة في بعض معتقداتها:
ـ لم يكفّروا القعدة عن القتال، إذا كانوا موافقين في الدين والاعتقاد.
ـ لم يحكموا بقتل أطفال المشركين وتكفيرهم وتخليدهم في النار.
ـ وقالوا: ما كان من الأعمال عليه حدّ واقع ـ أي قصاص ـ فلا يتعدّى بأهله الاسم الّذي لزمه به الحد كالزنا، والسرقة، والقذف، فيسمّى زانيًا، سارقًا، قاذفًا، لا كافرًا مشركًا.
ومن آرائهم
ـ ما كان من الكبائر ممّا ليس فيه حدّ لعظم قدره مثل ترك الصلاة، والفرار من القتال، فإنّه يكفّر بذلك.
ـ جوّزوا تزويج المسلمات من كفّار قومهم في دار التقيّة دون دار العلانيّة([44]).
هذه أهمّ فرق الخوارج الّذي عرفها العالم الإسلاميّ، وكما هو ظاهر في معتقداتهم كيف أنّهم أباحوا لأنفسهم القتل والتّكفير على نحو يغاير تعاليم الدين الإسلاميّ، وموقفهم من الحكّام آنذاك يقودنا إلى السؤال التالي: هل ناصبوهم العداء لاختلافهم معهم في الرأي والعقيدة، أم طمعًا في السلطة؟ وهل الحروب الكثيرة الّتي قادوها ضدّهم وضدّ من خالفهم كانت لتثبيت حكم الله على الأرض ـ كما ادّعوا ؟، أم أنَّ الأمر لا يعدو كونه تنافسًا على السلطة وحبّ الاستئثار بزمام الأمور؟
كان عِداؤهم مُنصبًّا بالدرجة الأولى علىّ الحاكم، فليس غريبًا أن تقول الإباضيّة: «إنّ دار مخالفيهم من أهل الإسلام دار توحيد، إلاّ معسكر السلطان فإنّه دار بغي»([45]).
أمّا تكفير أصحاب الكبائر وقالوا بخلودهم في النار، والكبائر ـ جمع كبيرة ـ وهي أفعال نهى عنها الإسلام، وهي موجودة في كتب الفقه الإسلاميّ. وهذه مسألة خطيرة لأنّها تجيز لهم قتل من يرتكب كبيرة بصفته كافرًا، علمًا أنّ المسلمين اختلفوا في الحكم على أصحاب الكبائر، ففي مجلس الحسن البصريّ([46]) اختلف الحاضرون «في مرتكبي الكبائر فقالت الخوارج كلّهم كفّار، وقالت المرجئة([47]) هم مؤمنون، وقال الحسن هم منافقون، فاعتزل واصل بن عطاء([48]) ومن تبعه وقالوا هم فسّاق وليسوا بمؤمنين ولا منافقين ولا كافرين وهذه المنزلة بين المنزلتين»([49]).
فالثعالبة ـ كما مرّ ـ رأت «أنّ تارك الصلاة كافر، لا من أجل ترك الصلاة ولكن من أجل جهله بالله تعالى»([50]). ومنهم من بالغ في تطرّفه الفكريّ فقال إنّ «كل ذنب صغير أو كبير، فهو شرك»([51]).
وكلّما توغّلنا في معتقدات فرق الخوارج برز رفضُهم للآخر، ومن أجل ذلك سوّق بعضهم لأتباعهم أنّهم من أهل الجنّة دون شكّ، فقالوا: «نقطع على أنفسنا بأنَّ من اعتقد اعتقادنا فهو من أهل الجنّة، ولا نقول: إن شاء الله؛ فإنّ ذلك شكّ في الاعتقاد، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله؛ فهو شاك، فنحن من أهل الجنّة قطعًا، من غير شك»([52]).
د ـ نماذج من عنفهم
1ـ قتلهم المدنيّين والتمثيل بهم
تذكر كتب التّاريخ كيف أقدم الخوارج على قتل بعض المسلمين، لأنّهم خالفوهم في آرائهم، ولعل قتلهم للإمام علي لا يزال يعتبر من أشد الجرائم في التاريخ الإسلامي، ومن جرائمهم على سبيل المثال ذبحهم رجلاً وبقر بطن زوجه الحامل؛ وفي ذلك ورد: عَنْ رَجُلٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ كَانَ مِنَ الْخَوَارِجِ ثمّ فَارَقَهُمْ، قَالَ: دَخَلُوا قَرْيَةً، فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ ذُعْرًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ، فَقَالُوا: لَمْ تُرَعْ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ ذَعَّرْتُمُونِي! قَالُوا: أَأَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ(ص)؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: فَهَلْ سَمِعْتَ مِنْ أَبِيكَ حديثًا يحدّث به عن رسول الله(ص) أَنَّهُ ذَكَرَ فِتْنَةً، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي؟ قَالَ: فَإِنْ أَدْرَكْتُمْ ذَلِكَ فَكُنْ يَا عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ (…) وَلا تَكُنْ يَا عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَقَدَّمُوهُ عَلَى ضِفَّةِ النَّهْرِ، فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، فَسَالَ دَمُهُ كَأَنَّهُ شِرَاكُ نَعْلٍ، وَبَقَرُوا بَطْنَ أُمِّ وَلَدِهِ عَمَّا فِي بَطْنِهَا.
فعندما همّوا بقتله قال لهم إنّي لمسلم، مَا أحدثت فِي الإِسْلام حدثًا، وَلَقَدْ أمّنتموني، قلتم: لا روع عَلَيْك!» أما امرأته فَقَالَتْ: إنّما أنا امرأة، أَلا تتقون اللَّه! فبقروا بطنها، وقتلوا ثلاث نسوة من طيئ، وقتلوا أم سنان الصيداويّة». إثر هذه الحادثة، كان لا بدّ من وضع حدّ للاخلال بالأمن، فشنّ الخليفة الإمام عليّ وجنوده حربًا عليهم، عُرفت بمعركة النهروان([53]).
2ـ سبي نساء المسلمين
لم يجد بعض رؤساء الخوارج بأسًا في قتل النساء، أو في سبي نساء المسلمين الّذين يقاتلونهم، فعلى سبيل المثال، ورد في مصادر تاريخيّة وأدبيّة أنّ أَبا الحَديدِ، وهو رَجُلٌ مِنَ الخوارج قَتَلَ امْرَأَةً كانَتِ الخَوارِجُ قَدْ سَبَتْها فَغالَوْا بِها لِـحُسْنِها، فَلَمّا رَأى أَبو الحَديدِ مُغالاتَهُمْ بِها خافَ أَنْ يَتَفاقَمَ الأَمْرُ بَيْنَهُمْ فَوَثَبَ عَلَيْها فَقَتَلَها؛ فَفي ذَلِكَ قال بَعضُ االخوارج يَذْكُرُها:
أَهابَ الـمُسْلِمُونَ بِها وَقالوا عَـــلى فَرْطِ الـهَوى: هَلْ مِنْ مَزيدِ؟
فَـزادَ أَبو الحَديدِ بِنَصْلِ سَيْفٍ صَقيلِ الـحَدِّ، فِعْلَ فَتًى رَشيدِ»([54])
وهذه المرأة هي أم ّحفص بنت المنذر بن الجارود (ت72هـ /691م) زوج عبد العزيز بن خالد بن أسيد، الّذي كان يقاتل الخوارج، وكان قد اصطحبها معه، فلمّا انهزم، سباها الخوارج، وغالوا فيها لحسنها وجمالها، فقتلها أبو الحديد العبديّ الخارجيّ، منعًا للفتنة بين أصحابه([55]).
هـ ـ ملاحظاتٌ حول فِرَق الخوارج ومميِّزات أتباعها
من يتابع الانقسامات والانشقاقات الّتي حصلت في فرق الخوارج يلحظ أن كلّ فرقة انقسمت إلى عدة فرق وذلك بسبب الاختلاف في الاجتهادات العقائديّة والفقهيّة أو بسبب الخلافات بين أصحاب ودعاة هذه الفرق، فكلّما حصل خلاف بين زعيمين من زعماء فرقة معيّنة يقوم كلّ زعيم بإنشاء جماعة تابعة له تحت عناوين فقهيّة أو عقائديّة أو كلاميّة، مما يؤكّد أنّ هذه الفرق ليست قائمة على أسس عقائديّة أو فقهيّة متينة وثابتة،وسيتم إيراد مثال على ذلك في الفقرات التالية حول الخلاف على قتل الأطفال، ولذلك فإنّ معظم هذه الفرق قد اندثرت واختفت باستثناء فرقة الإباضيّة الّتي اتّسمت بالاعتدال وخرجت من ثوب الخوارج، ولذلك انتشرت في عدد من الدّول العربيّة ولا يزال أتباعهما منتشرون إلى اليوم في سلطنة عُمان وتونس والجزائر وليبيا والمغرب واليمن.
وقد تميّز أتباع فرق الخوارج بالتطرّف واللّجوء إلى العنف والقتل وإراقة دماء المسلمين من الّذين يخالفونهم في الرأي أو الموقف، كما عمدوا إلى سلب المسلمين أموالهم وقتل أطفالهم، وقد هُزِم الخوارج عدة مرّات عندما نوقشت آراؤهم، هُزموا أمام الإمام عليّ عندما رفضوا دخول الكوفة، وهُزموا أمام عبد الله بن عبد عبّاس عندما أرسله الإمام علي إليهم لمناقشتهم.
وناقشهم عمر بن عبد العزيز فهُزموا واستسلموا إليه، ما يؤكد أن المعاني الفقهيّة والعقائديّة الّتي كانوا يستندون إليها لم تكن قائمة على أسس قويّة.
وفي المقابل مَن استمرّ في حمل أفكار الخوارج والقتال تحت رايتهم فقد تميّز بالاندفاع والعنف الشديد والتضحية بالنفس إلى حدّ الموت فداء لآرائهم، ويتحوّل إيمانهم بأي رأي أو اجتهاد إلى عقيدة لا يحيدون عنها، وقد يكون لذلك نتائج خطيرة وقاسيّة.
وقد أدّى فهمهم الخاطئ للآيات القرآنيّة إلى تبريرهم للقتل وإستخدام العنف لمن يخالفهم الرأي، فقد قالوا لعبد الله بن خبّاب (أحد صحابة الإمام علي) عندما التقوا به وكان يحمل القرآن في صدره: «إن القرآن الّذي على صدرك يأمرنا بقتلك».
ومن أجل تكوين صورة واقعيّة عن تفكير الخوارج والخلافات فيما بينهم، فسنعرض وثيقتين تشيران إلى ذلك، من خلال رسالتين تبادلهما زعيمان من زعماء الخوارج:
الوثيقة الأولى: كتبها زعيم النجدات نجدة بن عامر الحوفيّ إلى نافع بن الأزرق لمّا بلغه قتله للمسلمين والأطفال واستحلال الأمانات، وقد أوردها ابن عبد ربّه في كتابه العقد الفريد([56]).
«بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد: فإنّ عهدي بك وأنت لليتيم كالأب الرحيم، وللضعيف كالأخ البرّ، لا تأخذك في الله لومة لائم، ولا ترى معونة ظالم، فلمّا شريت نفسك في طاعة ربّك إبقاء رضوانه، وأصبت من الحقّ نصّه، تجرّد لك الشيطان، ولم يكن أحد أسهل عليه وطأة منك ومن أصحابك، فاستمالك واستهواك واستغواك، فغويت فأكفرت الّذين عذرهم الله في كتابه من قعدة المسلمين وضعفائهم، فقال جلّ ثناؤه، وقوله الحقّ ووعده الصدق: ﴿لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ﴾([57]) ثمّ سمّاهم أحسن الأسماء، تعالى: ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ﴾([58]). ثمّ استحللت قتل الأطفال، وقد نهى رسول الله(ص) عن قتلهم، ويشملهم قوله جلّ ثناؤه: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾([59]) وقال في القعدة خيرًا، وفضّل الله من جاهد عليهم، ولا تدفع منزلة أكثر الناس عملاً منزلة من هم دونهم، أو ما سمعت قوله عزّ وجلّ: ﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى﴾([60])، فجعلهم الله من المؤمنين، وفضّل عليهم المجاهدين بأعمالهم.
ورأيت ألاّ تؤدّي الأمانة إلى من يخالفك، والله يأمر أن تُؤدّى الأمانات إلى أهلها، فاتَّقِ الله».
وأما الوثيقة الثانية فجواب نافع بن الأزرق لنجدة وهذا نصّها([61]):
«بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد، فقد أتاني كتابك تعظني فيه وتذكرني، وتعيب عليّ ما دنت به من تكفير العقدة فليسوا كمن ذكرت ممن كان بعهد رسول الله(ص)، لأنّهم كانوا بمكّة مقهورين محصورين، لا يجدون إلى الهرب سبيلاً، ولا إلى الاتصال بالمسلمين طريقًا، وهؤلاء قد فقهوا في الدين، وقرأوا القرآن، والطريق لهم نهج واضح، وقد عرفت ما قال الله عزّ وجلّ فيمن كان مثلهم، إذ قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا﴾([62])، وقال: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ﴾([63]) وقال: ﴿وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ﴾([64]) وقال: ﴿ اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ﴾([65]) فسمّاهم بالكفر.
وأما قتل الأطفال فإنّ نبي الله نوحًا عليه السلام كان أعرف بالله ـ يا نجدة ـ منّي ومنك، فقال: ﴿رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا﴾([66]) فسمّاهم بالكفر وهم أطفال، وقبل أن يولدوا، فكيف كان في ذلك في قوم نوح ولا يجوز بقومنا.
وأما استحلال الأمانات فمن خالفنا فإنّ الله عز وجل أحلّ لنا أموالهم، كما أحلّ لنا دماءهم، فدماؤهم حلال طلق (طيّب) وأموالهم فيء للمسلمين، فاتّقِ الله يا نجدة، وارجع نفسك».
من خلال هاتين الوثيقتين نلاحظ المنطق الّذي تعتمده بعض فرق الخوارج لتبرير قتل الأطفال والقاعدين واستحلال الأمانات وهو منطق ضعيف، لكن للأسف فإّنه يستند على تفسير ظاهريّ للآيات القرآنيّة وعدم الأخذ بالأسباب والمسبّبات، وقد أدّى ذلك إلى قيام أتباع الخوارج بممارسات خاطئة، وعنيفة، خصوصًا أنّ بعض الآراء والاجتهادات الّتي توصّلوا إليها تحوّلت إلى عقائد ثابتة وبنوا عليها مواقفهم وأعمالهم، ما دفعهم لقتل المسلمين والأطفال، واستحلال الأمانات دون مراعاة لأيّة ضوابط وضعها الإسلام في الحروب مع الآخرين، فكيف إذا كان القتال مع مسلمين يخالفونهم الرأي والموقف.
وفي مقابل هذا التفسير الخاطئ للآيات القرآنيّة والّتي أدّت بالخوارج إلى قتل الإمام علي واعتباره كافرًا، فإنّهم كانوا يتميّزون بالتشدّد بالعبادة ويبالغون فيها، حتّى أنّ جباهم أصبحت من كثرة السجود متقرّحة، وقد روي: «أنّ ابن عبّاس عندما ذهب إليهم رسولاً من الإمام علي رأى منهم جباهم قُرحة لطول السجود، وأيدي كنفثات الإبل (أي ما يمسّ الأرض عندما يبرك البعير لغلظ أيديهم) من كثرة السجود، وهم مشمّرون للعبادة([67]).
وممّا يذكر عن مبالغتهم في العبادة ما روي أنّ زياد ابن أبيه قتل أحد الخوارج «ثمّ دعا مولاه فقال له: صف لي أمره وأصدق، قال المولى: أأطنب أم أختصر؟ فأجابه زياد: بل اختصر، قال المولى: ما أتيته بطعام في نهار قط، ولا فرشت له فراشًا بليل قطّ»([68]).
أي أنّه كان يصوم النهار ويقوم اللّيل ويتميّز بكثرة العبادة والصلاة، لكن ذلك لا يُلغي أنّ هؤلاء الخوارج كانوا يفسّرون القرآن وفقًا لآرائهم ويتّبعون زعماءهم فيتحوّلون إلى متعصّبين عنيفين وينفّذون أوامرهم دون تفكير، وهذه من مميزات التطرّف والتعصّب.
ومن الملامح البارزة في الخوارج الشجاعة وحبّ القتال والاستهانة بالدنيا دفاعًا عن آرائهم ومواقفهم والمبادئ الّتي يعتنقونها، يذكر أنّ جماعة من الخوارج كسروا سجن الكوفة وخرجوا منه عقب وفاة المغيرة بن شعبة، ثمّ اجتمع هؤلاء ليتدبّروا أمرهم ويتدارسوا شؤونهم، فخطبهم زعيمهم حيّان بن ظبيان وحبَّب إليهم الموت في سبيل المبدأ، وذلك أنّ لا أمل في النصر لقلّة العدد والعدةّ، ولكنه قال، إنّ حربنا للظلمة تخرجنا من الإثم. وهتف فيهم: تعالوا إلى الموت، أخرجوا أنفسكم من الفتن، هلموا إلى جنة الخلد، فأطاعوه، وأشعلوا ثورة كانوا جميعًا ضحيّة لها، وكانوا يعلمون مصيرهم([69]).
لكن في مقابل هذه الشجاعة والتضحيّة في سبيل الدفاع عن آرائهم ومواقفهم ومبادئهم، فقد اتّصف الخوارج حسب بعض المؤرّخين والكتَّاب بالسطحيّة والتهوّر وعدم تقدير نتائج المعارك الّتي يشاركون فيها، وفي هذا يقول الدكتور أحمد شلبي: «أوّل ما نبرزه من ملامح الخوارج هو البساطة، والسطحيّة، وعدم العمق في فهم الأمور، وعدم الغور في تقدير نتائج ما يقدمون عليه، ولا شكّ أنّ سطحيتهم وأخذهم بالظاهر الخاطئ، مما استدل به نافع بن الأزرق على صحّة قتل الأطفال والنساء، وكذلك من قتل عبد الله بن الخبّاب متأوّلين حلّ قتله وقصّة ذلك أن في القرآن أيّة نصّها: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون﴾([70])، وقوله إنّ الإمام عليّ عليه السلام حكّم الرجال وعلى هذا حكموا عليه بالكفر»([71]).
إنّ الخوارج مسلمون حقيقة، لكنّهم ضلّوا الطريق الصحيح، في الإيمان، دون أن يدركوا أنّهم ضلّوا، بل أوغلوا في طريق الضلال. ولقد وصفهم عمر بن عبد العزيز أبلغ وصف حين قال لهم: «إنكم أردتم الآخرة فأخطأتم سبيلها»([72]).
على أنّ الخوارج، إذا لم يكونوا أعداء للإسلام والمسلمين بطريق مباشر، فقد آل أمرهم ليصبحوا أعداء خطرين على الإسلام والمسلمين. فقد أبتدعوا في الإسلام ما ليس منه، وأسرفوا في التنكيل بالمسلمين، وأزهقوا آلاف الأرواح، وقضوا باليُتْم والترّمل والثكل على آلاف الأطفال والزّوجات والأمّهات، ثمّ شغلوا جيوش الدّولة الإسلاميّة، فأوقفوا نشاطها، وأتاحوا لجيوش الأعداء، أن تُهدِّد العالم الإسلاميّ، وأن تزحف على أطرافه. فالخوارج لم تكن لهم مبادئ ثابتة، وقد عادوا الناس جميعًا، وأعلنوا الحرب على كلّ من لم يكن من جماعتهم. وكانوا كثيري الفُرْقة، يخرج بعضهم على بعض لأوهى الأسباب، ويعتبرون الصديق عدوًّا، دون جريرة تُذْكَرُ. وكانوا يحكمون بتكفير الناس لأتفه الأسباب، أو حتى بدون أي سبب، وتبنّوا أفكار متطرّفة أدت إلى انشغال الدّولة الإسلاميّة بحروب اهليّة متعددة، فاستغلوا الضعف والانقسام فيها لتنفيذ ونشر مشاريعهم السياسيّة والفكريّة، فالخوارج أعلنوا أفكارًا وبُنى جديدة، منها: «استبدال الخليفة الشرعيّ بعد اتهامه بالتقصير واتهامه بارتكاب الكبائر، والكبائر عندهم مكفرة بأميرين أحدهما للصلاة وآخر للحرب، وجعلوا أمر الخلافة شورى عامّة؛ بعد أن كان شورى خاصّة، وحوّلوا الأمر بالمعروف إلى الجهاد، وأفتوا بالهجرة من البلاد الّتي يسيطر عليها (من يرونه ظالمًا) فرارًا إلى الجبال، وأعلنوا أنفسهم جماعة تطهيريّة إزاء إنحراف تصوروه»([73]).
إن حركة الخوارج، بدأت سياسيّة، أي انّه بدأت في البداية بسبب الخلاف حول التحكيم بين الإمام علي ومعاوية ومن ثم بدأ دعاة الخوراج وضع أسس فكريّة لحركتهم، حيث كان التنظير الفكريُّ لها أقلّ من الجهد السياسيّ، وكذلك أقل من الجهد الحركيّ القتالي، وكلُّ ما كان لهم من بُنى فكريّة، كانت وظيفته شرعنة حركتهم القتاليّة، وتبرير خروقاتهم مثل: تكفير مرتكب الكبيرة الّتي على أساسها صاروا يقتلون أهل الإسلام ويدعونهم أهل الأوثان.
بَيْد أنّ هذه الحركة قد تلاشى وجودها الفعليّ بعد عقود من الزمان، ووقف جميع المسلمين آنذاك ضدّ أتباع الخوارج؛ لأنّ هذه الحركة لم تقف في خصومتها عند الإمام علي إنما استمرت تُقاتل دولة بني أميّة فواجهتها الدّولة والحكّام، وقاتلوهم في معارك عديدة حتى قضوا عليهم ومن بقي منهم مرّ إلى مناطق بعيدة كجنوب الجزيرة العربيّة وبلاد المغرب حيث أنشأوا فرقًا متعددة، أما فكريًّا فقد هاجمتها كُتُبُ الفِرق والعقائد وعِلم الكلام([74]) هجومًا كبيرًا، وانتهت هذه الموجة بعد ظهورها بمئة عام تقريبًا، أي في 145هـ/ 763م.
الهوامش
([1]) هذه المقالة جزءٌ من أطروحة دكتوراه للباحث في جامعة القدّيس يوسف (كلّيّة العلوم الدّينيّة)، وهي بعنوان: “العنف الدّيني بين النّصوص المؤسّسّة والمتغيّرات السّياسيّة والاجتماعيّة (من الخوارج الى تنظيم داعش)”، بإشراف: الأب الدكتور عزيز حلاّق.
([2]) باحثٌ وكاتبٌ في الفكر الدينيّ والسياسيّ المعاصر.
([3]) وردت هذه العبارة أو ما شابهها في العديد من خطب الإمام علي ردًّا على جماعة الخوارج الّتي انشقّت عنه احتجاجًا على قبوله التحكيم مع معاوية، نظر: الطبريّ، محمّد بن جرير: تاريخ الرسل والملوك «تاريخ الطبري»، دار التراث، ط2، بيروت، 1387هـ ـ 1967م، ج5: 72، 73. ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمّد: ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر «تاريخ ابن خلدون» حقّقه خليل شحادة، دار الفكر، ط2، بيروت، 1408 هـ ـ 1988م، ج2: 637.
([4]) الشهرستانيّ، محمّد بن عبد الكريم (ت 548 للهجرة)، الملل والنحل، حقّقه أمير علي مهنّا وعلي حسن فاعور، دار المعرفة، ط3، بيروت، لبنان، 1414هـ ـ 19933م، ص: 132.
([5]) حول معركة صفّين وما جرى فيها، ينظر: ابن مزاحم المنقريّ، نصر بن مزاحم (ت212هـ/827م): وقعة صفّين، حقّقه عبد السلام محمّد هارون، المؤسّسة العربيّة الحديثة، ط2، القاهرة، 1382هـ ـ 1963م. الطبري، تارخ الطبريّ، مصدر سابق، ج5: 5 وما بعدها (سنة 37 هــ ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث وموادعة الحرب بين علي ومعاوية). حول معركة صفّين وما جرى فيها، ينظر: ابن مزاحم المنقريّ، نصر بن مزاحم (ت212هـ/827م): وقعة صفّين، حقّقه عبد السلام محمّد هارون، المؤسّسة العربيّة الحديثة، ط2، القاهرة، 1382هـ ـ 1963م. الطبري، تارخ الطبريّ، مصدر سابق، ج5: 5 وما بعدها (سنة 37 هــ ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث وموادعة الحرب بين علي ومعاوية).
([6]) الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 133.
([7]) «حروراء: بفتحتين، وسكون الواو، وراء أخرى، وألف ممدودة (…) هي قرية بظاهر الكوفة، وقيل: موضع على ميلين منها نزل به الخوارج الّذين خالفوا علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فنسبوا إليها». الحموي، ياقوت بن عبدالله (ت622هـ/1225م)، معجم البلدان، دار صادر، د. ط. بيروت، 1397هـ ـ 1977م، ج2: 245.
([8]) يوم نهروان يعني المعركة الّتي جرت بين الإمام عليّ(ع) وبين الخوارج إثر قتلهم رجلاً وثلاثة نساء ظلمًا وعدوانًا وكانت قد وقعت في منطقة النهروان في العراق فنسبت إليها. ينظر: تاريخ الطبريّ للطبري، مصدر سابق، ج5: 82 ـ 92؛ معجم البلدان لياقوت الحمويّ، م. م. ج5: 324، 325.
([9]) الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 133، 134.
([10]) ينظر: الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 136.
([11]) ينظر: الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 134.
([12]) الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 135.
([13]) ينظر: التّاريخ الطبري، مصدر سابق، ج5: 143 (سنة أربعين ذكر الخبر عن مقتل عَلِيّ بن أبي طالب).
([14]) ينظر: التّاريخ الطبري، مصدر سابق، ج5: 165، 166 (سنة إحدى وأربعين ذكر خروج الخوارج على معاوية).
([15]) ينظر: الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 135.
([16]) هو عبد الله بن الزبير بن العوام القرشيّ (ت 73 للهجرة/ 692م): فارس قريش في زمنه، وبويع له بالخلافة سنة 64 هـ/ 664م عقيب موت يزيد بن معاوية، فحكم مصر والحجاز واليمن وخراسان والعراق وأكثر الشام، وكانت له مع الأمويّين وقائع هائلة، حتى سيّروا إليه الحجّاج الثقفّي، فانتقل إلى مكّة، ونشبت بينهما حروب أتى المؤرخّون على تفصيلها انتهت بمقتل ابن الزبير في مكّة. الأعلام للزركليّ، ج8: 108، 109.
([17]) ابن كثير، إسماعيل بن عمر (ت 774هـ/ 1372م)، البداية والنهاية حقّقه عبد الله بن عبد المحسن التركيّ، دار هجر، ط1، السعوديّة، 1418هـ ـ 1997م، ج11: 667.
([18]) ينظر: الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 135.
([19]) معركة الجمل وقعت في البصرة عام 36 للهجرة 656 للميلاد بين جيش الإمام عليّ من جهة وجيش بقيادة طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة بعيد مقتل الخليفة عثمان بن عفّان. ينظر: تاريخ الطبري للطبري، مصدر سابق، ج4: 506 ـ 541 (أحداث سنة 36). أمّا معركة صفّين فقد جرى الحديث عنها في متن الأطروحة.
([20]) ينظر: البغداديّ، عبد القاهر بن طاهر (ت 429هـ ـ 1038م): الفَرْقُ بين الفِرَق وبيان الفرقة الناجية، دار الآفاق الجديدة، ط2، بيروت، لبنان، 1977م، ص: 61.
([21]) ينظر: الفَرْقُ بين الفِرَق وبيان الفرقة الناجية لعبد القاهر البغداديّ، مصدر سابق، ص: 61؛ وفي الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 135، 136: «فقاتلهم علي رضي الله عنه بالنهروان مقاتلة شديدة، فما انفلت منهم إلاّ أقلّ من عشرة، وما قتل من المسلمين إلاّ أقلّ من عشرة، فانهزم اثنان منهم إلى عمان، واثنان إلى كرمان، واثنان إلى سجستان، واثنان إلى الجزيرة، وواحد إلى تل مورون باليمن، وظهرت بدع الخوارج في هذه المواضع منهم».
([22]) ينظر: الفَرْقُ بين الفِرَق وبيان الفرقة الناجية لعبد القاهر البغداديّ، مصدر سابق، ص: 62. وفي الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1:
([23]) ينظر: الفَرْقُ بين الفِرَق وبيان الفرقة الناجية لعبد القاهر البغداديّ، مصدر سابق، ص: 62.
([24]) لمزيد من المعلومات حول ابن الأزرق والحروب الّتي قادها، ينظر: المبرّد، محمد بن يزيد، الكامل في اللّغة والأدب، حقّقه محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربيّ، ط3، القاهرة، 1417 هـ ـ 1997م، ج3: 163 (من أخبار نافع بن الأزرق)؛ الفَرْقُ بين الفِرَق وبيان الفرقة الناجية لعبد القاهر البغداديّ، مصدر سابق، ص: 62ـ 65. تاريخ الطبريّ للطبري، مصدر سابق، ج5: 613 ـ 622.
([25]) الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 140.
([26]) ينظر: الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 140، 141.
([27]) ينظر: الفَرْقُ بين الفِرَق وبيان الفرقة الناجية لعبد القاهر البغداديّ، مصدر سابق، ص: 63؛ الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 140.
([28]) ينظر: الفَرْقُ بين الفِرَق وبيان الفرقة الناجية لعبد القاهر البغداديّ، مصدر سابق، ص: 63؛ الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 140.
([29]) ينظر: الفَرْقُ بين الفِرَق وبيان الفرقة الناجية لعبد القاهر البغداديّ، مصدر سابق، ص: 63.
([30]) ينظر: الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 143.
([31]) ينظر: الفَرْقُ بين الفِرَق وبيان الفرقة الناجية لعبد القاهر البغداديّ، مصدر سابق، ص: 66، 67.
([32]) ينظر: الفَرْقُ بين الفِرَق وبيان الفرقة الناجية لعبد القاهر البغداديّ، مصدر سابق، ص: 67.
([33]) الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 142، 143.
([34]) ورد «العوفيّة» في الفَرْقُ بين الفِرَق وبيان الفرقة الناجية لعبد القاهر البغداديّ، مصدر سابق، ص: 88. وورد «العونيّة» في الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 146.
([35]) ينظر: الفَرْقُ بين الفِرَق وبيان الفرقة الناجية لعبد القاهر البغداديّ، مصدر سابق، ص: 88؛ الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 146.
([36]) ينظر: الفَرْقُ بين الفِرَق وبيان الفرقة الناجية لعبد القاهر البغداديّ، مصدر سابق، ص: 70، الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 146.
([37]) ينظر: الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 146.
([38]) ينظر: الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 146، 147.
([39]) ينظر: الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 147.
([40]) ينظر: الفَرْقُ بين الفِرَق وبيان الفرقة الناجية لعبد القاهر البغداديّ، مصدر سابق، ص: 88؛ الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 147.
([41]) ينظر: الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 148 ـ 152.
([42]) ينظر: الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 152 ـ 155.
([43]) ينظر: الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 156 ـ 159.
([44]) المصدر نفسه، ج1: 159، 160.
([45]) الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 157.
([46]) هو الحسن بن يسار البصريّ، أبو سعيد (ت 110 هــ/728م): تابعيّ، كان إمام أهل البصرة، وحبر الأمّة في زمنه. وهو أحد العلماء الفقهاء الفصحاء الشجعان النسّاك. الأعلام للزركليّ، ج2: 226.
([47]) المرجئة جماعة قالت بتأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يقضى عليه بحكم ما في الدنيا؛ من كونه من أهل الجنّة، أو من أهل النار. ينظر: الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 162.
([48]) هو واصل بن عطاء الغزّال، أبو حذيفة (ت 131 هــ/748م): رأس المعتزلة ومن أئمّة البلغاء والمتكلّمين. سمّي أصحابه بالمعتزلة لاعتزاله حلقة درس الحسن البصريّ. ومنهم طائفة تنسب إليه، تسمّى «الواصليّة»، وهو الّذي نشر مذهب «الاعتزال» في الآفاق. الأعلام للزركليّ، ج8: 108، 109.
([49]) المقدسيّ، المطهر بن طاهر (ت نحو 355هـ/ 966م): البدء والتّاريخ، مكتبة الثقافة الدّينيّة، بور سعيد، مصر، د.ط د.ت، ج5: 142.
([50]) الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 155.
([52]) الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 155.
([53]) ينظر: تاريخ الطبري للطبريّ، مصدر سابق، ج5: 81 ـ 92.
([54]) البيتان [بحر الوافر] لرجل من الخوارج؛ ينظر: شعر الخوارج، حقّقه إحسان عبّاس، دار الثقافة، ط2، بيروت، 1974م، ص: 154.
([55]) ينظر: الكامل في اللّغة والأدب للمبرّد، م. م. ج3: 254؛ تاريخ الطبري، م. م. ج6: 169؛ لسان العرب لابن منظور، مادة «حدد».
([56]) ابن عبد ربه، العقد الفريد، ج2، ص396 ـ 397.
([61]) العقد الفريد، مصدر سابق، ج2، ص391 – 397.
([67]) ابن عبد ربّه، العقد الفريد، ج2، ص394.
([68]) الملل والنحل للشهرستانيّ، مصدر سابق، ج1: 137.
([69]) ينظر: الطبري، ج5: 309، 310.
([71]) شلبي، أحمد، التّاريخ الإسلاميّ، ص 263.
([72]) ابن عبد ربّه، العقد الفريد، ج2، ص243.
([73]) زاهد، عبد الأمير كاظم، البنى المعرفية والمنهجيّة للفكر التّكفيري، جماعات العنف التّكفيري، مركز الحضارة لتنمية الفكر الاسلامي 2017، بيروت، ص30.
([74]) ويمكن مراجعة كتب: الملل والنحل (الشهرستاني)، مقالات الإسلاميين (1/85)، اعتقادات فرق المسلمين (1/46).