أحدث المقالات
تمهيد

ما تزال الكثير من المعاهد الدينية والحوزات العلمية عند المذاهب الإسلامية المختلفة تنظر بارتياب إلى الدرس الفلسفي أو بلا مبالاة وتحفّظ، بل قد عادت نغمة mمن تمنطق فقد تزندقn إلى الواجهة في بعض الأوساط الدينية، حتى أنّ هذه الملفات تسرّبت إلى بعض البرلمانات في العالم الإسلامي ـ بتأثير من المدّ الديني التقليدي ـ لتطالب بتعديلات أو إلغاء لكتب الفلسفة المعتمدة في مناهج التربية والتعليم في الثانويات، كما حصل في الكويت عام 2008م، ومازلنا نشهد في بعض دول الخليج مدّاً هائلاً لحظر الدرس الفلسفي بحيث تغيب عن هذه البلدان في الأعم الأغلب نشاطات العقل الفلسفي إلا تلك المنطلقة من زاوية شخصية أو نشاط مؤسّسي في المجتمع المدني هنا أو هناك، رغم وجود نخب مهتمّة وفاعلة في هذا المجال.

وقد لاحظنا مؤخراً في هذا السياق مواجهة جديدة ـ قديمة للدرس الفلسفي في بعض الحواضر العلميّة الكبرى التي تحتضن حوزات علمية عريقة، حيث ووجهت بعض المشاريع الفلسفية بروح الشك والريبة في محاولة لمنع نفوذ هذا الدرس إلى المؤسّسة الدينية في هذا البلد أو ذاك، إلى حدّ أنّ بعض الشخصيات لا يرضى اليوم بصرف الحقوق الشرعيّة على الذين يشتغلون بالقضايا الفلسفية ولا يتعاطون البحث الفقهي والأصولي مثلاً. وقد تعالت من جديد الأصوات التي تقول بأنّ الدين يعارض الفلسفة، وأنّ أهل البيت النبوي والسلف الصالح قد صدر منهم ما يعارض هذا النهج في معالجة القضايا الدينية والفكرية.

وليس هذا الوضع بالجديد على المؤسّسة الدينية؛ إذ لطالما كانت هناك علاقة غير ودّية بين الفقهاء والفلاسفة، إلا أنّ الذي يسترعي الانتباه والملاحظة ويدعونا للحديث مجدّداً حول هذا الموضوع ـ من باب التذكير لا أكثر ـ هو ما يلاحظه المتابع المترصّد من عودة هذا النمط من التفكير وبداية تنشطه في داخل المؤسّسة الدينية من جديد بعد النهضة الكبرى التي شهدناها منذ الخمسينيات مع شخصيات أعادت الدرس الفلسفي إلى الواجهة وأولته أهميته التي يستحقّها، مثل الإمام الخميني والسيد محمد باقر الصدر والعلامة الطباطبائي والشيخ المطهري وغيرهم، وأعتقد أنّ الموقف الجديد من الفلسفة والعلوم العقليّة في المؤسّسة الدينية يعدّ انشعاباً من النزعة النكوصية الارتكاسيّة الحرفية التي يشهدها العالم الإسلامي منذ أوائل التسعينيات والتي رفعت إلى الواجهة العقل السلفي بمعناه العام وأعادت تفعيله من جديد تحت شعار الخوف على الذات والخصوصيّة والقلق على الهويّة والأنا الجماعية.

من هنا، أعتبر أنّ مخاطبي في هذه الوريقات المتواضعة هو المؤسّسة الدينية وشرائحها على اختلاف اتجاهاتها المذهبيّة والفكرية، إذ الدرس الفلسفي خارج هذا الإطار محكوم لوضع آخر ونهج بحثي مختلف. وأدعو المهتمين بالدرس الفلسفي إلى التنبّه لهذا الوضع الذي ما يزال في بداياته؛ لممارسة معالجة هادئة ومنطقيّة له، حتى لو كان بالنسبة إليهم بديهياً جليّاً. كما يهمّني أن أشير إلى أنّ الدفاع عن الحضور الفلسفي في المؤسّسة الدينية لا يعني التبنّي الحرفي للمشهد الفلسفي الحاضر، حيث سيلاحظ أنّنا سجلنا بعض الملاحظات العابرة على هذا المشهد.

ومن الضروري ـ بدايةً ـ أن أشير إلى ما أعنيه هنا من كلمة (الفلسفة)، فإنّ الدرس الفلسفي في المعاهد والحوزات الدينية، كان له على الدوام شكل آخر عن الفلسفة بمفهومها العام المعاصر الذي نختاره هنا، فقد غلبت فلسفة الوجود على الفلسفة الإسلامية عموماً، بل لقد كان الاهتمام بالمنطقيات التي تمثل جانباً من البحث المعرفي أكبر في الأزمنة الماضية منه في العصور المتأخرة، فقد طوّر ابن سينا منطق أرسطو الصغير حتى خصّص في كتابه الشفاء أربعة مجلدات كاملة للقسم المنطقي بما يزيد عن مباحث الإلهيات بالمعنى الأخص، فيما لا نجد تطويراً بهذا الحجم للبحث المنطقي منذ تلك العصور إلى يومنا هذا، وإذا كانت بعض قضايا علم المعرفة الحديث قد طرحت في البحث الفلسفي، كما في حديثهم عن الوجود الذهني الذي يخصّص عادةً للبحث في الجانب المفهومي والحكائي للصور الذهنية عن الواقع الخارجي، أو لدى بحثهم في بعض القضايا المتفرقة مثل تكوّن الكليات وأنواع المعقولات الماهوية والفلسفية والمنطقية وغير ذلك، إلا أنّنا لم نشهد ظهور قسم علم المعرفة في الدرس الفلسفي إلا مع الحكماء الثلاثة: الصدر والمطهري والطباطبائي (على أنّ الأخير لم يفرد في كتابيه: بداية الحكمة ونهاية الحكمة، فصلاً لعلم المعرفة رغم تجربته في هذا الموضوع في المقالات الست الأولى من كتابه: أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، خلافاً للشيخ محمد تقي مصباح اليزدي الذي أفرد الدرس المعرفي بالقسم الثالث من كتابه: المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، متقدّماً بذلك خطوةً إلى الأمام على أستاذه الطباطبائي)، فالفلسفة بقول مطلق لا نراها تختصّ بفلسفة الوجود، بل تعمّ فلسفة المعرفة أيضاً. يضاف إلى ذلك ظهور مشهد الفلسفات المضافة في القرن الماضي الميلادي، فإنّ الفلسفات المضافة (فلسفة الحقوق، فلسفة الأخلاق، فلسفة العلم، فلسفة السياسة وغير ذلك) تمثل فرعاً جديداً هامّاً من البحث الفلسفي، لم نعرفه بشكل جادّ سوى منذ بضعة عقود من الزمن.

إذن، فالمراد من الفلسفة هنا ما يشكّل ـ من جهة ـ فلسفة الوجود وفلسفة المعرفة، وما يستوعب ـ من جهة ثانية ـ كلاً من الفلسفة المطلقة والفلسفات المضافة.

من هنا، يمكن الحديث عن مجموعة من النتائج الإيجابية المترتبة على الدرس الفلسفي في الحوزات العلميّة، والتي تكشف ضرورته وأهمّيته وشرعيّته ومَدَيات الحاجة إليه، أهمّها:

أوّل النتائج الإيجابية للدرس الفلسفي هو الفهم العقلاني للمعرفة والوجود، فإنّ الفهم في المناخ الديني يقع على نحوين: أحدهما الفهم التعبّدي القائم على التسليم وثانيهما الفهم الفلسفي القائم على التأمّل العقلي والعقلاني، ويظهر نتيجة ذلك عقلٌ فلسفي وآخرَ نصّي، فنحن نجد أنّ للفلسفة والدراسات العقلية عموماً دور بيّن في تكوين عقل الإنسان وطريقة تفكيره، ولا نستطيع إلاّ أن نسمّي ذلك: عقلاً فلسفياً، له خصائصه وسماته وآلياته في التعاطي مع العلوم والفنون.

وانطلاقاً من ذلك، نجد الدرس الفلسفيّ ـ بالمعنى العام للفلسفة، أيّ فلسفة كانت ـ ضرورةً استثنائية للمعاهد الدينية والحوزات العلمية؛ لأنّ هذا الدرس يساعد على تنشيط الفكر، وينضج من تصوّرات العقل الديني عن العالم والإنسان والحياة، وقد لاحظنا ـ بالتجربة الدينية ـ كيف ظهرت بعض النتائج السلبية في الفترات التي غاب فيها هذا الدرس عن الحواضر العلمية الدينية، ليحلّ مكانه أحد درسين هما: الدرس الصوفي، والدرس النصّي.

ونقصد بالدرس الصوفي النزعات الصوفية غير المرشّدة بوعي منطقي، فعندما حظرت الفلسفة في العصر الصفوي مثلاً أو في بعض فتراته على الأقلّ، ورحل صدر المتألهين الشيرازي (1050هـ) إلى خارج المدينة العلمية، ليعيش فترةً في قريةٍ نائية، كانت التيارات الصوفية وحركة الدروشة تضرب في العمق المجتمعَ الإيراني، بل وتهز العاصمة الصفوية نفسها (إصفهان)، لتخيف الفقهاء وغيرهم.

إلى جانب ذلك، فإنّ غياب الدرس الفلسفي في تلك الفترة أفضى إلى شيوع ظاهرة الدوران حول الموروث في عملية استهلاك له، دون ضخّه بحياة جديدة، فتكثر الشروح والحواشي والتعليقات والمختصرات، وتتصارع المدارس على تفسير هذه الكلمة لهذا العالِم أو ذاك، وليس في تصارعها هذا ضيراً، بل الضير في استهلاك طاقاتها في هذا التصارع حتى النفس الأخير، فيدخل العقل والفكر مدارات مغلقة ويدور في حلقة مقفلة.

وعندما نتحدث عن تيار نصّي، وآخر عقلاني فلا نعني بالعقلاني سلب العقل عن النصيّة الدينية، بل سلب محوريته عنها، وفرق كبير بين الأمرين.

يسعى العقل الفلسفي لفهم العالم والمعرفة و.. فهماً مباشراً، بمعنى الانطلاق من المعطيات التي يكوّنها بنفسه للوصول إلى هذا الفهم، ولهذا نجده ـ في الغالب ـ معتزاً بجهوده واثقاً من نفسه وقناعاته فاهماً ما توصّل إليه، أما العقل النصي فلا يسعى لفهم العالم على هذه الطريقة بل عبر وسيط، وهو النصّ نفسه، فهو يجهد لفهم رأي الآخر عبر تحليل نصوص، أكان هذا الآخر هو الله تعالى أو النبي أو غيرهما، فالثقة بصاحب النص (على أساس مفهوم العصمة مثلاً)، ولنسمّه (الناصّ) هي التي تمنحه الثقة بتصوّراته عن الكون والحياة.

وانطلاقاً من ذلك، تنفتح أمام العقل النصي مساحة جديدة من المجهول؛ لأنك عندما تبني تصوّراتك عن العالم على أساس الثقة هذه، فهذا يعني أنك مستعدّ لتبنّي تصّورات عن العالم لم تفهمها بمعطياتك الذهنية وإنما حصلت عليها بمعطيات غيرك، وانطلاقاً من قناعتك بهذا الغير ـ وهي قناعة لم تنشأ بالضرورة من فراغ بل نشأت من براهين أقمتَها تبرّر الوثوق به ـ صدّقت هذا التصوّر أو ذاك، دون أن تنتجه بنفسك.

من هنا، يغدو العلم بمضمون النص ومحتواه، بمعنى عدم الوصول المباشر إليه، أساساً في بعض الأحيان لدى العقل النصيّ، أما العقل الفلسفي فهو على النقيض من ذلك، إذ بسعيه لتكوين قناعاته من نفسه لا يسمح بالمجال لعدم العلم لصياغة تصوّره عن العالم، بل هذا التصوّر ينشأ عنده من المعلومات التي عرفها عن العالم، ولا تساهم المجهولات لديه في بناء التصوّر، بل تساهم في نقصانه، فالعقل النصّي لا ينزعج من هذا «اللاعلم»، بل يكمل بناء منظومته المعرفية اعتماداً على الناصّ، فيما لا يمكن للعقل الفلسفي إكمال البناء دون توصّل مباشر للمعرفة.

إذن، فالعقل النصي يشيد تصوّراته عن العالم في ظلّ مبدأين: أحدهما الثقة بالناصّ وثانيهما: الجانب غير المفهوم ولا المعقلن من العالم، ولا تضادّ بين هذين المبدأين، أما العقل الفلسفي فيشيد تصوّراته على مبدأ واحد، هو المعلوم الذي توصّل إليه لا غير، ومن هنا لم يكن للتعبّد والتعبديات مجال عنده، على خلاف العقل النصي الذي يستسيغ وبدرجة عالية مقولة التعبّد بقول الغير حتى مع الجهل دون أن يرى في ذلك أية منقصة.

واستتباعاً لما سبق، يغدو اندفاع العقل النصي قائماً على الثقة واللامعقول عنده، على خلاف العقل الفلسفي الذي يندفع على أساس المعقول والذات، ولهذا يتراءى من بعيد أن الفكر النصّي فكر غير عقلاني، ونحن لا نحكم في هذا الموضوع هنا، لكننا نحلّل هذه الصورة، إذ سببها ما أشرنا إليه.

من هذا كلّه نفهم أنّ الدرس الفلسفي ينشّط عند الإنسان البناء المعرفي الجلي، ويرفع من مجال ثقته بمعلوماته، ويعقلن عنده رؤيته للعالم والوجود والحياة، ويعطي للعقل مرجعيّته التي تكون له أولاً وبالذات.

وفي هذا العصر الذي نعيش، وهو عصر العقل والعقلانية، ولو كانت عقلانيةً نقديّة على الطريقة الكانطيّة، يحتاج الدين إلى وعي عقلاني به، ويحتاج إلى تشريح عقلاني لمفاهيمه، كما يحتاج إلى إعادة تكوينه في عقولنا تكويناً عقلانيّاً قادراً في المناخات التي لا تلتزم النصّ الديني الخاص أن يكون له حضوره وتأثيره وهيمنته.

إذن، فالفلسفة بإمكانها أن توفر لنا فهماً عقلانياً، والفهم العقلاني قادر على أن يمنح المنظومة الدينية المُعَقْلَنَة قدرة التأثير في السياقات الفكرية المباينة، بحكم منطق العقل المشترك بين البشر.

لكن على هذا الخطّ نفسه، نجد بعض مظاهر القلق، فإذا كان المفترض في البحث الفلسفي أن ينشّط الحركة العقلية عند الإنسان، فنحن نجد أنّ واقع الدرس الفلسفي في بعض الأوساط الدينية يساعد على ظاهرة التقليد أحياناً، نظراً لما حيك حول الشخصيات الفلسفية من طابع أسطوري، حتى أنّ الباحث الفلسفي يجد نفسه غير واثق بعقله مهما قرأ في الفلسفة مادامت مناهج التربية والتعليم في المجال الفلسفي تقوم على ترغيبه في الفهم بدل ترغيبه في النقد والتحليل، وإن كان الفهم ضرورة مقدّمية للنقد والتحليل، وفي هذا السياق نجد حالةً من الصنمية التي أحيطت بفلسفة الحكمة المتعالية حتى صار نقدها عيباً أو مؤاخذة، وصار خصومها سطحيون بنظر أنصارها. إنّ تقديم البحث الفلسفي لدارسي الفلسفة على أنّه قد أنهى مرحلة العقل المشائي وطوى صفحة الصراعات الفكرية السابقة، فيه قدر من المبالغة من وجهة نظري الشخصية، وهي مبالغة تدفع الطالب للعلوم الفلسفية إلى التصديق بمضمونها بوصفه حقيقةً نهائية، وربما تكون قد سيقت أحياناً بطريقة تهويل إعلامي يستعان له بضخّ اللغة العرفانية المهيمنة على الجانب الشعوري في الإنسان.

إلى جانب ذلك، يؤاخذ على الفلسفة الصدرائية أنّها أرادت ـ مشكورةً ـ أن تجمع بين الحقيقة والشريعة وبين العقل والقلب، لكنّ الذي حصل على مستوى التدوين أنّ المباحث العرفانية قد اختلطت بالمباحث الفلسفية، كما يشاهد ذلك بوضوح في كتاب «الأسفار الأربعة»، وهذه الظاهرة تثير قلقاً حقيقيّاً عندما يتم تقديم القضايا العرفانية داخل البحث الفلسفي بصيغة العرفان النظري دون أن يتم تطويعها للنقد الفلسفي أحياناً، الأمر الذي تنبّه له العلامة الطباطبائي بجدارة، فسعى لفصل العرفان عن الفلسفة على مستوى التدوين، كما في mبداية الحكمةn وmنهاية الحكمةn وmأصول الفلسفة والمنهج الواقعيn، وفي طريقته في شرح الأسفار، كما يشير إلى ذلك أستاذنا الشيخ جوادي آملي حفظه الله.

وفي السياق نفسه، نجد أنّه من الضروري تنشيط باب الاجتهاد في البحث الفلسفي والخروج من دائرة شرح المتون الفلسفية ولو كان شرحاً محتوياً على تعليقات تبدي وجهات نظر شخصيّة، فأرفع دروس الفلسفة اليوم في الوسط الديني إلا ما شذّ وندر تتناول كتاب الحكمة المتعالية بالشرح والتعليق، وقلّما نجد طريقة البحث الخارج المتداولة في علم الفقه والأصول متداولةً في علم الفلسفة، حيث يستبدّ الأستاذ بتكوين الموضوع وعرضه وربما أحياناً تقليب تصميمه العام. إنّ خروج الدرس الفلسفي من نطاق الشروح بهذا المعنى إلى المشاريع المستقلّة التي تفتح بشكل أكبر باب الاجتهاد سيمكّن الفلسفة في العصر الراهن من أداء دورٍ إبداعي أكبر، بدل الدوران حول المتون فقط، بما يشبه طرائق التفكير النصّي بشكله التاريخي.

هذا الأمر يمثل ـ بدرجةٍ ما ـ نتيجاً تلقائيّاً للعنصر الأوّل، فإنّ التيارات الجامدة والسكونية والحرفية وتيارات الخرافة والتهريج الفكري، يمكن مواجهتها تارةً من خلال النصوص نفسها بالقيام بعمليات نقد سندي للنصوص أو الكشف عن النصوص ذات الطابع العقلاني الطارد للعقل الخرافي، وأخرى من خلال عمليات النقد المضموني لعناصر الخرافة والحرفية، وهنا قد يكون الأمر متوفراً أحياناً بصورة أفضل من النصوص نفسها؛ لأنّ النصوص الواردة في الروايات عن المعصومين قد اختلط فيها الغث والسمين، ومهما استطاع نقاد الحديث والرجال أن يبذلوا من جهد مشكور في تحليل هذه النصوص سنداً وصدوراً أو غير ذلك، فإنّه لن يمكن تنقيتها بشكل نهائي؛ لأنّ المعايير الرجاليّة والسندية ليست معايير حاسمة في هذا الإطار، لاسيما إذا بني على أنّ مرجعيّة مثل علم الرجال هي مرجعية تاريخية أيضاً، عنيت الاعتماد على مصادر الرجال الأولى كرجال النجاشي والطوسي، وفهرست الطوسي، ورجال الكشي، وتهذيب المزي، والجرح والتعديل للرازي وغيرها من مصادر السنّة والشيعة، فإنّ هذه المصادر مهما ارتقت لن تكون معصومةً عن الخطأ، كما لن تكون يقينية وعلميّة حاسمة بالضرورة، الأمر الذي يحوجنا إلى عمليات نقد للمتن وتمحيصه من زاوية عقلانية. والفلسفة توفّر بشكل كبير جداً هذا النقد في دائرة عملها، وتنجي من مهلكة اعتماد مرجعيات نصيّة فاسدة، وهذا ما لاحظناه في تجربة الشيخ المفيد والسيد المرتضى مع بعض التيارات الحديثية التي كانت سائدةً قبلهما حيث كانا يصفان جماعات الحديث بعدم الدقّة والوعي الكافي للنصوص، وأنهم يسوقون في المجال العقدي والوجودي النصوص بوصفها معطيات تعبّدية صرفة، خالطين بين مجالات الشريعة والحقيقة.

وفي هذا السياق، نسجّل قلقاً إزاء ما يحدث في بعض الأوساط المشتغلة بالدرس الفلسفي أيضاً تحت تأثير المدّ النصّي الناشط في الفترة المتأخرة في المحافل العلمية الدينية عند السنّة والشيعة، وذلك أنّه تمّ تجاهل عمليات نقد النصوص، حتى أنّك تجد سباتاً في هذا المجال رغم ما يوفره العقل الفلسفي المنفتح من إمكانات لممارسات نقدية مضمونية للنصوص التي بين أيدينا لتمييز الغث عن السمين منها، وتجربة العلامة الطباطبائي في تعليقاته على mبحار الأنوارn شاهد على هذه الحساسيّة المضاعفة في هذا المجال.

 

نحن نعلم أنّ هذا النص الذي تدور حوله حركة العقل النصّي كان في الزمان والمكان، وهذه الزمكانية فيه بالنسبة لنا اليوم ماضوية، بمعنى أن نصّ القرآن مثلاً أو نصّ التوراة نصّ جاء في الماضي، ولحظة صدوره تعود إلى زمن بعيد.

إنّ الدوران حول النص الديني الصادر في الماضي سيفضي تلقائياً إلى انشداد غير عادي لما مضى، وحيث يمثل النص الديني الأصلي قمّة التطوّر المعرفي في العقل النصي، فهذا يعني ـ غالباً ـ أنه كلّما تحرّكنا نحو الحاضر كلّما ابتعدنا عن المصدر الأصلي، وهذا ما يفسح المجال لبناء صورة انحدارية عن الصيرورة التاريخية للإنسانية، فالأقرب لعصر النص أقرب إلى المثال والأنموذج، فيما الأبعد على خلافه، أو لا أقلّ على شكٍ من أمره، حتى أنك لا تكاد تستطيع القول: إن هذا المتدين المعاصر خيرٌ من ذلك الصحابي (العادي)، وكأن في هذا القول خطأ أو جريمة.

أما العقل الفلسفي، فيرى ـ عادةً وليس دائماً ـ أن الحال في تطوّر؛ لأنّ بناءاته قائمة على المعرفة، ومرور الزمان يساعد في التراكم المعرفي، مما يمنح العقل تحسّناً في أموره.

لكن على أيّة حال، تغدو المثالية الماضوية في العقل النصي سبباً أحياناً لرغبة جامحة في الاستنساخ الحرفي، لهذا نجد نحواً من التماهي مع الماضي حتى في شكلانيات الأمور، ونمط الحياة، وأسلوب العيش، إيماناً صادقاً بأن في ذلك مقاربة للأنموذج الأعلى، ومن هنا بالضبط تخرج بعض ظواهر السلفية والحرفية أحياناً، فنجد ركوداً في الحياة، وجموداً في صورتها، وخوفاً من التغيير، وقلقاً من حصول تبدّلات.

وعلى العكس من ذلك العقل الفلسفي الذي نجده أحياناً مندفعاً بشره للتغيير، والتحوّل، والصيرورة ونحو ذلك، حتى كأنه ينكر ـ أحياناً ـ القديم لقِدَمه ويأخذ بالجديد لجدته، وكأن قِدَم فكرةٍ يُبطل مفعولها، أو كأن المفاهيم تبلى جميعها بمرور الأيام.

4 ـ 1 ـ توفير القدرة الدفاعية للدين

فالدين بوصفه ظاهرةً فطريّة، وبعد إيمان الفيلسوف به ـ محقّقاً صورةً ميتافيزيقية عن العالم ـ سوف يكون بمقدور الفلسفة أن تحقّق دفاعاً حسناً عنه وسط ساحات فكرية لا تؤمن بمرجعية النص أو غير ذلك، وهذا ما لاحظناه مع تجربة الحكماء الثلاثة المتأخرين وجيل تلامذتهم المشتغلين بالدرس الفلسفي، عنيت: العلامة الطباطبائي والشيخ الشهيد المطهري والسيد الشهيد محمد باقر الصدر.

لكنّ هذا الأمر يفضي إلى نتائج غير حسنة من جهة ثانية وينبغي الحذر منها؛ ذلك أنّ القدرة الدفاعية التي تتمتع بها الفلسفة اليوم، والسياقات التاريخية لنشاطها الدفاعي هذا في القرن العشرين بالخصوص، يخشى من تحوّلهما إلى سياج يحبس داخله العقل الفلسفي الذي يفترض به ـ من حيث كون هذا العلم هو أب العلوم وأمّها وأسبقها كما يقولون ـ أن يكون سابقاً على الاعتقاد الديني، فأن تكون فيلسوفاً لست بحاجة إلى تديّن خاصّ، لكنّ التدين يحتاج اليوم دفاعياً إلى الفلسفة التي يمكنه من خلالها الوصول إلى نتائج مفيدة، فلا نقصد هنا جعل علم الفلسفة كلاميّاً؛ لأنّنا ننتصر لفلسفة علم الكلام، وإنّما نحكي عن إمكانية متوفّرة للدين في توظيف الفلسفة في الجملة لقيمه ومبادئه.

إنّ المدارس الفكرية القائمة اليوم في العالم لا يمكن فهمها بدون فهم الجذور الفلسفية التي قامت عليها، فحتى لو اتخذ الإنسان موقفاً سلبيّاً من الفلسفة فلابد له من درسها وفهمها مقدّمةً ـ على الأقلّ ـ لفهم المشهد الفكري القائم في العالم، ومن ثم يغدو الدرس الفلسفي حاجةً أساسية في اللحظة التاريخية، وفي تحقيق المعاصرة التي يريدها عالم الدين والمثقف المسلم على السواء، أشبه شيء بقولة من قال: إنّ نقد الفلسفة يحتاج إلى الفلسفة.

ولكن، وبمناسبة الحديث عن الآخر الفلسفي، أجد من المناسب التنويه بأنّ الفلسفة لمّا كانت أسبق العلوم، بل تحتاجها العلوم من وجهة نظر أنصارها على الأقل، دونها حيث لا تحتاج العلومَ، فهذا معناه أنّ نسبة الباحث الفلسفي إلى جميع الاتجاهات الفلسفية والدينية نسبة واحدة؛ لأنّ هذه هي منطقيّة مكانة الفلسفة وموقعها المعرفي، ومؤدّى هذا الأمر إلى ضرورة تقديم مناهج خاصّة في التربية والتعليم في المجال الفلسفي؛ تفترض أنّ الاتجاهات جميعها محترمة منطقيّاً حتى يثبت بطلانها، ومن ثم لا معنى للتغييب في الدرس الفلسفي، لا التغييب على أساس حضاري كتغييب الفلسفة الغربية هنا تارةً والشرقية هناك أخرى، ولا التغييب على أساس ديني كتغييب الفلسفة الإسلامية في الوسط المسيحي مثلاً وبالعكس، ولا على أساس مذهبي كتغييب الفلسفة الصدرائية لانتماء أبرز رجالها إلى المذهب الإمامي، ولا على أساس قومي كتغييب الفلسفة السينوية هناك أو الفلسفة الرشدية في شرق العالم الإسلامي، ومن ثم لا تنتج مناهج التربية والتعليم التي تقوم على تدريس مدرسة فلسفية واحدة فقط.. لا تنتج عقلاً فلسفياً بقدر ما تنتج نزعة كلاميّة وفئويّة في الدرس الفلسفي.

وذلك أنّ هناك تناسباً طردياً في تكوين صور جديدة عن معاني النصوص الدينية بين الخلفيات المعرفية لقارئ النص وبين تفسير النصّ بأسلوب مختلف ونهج مختلف، فإذا انفتح العقل المفسّر للنص الديني على أرضيات المعرفة الفلسفية فهذا معناه أنّه توفر على خلفية معرفية جديدة في فهم العالم والوجود والمعرفة والإنسان، الأمر الذي يوفر له قدرة جديدة على مقاربة النصوص من زاوية لم تكن متوفرة له من قبل، وهذا الكلام يقع بصرف النظر عن مدى صوابية الفهم الجديد وعدم صوابيته، فإنّ الكلام في أنّ الخلفية الفلسفية توفر إمكانية خلق فهم جديد، أمّا مدى صحّة هذا الفهم الجديد فهو أمر تابع لقواعده وشواهده ومعطياته، ومن ثم يمكن لمن يريد أن ينتقد أسلوباً خاصّاً في فهم النصوص الدينية يراه تأويلاً غير مبرّر.

وأكتفي بهذه المصالح النوعيّة العامّة، لأعرّج على الهواجس والموانع من الدرس الفلسفي عند بعض التيارات الدينية اليوم من التفكيكيين الخراسانيين وغيرهم.

ينطلق المتحفظون من الدرس الفلسفي في الوسط الديني من مجموعة أسبابتخلق عندهم الهواجس إزاء هذا الحقل المعرفي، وأقف هنا عند مبرّرين اثنين أكتفي بهما:

أوّل ما نطلّ هنا نجد أحدى أبرز هذه الهواجس، وهو هاجس الضلال والترويج للانحراف العقدي، حيث يتبنّى هذا الهاجس في الغالب التيار الحديثي والفقهي، أي تيار الاشتغال على النصوص الدينية، إذ يرى هؤلاء أنّ الدراسات الفلسفية تحوي الكثير من الأفكار التي تتنافى مع العقائد الدينية، من نوع الحديث عن المعاد الروحاني دون الجسماني، وكذلك مسألة العلم الإلهي بالجزئيات، وقضيّة قِدَم العالم باستبدال الحدوث الزماني بالحدوث الذاتي والإمكان الماهوي، أو باستبدالهما معاً بالإمكان الوجودي الفقري، وقد يحصل أنّ الفقيه أو المحدّث أو المفسّر يحمل صورةً عن موضوع فلسفي لا يرى أصحابه أنّه كذلك، مثل تصوّر بعضهم الضرورة القائمة بين العلّة والمعلول والتي يتحدّث عنها الفلاسفة، بمعنى الحتمية والجبر الذي يتنزّه عنه الباري تعالى، أو الاعتقاد بأنّ نظرية التشكيك الخاصّي في الوجود والتي تبنّتها الحكمة المتعالية تعني عين نظرية وحدة الوجود والموجود المستوحاة من ظاهر كلام بعض المتصوّفة والمؤدّية ـ من وجهة نظرهم ـ إلى الكفر؛ لإنكارها الثنائيّة بين الخالق والمخلوق والكثرة الحقيقية في العالم.

ويتخطّى هذا الفريق هذا النوع من الهواجس ليرى أنّ محاولات بعض الفلاسفة التوفيق بين العقل والنص هي محاولات تطويعية تلاعبت بالنصوص الدينية وتحكّمت بها، وأنّ ما قدّمته مثل الفلسفة الصدرائية من توفيق بين الشريعة والحقيقة والطريقة لم يكن سوى تلاعب بالنصوص وتأويلها بطريقة لا تخضع حتى لقواعد المجاز الاعتزالية.

هذا الأمر جرّ قلقاً كبيراً بين الفقهاء والمحدّثين وخشيةً من تنامي النزعات الفلسفية التي تتحرّر من النصوص عبر مرجعيّة العقل من جهة وقواعد التأويل الإفراطي من جهة ثانية، ومن ثم يصبح الدين بأجمعه عرضةً للخطر.

وإذا أقحمنا اتجاهات الفلسفة الغربية ذات الطابع المعرفي وغيره وأخذناها بعين الاعتبار سيكون المشهد أكثر مأساويةً؛ حيث ستظهر نزعات الشك والسفسطة بأشكالها الحديثة في الغرب، وسيتم تعريض ثقافتنا وشبابنا لتأثيرات الفكر الغربي الذي بات يرى الميتافيزيقا نفسها غير قابلة للإثبات مع عمانوئيل كانط، أو يراها قضايا غير ذات معنى ولا تقبل الصدق والكذب مع المفكّرين الوضعيين، بل الأخطر من ذلك هو المناهج المنطقية الحديثة التي أطاحت بقواعد اليقين حتى في العلوم نفسها وحوّلتها إمّا إلى قواعد ترجيح معرفي فقط أو إلى مجرّد سيكولوجيات لا تحكي عن الواقع بأمانة كما قدّمها لنا ديفيد هيوم، بما فيها مناهج التجربة والاستقراء.

لعلّ هذه أخطر إشكاليّة تعتقد بها التيارات النصيّة في الأوساط الدينية إزاء الحقل الفلسفي، ومن الضروري لنا التفكير فيها بتأنٍّ وروية وعدم الاستهانة بها.

أمام هذه الصورة نجد أنّه بالإمكان التأمّل في هذا الأمر وتحليله أكثر عبر مجموعة نقاط:

أولاً: ليس هناك علم لا يترك تأثيرات سلبية هنا أو هناك، لاسيما العلوم الإنسانية المتصلة في موضوعاتها بالمجال الديني، فإذا كنّا نريد التحفّظ على كل علم يترك أثراً سلبيّاً هنا أو هناك فهذا يعني التحفظ على مجمل العلوم الإنسانية، مثل علوم النفس (فرويد أنموذجاً) والاجتماع واللسانيات والتاريخ وغيرها، فإنّ هذا هو الوفاء الحقيقي لطبيعة الهاجس المشار إليه، والمفترض اعتبار جميعها ملوِّثات عقدية أو فكرية ينبغي التنزّه عنها، ولا نجد في الوسط المتحفّظ مثل هذا الموقف المتشدّد إلى هذا الحدّ من سائر العلوم الإنسانية، وربما يكون ذلك بسبب عدم ممارسة هذه العلوم تهديداً جدّياً للفكر الديني الرسمي ولو من وجهة نظر أنصاره.

إنّ التداعيات السلبية لعلمٍ من العلوم لا تقف عند حدود العلوم الإنسانية العقلانية، بل تمتدّ إلى العلوم الدينية نفسها والقائمة على النصوص أو ما هو في قوّتها من وجهة نظر النصيّين، فنحن نجد الكثير من التيارات الفقهية والحديثية والتفسيرية يتمّ التعاطي معها من موقف التحفّظ والرفض وتهمة الابتداع، فيما لا نجد الفقهاء ـ رغم ذلك ـ يتعاملون بسبب هذا الأمر مع مجمل علم الفقه بأنّه علم بِدْعِي ضالّ، وهكذا الحال في علم أصول الفقه، حيث جاءت الكثير من التعليقات النقديّة عليه حتى رأى بعضهم له ضرراً كبيراً على المصادر الدينية الأصيلة، ومع ذلك ظلّ هذا البعض ـ مثل السيد عبد الأعلى السبزواري ـ مؤمناً بهذا العلم، غاية الأمر من الدّعاة إلى تهذيبه وتشذيبه لرفع المشكلات التي يواجهها.

إنّ الجمع بين عناصر الضرورة في الدرس الفلسفي والتي أشرنا إليها آنفاً من جهة، والمخاطر التي تنجم أحياناً عن الشغل الفلسفي من جهة ثانية، لا تدفع إلى الشطب على هذا الحقل المعرفي وإثارة الزوابع ضدّه والتحذير منه والمنع من تدريسه في بعض الحوزات والمعاهد الدينية، بقدر ما يستدعي تبنّي خيار الدرس الفلسفي من حيث المبدأ ثم القيام بمحاولات تصحيح تدفع هذا الدرس لتصويب مقولاته وتصحيح منهاجيّاته في البحث العلمي بما يتوافق مع الدين، ومع البعد العلمي للفلسفة معاً.

ثانياً: يبدو لي أنّ المنهج الإخباري وتيار المحدّثين كان أكثر وفاءً لأفكاره من هذه الناحية، فقد رفض علم أصول الفقه وإن لم يكن رفضه له منطلقاً بالضرورة من البعد الفلسفي الذي نتحدث عنه، لكنّ الازدواجية التي تبدو لنا تسيطر على التيار الأصولي في المعاهد الدينية التي تحكم المؤسّسة الدينية في الوسط الشيعي اليوم؛ وذلك أنّ الجميع يعلم مقدار النفوذ الذي تتمتع به الفلسفة ومقولاتها في علم أصول الفقه بشكل مباشر أو غير مباشر، مثل مباحث اعتبارات الماهية والمشتق والعقل العملي، وكيف استفادوا من قواعد الفلسفة وقضاياها في مثل مباحث مقدّمة الواجب والمفاهيم واجتماع الأمر والنهي والوجوب التخييري وبعض تفصيلات مباحث الاستصحاب، وقد رأينا أنّ مثل الشيخ الخراساني (1329هـ) ـ صاحب كفاية الأصول ـ قد استقدم للدرس الأصولي مجموعة قضايا فلسفية لأوّل مرّة، ربما يكون منها قاعدة الواحد بصياغاتها([1]). ومن يراجع الدرس الأصولي منذ الوحيد البهبهاني (1205هـ) إلى يومنا هذا يرى كم سيطرت الذهنية الفلسفية والمنطقية على آليات الشغل الأصولي، بل نحن نجد الشيخ البهائي (1030هـ) يضع مقدّمات منطقية وعقلية في بداية كتابه: زبدة الأصول([2])، متابعاً في ذلك الشيخ أبي حامد الغزالي (505هـ)([3]). والسؤال: إذا كانت الفلسفة لعنةً من اللعنات التي يجدر الابتعاد عنها، فما هي هذه الازدواجية التي وقع فيها بعض الفقهاء والأصوليون؟! فهم من ناحية يعيشون البحث الفلسفي في غير موقع من مواقع درسهم الأصولي بل والفقهي، ومن جهة ثانية يتحفّظ بعضهم من هذا العلم أساساً، إنّ هذا يعني أنّ بالإمكان الجمع بين هذا العلم وتجنّب محاذيره المفترضة من جهة أخرى، وبهذا ترتفع حالة الازدواجية القائمة في هذا المجال.

ولو أردنا الاستغراق أكثر في هذه النقطة، لكان من المناسب أن نشير إلى أنّ المشتغلين بالبحث الفلسفي يعيبون على بعض الأصوليين وقوعهم في أخطاء حادّة في نطاق توظيفهم المفاهيم الفلسفية في الدرس الاجتهادي، إذ يرون أنّ عدم درسهم بشكل منظّم للعلوم الفلسفية أفضى إلى وقوعهم في أخطاء في الفهم انعكست سلباً على نتائج ومعطيات البحث الأصولي الذي استخدم هذه القواعد الفلسفية، فهناك من آخذ المحقّق الخراساني على توظيفه قاعدة الواحد في مباحث موضوع العلم، حيث رأى أنّ هذه القاعدة إنّما تصدق في الواحد الحقيقي لا الواحد العنواني غير الحقيقي([4])، وهذا يعني أنّ الدرس الأصولي نفسه بات بحاجة إلى المزيد من التعمّق في الدرس الفلسفي حذراً من الوقوع في أخطاء اجتهاديّة مادام علم الأصول مبنيّاً على هذا المنهج في التفكير، ولو أخذنا بوجهة نظر بعض الفلاسفة المتأخرين مثل العلامة الطباطبائي والمحقق الإصفهاني والشيخ المطهّري والدكتور عبد الكريم سروش، فإنّ بنية علم الأصول بشكلها الحالي عارية عن الصحّة؛ لأنّها تقوم على الخلط الخطير بين القضايا الحقيقية والقضايا الاعتبارية، وهو أمرٌ لابدّ من معالجته في البحث الفلسفي في المرحلة الأسبق لتحقيق قيامة صحيحة لعلم الأصول والاجتهاد نفسه.

ثالثاً: يبدو لي أنّ ظهور جيل ـ بعد صدر المتألّهين الشيرازي (1050هـ) ـ من الفقهاء والأصوليين الفلاسفة، يمكنه أن يقدّم شاهداً تاريخياً واقعياً على إمكانية التوفيق بين المسارين، مهما قدّمنا من ملاحظات على هذا أو ذاك، فالمحقّق الإصفهاني (1361هـ) كان واحداً من أبرز فلاسفة الأصوليين وأصوليي الفلاسفة في القرن العشرين، وقد قدّمت دراساته ونتائج أفكاره مثالاً للفقيه المتحفّظ على النصوص ومعطياتها من جهة وللفيلسوف الناشط في التحليل العقلي من جهة ثانية.

ولماذا نبتعد أكثر فالعلامة الطباطبائي أكبر أعلام الفلسفة في القرن العشرين، ومهما اختلفنا معه في تفصيل هذا التفسير لهذه الآية أو تلك فلا نستطيع الشك بأنّه كان رجلاً متديّناً مفسّراً قرآنياً فذّاً وقدّم فلسفة متديّنة مؤمنة، خدم من خلالها ـ كما يظهر من كتابه mأصول الفلسفة والمنهج الواقعيn ـ الفكر الديني بما لم يستطع الكثير من النصيّين فعله.

وهكذا لو سرنا مع فيلسوف آخر مثل السيد محمد باقر الصدر، حيث وجدناه يقدّم ـ بعد فلسفتنا ـ أطروحة (الأسس المنطقية للاستقراء) مقترباً فيها حتى من الأنموذج الغربي في التفكير المنطقي، ومع ذلك لم يخرج عن قواعد الذهنية الفقهية والأصولية الحاكمة على المؤسّسة الدينية، وهذا يعني التمكّن التاريخي من توفير أنموذج للدرس الفلسفي لا يخلق قلقاً على القيم والعقائد الدينية، فلماذا لا تكون هذه الشواهد التاريخية دليلاً على إمكانية الجمع بين الدرس الفلسفي والفكر الديني؟!

رابعاً: كانت ملاحظاتنا السابقة قائمة على التسليم بمنهج التفكير الذي اعتمدته هواجس العقل الديني، لكنّنا الآن نريد تفكيك المشهد أكثر من زاوية مبادئه الفكرية لنحاكم منطق التفكير الرافض للدرس الفلسفي محاكمة معرفية علميّة، إنّ الفلسفة على قسمين: فلسفة وجود وفلسفة معرفة، إذا استبعدنا الآن الفلسفات المضافة، وفلسفة المعرفة تخوض في مناهج التفكير وأصوله ومنطلقاته، إنّها تقترب من الدرس المنطقي، وتشتغل على أخطر قضيّة في التفكير وهي تحليل بنية الجهاز الإدراكي للذهن البشري. ونحن نعرف أنّ هذا النوع من الفلسفة يسبق كلّ تفكير بشري، فهو متعالٍ عن الأديان والمذاهب والفرق والأوطان، ولا يصحّ أي تفكير بشري قبل أن يأخذ شرعيّته واعتباره المنطقي من هذا الدرس المعرفي. وأمّا فلسفة الوجود فهي الحاكمة في قواعد الوجود العامّة لتدخل من هذه الزاوية إلى الإلهيات بالمعنى الأخص وتبحث في أصل الوجود ومبدئه وهو الباري تعالى.

بناءً عليه، تظهر أمامنا أسئلة تحتاج لأجوبة منطقية: كيف يحقّ للفقيه أو الأصولي أو المحدّث أو المفسّر ـ موضوعيّاً ـ أن يتوصّل إلى نتائج في مجال عمله دون أن يكون قد حسم خياراته في السبل الموصلة إلى النتائج؟ وإذا كان علم الفقه الإسلامي قد احتاج إلى منطقه الخاص الذي ظهر فيما بعد مدوّناً على شكل علم أصول الفقه، فإنّ ذلك يؤكّد أنّ العلوم الدينية برمّتها تحتاج إلى منطقها العام الذي تتولاه مباحث فلسفة المعرفة والدرس المنطقي الخاصّ المنبثق منها. وإذا قال لنا العالم الديني بأنّ أصوله المنطقية بديهية وأراح نفسه من التفكير بها بهذه الحجّة المتداولة، فإنّه من اللازم تذكيره بأنّ هذا الافتراض يتعامى عن المشهد الصاخب في الفكر البشري منذ قرون، والذي أجهد المفكّرين والعلماء في الغرب والشرق في التوصّل إلى نتائج بشأنه، فقضايا فلسفة المعرفة تعقّدت أكثر ممّا نتصوّر جميعاً، لاسيما بعد أن دخلتها الكثير من نتائج دراسات علم النفس والفسلجة، فكيف يحقّ لنا تبسيط كلّ هذا المشهد المعقّد بافتراض البداهة وأنّ الآخرين قد وقعوا في الشبهة المقابلة للبديهة؟!

ولو تخطّينا فلسفة المعرفة إلى فلسفة الوجود فلن يكون الأمر أسهل؛ ذلك أنّه لم يتضح بشكل حاسم كيف تمكّن العقل الديني من الاحتفاظ بعلم الكلام بوصفه نشاطاً عقليّاً دفاعياً واعتبر قضاياه سابقةً من الناحية المنطقية على الدرسين: الأصولي والفقهي، فضلاً عن الحديثي والتفسيري، وفي الوقت عينه هاجم علم الفلسفة، مع أنّ العلمين يشتغلان على ملفّ متقارب ويبحثان في موضوعات متقاربة نسبيّاً، حتى أنّ جملة من الكتب الكلامية كتجريد الاعتقاد لنصير الدين الطوسي وشروحه تناولت المباحث العامّة للوجود في فصولها الأولى. وإذا كان التمييز بينهما مع اعتمادهما المنهج العقلي هو في الغايات التي يقدّمها المتكلّم لعمله وأنّه تبيين المعارف الدينية والاستدلال عليها والدفاع عنها فيما يقدّم الفيلسوف نفسه متعالياً عن هذا الحصار الخاصّ في الأهداف، فإنّ هذا لا يجعل الفلسفة علماً منبوذاً، بل يفترض أن يعطيها قيمةً معرفية مضافة، من حيث إنّ نتائجها تسعى للاقتراب من الموضوعية غير المنحازة ولو على مستوى الشعار المعلن، فيما علم الكلام غارق في الإسقاطات والتأويلات التي تضعه أمام سؤال الشرعيّة المعرفيّة.

خامساً: إذا كان علم الكلام هو العلم المتكفّل بالردّ والدفاع عن القضايا الدينية، فإنّ تطوّراته باتت عاجزة عن ردّ الإشكاليات الحديثة والمعاصرة، وكما احتاج الدرس الكلامي في القرون السابقة ـ لكي يشيد هيكله العظمي العقلي ـ إلى علم الفلسفة، فحصل التقارب في عصر الخواجة نصير الدين الطوسي والفخر الرازي بينهما، كذلك يحتاج علم الكلام اليوم إلى هذا التقارب بدرجة أكبر، والسبب في ذلك أنّ الفلسفة شهدت ـ شرقاً وغرباً ـ نموّاً كبيراً في القرون الأربعة الأخيرة، فيما شهدنا تراجعاً كبيراً للدرس الكلامي بإقرار المتكلّمين أنفسهم، إلا ذاك المنشغل بالخلاف المذهبي في قضايا الإمامة والتاريخ، وهذا معناه أنّه بات من الصعب على علم الكلام أن يكون جاهزاً ـ بعُدّته المعرفية والعقلية التي تعود إلى حدود ستة قرون مضت ـ للدفاع العقلي عن الدين في مواجهة الإشكاليات النقدية الجديدة إذا لم يستعن مرّةً أخرى بعلم الفلسفة الذي سبقه في هذا الموضوع، ويعيد إنتاج تجربة نصير الدين الطوسي في هذا المجال.

وإذا كان هذا هو واقع الحال، فكيف ندعو إلى مفاصلة بين العلمين ونرفقها برفض أحدهما والتحذير منه، في وقت يكون علم الكلام نفسه فيه أحوج ما يكون للدرس الفلسفي؟ وكيف يصحّ بعد ذلك أن نعتبر الدين والرسالة المحمّدية قد جاءا لإبطال الفلسفة بمعناها الواسع، كما يُنقل عن المحقّق الفقيه الشيخ محمد حسن النجفي([5]).

المنطلق الثاني الذي قد يتحرّك من خلاله بعض الرافضين اليوم للدرس الفلسفي، هو عبارة عن مجموعة نصوص من الحديث الشريف تدلّ على أنّ النص الثاني كان معارضاً للحركة الفلسفيّة، إنّ بعض الأحاديث المنقولة عن أهل البيت النبوي والسلف الصالح تقف من الفلسفة موقفاً رافضاً لها ومحذراً من الجماعات المنتسبة إليها.

ومن الضروري تفكيك هذا المستند، سواء لغرض نقدي وفقاً لأسس الرافضين للفلسفة أم لغرض توفيقي؛ لأنّ الاتجاه الفلسفي الذي يدّعي التوفيق بين العقل والنقل مطالبٌ ـ من حيث تديّنه ـ بتقديم أجوبة على هذه النصوص الحديثيّة حتى يكمل خطوته في عملية التوفيق والمصالحة، وإلا فسيبقى النصّ الثاني معارضاً للدرس الفلسفي مفسداً أيّ محاولة صلح.

وإذا أردت الابتعاد عن مواقف السلف ـ غير النبي| وأهل بيته^ وأصحابه ـ باعتبار مواقفهم اجتهادات لا مُلزم فيها، فإنّنا نعثر على مؤشرَين لرفض الفلسفة في النصوص ذات الطابع الديني: أحدهما المنقول عن بعض أئمّة أهل البيت في هذا المجال، وثانيهما ما نجده في بعض الكتب التي ألّفها أصحاب أهل البيت في الردّ على الفلسفة، بما يعطي إيحاءً بأنّ المناخ المحيط بأهل البيت النبوي كان معارضاً للتيار الفلسفي الذي عرف بداياته في القرن الثاني الهجري. إذاً فنحن أمام مشهدين نحتاج لتفكيكهما:

أمّا على مستوى النصوص الحديثيّة، فنجد بعض الأحاديث في هذا المجال([6])، ورغم دعوى المدرسة التفكيكية الخراسانيّة، ومعها الشيخ علي النمازي الشاهرودي (1405هـ) أحد أهم أعلام التيار الإخباري المعاصر.. أنّ الروايات في هذا المجال كثيرة جدّاً، إلا أنّنا لم نجد فيما كتبوه أو بعد البحث والتنقيب في المصادر الحديثية وغيرها، سوى روايتين فقط في هذا المضمار، الأمر الذي يستدعي التريّث في مثل هذه المبالغات والتزام الدقّة العلميّة في هذا المجال، وأهم الروايات ـ وربما كلّها ـ هو ما يلي:

1 ـ ما جاء في خبر المفضل بن عمر فيما يعرف برواية توحيد المفضل عن الإمام الصادق×: m…أصف لك الآن يا مفضل الفؤاد.. اعلم أنّ فيه ثقباً موجّهة.. فتبّاً وخيبة وتعساً لمنتحلي الفلسفة، كيف عميت قلوبهم عن هذه الخلقة العجيبة حتى أنكروا التدبير والعمد فيهاn([7]). حيث نجد الإمام الصادق× ـ وفقاً لهذا الحديث ـ يذمّ منتحلي الفلسفة، مما يفيد أنّ هذا الانتماء الفكري كان مرفوضاً بالنسبة إليه.

لكن يمكننا التوقف هنا من حيث التشكيك في نسبة هذا الحديث للإمام؛ فإنّ الخبر المعروف بتوحيد المفضل لم يثبت له سند بل هو مرسل، وقد ورد فيه أيضاً محمد بن سنان وهو ضعيف على ما هو الصحيح، كما لم تنقله المصادر الأصلية في الحديث عند المسلمين قاطبةً. وأمّا دعوى أنّ مثل هذا الكتاب متنه يعبّر عن سنده كما حاول بعضهم أن يذكر فيه ذلك([8])، فعهدتها على مدّعيها، حيث لم نجد فيه مثل هذه الأمور، على أنّ تعبير المتن إجمالاً عن صحّة المضمون لا يفيد تصحيح صدور جميع فقرات الحديث، كما ألمح إلى ذلك الإمام الخميني عند حديثه عن الصحيفة السجادية، حيث يقول: m… وإلا فأبواب المناقشة في الإسناد والدلالة في كثير منها مفتوحة، حتى في الصحيفة المباركة السجادية فإنّ سندها ضعيف. وعلوّ مضمونها وفصاحتها وبلاغتها وإن توجب نحو وثوق على صدورها لكن لا توجبه في جميع فقراتها واحدةً بعد واحدة حتى تكون حجّة يستدل بها في الفقه، وتلقّي أصحابنا إياها بالقبول كتلقّيهم نهج البلاغة به لو ثبت في الفقه أيضاً إنما هو على نحو الإجمال وهو غير ثابت في جميع الفقراتn([9]).

ولو غضضنا الطرف عن السند والتوثيق التاريخي، فقد يمكن تبنّي ما ذكره بعض الباحثين المعاصرين من أنّ الرواية تذمّ من انتحل الفلسفة، والانتحال في هذا السياق هو النسبة إلى شيء ادّعاءً وكذباً، كما نقول: انتحل فلان شعر فلان، وهو الموجود في مصادر اللغة أيضاً([10])، فلا تذمّ الرواية الفلسفة أو الفلاسفة بقدر ما تذمّ بعض منتحليها من الكذبة المدّعين([11]).

نعم، لا يصحّ الجواب عن هذه الرواية بما ذكره بعضهم، من أنّ الرواية تذمّ إنكار بعضهم للتدبير فقط([12])؛ إذ لسان الرواية لسان التنديد بهذا الاتجاه، آخذةً إنكار التدبير مستمسكاً إضافيّاً. كما لا يصحّ القول بأنّ الإمام الصادق× في توحيد المفضّل قد امتدح أرسطو وأثنى عليه، على أساس أنّه قال: mوقد كان أرسطا طاليس ردّ عليهم، فقال: إنّ الذي يكون بالعرض والاتفاق إنما هو شيء يأتي في الفرط مرة لأعراض تعرض للطبيعة فتزيلها عن سبيلها، وليس بمنزلة الأمور الطبيعية الجارية شكل واحد جرياً دائماً متتابعاً..n ([13])، وهذا شاهد على أنّ الذمّ الذي جاء قبل ذلك ليس ذمّاً للفلسفة نفسها([14])… لأنّ كلام الإمام ليس مدحاً بل قد يكون إلزاماً للخصم بما يقوله رجاله الكبار مثل أرسطا طاليس، علماً أنّ ذم الفلسفة لا يعني بطلان كلّ مقولاتها، بل هو ذمّ للنهج الفكري مع إمكان تصويب بعض المقولات، فلا يكون في كلام الإمام أيّ مدحٍ لأرسطا طاليس.

2 ـ خبر محمد بن عبد الجبار، وهو الذي أورده العلامة الأردبيلي في حديقة الشيعة ـ كما قيل ـ نقلاً عن السيد المرتضى ابن الداعي الحسيني الرازي، بإسناده عن الشيخ المفيد، عن أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد، عن أبيه محمد بن الحسن، عن سعد بن عبد الله، عن محمد بن عبد الله، عن محمد بن عبد الجبار، عن الإمام الحسن العسكري×، أنه قال لأبي هاشم الجعفري: mيا أبا هاشم، سيأتي زمان على الناس وجوههم ضاحكة مستبشرة، وقلوبهم مظلمة متكدّرة، السنّة فيهم بدعة، والبدعة فيهم سنّة، المؤمن بينهم محقر، والفاسق بينهم موقر، أمراؤهم جاهلون جائرون، وعلماؤهم في أبواب الظلمة [سائرون]، أغنياؤهم يسرقون زاد الفقراء، وأصاغرهم يتقدّمون على الكبراء، وكلّ جاهل عندهم خبير، وكلّ محيل عندهم فقير، لا يميزون بين المخلص والمرتاب، لا يعرفون الضأن من الذئاب، علماؤهم شرار خلق الله على وجه الأرض، لأنهم يميلون إلى الفلسفة والتصوف، وأيم الله إنهم من أهل العدول والتحرّف، يبالغون في حبّ مخالفينا، ويضلّون شيعتنا وموالينا، إن نالوا منصباً لم يشبعوا عن الرشاء، وإن خذوا عبدوا الله على الرياء، ألا إنهم قطّاع طريق المؤمنين، والدعاة إلى نحلة الملحدين، فمن أدركهم فليحذرهم، وليصن دينه وإيمانهn، ثم قال: mيا أبا هاشم، هذا ما حدثني أبي، عن آبائه جعفر بن محمد^، وهو من أسرارنا، فاكتمه إلا عن أهلهn([15]).

وهذا الحديث واضح شديد داعٍ إلى تجنّب هؤلاء ورفضهم، ومبيّنٌ لمذامّهم ونواقصهم وعيوبهم، ودلالته قويّة على التحذير من هذا الاتجاه.

ونحن نشكّك في هذا الحديث أيضاً ونسبته إلى الإمام العسكري؛ فإنّ السند بين الأردبيلي والسيد المرتضى ابن الداعي الحسيني غير واضح، بل هناك من ناقش في أصل نسبة هذا الكتاب أو في نسبة مجموع ما فيه للمحقّق الأردبيلي، كما أنّ أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد لم تثبت وثاقته كما بحثناه في محلّه. يضاف إلى ذلك أنّ محمد بن عبد الله الذي يروي عنه سعد بن عبد الله الأشعري في هذا السند هو ـ بعد مراجعة الراوي والمرويّ عنه ـ محمد بن أبي عبد الله الرازي، والمعروف أيضاً بمحمد بن أحمد الجاموراني، وهو رجل مجهول الحال، بل هناك من ضعّفه؛ حيث استثناه ابن الوليد([16]).

وقد حاول العلامة الطباطبائي الجواب عن هذه الروايات بأنّها واردة في ذمّ الفلاسفة لا في ذمّ الفلسفة، تماماً كما وردت العديد من الروايات في ذمّ المتكلّمين والفقهاء وغير ذلك، وهذا غير ذمّ العلم نفسه، بل لا يمكن لخبر ظنّي أن يواجه البراهين القطعيّة اليقينيّة التي قدّمتها الفلسفة([17]).

إلا أنّ محاولة العلامة الطباطبائي قد تعاني من مشاكل، وذلك:

أولاً: إنّ الخبر الثاني هنا يذمّ هؤلاء القوم، ويعلّل بأنّهم يميلون إلى الفلسفة والتصوّف، وهذا معناه أنّ ذمّهم جاء متفرّعاً على انتسابهم للفلسفة، فيكون الذمّ بالأصل لها، ولهذا لحقهم الذمّ لارتباطهم وميلهم إليها، فلا يصحّ القول بأنّ الذم فقط جاء للفلاسفة دون الفلسفة.

ثانياً: إنّ الخبر الظنّي لا يعارض اليقين، وهذا واضح، إلا أنّ الكلام ليس في الخبر الظنّي بعد تحقّق اليقين، بل في أنّ هذا الخبر ينهانا عن الولوج في هذا النهج من التفكير، فكأنّه يريد أن يقول لنا: لا تتبعوا هذا الطريق الموصل لكم إلى الفساد حتى لو فرضنا أنّه سيوصل إلى اليقين فيما بعد، فالنهي سابق على حصول اليقين في الدرس الفلسفي، وكأنه يريد أن يجعل هذا اليقين غير موضوعي بل ذاتي لا يقوم على أساس علمي صحيح وإن حصل لدى صاحبه حالة الجزم بالنتيجة، فقد وقع خلط في كلمات العلامة الطباطبائي في هذه الجهة حيث وقع النهي عن الطريق إلى اليقين لا عن الشيء نفسه بعد حصول اليقين به.

وثمّة محاولة نقديّة أخرى قام بها بعض الباحثين المعاصرين([18])، وهي الاستناد إلى بعض النصوص المنقولة في إفادة أنّ حكماء اليونان كانوا أنبياء أو ممدوحين، فقد نقل عن رسول الله| قوله: mإنّ أرسطا طاليس كان نبياً فجهله قومهn([19])، وأنّه روي عنه أنّه كان إذا كمل واحدٌ من أهله قال له: mيا أرسطا طاليس هذه الأمّةn([20])، كما جاء في رواية عن الإمام الصادق× أنّه قال: m..وقد مات أرسطا طاليس معلّم الأطباء، وإفلاطون رئيس الحكماء، وجالينوس شاخ ودقّ بصره، وما دفع الموت حين نزل بساحته، ولم يألوا حفظ أنفسهم، والنظر لما يوافقها..n ([21]).

لكنّ هذه المحاولة غير موفّقة أيضاً فيما يبدو لي، فإنّ هذه النصوص ليس لها أيّ قيمة تاريخية، وكلّ مصادرها لا تُعْتَمَد في النقل التاريخي والحديثي، بل هي مجموعة مراسيل قليلة العدد متباعدة المدّة عن عصر الصدور، ومن ثم لا يمكن البناء عليها. والحديث عن وقوفها في مقابل النصوص السابقة لا حاجة له، كما أنّ التوصيف برئيس الحكماء لا يستبطن مدحاً؛ لأنّ كلمة mالحكماءn هنا أصبحت بمثابة مصطلح للفلاسفة، لا أنّه تمّ استخدامها بدلالتها اللغوية الأوّلية حتى تكون مدحاً.

ورغم عدم نجاح المحاولتين النقديّتين السابقتين، إلا أنّ الذي يبدو لي جواباً عاماً عن هذه الروايات القليلة الواردة في ذمّ الفلسفة، أمران:

أ ـ بصرف النظر عن إثبات أو نفي صدور هذه النصوص عن أئمّة أهل البيت، فإنّه يجب فهمها ضمن سياقها الحافّ، وذلك أنّ الفلسفة في القرنين الثاني والثالث الهجريين كانت تعني في الغالب تلك الاتجاهات الدهرية الطبيعية المعارضة للدين، فصار هذا الوصف بمثابة العَلَم لهذه التوجّهات والميول، فلا يصحّ جعل هذه النصوص بمثابة الرفض لعلمٍ ما بقدر ما هي تنديدٌ بتوجّه ما داخل هذا العلم، وإلا ففي بعض نصوص أهل البيت ما يصنّف في حدّ نفسه كلاماً فلسفيّاً ولو لم يسمّ بهذا الاسم، ولهذا لا يمكن تصنيف أهل البيت في خطّ معارضة النشاط العقلي، وإن كانوا متشدّدين في معارضة إعمال العقل في المجال التشريعي؛ لأنّ المجالين مختلفان تماماً ولهما ظروفهما الموضوعيّة المتمايزة، كيف وهناك المئات من الروايات التي مارس فيها أهل البيت نقاشاً عقليّاً في قضايا الوجود والحياة، وقد جمعت في كتب مختلفة في الاحتجاج والمناظرة وغيرهما.

ب ـ إذا فرضنا أنّ أهل البيت النبوي كانوا معارضين لدخول الفلسفة والعقليات إلى المناخ الإسلامي، فهذا معناه أنّهم تحسّسوا خطراً كبيراً من هذه الأفكار الوافدة بل من النهج الوافد، وقد عاشوا في عصر الترجمة وما بعده وظهرت أيّامهم تيارات فلسفية صغيرة هنا وهناك، فقد عاش الفيلسوف يعقوب بن إسحاق الكندي (185 ـ 252 أو 256 أو 258هـ) في عصر الأئمّة في العراق بين بغداد والكوفة، كما شهدت الفترة المعروفة شيعيّاً بالغيبة الصغرى وما تلاها بقليل، أي في الجيل الأوّل عقب انتهاء عصر النصّ، عدّة من كبار الفلاسفة الأوائل وأهل المنطق والحكمة، مثل: أبي بكر الرازي (250 ـ 311هـ)، وأبي نصر الفارابي (260 ـ 339هـ)، وأبي سليمان المنطقي السجستاني (ق 4هـ) وغيرهم، فكيف لم نعثر لأهل البيت رغم أهميّة الموضوع وشيوعه في العالم الإسلامي سوى على نصّين أو ربما ثلاثة لم نجدهما في المصادر التاريخية والحديثية الأولى أو المشهورة على الأقلّ، وإنّما ظهرا في القرن العاشر الهجري وما بعده؟! فكيف يمكن التصديق بهذه النصوص؟! وأين هي المواقف الصريحة من أهل البيت من الاشتغال العقلي والفلسفي بقضايا الدين والذي شهد رواجاً وانتشاراً في القرون الهجرية الأولى أيضاً؟! فإذا كان أهل البيت قد تحسّسوا خطراً من القياس الحنفي فوصلتنا العشرات، بل قيل المئات، من النصوص في رفض القياس فإنّ خطر الاشتغال العقلي بقضايا الدين سيكون أعظم ـ من وجهة نظر الرافضين للفلسفة ـ كونه يمسّ أصول الاعتقاد الديني، فكيف لم نشهد جوّاً مماثلاً في هذا الإطار؟! إنّ هذا كلّه يعطينا شاهداً حاسماً على عدم ممانعة أهل البيت من الدراسات العقلية والفلسفيّة وأنّهم كانوا يختلفون مع العقليين والفلاسفة في بعض المقولات لا في أصل الوجود الفلسفي في الحواضر الإسلاميّة، وهذا امتياز مهم يفتح على الموقف من الفكر الغربي والآخر في العصر الحاضر لتشابه التجربة وتماثلها من عدّة جهات. هذا كلّه على خطّ النصوص.

وأمّا على مستوى الجوّ المحيط بأهل البيت^، فقد ورد في كتب الرجال والتراجم أنّ بعض أصحاب الأئمّة ومقرّبيهم ألّفوا في الردّ على المناطقة والفلاسفة وأرسطاطاليس وغيرهم، مثل علي بن محمد بن العباس الذي كان له كتاب الردّ على المنجمين، وكتاب الردّ على أهل المنطق، وكتاب الردّ على الفلاسفة([22])، وكذلك الفضل بن شاذان الذي ذكروا أنّ له كتاب الردّ على الفلاسفة([23])، وكذلك علي بن أحمد أبو القاسم الكوفي الذي ترك كتاباً في الردّ على أرسطاطاليس([24])، وهشام بن الحكم الذي له ردّ على أرسطاطاليس في التوحيد([25])، وهو ما نجده في الطبقة التي عاشت بُعيد الغيبة وكانت قريبة جدّاً من عصر النصّ وفق العقيدة الشيعيّة، مثل كتاب الردّ على أهل المنطق لأبي محمد الحسن بن موسى النوبختي المتكلّم المعروف([26])، وقد جاء في إحدى المنقولات التاريخية التي يرويها لنا الشيخ الكشي أنّ هشام بن الحكم كان يؤخذ عليه طعنه على الفلاسفة، وأنّه أريد الوشاية به في ذلك إلى الخليفة العباسي هارون الرشيد([27])، فهذا كلّه يشهد على أنّ الجوّ المحيط بالأئمّة وممّن هم من طبقة تلامذتهم أنهم كانوا يردّون على الفلاسفة ولم نجد لهم كتباً أو رسائل في الدفاع عن الفلسفة والمنطق وأمثال ذلك، ممّا يكوّن لنا صورة تاريخية واضحة عن موقف أهل البيت وأتباعهم من الدرس الفلسفي والمنطقي وأمثاله.

لكن يمكن التعليق هنا بأنّ وجود خمسة أو عشرة ردود على الفلسفة والمنطق بين آلاف من أصحاب الأئمة لا يعبّر عن تيّار واسع يمكن اكتشاف منطلقاته في وجهات نظر الأئمّة أنفسهم، كما أنّ الردّ على أرسطاطاليس في التوحيد لا يعني الردّ على الفلسفة؛ فقد ردّ الفلاسفة أنفسهم على بعضهم في نظرياتهم هنا وهناك، ولا ربط لهذا الأمر بالموقف العام من الفلسفة الذي نبحث عنه هنا، كما جاء في المقابل وجود بعض الشخصيات التي نسبت إلى الاشتغال الفلسفي، وكانوا من المقرّبين أو على صلة ببعض أئمة أهل البيت^، مثل جابر بن حيان التوحيدي، إضافة إلى ما سجّلناه في الملاحظة الأولى العامّة المتقدّمة على النصوص، فهذه المحاولة في النقد ليست سليمة ولا معبّرة عن المشهد التاريخي بأمانة وموضوعيّة.

أعتقد أنّه يجب التفكير بجديّة في التعامل مع الموضوع الفلسفي والإقدام عليه من منطلق الثقة بالفكر الديني والقدرة على استيعاب التحوّلات الفكرية الكبرى في عالمنا اليوم، ليتمكّن الدين من البقاء في الصدارة على مستوى وعي الإنسان وعقله وفطرته ومشاعره إن شاء الله، وأن لا يتحوّل الدين ورموزه إلى مجرّد أشخاص قلقين يعيشون دائماً هواجس الخوف والريبة ممّا حولهم، فيُعجزهم ذلك عن التقدّم والارتقاء بالأمّة نحو الأحسن.

إنّنا ندعو الحوزات الدينية والمعاهد العلميّة لعدم القلق من الدرس الفلسفي، بل واحتضانه وامتلاك القدرة على هضمه لتوظيفه في خدمة قضايا الإنسان والقيم والأخلاق، وإذا كانت لمشروعٍ ما سلبياتٌ هنا وهناك فهذا أمرٌ طبيعي لا يستدعي عيش الرفض المطلق له، ومن ثمّ خسارة إيجابياته بحجّة قاعدة أنّ دفع المفسدة المحتملة أولى من جلب المصلحة المحتملة، فإنّ هذه القاعدة ـ ككقاعدة الاحتياط على المستوى المجتمعي كما يقول السيد الصدر ـ لا يمكن تطبيقها دوماً في الحياة الاجتماعية وعلى المستوى الحضاري العام.

كما ندعو أنصار الفلسفة إلى الترفّع عن تقديسها ورموزها أو التهاون بالنصوص الدينية والتعالي عليها، أو الانجرار غير الواعي لكلّ ما يقال في المنتديات الفلسفية من أفكار، وأن يملكوا الثقة بالنفس التي تؤهّلهم لتقديم الجديد في الفلسفة وعدم البقاء في حصار الطروحات القديمة. والله الهادي إلى سواء السبيل.

المصدر: الموقع الرسمي للشيخ حيدر حب الله www.hobbollah.com

 




(*) نشر هذا البحث في العدد 24 من مجلة المحجّة في بيروت، عام 2012م، ونشر في كتاب (دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر) المجلّد الثاني، للمؤلّف.

([1]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: الخراساني، كفاية الأصول: 141، 201.

([2]) انظر: البهائي، زبدة الأصول: 39 ـ 52، تحقيق: فارس حسون كريم، نشر مرصاد، الطبعة الأولى، 1423هـ.

([3]) انظر: الغزالي، المستصفى من علم الأصول 1: 30 ـ 131، تقديم وضبط وتعليق: محمد إبراهيم رمضان، دار الأرقم بن أبي الأرقم، لبنان.

([4]) راجع: الإصفهاني، نهاية الدراية 1: 13؛ والبجنوردي، منتهى الأصول 1: 54؛ والصدر، دروس في علم الأصول 2: 13؛ وراجع أقسام الواحد: الطباطبائي، نهاية الحكمة بتعليقة الفياضي 2: 533 ـ 538.

([5]) نسب ذلك له الشيخ النمازي، وأنّ صاحب الجواهر قال: ما بعث رسول الله| إلا لإبطال الفلسفة، لكنّنا لم نعثر فيما بأيدينا من كتب الشيخ النجفي على هذا الكلام، فانظر: مستدركات سفينة البحار 8: 299، 302.

([6]) من الضروري التذكير بأنّ الروايات الواردة في ذمّ التصوّف أو المراء لا علاقة لها بموضوعنا، ولذلك لم نتعرّض لها هنا، فإقحامها هنا كما فعل الشيخ علي النمازي الشاهرودي (1405هـ) ـ وهو أحد أقسى النقاد المعاصرين للفلسفة من وجهة نظر دينية ـ غير صحيح؛ لأنّ الاتجاه الصوفي يختلف عن الاتجاه الفلسفي تاريخياً في الحقبة التي صدرت فيها النصوص.

([7]) المفضل بن عمر الجعفي، التوحيد: 30 ـ 31.

([8]) المازندراني، شرح أصول الكافي 1: 47.

([9]) روح الله الخميني، المكاسب المحرمة 1: 320، طبعة مؤسّسة إسماعيليان.

([10]) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة 5: 402 ـ 403.

([11]) انظر: حسين مظفري، بنيان مرصوص، فلسفة اسلامي از نكاه مكتب تفكيك: 74، مركز انتشارات مؤسسة آموزشى وبزوهشى إمام خميني، إيران، الطبعة الأولى، 2006م.

([12]) المصدر نفسه: 74 ـ 75.

([13]) المفضل بن عمر الجعفي، التوحيد: 120 ـ 121.

([14]) مظفري، بنيان مرصوص: 75.

([15]) الحر العاملي، الرسالة الاثنا عشرية: 33 ـ 34؛ والمحدث النوري، مستدرك الوسائل 11: 380.

([16]) لمزيد من الاطلاع حوله، راجع: النمازي، مستدركات علم رجال الحديث 6: 386؛ والخوئي، معجم رجال الحديث 15: 281، و16: 55، و17: 270 ـ 271.

([17]) محمد حسين الطباطبائي، بررسيهاى اسلامي: 2: 85 ـ 86.

([18]) مظفري، بنيان مرصوص: 81 ـ 82.

([19]) نقل عن قطب الدين الإشكوري الديلمي في كتاب محبوب القلوب، انظر: آينه ميراث: 117.

([20]) الشهرزوري، نزهة الأرواح (مترجم بعنوان كنـز الحكمة): 30.

([21]) الطبرسي، الاحتجاج 2: 85؛ والمجلسي، بحار الأنوار 10: 172.

([22]) راجع: رجال النجاشي: 269.

([23]) راجع: المصدر نفسه: 307.

([24]) راجع: المصدر نفسه: 266.

([25]) راجع: المصدر نفسه: 433؛ والطوسي، الفهرست: 259؛ وابن شهر آشوب، معالم العلماء: 163.

([26]) راجع: رجال النجاشي: 63.

([27]) راجع: اختيار معرفة الرجال 2: 530.


Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً