جولةٌ في بعض المنطلقات العقلانيّة والقرآنيّة لقاعدة
(ما من واقعة إلاّ ولها حكمٌ)
ـ الحلقة الثانية ـ
إكمال الدين، ومقاربة الأستاذ مصطفى كريمي
هذا، وقد ذكر بعض الباحثين هنا أنّ الكمال يمكن فرض تفسيرين له، هما:
التفسير الأوّل: أن يُراد بكمال الشيء استكماله لأجزائه وأصوله وفروعه، أو هو بلوغه لهدفه النهائي. وفي هذه الحال لا يمكن فرض درجات ومراتب للكمال؛ لأنّ الشيء له حالتان: إما لا تكتمل أجزاؤه أو لا يصل إلى هدفه، وإمّا أن تكتمل أجزاؤه ويصل إلى هدفه، فلا يمكن فرض التشكيك في الكمال هنا، بل إمّا وجودٌ أو عدم.
التفسير الثاني: أن تكون للكمال هنا درجاتٌ ومراتب، فيكون الشيء كاملاً بالنسبة إلى شيءٍ آخر، وناقصاً بالنسبة إلى شيءٍ ثالث، وهذا معناه أنّ الكمال أمرٌ مشكّك نسبي. وبهذا يُفهم أيضاً معنى أنّ الإسلام أكمل الأديان.
ووفقاً لهذين التفسيرين يمكن القول بأنّ آية إكمال الدين لها دلالةٌ ما على شموليّة الإسلام ومفاهيمه وتشريعاته، وذلك من خلال بيانين:
البيان الأوّل: إذا اعتبرنا الكمال بمعنى تحقّق الأجزاء والأهداف جميعاً، انسجاماً مع التفسير الأوّل المتقدّم للكمال، فإنّ معنى ذلك أنّ البرنامج الإسلاميّ كاملٌ، فيكون الإسلام أكمل البرامج وأعمّها؛ نظراً لما للدين من دورٍ في برمجة الحياة، وهذا يعني أنّه قادرٌ على الإجابة عن جميع حاجات البشر في حدود ضرورات الكمال المفترض، مما يُلزمه بالعناية بمختلف الأبعاد الوجوديّة الإنسانيّة، ما لم يطرأ مانعٌ.
ويظهر هذا التفسير جيّداً عندما نلاحظ تكملة الآية الكريمة تتحدّث عن إتمام النّعمة الإلهية؛ لأنّ النعمة هنا معناها أنّ الله تعالى يريد أن يقول: إنّ جميع ما تتطلّبه سعادتكم قد جاء في دينكم.
ولا معنى هنا لفرض أنّ كمال الدين يكون بمعيّة دور العقل، أي إنّ علل كماله هو الأنبياء والعقل معاً، فقسمٌ من الدين يكون ويصل عبر العقل، وقسمٌ منه عبر الوحي. والسبب في رفض هذا الاحتمال أنّه يتعارض مع مفاد إكمال الدين بواسطة الأمر الإلهي؛ لأنّ ظاهر ﴿أَكْمَلْتُ﴾ هو أنّ الإكمال قد تمّ من خلال الوحي إلى الرسول| لا بواسطة العقل.
البيان الثاني: إذا كان الكمالُ صفةً وجودية تعبّر عن استغناء الموجود عن غيره إذا قيس به فسيكون مفهوم إكمال الدين في الآية الكريمة أكثر وضوحاً في إفادة شموليّة الإسلام، كما هو جليٌّ (انظر: مصطفى كريمي، الدين حدوده ومدياته، دراسة في ضوء النصّ القرآني: 274 ـ 282، ترجمة: محمد عبد الرزّاق، نشر مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، ط1، 2010م، بيروت).
وقفةٌ نقديّة مع مقاربة الأستاذ كريمي
هذا الطرح برمّته يعاني من ثغرات عدّة. وقد استند فيه كاتبه إلى أُطروحات الشيخ صادق لاريجاني، بل يبدو أنّه استقى أكثر أبحاثه هنا منه. ويمكن التعليق:
أوّلاً: إنّ الباحث اعتبر أنّ تفسير كمال الدين بتحقّق أجزائه وأهدافه يُنتج أكمليّة البرامج الدينية وأعمِّيتها وقدرتها على الجواب عن تمام متطلّبات الحياة. وهذه هي المصادرة عينها؛ لأنّه ما دمنا نفرض أنّ الكمال بملاحظة الأجزاء فهذا معناه ـ ضمناً ـ عدم أخذنا أيّ شيءٍ آخر غير البُنْية الداخليّة للدين. كما أنّ فرض كمال الدين من خلال تحقّق الأهداف لا يعني شموليّة الدين، إلاّ إذا أثبتنا في المرحلة السابقة أنّ الهدف من الدين هو تنظيم جميع مرافق الحياة وتغطيتها بنفسه. والمفروض أنّنا ما نزال نبحث في أنّ الدين هل هو معنيٌّ بهذا المستوى من التغطية أو لا؟ وكأنّ الكاتب الموقّر ما زال مسكوناً بفرضيّة الشموليّة، ولهذا فسّر الكمال استتباعاً لما استكنّ في أعماق فكره.
ثانياً: لم يتّضح لماذا إذا كان الكمال الديني بملاحظة تماميّة الأجزاء والأهداف فسيكون الدين حاوياً لأكمل البرامج وأعمّها؟! وذلك أنّ المفروض أنّنا في البيان الأوّل صرفنا النظر عن عنصر المقارنة النسبيّة مع خارج الشيء، وركّزناه على بنيته الداخلية في أجزائه ومكوّناته، فلو تمّ بهذا الاعتبار فكيف نثبت أنّه صار الأكمل، وأنّه لا توجد برامج أكمل منه وأعمّ؟!
ثالثاً: إنّ الاستعانة هنا بمقطع (إتمام النعمة) من الآية الكريمة غير موفّقة في ما يبدو؛ لأنّ فاعل الإتمام هنا ليس هو الدين، وإنّما هو الله سبحانه. وهذه هي المشكلة التي تورّط فيها الكاتب المحترم؛ فهناك فرق بين أن أقول: إنّ الدين قد جاء بكلّ ما تتطلّبه سعادة الإنسان، وبين أن أقول: إنّ الله قد أعطى الإنسان كلَّ ما تتطلّبه سعادته. ففي الحالة الأولى ربما أمكن استفادة شيء، أما في الحالة الثانية فلا؛ لأنّ الله إذا أعطى تمام النعمة فلا دليل على أنّ إعطاءه ذلك كان من خلال الدين فحَسْب، حتى نجسّر بين تمام النعمة والدين، فقد يكون أعطى ذلك بالدين والعقل والفطرة وغير ذلك، فباكتمال الدين تمّت العناصر كلّها وتحقّق إتمام النعمة، لا أنّ الدين هو تمام عناصر السعادة والنعمة. وهذا يُشبه ما يُنسب إلى القدّيس الإسكندراني تيتوس فلاويوس إكليمندس (كليمنت)(حوالي 215م) من القول: إنّ الله خاطب اليونانيّين بعقولهم، وخاطب اليهود بالوحي والنبوّة.
رابعاً: لو تنزَّلنا عن الملاحظة الثالثة، وسلَّمنا بأنّ الدين هو الذي يعطي الإنسان تمام النعمة، فهنا نسأل: ما هو المراد بتمام النعمة؟
فإذا قيل: إنّ تمام النعمة هنا هو في الفوز الأخرويّ، ولا سيَّما بناءً على ثقافة القرآن التي تركّز البُعْد الأخروي، فإنّه لا يثبت أكثر من أنّ الدين معنيٌّ بتحقيق النعمة العليا، وهي السعادة الأخرويّة. وأين هذا من شموليّة تشريعاته لتنظيم شؤون الحياة الدنيويّة؟!
وأمّا إذا قيل بأنّ تمام النعمة هو في كلّ خيرات الدنيا والآخرة فهذا واضح الفساد؛ لأنّ الله لم يتمّ على العرب المسلمين آنذاك كلّ هذه النعم بإنزال هذه الآية، أو بتنصيب الإمام علي× بناءً على ربطها بذلك؛ لأنّ الآية تفرض تحقّق تمامية النعمة خارجاً وواقعاً، لا تقديراً، ونفس تشريعات الدين لوحدها ليست كافية لتحقّق تمام النعم الدنيويّة والأخرويّة ما لم تطبّق في الواقع الخارجي.
وأما إذا قصد السعادة الدنيوية والأخروية معاً فإنّ الآية تشير إلى إتمام ذلك لا إلى تمامه. فإتمامه كان بأمرٍ وحياني، وهذا غير أنّ تمامه كان وحيانيّاً. والإتمام يتحقّق بكون الجزء الأخير وحيانياً، ولا يفترض كون تمام الأجزاء كذلك، فتأمَّلْ جيّداً.
ولعلّ المراد من إتمام النعمة هو البُعْد الديني، أي إنّ الله قد أتمّ عليكم ـ بإنزال هذه الآية، أو بتنصيب عليّ× ـ نعمَتَه المنظورة له، لا تمام نعمه، ولا بعضاً معيناً لنا منها. وهذه النعمة عنوانها العام هو صلاحهم وفوزهم، بل ربما يكون معنى النعمة هنا هو الدين نفسه.
وعليه فلا يوجد شاهدٌ في إتمام النعمة على فرضيّة الشمول في إكمال الدين.
خامساً: إنّ مناقشة الباحث لفرضيّة أنّ إكمال الدين كان بمعيّة العقل بأنّ ظاهر الآية هو الإكمال بواسطة الوحي، دون غيره، هذه المناقشة غير واضحةٍ أيضاً؛ لأنّ الإكمال وحييٌّ، لا الكمال، كما تقدّم. يضاف إلى ذلك مشكلةٌ أخرى، وهي أنّ الله تعالى ينسب الإكمال إلى نفسه، فإذا أخذنا بالتفسير الشيعي للآية وأسباب نزولها سيكون المعنى: إنّ الله تعالى قد أكمل الدين بيوم الغدير وتنصيب عليٍّ للخلافة، وهذا التنصيب ـ وفق المعتقد الشيعي ـ لم يكن قد حصل في يوم الغدير، وإنّما تمّ الإعلان عنه في هذا اليوم؛ إذ يعتقد الشيعة بأنّ نصوص إمامة عليّ× ممتدّة إلى يوم الدار في السنوات الأولى من البعثة النبويّة، وأنّ هذه النصوص القرآنية والحديثية استمرّت بشكلٍ متواصل، لا أنّ إمامة عليٍّ جُعلت من قبل المولى سبحانه في يوم الغدير. وهذا ما يفرض علينا اعتبار أنّ إكمال الدين ـ انسجاماً مع المعتقد الشيعي ـ لم يكن أساساً باكتمال أجزائه؛ لأنّها كانت مكتملةً، بل قوّته وكماله الواقعي، وحمايته والطمأنينة عليه.
وقد فسّر بعضُهم أو احتمل أن يُراد بالآية أنّكم كُفيتم خوف عدوّكم، وأُظهرتم عليه، تماماً كما تقول: اليوم تمّ لنا الملك، وكمل لنا ما نريد. (انظر: الزمخشري، الكشّاف 1: 593؛ والطوسي، التبيان 3: 435؛ والطبرسي، مجمع البيان 3: 274). ووفقاً لذلك كيف نجعل الاكتمال منحصراً بالوحي؟! بل ما يعزِّز هذا الاحتمال هو أنّ الآية نفسها قالت: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (المائدة: 3)، فإنّ هذا ما ينسجم مع فرضيّة الكمال الواقعي، لا الكمال البنيوي الذاتي.
وهذا كلُّه معناه أنّ الباحث هنا ملزمٌ بمزيدٍ من تفكيك الموقف وتحليله وفق الأصول العقديّة الشيعيّة.
سادساً: إنّ البيان الثاني المذكور لا ينفع شيئاً؛ لأنّه مبنيٌّ على فرضيّة تفسيرية للكمال غير ظاهرة لغةً، ولا عرفاً؛ فإنّ حذف المتعلَّق والطرف المقيس عليه الكمال من الآية يفيد أنّ الاكتمال كان له في بنيته الداخلية، ولا يظهر من الآية أنّها تريد أن تقول بأنّني اليوم جعلت الدين أكمل من أيّ برنامجٍ آخر.
وحصيلة الكلام: إنّ هذه المداخلة هنا غير واضحة بهذا المقدار.
وبهذا يظهر لنا أنّ آية إكمال الدين ومفهوم إكمال الدين لا ارتباط لهما بمفهوم شمول الدين لجميع وقائع الحياة وزواياها، وإنّما هما مرتبطان إمّا برسوخ الدين في الواقع الإنساني، بحيث لم تعُدْ هناك خشية عليه من خصومه، أو بالتئام أجزائه ومكوّناته الداخليّة، أو ببلوغه مرحلة تحقيق الهدف المرجوّ منه… وهذه المفاهيم أو الصور الثلاث لا يوجد ارتباطٌ عضويّ أو قهريّ ضروري بينها وبين مفهوم الشمول.
4 ـ قاعدة اللطف والشموليّة القانونيّة، محاولة السيّد الصدر
رابع الأدلّة هنا هو ما ذكره السيد محمد باقر الصدر، من الاستناد إلى قاعدة اللطف، حيث ذكر أنّ الله تعالى عالمٌ بجميع المصالح والمفاسد الراجعة لحياة الإنسان، وهذا معناه أنّه «من اللطف اللائق برحمته أن يشرّع للإنسان التشريع الأفضل، وفقاً لتلك المصالح والمفاسد، في شتى جوانب الحياة…». (انظر: الصدر، دروس في علم الأصول 1: 148).
وهذا الاستدلال ـ إذا قصده الصدر بجِدِّية في موضوع بحثنا ـ يحمل في طيّاته نزعةً كلامية واضحة، مبنيّة على قاعدة اللطف. وهنا يمكن التعليق بعدّة أمور:
أوّلاً: ثمّة كلام في أصل صحّة قاعدة اللطف. ونحن لا ننكر كبرى قاعدة اللطف، مع أنّ بعض علماء العدلية أنكرها ـ كالإمام الخميني في بعض أبحاثه (انظر: أنوار الهداية 1: 257) ـ إلاّ أننا ننكر، وفاقاً للمحقّق النراقي (انظر: عوائد الأيّام: 197، 705 ـ 709)، قدرتنا على تطبيقها الموردي. وقد ذكرنا في محلّه (انظر: فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 151 ـ 152) أنّ العقل الإنساني لا يملك الأدوات المعرفيّة التي يستطيع من خلالها تحديد ما هو الأصلح هنا وهناك؛ لأنّ تشابك المصالح والمفاسد في الخلق، والأسرار الإلهيّة في العلل الغائيّة لهذا الخلق، لا تبدو واضحة للإنسان في أكثر التفاصيل. وهذا معناه أنّ بإمكان العقل أن يحكم في أصل الموضوع (اللطف)، لكنّه غير قادر على الحكم في الامتدادات الميدانيّة. فتشخيصه للأصلح يظلّ أمراً عسيراً جدّاً، تماماً كمعرفة العقل لحُسْن العدل، وصعوبة توصُّله إلى تحليل الكثير من مصاديقه.
ثانياً: واستتباعاً لما تقدّم، ما هو المانع أن يرى المولى سبحانه أنّ البشر من صالحهم أن نعطي عقولهم حقّ التشريع في مساحاتٍ محدَّدة، دون تدخُّلنا المباشر بجعل الأحكام في تلك المساحات، ولا سيَّما أنّهم كما قد يختلفون في أحكامهم العقليّة، قد اختلفوا كثيراً في فهم الأحكام الشرعيّة. فإمكانيّة الخطأ في الحالتين واردة عمليّاً. ونحن لا نريد فرض تخلّي الوحي عن دوره، بل فرض كونه لا يغطّي كلّ الوقائع، بحيث تكفينا القضيّة المهملة، ولو بنسبة الخمسة في المائة. فهل من استحالةٍ عقليّة في هذا أو حكمٍ بالقُبْح في ذلك على الله سبحانه؟! وكيف؟ يُرجى بيانه عقلانيّاً.
ـ يتبع ـ