أحدث المقالات

الدين الخاتم يفترض أن ينضوي فيه عنصري الأصالة والخلود ، الأول يمنحه الثبات والرسوخ أمام انعطافات الزمان والمكان وتسلط الأهواء البشرية وانحرافاتها السلوكية ، والثاني يمنحه ديمومة صالحة لكل زمان ومكان تستمدها من تلك الأصالة بثوابتها كقوانين كلية .

وخاتميته تعني من جهة أخرى كينونته كمنظومة متكاملة منهجية تتداخل أعضاؤها وظيفيا ، وتحقق الأثر المترتب على انتهاجها كمنهج حياة في الدنيا لتحقق الأثر وتقطع الثمار المرجوة في سعادة الإنسان وتكامله وتحقيق ذاته.

وأي خلل في عنصريه أو أي خلل في أعضائه ووظائفها المتداخلة علائقيا في المنظومة سيترتب عليه خللا في الفهم والسلوك والمنهج ، وهو ما سيؤثر على الآثار المترتبة والثمار التي يجب تحقيقها ، وأهم ما سيقع فيه الخلل هو مقصد الشريعة الجوهري وجوهرة القيم أي العدالة وما يترتب عليها من تحقيق لكرامة الإنسان التي بها تعلو كل القيم والمعايير.

هذا الخلل يترتب عليه خلل في المعايير المرجعية وخلل في القيم والتقييم ، وبالتالي انقلاب في المفاهيم وتبدل في وعاءها الثقافي ، وهذا لا يقع فجأة بل يحتاج تراكم تاريخي واجتماعي يصاحبه تراكم فكري وثقافي يحدث هذا التبدل والخلل على المدى الطويل ، حتى نصل إلى نقطة يبدو من خلالها بوضوح كم التعارضات والانحرافات في داخل المنظومة الدينية الناتجة عن التجزيء لفهمها أو التفكيك بين أعضائها أو ترجيح عنصر على عناصر أخرى وفقدان القاعدة الجوهرية ” لا إفراط ولا تفريط “.

 

  • الدين بين الفرد والمجتمع :

جاء الدين بتشريعات تنهض بكل من الفرد والمجتمع ، فلم يرجح أصالة الفرد ولم يغَلّب أصالة المجتمع ، بل جعل لكل منهما بُعْد وقيمة ودور يعتمد أحدها على الآخر بل يتداخل أحدها مع الآخر في جوانب تشكل ركيزة في البناء الفردي والاجتماعي.

فالفرد هو نواة تشكل المجتمع ، والمجتمع هو ساحة حراك الفرد وبه يحقق ذاته وكماله وسعادته ، بل هي ساحة اختباره .

” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ” الرعد – آية ١١

ويروى عن أمير المؤمنين عليه السلام:”ومن قدر على نفسه كان على غيرها أقدر”.

وهذا يوضح بجلاء مدى التداخل الوظيفي والعلائقي بين الفرد والمجتمع .

لذلك كانت المنظومة الدينية آخذة في حسبانها وتشريعاتها كل من الفرد والمجتمع ، فما ينظم بناء الفرد لابد أن له أبعادا تنعكس في علاقاته الاجتماعية، وتكون لها ابعادا تنظم هذه العلاقة وتنعكس عليها .

فكل تشريع عبادي يترتب عليه أثر على الفرد والمجتمع ومرتبط تكوينيا بالطبيعة.

فعلاقة التشريع بالأثر علاقة تكوينية لا تنفك ، ولكن إتمامها لا يكون إلا بإرادة الانسان المرتبطة باختياره الحر والواعي والمدرِك .

 

فعلى سبيل المثال :

” إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ”

العنكبوت – ٤٥

وحسب تفسير معنى الصلاة هنا وهي الصلاة اليومية وفق ما صنفته الكتب الفقهية ورسمت لها خريطة جوارحية وفق قوانين معينة ، الالتزام بها يحكم بصحتها جوارحيا ، إلا أن الثمرة المترتبة على هذا الالتزام السلوكي وفق القرآن أنها ستنهى عن الفحشاء والمنكر .

إذا التشريع العبادي هو الصلاة،

والثمرة هي النهي عن الفحشاء والمنكر،

وساحة التأثير والفعل هي الفرد والمجتمع.

 

لكن كيف يكون هنا المجتمع متأثرا بتلك الصلاة ؟

التأثير يكون في التداعي بين أفراده وتحقق أثر الصلاة في سلوكهم جوانحيا وجوارحيا ، بحيث تصبح الصلاة عمودا ومحورا تترتب عليه حياته ، فحينما يقول الله أكبر كركن تبطل دونه الصلاة ، عليه أن تمتد هذه التكبيرة في كل وجوده ليكون في كل اختياراته وسلوكه الله أكبر ، وحينما يكون الركوع والسجود أيضا ركن تبطل دونهما الصلاة ، فإن ذلك يجب أن يجعل وجوده راكعا فقط لله ولا يسجد إلا له ، فتكون كل خياراته ومناهجه الفردية والاجتماعية قائمة على ذلك ومتوجهه بهذا الاتجاه ومبنية على هذا الفهم ، بحيث لا تجد تناقضا بين سجوده وركوعه الجوارحي والجوانحي لا على مستواه كفرد ولا في ساحة تفاعله الاجتماعية ، بحيث يشكل مجموع الأفراد وفق هذا الفهم ، عصبة اجتماعية متراصة بفهم يحقق نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر.

عصبة منسجمة بالتوحيد وتتحقق فيها قيم السماء وتتجلى في وجودها واختياراتها وأفعالها أسماء وصفات وأفعال الله.

 

-التدين الوظيفي وإشكاليات التعارض الجوارحي والجوانحي:

الواقع اليوم أن هناك خللا في الطاعة هو ثمرة الخلل في فهم الدين ، هذا الخلل ظاهر لعدة أسباب :

 

١- تغليب عنصري الأصالة والخلود أحدهما على الآخر ونشأ عن ذلك عدة مدارس هي :

أ. الأصولية التقليدية : غلبت عنصر الأصالة على الخلود ، كرد فعل منها  للهجمة الشرسة على الدين باسم التحديث وكان للنص والتراث النصي دوره الفعال في فهم الدين مع هامش ومساحة ضيقة للعقل في الفهم .

ب: الحداثية : وهي غلبت عنصر الخلود على حساب الأصالة وضحت به ، كرد فعل على المدرسة الأولى ومحاولة لاثبات خلود الاسلام ، فوجدت أنه لا يوجد كل شيء في الاسلام بل هناك نظريات غربية في المجالات الاجتماعية والنفسية قادرة على تقديم معالجات لم يقدمها الاسلام كنظريات معالجة لاشكاليات يعاني منها الانسان .وكان للعقل مساحة كبيرة حتى على حساب النص.

إلا أن الحقيقة أن الأولى أفرطت في الأصالة والثانية فرّطَت بها، بينما الأمر يدور في حفظ هذين العنصرين بما يحفظ الحركة المتبادلة والتفاعلية بين العقل والنص ويعطي لكل مساحته الحقيقية .

 

٢- عدم الأخذ بالدين كمنظومة متكاملة

( عقيدة( قيم ) – فقه( قانون) – أخلاق ( آداب) ، وعدم فهم تداخل هذه الأعضاء تداخل وظيفي علائقي يفترض أن يحقق كل عضو وظيفته العلائقية في العضو الآخر ، فالعقيدة تنظم التفكير وتجلي مفهوم التوحيد وفق إرادة الخالق ، هذا النظم هو من مقولة العقل النظري ( ما يجب أن يكون ) وهو بدوره يدفع بالتسليم والخضوع لله جوارحيا وجوانحيا ، فالفقه ينظم الجوارح لتحقق الخضوع سلوكيا لله والأخلاق تهذب الروح وترتقي بالمعنوية وهما من مقولة العقل العملي ( ما ينبغي أن يكون )  ليكون خضوع واقعي يهذب الفرد وينعكس ذلك على سلوكه الاجتماعي وفق إرادة الخالق تعالى ، إذا هي منظومة متكاملة تحتاج إلى إدراك ووعي معرفي يتجلى فيها التوحيد في كل وجود الإنسان .

 

هذا أدى لبروز عدة مدارس :

أ. المدرسة العقدية : ركزت على إظهار الدين ككل عقدي أساسي ، وهمشت دور الفقه والأخلاق بحيث باتا يشغلا مساحة جدا ضيقة غير بالغة الأثر في التأثير في فهم الانسان للدين .

ب. المدرسة النصية الفقهية : محور الدين في فهمها له هو في مجموعة الأحكام الشرعية التي تشكل القانون الذي ينظم سلوك الإنسان بطريقة يخدم فيها الانسان القانون وليس العكس.

ج. المدرسة المعنوية : التي اعتبرت أن الأخلاق والمعنويات هي محور وجود الإنسان وبها يتكامل وتتم سعادته .

الحقيقة أن هذا التفريط في كل مدرسة خلق لنا ظاهرة يمكن تسميتها ” بالتدين الوظيفي ” ، وهي تحول المتدين إلى موظف والدين إلى وظيفة ، مما أحدث خللا أخلاقيا كبيرا في وسط المتدينين ، شوه واقع الدين وحرف آثاره عن واقعها ورسم بذلك واقعا آخرا فيه خللا كبيرا في خريطته الخارجية وأبعاده .

هذا إضافة عن غياب عنصر مهم عن فهم هذه المدارس غالبا هو الفهم الاجتماعي للنص حيث يعرفه الشهيد محمد باقر الصدر في كتابه بحوث إسلامية كالتالي :

“فالفهم الاجتماعي للنص معناه : ” فهم النص على ضوءارتكاز عام يشترك فيه الأفراد نتيجة لخبرة عامة وذوق موحد،وهو لذلك يختلف عن الفهم اللفظي واللغوي للنص الذي يعني تحديد الدلالات الوضعية والسياقية للكلام”

هذا أثر في صياغة الدين كمنظومة متكاملة لها بعد فردي واجتماعي وليس فقط فردي .

فالتدين الوظيفي يقع فيه خلل وتناقض بين الجوانح والجوارح ، قد تدخل المتدين دون أن يشعر في خندق النفاق والتعارض الصارخ بين قوله وفعله ، وبين ما يعتقده وما يسلكه من سلوك وما يؤمن به قلبه .

ويتحول تدريجيا من مكلف خاضع بوجوده لله ، إلى موظف حول الدين لمجموعة وظائف متناقضة لا تحدث أثرا حقيقيا في مستواه الفردي ولا مستواه الاجتماعي ولا يكون له دور جلي في مشروع الأمة ونهضتها .

يصبح متدينا جافا ، لا يحدث الدين فيه أي تطور على مستواه العقلي والفكري والفردي وبالتالي لا أثر أيضا اجتماعيا .

وهذا نتيجة التفكيك  بين أعضاء المنظومة الدينية .

ومن مظاهر التدين الوظيفي :

– الجفاف العاطفي ولا وجود للحب في شبكة العلاقات الفردية والاجتماعية.

– خلل في الهوية وبالتالي في الشعور بالانتماء ، وظهور التناقض يدفع كثر للتخلي عن الدين بسبب المتدينين لعدم الفصل بين حقيقة الدين وسلوك وفهم المتدين.

– سيطرة الفهم الفقهي للدين كقانون جاف على وعي المتدين .

– خلل في المرجعيات المعرفية وبالتالي خلل في المعايير التقييمية وانقلاب منظومة المفاهيم وتبدلها .

– خلل في منظومة القيم وتراجع هذه المنظومة تراجعا يدخل المجتمع في فوضى وفتنة تتجلى في عدم استقراره اجتماعيا وسياسيا.

– خلل في بنية العلاقات الأسرية يؤدي لازدياد نسبة التفكك وبالتالي الطلاق.

– خلل في المشاريع النهضوية يتمثل في الخلل البنيوي للرؤية وعدم ديمومة واستمرارية ، وكثرة الانشقاقات في جسد المجتمع والانقسامات.

– تحول التكليف لوظيفة تخضع المكلف لمفهوم مغلوط للطاعة ، وبالتالي تكثر لذلك عملية الترميز والتقديس .

– تعطيل القدرة العقلية على التشخيص والحُكْم والتخطيط ، بما يحول خطة تربية الأجيال من تربية قادة إلى تربية جنود.

يحتاج العلاج إلى إعادة صناعة وعي وفهم جديد للمنظومة الدينية وبنيتها الداخلية المتشابكة وظيفيا وعلائقيا، وهو ما يتطلب تظافر جهود المؤسسات الدينية مع النخب مع المنابر لتكثيف الجهود في هذا الصدد ، وهذا موضوع بحد ذاته ذو شجون وأحدث في راهننا نتيجة التداعيات السياسية في المنطقة هزة وجودية على مستوى الإنسان والعالم .

فبات هناك تداخلا واضحا بين الدين والتدين ، وبين النص وفهم النص ، وبين حقيقة الدين وممارسة المتدينين أربكت ساحات كثيرة على المستوى العقدي، وأدخلتنا في متاهة الإلحاد التي باتت تنشر غالبا في وسط المتدينين. ولكن لماذا حدث هذا ومن المسؤول غالبا عنه ؟

 

  • التدين : قراءة عابرة في واقع المتدينين

التدين موضوع يتعلق بشكل جوهري بالدين، كون الدين هو النظرية والتدين هو التطبيق والفعل ،  فالإنسان في لا وعيه يقوم بعملية التصنيف ويطبقها غالبا على محيطه الإنساني ، إضافة لعملية الربط التي يقوم بها عقله بين الفعل والنظرية ، ثم يطبق بعملية تعميم لامنطقية ، وهذا حال أغلب الناس، حيث الجو العام الحاكم هو البعد عن منهج علمي موضوعي منطقي في التشخيص والمعالجة.

فهو يصنف الناس في لا وعيه ويعمم ، وهو أيضا لا يستطيع الفصل بين السلوك والنظرية فيشكل أفكاره أو انطباعاته عن فكر  أو دين معين من خلال الأفراد المنتمين لهذا الفكر أو هذا الدين ، لا من خلال استقراء سيسيولوجي وفيميونولوجي ومن ثم عمل مقارنات ومن ثم اكتشاف الخلل ووضع الحلول .

فالعقل المنطقي يطرح سؤال وهو المجهول ثم يذهب من المجهول إلى المعلوم أي يذهب لبنك المعلومات ، ثم من المعلوم إلى المعلوم  أي رحلة بحثية بين المعلومات ليجد الجواب المناسب لسؤاله أي المجهول ، ثم يعود من المعلوم ليجيب على السؤال أي المجهول.

هذه عملية شبه غائبة في ذهنية أغلب الناس لأسباب ليس هنا محل بحثها.

 

وهنا يأتي السؤال :

إن الدين الحق لا يمكنه أن يترجم ذاته في الخارج إلا عن طريق الأفراد المنتمين له ، ولكي يترجم نفسه كما هو فهذا يتطلب أفرادا فاعلين وأصحاب كفاءة عالية وقابليات واسعة ومكنة او قدرة  ، لذلك حينما أرسل الله الأنبياء ليبلغوا هذا الدين علّمنا جل شأنه منهجا مهما في العمل والتطبيق بعد أن شرع لنا هو النظرية : وهو كيف يجب أن يكون الشخص المنتمي لهذا الدين؟

وكيف هذه رسمتها الشريعة وطبقها المعصوم وهو النموذج الذي يشكل المرجعية المعصومة في النظرية والتطبيق ليشكل المنهج .

” قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ”

إذا تنزّل الدين يأتي من الأعلي إلى الأسفل،  وبالتالي الترشحات العليا تفيض على الجميع بالتساوي وكل يأخذ منها وفق قابليته.

لكن ما هو موجود غالبا اليوم في الوسط المتدين هو تدين يبدأ من الأسفل ويدعي أنه ينتمي للسماء، وما أعنيه أكثر أن معالم التدين غالبا اليوم ليست برسم السماء وتعاليمها بل أغلبها برسم المجتمع وتنميطه للأفراد، لذلك نجد كثيرين بمجرد خروجهم إلى بيئة مختلفة عن هذا النمط من التدين ، نجدهم إما ينحرفون أو يعيشون صدمة وصراع داخلي نفسي.

هذا فضلا عن إلغاء خصوصية الفرد في المعرفة الدينية وسلبه حقه في التعبير عن هذه المعرفة سلوكيا بسبب هيمنة الرؤية الاجتماعية للدين وتنميط المحيط عليها ، وممارسة نوع من الارهاب السلوكي واللفظي والفكري يمنع الفرد حقه في التعبير عن ذاته لتتحول النظرية الاسلامية التي احترمت الفرد والمجتمع ، إلى نظرية اشتراكية في هذا البعد وهو أصالة المجتمع .

وأضف إلى ذلك المزج بين قداسة النص وقداسة الفهم للنص، فهناك متخصصين في قراءة النص الديني كحال العلوم الأخرى والتخصص فيها، هؤلاء المتخصصون يبذلون جهود كبيرة كي يمتلكوا الأدوات في قراءة النص الديني والخروج منه برؤية حول التشريعات الإلهية والقوانين الناظمة في الدنيا، وأغلبهم يقضون جل عمرهم في التعلّم والتعليم والتدريس ويتحول عالمهم كله إبحارا في العلوم الدينية، لكن هذا الجهد المشكور والمقدر وهذا البذل الكبير الذي نجله لا يحولهم لمعصرمين، فمخرجاتهم العلمية تبقى في إطار الفهم البشري الذي قد يسقط بعضه مع التقادم وقد يبقى بعضه لصلاحيته في كل زمان ومكان، فالباقي الثابت هو النص الذي ثبت صدوره ووافق القرآن والقداسة لهذا ذاتا، أما فهم العلماء للنص تحكمه كثير من الظروف المحيطة التي تشكل مسبقات حكمية في ذهنية العالم تلعب دورا بارزا في قراءة النص وقد تشكل موجهات للقراءة وفهم النص.

لذلك هي لا تتحول لنص مقدس لا يمكن المساس بها نقدا وتعديلا من قبل المتخصصين.

لذلك نحتاج دوما لإعادة قراءة للنصوص في كل عصر وزمان ومكان وهذا لا يعني كل فهم قديم أو راهن هو متغير، بل يعني أن هناك قراءات متغيرة تحتاج تثوير يتناسب وراهن القراءة التي تتجدد مع كل زمن.

فتسرية القداسة من النص إلى قارئ النص، يلعب دورا كبيرا في وقوف الزمن وجمود الدين وعدم مواكبته وهو ما يخالف خلوده من جهة وعالميته من جهة اخرى.

هذا المنهج في التعاطي مع مختلف القراءات للنصوص يعمل على تنميط القراءة الدينية وبالتالي تنميط وسطها المتدين بها .

خاصة حينما تتحول لدين مجتمع وأفراد وأحزاب، وتصبح مسلمات ومرجعيات معرفية ومعيارية يقيم على أساسها الأفراد والمشاريع والأفكار.

ولا نغفل عن موضوع هام جدا وهو موضوع المسؤولية ودخليتها في الشعور الواعي عند الإنسان، حيث كل فرد في شعوره الواعي يدرك أنه مسؤول وله دور حيوي ومحوري في الوجود، هذا الشعور الواعي يتمظهر في حالاته القصوى في المجال الديني.

ما أعنيه أن الشعور المسؤولية والدور في الحياة هو سمة إنسانية جامعة وقيمة ثابته، لكن تجلياتها ذات مراتب مشككة تكون في أقصاها تجليا في المجال الديني، وهذا لا يعني فصل الدين عن باقي الحياة، بل يعني توصيف تجليات المسؤولية وفق مجالاتها والوظائف المختلفة في الحياة البشرية.

فمثلا الأنبياء واللأوصياء من أكثر الناس شعورا بالمسؤولية في تبليغ رسالة السماء للأرض، لذلك نجده تجلي تلك المسؤولية بشكل دقيق في سلوكهم الجوارحي والجوانحي وفي خطاباتهم وتعاملهم مع محيطهم بحيث يقدمون نموذجا كاملا للإنسان المتألِّهْ لكل البشرية، فيكونوا بذلك دعاة هدى ورحمة لله تهتدي بهم كل القلوب.

وتقل رتبة هذا الشعور بالمسؤولية من الأعلى مرتبة إلى الأقل، لكنها تبقى كشعور بالمسؤولية حاضرة.

حتى نصل لطبقة المتدينين والتي أيضا طبقة تختلف في مراتبها في الشعور بالمسؤولية.

هذا الشعور بالمسؤولية اتجاه الله والمجتمع والدين يدفع كثيرين لممارسة دور الله دون أن يشعر، هذه الممارسة غالبا تبتني لا عن دراية وبحث ومعرفة وتنقيب في التشريعات والتاريخ والفكر الديني، بل هي خاضعة للتالي:

  • التقليد الذي تم توسيع دائرته خارج المساحة التي تم رسمها من قبل النص . فالتقليد واجب على المكلف الغير مجتهد في الأحكام الفقهية الخاصة بالعبادات والمعاملات. بحيث يكون هو مسؤول عن نفسه في تطبيق أحكامها الخاصة بالدائرة الفقهية. وما يحدث هو غالبا تحول المكلف من مقلِّد يطبق الأحكام في دائرته الفردية، إلى مُقَلَّدْ من قبل محيطه الذي يبدأ من أسرته وهيدائرته الخاصة إلى مجتمعه وهي دائرته العامة. وغالبا يتصدى لذلك أفرادا غير مؤهلين ولكنهم متدينين وسيرتهم حسنه مما يصنفهم في عقول الناس بالثقة ويحولهم لنموذج يتم اتباعه دون مراجعة ، وتدريجيا يتحول ما يطرحه هذا الفرد أو هذه المؤسسة لدين يحرم المس به أو مراجعته. فتلعب هنا إما الوجاهة الشخصية أو السيرة الحسنة أو توثيق جهات دورا في توثيق فهم هؤلاء للدين في ذهنية الأفراد والمجتمع.
  • السلطة الأبوية والتي تتمظهر من سلطة الحكم في الدولة إلى سلطة الأب في الأسرة. فحينما تتحالف السلطة مع المؤسسة الدينية يملك الدين منطق القوة ويتحول لسلطة موجهة على الناس، فيتحول ما تطرحه هذه المؤسسة الدينية بحكم القانون الذي يجب تنفيذه ومن يخالفه يعاقب وعقابه يتم تشريعه بسلطة الفتوى. فيتحول الدين هنا إلى تابو يمنع المساس به، هذه الثقافة والممارسة تتنزل لتصل لسلطة الأب في المنزل ليصبح دين الأب هو ذاته دين الأسرة.
  • تقاليد المجتمع وعاداته والتي غالبا ما تتحكم بسلوك الأفراد والجماعات أكثر مما يتحكم بها الدين .
  • الشعور بالمسؤولية أيضا يخضع لمحاولات تمييع الهوية الدينية، فبعد العولمة خاصة اجتاحت قيم الحداثة ومفاهيمها المجتمعات وهو ما طرح تساؤلات كبيرة بين جيل الشباب وأحدث فجوة عميقة بين الأجيال، هذه الهجمة المنظمة على التدين وفهم المتدينين للدين وعلى القيم والعادات والتقاليد من قبل الحداثويين خلقت ردود فعل مساوية في المقدار لكن معاكسة راكمت من الانكفاء على الذات لدى الوسط المتدين والتقوقع حفاظا على الهوية وهذا ما لا يلام عليه أحد، كون منهج المواجهة كان منهجا حادا وغير علميا من قبل من رفع شعارات التجديد والاصلاح، كان منهجا صداميا ضرب بعمق في مسلمات المجتمعات المتدينة وبطريقة سطحية غير منهجية وبفهم سطحي للاصلاح بل غالبا لم يكن لديهم برنامجا اصلاحيا حقيقيا. ولا ننكر ان بعضهم أيضا نتيجة شعوره بالمسؤولية اتجاه الله وحرصه على الدين اندفع بحجة التجديد دون وعي، لكن هناك من اندفع لانه ضد الدين أصلا فوجدها فرصة للاتقضاض عليه، وهذا بطبيعة الحال يخلق جوا مشحونا تزداد فيه الاصطفافات والتمسك بالاراء حتى لو كانت غير دقيقة وبالأفهام التقليدية للدين ظنا أن ذلك يحمي المجتمع وهويته من الاختراق.

فحينما يصبح منطق الدين القوة وليس قوته في منطقه العقلاني الإنساني ، تبدأ عمليات التنميط تتجلي في المجتمعات، ويتحول الدين لمجوعة طقوس وشعائر مرجعيتها المعرفية الإنسان وليس الله.

إذا كيف يمكننا أن نعالج حالات التنميط الاجتماعي ؟

وكيف يمكن خلق بيئة تدين طبيعية خارجة عن التكلفات والتركيبات والتعقيدات ذات الجذور الوراثية وليست الفهم الديني الأقرب الى الواقع؟ وأين هو حق الفرد في ممارسته السلوكية للتدين خارج هذا النطاق التنميطي ؟ أين يكمن الخلل ؟

إن غلق باب السؤال أو رفضه أو الخوف منه بحجة أن هناك من يمارس ذلك بشكل خاطيء هو خلل آخر في منظومتنا واستراتيجيتنا وفهمنا ، كون الوضع العام في السلوك التربوي التعليمي غالبا ما ينتج جنود وليس قادة ، خاصة فيما يتعلق بالسؤال الديني الخارج عن الوضع المألوف وعن مشهورات ومسلمات المجتمع فهو في بعض المجتمعات المتدينة يعتبر كفرا وخطا أحمرا قد يقام حد الاسقاط الاجتماعي على سائله.

فالمشهور والإجماع والمألوف وكثير من العادات والتقاليد تحتاج منهج نقدي علمي وموضوعي في التعامل معها، نحن لا نرفضها ولكن نطالب بإعادة النظر في التعامل مع المشهورات والإجماعات بطريقة مفتوحة للنقد وإعادة النظر، وبطريقة لا تحولها لنصوص مقدسة الخروج عنها يعتبر جريمة يمكن لصاحبها أن يقتل اجتماعيا.

فما نجده في سلوك الأئمة التربوي كان ينتج عمالقة فكر وعقيدة تطير بأجنحة وتأخذ في ركبها طلاب الحقيقة.

ففتح باب السؤال والنقد كان هو ديدن الإمام مع محيطه، كون السؤال الحر والشك الإيجابي مفتاحان للوصول للحقيقة.

هذا فضلا عن حاجتنا لتطوير الخطاب الديني وتزويده بأسلحة عصرية ترتقي بوعي الناس وتسلحهم بكل المفاهيم والمصطلحات الحداثية، لتنقضها نقضا بناءا، من خلال نقد علمي عقلي برهاني يحصن المتلقي من الاختراق، ويزوده بأدوات يستطيع بها أن يمارس دوره الناقد ويرفع لديه حس المسؤولية فهما وسلوكا.

وتدريجيا يرتفع بحس المسؤولية لديه إلى حس شبيه وقريب من ذلك الحس النبوي الالهي.

إذا أين يكمن الخلل ؟

المشكلة  واقعا أن سلوك أهل الباطل باستخدام أدوات محقه دفع كثر بتعطيل هذه الأدوات بينما المنهج الصحيح هو الابقاء على هذه الأدوات كونها أدوات نهضة وتنمية وإبداع ، ولكن إعادة منهجتها وفق طريق الحق ووفق مبدأ “قل هاتوا برهانكم “.

والمشكلة أيضا تكمن في تداخل الذاتيات الخاصة ومصالحها مع ذات الله ومصالحه وتشريعاته، وخوف أصحاب الآراء القريية من الحقيقة من قولها، إما خوفا على أنفسهم أو مشاريعهم أو مصالحهم، وهو للأسف خوف يجافي مبدأ كلمك حق في وجه سلطان جائر .

مع أن ‏قول الحقيقة لأجل الله حتى لو أفقدتك كل مواقعك ومصالحك أولى من قول الزور لأجل الناس حتى لو جعلتك أميرا، كون الأول يهدي الناس ويربطهم بالله، والثاني يربط الناس بالأشخاص ويبعدهم عن طريق الله.

والسلطان هنا لا تعني فقط بالسلطة الحاكمة كمصداق، بل كل من لديه نفوذ وقوى يمكن أن يستخدمها بالجور والظلم.

وقد يقع في هذا المأزق حتى الوالدين بحق أبنائهما، كما يقع فيه من يملكون مواقع علمية متقدمة ومؤثرة في المؤسسات الدينية تحولهم لسلطان قد يمارس سلطته بجور ضد من يختلف مع الجو العام ، وقد يستخدمها في سبيل رفعة الإنسان وتطوير قراءة النص.

لكن أيضا هذا لا يعفي أصحاب النتائج العلمية الرصينة المخالفة لمشهور وإجماع هذه المؤسسات من واجبه في تمكين نتائجه بطرق سلمية حوارية تحكمها الرحمة، وهو ما يفتح كوة في الجدار الصامت.

فالمححاجة والرد بالحجة كي نعتاد جميعا على تحقيق ثمرة التفكير ، أداة مهمة في مسيرة الوعي ورسم معالم التدين على ضوء القرآن وإشراقاته المعرفية، لا وفق ما ورثناه ووجدنا عليه آباءنا، فالتأسيس يجب أن يقوم في ذهنية الناس على أساس السعي لرضا الله وليس لرضا الناس ، وهو خلافا لما عليه حال أغلب مجتمعات المتدينين وهو غلبة كفة إرضاء الناس على إرضاء الله وهو ما يظهر جليا في عملية التنميط وعملية تكريس ما هو موجود تاريخيا واجتماعيا دون تقويم ونقد وإعادة نظر .

إن القرآن دعانا للتدبر والتفكير والبرهان والتأمل والسؤال ولذلك زود الإنسان بالحرية والارادة والاختيار وجعل لها ضوابط ، ووضع لنا عنوانا اجتماعيا هاما وضابطة ثابته تمنع عمليات التنميط الاجتماعي القائم على وراثة ما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا ، مطالبا إيانا باستخدام الأدوات العقلية في النقد والتقويم والعرض على القرآن لفرز إرادة الخالق عن إرادة المخلوق في تطبيق النظرية الإسلامية.

فلا نستطيع إلا بحرية التعبير ان ندعو لمدرسة اهل البيت ع العالمية ،  ولا نستطيع إلا بحرية التفكير ان ننطلق لهداية الناس وهداية أنفسنا ، وهنا حرية التعبير والتفكير ليس من منطلق غربي وإنما من منطلق قرآني وحياني يكون العقل سلاحه الفاعل، والبرهان والدليل مظلته.

إذا ما أعنيه هو أن لا نكون منفعلين بل فاعلين مهما حاول الآخر في استغلال أدواتي المحقة أو تشويهها وتشويه المسار فهذا يلزمني أن اعيدها لجادة الحق.

إننا اليوم نحتاج إعادة نظر في تديننا الجمعي ، وإعادة النظر في دور الفرد وموقعه في المنظومة الاجتماعية ، وإعادة النطر في فاعليتنا وأهليتنا وقابليتنا في تطبيق الشريعة لنقدمها بصفتها العالمية الخارجة عن التنميطات الاجتماعية ، والمحافظة في نفس الوقت على الخصوصيات الاجتماعية التي احترمها الاسلام وليس تلك التي توارثناها وقبلناها دون نظر وتقويم وتقييم .

اليوم مع ازدياد نسبة الملحدين خاصة في أوساط المتدينين نحتاج وقفة جادة للدفاع عن حرم الله في خلقه، رغم أنني حاورت بعضهم فوجدت أغلبهم ألحد بإله المتدينين غالبا وليس بالله الذي طرحه القرآن والمعصوم.

وللأسف لم نمارس ونطبق وصيتهم حينما أمرونا أن نكون دعاة لهم صامتون ، والدعوة بصمت هي دعوة سلوكية تعتمد على فهم عميق للمعصوم والنص ومن ثم ممارستها عملانيا بالجوارح والجوانح بما يعكس صدقا جاذبا للناس إلى الحق.

أما التناقض الذي نعيشه في أوساطنا المتدينة وخاصة بعد العولمة فتح بوابة الإلحاد على مصراعيها، ولا أريد أن أحمل طرف كل المسئولية، لكن هو يتحمل المسؤولية الأكبر لهذا الانحدار العقدي.

وفي ظل هذا الاضطراب العالمي، وظهور التطرف بأشد حالاته باسم الدين،وانشغال كل الأطراف بصراعات دموية، لابد أن يكون هناك أشخاص يستشعرون المسؤولية الحقيقية في النهوض بالواقع المنكوص على عقبيه، وإعادة بناء الخطاب الديني وفتح باب نقد كثير من القراءات السابقة للنصوص أمام المختصين ، لإعادة قراءتها وقراءة النص وعمل مقارنات مع الواقع الراهن بمنهجية علمية قادرة على طرح ما بات ماضويا صالحا لماضيه الخاص، وتثبيت ما هو ثابت في فهمه للنص من خلال استمرار صلاحيته إلى الآن بملاءمة ما فهمه من النص مع عصرنا وليس استمزاجا بل وفق منهج علمي رصين متثبت وغير متسرع.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً