ترجمة: فرقد الجزائري
لا فصل بين العرفان والتصوّف ـــــــ
& ما هي علاقة العرفان بالأديان في رأيك؟
^ ينبغي الإشارة في مستهل الحديث إلى وجود كلمتين في تراثنا تدلان على الجانب الروحي في الإسلام، وهما: العرفان والتصوف. وعادة ما يستخدم لفظ Mysticism للتعبير عن هذا المعنى، لكنّه لا يفي بالغرض؛ لأنّه استعمل في الغرب ـ وخاصة في القرون الأخيرة ـ لبيان معان عاطفية وانفعالية، أي إنّه يدلّ على الجوانب العاطفية والنفسية للأديان، كما أنّ دلالته واسعة حيث تشمل أيّ نوع من الرمزية والاهتمام بالألغاز والأسرار في الأديان، سواء كان ذلك حقيقيّاً أم مجازياً، في حين للعرفان والتصوف معان دقيقة ومحددة؛ ولهذا لم يعد المستشرقون اليوم يستخدمون هذا المصطلح كمعادل للعرفان والتصوف؛ فقد حكم رينيه غنون بتمايزهما في كتابه «الإسلام والطاوية»، بعدما أورد استدلالات مفصلة في ذلك. وقد انتبه المستشرقون إلى عدم إمكان اعتبار جلال الدين الرومي وابن عربي ـ مثلاً ـ (باطني) Mystic، إذا ما أخذنا بالمعنى الجديد لمصطلح (الباطنية) Mysticism؛ إذ يعكس نمط تفكير هؤلاء منهجاً روحياً ـ وليس عاطفياً وانفعالياً بحتاً ـ يهتم بالأسرار والرموز فحسب. ولا وجود لأيّ أثر للطريقة في الباطنية, ويمكن لكل شخص أن يكون باطنياً دون أن يستلزم ذلك كونه من أهل السلوك أو أهل الديانة؛ فكل من يتكلم بالأسرار والألغاز أو يهتم بها، فهو باطني، في حين أنّ أول ما نهتمّ به في العرفان والتصوف، هو السير نحو الله بالتعاليم الإسلامية والطقوس الروحية وبأحكامها الخاصة. والمعرفة أهم ما في العرفان والتصوف، بينما لم تطرح المعرفة في الباطنية بتاتاً.
لقد فقدت المعرفة دورها في العرفان المسيحي، واتضح ذلك في عهد مايستر إيكهارت؛ إذ انصبّ الاهتمام في الحصول على مجموعة من الحالات الروحية بدل الوصول إلى معرفة الله، وتطوّرت هذه الفكرة حتى انتهت في زمننا إلى فكرة «التجربة الدينية». فلم تطرح فيها مسألة المعرفة بشكل أساسي، وإن كان هذا السؤال ما يزال قائماً: هل تخلق التجارب الدينية المعرفةَ أم لا؟ فيما تؤدي الحالات الدينية في العرفان والتصوف إلى المعرفة، كما يدلّ لفظ «العرفان» على ذلك، وهي: المعرفة بالحق والمعرفة بعالم الوجود، وهذه نقطة مفصلية في بحثنا؛ لذلك يستخدم اليوم مصطلحا: Sufism وSufi في الغرب للتعبير عن التصوف والعرفان. فمثلاً، استخدم البروفيسور وليم تشيتيك هذا المصطلح في عنوان كتابيه (Sufi way of Knowledge) و(Sufi way of Love)، أي (منهج المعرفة في التصوف) و(منهج الحبّ في التصوف).
&يبدو أنّكم لا تفصلون بين العرفان والتصوف؟
^ العرفان في اللغة مصدر، ومعناه المعرفة، وعادة ما يستخدم للتعبير عن معرفة الله، وكل من يتوصل إلى معرفة ما عن الحقيقة والوجود فهو عارف، أي توصل في حدوده إلى معرفة الله، ويكون العرفان بهذا المعنى شاملاً؛ إذ يشمل تلك العجوز في زمن الرسول التي توصلت إلى وجود الله من حركة المغزل، ويشمل العارف السالك للمراتب المختلفة؛ فكل من له شكل من أشكال المعرفة بالله والوجود يسمى عارفاً. لكن لمعرفة الله درجات ومراتب؛ فتلك العجوز في مرتبة وهذا العارف في مرتبة أخرى.
إنّ العرفان المصطلح هو ما يصبو إليه التصوف؛ فهو معرفة قلبية بالله تحصل نتيجة السلوك القلبي، وقد استمر هذا السلوك بعد النبي والأئمة بين المتصوفة، وأصبح منهجاً لهم. ومن هذه الناحية، يمكننا القول بأنّ ما يميز العرفان عن التصوف هو أنّ التصوف طريق والعرفان مقصده؛ وعلى هذا الأساس، أرى من العجيب الفصل بينهما وإن كان متعارفاً، وقد بدأ هذا التفكيك الخاطئ منذ أواسط الحكم الصفوي في إيران (905 – 1148)، واشتد العمل به في السنوات الأخيرة، فكثيراً ما نسمع بأنّ جلال الدين الرومي كان عارفاً ولم يكن متصوفاً. فيما كتابه المثنوي ـ وهو المصدر في قراءة أفكاره ـ يعجّ بالأشعار والدلالات الصوفية؛ إذ ورد فيه عند تفسير الحديث النبوي: «من أراد أن يجلس مع الله فليجلس مع أهل التصوف»، بغض النظر عن سند الرواية فلا أريد الخوض في هذا الموضوع. وعلى أيّ حال، اعتبره الرومي حديثاً نبوياً ـ: من أراد مجالسة الرب فليجالس الأولياء. واعتبر أهل التصوف هم الأولياء.
لو بحثنا في التراث الإسلامي عن استعمال لفظ «العرفان» بمعناه المصطلح، لما وجدناه إلا في الروايات أو تراث المتصوفة أو من انحاز إليهم؛ فمثلاً، نجده عند ابن سينا في كتبه المتأخرة (في نهاية كتابه الإشارات والتنبيهات). ويعتقد المتصوفة أنّ السالك يصل إلى درجة يصبح فيها عارفاً بالله، ويتوصل إلى المعرفة القلبية بالحق. فلم يكن العرفان يوماً منفصلاً عن التصوف، لكننا نميّز اليوم بينهما فبينما نتقبل العرفان نرفض التصوّف.
نقد نظرية تنزيه العرفان عن التصوّف ـــــــ
ومن السلبيات التي تترتب على هذا الرأي، أنه يتيح الفرصة لمن يريد المساس بالإسلام، بقول: إنّ الرومي متصوف وليس مسلماً. ولو سألنا: هل التصوف غير الإسلام؟ لقالوا: بلى، التصوف أجلّ شأناً من الإسلام؛ فالإسلام دين الفقه والأمور الدنيوية، فيما يهتم التصوف بالروحانيات والحقائق؛ وهكذا، نسلب الإسلام كنزه العظيم بتنكّرنا للتصوف غير منفكين من قول: إنّ غاية ما لدينا هو العرفان. ومن الظريف أن يذكر أقطاب المتصوفة بوصفهم مصاديق للعرفاء. وقد ينشأ هذا التمييز من مخالفة التصوف والعناد مع أقطابه أو من السطحية واختزال الإسلام في الأحكام الفقهية.
& ألا يمكن لهذا التفكيك أن يكون مبرراً؟ فكما أشرتم، التصوف طريق إلى العرفان، وقد يكون الهدف ناصعاً لا غبار عليه، لكنّ الطريق إليه غير مرغوب؛ ولهذا سعى بعضهم للتفكيك بينهما.
^ مما يثير الدهشة أن نأخذ سلوك أشخاص وسيرتهم على أنّها ملاك للحكم على تعاليمهم، وهذا بالضبط ما يخالف ما نبّه عليه الإمام علي؛ إذ نجعل «من قال» محل «ما قال». فلو ادّعى التصوف من يعاني من انحرافات أخلاقية، هل لنا تحميل منهجه مسؤولية أعماله؟ والحقيقة هي أن ليس لنا رفض أيّ منهج من الأساس لانحراف بعض أتباعه، وإلا ينبغي صدور نفس الحكم على الإسلام والمذهب الجعفري؛ فهل ينطبق عملنا ـ نحن المسلمون الشيعة ـ تماماً على الإسلام والتشيع؟ وهل يعمل جميع العلماء بما يعلمون؟
وكما يقول بعض الفلاسفة المعاصرين: ينبغي القيام بدراسة ظاهراتية والتعرف على حقيقة الظواهر، وتعني الظاهراتية (Phenomenology) أنّ علينا الرجوع إلى منشأ كلّ أمر وأصله، وليس لنا القول بأنّه أصبح خلال التأريخ كذا وكذا؛ وعلى هذا الأساس علينا قراءة كتاب (جامع الأسرار) للسيد حيدر الآملي؛ إذ خصّص المؤلف الفصول الأولى من الكتاب لتبيين هذا الخطأ في اتّباع المتصوفة المنحرفين للتعرف على التصوف بدل الرجوع إلى التصوف نفسه ومعرفة حقيقته وتعاليمه؛ فينبغي استخراج الأصول الفكرية ومن ثمّ الحكم على من تكون سيرته على غرارها بأنه صوفي، ومن خالفها بأنه غير صوفي. ونتّبع المنهج عينه بالنسبة للتشيع أيضاً، ونعتبر من قبل أصوله شيعياً، ومن لم يقبلها متظاهراً بالتشيع وليس شيعياً في حقيقته.
يقول السيد محمد حسين الطباطبائي في حديثه عن العرفان في كتابه: (رسالة التشيع في العالم المعاصر): «لا تدلّ الانحرافات في جماعة انشقت عن منهج ما على بطلانه من الأساس، فلا تجوز دراسة أصوله الأساسية من خلال أعمالهم الجزئية، بل علينا مراجعة مصادره الأصلية».
& لسنا بصدد تقييم المتصوفة، هل هم على حق أم على باطل؟ فالكلام يدور حول فوارق مصطلحي: العرفان والتصوف؛ إذ نرى تفكيكاً دائماً بينهما. ويتحاشى كثير من العرفاء الشيعة الملتزمين بالعرفان تسميتهم بالمتصوفة، كما أنّ التصوف بصفته منهجاً مستقلاً وله تعاليمه الخاصة، يختلف عما يدعو إليه التشيع؛ وعلى الأقل، نحسّ بهذا التمايز حين ممارستهما.
^ ذكرت فيما سبق أنّ هناك فرقاً بينهما، يقول المتصوفة: إنّ العرفان أحد المراتب العليا من السلوك، وليس كل صوفي بعارف. ويقول الرومي في منظومته (المثنوي): لا يجوز مصافحة كل يد؛ فقد يكون أمامك إبليس متلبس بهيئة إنسان. كما يقول: هناك صوفي واحد في كلّ ألف.
لقد كان العرفان ماثلاً في باطن التصوف على مدى التأريخ، لكن بدأ نبذ الصوفية من أواخر العصر الصفوي، على الرغم من أنّ الملوك الصفويين أنفسهم كانوا من المتصوفة، وقد أشهر الشاه إسماعيل الصفوي ـ مؤسس السلالة الصفوية ـ السيف باسم التصوف، لكنّ بعض ممارساتهم، وخاصة ما صدر من شيوخ قبائل القزلباش، أدّى إلى نبذ التصوف، وقد قارن ذلك شيوع التفسير الفقهي للدين وحالة من السطحية تخالف بطبيعتها التصوّف؛ فساهم ذلك كثيراً في تشويه صورة التصوف نفسه، وأطلق بعض أهل السلوك في هذه الظروف اسم العرفان على التصوف وصاروا يدافعون عنه، لكي لا يصنّفوا على المتصوّفة المنبوذين.
العلاقة بين التصوّف والتشيّع ـــــــ
&لو اعتبرنا الإمام علي بن أبي طالب والإمام علي بن الحسين عرفاء فيلزم الفصل بين العرفان والتصوف، وإعطاء العرفان معنى أعم من التصوف، إذ لا يمكننا تسمية هذين الإمامين بالمتصوفة.
^ يختلف الأمر حسب تعريفنا للتصوف؛ إذ يخلط كثير من الباحثين بين تاريخ الاسم وتاريخ المسمى؛ فمثلاً، انفصل الشيعة عن السنّة فور وفاة الرسول، لكن حمل الشيعة أسماء مختلفة على امتداد التأريخ، مثل أتباع أهل البيت أو شيعة علي أو… وكذلك اسم التصوف، ظهر بعد الإمام علي بن أبي طالب، لكنه لم يحمل المعنى الحالي آنذاك، ويعتقد السيد حيدر الآملي أنّ التصوف الحقيقي هو التشيع بعينه، وغالباً ما يطرح التشيع مذهباً فقهياً إلى جانب المذاهب الفقهية الأخرى كالمذهب الحنبلي والحنفي والمالكي والشافعي، أو مدرسةً كلامية كالأشاعرة والمعتزلة، أو يعتبر نهضة سياسية، لكن لو عدنا للتشيع الحقيقي وتناولنا بحث الولاية، لرأينا أنّ التشيع هو الولاية بمعناها العرفاني؛ إذ يعتقد الشيعة الحقيقيون باستمرار الحقيقة المعنوية للنبوة ـ بعد ختم النبوة بالرسول ـ في الإمام علي وأولاده، وذلك بناءً على نص صريح من الرسول، وهذه الولاية مستمرة أبداً؛ لأنّ «الولي» اسم من أسماء الله، ولا يقبل الفناء يوماً؛ فيمكننا القول: إنّ التشيع هو القبول باستمرار حقيقة النبوة في اسم الولاية واستمرارها مدى الدهر. ويصف الرومي ذلك بقوله: لكلّ فترة وليّ، فالامتحان مستمر إلى يوم القيامة. أي حتى لو صدّقنا انغلاق باب الرسالة بوفاة النبي، فحقيقة الرسالة ـ أي الولاية ـ وهدف البعثة، وهو إتمام مكارم الأخلاق، مستمران وما زال الباب مفتوحاً والارتباط بالله قائماً ولم ينقطع ارتباط الأرض بالسماء.
ولو اعتبرنا الإذعان بالولاية حقيقة التشيع، أمكننا إذاً اعتبار التشيع مرادفاً للتصوّف؛ إذ انفرد المتصوفة في الاعتقاد بعدم انقطاع حالات النبي الروحية وعدم موت حقيقة الإسلام الروحية بوفاة الرسول واستمرارها في الإمام علي والأئمة من ولده، والأوصياء ـ أي من نالوا مراتب الكمال ـ من بعدهم، ولم يطرح الفقهاء ولا المتكلمون بحث الولاية بهذا الشكل، بل انفرد العرفاء به.
وتنسجم الروايات الشيعية، كالتي وردت في كتاب (أصول الكافي)، مع هذا المفهوم من الولاية؛ وكأننا حين مطالعة ما كتبه عرفاء كابن عربي حول حقيقة الولاية، نقرأ لكاتب شيعي، وإن وجد بعض الاختلاف في الظاهر. لكن تظهر مشتركات التصوف والتشيع جلياً في بحث الولاية؛ ولهذا نجد أقرب الآراء من الولاية عند الشيعة في نصوص العرفاء المتصوفة فقط.
ومن الخطأ أن نتصوّر أنّ فكر ابن عربي الأساسي يتلخص في «وحدة الوجود»، وقضايا اكتسبت فيما بعد طابعاً فلسفياً؛ فجوهر عرفان ابن عربي هو الإنسان الكامل والولاية، وهذا ما استقطب جلّ اهتمامه، وليس وحدة الوجود وأشباهها التي تعدّ من القضايا الفرعية، وقد نالت هذه القضايا اهتمام من شرحوا أفكار ابن عربي، إذ لم يتذوقوا حلاوة الولاية فغفلوا عن معناها الحقيقي.
&ينبغي التعامل بحذر مع الفكر الشيعي منذ القرن السابع الهجري، للتأكد من أصالته وعدم تأثّره بعرفاء كابن عربي؛ إذ لا نرى من تناول بحث الولاية بهذه الصورة قبل القرن السابع، ما عدا الكليني.
^ عند البحث عن المعنى الحقيقي للتشيع نلاحظه يتخذ طابعاً فقهياً وكلامياً وسياسياً في أدوار مختلفة من التاريخ؛ ولهذا اعتبره بعض المستشرقين وليد الظروف السياسية، وخاصة الإيرانية منها. ولم يعتقدوا بتمتعه بشأن روحي أو عرفاني، وأوردوا في نفي أصالته الأدلة عينها التي جاؤوا بها لنفي التصوّف.
صحيح أنّ للتشيع أبعاداً فقهية وكلامية، لكنّ حقيقته هي الولاية بمعناها العرفاني، فهي ذاتية للتشيع والأمور الأخرى عرضية عليه. ونجد أشخاصاً كالسيد حيدر الآملي يصلون إلى النتيجة ذاتها؛ إذ يقول: الشيعي ليس من يسمّى رسمياً بالشيعي، فقد يكون من هو أقرب إلى حقيقة التشيع لكن لا يطلق عليه اسم الشيعي، والشيعي الحقيقي هو من كان من أهل التصوف والعرفان، والمتصوف والعارف الحقيقي هو الشيعي.
& نعم، يقول السيد حيدر: إنّ لدينا صنفين من التشيع: التشيع الرسمي، والتشيع الصوفي. ويدّعي بأنّه كتب (جامع الأسرار) ليتصوّف الشيعة ويتشيع الصوفية، فنحصل على شيعي كامل.
^ في الحقيقة هو يريد إحياء المعنى المنسي للتشيع الحقيقي، وبيان أنّ حقيقة التشيع هي العرفان والتصوف لا الفقه والكلام. وعمله هذا جاء على غرار ما قام به الغزالي في (إحياء علوم الدين)، والفيض الكاشاني في (المحجة البيضاء)، حيث اجتهدوا في إعادة العلم إلى معناه الذي كان يتمتع به في صدر الإسلام، بعدما انسلخ عنه.
& للولاية الباطنية التي تتحدث عنها إمكانية تبرير أمر الغيبة ـ ولعلّ ذلك سبب اهتمام المتأخرين بها ـ إذ لا تنسجم الإمامة بمعناها الكلامي والفقهي مع غيبة الإمام، لكن من الناحية التاريخية، إلى أي حدّ طرحت الولاية بهذا المعنى بين الأئمة وأصحابهم؟
^ يعود ذلك أيضاً إلى تفسيركم للتشيع، فبسبب كثرة الروايات الفقهية المنقولة عن الأئمة، غالباً ما يتصوّر السطحيون أنّ مهمة الأئمة هي بيان الأحكام فقط، ولا يتنبهون إلى أنّ الولاية سرّ باطني لا يحمله سوى الخاصة، وبما أنّ الولاية موجّهة أساساً للحق، خلافاً للرسالة التي وجّهت للخلق، فتعدّ من المقامات الخفية ولا يتمتع الجميع بإمكانية استيعابها وقبولها. فكيف لنا إدراك حقيقة التشيع والإمام علي بن أبي طالب يجيب كميلاً ـ حين سأله عن الحقيقة ـ بأن: ما لك والحقيقة؟! وتعود قلّة ما ورد في الأمور العرفانية عن الأئمة قياساً لحجم الأحكام الفقهية المنقولة عنهم، إلى حقيقة الولاية والعرفان؛ إذ الولاية من الأمور القلبية التي تنتقل من صدر إلى صدر؛ ولهذا قلّ من نقلها، كما أنّها ليست من الأمور التي يمكن نشرها وإذاعتها بين الجميع، فلو فضح أمرها كُفِّر صاحبها واعتبر خارجاً عن الدين، حسب ما نقل عن الإمام علي بن الحسين:
إنّي لأكتم من علمي جواهره | كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا | |
وربّ جوهر علم لو أبوح به | لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا |
في الواقع، ينكر السطحيون بغفلتهم عن هذه الحقيقة الشأن الولائي والعرفاني للأئمة، كما ينكرون أقوالهم العرفانية؛ ولهذا يعتقدون بعدم إمكان صدور كتاب (مصباح الشريعة) عن الإمام جعفر الصادق؛ نظراً للصبغة العرفانية التي تتمتع بها الأحاديث الواردة فيه، فيما يقول العالم الشيعي الجليل علي بن طاووس، بأنّه أفضل كتاب يمدّ الإنسان في سلوكه إلى الله.
ويكشف هذا الأمر، بأننا نصوغ تعريفاً للإمام والتشيع، ثم نحكم في ضوئه بعدم إمكان انتساب (مصباح الشريعة) للإمام؛ لأنّه يتمتع بصبغة عرفانية، أو ننزّه المجلسي (الأول) عن الارتباط بالتصوف؛ لأنّ شأن علماء الشيعة أجلّ من ذلك، وكذلك بالنسبة للفيض الكاشاني وصدر المتألهين، ونرفض انتساب (رسالة السير والسلوك) إلى السيد بحر العلوم؛ لأنّ التعاليم الواردة فيها على غرار تعاليم المتصوفة. ومن الواضح أننا ننطلق في إصدار هذه الأحكام من تعريف خاص للتشيع، يرفض دخوله في المباحث العرفانية.
أشدّد هنا على عدم نفي الأبعاد الفقهية أو الكلامية عن التشيع، لكن لا أراها تشكّل حقيقة التشيع؛ فالبعد الروحي والولائي هو جوهر التشيع؛ ولهذا سعى المتصوفة إلى الانتساب للأئمة، في حين ـ على حدّ تعبير السيد الطباطبائي ـ لم يؤدّ هذا الانتساب إلا إلى مزيد من الحرمان والعذاب، في فترة تسلّط فيها أهل السنّة على مقاليد الحكم.
علاقة العرفان بالشريعة ـــــــ
& يقع التمايز الذي نتحدث عنه في دائرة العرفان العملي؛ إذ يعتقد كثير من الشيعة بالولاية الباطنية من الناحية النظرية. وغالباً ما يقصد بالتصوف سلوك معين. ويرفض كثير من عرفاء الشيعة العرفان العملي الذي يمارسه المتصوفة رفضاً باتاً؛ في حين يصلون إلى قاسم مشترك مع المتصوفة في العرفان النظري؛ إذ يسعى العارف الشيعي لأن يكون متشرعاً، بينما لا يسعى الصوفي لذلك تماماً.
^ أولاً، التمييز بين العرفان النظري والعملي أمر اعتباري، ولا يعترف به أهل السلوك من العرفاء؛ فلا يمكن التفكيك بين النظر والعمل في العرفان، ولا يمكن لأحد إدراك لطائف العرفان وحقائقه دون العمل بها، قد يمكن نقل بعض الأمور عن العرفاء ومناقشتها، لكن لا يصبح المرء صاحب رأي فيها إذا لم يكن من أصحاب السلوك.
العرفاء الحقيقيون ملتزمون بالشريعة بل متقيدون بها أكثر من غيرهم، حتى ذمّهم بعضٌ لشدة تقيّدهم بالأحكام وممارستهم للعبادة. لكن لا نغفل عن أنّهم يعتبرون الشريعة لا تفي بالغرض من دون الطريقة، ولا يمكن للظاهر أن يكون بلا باطن ولا اللفظ بلا معنى. وقد تصوّر بعضنا عدم التزامهم بالشريعة لشدّة تركيزهم على الطريقة لكونها روح الشريعة ومكملة لها.
وينبغي هنا التفكيك بين من لا يرتئي ذلك على أساس تصوراته الشخصية، وبين الأصول الأساسية للتعاليم الصوفية وسيرة مشايخه الكبار، كما علينا الالتفات إلى أنّ الزهد والتمسك بالشريعة شيء والتظاهر بهما شيء آخر، وكذلك إلى اختلاف درجة التمسّك بالشريعة من شخص لآخر، كاختلاف النبي موسى عن السيد المسيح، واختلافهما عن عامة الناس في ذلك.
الأسباب التاريخية لتنزّه العرفان الشيعي عن وصف التصوّف ـــــــ
& صحيح أنّ كثيراً من المتصوفة شيعة، لكن سؤالنا هو: إنّ أغلب عرفاء الشيعة يسمّون أنفسهم عرفاء؛ فلم لا يسمّون أنفسهم متصوفة؟ ولم لا نطلق عليهم هذه التسمية؟
^ كما ذكرت، وقع هذا التفكيك بين التصوّف والتشيع في العهد الصفوي (905 – 1148ﻫ)، حيث كان مشايخ المتصوفة قبل ذلك محلّ احترام علماء الشيعة وإجلالهم، وقد كان علماء ـ كابن شهر آشوب (صاحب المناقب)، وعبدالواحد الآمدي (صاحب غرر الحكم ودرر الكلم)، والسنائي (الشاعر والحكيم) ـ تلامذة للشيخ أحمد الغزالي الذي تعرّض لكثير من التجريح على أيدي السطحيين، ونرى إجلال الحكيم نصير الدين الطوسي للشيخ صدر الدين القونوي، والاستمداد منه لحلّ مشاكله العرفانية في مراسلاتهما التي طبعت مؤخراً، كما كان يبدي القاضي نورالله التستري والسيد حيدر الآملي منتهى التواضع تجاه مشايخ المتصوفة.
لكن ظهرت بعض أمارات الانحراف في أوساط السلطنة الصفوية، على الرغم من كونهم متصوفة ومن سلالة الشيخ صفي الدين الأردبيلي، وهذا دليل آخر على وحدة التصوف والتشيع، حيث أعلنت السلطنة الصفوية التشيع مذهباً رسمياً للبلاد، ولهم في ذلك الفضل على الإيرانيين جميعاً. ويبدو أنّ ذلك كان من تبعات السلطة؛ إذ يؤدي عدم مراعاة حقوق الله وحقوق الناس إلى الانحراف، وحتى جعل التصوف دنيوياً (Secular)، إذ يمكننا الحديث في هذه الفترة عن التصوف الولائي ـ أي العلوي ـ والتصوف الصفوي على غرار التشيع العلوي والتشيع الصفوي الذي طرحه الدكتور علي شريعتي، وانتهى الأمر إلى تشويه صورة التصوف، لما أدى إليه من شيوع القشرية الدينية، وتودّد بعض العلماء إلى الحكام الأمر الذي شرح مساوءه الشيخ البهائي، وتواطؤهم مع شيوخ قبائل القزلباش للاستيلاء على السلطة؛ فنتجت عن ذلك حالة من الازدواجية بين رفض التصوّف وترويجه تحت عنوان العرفان.
ونلاحظ هذه الازدواجية في كتابات أغلب عرفاء تلك الفترة، فمثلاً نجد صدرالدين الشيرازي ـ وهو من الفلاسفة العرفاء ـ يرفض التصوّف في كتاب (كسر أصنام الجاهلية)، ويصف المتصوفة بعديمي الإدراك للذة المعرفة؛ في حين يعتبر منهج المتكلمين والفقهاء القشريين في زمانه مخالفاً للدين ويدافع عن التصوف الصحيح ويؤيّد منهجه في تهذيب النفس ويسعى لإحياء علم الدين الحقيقي على غرار الغزالي، ويصرّح في خاتمة كتابه بأنّ الإيمان الحقيقي هو ما يسمّى عند المتصوفة بالولاية. وقد قبل الفيض الكاشاني التصوف من جهة ورفضه من جهة أخرى؛ لسوء سمعته. وبناءً على ذلك، يمكننا قراءة مواقفهم على أنّهم كانوا يرفضون التصوف الشائع آنذاك، والذي دخل عليه الانحراف، ويؤيدون التصوف الحقيقي. كما تحاشى بعض كبار الفقهاء ـ كالشيخ البهائي والمجلسي الأول ـ اسم المتصوفة، على الرغم من كونهم متصوّفة.
وفي معرض الحديث عن فوارق منهج الحكماء والمجتهدين، يجيب العالم الشهير المجلسي الثاني عن أسئلة الملا خليل القزويني، بقوله: من يرفض التصوف من الأساس فهو جاهل. ويضيف: إنّ التصوف على صنفين: حق وباطل، ويعتبر نفسه مع علي بن طاووس وابن فهد الحلي والشيخ البهائي وأباه (المجلسي الأول)، من أتباع التصوف الحق.
ولهذه الازدواجية التي بدأت في العصر الصفوي واستمرت إلى يومنا هذا، أهمية قصوى في بحثنا. وكما أسلفت، يمكننا الحديث عن تصوّف ولائي وتصوف صفوي؛ إذ نرى بعد قرن من انتكاسة التصوف، دخولَ فقهاء عظام في السلوك العرفاني والصوفي حين أحيا معصوم علي شاه ونور علي شاه الإصفهاني التصوف في إيران، على الرغم من براءتهم من التصوّف المذموم، أي التصوف الصفوي.
وقد دخل وادي السلوك إلى الله العالم والعارف الشيخ عبد الصمد الهمداني، صاحب كتاب (بحر المعارف) ـ الذي استشهد على يد الوهابية عام 1216ﻫ ـ وذلك بإرشاد من نور علي شاه، كما صار سبباً لتعرّف السيد بحر العلوم على نور علي شاه. وقد كتب بحر العلوم (رسالة السير والسلوك) في تلك الفترة؛ ولذلك نجدها تعكس تعاليم طريقة (النعمة اللهية)، ونرى تفصيل هذه التعاليم في كتبهم. وفي حين ينسب السيد محمد حسين الطباطبائي والسيد محمد حسين الحسيني الطهراني هذه الرسالة إلى بحر العلوم، ينفي ذلك كثير ممن لا معرفة له بالعرفان، كما ينكرون أيّ صلة للسيد بنور علي شاه؛ لأنه من مشايخ المتصوفة. ويَنقل في كتاب (الروح المجردة)، حين ذكره لبعض كرامات شيوخ المتصوفة آنذاك، أنّهم من الأولياء وإن كانوا على مسلك الدراويش والمتصوفة، وهو مسلك سيء، أي إنّه يرفض مسلكهم (وهو التصوف المذموم) من ناحية، ويعتبرهم أولياء الله من ناحية أخرى، لكن كيف لأولياء الله أن يكونوا على مسلك خاطئ؟ هكذا أصبح عنوان التصوف مذموماً وحلّ عنوان العرفان محله، بينما المعيار هو الآراء والتعاليم لا العناوين؛ إذ يتبرّأ المتصوفة الحقيقيون من كثير من الأعمال التي تنسب إلى التصوف؛ فنراهم يوقّعون ضد الملا سلطان محمد الكنابادي (السلطان علي شاه)، صاحب (تفسير بيان السعادة)، ويعتبرون عقائده مخالفة للإسلام. وقد قال هو أيضاً حين علم بذلك: إنّ صاحب هذه الأفكار ـ أياً كان ـ خارج عن الإسلام، وأنا أيضاً أوقّع على ذلك.
السلسلة الصوفية والارتباط بالأستاذ، هل هناك وساطة بين العبد والرب؟ ــــــــ
& أتصور أنّ علينا التمييز بين ثلاثة عناصر حين الحديث عن التصوف في الإسلام: الأول: الطريقة، أي الآداب المعنوية؛ إذ نرى الآداب الباطنية وذكر الله لدى العلماء غير المشهورين بالعرفان أيضاً كالسيد ابن طاووس والملا حسين قلي الهمداني وتلامذته. الثاني: الأبعاد النظرية في الموضوع، وهي خارجة عن بحثنا ولا نتناولها الآن. الثالث: ولاية الخلف عن السلف أي التواصل بينهم؛ حيث يعتقد أغلب المتصوفة بلزومه، ويمكن عدّه معيار تصوف الأفراد، وهو بيت القصيد في بحثنا هذا؛ إذ يبدو أنّ المتصوف هو من كان له ارتباط منظّم بالحلقات والسلاسل الصوفية، بينما يصعب إثبات ارتباط علماء كالفيض الكاشاني والشيخ البهائي والمجلسي الأول، بالحلقات والسلاسل الصوفية.
ونجد مفهوم الوساطة بين الخالق والمخلوق في سائر الأديان أيضاً. ويقال: إنّ ميزة الإسلام أنّه يربط الإنسان بالله بشكل مباشر، فإن كان في المسيحية الاعتراف عند الراهب والدعاء في الكنيسة، وبشكل عام وساطة جهاز الكنيسة بين الخالق والمخلوق، يمكننا في الإسلام الاتصال بالله في أي زمان وأي مكان وبأيّ شكل كان. حتى قال بعضٌ: إنّ من لوازم الدين الخاتم السموّ بالإنسان إلى درجة يرتبط فيها بالله بشكل مباشر.
^ لا شكّ في أنّ لكل قلب طريقاً إلى الله في كلّ زمان ومكان، كما يقول الرومي: لربّ الناس صلة لا مثيل لها بأرواح الناس، دون الحاجة إلى أيّ تكلّف؛ ولهذا قال تعالى: )فأينما تولّوا فثمّ وجه الله(، لكن نحتاج في هذا الطريق إلى مرشد، وهو ما عُدّ ضرورياً في الأديان كافّة.
يمكننا في بعض الأحيان الحصول على إجابة لأسئلة تطرح حول تعاليم دين ما في دين آخر، فمثلاً يقول دارا شكوه: استعصى عليّ فهم بعض رموز القرآن، لكن أمكنتني قراءة اوبانيشاد (من كتاب الفيدا البوذي) من حلّ هذه الرموز وأعانني ذلك على فهم القرآن؛ فمن محاسن دراسة الأديان ـ إذا لم تكن نظرتنا للأديان تعدّدية، ولشديد الأسف، غالباً ما تكون هذه النظرة هي السائدة في جامعاتنا ـ أنّها تتيح لنا فهم أمور مجملة في دين ما من خلال ما شرح في الأديان الأخرى.
تؤكّد جميع الأديان على ضرورة وجود المرشد والمربي، ولا نجد ديناً لا يتطرّق لهذه القضية؛ فيعتبر الكاثوليك الكنيسةَ واسطةً بين الناس والرب، في حين ترفض البروتستانتية هذه الوساطة وتعتقد بقدرة كل شخص على السير نحو الربّ. وتشير قصة موسى والخضر في القرآن، والتي أولاها العرفاء أهمية قصوى، إلى هذا الموضوع. إذ يؤمر موسى ـ وهو نبي ـ باتباع الخضر؛ فلا يمكن لأحد السير والوصول إلى أيّ مكان دون مرشد حسب تعاليم التصوف. وما يثير دهشتي قولك بعدم وجود واسطة في التشيع! بينما يعود كلّ ما للإمامة والولاية من منزلة، إلى دور الوساطة الذي تؤديه. كما تأتي أهمية الشفاعة لدى الشيعة من أهمية الوساطة، وما يمتاز به التشيع هو الاعتقاد بدوام الولاية لدوام حضور الولي. وتعمّ أحاديث من قبيل: «من مات ولم يعرف إمام زمانه، مات ميتة جاهلية» جميع العصور، ولا تختصّ بزمن الغيبة. ويكشف كلّ ذلك عن ضرورة وجود الواسطة عندنا، وأن ليس هناك طريق من دون واسطة، لكن لم يصرّح به إلا في التصوف، بينما يفسّر أهل السنّة كالماوردي في (الأحكام السلطانية) هذا الحديث بأنّ من مات ولم تكن في ذمته بيعة إمام مات ميتةً جاهلية، ويقصدون بها بيعة الحكومة.
الإقرار بالولاية من أركان التشيع، ولو أخذنا التشيع بمعناه الولائي لوجدنا أنّ الولاية ركنه الأساس، كما أنّ وجود المرشد من أركان التصوف أيضاً، من هنا يأتي مفهوم السلسلة في التصوف؛ إذ يعتقد المتصوفة بوجود سلسلة المربين والمرشدين المتواصلة، وينسب جميع هذه النحل تعاليمهم إلى الأئمة، فهم متمحورون حول الركن الولائي للإسلام، سوى النقشبندية الذين يسردون سلسلتهم الروحية بطريقتين: يوصلون أنفسهم بإحداهما إلى الرسول عبر أبي بكر، وفي الأخرى إلى الإمام جعفر الصادق ثم الإمام علي ثم النبي، ويفضلون السلسلة الثانية.
يجب أن تكون العلاقة بين المرشد السابق واللاحق متواصلة، كحلقات السلسلة لا انقطاع فيها، وإلا فقدت السلسلة قيمتها. وتتوقف حجية الشيخ المرشد على إذن الشيخ السابق له صراحة، وعلى حد تعبير المحدّثين: يجب أن تكون هذه الإجازة معنعنة حتى تصل إلى الإمام، وإذا كانت السلسلة هذه مخدوشة، أي مرسلة في مرحلة من مراحلها، فيفقد المرشد حجيته؛ لذلك فما يقال عن تربية الشيخ أبي الحسن الفرقاني روحياً على يد بايزيد البسطامي وأمثاله من الأقوال، والتي تكثر عند النقشبندية، ينافي أصول التصوف.
ويمكن رصد شبَه في الحالات والرغبات أو حتى في المنزلة الروحية بين شخصين، لكن لا يمكن أن يتربى شخص بروحانية آخر، ويرفض التصوف ما قيل عن الشاعر الإيراني حافظ الشيرازي بأنه أويسي، أي كأويس القرني لم يشاهد النبي ولم يحظ بأيّ مرشد. أي يجب أن يتبع كل شخص مرشداً في عالم الخارج، وينبغي لهذا المرشد التمتع بإجازة تصل سلسلتها إلى الإمام؛ إذ لا يسمح في التصوف لأيّ شخص ادعاء بلوغ الكمال ونيل الهداية بنفسه، وقد ينال شخص ما بعض الكمالات لكن بلوغه الكمال يستلزم كشف سلسلة إجازته. وهناك فارق كبير بين نيل بعض الكمالات الروحية وبين بلوغ الكمال.
أمّا صعوبة إثبات اتصال أمثال الفيض الكاشاني والشيخ البهائي بالسلسلات الصوفية، فيعود إلى احترازهم من الانتساب إلى التصوف الشائع آنذاك واتقائهم التكفير، والتقية كانت وما زالت من أوصاف الشيعة. إذاً لا يدل عدم معرفة مشايخهم في السلوك على عدم وجودهم. ومن البديهي أن يتكتم المرء على اتصاله بمشايخ العرفان ويتّبع التقية في ذلك حين يصبح تدريس العرفان سراً وحمل كتبه أمراً مريباً، وقد اتصل عدد كبير من العرفاء بسلاسل الفقر.
& هل تقصدون أنّ الإنسان الكامل يجب أن يكون مجازاً حتى تكون له مرجعية عرفانية؟
^ نعم، وذلك ليمكنه القول بأنّ دعوته من الله.
& ألا تظنّ بأنّ تعبير القائد أفضل من المرشد؛ لأنّه لو رددت الذكر الذي يقوله الشيخ من دون إذنه لم تبلغ الهدف؛ فالطريق واضح، لكن يجب أن يقود أحدٌ المرء في سلوكه الطريق، ولا تحل هذه المعضلة بما أفدت، ودون إثباتها خرط القتاد.
^ القائد هو المرشد، ونفس الظروف التي تصنع من الشيخ مرشداً تجعله قائداً. والإجازة التي يمنحها الشيخ السابق للاحق تعطيه في حدّ ذاتها قدرة التأثير والتصرف في نفس السالك. فمثلاً لمجرد الذكر بعض الأثر، لكن يعود القسم الأعظم من التأثير إلى قدرة تصرّف ملهم الذكر؛ فينتفع الذاكر من نفَس الشيخ أكثر من الذكر. يقول الشاعر الفارسي في وصف ذلك: إن لم يكن الخاتم ـ خاتم سليمان ـ فما أثر نقشه؟!
الاتصال الصوفي الشيعي هل يكون بالرضا أم بالمهدي‘ ـــــــ
& تصل كثير من السلسلات الصوفية إلى معروف الكرخي، ويقال بأنّه مأذون من قبل الإمام علي الرضا، والحال يفترض أن لا يتصل المتصوف الاثنا عشري بالإمام علي الرضا أو الإمام جعفر الصادق، بل بأحد النواب الأربعة أو بنفس الإمام صاحب الزمان. وإن اتصل شخص عبر معروف الكرخي بالإمام علي الرضا، فما دور الإمام محمد الجواد ومن بعده من الأئمة؟
^ إحدى الاتهامات الموجّهة ضد الصوفية أنّهم يعترفون بثمانية أئمة فقط، بينما لا نجد فرقة كهذه في التاريخ، ولم يرد اسم لها في أيّ من كتب الملل والنحل! كان الشيخ معروف الكرخي مأذوناً من قبل الإمام علي الرضا في السلوك وتهذيب النفوس، ولم يكن نائباً له، والمهم في أمره أنّه توفّي قبل الإمام الرضا، وقد ربّى الشيخ سري السقطي الذي ربّى بدوره الشيخ الجنيد البغدادي المسمى عند المتصوفة ﺑ «شيخ الطائفة»، لكنّهم سلسلة من المربين والمرشدين، وليسوا نوّاباً أو خلفاء للإمام، أي إنّهم كانوا مأمورين من قبل الإمام بهداية البشر.
وأودّ هنا التأكيد ثانية على أنّ إصرار الصوفية على إيصال سلسلاتهم إلى الأئمة، لم يعد عليهم بأيّ نفع في ظل الحكم السنّي، ولا أعرف سبب إلحاح البعض على نفي هذا الانتساب. ويكشف إصرار المتصوفة هذا عن اهتمامهم بمقام الولاية، والذي لا يدع مجالاً للنقاش التاريخي أو التشكيك في ولائهم.
كيف جمع المتصوّفة بين ولاية الأئمة في السلوك وعدم مرجعيتهم في الشريعة؟! ـــــــ
& لم لا يتّبع المتصوفة الأئمة في الشريعة على الرغم من تأكيدهم على انتساب شيوخهم إلى الأئمة؟
^ الالتزام بالشريعة من أركان السلوك إلى الله. ولو قال أحد المتصوفة بأنّه من الممكن السلوك من دون الشريعة فهو دجّال، لأنّه أنكر أحد جوانب الإسلام الأساسية، لكنّ الفقه والكلام بحد ذاتهما خارجان عن موضوع الطريقة. ولم يدّع أحد من شيوخ الطريقة الاجتهاد، ولا طلب من الناس اتّباعه في الأحكام الفقهية. فهم مكلّفون بالسلوك وكانوا يدعون الناس في إطار تكليفهم. أمّا المسائل الفقهية فليست من مسائل الطريقة الأصلية وإن التزم بها أهل الطريقة في مقام العمل.
& لدينا عدة شرائع، أي مذاهب فقهية مختلفة؛ فكيف لنا إنكار مرجعية الإمام في الشريعة إذا ما قبلنا بمرجعيّته في السلوك والحقيقة؟
^ لا ينكر أحد مرجعيتهم، لكنّ الفقه خارج عن نطاق عمل الصوفية، ولو اعتبرنا حقيقة التشيع قبول الولاية ـ لا قبول المذاهب الفقهية بشكل خاص ـ لوجدنا أنّ الشيعي من يلتزم بولاية علي بن أبي طالب، وهذا ملاك التشيع. وقد يعمل المرء في مجال الفقه بالتقية، كأن يعمل على رأي الشافعي أو يجتهد لنفسه، ولا يسعنا نسبة أمثال جلال الدين الرومي إلى المذهب الشافعي أو الحنفي، لأنّ مقسم الشافعية والحنفية هو الفقه لا التصوف. ويشير الرومي إلى ذلك في أحد أبياته، حيث يقول: حينما زادنا العشق ألماً، لم يستطع أبو حنيفة ولا الشافعي علاج ذلك.
& هل يمكن حقيقةً، التفكيك بين الفقه والتصوف ثبوتاً؟
^ نعم! ولم لا؟! إذ يحتلّ التصوف مكانة أسمى من الفقه، ويعود ذلك إلى البعد الباطني للإمام.
& لقد أوجب الأئمة أنفسهم تلقي الشريعة منهم.
^ أنا أنظر للموضوع من زاوية أخرى؛ كيف تفسرون اختلاف الآراء في الأحكام الفقهية بين الشيعة أنفسهم وهو ليس بقليل ويتفاقم أحياناً؟ إذ لا علاقة بين اختلاف الآراء الفقهية بين المذاهب والطريقة، كما لا علاقة لاختلاف الآراء الفقهية بين الشيعة بأصل التشيع وحالات الشيعة الروحية. فمثلاً، جواز صلاة الجمعة في زمن الغيبة أو عدم جوازها، يعود إلى المقدمات الفقهية واستنباط الفقيه منها، ولا مدخلية لهذا الاستنباط في أصل التشيع. ينقل عن المجلسي الثاني أنّه أحصى مائتي اختلاف في الأصول والعقائد بين المفيد والمرتضى ـ وكلاهما من أبرز فقهاء الشيعة ـ بينما ساد الاحترام بينهما ولم يحكم أيّ منهما بخروج الآخر من التشيع. كما يعتبر الزيدية شيعة، فيما هم في الفقه أقرب للسنّة منهم إلى الشيعة.
& ألا ينبغي لمن جاء بعد معروف الكرخي، أخذ إجازاتهم من الأئمة التالين لعلي الرضا؟
^ كيف لنا أن نعلم بأنّهم لم يأخذوا إجازاتهم من الأئمة، فكما يدّعي مشايخ السلسلة المعروفية، تمتّع من جاء بعد الشيخ معروف بتأييد أئمة زمانهم. أضف إلى ذلك قلّة معلوماتنا عن الأئمة من بعد الرضا. وقد نقل كتاب (مفاتيح الجنان) في قسم أدعية أيام الأسبوع، قصّةً مفصلة عن صعوبة لقاء أحد الشيعة بالإمام علي الهادي وخطورته؛ فقد كان متعذراً في تلك الفترة الاتصال العلني بهم؛ ولهذا لم ينقل عنهم سوى القليل من الأحاديث.
أما بالنسبة لنواب الإمام المهدي، فعلى الرغم من سموّ مكانتهم واعتماد الإمام عليهم، لم ير مشايخ الصوفية لهم أيّة منزلة روحية، بل كانوا وسطاء ظاهريين فقط وموكّلين بجمع الهدايا وجباية الأموال، حتى أنّهم لم يكونوا من الفقهاء أو العلماء البارزين، ويتجلّى ذلك في الأحاديث المنقولة، ولكم مراجعة كتاب (الغيبة) للشيخ الطوسي في ذلك.
& لنعد إلى صلب الموضوع: إلى أيّ حد تعتبر العرفان والتصوف نابعاً من الأديان؟
^ إذا ما قلنا بأنّ التصوف والعرفان يشكلان البعد السلوكي للدين ـ بناءً على وجود ثلاثة أبعاد لكل دين: الشريعة والطريقة والحقيقة، فالشريعة ناظرة للأحكام والآداب الظاهرية للدين، والطريقة ناظرة للمعنى والآداب الباطنية، والحقيقة هي الهدف المنشود في كل دين ـ فمن وجهة النظر هذه، تتمتع جميع الأديان ببعد طريقي، ويسمّى هذا البعد في الإسلام بالتصوف والعرفان. لكن ما أودّ التأكيد عليه هو أنّ الإسلام بصفته الدين الجامع الوحيد (لأنّه آخر الأديان)، نجد الطريقة والشريعة فيه متكافئتين، في حين يغلب أحد الجانبين في سائر الأديان عادةً، ونادراً ما نعثر على توازن كهذا؛ إذ المسيحية طريقة بلا شريعة، واليهودية شريعة بلا طريقة. وبالطبع لا نقصد عدم وجود أي طريقة في اليهودية، لكنّها مضمرة والشريعة هي الظاهرة. ولا نجد اليوم عرفاء يهود بارزين إلا في طريقة (القبالة)، كما أنّ للمسيحية شريعة لكنّها مقهورة للطريقة؛ كذلك يغلب طابع الشريعة على الكونفوشيوسية في الصين، وطابع الطريقة على المذهب التاوي. أمّا الإسلام فقد اجتمع فيه هذان البعدان. ويعود ذلك إلى كون شخصية نبي الإسلام جامعة؛ إذ ضرب بالسيف من ناحية، وعرج بروحه إلى الملكوت من ناحية أخرى؛ فكان جامعاً للشريعة والطريقة معاً.
العرفان المسيحي في العصر الراهن ـــــــ
& كيف تقيّم حضور العرفان في المسيحية في عصرنا الحاضر؟
^ لا يوجد اليوم عارف في المسيحية، خاصة بعد النهضة الأوربية، لقد كان في المسيحية روحانيون عظام في القرون الوسطى، لكن بعد النهضة تضاءل عددهم أو لم يعد لهم وجود إطلاقاً. وهذا دليل على فقدان المسيحية بعدها الروحي في عصرنا الراهن؛ إذ العرفان وحتى الدين، قائمان بالأولياء الإلهيين؛ فالتعاليم الدينية تستقيم بالولي بمعناه العرفاني، فإن لم يكن موجوداً فقد العرفان والدين أثرهما.
ويكشف هذا الوضع عن عدم إمكان قيام المسيحية بدور روحي ـ بمعناه العرفاني ـ بعد اليوم، وإن كان لها دور أخلاقي. والحقيقة أنّ المسيحيين في بعض الجوانب ملتزمون بالأخلاق؛ لذلك تحوّل الدين في العصر الحديث في الغرب إلى أخلاق (reduction)، كما نرى ذلك في فلسفة كانط. ومن هذا المنطلق، طرح بعض المفكّرين في القرن العشرين، كالمتأله الألماني رودلوف أتو (1869 – 1937م)، بحث الحالات والتجارب الدينية بهدف إحياء العرفان المسيحي.
لقد تمتّع معظم متألهي المسيحية قبل النهضة بنزعات عرفانية، ونادراً ما نجد مفكّراً مسيحياً في القرون الوسطى لم تكن لديه نزعة عرفانية، ويعود ذلك إلى الجوهر العرفاني للمسيحية، لكن أخذ وهج العرفان يخفت في المسيحية منذ النهضة، ويعتبر مايستر ايكهارت وياكوب بوهيمه وانغليوس سيلسيوس وسوينبرغ من كبار عرفاء المسيحية المتأخرين، ولهم تأليفات عرفوا بها، وقد يكون هناك آخرون لا نعرفهم.
العلاقة بين العرفان المسيحي والتصوّف الشرقي ـــــــ
& ما علاقة العرفان المسيحي في قمة ازدهاره بالعرفان الشرقي؟
^ لا يفوتنا أنّ المسيحية شرقية في الأصل، وقد أخذت الطابع الغربي بمرور الزمن؛ إذ تعود في بعدها العرفاني ـ وهو مرحلة رفع الحجب ـ إلى موطنها الأصلي وهو الشرق. ويمكننا اعتبار المسيحية غير شاملة مثلما نلاحظ في العرفان الهندي، لاقتصارها على الحبّ والعشق فقط، بينما نجد ثلاثة طرق في العرفان الهندي: المعرفة والعمل والعشق. وقد جاء ذلك مفصّلاً في كتاب البهاغافاد غيتا (Bhaqavad – gita). وهي مذكورة في الإسلام أيضاً، وقد أشار لها الشيخ فريد الدين العطار في مقدمة كتابه (تذكرة الأولياء)، إذ يقول: جمع بعض أهل المعرفة وبعض أهل العمل وبعض أهل الحب بين ذلك كلّه.
من ناحية أخرى، يمتاز العرفان الإسلامي بجمعه بين الظاهر والباطن؛ إذ يدعو في الوقت نفسه للعمل والنشاط المعيشي وإلى الخلوة مع المحبوب. ويعود ذلك أيضاً لكمال الدور المحمدي وجامعية شخصيته، حيث ينقل عنه أنه قال: لم تبصر عين أخي موسى اليمنى وعين أخي عيسى اليسرى، لكنّ لي عينان بصيرتان. أي لم يغضّ الطرف لا عن الظاهر (العين اليسرى) ولا عن الباطن (العين اليمنى)، وجمع بينهما.
& إذن لا وجود في الغرب للعرفان بصفته طريقة شهودية كما هو السلوك في العرفان الشرقي، حيث يصل في البعد النظري إلى الإنسان الكامل ووحدة الوجود
^ حسب علمي، لا وجود لشيء كهذا. يدور اليوم الحديث عن العرفان في العالم الإسلامي فقط. ولو اعتبرنا العرفان قائماً بالأولياء فلا نجد اليوم عرفاء في سائر الأديان، وإن كان هناك بعض المؤمنين الأجلاء لكنّهم ليسوا عرفاء، بمعنى الإنسان الكامل، ولا وجود للتعاليم العرفانية الشاملة إلا في الإسلام.
& يقول العرفاء: إنّ من الواجب العبور من الشريعة للوصول إلى الحقيقة، وشريعة نبينا هي الشريعة الخاتمة، فهل يمكن ـ من الناحية الثبوتية ـ وجود عارف غير مسلم؟ إذ يعتقد العرفاء بحكم السيد المسيح بعد عودته، على أساس الشريعة الإسلامية، كما على الولي من بعد النبي تبعيّته.
^ نظراً لمسألة الولاية، يجب تناول هذا الموضوع من زاوية مناقشة تمتّع الأديان بعد الدين الخاتم بنصيب من الحقيقة أو عدم تمتّعها به. لا شكّ أنّ الإسلام ـ بصفته الدين الخاتم واستمرار الولاية فيه ـ هو الصراط المستقيم. ولا ريب في أنّ سائر الأديان كانت في عصرها تمثل الصراط المستقيم، ولا تزال حتى اليوم صراطاً؛ فما دام الدين نابعاً من عالم القداسة، يمكن عدّه طريقاً ولا يجوز اعتباره مغلقاً تماماً، وإن لم تشعّ هذه الأديان لكنّها كالنجمة الآفلة تومض بين حين وآخر.
إنّ حياة الدين قائمة بالولي بمعناه العرفاني؛ فحين يقول النبي: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي»، يقصد بالعترة الولايةَ، أي لا معنى للكتاب دون ولي، ولا ينطق الكتاب الصامت إلا بالولي الناطق، كما أنّه لا معنى للسنّة دون ولي؛ ولذلك قال الإمام علي للمغفلين من المسلمين في صفين، بأن ما ترونه على الرماح ورق، وأنا القرآن الناطق.
حقيقة السنّة موجودة بوجود الأولياء وإن تغيّرت بعض فروعها بفعل متطلّبات الزمن، لكنّها مودعة عند الولي فهو حافظ للسنّة، وما نراه من احتضار السنّة المسيحية ناجم من عدم وجود ولي يحفظها، لكن لا يمكننا القول بأنّ الشريعة المسيحية ماتت بظهور الإسلام، ويتعارض ذلك مع ظهور أمثال مايستر إيكهارت الذي ظهر بعد الإسلام، ومما لا ريب فيه أنّه كان يتمتع بنصيب من العرفان.
& هل يعيننا في حلّ هذه المعضلة ما يقال عن سموّ العرفان على الأديان الرسمية، وأنّه لا يندرج تحت تقسيماتها؟
^ حقيقة العرفان ـ كما يصفها الشيخ محمد الشبستري ـ أعلى من ظواهر الأديان، وإذا تحدثنا عن الحقيقة الألوهية لأي دين، أي عن بعد «إلى الحق» لدى أيّ نبي، فلا شكّ أنّ تلك الحقيقة أبعد من أي شريعة أو أي صورة ظاهرية؛ من هذا المنطلق تكون الإجابة إيجابية عن سؤالكم. لكن يطرح بحث الولاية والعرفان دائماً في إطار الدين والصورة الظاهرية، كما أنّ الطريقة لا تنفكّ عن الشريعة، أي لا يمكننا افتراض العرفان خارجاً عن الأديان، بينما حقيقة العرفان أبعد من أيّ صورة وحتى أبعد من أي شريعة؛ فالشريعة في حقيقتها تحقّقٌ عيني لتلك المنازل الروحانية.
العرفان في إيران اليوم، مآزق وثغرات ــــــــ
& كيف ترى العرفان في إيران اليوم؟
^ للتصوف والعرفان في إيران وضع عجيب؛ فقد كانت هذه الأرض مهد الروحانية الإسلامية الأصيلة، لكن للأسف الشديد، يهمل اليوم فيها العرفان والتصوف النزيه الإسلامي بل يحارب أيضاً، وهو من المواهب الإلهية ولا يزال حياً في العالم الإسلامي، ويفسح في المقابل المجال للكتب شبه العرفانية، ويطبع كل منها عدة طبعات، ينتج ذلك عن الغفلة عن الوضع الروحي للبلد؛ إذ ندفع بيد ما هو أصيل يحظى بالتطور والاهتمام في العالم الإسلامي، ونجذب باليد الأخرى ما هو زائف.
لا أعتقد ببطلان جميع ما جاءنا باسم العرفان من الأساس؛ فهناك ما يدلّ على وجود فترات من الاتصال بعالم القدس حتى عند الهنود الحمر، لكنّ سبب الإقبال على ما يفد إلينا اليوم خاصة من قبل الشباب، أنّه لا علاقة له بالأديان الرسمية كالإسلام والمسيحية؛ فالشباب الذين تشكّل لديهم انطباع سيء عن الدين وكان في أعماقهم حنين للروحانية نجدهم انجرفوا نحو هذا العرفان غير الأصيل.
وتشكّل طريقة البيان عاملاً آخر في نجاح هذا النوع من العرفان؛ إذ يأتي على شكل قصّة طويلة، كالتي قدّمها بائولو كوئيلو، وكارلوس كاستاندا، ولو عرض العرفان الإسلامي في هيئة شعر لأصبح جذاباً. وبما أننا نعيش في بلد لا يزال التراث العرفاني فيه حياً يحظى بالقوة، ونظراً لارتفاع أعداد المدمنين من الشباب على المخدرات وازدياد حالات الانتحار بينهم، ينبغي لنا الاهتمام بالعرفان والتصوف الإسلامي بشكل أساس، وعلينا التأمل فيما يشاع عن التصوف وفصل الغث منه عن السمين وتقدير دور التصوف والعرفان في حفظ الدين في العصر الحديث.
توصّل اللاهوتيون البروتستانت في مجال التعامل مع العصر الحديث إلى أنّنا لو أردنا حفظ المسيحية في هذا العصر فعلينا العودة إلى طرح مسألة الإيمان، ومن ثمّ نتناول المسائل الكلامية تحت قضيّة الإيمان، ولا نعتبر الكلام أصلاً والإيمان فرعه؛ لذلك كان موضوعهم المهم اليوم هو إحياء الإيمان في ما بعد الحداثة، وهي فترة انقطاع الناس عن الأديان.
ينبغي لنا أيضاً في العالم الإسلامي ـ وخاصة في إيران ـ الاهتمام بالعرفان الإسلامي إذا ما أردنا تجذّر الالتزام بالإسلام. وأتصور أنّ علينا القيام بإحياء العرفان والتصوف كما يهتم البروتستانتيون بإحياء الإيمان، خاصة مع امتلاكنا آليات العمل ومصادره. كما يجب أن نهتم بإحياء الإيمان الديني أكثر من اهتمامنا بتحقق الأحكام الفقهية؛ فإذا انعدم الإيمان الديني لن يبقى معنى للتمسّك بالأحكام الإسلامية.
العرفان في عصر ما بعد الحداثة ـــــــ
& لماذا نشاهد إقبالاً عاماً في العالم على الروحانيات والعرفان وفي الوقت عينه يأخذ العرفان الزائف رواجاً أكثر؟
^ جاء لجوء الناس إلى الروحانيات إثر إرهاقهم في العصر الحديث وإحساسهم بالشقاء؛ فهو ردة فعل، حيث يبحث فيها الناس عن مأوى يخلّصهم من عذابهم، لكن بما أنّ الأديان الرسمية فقدت بريقها بالنسبة للإنسان المعاصر لأسباب عديدة، أصبح الإنسان يبحث عن الروحانيات خارج الأديان، أو على الأقل خارج الأديان الإبراهيمية؛ ولذلك يكثر الإقبال على العرفان الهندي، أو عرفان أمريكا اللاتينية. وتسبّبت شدة إقبال الناس على العرفان في كثرة الفرق العرفانية الزائفة؛ فطالما شاهدنا صناعة نسخ مزوّرة من الأشياء الثمينة ولا يصنع أحد نسخة مزورة لما لا قيمة له؛ لأنّ الناس زاهدة في الأصل فما بالك بالفرع! كما أنّ عدم منع الناس عن بعض الرغبات في المدارس العرفانية الزائفة يضاعف من الإقبال عليها؛ حيث تجمع بين العرفان والرغبات بدل جعلهما متقابلين، خلافاً للعرفان الحقيقي الذي يتضمن بعض التقييدات المذكورة في الشريعة.
& يبدو أنّ هذه الرغبات نفسانية أكثر منها عرفانية؛ ففي الماضي كان يستهدف من يقصد العرفان كشفَ الحقيقة، ويفدي كلّ ما لديه للوصول إليها. لكنّ إنسان اليوم يتحرّك بوازع من حاجاته ورغباته حتى حين إقباله على العرفان.
^ لعبت مسألة ردّة الفعل على الأزمة الخانقة التي يعيشها الإنسان، خاصة في الغرب، دوراً أساسياً في الإقبال على العرفان. لكن أهم من ذلك هو الخروج عن الروتين اليومي والإقبال على العرفان بنفسه. وقد ظهرت الأديان الكبرى في فترات طغيان الكفر والظلم، فظفرت بشدّ الناس إليها؛ فعند هجوم المغول مثلاً، أقبل الإيرانيون على التصوف بشكل واسع، لكن لا يدلّ ذلك على أنّ إقبالهم لم يكن حقيقياً، أو كما قال بعضهم: هو ردة فعل إيرانية على الاضطهاد المغولي.
قد تؤثر بعض الظروف في زيادة الإقبال على التصوف، لكن غالباً ما يغفل البشر من الناحية النفسية ولا يتحمل الوجود والوعي والحضور أمام الحقيقة بشكل دائم كي يقبل بنفسه على العرفان؛ ولذلك يبحث دائماً عن وسائل شتى تخلّصه من عبئها ويخلد للغفلة ثانية. يصف جلال الدين الرومي هذه الحالة في أشعاره، ويقول: أغلب الناس يفرّون من الاختيار والوعي إلى السكر؛ ليتخلّصوا قليلاً من الوعي، فيحتملون عار الخمر. هذا الفناء كاذب؛ إذ يجب أن يكون الفناء الحقيقي من قبل الله تعالى ليشاهد الإنسان فيه حسن البارئ وجماله.
ويرجّح في هذا الوضع المتأزم الأخذُ بالأفكار شبه العرفانية على عار الخمر والسكر؛ فهناك مخرج من العرفان الزائف إلى العرفان الإسلامي ـ وإن كان الخوف من الاشتباه بينهما ماثلاً ـ لكن لو غرق الشباب في مستنقع المخدرات فلا يبقى من سبيل إلى الدين أو العرفان.
(*) أستاذ جامعي بارز، عضو الهيئة العلمية لمركز دراسات العلوم الإنسانية، متخصّص في الفلسفة والعرفان، له مجموعة أعمال علمية، كان منها ترجمة كتابين لآتين جيلسون، ومقارنات فلسفية، وقراءات في الفلسفة الغربية.