مدخل ــــــ
يرى أغلب الحداثويين ومَنْ يحسبون أنفسهم على اتجاه التجديد والمعاصرة أن الاعتقاد بالدين والعمل بأحكامه واحترام شعائره جزء من التفكر الخرافي والإيمان بالخرافات، على عكس أولئك الذين لهم معرفة دقيقة بالأحكام والتعاليم الدينية، فهم يرون أن مثل هذه الآراء من الحمق والغفلة، فالاعتقاد والإيمان بالدين لا يحمل في ذاته الخرافية أو المناقضة للعقلنة والسلوك العلمي، وإنما هي تفسيرات الناس واستنباطات العوام التي تجعل بعض الأفكار الدينية تتسم بالخرافية.
إن ما يجب ملاحظته في الأديان الإبراهيمية التي نزلت قبل الإسلام، سواء ما تبقّى منها في كتبهم أو تلك الفقرات التي تعرض لها القرآن بالإشارة والحديث، وكذا دين الإسلام، تبين أن جميع الأديان السماوية تركز على التفكر العقلي والعقلنة.
أما في ما يخص القرآن باعتباره آخر الكتب السماوية، والذي تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه، فلا أحد يجادل في دعوته الصريحة إلى العقل والعقلنة في جميع أبعاده، العقدية، والفقهية، والأخلاقية. وهو في هذا يدعم ـ وبقوة ـ في قوانينه وطقوسه الفطرة البشرية التي قامت منذ الخلقة الأولى على التفكر العقلي. فمن وجهة نظر القرآن والسنة المطهرة الدين لا يقبل أي تواجد، سواء كان بسيطاً أو معقداً، للخرافة وللتفكير الخرافي، فهو يرى نفسه بعيداً كل البعد عن الخرافة وجوداً واستمراراً.
وإذا لاحظنا القرآن والسنة نجدها تنطلق من مبدأ محاربة الخرافة وقلع جذورها مهما كانت أبعادها وثقلها؛ لأن الخرافة تعمل على أسر العقل البشري والإطاحة بإحدى مميزاته الطبيعية، وهي التدبر والتفكر العقلي. ودعوة العقل ـ التي تكررت في القرآن كله ـ إلى محاربة الخرافة هي دعوة تحمل في ضمنها الدعوة إلى دفع كل ما من شأنه عرقلة حرياته وتدجين عقله وتفكيره.
تضاد الإسلام والخرافة، نماذج وظواهر ــــــ
ولعل الناظر في الثقلين ـ القرآن والسنة ـ يدرك أن محاربتهما للخرافة تتم بأسلوبين: منهج تنظيمي؛ ومنهج النقد والرفض الصريح.
أما في ما يخص المنهج التنظيمي فقد نظما عقيدة الناس بشكل إجرائي غطى فيها جميع الأبعاد، بحيث لا تقبل الزيادة أو النقصان.
أما في ما يخص المنهج الثاني، أي منهج النقد والرد، فقد رد القرآن والسنة ـ وبشكل لا يترك للشك أو الاحتمال مكاناً ـ كل المعتقدات والاعتقادات الخرافية. ونحن بدورنا، ومن خلال هذه السطور، سنعرض بعض الموارد التي عارضها القرآن والسنة، ووقفا رافضين لها، وتلك التي بيّنا طرق محاربتها ومحو آثارها. كما سنشير إلى بعض الموارد التي ليست من الشعوذة، وليست من الخرافات، بل شاعت بين الناس، وتوصل الناس إلى آثارها عن طريق التجربة، لكن لها مخلَّفات ونتائج سلبية على عقول الناس، وكثيراً ما سببت الانحراف في عقيدة الناس، ونظراً لطرقها الملتوية فقد صعب على ذوي الخبرات سبل محاربتها؛ لافتقادهم إلى أي سند ديني، ووقفوا أخيراً حائرين في طريقة التعامل معها.
1 ـ محاربة الطيرة والتطير ــــــ
لقد كان شعار القرآن في كل مراحل التنزيل: ﴿طائِرُكُمْ مَعَكُمْ﴾. فالتطير له تاريخ قديم مع قدم الوجود الإنساني. وكثيراً ما كان التطير سبباً في الوقوف أمام هداية الناس وطريق سعادتهم، فقد ذكر القرآن العديد من الأقوام الذين دفعوا رسالات ربهم ورفضوا الإيمان بما جاءتهم به الرسل؛ لأنهم تطيروا بهم لا غير، وعدوهم فأل شر وسوء، و﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
لكن الأنبياء مصدر الرحمة الإلهية والخير للبشرية كان جوابهم الثابت: ﴿قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ﴾ (يس: 18). فأنتم إنما تسرفون في إنكار الحقيقة، فشؤمكم إنما هو معكم؛ لأنكم تنكرون الحقيقة.
تطير قوم ثمود بنبي الله صالح× ﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ﴾، وكان جواب صالح لهم: ﴿قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ (النمل: 47).
وكرر قوم موسى نفس القول ونفس الموقف الجاهلي، ﴿فَإِذَا جَاءتْهُمُ الحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف: 131).
لقد أكد القرآن وما سلم من الكتب السماوية الأخرى وقوف جميع أنبياء الله ورسله موقفاً إلهياً واحداً ضد التطير، واعتبروه من صنع الإنسان الشيطان ليصدّ به رسالات ربه، ويحرم المستضعفين من الخير الإلهي والتحرر الرباني. لم يُستثنَ أحد من الأنبياء من هذه المسيرة، بل لقد كان نبي الإسلام| أحسن وأكمل من صدّ ورفض التطير والطيرة. وكان| يأمر المسلمين بالتفاؤل بالخير؛ ليكون الخير سهمهم الدائم، فكان يقول: «الفأل حق، والطيرة ليست بحق»([1]). فالتطير لا حقيقة له ولا واقعية له. وقد ثبت أن النبي الأكرم| كان خلقه التفاؤل بالخير، «كان يحب الفأل ويبغض الطيرة»([2]). وقد كان كلامه نورانياً حين أرشد إلى التفاؤل بالخير، وقال|: «تفاءلوا بالخير تجدوه»([3]). ومن جملة الموارد التي ثبت فيها تفاؤله بالخير ما نقله العلامة المجلسي في بحار الأنوار: «…كما أن كتب التاريخ قد ذكرت أن النبي الأكرم| حين أرسل برسالة إلى برويز خسرو إمبراطور إيران يدعوه فيها إلى الإسلام، فعمل هذا الأخير على تمزيقها، ثم عمد إلى حفنة تراب فوضعها فيها، وأعاد إرسالها إلى النبي الأكرم|، فلما رآها النبي| تفاءل بها خيراً، وقال: في القريب سيحكم المسلمون أرضه»([4]).
كتب الدميري في كتابه «حياة الحيوان»: «إنما أحب النبي| الفأل لأن الإنسان إذا أمل فضل الله كان على خير، وإن قطع رجاءه من الله كان على شر، والطيرة فيها سوء ظن وتوقع للبداء»([5]).
ولهذا فقد دأب رسول الله| يعلِّم أصحابه ومن تبع دعوته أن يأملوا في الله وفضله خيراً، وأن لا يقنتوا من روح الله. لذا ففي قاموس الإسلام الفأل معناه تأمل الخير في الله تعالى، أما التطير فهو اليأس من فضل الله ورحمته.
بل ذهب الدين إلى أبعد من هذا، حيث اعتبر التطير بالأشياء، والاعتقاد بقدرتها على تغيير مصير الإنسان إلى الشر، اعتقاداً منافياً لعقيدة التوحيد، وجزءاً من الشرك الأكبر. وهذا ما أشار إليه النبي الأكرم| بقوله: «الطيرة شرك»([6]). وأضاف|: «من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك»([7]). وقال أيضاً: «من خرج يريد سفراً فرجع من طير فقد كفر بما أنزل على محمد»([8]).
لكنه رغم كل النهي الذي صدر من النبي الأكرم ومن الأئمة الأطهار^ عن التطير والطيرة فإنها لازالت سلوكاً شائعاً بين أكثر من فئة من المسلمين، ولا زالت تحدد مسار العديد من الأشخاص في ما يخص حياتهم، سواء في الحضر أو السفر، ولربما كانت تجربتها من قبل البعض، ومصادفتها للواقع عند بعض الأشخاص أو في بعض الظروف والأزمنة، سبباً في استمرارها وترسُّخها.
وقد كانت الخطوات الأولى التي انتهجها الإسلام في محاربته للطيرة تأكيده على مخالفتها للواقع، وأن الاعتقاد بها شرك، وقد دعا جميع المسلمين إلى الانتهاء عنها وتجنبها. ولكن في المرحلة الثانية أمر المتطيِّر بأن يمضي في عمل ما تطيَّر منه، وقال|: «إذا تطيَّرت فامضِ…»([9])، بمعنى أن لا يعير اهتماماً لما تطير منه، وأن يمضي في إتمام ما عزم عليه، فلعله يكون خيراً أراد الشيطان أن يحرمه منه بذلك التفكير الخرافي. فقد ثبت عن النبي| أنه «كان يأمر من رأى شيئاً يكرهه ويطَّير منه أن يقول: اللهم لا يؤتي الخير إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك»([10]).
وحتى يتحلل المسلم من التطير إن صدر منه، ويخرج من ذنبه، أمره النبي| بأن يتوكل على الله، فقال: «كفارة الطيرة التوكل»([11]). يجب أن تتأسس عقيدة المسلم على أن لا مؤثِّر في الوجود إلا الله. فالنصر والفوز، كما السقوط والهزيمة، من الله سبحانه وتعالى، فالطالع الخير أو السيئ هو عند الله، والأشياء في هذا الكون لا تملك لذاتها أن تكون مصدر خير أو مصدر شر، وأفضل ما يبتدئ به الإنسان عمله التوكل على الله، وإخلاص الإيمان بقدرته تعالى، وأن يتسلح بالأدعية المأثورة في المقام؛ ليقوي من قدرة النفس على مقاومة التوهمات والأفكار الخرافية.
2ـ العين والإصابة بها ــــــ
العين والإصابة بالعين من الظواهر التي تعرف انتشاراً واسعاً لدى جميع الشرائح الاجتماعية بمختلف مكوناتها البشرية، فلا يكاد يوجد مَنْ لم يسمع بها، أو يرَ آثارها، أو ابتلي بها أو أصاب بها غيره،أو حصل له الاعتقاد بقوتها.
وقد تحدث القرآن عن العين وقوتها حسب ما تذكر بعض التفاسير في قصة يعقوب×. فقد نقل عن لسان يعقوب حين تهيأ أولاده للسفر إلى مصر قوله: ﴿يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ…﴾. وقد ذكرت التفاسير التي تعرضت لهذه الآيات أن يعقوب× خشي على أبنائه الأحد عشر ضربة العين، فأمرهم بأن لا يردوا مصر من باب واحد، وأن يتفرقوا على أبوابها، فقد قال الشيخ الطبرسي: «خاف عليهم العين؛ لأنهم كانوا ذوي جمال وهيئة وكمال، وهم إخوة، أولاد رجل واحد، عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدي وأبو مسلم.
وقيل: خاف عليهم حسد الناس إياهم، وأن يبلغ الملك قوتهم وبطشهم، فيحبسهم أو يقتلهم خوفاً على ملكه»([12]).
وهذا ما أورده العلامة الطباطبائي، حيث قال: «يفهم من سياق القصة أن يعقوب كان يخاف على حياة أولاده، ولم تكن علة خوفه أن عزيز مصر سيرى فيهم صفاً واحداً قوي البنية متوحد الكلمة، فيعقوب× كان يعلم أن عزيز مصر سيجمعهم، ولو دخلوا متفرقين، وسيطلبهم جميهم، ولو كانوا شتاتاً في مصر، كما أنه كان يعلم أن عزيز مصر يعرف أنهم إخوة أحد عشر نفراً، وأنهم أبناء رجل واحد، هو يعقوب النبي×، ولكن خوف يعقوب كان ـ كما أشارت إلى ذلك بعض التفاسير ـ لأنهم أبناء رجل واحد، ورؤيتهم مجتمعين ستجلب إليهم العين، أو أن اجتماعهم في زمان ومكان واحد سيتسبَّب لهم في حسد الناس لهم، أو لعل جمعهم سيكون سبباً في نصب الشراك لهم، أو التفكير في قتلهم جميعهم، فكان أمر يعقوب× لهم بأن يدخلوا من أبواب متفرقة؛ ليدفع العين، ويبرد من نار الحسد، كما أنه وسيلة لتثبيط عزيمة أهل السوء»([13]).
وتذكر كتب التاريخ: «أن الكفار استأجروا إحدى نساء بني أسد المشهود لها بقدرتها على الإصابة بالعين، فطلبوا منها أن تصيب الرسول الأكرم| بالعين، حتى يعتل ويسقط، فأنزل الله عليه آخر سورة القلم، يبين له قصد الكفار ونياتهم، وحتى يعلم رسوله أن الله حافظه وعاصمه من أذاهم وكيدهم، وأنه في أمان من مكرهم وشرهم»([14]).
والآية من سورة القلم هي: ﴿وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾.
إذاً فالاعتقاد بأن العين خرافة ليس صحيحاً، بل العين واقع وحقيقة. فهناك عيون تملك طاقة تستطيع بها أن تجلب لمن أرادته بالسوء العلل والموت. وقد روي عن النبي الأكرم|: «إن العين حقّ، وإنها تدخل الجمل والثور التنور»([15]). كما روي عنه| أيضا أنه قال: «إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر»([16]). وقال| كذلك: «إن العين تستنزل الحاق»([17])، بمعنى أن للعين قوة تسقط الجبل الشامخ، فتسويه أرضاً.
العين، الإصابة بالعين، العين اللوامة، عين الكمال، والإزلاق بالأبصار، كلّها مفردات تعبر عن الإصابة بالعين، ومنها: عاين بعين المختص، أو المعاينة بعين ذوي الخبرة. كل هذه التعبيرات وردت في القرآن وفي الأحاديث والروايات. وقد وجدها الإسلام من الاعتقادات الرائجة بين العرب. ولواقعية العين وحقيقتها فقد قبل الإسلام بها، ولكن بشكل كلي يتوافق وحدود واقعيتها، وليس بما أصبحت عليه اعتقادات الناس التي تجاوزت بها حدّ الواقع والمعقول. قد يكون للعين ـ انطلاقاً من الآيات والأحاديث ـ القدرة على تمريض الفرد أو الأسرة واستبدال حالهم من حسن إلى سوء، ولكن هذا لا يعني أن كل ما يعانيه الأفراد والأسر، وكل ما يجدونه في أبدانهم وأموالهم ومواقعهم العائلية أو المهنية وغيرها، سببه العين والإصابة بالعين. إن ما وصل إليه اعتقاد الناس في العين تخطى الواقع، وضخَّم من آثار العين وقدرتها، لتصبح قوة السوء التي تجوب الأجواء، وليصبح الأفراد يحسبون لها ألف حساب في كل خطواتهم، ويتحاشون العلاقات الاجتماعية، والحديث عن مشاريعهم، وأطفالهم، وأموالهم، وأسباب القوة لديهم؛ مخافة العين التي تخرق كل الحجب، ولا يوقفها سوى الالتجاء إلى أحضان العرّافين، ومَنْ يدَّعون العلوم الباطنية. وهكذا تحولَّت العين من تلك القوة المحدودة إلى القوة الخارقة، لتتحول بالتبع من حقيقة إلى خرافة تناقض الاعتقاد العقلاني، وتتحوّل بالتالي في تجاوزاتها إلى واحدة من الخرافات التي تنتشر في المجتمعات تحت زعم أن الدين اعترف بها وأقرّها.
وقد كتب الشيخ مطهري في معرض تفسيره للآية: ﴿وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾: في معالجة الموضوع لابد من طرح مقدمتين: الأولى: إنه إذا كان للعين واقعية وحقيقة فإنها حتماً ليست بالشكل الذي أصبح رائجاً في أوساط المجتمعات، ولا سيما في أوساط النساء، حيث أصبح الاعتقاد لديهم أن كل عين تصيب بالسوء، وأن كل العين البشرية تصيب بالأذى، وتزلق من رأته، فقد تجاوزوا في هذا كفّار الجاهلية الذين كانت لهم اعتقادات خرافية متعددة، فقد كانوا يعتقدون أنه يوجد بين الأفراد والقبائل فرد أو قبيلة لها القدرة على الإصابة بالعين، وليس كل الناس والأفراد.
إذاً فليس كل الأفراد لهم خاصية الإصابة بالعين، بل هناك أفراد قلائل يملكون هذه الخاصية.
والثانية: إذا كان لبعض الأفراد القدرة على الإصابة بالعين، ولهم هذه الخاصية دون غيرهم، فهل أن آية ﴿وَإِنْ يَكَادُ﴾ لها خاصية ردّ عينهم ونظراتهم وإبطال مفعول السوء فيها؟ لا نستطيع الإجابة بالإيجاب؛ لأننا نفتقد إلى سند شرعي، سواء كان حديثاً عن النبي الأكرم| أو رواية عن الأئمة الأطهار^ أو غيرها من الأدلة الشرعية والمدارك الفعلية.
إن ثبوت واقعية للعين، ومكان في عالم الحقائق الكونية، أو لا، مسألةٌ، وكون الآية ﴿وَإِنْ يَكَادُ﴾ تستعمل لإبطال مفعولها أو لا مسألة أخرى. فلم يصلنا عن النبي وأئمتنا شيء. لذا ليس من العقل ولا من الدين أن ندعي شيئاً لم يقولوا به.
المسألة تكمن في أن الإنسان له استعداد تكويني على فعل كل ما أشارت إليه الآية والأحاديث التي سقناها للغرض، فالقدرات الروحية للإنسان تحتاج إلى المزيد من المعرفة والكشف. في القرآن العديد من الآيات التي تتحدث عن قدرات النفس، والتي تعبِّر بشكل عالٍ عن خصوصياتها رواياتٌ عديدةٌ صدرت عن النبي الأكرم والأئمة الأطهار^ في نفس الموضوع، لكن لم تلقَ كل تلك الآيات والروايات ذاك الرواج والانتشار الذي لقيته الآية ﴿وَإِنْ يَكَادُ…﴾، فلايكاد يخلو منزل منها، فأنت أينما ولَّيت تجدها معلَّقة أمامك، وكأنهم يريدون أن يقولوا بها: «عميت عيناك فلا ترانا بسوء، وضعنا هذه الآية هنا حتى تصرف عنا سوء نظراتك».
هذا التصرف يعكس أنانية الفرد من جهة، كما يعكس سوء الظنّ بالآخرين.
الآن ما هو منشأ هذا الاعتقاد؟! هل الإصابة بالعين حقيقة أم مجرد وهم؟ إذا كانت حقيقة فما هو مصدرها؟ الجسم بمعنى الجانب المادي في الإنسان أم هي مسألة تعود إلى النفس والروح في البشر؟ بشكل إجمالي للعين حقيقة، إلا أن بعض العلماء المعاصرين يرون أن لبعض الأعين خاصية الإصابة، أي إن لها أشعة تصدرها بحيث تؤثِّر سلباً في الأشياء التي تلقاها، وبالأخص إذا تمت بشكل مخصوص. ولعل قبول مثل هذا الكلام في الفترات المتقدمة عنا كان سيعدّ ضرباً من الخيال، فكيف يكون للعين شعاع أو أشعة تصدرها عند الرغبة بحيث تفلق الحجر؟! لكن اليوم؛ ولكون الإنسان قد توصل علمياً وعملياً إلى مثل هذه الأشعة، حيث اكتشف أن الطبيعة تزخر بأمواج شعاعية متعددة تستطيع فعل أشياء وأشياء، أصبح الحديث عن أشعة العين، وأن لها القدرة على إدخال الثور القدر، أمراً لا يستدعي الغرابة»([18]).
لم يترك الإسلام أتباعه تائهين حائرين في أسلوب التعامل مع هذا الشكل من الأمواج والأشعة التي تصدر من بعض العيون، فقد كشف القرآن، كما الروايات، هذه الخصوصية، فهل ترك الناس ليجابهوا مصيرهم بأنفسهم غير مدركين لطرق توقّيها وحبس بلواها ؟ فيكونون بذلك من ذوي العذر إذا رموا بأنفسهم في أحضان الكهنة والعرّافين يداوون أنفسهم ببدعهم وخرافاتهم؟
تحدث القرآن، كما الروايات، عن العين وما لها من القدرة، لكنَّهما في نفس الوقت عيَّنا وشخَّصا أسلوب توقّي شرّها ودفع ضررها. فالطريق الوحيد لردّ العين وتخليص الإنسان من شرها، وفتح الباب أمام سعادته الدنيوية والأخروية، هي:
أـ الإيمان القاطع بأن لا مؤثِّر في الوجود إلا الله سبحانه وتعالى. فيعقوب× حين وقف أمام باصريه أولادُه الأحد عشر نظر إلى صفهم، وقدرتهم، وما حباهم الله به من حسن وجمال، وقوة وهيبة، فتحركت نفسه فرقاً عليهم، فأمرهم أن لا يدخلوا من باب واحد، وأن يتفرقوا على أبواب مصر، لكنه ومن دون فاصلة قال لهم: ﴿وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الحُكْمُ إِلا للهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ﴾. لقد أراد أن يعلم أبناءه أن دخولهم من أبواب شتى ليس علة تامة في حفظهم من البلاء، وليس سبباً مستقلاًّ في ردّ كلّ شرّ، بل الله الواحد هو القادر لوحده على دفع الضرر عنهم، والقادر الوحيد على حفظهم من كل بلوى، فهم في كل لحظة محتاجون إلى الله سبحانه وتعالى، وفي فقر إليه وإلى عنايته، وإن دخولهم من أبواب متفرقة لن يكون سبباً في نجاتهم إلا إذا أذن الله بذلك وأراده.
ب ـ التوكل على الله. فيعقوب أراد من أولاده حين دخولهم مصر كما أمرهم أن يتوكلوا في أمرهم على الله، بحيث يردِّدون وهم في حالة الدخول: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ﴾. فيعقوب النبي× وهو في حالة توديع أبنائه وما يرافق هذه الحالات عادة من إرباك واضطراب لم يغفل أن يذكرهم بأن المسبِّب الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى، فلا مسبِّب فوق سببيته، وتوصياته لهم تحتاج إلى مسببية الله، فالله هو الغني، وإرادته هي الإرادة الفعلية التامة. فكما هو متوحِّد في ألوهيته فلا إله غيره كذلك هو متفرِّد في تسبب الأسباب.
ج ـ الدعاء. فمن جملة الوسائل التي جعلها الله للإنسان حتى يكون في حفظه، ويأمن لنفسه البعد عن العيون وأشباهها التي تجري له في السوء والمضرّة، أن يلتجئ إلى الله بالدعاء.
الدعاء يغلق الأبواب على كل سوء، ويقرِّب الإنسان من ربه، كما يجعل قلبه مطمئناً في ظل كنفه ورحمته. فلكي يبقى الإنسان في مأمن من أشعة أعين الحاسدين الذين يرمقونه ويريدون به السوء عليه بالدعاء. وقد نقل العلامة المجلسي عن «دعائم الإسلام» أن الإمام الصادق× قال: «كان رسول الله| يجلس الحسن على فخذه اليمنى والحسين على فخذه اليسرى، ثم يقول: أعيذكما بكلمات الله التامة، من شرّ كل شيطان وهامة، ومن شر كل عين لامة، ثم يقول: هكذا كان إبراهيم× يعوذ ابنيه إسماعيل وإسحاق’»([19]).
وروي أن بني جعفر بن أبي طالب كانوا غلماناً بيضاً، فقالت أسماء بنت عميس: يا رسول الله، إن العين إليهم سريعة، أفأسترقي لهم من العين ؟ فقال: نعم.
وروي أن جبرائيل× رقى رسول الله|، وعلّمه الرقية، وهي: «بسم الله أرقيك من كل عين حاسد الله يشفيك»([20]).
دـ الذكر. أن يداوم على الذكر قلباً وقولاً بالتكبير، والتسبيح، والتحميد، والتهليل والحوقلة، وهي قول لا حول ولا قوة إلا بالله.
فقد أراد الله من عباده أن يفتتحوا أبواب السعادة والأمان من كل سوء بذكره، والمداومة عليه. وقد قال سبحانه وتعالى في محكم كتابه: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ (البقرة: 152)؛ ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ﴾ (آل عمران: 41)؛ ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ﴾ (آل عمران: 191)؛ ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُن مِّنَ الغَافِلِينَ﴾ (الأعراف: 205)؛ ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾ (الرعد: 28)؛ بالإضافة إلى العديد من الآيات الأخرى التي تحدثت عن أهمية الذكر وعلو شأنه. كما أن الدارس لحياة الأئمة الأطهار ينكشف أمامه الكثير من الأحاديث والروايات التي تحمل مقاطع جزئية أو تامة لأذكار فاقت في حسن نظمها وتآلف عباراتها كل الروعة والجمال، أذكار كانت تلهج بها ألسنتهم، وتتألق بها قلوبهم في مراتب الكمال، أذكار شأنها الابتعاد بالنفس عن الوساوس والاضطرابات، وتزيدها اطمئناناً وتوكلاً على الله في كل كبيرة وصغيرة، فتترفع عن أن تعيذ نفسها إلا بالله الذي وهبها الحياة والرزق، ولا تهرب بفكرها إلى ما سواه، حيث لم تعُدْ ترى في سواه سوى الفقر والضعف وفقد الحول والقوة.
وإن الإمام الصادق× ليعجب من ذاك الذي يؤمن بالله ويجد في من سواه ملجأً؟!، فإذا كان لا مهرب منه إلا إليه فما بالك بالهروب ممَّن سواه، ممَّن لا حول له ولا قوة، إلا أن يكون إليه سبحانه وتعالى، دواء كل داء، وكهف كل هارب، حسن الاعتقاد بالله، والاعتقاد الكامل بمالكيته وقدرته. وقد أرشد الإمام× أتباعه إلى القرآن، وبيَّن لهم أن لا أمان إلا في ما حدّث به القرآن، قائلاً: «عجبت لمن فزع من أربع كيف لا يفزع إلى أربع: عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله: ﴿حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ﴾ (آل عمران: 173)، فإني سمعت الله عز وجل يقول في عقبها: ﴿فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾؛ وعجبت لمن اغتم كيف لا يفزع إلى قوله: ﴿لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (الأنبياء: 87)، فإني سمعت الله عز وجل يقول في عقبها: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي المُؤْمِنِينَ﴾؛ وعجبت لمن مكر به كيف لا يلجأ إلى قوله: ﴿أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ﴾ (غافر: 44)، فإني سمعت الله عز وجل يقول في عقبها: ﴿فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾؛ وعجبت لمن أراد الدنيا وزينتها كيف لا يفزع إلى قوله: ﴿مَا شَاء اللهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ﴾ (الكهف: 39)، فإني سمعت الله عز وجل يقول في عقبها: ﴿إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً * فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ﴾ (الكهف: 40)، وعسى موجبة»([21]).
و لعلو شأن الذكر كما جاء في القرآن، فهو يحيط المؤمنين الذاكرين بسياج الأمان، ويحكم قلاع ملجئهم وملاذهم. لذا نجد رسول الله| يأمر أصحابه: «العين حق، فمن أعجبه من أخيه شيء فليذكر الله في ذلك، فإنه إذا ذكر الله لم يضرّه»([22]).
وعن أنس أن رسول الله| قال: «من رأى شيئاً يعجبه فقال: الله الصمد، ما شاء اله لا قوة إلا بالله، لم يضرّه شيئاً»([23]).
وروي عن الإمام الصادق× أنه قال: «… والعين حق، والفأل حق، فإذا نظر أحدكم إلى إنسان أو دابة أو إلى شيء فأعجبه فليقل: آمنت بالله، وصلى الله على محمد واله، فإنه لا يضرّه عينه»([24]).
إذاً فالآيات والأحاديث تحدثت عن حقيقة العين وأن علاجها يكمن فقط في التوكل على الله والتوسل بالآيات والأدعية الواردة في نفس الغرض، أما الالتجاء إلى غيرهما، ممّا يقول به العرّافون والمشعوذون، فإنه لا يزيد أتباعهم إلاّ رهقاً.
وقد كتب محمد تقي شريعتي في تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ قائلاً: «لقد ثبتت روايات كثيرة عن النبي الأكرم| وعن أهل بيته يأمرون الناس بحفظ أنفسهم من الإصابة بالعين التي يصدرها الحاقدون والحاسدون، وذلك بتعويذ أنفسهم بالأدعية والآيات القرآنية التي أتت في هذا الموضوع، والتعويذ في هذه الآية رغم كونه قد وجه إلى النبي الأكرم|، إلا أنه خطاب عام يشمل كل المسلمين؛ بقرينة أن عموم المسلمين مأمورون بتعويذ أنفسهم بالله. ورغم أن بداية السورة قد تحدثت عن شر جميع المخلوقات فإن تخصيص ثلاثة أنواع من الشر بالاسم كان هو توجه السورة في الأساس: 1ـ شر الغاسق؛ 2ـ شر النفاثات؛ 3ـ شر الحاسد، ولعل السبب في تخصيص هذه الثلاثة دون غيرها يرجع إلى كونها مصدر معظم البلوى. ولعدم قدرة الإنسان على الوصول إليها؛ لخفائها، فهي أمور مخفية، ومع فرض اطلاع الإنسان عليها فإنه لا يملك قوة دفعها وإبعادها عنه، خُصَّت دون غيرها. فهو في معرض عين الحسود ونفسه ماذا في استطاعته فعله لردعها ودفع شرّها عنه؟ فالإنسان لا يملك وسيلة لمعرفة كون فلان أو فلان يكنّ له الحسد، فهي من الكيفيات النفسانية، كما سبقت الإشارة، وهي أمور غير مادية حتى يمكن القول: إن للبشر إمكانية ردعها، وحيث إنها ليست كذلك يصبح الإنسان بفقره الوجودي عاجزاً عن التصدي لها وردّ شرّها عنه، فلا يبقى أمامه سوى الالتجاء إلى حمى الذات العالية والاستعاذة بها، فحول الله وقوته هي الملاذ وهي المفزع الذي تفر إليه الخلائق معترفة بعجزها وخوفها، والاستجارة به من العين والحسد وأمثالهما لا ترد ولا تخيب»([25]).
3ـ الحلم، الرؤيا، والتعبير ــــــ
عُبِّر بالحلم والرؤيا عمّا يراه الإنسان في منامه. وقد ذكر القرآن الأحلام والرؤى التي كانت محطات مصيرية في حياة بعض الأنبياء والرسل.
ومن الرؤى التي تحدث عنها القرآن: رؤيا خليل الله إبراهيم×([26])؛ ورؤيا نبي الله يوسف×([27])، ورؤيا صاحبي يوسف× في السجن([28])، ورؤيا ملك مصر([29])، ورؤيا الرسول الأعظم‘ حول فتح مكة: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاء اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ﴾ (الفتح: 27)، وتلك الرؤيا التي رأى فيها النبي| تلك الفتنة التي سيتعرض لها المسلمين بعده، فيتولى أمر المسلمين سلالة الشجرة الملعونة في القرآن: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ﴾ (الإسراء: 60).
ولقد اعتبرت الأحاديث أن الرؤى والأحلام جزء من النبوة. قال رسول الله|: «الرؤيا الصالحة يبشر بها المؤمن، وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة»([30]). وفي رواية أخرى: «الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءاً من النبوة»([31]).
ولقد كانت الأحلام والرؤى التي يراها الإنسان في منامه في كل زمان ومكان سبباً في ظهور علم تعبير الرؤى وتأويلها([32]).
لقد قص يوسف× رؤياه على أبيه يعقوب النبي×، فعلم يعقوب أن لابنه يوسف شأناً عظيماً، فقال: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (يوسف: 6)، فقد اتضحت ليعقوب× معالم النبوة التي جعلها الله في يوسف× من خلال الرؤيا التي سمعها منه.
وقد عرف يوسف بتعبيره للرؤيا في بيئة اهتمت كثيراً بالأحلام، لدرجة أن كهنة معابد مصر في زمن الفراعنة كانوا مختصين بتعبير الرؤى والأحلام.
ولما عمل يوسف× على تأويل الرؤى والأحلام كان يشير إلى أنها هبة رحمانية لا دخل للبشر فيها، فليس تأويل الأحلام من العلوم التي يمكن أن يتصدى لها كل من هبّ ودبّ، فينسج خيوطها ويعرضها بضاعة تضيع فيها الحقيقة بين كثرة الزور فيها، بل هي منحة ربانية وتعليم إلهي لا ينالها إلا مَنْ اختارهم الله لذلك واصطفاهم , وقد أدرك أولئك الذين يعيون أنفسهم في الوصول إلى تأويلها وتعبيرها أن نقطة النهاية أكثر تيهاً من نقطة البداية.
ولقد قسَّمت الأحاديث الأحلام إلى أقسام عدة، حيث نجد بعض الروايات تقول بثلاثة: «بشارة من الله للمؤمن، وتحذير من الشيطان، وأضغاث أحلام»([33])؛ وأخرى تقول بأربعة: «رؤيا من الله تعالى، ولها تأويل؛ ورؤيا في وساوس الشيطان، ورؤيا من غلبة الأخلاط؛ ورؤيا من الأفكار، وكلها أضغاث أحلام، إلا ما كان من قبل الله، التي هي إلهام في المنام»([34]).
فالرؤيا الوحيدة التي تحتاج إلى تأويل وتعبير هي تلك التي تكون من قبل الله، وهي إلهام إلهي، أما غيرها فهي من الأحلام التي لا تستدعي الاعتناء، ولا تتطلب إتلاف الوقت والمال. كتب العلامة محمد جواد مغنية حول الأحلام فقال: «والذي نراه أن الأحلام على أنواع: منها ما هو انعكاس لعادات الإنسان وتفكيره، كالفيلسوف يرى أنه يناقش أفلاطون وأرسطو، والمسلم يصلي في المسجد، والمسيحي يصلّب في الكنيسة، والفلاح يزرع، والباني يبني، وما أشبه ذلك. وهذا النوع واضح، ولا يختلف فيه اثنان؛ لأنه يحمل تفسيره معه؛ ومنها ما هو غريب عن حياة الحالم وتفكيره، كرؤيا الملك البقرات والسنبلات..، وما هو بفلاح، ولا براعي بقر، وجاءت رؤياه إنذاراً بما حدث من الجدب بعد الخصب؛ ومنها ما يقع في اليقظة، تماماً كما رآه الإنسان في منامه دون زيادة أو نقصان.. وهذا نادر جداً، ولكنه حدث قطعاً، وحتى الآن لم يهتدِ العلم إلى تفسير هذا النوع، والنوع الذي قبله، وقد يهتدي إليه في المستقبل القريب أو البعيد..
و فسَّرهما البعض بالصدفة.. وليس من شكّ أن الصدفة هي ملجأ العجزة، وقال آخر: إنهما نتيجة لحاسّة في الإنسان نجهل كنهها.. وهذا أيضاً من العجز.
و في سنة 1956 رأيت في ما يرى النائم المرحوم أخي الشيخ عبد الكريم، وكان قد مضى على وفاته عشرون سنة، وأخبرني عما سيحدث وعيّن الوقت، فكان كما قال.. وبعد هذا بسنوات رأيت رؤيا فصدقت، وكانت سوءاً كالأولى، فقلت لصديق لي مداعباً: إن رؤيا الشر تصدق، دون رؤيا الخير.. وحين وصلت في التفسير إلى أول سورة يوسف قرأت هذه العبارة للرازي: «اعلم أن الحكماء يقولون: إن الرؤيا الرديئة يظهر تفسيرها عن قريب، فتعجبت، وتذكرت قول الشاعر البائس:
فإن أرَ خيراً في المنام فنازح |
وإن أر شرّاً فهو مني مقرب |
والخلاصة أنه لا يوجد ضابط كلي يمكن الاعتماد عليه في تفسير الأحلام بكاملها؛ لأنها أنواع متضادة متباينة؛ فمنها ما هو صدى لوساوس النفس وظروفها، وهذا النوع واضح بوضوح مصدره؛ ومنها ما هو صورة طبق الأصل عن الحادث الذي يقع في اليقظة بعد الحلم، وهذا النوع نجهل سرّه؛ ومصدره. ومنها ما هو رموز وإشارات مسبقة إلى الواقع المحسوس قبل وقوعه، كالكواكب التي سجدت ليوسف، والخبز الذي حمله الفتى المسجون فوق رأسه، والبقرات والسنبلات التي رآها ملك مصر، وهذا كسابقه لا نعرف له سراً ولا مصدراً. أما من قال بأن هذا النوع والذي قبله بشرى من الله، أو حاسة في الإنسان، فقد ادّعى لنفسه العلم بالغيب، ولا يرضى أن ينسب إلى الجهل، حتى بما حجب الله علمه عن عباده»([35]).
بعد أن تبين أن الرؤيا الصالحة ليست مقتصرة على الأنبياء والرسل، وأن الأفراد العاديين يمكن أن تكون لهم رؤى، والتي قد تحمل لهم بشرى أو إنذاراً وإشارات إلى سوء الحال، فقد تتضح بعض ملامح المستقبل بالنسبة لهؤلاء في تلك الرؤيا، وقد أثبتت التجربة أن الرؤيا كانت مقطعاً حاسماً في حياة بعض الأفراد، إلا أن الإسلام لم يركِّز على الرؤيا، ولم يعتبرها المسير الحقيقي لحياة الأفراد، وخصوصاً إذا كانت من الرؤيا التي لم تحمل خيراً لصاحبها.
إن الكثير من الأحاديث قد دعت إلى إهمال الأحلام التي تنذر بالشر، ودعت إلى عدم الاهتمام بها وتوقيف الحياة عليها. وليست كل الرؤى تستحق منا عناء تأويلها وتعبيرها، بل فقط يكون ذلك للرؤيا التي تحمل البشرى من الله تعالى، وهي التي اعتبرت جزءاً من النبوة التي تتجلى في قلب الإنسان بخيرها.
ومع غياب قاعدة كلية لتأويل وتعبير الرؤيا يبقى ما يقوم به المعبِّرون مجرد حدس، اللهم بعض الخطوط التي أشار إليها المعصومون في تعبيرهم لبعض الرؤى. لذا تبقى الضابطة الكلية التي ننطلق منها هي ما روي عن النبي الأكرم والأئمة الأطهار^، فقد قال رسول الله|: «إذا رأى أحدكم الرؤيا الحسنة فليفسرها وليخبر بها، وإذا رأى الرؤيا القبيحة فلا يفسرها ولا يخبر بها»([36]). وفي رواية أخرى: «الرؤيا على رجل طائر ما لم يعبر، فإذا عبرت وقعت، ولا تقصها إلا على واد وذي رأي»([37]). وفي رواية ثالثة: «الرؤيا لاتقص إلا على مؤمن خلا من الحسد والبغي»([38]). وقال| أيضاً: «لا تقص الرؤيا إلا على عالم أو ناصح»([39]).
إن اتّباع هذه الأوامر الإرشادية، التي تدعو إليها هذه الروايات وغيرها كثير، تقلِّل من اهتمام الأفراد بما يرونه في منامهم، فلا تجعلهم ينشغلون بها أيما انشغال، بحيث إن هناك مَنْ يقضى ليالي وأياماً مستغرقاً في تعبير رؤياه هنا وهناك، حتى أن حياته لتتوقف على ذلك التعبير. وهذا ما لم يُرِدْه الإسلام، فإن الأحلام من الظواهر الكونية. ومادامت تقع في فترة قد رفع القلم فيها عن الإنسان فهي لا تستحق اهتماماً مبالغاً فيه. فلا دخل للإنسان فيها من جهة الفعلية، كما أنها خارج دائرة التكليف. فكل اهتمام مبالغ فيه يخرج الفرد من دائرة العقلنة إلى الخرافة؛ وذلك لأن الخيوط التي تركها لنا المعصومون قليلة، تلميحاً منهم إلى عدم الانكباب على الأحلام، إذ لا مصيرية لها في حياة الفرد، وبالتالي فإن الانشغال بها يدفع إلى الإقبال على مَنْ ليسوا أهلاً للتعبير والتأويل، ممَّن يخوضون في الأمور وليسوا بأهلها من العرّافين والمشعوذين…
ـ يتبع ـ
الهوامش:
([3]) الطبرسي، مجمع البيان 5: 249، تصحيح وتعليق: السيد هاشم رسولي محلاتي، المكتبة العلمية الإسلامية، طهران.
([4]) بحار الأنوار 20: 333، مؤسسة الوفا، بيروت.
([5]) حياة الحيوان 1: 664؛ عباس القمي، سفينة البحار 5: 363، أسوة.
([6]) محمد ري شهري، ميزان الحكمة 7: 3344، ترجمة: حميد رضا الشيخي، دار الحديث.
([13]) دائرة المعارف الشيعية 5: 565.
([14]) دائرة المعارف الشيعية 5: 565.
([17]) المصدر نفسه: 6؛ مجمع البيان 5: 380.
([18]) مطهري، معرفة القرآن 8: 333 ـ 336.
([21]) بحار الأنوار 90: 184 ـ 185.
([25]) محمد تقي شريعتي تفسير نوين: 424 ـ 425، مكتب نشر الثقافة الإسلامية.
([32]) مقدمة ابن خلدون 2: 992، ترجمة: محمد بروين كنابادي، نشر كتاب طهران، 1359هـ. ش.
([35]) محمد جواد مغنية، تفسير الكاشف 4: 504 ـ 506، ترجمة: موسى دانش، بوستان كتاب، قم.