أحدث المقالات

قراءة نقدية استدلالية

الشيخ محمد إبراهيم جناتي(*)

ترجمة: السيد حسن علي حسن

(a)      مقدمة

يجب قبل الدخول في البحث التنويه بأنّ حكم الرجم يدخل في إطار الأدلة الفقهية الاجتهادية، والعناصر الاستنباطية الرئيسة، وهي: كتاب الله، وسنة رسوله وأوصيائه. كما يشتمل كذلك على تحقيق نظرية فقهية واجتهادية مستنبطة، بعد إعادة النظر فيها وفي آراء وفتاوى المتقدّمين من الفقهاء. وليس لها أي ربط بقانون تحوّل الاجتهاد والأدلة، تبعاً للتحوّل في الزمان والشرائط التي تفضي بطبيعتها إلى حدوث تحوّل في الخصائص الداخلية أو الخارجية للموضوعات التي تستدعي حكماً جديداً. وطبعاً لست أنكر هذا القانون، بل هو صحيح من وجهة نظري بالكامل، وقد بنيتُ عليه الكثير من الآراء والفتاوى الفقهية الحديثة، وعرضتُها في الكتب والصحف والمجلات، إلا أنّ مسألة الرجم لا تدخل في هذا السياق، بل إنّ حكمها يقوم على الأدلة الأولية.

إنني أعتقد بضرورة إعادة النظر في المسائل النظرية والفقهية الاجتهادية ـ أياً كانت ـ في ضوء المباني والأدلة الشرعية المعتبرة، وأن يتمّ طرح وجهة النظر المخالفة ـ التي هي مسألة طبيعية في المسائل النظرية ـ بحرية كاملة؛ وذلك لأنّ تكامل العلوم، وإدراك الحقائق، وإصلاح الآراء والأفكار، لا يتمّ إلا عبر البحوث العلمية، وتبادل الأفكار، والتفاهم الكامل بحرية تامّة.

فقد روي عن أمير المؤمنين× أنه قال: «اضربوا الرأي بالرأي، يتولّد منه الصواب»([1])، وروي عنه× أيضاً أنه قال في ذات السياق: «من استقبل وجوه الآراء، حفظ من الخطأ»([2]).

وقد أكدت التعاليم الدينية على مقولة النقد وتقبُّله كثيراً. من هنا كان النقد شائعاً في المراكز والمؤسسات العلمية والتحقيقية منذ القدم، سواء في المسائل النظرية أو العلمية، وقد خضعت لكثير من الاهتمام؛ بوصفها أمراً ضرورياً للغاية.

(b)     حدّ الرجم في ضوء مباني الفقه الاجتهادي

إنّ رجم الزاني والزانية من الأمور التي تذكر بوصفها من مسائل الفقه الاجتهادي. وقد كثر النقاش بشأنه في عصرنا الراهن، واعتبره أعداء الإسلام نقطة سوداء في التشريع الإسلامي. من هنا وجدت نفسي ملزماً بدراسته من زاوية المباني الفقهية المعتبرة؛ ليتضح ما إذا كان هذا الحكم ثابتاً فيه أم لا.

وسوف نتناول البحث عبر ثلاثة فصول:

الفصل الأول: بيان الأدلة الفقهية التي أقامها العلماء القائلون بمشروعية حكم الرجم.

الفصل الثاني: بيان الأسباب والظروف التي تستوجب حكم الرجم.

الفصل الثالث: بيان الشرائط التي يجب توفرها في من يتولى تطبيق هذا الحكم.

(c)      الفصل الأول: بيان أدلة الرجم

ذهب بعض الفقهاء؛ لإثبات حكم الرجم، إلى التمسّك بالأدلة التالية:

(d)     أ ـ الإجماع

إنّ هذا الدليل مخدوش من وجهة نظرنا:

أولاً: إنه إجماع منقول. وليس هناك من شكّ في عدم اعتبار هذا النوع من الإجماع.

وثانياً: إن هذا الإجماع مدركي. وقد ثبت في البحوث الأصولية أنّ الإجماع المدركي غير معتبر؛ إذ يتوقف اعتباره على اعتبار المدرك الذي يستند إليه، فيعود الاعتبار عندها إلى المدرك، وليس إلى الإجماع.

وثالثاً: مع فرض التسليم بأنّ هذا الاجماع لم يكن منقولاً، ولا مدركياً، بل هو إجماع محصَّل من طريق دراسة آراء الفقهاء على طول التاريخ، مع ذلك لن يكون هذا الإجماع معتبراً في حدّ نفسه، وإنما يكون معتبراً إذا كان كاشفاً عن سنّة رسول الله وأوصيائه. ولا يمكن لمثل هذا الإجماع أن يتحقق إلاّ من طريق خاص يكون كاشفاً عنه.

ويجدر هنا أن نبحث في الطريق الذي اعتمده الفقهاء المتقدِّمون والمتأخِّرون لبيان كاشفية الإجماع المحصّل عن سنة رسول الله وأوصيائه، ليتضح لنا هل أنه يثبت الكاشفية للإجماع أم لا؟

(e)      طريق كشف الإجماع عن قول المعصوم×

إذا بحثنا في الطرق التي أفادها البارزون من كبار العلماء والفقهاء، من قبيل: السيد المرتضى، والشيخ الطوسي، وأبي الصلاح الحلبي، والشيخ مرتضى الأنصاري، والشيخ النائيني، والسيد البروجردي؛ لإثبات كاشفية الإجماع المحصّل عن سنة رسول الله وأوصيائه، يتَّضح أنها مخدوشة بأجمعها. وقد ذكرنا وجوه الإشكال على هذه الطرق بالتفصيل في كتابنا «مصادر الاجتهاد من وجهة نظر الفقهاء، ومباني الاجتهاد من زاوية المذاهب الإسلامية»، ولكننا نحجم عن ذكرها هنا؛ رعاية للاختصار. من هنا يأتي السؤال: ما هو دور الإجماع في مقام الاستنباط؟ ذكرنا في كتابنا المشار إليه أنّ دور وتأثير الإجماع المحصل في عملية الاستنباط هو من قبيل قول العالم اللغوي الذي يرى وضع هذا اللفظ المعين لذلك المعنى. كما هو الحال بالنسبة إلى لفظ (الصعيد) الوارد في القرآن الكريم، فهل هو موضوع للتراب الخالص أو هو موضوع لمطلق الأرض؟ في مثل هذا الموارد يؤدي قول اللغوي إلى اطمئنان الفقيه، فيبيّن الفتوى انطلاقاً من فهم اللغوي.

(f)       ب ـ الأخبار

الدليل الثاني على ثبوت حكم الرجم هو الأخبار. وقبل الخوض في بيان هذه الأخبار يجب علينا ذكر مسألة باختصار، وهي:

نحن نعتقد بأنّ مضمون الخبر الذي نريد الاستناد إليه في مقام الاستنباط والوصول إلى الحكم الشرعي يجب أن يدرس من جهات أربع، وبعد ذلك يمكن اتخاذ ذلك الخبر وسيلة للاستنباط وإثبات الحكم الشرعي، وإلا لن نتمكن من إصدار الحكم على أساسه. وإنّ تلك الجهات الأربعة هي:

الأولى: ثبوت أصل صدور الخبر عن رسول الله أو أوصيائه من قبل العلماء والمختصين في علم الرجال وعلوم الحديث والدراية؛ ليتضح ما إذا كان الخبر صادراً عنهم أم لا.

الثانية: بحث جهة دلالة الخبر على الموضوع من قبل العلماء والمجتهدين في علم الفقه والأصول؛ ليتضح ما إذا كان الخبر يدلّ على المعنى المراد أم لا.

الثالثة: دراسة جهة صدور الخبر، وما إذا كان صدوره بداعي التقية أم لا، من قبل الخبراء بعصر صدور الخبر والظروف والشرائط المحيطة به.

الرابعة: دراسة الخبر من جهة ما إذا كان له معارض أم لا.

فإن خرج الخبر سالماً من خلال هذه الفلاتر الأربعة، بأن ثبت أصل صدوره، وتمامية دلالته، وبيانه للحكم الواقعي، وعدم وجود المعارض له، أمكن الاستناد إلى مثل هذا الخبر لاستنباط الحكم الشرعي.

(g)      الأخبار الصريحة بحكم الرجم

إنّ الأخبار التي استدل بها لإثبات حكم الرجم هي:

الرواية الأولى: قال أبو هريرة: جاء ماعز بن مالك إلى النبي| فقال: إني زنيت، فأعرض عنه، ثمّ قال: إني زنيت، فأعرض عنه، ثم قال: إني زنيت، فأعرض عنه، ثمّ قال: قد زنيت، فأعرض عنه، حتى أقرّ أربع مرات، فأمر به أن يرجم، فلما أصابته الحجارة أدبر يشتدّ، فأقبل رجل بيده لحى جمل، فضربه، فصرعه، فذكر للنبي فراره حين مسته الحجارة، فقال|: فهلا تركتموه([3]).

ومثله عن عبد الله بن بريدة عن أبيه([4])، مع فارق أنّ رسول الله| سأل قوم ماعز عن اكتمال عقله، فلما شهدوا له بكمال العقل أمر برجمه.

(h)     دراسة ونقد

أولاً: لم يثبت أصل صدور هذا الخبر عن المعصومين من الناحية السندية، فراويه هو أبو هريرة، ولم يكن هناك مَنْ يجاريه في وضع الحديث، فكان يروي موضوعاته إلى كعب الأحبار اليهودي، وكان الأخير يروي له عن التوراة. وكانا من أهل اليمن، وكانا على صلة ببعضهما قبل الإسلام. وقد ردّ روايته حتى خلفاء وأئمة السنة ممَّن عاصره. وقد أسلم بعد خيبر، ولم يصحب النبي| سوى ثلاث سنوات، ومات سنة 57هـ. وقد روى في هذه المدة آلاف الأحاديث للناس عن رسول الله، دون أن يأتي بشاهد على سماعه. الأمر الذي أثار عليه سخط الخلفاء، ومنعوه من الرواية. وقد نقل السائب أنه هدد أبو هريرة وكعب الأحبار أنهما إنْ لم يكفّا عن الرواية لينفينّ أبا هريرة إلى أرض ديس، وكعب الأحبار إلى غزّة. وبناء على ما توصل إليه المحقِّقون فقد كانا كذّابين([5]). قال الجاحظ في كتاب التوحيد: «لم يكن [أبو هريرة ] ثقة في رواية الحديث عن رسول الله، ولم يوثِّقه علي, في روايته، بل كان يتهمه ويقدح فيه. وهكذا كان يفعل عمر وعائشة. وعلى الرغم من منع الخلفاء وكبار العلماء له عن رواية الحديث، فقد روى 7374 حديثاً، امتلأت بها المصادر الروائية لأهل السنة، وأكثرها صدر عنه بعد مقتل عثمان وظهور حكم معاوية بن أبي سفيان، فقد أخذ يلجأ إليه وضّاع الحديث، ويعمل هو بدوره على بثّها ونشرها في الأمصار كان أبو هريرة من الذين قدحوا في الإمام علي×»([6]).

ثانياً: إنّ هذا الخبر من الآحاد.

ثالثاً: إن هذا الخبر يتعارض مع ما سنأتي على ذكره من الأخبار، من قبيل: الخبر الثالث الذي يكتفى فيه بجلد الزاني، ونفيه عن البلد سنة، وفي بعضها الجمع بين الجلد والرجم.

وعلى أية حال لم يروِ أحاديث الرجم سوى أبو هريرة، ومن هو أسوأ منه، كزيد بن خالد ومَنْ هو على شاكلته، فلو كان هذا الحكم الشرعي ثابتاً واقعاً لنقله رواة الحديث.

الرواية الثانية: روى محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبان، عن أبي العباس، عن الإمام الصادق× أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله| وقال: إني زنيت، ثمّ جاء إليه الثالثة، فقال: إني زنيت، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقال رسول الله|: أبصاحبكم بأس [يعني به جنة ]؟ قالوا: لا، فأقرّ على نفسه الرابعة، فأمر به رسول الله|، فحفروا له حفيرة، فلما أن وجد مسّ الحجارة خرج يشتد، فلقيه الزبير، فرماه بساق بعير، فسقط، فعقله به، فأدركه الناس، فقتلوه، فأخبروا النبي| بذلك، فقال: هلا تركتموه، ثمّ قال: لو استتر ثمّ تاب لكان خيراً له([7]).

(i)        دراسة ونقد

أولاً: إنّ هذه الرواية غير تامة من الناحية السندية، فلا تكون معتبرة من قبل العلماء، ومنهم: الشيخ الطوسي، الذي أشكل على هذه الرواية؛ لوجود من لا يوثقه في سندها، فقد نقل عن ابن الوليد بشأن محمد بن عيسى بن عبيد ـ الوارد في سند الرواية ـ أنه قال: إنّ ما ينفرد بروايته عن كتب يونس غير معتبر. وقال عنه أبو جعفر بن بابويه في رجال «نوادر الحكمة»: إنّ ما ينفرد بروايته لا أرويه. وقد ضعَّفه الشيخ الطوسي في الفهرست.

وأما يونس ـ الوارد في سند الرواية أيضاً ـ فهناك من ذهب إلى القول بأنه أسوأ من محمد بن عيسى. ونقل الفضل بن شاذان عن الكشي أنه قال: إنه من الكذّابين.

وثانياً: لم يرِدْ في هذه الرواية ذكر للشرائط التي تجب مراعاتها في حكم الرجم، من معرفة الزاني بحكم الشرع، وكونه محصناً، وعاقلاً، ومختاراً.

وعلى أية حال فعلى الرغم من رواية هذا الحديث عن علي بن إبراهيم، وهو ثقة، إلا أن سائر سلسلة السند لا تتمتَّع بنفس الوثاقة، وعليه لا يمكن التمسّك بها لإثبات حكم الرجم.

الرواية الثالثة: عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أنّ رجلاً من الأعراب جاء إلى رسول الله| وقال: «يا رسول الله، أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم الآخر، وهو أفقه منه: نعم، فاقضِ بيننا بكتاب الله، وائذن لي، فقال رسول الله: قل، قال: إنّ ابني كان عسيفاً على هذا، فزنى بامرأته، وإني أخبرت أنّ على ابني الرجم، فافتديت منه بمئة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مئة وتغريب عام، وأنّ على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله|: والذي نفسي بيده، لأقضينّ بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك جلد مئة وتغريب عام، واغدُ يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، قال: فغدا عليها، فاعترفت، فأمر بها رسول الله| فرجمت»([8]).

(j)        دراسة ونقد

أولاً: إنّ هذه الرواية غير ثابتة سنداً؛ لانتهائه إلى أبي هريرة وزيد بن خالد، وأهل الاستنباط لا يرَوْن وزناً لرواياتهما.

وثانياً: إنّ هذه الرواية تنافي الرواية المتقدمة التي رواها أبو هريرة نفسه بشأن رجم الزاني، كما تنافي حديث ابن ماجة في سننه([9])، ومسلم بن حجاج عن بريدة.

وثالثاً: إنّ هذه الرواية تنافي الأخبار التي دلت على عدم مؤاخذة الجاهل بالحكم. ومن ذلك الرواية المأثورة عن النبي الأكرم|، وفيها: «رفع عن أمتي ما لا يعلمون». ففي هذه الرواية كان على أنس أن يسأل المرأة: «هل تعلم أن حكم المرأة المحصنة إذا زنت هو الرجم؟» وهل كانت مكرهة على فعل الزنا أم لا؟ وكيف يمكن لنا أن نعقل أنّ النبي الأكرم| لم يُعلمِ أنساً بذلك؟!

ورابعاً: لم يرِدْ حكم الرجم في الكتاب، فكيف نسب النبي| حكمه بالرجم في الرواية المذكورة إلى الكتاب؟! نعم لو قال النبي: أحكم بينكم، ولم يقيِّد حكمه بالكتاب، لما ورد عليه الإشكال المذكور.

وخامساً: كيف حكم على تلك المرأة بالرجم والحال أنّ هذا الحكم لا يثبت إلا بعد إقرار المرء على نفسه أربع مرات؟

كما أن هناك إشكالات أخرى على هذه الرواية، ومنها قَسَم النبي بأنه يحكم على أساس من كتاب الله! فهل هناك احتمال أنه يحكم على غير كتاب الله؟! ثم كيف يصدر النبي حكمه على المرأة غيابياً، ودون أن يسمع إقرارها على نفسها أربع مرات؟!

الرواية الرابعة: عن عبادة بن الصامت، عن النبي الأكرم| أنه قال: «خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهنّ سبيلاً، البكر بالبكر جلد مئة ونفي سنة، والثيّب بالثيّب جلد مئة والرجم»([10]).

(k)      دراسة ونقد

أولاً: إنّ هذه الرواية غير قطعية الصدور.

وثانياً: إنها تعارض ما تقدّم من الروايات؛ لأنّ تلك الروايات لم تجمع للمحصنات الزانيات بين الجلد والرجم، بل اكتفت بالرجم فقط. كما لم يحكم للبكر ـ سواء أكان ذكراً أم أنثى ـ بالجمع بين الجلد والنفي. وإنّ الحكم بالجمع ينافي السبيل الذي ذكر لهما في الآية الشريفة، إذ يقول تعالى: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً﴾ (النساء: 15)، ولكن يحتمل أن يكون المراد من السبيل هنا هو زواجهما.

وثالثاً: إنّ هذه الرواية تنافي الآية الثانية من سورة النور، الواردة في بيان الحكم؛ وذلك لأنّ تلك الآية لم تجمع بين حكمين للزاني والزانية، قال تعالى: ﴿الزَّانِيَة وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَة جَلْدَة وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَة فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ (النور: 2)، ومن الواضح أنه لا يمكن بيان جزء من الحكم ـ الذي هو مئة جلدة ـ وعدم ذكر جزئه الآخر.

 

الرواية الخامسة: عن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن نصر، عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير، عن الإمام الصادق× أنه قال: «الرجم حدّ الله الأكبر، والجلد حدّ الله الأصغر، وإذا زنى الرجل المحصن رجم ولا يجلد».

جاء في منتهى المقال أنّ أبا جعفر بن بابويه لم يروِ عنه أبداً، وأنّ الشيخ الطوسي قد ضعّفه أيضاً.

وهناك روايات أخرى لا تخلو هي الأخرى من ضعف في السند، فلا نرى ضرورة لذكرها.

(l)        الفصل الثاني: بيان الأسباب والشرائط التي تستوجب الحكم بالرجم

إنّ أسباب الحكم بالرجم عبارة عن:

أ ـ إقرار الشخص على نفسه بارتكاب الزنا.

ب ـ شهادة أربعة شهود عدول على تحقُّق الزنا.

(m)   1ـ شرائط إقرار المكلف بالزنا

يجب في من يقام عليه حد الزنا أن يتوفر على بعض الشروط، وهي:

1ـ أن يقرّ على نفسه بالزنا.

2ـ أن يكون بالغاً، وعاقلاً، ومختاراً.

3ـ أن يقرّ على نفسه أربع مرات.

وهناك من اعتبر أربعة إقرارات بالزنا في أربعة مواضع، مستنداً إلى الرواية التي تحدّثت عن قضية ماعز، فقد روي فيه أنه أقر على نفسه أمام رسول الله| في أربعة مواضع، وكان النبي في كل مرّة يحاول منعه من الاستمرار في الإقرار، ويقول له: لعلك قبَّلت، أو لعلك لامست، أو لعلك نظرت([11]). إلا أن هذا لا يدل على اشتراط تعدد المجالس في الإقرار بالزنا، وإنما يدل على إقرار الزاني على نفسه أربع مرات، وفي كل مرّة كان النبي| يعرض بوجهه عنه؛ ليصرفه عن مواصلة الإقرار. وذهب بعض آخر إلى عدم اعتبار تعدد المجالس للإقرار في الزنا، بل اكتفى بالإقرار أربع مرات ولو في مجلس واحد؛ وذلك للأصل، ولخبر جميل عن الإمام الصادق× أنه قال: «ولا يرجم الزاني حتى يقرّ أربع مرّات»([12])، حيث لم يشترط تعدد المجالس في الإقرار بالزنا في هذه الرواية.

إنّ اعتبار هذه الشروط في الروايات؛ لإثبات وجوب الحدّ، صريحٌ في أنّ الزنا من الأمور التي يحاول الشارع المقدّس أن يتستّر عليها قدر الإمكان، فإنّ عِرض المسلم يحظى بأهمية بالغة في المباني الإسلامية، وإنما أراد للمسلم أن يدرك عِظم الذنب، فيرتدع عنه ويتوب منه. ولذلك يتضح من مجموع الروايات أن على المتهم بالمعصية أن لا يقرّ بذنبه قدر الإمكان. ولذلك رأينا أن النبي‘ بعد كلّ إقرار لماعز كان يعرض بوجهه عنه.

(n)     2 ـ شرائط شهادة الشهود على الزنا

يجب أن تتوفر شروط في مَنْ يشهد بالزنا على غيره، وهي:

1ـ العدالة.

2ـ أن لا يكون قد أقيم عليه الحدّ، أي أن يكون من الذين أقيم عليهم حدّ القذف.

3ـ أن يبلغ عدد الشهود أربعة، فلا تكفي شهادة ثلاثة عدول، أو عدلين؛ لأنه ليس كسائر الحقوق التي تثبت بشهادة عدلين. ولذلك إذا شهد عدد من الأفراد بالزنا على آخر، ولم يبلغ عددهم أربعة، وجب عليهم حدّ القذف، ثمانون جلدة لكل واحدٍ منهم. قال تعالى في الآية الرابعة من سورة النور: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَة شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَة وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَة أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ﴾(النور: 4).

4ـ وضوح الشهادة، بأن يقول كل واحد من الشهود: «أنا رأيت بأمّ عيني دخول آلة الرجل وخروجها في آلة المرأة». وهذا مورد إجماع كافة فقهاء المذاهب الإسلامية. وهو صريح قول الإمام علي× إذ يقول: «لا يرجم رجل ولا امرأة حتى يشهد عليه أربعة شهود على الإيلاج والإخراج»([13]). وعن الإمام الصادق× أنه قال: «حد الرجم في الزنى أن يشهد أربعة أنهم رأوه يدخل ويخرج»([14]). وفي رواية عن أبي بصير أن الإمام لا يرى كفاية رؤية الإدخال والإخراج، بل يضيف إلى ذلك نوع الرؤية، وهي أن تكون الرؤية كرؤية من يشاهد دخول الميل في المكحلة: «لا يرجم الرجل والمرأة حتى يشهد عليهما أربعة شهود على الجماع والإيلاج والإدخال كالميل في المكحلة»([15]).

5ـ اتفاق الشهود في مقام الشهادة، بأن تتَّحد شهادتهم من حيث الزمان والمكان، فلو تخلَّف أحدهم وجب عليهم حدّ القذف.

إنّ اعتبار هذه الشروط لكلّ واحد من الشهود الأربعة في إثبات حكم الرجم دليل على الأهمية التي يوليها الإسلام لحفظ سمعة المسلم وصيانة عِرضه، وهذا ما تم التأكيد عليه في الروايات كثيراً.

ولا يخفى مدى التعقيد في إمكان الحصول على مثل هذه الشهادة، هذا من جهة. ومن جهة ثانية نجد أنّ التعاليم الإسلامية تنهى عن التجسس والكشف عن عورات الناس: قال تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا﴾(الحجرات: 12). وروي عن رسول الله أنه قال: «ادرأوا الحدود بالشبهات، وادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم».

(o)     الفصل الثالث: مَنْ يتولى إقامة حدّ الرجم على الزاني؟

إنّ على مَنْ يقيم الحد أن يتوفر على الشروط التالية:

1 ـ أن لا يكون من أهل المعاصي.

2ـ أن يكون من الشهود الذين ثبت عندهم الزنا من خلال المشاهدة.

3ـ الإمام×، إذا ثبت عنده الزنا بإقرار الشخص على نفسه.

4ـ أن يكون من الذين لم يثبت الحدّ في حقهم. فمن ثبت عليه الحدّ لا يستطيع أن يقيم الحدّ على غيره. وهناك روايات مأثورة عن المعصومين^ في هذا الشأن([16]). ولكن وقع الاختلاف فيما لو تاب هذا الشخص، فهناك روايات تقول بقبول توبته، فيسقط عنه الحدّ؛ لأنه حقّ الله، فيمكنه أن يقيم على غيره حدّ الرجم. ولكن ظاهر بعض الروايات الأخرى عدم جواز التصدي له حتى بعد التوبة([17]).

(p)     خلاصة واستنتاج

حيث ليس هناك دليل معتبر على مشروعية الرجم فإننا لا نقول به. وقد ذكرنا إشكال الإجماع في بداية البحث بالتفصيل. كما أشكلنا على الروايات أولاً: إنها ضعيفة بضعف السند؛ وثانياً: إنها من أخبار الآحاد؛ وثالثاً: إنها معارضة. وعلى فرض التنزّل فإنّ تحقق شروط الشهادة مستحيل في العادة، ومع التـنزُّل عن هذا أيضاً من المحال في العادة أيضاً أن تتحقق الشروط في مَنْ يقيم الحدّ. ومع غض النظر عن ذلك كله فإنّ أكثر حالات الرجم التي تطبَّق لا تراعي الشروط المأخوذة في الروايات مئة بالمئة.

(q)     كلمة الختام

في الختام أرى من الواجب أن أشير بشكل عابر إلى بعض الأمور:

الأول: لا شك في وجود بعض الأخبار والروايات الموضوعة في الأحاديث الشيعية. وكان سبب بعضها البغض والكراهية للشيعة، والبعض الآخر بسبب التطرّف والغلو في الحب. وقد بلغ عدد هذا الأحاديث الموضوعة الآلاف، وقد دونت الكثير منها، وضمنتها في كتاب سيرى النور في الوقت المناسب إن شاء الله. إنّ هذه الأحاديث الموضوعة لا يقتصر وجودها على المصادر الشيعية، بل هي في المصادر السنية أكثر من ذلك بكثير. ومع ذلك لا أجد حتى الآن مَنْ يشمّر عن ساعديه لتنقية المصادر الروائية منها. ومن الضروري أن تبادر المؤسسات العلمية إلى القيام بهذه المهمة من أجل الحفاظ على عظمة المباني الإسلامية.

الثاني: إننا نجد حكم الرجم موجوداً في التوراة، وكانت له بعض التطبيقات أيضاً. وهناك مَنْ يذهب إلى الاعتقاد بأنّ بعض المغرضين وأعداء الإسلام قد تعمّد اختلاق أحاديث الرجم وإدخالها في المصادر الإسلامية؛ للكيد بالدين الإسلامي.

ومن المناسب هنا أن نشير إلى ما تقدم ذكره من أن أبا هريرة وكعب الأحبار كانا على صلة وثيقة.

قال الزهري: أخبرني القاسم بن محمد أنّ أبا هريرة وكعب الأحبار كانا متلازمين (قبل الإسلام وبعده)، وكان أبو هريرة يروي له الأحاديث عن رسول الله|، وكان كعب الأحبار يروي له من كتب التوراة.

ولا يبعد أن تكون روايات الرجم قد تسرّبت إلى المصادر الإسلامية على يد هؤلاء اليهود.

نحن نذهب إلى الاعتقاد بأن التوراة قد تعرّضت للتحريف، وقد يكون حكم الرجم الوارد فيها من بين تلك الأمور المحرّفة في التوراة.

قال أحمد بن حنبل الشيباني إمام الحنابلة: سألت ابن أبي أوفى: هل رجم رسول الله أحداً؟ فقال: نعم، يهودياً ويهودية([18]). وهذه الرواية وإن كانت لا تخلو من الإشكال، ولكن لو قلنا باعتبارها يمكن القول بأنّ رسول الله| قد أقام حكم الرجم على اليهود؛ تطبيقاً لحكم التوراة عليهم.

الهوامش

______________________

(*)  أحد مراجع التقليد في إيران، وفقيهٌ بارز، عُرف عنه دراساته في الفقه المقارن وتاريخ الاجتهاد ونظريّاته التجديديّة والنقديّة.

([1]) غرر الحكم ودرر الكلم، ح2566.

([2]) المصدر السابق، ح2486.

([3]) ابن ماجة، السنن، ح2554.

([4]) مسند أحمد بن حنبل الشيباني 3: 2.

([5]) منتخب كنـز العمال: 61 (هامش مسند أحمد بن حنبل الشيباني).

([6]) انظر: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 3: 314 ـ 318، 1: 258 ـ 259.

([7]) الكليني، الكافي 7: 185؛ الطوسي، تهذيب الأحكام 10: 8.

([8]) صحيح مسلم: 5.

([9]) ابن ماجة، السنن: 2554.

([10]) مسند أحمد بن حنبل الشيباني 4: 476.

([11]) نيل الأوطار 7: 104، ح1.

([12]) تهذيب الأحكام 10: 8، ح21.

([13]) الكليني، الكافي 7: 184، ح2 و4 و5.

([14]) المصدر السابق.

([15]) المُكْحُلَة، بضم الميم وسكون الكاف وضم الحاء وفتح اللام، اسم للمكان، وهو الوعاء يحفظ فيه الكحل. ولكن القياس على فتح الميم والحاء؛ لأن هذه هي صيغة أسماء المكان، من قبيل: مقتل، ومضرب، ومقعد، وما إلى ذلك. ولكنه جاء على خلاف القياس. وهناك نظائر لذلك، مثل: مُدْحُن، الذي هو وعاء يحفظ فيه السمن.

([16]) الكليني، أصول الكافي 7: 188، ح3.

([17]) المصدر السابق: 185ـ 187.

([18]) مسند أحمد بن حنبل الشيباني 2: 275.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً