الشيخ مسعود إمامي(*)
ترجمة: الشيخ يوسف مدلج
مقدمة ــــــــ
تمثِّل «السلطنة المشروعة» إحدى النظريات التي ينسبها جمعٌ من المؤلفين المعاصرين إلى لفيف من كبار الفقهاء في العصرَيْن الصفوي والقاجاري، كالعلاّمة المجلسي، والميرزا القمي، والسيد جعفر الكشفي، والشيخ فضل الله النوري.
وعلى أساس هذه النظرية يكون لحكومة السلاطين المعاصرين لهؤلاء الفقهاء مشروعية، وتكون ولايتهم في عرض ولاية الفقهاء، بمعنى أن مشروعية حكومة السلطان ليست قائمة على إذن الفقيه الجامع للشرائط، بل هو كالفقيه يستمد مشروعيته من الإمام المعصوم× مباشرة، ولكن مع وجود فرق بين الأمرين، وهو أن الولاية المشروعة للفقيه تختصّ بالأمور الشرعية، كالإفتاء، والقضاء، واستلام الحقوق الشرعية، وإدارة الأوقاف، والولاية على المحجورين، وتكون ولاية السلطان في دائرة العرفيات، من قبيل: إقرار النظام، واستتباب الأمن في المجتمع، والمحافظة على سيادة وحدود البلاد، وتدبير شؤون الناس الاقتصادية والاجتماعية.
تهدف هذه المقالة إلى إثبات عدم وجود دليل واضح ومقنع على انتساب النظرية المذكورة إلى هؤلاء الفقهاء، بل إن هذه النسبة ناشئة غالباً عن الفهم الخاطئ لآثارهم وكلماتهم، بالرغم من أنه لا يمكن إنكار تأثير المناخ السياسي والاجتماعي على تفكير هؤلاء الكُتّاب، والذي كان سائداً بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وخصوصاً في عهد الحكومة الإصلاحية.
من الضروري قبل البحث في هذه النظرية أن نلقي نظرة سريعة حول مسيرة الولاية في الإسلام، وتبلور ذلك في أذهان فقهاء الشيعة على امتداد عصر الغيبة؛ لتتضح مكانة هذه النظرية في تاريخ الفكر السياسي عند الشيعة.
الحكومة في عصر الغيبة ـــــــ
يعتقد الشيعة أن الحكومة في زمن حضور الأئمة المعصومين^ محصورةٌ فيهم، وأن كلّ مَنْ يستولي على دفة الحكم في حضورهم يكون غاصباً. وبعبارة أخرى: العصمة شرطٌ في الحاكم([1]).
تبلور في أذهان الفقهاء في مستهل عصر الغيبة سؤال، وهو: ماذا يجب أن نصنع عندما يكون الإمام المعصوم حاضراً، وهو صاحب الحق في الحاكمية، ولكن يُحال بينه وبين ذلك، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى ثمة ضرورة عقلية تقضي بوجود حكومة؛ لتسيير النظام العام، وتنفيذ أحكام الشريعة([2])؟
لم يلجأ فقهاء الشيعة ومتكلِّموهم إلى إعادة النظر في هذا الأصل أو تغييره في سبيل الإجابة عن السؤال السابق، بل أصروا على غاصبية الحكام غير المعصومين، إلا أنهم تصدوا للإجابة عن كيفية التعامل مع الحكومات الغاصبة والمعاصرة لهم؛ من منطلق سدّ الحاجات الاجتماعية. وقد قاموا بتقسيم الحكّام إلى: عادل؛ وظالم. ومرادهم من السلطان أو الإمام العادل الإمام المعصوم× أو مَنْ كان مُعيّناً من قبله، ومن ثم قاموا بشرح الفرضيات المختلفة للتعامل مع السلطان الظالم، والأحكام الفقهية المتعلقة بذلك، وذكروا أربعة أقسام للقبول بولاية ووكالة الحاكم الظالم، وهي: واجب؛ وحرام؛ ومكروه؛ ومباح([3]).
وقد بقيت مثل هذه النظرة إلى حاكمية غير المعصوم تشكّل قسماً من الفقه السياسي للشيعة، منذ القدم وإلى يومنا هذا([4]).
والقسم الآخر من الفقه السياسي للشيعة في عصر الغيبة هو ما تجلّى في ميادين متعددة لولاية الفقهاء الجامعين للشرائط في بسط الأبواب الفقهية([5])، كالقضاء، وإقامة الحدود الشرعية، واستلام الخمس والزكاة، وإنفاقها في وجوهها، وإقامة مراسم الجمعة، والولاية على الأيتام والمحجورين، وإجراء عقود الزواج، والفصل في أمر الطلاق في موارد خاصة، وفي جوانب أخرى.
لم يكن مطروحاً في عصر الغيبة، وحتى أوائل القرن العاشر الهجريّ، أية نظرية سياسية في الفقه الشيعي حول الحاكمية والولاية السياسية المشروعة. ولكن مع تشكيل الدولة الصفوية بداية القرن العاشر، وبعد ذلك الملوك القاجاريين، تبدّل المنحى العملي لدى الفقهاء ـ زيادةً ونقصاناً ـ تجاه الحكومة في عصر الغيبة.
وقد كان الملوك الصفويون ـ خلافاً للحكام السابقين في إيران ـ حكاماً شيعةً، وأقوياء، وكان هدفهم الدفاع عن التشيُّع وأتباعه. ولكي ينالوا المشروعية والمقبولية في أوساط الشيعة كانوا بحاجة إلى مساعدة علماء الشيعة وفقهائهم.
من جهة ثانية اغتنم الكثير من الفقهاء والعلماء الشيعة هذه الحالة المستجدّة؛ للارتقاء بأهدافهم الدينية. ومن هذا المنطلق كان تعاونهم مع الحكومة.
في مثل هكذا وضع لا يمكن أن تلبّي الآراء الفقهية التقليدية حول السلطان الظالم، والتعاون المحدود معه، الحاجات الضرورية والأوضاع الراهنة. من هنا تبلورت بين الفقهاء ـ تدريجياً ـ نظريات جديدة حول الحكم في عصر الغيبة.
قد يكون المحقق الكركي(940هـ) ـ الفقيه اللامع، الذي عاصر بداية الحكم الصفوي ـ أول فقيه يُلاحظ في كلماته تباشير لولادة نظرية جديدة.
وهو يرى أن الفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة هو نائب للإمام المعصوم× في جميع ما للنيابة فيه مدخل([6]).
لقد هيأت رؤية المحقق الكركي الأرضية لولادة نظريات كانت كل واحدة منها تُشكّل نحواً من إعطاء المشروعية للحكومات في عصر الغيبة. لهذا السبب ابتعد بعض الفقهاء في ذلك الزمن ـ نظراً للشروط الاجتماعية والسياسية الجديدة ـ عن النظرية الشائعة في الفقه الشيعي، والقائلة بأنّ كلَّ حاكم في عصر الغيبة هو ظالم وغاصب للحكم، حيث أصبحت هذه النظرية مثاراً للجدل مع تأسيس الدولة الصفوية.
كانت نظرية «السلطة المأذونة» إحدى الطرق للخروج من الأزمة الحقيقية.
تبتني هذه النظرية ـ التي وضع أسسها المحقق الكركي ـ على الولاية العامة للفقيه الجامع للشرائط. وبموجب هذه النظرية يُعطي المجتهد الجامع للشرائط ـ الذي هو نائب الإمام المعصوم×، وله الولاية العامّة ـ الإذن بالحكومة للحاكم الشيعي المقتدر، ويوجب له شرعية الحكم.
وعلى أساس هذه النظرية خاطب الملك طهماسب المحقِّق الكركي قائلاً له: «أنت أولى بهذ الأمر منّي، أنت نائب الإمام، وأنا أحد عمّالك الذين يمتثلون أوامرك ونواهيك». وأصدر أمراً ملكياً سنة 936هـ ألزم فيه جميع الرعايا باتّباع ما يحكم به المحقق الكركي، وتوعّد كل مَنْ يتمرّد على الأمر بالمؤاخذة والتوبيخ الشديد([7]). ولكن في الواقع لا يوجد مستند تاريخي على أن الكركي أعطى مثل هذا الإذن للملك طهماسب.
وكان على هذا الرأي أيضاً الشيخ جعفر كاشف الغطاء(1227هـ)، المُعاصر للعهد القاجاري؛ إذ يعتقد ـ بحسب ما ينقل عنه تلميذه صاحب الجواهر ـ أن السلطان لا يكون سلطان جورٍ إذا كان مأذوناً بالحكم من قبل الفقيه الجامع للشرائط([8]). وقد كان أعطى هكذا إذن للسلطان فتح علي شاه([9]).
واستبدل الملاّ أحمد النراقي(1244هـ)، فقيه القاجاريين البارز، نظرية الولاية العامّة للفقهاء السالفة الذكر بنظرية علمية منقَّحة([10])، وجاء من بعده الميرزا النائيني، ودافع عن هذه النظرية أيضاً([11]).
في هذه الأثناء يدّعي البعض وجود نظريةٍ أخرى مشابهة ظهرت ضمن شروط جديدة، وهي ما يُسمّى بنظرية السلطة المشروعة.
يقوم أساس هذه النظرية على أن الحاكمية في الأمور السياسية والاجتماعية تُقسَّم إلى دائرة: الشرعيات؛ والعرفيات. والدائرة الأولى تقع على كاهل الفقهاء، وتشمل عدة أمور، من قبيل: الإفتاء، إقامة مراسم صلاة الجمعة، القضاء، استلام الحقوق الشرعية، إدارة الأوقاف، والولاية على المحجورين. وأما دائرة العرفيات فتقع ضمن مسؤولية السلطان، وهي عبارة عن أمور، مثل: الأمن، فرض النظام، دفع الأعداء، حراسة الحدود، وإقامة أفضل العلاقات مع الدول الأخرى.
وكانت الولاية في مجال الأمور العرفية والشرعية تُجمَع في شخص النبي| أو الإمام المعصوم×، وقد انفصل هذان الأمران في زمن الغيبة، فتصدّى الفقهاء للأمور الشرعية، وكانت المناصب السياسية والعسكرية من نصيب السلاطين.
وبناءً على هذه الرؤية تكون حاكمية السلطان ذات مشروعية. وهذه المشروعية ليست مأخوذة من قبل الفقيه. وهي بخلاف نظرية السلطة المأذونة.
ظهور نظرية «السلطنة المشروعة» ـــــ
ينسب عبد الهادي الحائري هذه النظرية إلى فقيهين بارزين في العصر القاجاري، وهما: الميرزا القمي(1221هـ)؛ والسّيد جعفر الكشفي (1267هـ)([12])، ونُسِبت هذه النظرية بعد الحائري أيضاً([13]) إلى فقهاء آخرين ـ إضافةً إلى مَنْ سبق ذكرهم ـ، كالعلاّمة محمّد باقر المجلسي(1111هـ)؛ والشيخ فضل الله النوري.
وأخذت هذه النظرية المنسوبة إلى بعض أو كلّ الفقهاء سالفي الذكر تدريجياً طريقها إلى القبول، وتكرّرت في عدّة كتبٍ، وكانت موضع نقد وبحث([14]).
توصّلت هذه المجموعة من الكُتّاب إلى نتيجة غير صحيحة في ما يتعلق بنسبتها هذه النظرية إلى جمع من فقهاء الشيعة. والسبب في ذلك هو الخلط الحاصل لدى هؤلاء الكُتّاب بين الأمور الاعتبارية والحقيقية، والمباحث الكلامية والفقهية، والحكم التكليفي والوضعي، من جهة، وعدم تدقيقها في كتابات الفقهاء المذكورين من جهة أخرى. وأيضاً ربما يعود لاعتماد متأخِّريهم اعتماداً ليس في محلّه على المتقدِّمين منهم. أضف إلى هذا ـ بادّعاء البعض ـ أنّه قد تبلُغُ سابقةُ النظرية الآنفة في إعطائها المشروعية لبعض الحكومات الدنيوية المتسلّطة إلى بعض فقهاء أهل السنّة، كالماوردي(450هـ) والغزالي(550هـ)([15]). وهذا الأمر مهّد الأجواء لنسبة النظرية من قبل هؤلاء إلى بعض فقهاء الشيعة.
1ـ الميرزا القمي ـــــــ
الدليل الذي استندوا عليه في نسبتهم نظرية «السلطنة المشروعة» إلى الميرزا القمي هو رسالته المشهورة بـ (إرشاد نامه)، أي رسالة في الوعظ والإرشاد. وقد أرسلها إلى السلطان القاجاري، إلاّ أن جميع مَنْ ينسب هذه الرسالة إليه يُقرّ بأنّ له رأياً آخر، اختاره وأورده في عدّة كتبٍ، من بينها: كتاب «جامع الشتات»؛ إذ يعتبر فيه أنّ حكومات السلاطين المتسلّطة في عصر الغيبة جائرةٌ([16]).
بل إنه يُصرِّح في الرسالة التي كتبها قبل سنة من وفاته لفتح علي شاه بأن إعطاء لقب أولي الأمر للسلطان هو خلاف المذهب الشيعي، وأن المراد من أولي الأمر أئمة أهل البيت^. ويعتبر أن «العقل والنقل… يحكمان بقبح الطاعة المطلقة للسلطان، حتى ولو كان ظالماً، وجاهلاً بالأحكام الإلهية»، وأنه لا «يلزم إطاعة المجتهد العادل إلا في حال الاضطرار، وعدم إمكانية الوصول إلى المعصوم×.
نعم، إذا توقّف دحر العدوّ على السلطان الشيعي تكون طاعته واجبة على شخص المكلَّف؛ من باب الدفع، والإعانة في رفع هيمنة أعداء الدين وتسلُّطهم.
ثمّ يُبْطل قول جمهور أهل السنّة المبني على أن «كل مَنْ يبايعه الناس يكون هو الحاكم الفعلي، ووليّ أمرهم، وتجب طاعته، حتى ولو كان فاسقاً وفاجراً»([17]).
وأمّا ما جاء في «إرشاد نامه» أو رسالة الميرزا القمي إلى السلطان محمّد خان القاجاري فلا يمكن اعتباره دليلاً على نسبة نظرية «السلطنة المشروعة» إليه. والذين ادّعوا هذه النسبة تمسّكوا بعدّة عباراتٍ من الرسالة المذكورة.
يدّعي عبد الهادي الحائري أن الميرزا القمّي «كان يؤيد الملوك القاجاريين، ويمنح المشروعية لسلطنتهم».
وفي رأيه فإنّ القمّي لم يعطِ حكماً أو فتوىً بعدم الطاعة للملك المتسلّط الذي بلغ السلطنة بتقدير من قبل الله، بل أوجب بشدّة لزوم خضوع الناس لحكم هؤلاء الملوك([18]).
يُركّز الحائري وآخرون على هذا المقطع من رسالة الميرزا القمّي، وهو «أنّ الملكية تقدير إلهي»([19]). ويعتبر هؤلاء أن الاستناد على «التقدير الإلهي» هو في رأي الميرزا القمي الدليل الشرعي للحكم الملكي.
يعتبر أحد الكُتّاب ـ مع الأخذ بعين الاعتبار الترابط بين هذه النظرية وفكرة «التقدير» ـ أن رسالة الميرزا القمي، أو ما يُعرف بـ «إرشاد نامه»، تشتمل على «أتم وصف لفكرة التقدير في السلطة»([20]).
ويكتب آخر: «يعتبر الميرزا القمي أن الملك وكيل معيّن من قبل الله، وله السلطة على العباد، وهو شبه خليفة الله على الأرض، وبمشيئته صار ملكاً. ولهذا فالملك لا يُسأل عما يفعل…. فصاحب «إرشاد نامه» يعيد إحياء النظرية العسكرية المطلقة والجامحة؛ إذ يدّعي أن هؤلاء السلاطين دعاةٌ للدين ونشر الشريعة»([21]).
وهذه الفئة من الكُتّاب لم تفهم مراد الميرزا القمي بشكل صحيح، وأحد أسباب الفهم الخاطىء لديهم هو عدم إدراكهم بشكل سليم لمعنى «القضاء والقدر» و«التقدير الإلهي» في المعارف الإسلامية.
لقد أقرّ هؤلاء بالملازمة بين مفهوم القضاء والقدر الذي يسري في النظام التكويني، والمتعلق بالأمور الحقيقية، والناشىء من الرؤية الكونية التوحيدية في مختلف الأبعاد، وبين المشروعية المرتبطة بالأمور الاعتبارية، والنظام التشريعي. هذا في حين «أن القرآن الكريم، وكذلك وردت روايات إسلامية كثيرة لا يمكن إنكارها في هذا المضمار عن النبي والأئمة، تقول بكل صراحة: إن كل شيء يجري بقضاء وقدر إلهي، وإن الإنسان سبب مؤثِّر في تقرير مصيره، وهو مسؤول عن أفعاله»([22]).
وبعبارة أخرى: «ليس القضاء والقدر الإلهي شيئاً سوى ذلك الينبوع الصافي الذي تُستقى أسسه من خلال النظام الكوني للسببية والمسببية، الخاضعة للعلم والمشيئة الإلهية»([23]).
وعلى أساس هذه النظرية تكون حتّى خلافة يزيد بن معاوية بتقدير إلهي أيضاً؛ إذ من الواضح أنّ هذا لا يعني ـ بأيّ شكل من الأشكال ـ إضفاء الشرعية على كلّ ما يقع بمشيئة الإنسان المطلقة.
إذاً جَعْلُ كل المظاهر الوجودية، بما فيها أفعال الإنسان الإرادية، مشمولة للقدر الإلهي لا يوجب الاعتقاد بالجبر، ولا الإمضاء لكل ما هو حاصل، ولا يسلب الاختيار عن الإنسان.
وقد أكد الميرزا القمي في رسالته أيضاً على نفس هذه النقطة بالتحديد، وهي أنّ كلّ ما يحصل في هذه الدنيا بمشيئة الله وإرادته لا يخلو الناس فيه من حالتين: «فبعضهم يُتوَّج بتاج الزعامة؛ والبعض الآخر يعاني من نير العبودية والإذلال، وهو بحكم العبد الذي لا يقدر على شيء». ولكن كلّ ذلك لا يبرر التهرّب من المسؤوليات والتكاليف الشرعية والإلهية، «فلا الاحتقار للثاني يوجب عليه التملّص من طاعة سيده، ولا الثاني الذي أنعم الله عليه يليق به أن يستعبد الناس، ويتعدّى على مَنْ هم تحت سلطانه…. والفرق واضح بين الاثنين، وهو أن كلّ واحد منهما يمتحنه الله في هذه الدنيا. وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ (الكهف: 7)»([24]).
وأحياناً كان هؤلاء الكُتّاب يُبرزون توضيحاً لبعض مقاطع رسالة الميرزا ـ لإثبات تصوّراتهم غير الصحيحة من رسالة الميرزا ـ، حيث كانت شبهة التحريف تشوب مثل هذا النقل.
وعلى سبيل المثال: يبيّن عبد الهادي الحائري كلام الميرزا بهذا الشكل: الملك ـ من وجهة نظر الميرزا القمي ـ أشبه ما يكون بقائمقام لله، وهو صار ملكاً وفقاً لمشيئة الله، وأي عبد لا يحقّ له «أن يتبرّم من طاعة سيده ومالك رقبته»([25]).
بينما جاء في رسالة الميرزا القمي فقرة، وهي: «إن احتقاره لا يبرِّر له التفلّت من حبل العبودية والطاعة». وهذا يرتبط بطاعة العبد لمولاه، ولا علاقة لهذا الكلام بطاعة الرعية للملك أو السلطان. ولم يصرّح الميرزا القمي، أو يشِرْ ولو إشارةً، ـ في أيّ جزء من رسالته ـ إلى وجوب إطاعة الرعية للسلطان المحتمل مشروعية سلطنته. وكرّر الآخرون الخطأ الذي وقع فيه الحائري([26]).
يقع أحد الكُتّاب ـ في نفس الوقت الذي يسعى فيه لتصحيح ونشر رسالة القمي([27]) ـ، يقع أثناء تقريره، في خطأ لا يُغتفر؛ إذ ينقل عبارةً في تلك الرسالة، وينسبها إلى الميرزا فيما يصرّح الميرزا بأن نفس هذه العبارة موهمة، ولكن يمكن الإجابة عنها، ونص العبارة بهذا الشكل: فإذا ما تصوّر أحدٌ أنّ المُلك والسلطنة من عند غير الله، أو أنها ليست بتقديرٍ إلهي، فستكون نهايته الهلاك، وبناء على هذا الزعم فلن يكون ثمّة حرج ـ كيفما حكم ـ على مَنْ أكرمه رب العالمين (سبحانه وتعالى)؛ لأن الله نصّبه ملكاً وسلطاناً، ولأنه كذلك فلا يؤاخذه الله مهما صدر منه… وجواب هذه الشبهة يتوقف على تمهيد مقدمة، وهي أنه من الواضح الجلي لكلّ ذي عقل أن فاعل القبيح مذمومٌ، ومنحطّ الدرجة…([28]).
ثم يحاول الميرزا القمي في مقام الإجابة عن هذا الزعم أن يفصل بين الاعتقاد بالقضاء والقدر الإلهي من جهةٍ والجبر من جهةٍ أخرى، ثمّ يحذّر من الاعتقاد بأن القدر الإلهي يسلب الاختيار، أو يرفع التكليف. والآن لنحقق في التقرير الذي كان عُرضة للتحريف من قبل الكاتب المذكور.
يتابع الميرزا القمي كلامه على هذا المنوال، وهو أن المُلك والسلطنة تجري بتقدير إلهي، وكل مَنْ يعتبر الأمر غير ذلك فنهايته الهلاك. ولهذا السبب فإن الملك ليس محلاًّ لأن يُسأل عما يصنع، «فكل مَنْ أكرمه الله بالمُلك والسلطنة فلا جناح عليه في لوازم المُلك، ولا يُعاتب على ما يرتكبه».
وهنا أراد صاحب الرسالة المذكورة بهذه الكلمات أن يجدّد نظريته العسكرية المطلقة والمنشودة([29]).
وبرغم هذه النسبة الجائرة فإن الميرزا القمي ـ وفي سبيل الإجابة عن هذه الشبهة ـ يُقسّم الحكم والسلطنة إلى قسمين: أحدهما: على نحو الاستحقاق، أي الحكّام الذين لهم حكومة إلهية مشروعة. ومثال ذلك: النبي سليمان (على نبيّنا وآله وعليه آلاف التحية والسلام)، وغيره من الأنبياء أيضاً؛ والآخر: الحاكم على سبيل الامتحان، وهو الفاقد للمشروعية، كمملكة فرعون ونمرود وشدّاد.
وبعد ذلك يعتبر هذا الادّعاء باطلاً؛ لأنّ «المُلك والسطان كان مقدّراً».
إذاً كل فعلٍ يصدر من السلطان يكون محلاًّ لرضا الله». وعلى هذا يجب في هذه الحالة ـ والعياذ بالله ـ أن يكون فرعون غير مُؤاخذٍ على ادّعاءاته الباطلة»([30]).
والعجيب كيف أن هذه العبارات الواضحة بقيت خفية على الكاتب، الذي قام بنفسه بتنقيح وتصحيح رسالة الميرزا القمي. والنتيجة نسبة هكذا أقوال إليه!!
وهكذا سعت هذه المجموعة من المؤلِّفين؛ استناداً إلى أجزاء من رسالة الميرزا القمي، المحكي فيها أن الملك ظلّ الله، لاستقراب مفهوم نيابة الملك عن الله في الأرض والخلافة الإلهية. وبهذه الطريقة نسبوا مشروعية سلطنة الملوك إلى الميرزا القمي([31]).
وصل أحد هؤلاء الكُتّاب؛ من خلال خلط كلام أحد علماء السنّة بعبارات فقهاء، كالميرزا القمي، وارتباط ذلك بفكرة «القوّة الميتافيزيقة»([32])، التي كانت سائدة في إيران القديمة، وتحديد المنزلة العظيمة للملك في النظام العالمي من وجهة هذه الفرقة من المفكرين، إلى نتيجة مفادها أن «علماء المسلمين بقبلوهم مفهوم «السلطان ظلّ الله» ـ سواءٌ اطّلع السلطان على ذلك أم لم يطّلع ـ يكونون قد قبلوا قدسيّة السلطنة، والطاعة المطلقة للسلطان، وعدم مساءلته بكيف؟ أو لماذا؟ في ما يتعلق بعمله، وأنه قدرٌ إلهيّ، وحجة الله([33]).
ولكن ما تفيده «إرشاد نامه» غير هذا؛ إذ إن الميرزا القمي ذكر لمعنى «السلطان ظلّ الله» ثلاثة معانٍ؛ لا يوجد في أيٍّ منها أن للسلطان منزلة عالية في النظام التكويني والتشريعي([34])، بل في المعاني الثلاثة يقع على عاتق الملك ـ بما له من موقعية خاصّة في النظام الإجتماعي لأي دليلٍ كان ـ القيام بواجبات شرعية وأخلاقية جسيمة.
في المعنى الأول يلزم أن يكون السلطان؛ لما يتمتّع به من مسؤولية في المجتمع، كالخالق جلّ وعلا، ملجأً وملاذاً للمظلومين. وفي المعنى الثاني يجب أن يكون نظير الحضرة الإلهية المقدسة، ومتشبِّهاً بها في الصفات المعنوية والخصال الحسنة. وفي المعنى الثالث «كما أنه يمكن إلحاق ظلّ كلّ شيء بذاك الشيء كذلك يجب أن يكون الملك مقتدياً بالله سبحانه وتعالى في عمله وسلوكه»([35]).
ومن الواضح أن أيّاً من هذه المعاني الثلاثة لا تلازم «تقديس السلطة»، أو «الطاعة المطلقة»، أو «كون السلطان حجة الله». بل إن الميرزا القمّي حمل «ظل الله» على معاني تنطبق على جميع أفراد بني البشر. وعلى أساس هذه المعاني لا يكون الملك فحسب، بل كل البشر يقدرون، بل هم جديرون، أن يكونوا ظلاًّ لله عزّ وجلّ، بمعنى أن كل إنسان يجب أن يكون مُتخلِّقاً بأخلاق الله في صفاته، وآيةً لله في عمله، ومأوى للمستضعفين والمظلومين.
إذاً استطاع الميرزا القمّي ـ بلباقته وذكائه ـ أن يحمل «المَلِكُ ظلُّ الله» على معانٍ لا تُدلِّل على مكانة خاصة للملك في النظام التكويني والتشريعي، وتقطع الطريق عليه في أيّ نوع من الاستغلال لهذا المعنى، بل إنها تلفت السلطان إلى أن هذا اللقب، بأي معنىً فُسّر، لا يُحمِّله سوى المزيد من الواجبات والمسؤوليات تجاه الناس.
هذه هي جميع أدلة هذه المجموعة من المؤلِّفين لنسبة نظرية «السلطنة المشروعة» إلى الميرزا القمي. وقد اتضح الضعف فيها.
2ـ العلامة المجلسي ـــــــ
الفقيه الآخر الذي تُنسب إليه هذه النظرية هو العلاّمة محمد باقر المجلسي(1111هـ)، أحد كبار فقهاء العصر الصفوي.
ففي هذا المجال كانت بعض فقرات كتابه «عين الحياة» مورداً لاستناد مجموعة من الكُتّاب، وكذلك خطبتُه في مراسم تتويج السلطان حسين الصفوي.
يقول المجلسي في كتابه عين الحياة: «واعلم أنّ الله تعالى أعطى لكلّ أحد سلطنة، كما نُقِل «كُلُّكُم راعٍ، وكُلُّكُم مسؤولٌ عن رَعيته»، فيُسأل يوم القيامة عن سلوكه مع رعيته، كما سلَّط الملوكَ على الرعايا، وسلَّط الأمراءَ والوزراءَ على بعض الرعايا، وأربابَ المزارع والأموال على العمّال، وأصحابَ البيوتات والأزواج والأولاد على الغلمان والجواري والخدم… إذاً لا يوجد في العالَم مَنْ لم يكنْ له حظٌّ من الولاية والحكومة»([36]).
استنتج هؤلاء من هذه العبارات أن العلاّمة المجلسي يعتقد بسلسلة المراتب الإلهية للولاية…. ومن جملة هذه الولايات: ولاية السلطان على الرعية([37]).
من هنا يمكن القول من وجهة نظره أن «الله منح الملوك حق الحكومة والقيمومة على الناس»([38]).
لقد وقع هؤلاء الكُتّاب في الخطأ في فهم هذه العبارات؛ نتيجةً لخلط البحوث الحقيقية والتكوينية مع البحوث الاعتبارية والتشريعية، ولذلك لم يفهموا المراد بشكل صحيح؛ إذ على أساس فكرة التوحيد يكون كل تسلُّط واستيلاء تكويني لدى البشر في الدنيا ـ حتى حكومة الخلفاء الغاصبين ـ غير خارج عن المشيئة والإرادة الإلهية، والمولى سبحانه وتعالى هو من أعطاهم هذه السلطة، ولكن هذا الادّعاء لا يعني ـ بأيّ نحوٍ من الأنحاء ـ أنّ لهم حقّ التسلُّط والحكم شرعاً.
والشاهد على أن مراد العلاّمة المجلسي من إسناد حكومة الملك إلى الله البعد التكويني منها، وليس حق الحكم في النظام التشريعي، هو أنه لم يميّز في الفقرات السابقة بين السلطان المسلم وغير المسلم، وبين الشيعي وغير الشيعي، وبين العادل والظالم، واعتبر أن حكومة هؤلاء جميعاً من قبل المنّان الديّان تبارك وتعالى، فيما تسعى هذه الفئة من المؤلفين إلى طرح نظرية (السلطنة المشروعة)، ونسبتها إلى العلاّمة المجلسي وبعض الفقهاء الآخرين، بصورة أن السلطان له حق الحاكمية الشرعية على الشعب إذا كان يحوز على الشروط التالية: «الأول: أن يكون مسلماً؛ الثاني: أن يؤمن بولاية أهل البيت^ (أن يكون شيعياً)؛ الثالث: القوة والقدرة اللازمة لإدارة الدولة الإسلامية وحماية المسلمين في مواجهة التدخل الخارجي؛ الرابع: أن يحترم المظاهر الشرعية؛ الخامس: أن يكون متواضعاً لعلماء الدين ويعترف بولاية الفقهاء في الأمور الشرعية بشكل رسمي»([39]).
إذاً ـ مع الأخذ بعين الاعتبار إطلاق عبارة العلاّمة المجلسي على جميع السلاطين ـ لا يمكن أن يُحمَل كلامه على حق الحكم الشرعي لهم. وهذا التناقض الواضح موجود في صدر وذيل كلام هؤلاء في ما يتعلّق برؤية العلاّمة المجلسي وسائر الفقهاء الذين نسبوا إليهم نظرية (السلطنة المشروعة). فهم من جهةٍ ينسبون حق السلطنة المشروعة للسلطان الشيعي المقتدر إلى العلاّمة المجلسي، والميرزا القمي، وأمثالهما، ومن جهة أخرى يستنتجون من كلامهم أن مقولة السلطان والسلطنة هي بشكل مطلق بتقدير إلهي، وأن الله كرّم (جميع) السلاطين بحق الحكم والولاية على الناس، ويجعلون كل أنواع الحكم والسلطة في النظام الوجودي تحت «سلسلة المراتب الإلهية للولاية»؛ إذ إن «من جملة تلك الولايات ولاية الملك على الرعية»([40]).
والدليل الآخر لهؤلاء الكُتّاب خطبة العلاّمة المجلسي في مراسم تتويج السلطان حسين الصفوي، حيث أثنى العلاّمة في تلك الاحتفالات على الأسرة الصفوية الحاكمة، ومدح السلطان حسين.
يقول أحد هؤلاء: مع الأخذ بعين الاعتبار أن العلاّمة المجلسي كان عاملاً بمفاد رويات أهل البيت^، ويُصرّح في كتبه بحرمة الركون إلى الظالمين، يمكن الإعلان براحة بالٍ أن العلاّمة لا يعتبر الصفويين مصداقاً للحكّام الظَلَمَة؛ بل يعتبر أنه يمكن الاستفادة من سطوة الحكام المسلمين الشيعة المقتدرين في ترويج الدين([41]).
وهذا الدليل أيضاً لا يصحّ الاعتماد عليه؛ لأن المؤلِّفين المذكورين غفلوا عن بعض الأمور:
أولاً: كانت الأدبيات الملكية والبلاطية الغالبة على ثقافة ذلك العهد مملوءةً بالتمجيدات والمدائح المبالغ فيها، بحيث صارت شائعةً في العرف السائد، وتحكم العلاقات بين السلطان ومحكوميه. وتجاهل ذلك يُحمَل على أنّه إهانةٌ للملك. من هذه الناحية كان لا بدّ لكل فردٍ يُزْمِع ـ ولأي سببٍ كان ـ إقامة علاقةٍ ودّيّة وغير عدائية مع السلطان، الانقياد وراء هذا العرف السائد. وتوجب هذه المسألة الهامّة التأمّل في كتابات الفقهاء والعلماء الآخرين في ذلك العصر أيضاً.
ثانياً: لم يستخدم العلاّمة المجلسي في هذه الخطبة وكذلك الميرزا القمّي في رسائله إلى الملوك القاجاريين، بأيّ نحو من الأنحاء كلمات وعبارات صريحة تدلُّ على شرعية حكم السلاطين؛ بينما لو كان مرادهم ذلك، من خلال استخدام هذه العبارات الممجدة والمادحة ـ ووفقاً لمبانيهم الفقهية ـ شرعنة السلطنة المؤقتة، وأنها واجبة الاتباع، لأمكنهم بكل سهولة ـ ككثير من فقهاء أهل السنّة ـ أن يستخدموا كلمات صريحة وعبارات واضحة، مثل: «ولي الأمر»، و«نائب إمام الزمان»، و«خليفة الله على الأرض»، و«واجب الطاعة»، وغيرها. والحال أنه ليس فقط لا وجود لهكذا عبارات، بل إن المجلسي والقمّي استخدما ـ عمداً ـ كلماتٍ وعبائر لا تدلّ على هذا المدّعى، حتى بالدلالة الالتزامية. ولا يمكن ـ على أساس قواعد الاستنباط الفقهي ـ أن نستنبط هكذا نظرية من كلماتهم أو ظاهر عباراتهم.
هذا الكاتب ـ ولأنّه لم يجد في هذه الخطبة عبارات يصح الاعتماد عليها لنظرية «السلطنة المشروعة» ـ سعى للوصول إلى النتيجة التي يراها في إسناد هذه النظرية إلى العلاّمة، من خلال ضمّ السيرة العملية للمجلسي في تعامله مع السلاطين الصفويين، ورأيه حول حرمة الركون إلى الظالمين([42]).
وهذا الاستدلال مخدوشٌ فيه أيضاً، وجوابه في عبارات نفس الكاتب. وكما ذكرنا فقد جعل هذا الكاتب خطبة العلاّمة المجلسي دليلاً على كون الأخير يعتبر السلطان الصفوي حاكماً شيعياً ذا شوكة وقدرة، ويمكن استثمار هذه السلطة لترويج الشريعة؛ بينما لا يوجد تقابل ـ بناءً على المفاهيم والمصطلحات الفقهية ـ بين الحاكم الظالم والحاكم الشيعي القوي، حيث يمكن أن يجتمعا في شخص واحد. وهذه النقطة بالتحديد هي التي لم يدركها الكاتب وأضرابه، فنسبوا هذه النظرية إلى المجلسي وسواه. ويقابل الحاكم الظالم في الفقه الحاكم العادل، الذي يعني «الإمام المعصوم أو نائبه»([43]).
من وجهة نظر المجلسي لم يكن السلاطين الصفويون حكّاماً عادلين أبداً. إذاً هم حكام جور. وعليه تكون سلطنتهم فاقدة للمشروعية. وحيث إنه يمكن الاستفادة من سلطنتهم لترويج الدين يكون التقرب إليهم ـ في سبيل تحقيق هذا الغرض ـ أمراً جائزاً ومشروعاً. وهذا ما استقرّت عليه آراء سائر الفقهاء في كتبهم وأقوالهم وأفعالهم.
اجتزأ أحد هؤلاء المؤلِّفين جزءاً من هذه العبارة، ونقل متن رواية عن النبي| عن كتاب «عين الحياة» بشكل ناقص، ونسب ذلك إلى العلاّمة المجلسي، الذي يقول: «رُوي عن النبي| أنه قال: من لم يُطِعْ السلطان لم يُطع الله سبحانه؛ لأنه يقول تعالى: ﴿…وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ…﴾ (البقرة: 195)» ([44]).
من الواضح ـ بالنظر إلى ذيل الرواية، واستدلال المجلسي بالآية ـ أن طاعة السلطان بالاستناد إلى هذه الرواية يكون من باب التقية، واجتناب التهلكة. ووجود مثل هذا الحديث في كتاب المجلسي لا يدلّ على أن كاتبه يوجب طاعة السلطان، بالقول: إن سلطنته مشروعة، وهي من قبل الله عزّ وجلّ.
نسب هذا المؤلف ـ بعد أن حذف القرائن الموجودة في الكتاب، والتي تعارض استنتاجه ـ هذه الفقرة «من لم يُطع السلطان لم يُطعِ الله»([45]) إلى العلاّمة المجلسي؛ ليتوصّل إلى النتيجة التي يريدها.
3ـ السيد جعفر الكشفي(1267هـ) ـــــــ
وهو أحد الفقهاء المنسوبة إليهم نظرية «السلطنة المشروعة». ولأن أصحاب هذه النسبة يقرّون أن «الكشفي كان يتصوّر ـ في الإطار الفكري والنظري ـ بأن الأصل في الحكومة أن تكون بيد الفقهاء والمجتهدين العدول»([46])؛ فإن رأي الكشفي ـ بزعمهم ـ أن المجتهد الجامع للشرائط ليس بإمكانه التصدي بمفرده لنيابة الإمام المعصوم. فمن الأفضل أن يتم تقسيم إدارة شؤون البلاد بين السلطان والمجتهدين»([47]). وبعبارة ثانية: «الخضوع لأمر السلطان ليس واجباً، ولا جائزاً، من جهة كونه نائباً للإمام، وإنما وجوبه لأجل تسيير الأمور العامّة، وعدم وقوع الفوضى والاضطرابات، ومن باب الضرورة»([48])، لذلك لا يمكن القول بانتساب هذه النظرية إليه؛ لأن حكومات السلاطين في رأيه لا تزال غاصبة، وغير شرعية، وما يفرض الانقياد لهم هو الضرورات الاجتماعية، وتجنُّب الوقوع في الفوضى. وهذا هو ما عليه أكثر الفقهاء؛ الذين كانوا يوجبون ـ من باب لزوم مراعاة التقية ـ طاعة الحكومات الغاصبة. وهذا لا يعني بأية حال شرعنة تلك الحكومات.
4ـ الشيخ فضل الله النوري ـــــــ
وهو الفقيه الآخر الذي وافق على نظرية «السلطنة المشروعة» بنظر بعض هؤلاء الكُتّاب، وأهم سند تمسّكوا به ما جاء في رسالته من كلام حول تحريم المشروطة، حيث يقول: «لم تكن النبوة والحكومة على نحو واحد في الأنبياء السابقين؛ فتارةً كانتا تجتمعان في شخص واحد؛ وأخرى كانتا تفترقان، وهي كانت كذلك في زمن النبي الأكرم محمد|، واستمرت في خلفائه الذين أتوا من بعده ـ خلفاءً بحقٍّ كانوا أم بغيره ـ، وبقيت كذلك لعدة شهور بعدهم، ووقعت حوادث مؤلمة وأحداث مفجعة، وآنذاك صارت كلٌّ من ممارسة السلطة وفرض الأمن من جهة، وتحمّل أعباء التصدي للأمور الدينية ومعرفة الأحكام الشرعية من جهة ثانية، في اتجاهين مختلفين.
والحقيقة أن كلّ واحد من هذين مكمّلٌ للآخر، ومتمّمٌ له. وهذا معناه أن الإسلام مبنيٌّ على هذين الأمرين، وهما: النيابة في شؤون النبوة؛ والسلطنة، ومن دونهما تتعطّل الأحكام الإسلامية»([49]).
ومن وجهة نظر أحد هؤلاء المعاصرين فإن الشيخ النوري كان على اعتقاد بأن «إدارة الشؤون الدنيوية للمسلمين في عهد الغيبة هو في عهدة الفقهاء العدول وحكّام المسلمين»، و«على هذا الأساس سوف تكون الأمور الشرعية، من الإفتاء، وإصدار الأحكام القضائية واستنباط الأحكام الكلية في الأمور العامة، في عهدة نوّاب الإمام المهدي# العامّين، والفقهاء، وتصبح الأمور العرفية، من الحكم، وتدبير قضايا الناس، دنيوياً وسياسياً، وشؤون العامّة، في عهدة الحكّام المسلمين ذوي الشوكة والسلطة».
وقد نسب هذه النظرية ـ بعد بيانه رأي الشيخ النوري ـ إلى أكثر فقهاء العصر الصفوي والقاجاري، دون أيّ دليل أو سند([50]).
والعبارة المنقولة عن الشيخ النوري لا تصلح دليلاً لانتساب هذه النظرية إليه، بل هي صريحة في معارضة الشيخ لهكذا نظرية؛ لأنه كان في صدد عرض لمحة تاريخية عن مجريات الخلافة والسلطنة، وعلاقة ذلك بالنبوة والتعاليم النبوية، ولم يكن بتاتاً في صدد شرعنة ما وقع عبر التاريخ، وما جرى من فصل بين النبوة والسلطنة.
وهذا الكاتب لم يفهم ولم يدرك بشكل صحيح ـ ولمرات عديدة ـ الفرق بين الأمور الحقيقية والتكوينية من جهة والأمور الاعتبارية والتشريعية من جهة ثانية. وقد صرّح بوضوحٍ تامٍّ في نفس هذه العبارات أن السلطنة جعلت على مرّ التاريخ في غير أهلها أحياناً، ووصل إلى سدّة الحكم سلاطين لم تكن حكوماتهم تسير بسيرة الحق.
وعبارة «خلفاء النبي| بوجه حقٍّ كانوا أم بغيره» تعني أن هناك خلفاء غاصبين للخلافة، فاقدين للشرعية، تولّوا الحكم، وحملوا على عاتقهم ـ كحال الخلفاء الشرعيين للنبي| ـ عهدة الأحكام الدينية، ومارسوا السلطة والشوكة، ولكنهم مع ذلك كانوا حكّاماً فاقدين لكلّ شرعية، وغاصبين للحقّ في مطلق الأحوال.
إذاً الشيخ النوري في صدد بيان هذه الحقيقة التأريخية، وهي أن السلطنة والنبوة اجتمعتا في النبي|؛ إذ كل واحدة منهما تكمّل الأخرى، وبعده كانت أيضاً مجموعة في فترة الخلفاء، بقسمَيْهم: الغاصبين؛ والشرعيين، ثم صار الحكم من شؤون الخليفة والملك، وأُسْند علم النبوة إلى علماء الإسلام ـ أعمّ من الورثة الجديرين بالحكم وحمل العلم النبوي أو الذين يدّعونهما زوراً وباطلاً ـ.
ومن البديهيّ أن هذا الكلام لا يدلّ على شرعية حكومة هؤلاء السلاطين أبداً. وكذلك لا تدلّ على مشروعية وحجّية علماء أهل السنة من بين علماء الإسلام.
والخطأ الآخر الذي ارتكبه هذا المؤلِّف ـ قبل ذلك ـ هو أنه لو كان كلام الشيخ دالاًّ على مشروعية حكومة هؤلاء الملوك لوجب أن يكون شاملاً لجميع سلاطين وخلفاء الأمة الإسلامية، وهذا ما لا يلتزم به المؤلِّف نفسه؛ إذ لا يعتقد أن الشيخ النوري وسائر فقهاء الشيعة يعتبرون حكومة بني أمية وحكومة بني العباس شرعية، بل هو يدّعي ـ كما سلف ـ أنهم يعتبرون حكومة الملوك الشيعة «أصحاب الشوكة، والذين يقومون بترويج ظواهر الشريعة، ويتواضعون للعلماء» مشروعة. ومن الواضح أن بين الدليل ومُدّعى هذا الكاتب بونٌ شاسعٌ.
بالإضافة إلى ذلك فقد انتشر في إحدى لوائح الشيخ ـ فترة اعتصامه مع رفاقه في إحدى زوايا مقام الشاه عبد العظيم ـ النفي القاطع لأية مشروعية وولاية شرعية للسلطان. وقد جاء في اللائحة السابعة عشرة: هذا المجلس ليس محلاًّ لوجوب الإطاعة بحقّ، وإنما هي ثابتة بحق الله سبحانه ورسوله| والأئمة^. ونوّاب الإمام صاحب الزمان#. ومن المعلوم أن هذا المجلس لا ينتمي إلى أية واحدة من هذه الأمور، بل هو نظام ملكي. والشورى لن تكون مُطاعة ـ في المذهب الجعفري ـ إذا كان مَنْ يتصدى للحكم لا يرجع إلى الله سبحانه والطوائف الثلاثة الأخرى. نعم، يُعتبر السلطان عند المذاهب الأربعة الأخرى من أولي الأمر واجبي الطاعة([51]).
ومرة أخرى يقع في نفس الخطأ، وينسب هذه النظرية ـ مستنداً إلى كلام للشيخ فضل الله النوّري ـ إلى المجِّدد الشيرازي، الذي واجه ناصر الدين شاه في فتوى تحريم التنباك المشهورة. استند فيها بعبارة نقلها الشيخ عن الشيرازي. وتُعتبر تلك العبارة خطاباً، حالها حال العبارات المنقولة عن نفس الشيخ في الأسطر السابقة. وكلاهما (كلام الشيخ والميرزا) يتّحد في عدم الدلالة على مُدّعى الكاتب، الذي وقع في فهمها مرة ثانية في ورطة الخلط بين الأبحاث الحقيقية والاعتبارية. ولكي لا يطول بنا الكلام نمتنع عن نقل المزيد من كلامه.
إذاً نُسبت نظرية «السلطنة المشروعة» في العهدين الصفوي والقاجاري ـ بناءً على ما كان في متناول أيدينا من مصادر ـ إلى الفقهاء المذكورين فقط.
وقد تمّ نقل كل الأدلة التي أقاموها على هذه النسبة، ونقدها بالتفصيل، ووصلنا إلى النتيجة التالية، وهي أن نظرية «السلطنة المشروعة» ليس لها أية مكانة أو موقعية في تاريخ الفقه السياسي الشيعي.
الهوامش:
(*) باحث في الفقه الإسلامي والدراسات القانونية المعاصرة، ورئيس قسم دراسة المصنفات الإمامية في مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي.
([1]) المرتضى، المقنع في الغيبة: 34: «دلّ العقل على أن ذلك الإمام لابدّ من كونه معصوماً من الخطأ»؛ أبو الصلاح الحلبي، الكافي في الفقه: 88: «لا بدّ أن يكون الرئيس معصوماً».
([2]) للمطالعة حول الضرورة العقلية لحكومة تدير المجتمع البشري يُراجع: محمد بن الحسن الطوسي، الغيبة: 5؛ المرتضى، المقنع في الغيبة: 34.
([3]) المرتضى، الرسائل 2: 89؛ الطوسي، النهاية في مجرد الفقه والفتاوى: 365؛ ابن البرّاج، المهذّب 1: 346.
([4]) الحلّي، شرائع الإسلام 2: 266؛ الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 3: 136؛ النجفي، جواهر الكلام 22: 155؛ الأنصاري، المكاسب 2: 53؛ الإمام الخميني، المكاسب المحرّمة 2: 105؛ الخوئي، مصباح الفقاهة 1: 436.
([5]) يُراجع في هذا المجال: محمد علي قاسمي وزملاؤه (المُعدّون)، فقيهان إمامي وعرصه هاي ولايت فقيه.
([6]) رسائل الكركي 1: 141: «اتفق أصحابنا (رضوان الله عليهم) على أن الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى، المعبّر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية، نائب من قبل أئمة الهدى^ في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل».
([7]) محمد باقر الخوانساري، روضات الجنّات 1: 436.
([8]) النجفي، جواهر الكلام 22: 156: «بل في شرح الأستاذ أنه لو نصب الفقيه المنصوب من قبل الإمام بالإذن العامّ سلطاناً أو حاكماً لأهل الإسلام لم يكن من حكام الجور».
([9]) جعفر كاشف الغطاء، كشف الغطاء 2: 394.
([10]) أحمد النراقي، عوائد الأيّام: 185.
([11]) محمد حسين النائيني، تنبيه الأمّة وتنـزيه الملّة: 76، 113.
([12]) الحائري، نخستين روياروييهاي أنديشه گران إيران: 324.
([13]) محسن كديور، نظريه هاي دولت در فقه شيعه: 58.
([14]) داوود فَيْرَحِي، قدرت دانش ومشروعيت در إسلام، 207، 217؛ جميلة كديور، تحوّل گفتمان سياسي شيعه در إيران: 204؛ سيد محسن طباطبائي فر، نظام سلطاني أز ديدگاه أنديشه سياسي شيعه.
([15]) داوود فَيْرَحِي، قدرت دانش ومشروعيت در إسلام: 201 ـ 221؛ السيّد محمد خاتمي، آيين وأنديشه در دام خود كامگي: 299 ـ 359، لمبتون، آن. كي. أس، دولت وحكومت در إسلام: 237 ـ 239.
([16]) أبو القاسم القمي، جامع الشتات 1: 161، 178، 386، 409، 2: 66، 125، 129.
([17]) محمد حسن رجبي وفاطمة رؤيا پور أميد، (تحقيق وتأليف)، مكتوبات وبيانات سياسي واجتماعي علماي شيعه 1: 135.
([18]) الحائري، نخستين رويا روياييهاي أنديشه گران إيران: 325.
([19]) المصدر السابق؛ محسن كديور، نظريه هاي دولت در فقه شيعه: 71.
([20]) قدرت دانش ومشروعيت در إسلام: 219.
([21]) السيد محسن طباطبائي فر، نظام سلطاني أز ديدگاه أنديشه سياسي شيعه: 70.
([22]) مرتضى مطهري، إنسان وسرنوشت: 99.
([24]) رجبي، مكتوبات وبيانات سياسي واجتماعي علماي شيعه: 25.
([25]) الحائري، نخستين روياروييهاى أنديشه گران إيران: 325.
([26]) كديور، نظريه هاى دولت در فقه شيعه: 71؛ فَيْرَحِي، قدرت دانش ومشروعيت در إسلام: 207؛ السيد محسن طباطبائي فر، نظام سلطاني أز ديدگاه أنديشه سياسى شيعه: 70. هذا نموذج من استنساخ الكتّاب في إيران، والناشئ من التقليد، وضعف روحية التحقيق.
([27]) نشريه علوم سياسي (مجلة فارسية)، العدد23: 237، شتاء 1382، «إرشاد نامه ميرزاي قمي»، باهتمام: السيد محسن طباطبائي فر.
([29]) طباطبائي فر، نظام سلطاني: 71. وكذلك يُراجع المصدر السابق: 305.
([30]) نشريه علوم سياسي، العدد 23: 247. يوجد إضافات في نسخة «إرشاد نامه» المنشورة في مجلة «نشريه علوم سياسي» عن نسخة «إرشاد نامه» الموجودة في كتاب «مكتوبات وبيانات سياسي واجتماعي علماي شيعه». ومن جملة تلك الإضافات هذه الفقرات المنقولة في المتن.
([31]) حائري، نخستين روياروييهاى وأنديشه گران إيران: 325؛ كديور، نظريه دولت در فقه شيعه: 70؛ فيرحي، قدرت دانش ومشروعيت در إسلام، 207.
([32]) «الميتافيزيقيا»: قدرة فوق طبيعية، وسرٌّ عند الإيرانيين القدماء، وبه كان ينتصر السلاطين. ومن يملك هذا الاسم فإنه يقوم بأعمال كبيرة. ويعتبرون ذلك شعاعاً يسطع في القلب. والمظهر المادي لذلك الكبش أو حمل الخروف أو الوَعَل. «ترجمة لما في قاموس فرهنگ بزرگ سخن، المؤلف حسن أنوري».
([33]) طباطبائي فر، نظام سلطاني: 119.
([34]) من اللازم أن نلفت إلى أن بعض المفاهيم من مجموعة الأصول في كل عصر تتعرّض لخدشٍ لا يمكن جبره؛ نتيجة الجو الثقافي السائد في المجتمع، حيث تكون مخالفتها من الصعوبة بمكان. فيمكن اعتبار مفهوم «السلطان ظلّ الله» من المفاهيم التي كانت رائجة في العهد القاجاري، ومقبولة لدى عامة الناس، أو ثقافة حاكمة في البلاط الملكي؛ بحيث لا يُمكن الخدش به. من هذه الجهة حتى لو فرضنا أن الميرزا القمي لم يكن مخالفاً لمثل هذه الرؤية فإن إظهار الخلاف أو الوقوف في وجه سلطان سفاح، مثل: آقا محمد خان، يُعتبر عملاً مُعَقَّداً، وبلا أية فائدة مرجوة، ولا يوجد حيلة في هذه الحالة سوى التأويل، حتى لو أدّى ذلك إلى استغلال السلطان لهذا المعنى.
([35]) نشريه علوم سياسي، العدد 23: 240.
([36]) محمد باقر المجلسي، عين الحياة: 551.
([37]) كديور، نظريه دولت در فقه شيعه: 61.
([38]) المصدر السابق: 68. وراجع أيضاً: قدرت دانش ومشروعيت در إسلام: 219؛ طباطبائي فر، نظام سلطاني: 68؛ جميله كديور، تحوّل گفتمان سياسي شيعه در إيران: 108. مع أن ظاهر عبارة جميلة كديور في ما سبق من كتابها كما لو كان ثمّة تنسيق مع هذه المجموعة من الكُتّاب، لكنها في قسم آخر تقول بصراحة: «الملوك الصفويون لم ينالوا شرعية في أي وقت كما هو حال السلاطين العثمانيين، وخصوصاً أن العلماء الشيعة لا يعتبرونهم خلفاء للنبي والأئمة، بل هم بنظرهم من سلالة النبي|، ويتوقعون منهم منذ القدم حفظ حدود البلاد… (المصدر نفسه: 172).
وآراء جميلة كديور في ما يتعلق بنظرية (السلطنة المشروعة) عند العلماء الشيعة يشوبها الغموض والتردّد؛ فهي من جهة تقول: «قيل: إن علماء الحركة الدستورية، وكذلك نظراؤهم أتباع المشروطة، وسائر الفقهاء القدماء، يعتبرون أن السلطنة في عصر الغيبة مهما كان لونها هي سلطة ظالمة وجائرة» (المصدر نفسه 258)؛ ومن جهة أخرى تقول عند توضيح فكر أصحاب المشروطة، كالشيخ فضل الله النوري: «يُلاحظ عند التدقيق في كتابات أتباع المشروطة أن نطاق عمل النواب العامين أو الفقهاء والمجتهدين هو نفس الولاية الدينية…..ولا يُمضي المعصوم الولاية العامة للفقيه الجامع للشرائط. في نظرية المشروعة قُسِّمت الولاية في عصر الغيبة إلى: ولاية سياسية؛ وأخرى دينية. الملك الذي له الولاية السياسية عليه واجب آخر ـ مضافاً إلى صدّ أي اعتداء على الحرمات الدينية والعقائدية ـ وهو الحفاظ والدفاع عن حكومته الملكية، التي هي نفس تلك الدولة الإسلامية (المصدر نفسه: 309).
([39]) كديور، نظريه دولت در فقه شيعه: 59.
([42]) تكرّر مثل هذا الاستدلال في بعض المصادر الأخرى، مع تغيير يسير في الألفاظ، راجع: كتاب نظام سلطاني، لطباطبائي فر: 229.
([43]) محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 11: 154.
([44]) محمد باقر المجلسي، عين الحياة (فارسي): 562.
([45]) طباطبائي فرّ، نظام سلطاني: 343. بقي هذا الكاتب عاجزاً حائراً في فهم عدة مواضع من كلام الفقهاء، وتوصّل إلى نتائج لا سند لها ولا أساس؛ فهو يزعم أن المجلسي يبيّن في خطبة تتويج السلطان الصفوي «بصراحة تامّة» هذه الفكرة، وهي أن السلطان خليفة الله على الأرض (راجع: المصدر السابق: 65، 126). والحقيقة أن عبارة المجلسي لا يوجد فيها أي تصريح، بل لا يوجد حتى مجرد إشارة إلى ذلك.
وينسب أيضاً ـ بسبب توهمه وجود علاقة بين الأفكار الخرافية في إيران القديمة والآراء الفقهية لبعض فقهاء الشيعة في العصر الصفوي والقاجاري ـ إلى أمثال العلاّمة المجلسي والميرزا القمي أنه وفقاً لآرائهم فإن «السلطان يقع في أعلى طبقات الشعب، وبعبارة أخرى: فوق الطبقات البشرية» (راجع: المصدر السابق: 81).
بما أن هذا الكتاب ليس ذا قيمة علمية معتبرة نكتفي بالرد على بعض ما جاء فيه من تحريفات ومغالطات، ولا نبحث عن موارد أخرى غير التي سلفت، ونرجع القراء إلى الأدلة التي ساقها هذا الكاتب في استدلالاته بكلمات فقهاء الشيعة، حتّى يتضح عدم وجود أية علاقة منطقية بين ما نقله عنهم والنتائج التي توصّل إليها.
وقد بذل هذا المؤلِّف جهداً في مثل هذه المواضيع، التي لها نظائر كثيرة في كتابه، وسعى إلى فرض النتيجة التي استنبطها على كلمات الفقهاء، مع أنه لم يراعِ في بعض الأحيان ـ كما سبق أن أشرنا ـ الأمانة العلمية في نقل كلامهم.
([46]) الحائري، نخستين رويارييهاى أنديشه گران إيران: 344؛ كذلك راجع: نظريه هاى دولت در فقه شيعه: 73.
([48]) السيد جعفر الكشفي، تحفة الملوك في السير والسلوك (مطبوع بالفارسية): 899.
([49]) تركمان، رسائل إعلاميه ها…..الشيخ فضل الله النوري 1: 110.
([50]) كديور، نظريه دولت در فقه شيعه: 73 ـ 75.
([51]) ستّار شهوازي، (قام بتجميع وتصنيف الكتاب)، بازخواني روزنامه شيخ فضل الله نوري (اسم الكتاب الذي جمعه ستّار شهوازي وهو مطبوع باللغة الفارسية): 193.