لم يستطع أحد أن يحول موضوعات العالم الخارجي – الطبيعي والإنساني – إلى موضوع للتأمل ولإنتاج المعارف والأفكار والتصورات والأنساق النظرية كما استطاع العالم ذلك ، محولا عملية التفكير (وهي نشاط ذاتي ) إلى ممارسة اجتماعية تنشأ عنها بنيات ذهنية تصير ( بفعل التمثل الجماعي لها ) إلى حقائق مادية موضوعية .. نظرتنا المنظمة إلى الكون وإلى المجتمع والمؤسسات وظواهر الوجود المختلفة تدين إلى الفعالية العلمية التي مارسها هذا الكائن المتميز عبر التاريخ .. إنها مساهمته الكبرى في المجتمع والحضارة والتاريخ ، في تحقيق الإدراك الإنساني للعالم ..
فالعالم شاهد عصره ، ورسول ربه من دون وحي أو نبوة ، ونذير الناس في كل ما يواجههم من قضايا ومشاكل في الحاضر والمستقبل إنهم ورثة الأنبياء في العلم والدعوة ، فلا بد أن تقوم بهم الحجة على الناس من خلال ما يريد الله لهم أن يكونوا في مستوى إقامة الحجة عليهم من قبله ، تماما كما هو النبي الذي تقوم به الحجة على الناس من قبل الله .. وهم أمناء الرسل ، فلا بد لهم من الارتفاع إلى المستوى الرفيع من وعي الحياة بالإضافة إلى وعي الإسلام ، لأنه لا معنى لقيادة لا تعرف كيف تخطط لحركتها ، أو تواجه جمهورها بالتوعية الشاملة ..
وسماحة السيد المرجع الديني محمد حسين فضل الله ( رضوان الله عليه ) ، هو أحد أعلام الأمة وعلمائها ، الذي جسد مفهوم العالم في حركته المعرفية والفكرية والسياسية والاجتماعية ، وكان لعطاءاته الفكرية وجهوده الإصلاحية الدور الأساسي في مسيرة العديد من الوجودات والمجتمعات العربية والإسلامية ..
وشكل العلامة فضل الله خلال الخمسة عقود الماضية ، نموذجا ومدرسة متكاملة في الفكر والعطاء والممارسة السياسية ، وهي تجربة ثرية تستحق البحث والتفاكر المشترك حولها والدراسة المتأنية حول حركة تطورها التاريخي ومآلاتها المستقبلية ، وأهم الدروس والعبر التي يمكن أن نخرج بها من خلال دراسة تجربة هذه الشخصية الرسالية الفذة ..
وهذه الدراسة هي محاولة في هذا السبيل .. وهي تتكون من ثلاث محاور :
المحور الأول : الإطار النظري الذي يوضح بعض المقدمات النظرية والفكرية التي تساهم في فهم واستيعاب حركة السيد فضل الله .. وتجربته متعددة الجوانب ..
المحور الثاني : بيان أهم خصائص هذه التجربة ، التي تركت تأثيرات عميقة في مسار العمل الإسلامي في العصر الحديث ..
والمحور الثالث : دروس مستفادة من هذه التجربة ، نعمل على تظهيرها ، حتى تكون جزء من وعينا وحركتنا الراهنة ..
1-في معنى التجربة الإنسانية
ثمة ضرورات اجتماعية ومعرفية، لدراسة التجارب الدينية والفكرية والسياسية.. لأن هذه التجارب، تمثل إضافة نوعية في مسيرة الأمة.. والعمل على دراستها التأمل في أحوالها وإدراك طبيعة التطور الذي حدث فيها، كلها تساعد في استيعاب هذه التجارب وأخذ العبر والدروس منها ..
فالمجتمع حين دراسته لتجارب علماءه ومصلحيه ورواده ، لا يبدأ من الصفر ، وإنما يبدأ من حيث وصلت إليه هذه التجارب .. بمعنى إنه سيتجاوز العديد من القضايا والأمور ، التي تم بحثها في العطاء الفكري لهذه الشخصية ، أو الجهد الإصلاحي الذي بذله هذا العالم أو ذاك الفقيه ..
ولعل من أهم مؤشرات الحيوية والفعالية في أي مجتمع ، حينما يسارع إلى إخضاع تجاربه المختلفة إلى الفحص والدراسة والمراجعة .. لأن هذا أحد المعطيات الأساسية التي تجعلنا ندرك أن هذا المجتمع بنخبته الدينية والثقافية والاجتماعية ، ينشد التطور والتقدم ، ويعمل على مراكمة عناصر القوة في مسيرته وتجربته .. ودراسة تجارب العلماء والمفكرين والإصلاحيين ، هي أحد روافده لتحقيق ذلك ..
، ولاريب أن تسجيل التجارب وفحصها يساهم في أن تتعرف الأجيال الطالعة باستمرار على تجارب الأمة في مسيرة الإصلاح الديني أو التغيير الثقافي والاجتماعي ..
.. ونحن هنا لا نود الترويج لهذه الأطروحة أو تلك ، وإنما ما نود بيانه أن التجارب الإنسانية وبالذات في الحقول الدينية والفكرية والسياسية ، بحاجة دائما إلى التفاكر المشترك حولها والدراسة المتأنية حول حركة تطورها التاريخي ومآلاتها المستقبلية ..
وفي سياق التأكيد على ضرورة الاهتمام ، بتوثيق التجارب وقراءتها قراءة فاحصة وموضوعية للاستفادة القصوى منها على صعيد الراهن والمستقبل أود التأكيد على النقاط التالية :
1-إن القراءة العلمية والموضوعية تقتضي قراءة هذه التجارب بمختلف مراحلها وأطوارها في إطار سياقها التاريخي وشروط الزمان والمكان الذي تبلورت فيه هذه التجربة أو تلك الممارسة .
لأنه لا يمكن أن نفهم التجارب على حقيقتها ، إذا ألغينا سياقها التاريخي أو شروطها الاجتماعية والثقافية والسياسية التي نتجت في ظلها أو تحت تأثيرها .. فمفارقة السياق التاريخي للتجارب الإنسانية ، يساهم في تشويه قراءة التجربة ، أو تحميلها شروط زمان غير زمانها ، أو مكان مختلف في خصوصياته وشروطه عن مكانها .. لهذا من الضروري أن تقرأ هذه التجارب في ظل سياقها التاريخي وشروطها الاجتماعية وظروفها السياسية والثقافية ، حتى يتسنى للقارئ أو الباحث قراءة التجربة قراءة صحيحة ودقيقة وبعيدا عن عملية المسبقات الأيدلوجية أو الإسقاطات التاريخية والاجتماعية .. فالمطلوب دائما قراءة تجاربنا وتجارب غيرنا من خلال معرفة سياقها التاريخي وظروف نشأتها المختلفة .. لأن هذه القراءة السياقية هي التي تفتح عقولنا ونفوسنا ، لاكتشاف عناصر القوة في التجربة ، وكيف تمكن أصحابها من اجتراح فرادتهم في ظل ظروف وسياقات مجتمعية ليست مواتية .. فالمطلوب ليس الانبهار بالنتائج ، وإنما معرفة كل الأسباب والعوامل التي أسهمت في صناعة التجربة وتذليل كل الموانع والعقبات ..
2-لأن التجارب الإنسانية متعددة الوجوه والصور . فهي ( أي التجارب ) توفر إمكانية حقيقية للنظر إليها من أكثر من بعد وزاوية .. لهذا فإن من الخطأ الذي يصل إلى حد الخطيئة ، حينما يتم النظر إلى التجارب الإنسانية من زاوية واحدة فقط .. وإنما من الضروري أن تتعدد زوايا النظر والقراءة للتجارب الإنسانية ، وذلك حتى تتمكن جميع القراءات أن تنجز رؤية متكاملة أو قريبة من التكامل لهذه التجربة أو تلك .. فالقراءة المتكاملة والشاملة للتجارب ، هي التي تخرجنا من محنة الانبهار الأعمى بالمنجز دون الاستفادة الحقيقية منها .
وأود هنا أن أؤكد وبالذات على المنبهرين بالتجربة ، والذين هم وبدوافع نفسية معروفة ، يصرون على أن تكون قراءتهم للتجربة هي القراءة الصحيحة وهي التي تحضا بالقبول والرضا ..
فالتجارب مهما كان قرب الإنسان من صانعها ، ليست ملك أحد ، بل هي ملك الإنسان والمجتمع ، وبإمكان كل باحث إذا تسلح بسلاح العلم والمعرفة والموضوعية أن يقرأ هذه التجربة ، من الزاوية التي يراها مناسبة ، وبالطريقة التي تمكنه من فحص كل جوانب وزوايا التجربة ..
وفرص الاستفادة من التجارب ، تتضاءل حينما تقرأ هذه التجارب بنمط واحد وبزاوية واحدة فقط .. فالتجارب الإنسانية لن نتمكن من اكتشاف ثراءها وحيويتها ، إلا بقراءات متعددة لها في كل مراحلها وأطوارها ..
3– إن المجتمعات المتقدمة والتي تسعى دوما للقبض على أسباب التقدم والتطور ، تعمل عبر وسائل عديدة لقراءة تجاربها والإفادة منها .. لأنها جزء من ثروتها الإنسانية والمعرفية ، والتي تحتاج بشكل دائم إلى الفحص والاكتشاف واستيعاب دروسها وميكانزمات حركتها وتطورها الأفقي والعمودي .. لذلك فهي تعمل على تشجيع المؤسسات والمعاهد البحثية إلى العناية بالتجارب وضرورة قراءتها قراءة واعية ونقدية وبعيدا عن نزعات الإطراء والتهريج الإعلامي ..
لهذا فإن هذه المجتمعات وعبر ما توفره من دراسات وأبحاث معمقة وجادة لتجاربها ، تمتلك القدرة على تجاوز أخطائها وعثراتها .. لأنها درست أخطاءها بعمق وبعيدا عن نزعات التبرير والتسويغ .. لهذا فإن علاقة المجتمعات المتقدمة بماضيها وتجاربها السابقة ، ليست علاقة مرضية ، لا تستطيع الانعتاق منها .. وإنما هي كأي تجربة إنسانية ، ينبغي أن تخضع للدراسة والفحص الموضوعي ، ويتم من خلال هذه الدراسات الوصول إلى نتائج جديدة ، يتم الاستفادة منها في الأيام القادمة ، دون الانحباس المرضي في شرنقة التجربة أو التعامل معها بوصفها تجربة إنسانية نهائية لا يمكن تجاوزها معرفيا واجتماعيا ..
فالتجارب الإنسانية تقرأ بوعي وموضوعية دون التوقف عن العمل والبحث عن الفرادة .. وهذه العناصر هي المطلوبة لإنجاز مفهوم التجاوز المعرفي والفلسفي للتجارب التي يمر بها الإنسان سواء كان فردا أو جماعة .. فالتجارب الإنسانية لن تبلغ رشدها ، إلا بفحصها وقراءتها بعمق وتمعن وفي سياقها التاريخي وضمن شروطها الاجتماعية وظروفها السياسية وآفاقها الثقافية ..
لهذا فإننا نشعر بأهمية تدوين تجاربنا الوطنية والفكرية والسياسية والاجتماعية ، والعمل على فحصها ودراستها من قبل مختصين ومهتمين ، وذلك من أجل تحديد عناصر القوة لتعزيزها في فضائنا الاجتماعي والوطني .. ومعرفة عناصر الضعف التي ينبغي أن تتراكم كل الجهود من أجل إنهاء وجودها وتفكيك حواملها الأساسية التي تضر بواقعنا الوطني ومستقبله ..
فلننفتح جميعا على تجارب بعضنا البعض ، ليس من أجل توفير مادة للسجال وإنما من أجل اكتشاف الطريق المناسب والحيوي لنهضتنا الوطنية في مختلف المجالات ..
يتضمن النص القرآني العديد من الآيات والشواهد التاريخية ، التي تؤكد على ضرورة أن يراجع الإنسان أفعاله ، وينقد ممارساته من أجل تقويمها بما ينسجم والقيم الإسلامية العليا . فالباري عز وجل يقسم بالنفس اللوامة ويعلي من مقامها ، لأنها تمارس عملية اللوم والمراجعة والمحاسبة والنقد كي تصل إلى المستوى المثالي في التعامل مع الأمور والأشياء . فقد قال تعالى [ ولا أقسم بالنفس اللوّامة ].
والقسم الرباني بالنفس اللوامة يوضح قيمتها في حركة الوجود الإنسانية في ارتفاعه إلى الأعلى ، بوصفها بأنها تعمل على تخفيف الأثقال الروحية والأخلاقية والاجتماعية التي تشد الإنسان إلى الأسفل ، لينطلق من موقع إنسانيته في حالات الصفاء الروحي الذي ينفتح به على الله عز وجل .
وبذلك كانت تمثل قمة النموذج الإنساني في أصالة التجربة الحية الواعية في حركة الحياة في داخله . فمقتضى عمق اللوم على الغفلة ، وعلى التقصير ، لا يترك النفس سادرة في هواها وفي غفلتها ولا يقف بها في أجواء اللامبالاة فيما يثار حولها من قضايا ، لا سيما إذا كانت القضية تتصل بالمصير الأبدي ، مما يجعلها في مستوى الأهمية الكبرى في مواقع الفكر والإيمان .
والقرآن الحكيم يثير فينا حس النقد الذاتي ، عن طريق تذكيرنا بحقيقة وجدانية ، ألا وهي بصيرة الإنسان على نفسه ، فإنه قبل الآخرين شاهد عليها وعالم بواقعها ، مهما توسل بالأعذار والتبريرات الواهية . يقول تبارك وتعالى [ بل الإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره ] .
ويؤكد القرآن الحكيم في الكثير من الآيات أيضا على مراجعة تجربة دعوات الأنبياء وتشخيص سلوك المجتمعات الغابرة ومواقفها ، حتى نتمكن من الاستفادة منها وأخذ العبر والدروس من محطاتها وانعطافاتها . كما ينتقد القرآن الكريم تقليد الآباء والأجداد . قال تعالى [ بل قالوا إنا وجدانا آبائنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ، وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجـــدنا آبائنا على أمة وإنا عـــلى آثارهم مقتدون ] .
وبهذا أسس الإسلام عقلا برهانيا ونقديا لدى الإنسان المسلم ، وهذه هي البذور الأولى لمشروع النقد والمساءلة لظواهر الحياة الطبيعية والإنسانية . ولا ريب أن هناك جملة من العلوم قد تطورت وتأسست في الفضاء الحضاري الإسلامي من جراء هذه العقلية البرهانية ـ النقدية . فعلم الجرح والتعديل وعلم الحديث ونقد الرواية كلها علوم تبلورت ونضجت من جراء العقلية النقدية الإسلامية .
والنقد كعملية ثقافية ـ معرفية ، هو عبارة عن فحص لكل ما هو سائد في سبيل واقع آخر مضاد له وفقا لنموذج أو تصور مستقبلي . " فالنقد يعني : الفحص والاختبار ووضع كل شيء في ميزان العقل والاحتكام إلى معاييره " .
ولكن ومع هذا التأكيد القرآني والإسلامي ، على ضرورة المراجعة والنقد ، إلا أن واقع المسلمين يخلو من هذه القيمة ، بل هناك بعض المساحات الاجتماعية التي ترذلها . ولا ريب أن لهذا الغياب أسبابه وعوامله الثقافية والاجتماعية والنفسية . فالقناعات النفسية والثقافية التي لا تراجع ، ويتم التعامل معها كحقائق ثابتة ، تدفع باتجاه التمتع بحق الطاعة والانقياد والإتباع ، دون أن يكلف نفسه ( صاحب القناعة الثابتة ) عناء مراجعة أفكاره وقناعاته ومساءلتها .
وبهذا تتراكم عوامل الغفلة والاستعلاء ، بحيث يتجاوز هذا الإنسان كل ممارسة نقدية ، ويحجم عن ممارسة كل محاسبة إلى سلوكه وأفعاله . وهنا لا بد من بيان أن مجال النقد هو وسائل التطبيق الاجتماعي والسياسي والثقافي والتعليمي ، وذلك لأن الجمود عليها يعطل التقدم . وليس ثوابت الشرع وقيمه العليا . فالثوابت العقدية والتشريعية ليست موضوعا للنقد ، إنها موضوع للبحث والفهم . وبطبيعة الحال فإن المحيط الثقافي التي تنمو فيه حالات ضمور الحس النقدي ، هو ذلك المحيط الذي يردع عن السؤال المساءلة ، ويقف موقفا سلبيا من الاختلاف الثقافي والفكري ، ويحارب الإبداع خوف الابتداع . وهذا يعمق نفسية عامة تحول بين الإنسان الفرد والجماعة وممارسة النقد والمراجعة والمحاسبة لكل ما هو سائد . فالاختلاف المرذول والمذموم ، هو الناتج عن الهوى ، أما الاختلاف الناتج عن البحث الحر والموضوعي طلبا للحقيقة لا إتباعا للهوى فهو اختلاف مشروع ، وذلك لأنه طريق الوصول إلى الحقائق وهو الذي يثري الواقع والفكر والثقافة . والنقد وفق هذا المنظور ، هو الذي يثري الساحة الثقافية بالمضامين الجادة ، كما أنه يفعل الساحة الاجتماعية باتجاه الأمور والقضايا الأكثر أهمية وجدية . فالنقد هو الممارسة الضرورية في الاختلافات الثقافية والمعرفية ، كما أن الحوار هو الوسيلة الفعالة الذي يمنع إصدار أحكام قيمة على الظواهر الثقافية ذات الشروط العامة والتاريخية . ولا ريب أن غياب تقاليد النقد والمساءلة ، هو الذي يدفع الشعوب والأمم حين الهزائم إلى التشكيك الصارخ في كل ما هو سائد .
وهذا يقودنا إلى القول إننا بحاجة دائما أن نتعامل مع هزائمنا وانتصاراتنا بموضوعية بحيث إننا لو انتصرنا لا نصاب بداء الغرور والتعالي ، فنلغي الآخرين من خريطة الوجود التاريخي .. ولو انهزمنا ندرس أسباب هزيمتنا بشكل موضوعي وهادئ ، ودون أن يؤثر هذا على جوهر وجودنا وثوابت كياننا . ولا شك أن للإنجازات أسبابها وعناصرها كما أن للإخفاقات عواملها . والرؤية الموضوعية تحتم علينا دراسة المسألة من جميع أبعادها ، لإزالة عوامل الإخفاق وتأكيد عناصر النجاح والإنجاز .
ولا يوجد على المستوى التاريخي أن مجتمع مكتوب عليه أو قدره الهزيمة دائما أو الانتصار دائما .. وإنما هم ( الهزيمة والانتصار ) ظاهرتان إنسانيتان تتحكم فيهما جملة من العوامل الذاتية والموضوعية . فالمجتمع الذي تتوفر فيه عوامل المنعة والتفوق يحقق ذلك على الصعيد العملي ، والمجتمع الذي يتخلى عن تلك العوامل يصاب بالإحباط والتراجع والتقهقر . فالرؤية الموضوعية تعني ، الابتعاد عن التهويل والتهوين ، والبعد عن الشطط والمغالاة وعن اليأس والتيئيس الدافع إلى الاستقالة المعنوية الفردية والجماعية .
وإن فقدان الثقة بالذات من جراء نكسة أو هزيمة ، يؤدي حتما إلى الاستسلام إلى المنظومات الفكرية والثقافية للغالب .. وقد أشار إلى هذه المسألة ابن خلدون بقوله : أن المغلوب مولع دائما بمحاكاة الغالب والإقتداء به لأنه يعتقد أن انتصاره راجع إلى صحة مذهبه وعوائده .
كما أن تجريح الذات وجلدها على مختلف الصعد والمستويات ، ما هو في حقيقة الأمر إلا إخفاء لابتعاد المثقف أو المفكر أو الأديب والنخبة بشكل عام عن مواطن الإبداع الفكري والثقافي والأدبي وتحولهم في الكثير من الأحيان إلى إحالة للماضي وحجابا لعدم رؤية الحاضر .. فالقراءة الموضوعية إلى الظواهر الاجتماعية والإنسانية المفرحة منها والمحزنة تحتم علينا النظر إلى الأمور انطلاقا من أسبابها الحقيقية وعواملها المباشرة .
من هنا وتأسيسا على حقيقة التطورات السريعة التي تجري في العالم في كل تجاه ، تتأكد ضرورة التقيد بقوانين الموضوعية في دراسة التطورات والظواهر الاجتماعية والإنسانية الأخرى .. لأن توفر هذه القوانين هو الذي يمكننا من قراءة هذه التطورات والتحولات بشكل سليم ودقيق .
1- توفير أسس الفحص والمقدمات العقلية والنظرية لعملية المراجعة، إذ لا يعقل أن تتم المراجعة انطلاقا من ردود أفعال أو مماحكات سياسية أو سجالات اجتماعية . بل من الضروري أن تتوفر كل الأدوات النظرية والمفهومية والعدة التقنية التاريخية والمعاصرة لفحص الظاهرة فحصا موضوعيا متزنا .
2- التقيد بالمنهج الموضوعي دون جلد الذات أو تحميل الأخر المجهول أسباب الإخفاق وعوامل الهزيمة
وبهذا نتشبث بما يسمى بـ ( القوانين الموضوعية ) للظواهر الاجتماعية والإنسانية .. ومن هنا فإن الفكر النقدي يقتضي أيضا دراسة الظاهرة والكشف عن قوانين عملها وحركتها وعن طبيعة العلاقة التي تربط بين عناصرها المختلفة ..وعن طريق هذه الدراسة نصل إلى النتائج الأخيرة بعيدا عن المسبقات الفكرية أو الاجتماعية ، ونتعرف على الأسباب الموضوعية لنمو الظاهرة أو ضمورها .. إننا مع ضرورة المراجعة لمناهجنا العلمية والعملية ، لكنها تلك المراجعة التي تنطلق من حس المسؤولية الذاتية وتحمل الذات مسؤولية الإصلاح .
فالمراجعة والنقد جزء من مشروع الإسلام التربوي ، فلا فلاح بدون محاسبة الذات ومراجعة أفعالها وتقويم سلوكها والعدول عن الأخطاء والزلات . وبالتالي فإن النقد وفق هذا التصور مطلوبا ، لأنه سبيلنا إلى التطور والتجدد والتزكية .
يعتقد الكثير من الناس أن الوعي الاجتماعي ، هو مجرد نصوص لفظية أو شعارات يلوكها لسان الإنسان ، وامتلاك القدرة على توصيف الواقع الاجتماعي بجملة من الكلمات والألفاظ البراقة ، يعتبر واعياً اجتماعيا ويضرب به المثال في هذا المجال ،ولقد أضاع هذه الفهم ومتوالياته النفسية والاجتماعية والثقافية ، الكثير من الفرص السانحة ، التي كان بإمكان المجتمع العربي ، لو كان يسوده وعي اجتماعي حقيقي ، أن يغتنمها ويترجمها ، إلى حــقائق اجتماعية وثقافيـــة تطور من واقعه ، وتنهي الكثير من مشاكلــه و أزماته .
ومن جراء هذا الفهم المغلــوط للــــوعي الاجتماعي ، تحولت فرص النمو والانطلاق ، في المجتمع العربي ، إلى مهاوي تزيد من تعقيد المشكلة وتضيف لها أبعاداً أخرى .
وتظهر أعراض هذا الفهم المغلوط لمقولة الوعي الاجتماعي ، في الكثير من الأعراض والمؤشرات والمسارات التي تسير على هداها المجتمع العربي . فهي أساليب التربية والتنشئة الاجتماعية ، تسود قيم التلقين والتلقي والفردية القائمة على نفي حاجة الإنسان إلى التعاون والتآلف مع الآخرين ، لذلك ينشأ الواحد منا وهو لا يفكر إلا في ذاته وفي حدودها الضيقة والآنية أيضاً .
وفي التنشئة الثقافية ، تسود قيم الفرادة الموهومة ووهم امتلاك ناصية الحقيقة المطلقة وضرورة الاكتفاء بما عندنا من علم وثقافة ، وكأن العلم والثقافة وصلا إلى حدودهما القصوى ، وهي مخزنة في صندوق ، وما علينا إذا أردنا العلم والثقافة إلا فتح الصندوق ، ودورنا ينحصر في استهلاك ذلك العلم المكتشف من ذلك الصندوق .
لذلك ومن جراء هذا التركيب المجتمعي القائم ، على فهم مغلوط أو ناقص لمفهوم الوعي الاجتماعي ، نخسر فرص النمو والتطور وتنقلب علينا بشكل سلبي وتتراكم في محيطنا عناوين ويافطات تبرر لنا هذا الواقع المعاش ، وبدون الاستطراد في بيان الأعراض والآثار السيئة للفهم المغلوط لمقولة الوعي الاجتماعي ، نحاول أن نوضح مقصودنا من هذه المقولة .
الوعي الاجتماعي هو عبارة عن جملة المفاهيم والأفكار والثقافات التي توجه حركة أفراد هذه المسألة و متوالياتها المتعددة . لــهذا يختلف الوعي الاجتماعي من مجتمع إلى آخر ، باختلاف المفاهيم المهيمنة على المسار الاجتماعي ، وطبيعة الفهم الإنساني إلى تلك المفاهيم والحوافز القصوى التي تخلقها المفاهيم في حياة الناس ، لذلك فإن الوعي الاجتماعي ، هو وليد فهم الناس إلى تاريخهم وحاضرهم وقيمهم العليا ، ونتاج التفاعل البشري مع الأطر النظرية المتاحة أو المتداولة .
وبهذا نستطيع أن نحدد مفهوم الوعي الاجتماعي بالعناصر التالية :
1) مجموع المفاهيم والقيم المتداولة في حياة الناس ونظام التفاضل الموجود بينها.
2) تفسير الناس وفق ظروفهم ومستوياتهم المختلفة ، إلى تلك المفاهيم والقيم.
3) تجربة الناس اليومية في الالتزام بهذه المفاهيم ، ونظام علائقهــم الســـائد في أوساطهم ، وبينهم وبين الآخرين .
ووفق هذا المنظور ، فإن الوعي الاجتماعي ليس مفهوما ناجزاً ومكتملاً ، وإنما هو دائم التحول والتطور من جراء تحولات المجتمع المختلفة ، لذلك فإن بقاء الوعي الاجتماعي ثابتاً والواقع الاجتماعي متحركاً ومتغيراً هو الذي يؤسس لفهم مغلوط ومشوه لمعنى الوعي الاجتماعي ، من هنا فإن شرط الوعي الاجتماعي الفعال هو وجود فكر نقدي ، يدعم هذا الوعي ،ويرفده بالآفاق الجديدة ، ويؤسس لحالات تحول اجتماعي متواصل بهدف الرقي والتقدم الاجتماعي ، لهذا ينبغي أن لا نتشاءم أو ننظر بريبة وشك إلى كل الأفكار النقدية للعوائد والمسارات الاجتماعية وإنما من الأهمية بمكان أن نستوعب هذه الأفكار النقدية ونوفر لها الأطر الاجتماعية الطبيعية ، لكي تأخذ هذه الأفكار مسارها الطبيعي في التفاعل مع الواقع الاجتماعي وبهذا التفاعل تنضج الأفكار وتتبلور المسارات وتعم الحيوية الجسم الاجتماعي كله .
وتجارب المجتمعات ذات الوعي المتميز ، تؤكد لنا أهمية حركة النقد وضرورتها القصوى في خلق الوعي الاجتماعي الجديد فلولا الأفكار النقدية ، التي بثها فلاسفة التنوير في أوروبا وما أحدثته من وعي اجتماعي جديد لبقي الظلام والجمود سائدا في أوروبا فشيوع مفاهيم النقد البناء في المحيط الاجتماعي يبدد الجمود وينهي الرتابة ويبث الحيوية والحياة في أرجاء المجتمع ويزيد من مستوى المسؤولية العامة ويساهم في بلورة وإنضاج قوى اجتماعية جديدة ، تأخذ على عاتقها دور التجديد والتطوير في المحيط الاجتماعي .
وإن شيوع حالات الاضطراب والفوضى في بعض المجتمعات ، ليس من جراء حركة النقد السائد وإنما هو في حقيقة الأمر من جراء غياب أطر الاستيعاب لأفكار النقد الجديدة أو من ردود الفعل السلبية وذات الطابع الارتجالي تجاه الأفكار الجديدة . أما المجتمع الذي يوجد لنفسه القنوات الطبيعية لاستيعاب أفكار أبنائه الجدية ، فإنه سيتمكن من إضافة قوة جديدة إلى قوته وسيدخل دماء جديدة تنهي السكون وتحول دون تبلد وتكلس الحياة الاجتماعية .
لهذا فإننا نؤكد على ضرورة ، توفر الأطر المناسبة لاستيعاب وامتصاص الأفكار الجديدة ، والرؤى النقدية الهادفة إلى التطوير وإعادة صياغة وتشكيل الوعي الاجتماعي بما ينسجم ومتطلبات العصر وضرورات التقدم الاجتماعي .
ولا بد أن لا نستعجل في إطلاق الأحكام واتخاذ المواقف ، تجاه من أجتهد في سبيل تطوير وتجديد الوعي الاجتماعي . وأن التحليل العلمي النقدي للسائد اجتماعيا وثقافياً هو الذي يوفر الأرضية العقلية والنفسية لتجاوز البائد من ذلك السائد ،وإنهاء ما فيه من أنماط بالية ولقد حاول الدكتور ( هشام شرابي ) في كتابه " البنية البطركية .. بحث في المجتمع العربي المعاصر " . أن يوضح الصلة الضرورية بين الوعي الاجتماعي والفكر النقدي .
لهذا من الضروري أن نتعامل مع التحليلات النقدية لمسار المجتمعات العربية برؤية منفتحة – مستوعبة بعيدة كل البعد عن لغة النفي والتخوين – وإن النقد الهــادف في أحــد وجوهـــــــه الرئيسة ، يشكل شرطاً ضرورياً لتحقيق التطور الاجتماعي المأمول .
فلا وعي اجتماعي متجدد ، إلا بفكر نقدي ، ولا فكر نقدي بنــــاء ، إلا بــوجود أطر مجتمعية ، تستوعب تلك الأفكار وتموجاتها . وهكذا يصبح الفكر النقدي شرطا من شروط الوعي الاجتماعي الجديد ، بمعنى أن وعي المجتمع بذاته وبالآخرين وبدوره التاريخي ، لا ينجز إلا على قاعدة نقدية مستديمة ، تسائل السائد ، وتجعله على طاولة التشريح والتقويم . وضرورة الحفاظ على الوئام الاجتماعي ، لا تعني بأي شكل من الأشكال قسر الجميع وإرغامهم على نمط اجتماعي محدد . وإنما تعني حيوية التنوعات وفاعليتها في أثراء مفهوم الوئام الاجتماعي ، بأفكار ورؤى وآفاق جديدة .
وبالتالي فإن الإصرار على إيجاد مسافة تفصل الوعي الاجتماعي السائد ، عن الفكـــــر الـــنقدي ، يؤدي فيـــــما يؤدي إليه ، إلى شيوع حالة العجز التي تنتاب المجتمع تجاه مشاكله وتحدياته المصيرية .
وعليه فإنه لا مبرر للخوف من النقد وفحص المسلمات الاجتماعية ، لأن هذا النقد والفحص ، هو الذي يطرد العناصر السلبية والميتة من الفضاء الاجتماعي . والخوف الحقيقي ينبغي أن يكون ، حينما تغيب عمليات النقد ، وحينما تتضاءل فرص الفحص على وقائع المسيرة الاجتماعية . فالنقد ضرورة قصوى لسلامة المجتمع ، لأنه يتجه صوب نقاط الضعف ويعمل على تعريتها وفضحها ، ويشحذ الهمم لتوفير الإرادة المجتمعية القادرة على سد تلك النقاط . فلا قوة حقيقية لأي مجتمع تغيب فيه عمليات النقد والتقويم . فالقوة مرهونة بقدرة أبناء المجتمع على مساءلة سائدهم ، وفحص قناعاتهم العامة ، وذلك ليس من أجل إشاعة الفوضى والهدم ، وإنما من أجل طرد كل الأمراض التي قد تبرز في الفضاء الاجتماعي .
لهذا كله فإننا ندعو إلى عدم الخوف من النقد الاجتماعي والعلمي ، بل من الضروري أن نوفر الأطر البحثية التي تقدم لنا دراسات وأبحاث جادة عن واقعنا الاجتماعي . لمعرفة عناصر قوتنا وضعفنا ، ومن ثم العمل على تأكيد عناصر القوة وطرد عناصر الضعف . فلا حيوية في المجتمع بلا نقد ، ولا قدرة للمجتمع للتخلص من عيوبه بدون تشجيع الباحثين والمختصين على قراءة الواقع الاجتماعي ونقده .
والنقد الاجتماعي لا يؤسس للفوضى والانفلات أو تضخيم السلبيات ، وإنما هو ضرورة من ضرورات تحقيق الأمن الاجتماعي .
وجماع القول : إننا بحاجة دائمة إلى ممارسة النقد والفحص ، حتى يزداد وعينا الاجتماعي وتنضج قدراتنا المجتمعية ، وتتمكن من طرد كل عناصر الضعف والاهتراء من فضائنا الاجتماعي . وعليه فإن الخوف من النقد يضر بالواقع الاجتماعي حقيقة . ولا سبيل أمامنا إذا أردنا الحيوية والفعالية الدائمة ، إلا مواصلة الفحص الدائم والنقد المستمر لكل وقائعنا وحقائقنا الاجتماعية . النقد الذي لا يستهدف التقويض ، بل التقويم وتصحيح الاعوجاج .
ثمة ضرورة تبلورت في مجالنا العربي والإسلامي من جراء أحداث وتداعيات الحادي عشر من سبتمبر وحرب أفغانستان . ألا وهي ضرورة الانطلاق الجاد في بناء ثقافتنا من جديد على ضوء معطيات الراهن وثوابت الثقافة التي صاغت مسارات واقعنا المجيد .
ولكن هذه الانطلاقة لا تستهدف تبرير ما جرى ، أو تأكيد حقيقة أن هناك ظروف موضوعية وسياسية قادت الأمور إلى ما جرى من أحداث وفظائع . وإنما هي انطلاقة تجتهد في تجسير الفجوة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون ، بين حركة الواقع بتعقيداته وتشابكاته وحقائق ثقافتنا التي لا تقبل التأويل والتحوير .
وتنبع أهمية العمل على إعادة بناء ثقافتنا من النقاط التالية :
فالكثير من عناصر الثقافة ومواد الإعلام التي أنتجت بعد الحادي عشر من سبتمبر ، تدفع الأمور باتجاه تحميلنا مسؤولية تلك الأحداث . وإن الخيار المطروح إمامنا لقبولنا في حركة العصر والنادي الحضاري العالمي ، هو التخلي عن الكثير من القيم التي فهمها بعضنا بشكل خاطئ ومغلوط أو تم قراءتها من قبل دوائر الغرب الثقافية والإعلامية بشكل ملتبس وغامض . مما أدخل واقعنا في دوامة العمل على تبرئة عقيدتنا مما جرى . وإن ما جرى هو وليد تطورات سياسية إقليمية ودولية ، هيأت الأرضية السياسية للانطلاق في مشروعات عنيفة ضد الولايات المتحدة الأمريكية .
وعلى كل حال فإننا نود القول في هذا الصدد : أن ما جرى أدخلنا في واقع جديد وتحديات حضارية بعناوين ويافطات حديثة ، وإن كل هذا يدفعنا إلى أن نستخرج من معادن ثقافتنا الغنية عناصر حيويتها ونطورها حسب حاجات واقعنا وشعوبنا ، ثم نعيد صياغتها وننتجها بشتى ألوان الإنتاج مقروءا ومسموعا ومرئيا .
كل يوم نعيش تحديا حضاريا جديدا, ونواجه أحداثا ووقائع لا نعرف أحكامها ومنهج مواجهتها, حتى جعل الكثيرين منا يعيشون التردد والغبش في الرؤية تجاه كل ما جرى من أحداث وتطورات.
ومن هنا ومن أجل مواجهة الثقافة الغريبة التي تريد وتسعى أن تحملنا كأمة ومستقبل مسؤولية ما جرى, ومن أجل مواجهة المشاكل اليومية العالقة التي زادتنا ترددا وضياعا والتباسا, فإن علينا إعادة بناء ثقافتنا وتحرير وعينا من القوالب الفكرية والثقافة التي تريد مؤسسات الإعلام والثقافة الغربية إدخالنا فيها, وجعل أولوياتها هي أولوياتنا, وأجندتها هي أجندتنا. ومن المشاكل اليومية التي إذا فقدنا البوصلة تزيدنا ضياعا وغبشا وبعدا عن أولوياتنا الصحيحة.
ومن الطبيعي القول : أنه من دون الثقافة الواحدة ذات القيم الإنسانية والحضارية السامية والثابتة التي يؤمن بها الجميع إيمانا راسخا يبعثهم على العطاء من أجلها والتضحية لها بكل شيء يسقط الجدار المعنوي لبناء الأمة.
ومن دون الهدف, ذو التجربة التاريخية, الذي يكون نقطة ارتكاز لنشاطات وحركة الأمة, ينهار الجدار المادي لبناء الأمة,
وإن بوابة كل ذلك أو بالأحرى إن شرط القبض على كل ذلك }الثقافة الواحدة والهدف الواضح{ , هو تحرير وعينا الإسلامي المعاصر من كل الأوهام والأغلال التي تكبل تفكيرنا وتحرف أولوياتنا وتجعلنا نعيش الغبش في كل شيء.
إننا كأمة نتعرض اليوم لتهديد حقيقي بضياع شخصيتنا ولا سبيل أمامنا إلا تحرير وعينا من كل الرواسب التي تحول دون انطلاقتنا الحضارية والإنسانية.
إن ما جرى من أحداث ومآسي ليس نهاية التاريخ, وإنما هو لحظة تاريخية تحملنا مسؤولية العمل على بناء ثقافتنا حتى يتسنى لنا جميعا المشاركة الفعالة في حضارة العصر. وحتى نتمكن من خلال وعينا وتقدمنا الحضاري, أن نجابه كل التصورات التي تحاول أن تلصق صفة التخلف والتأخر بالإسلام.
إن مسؤوليتنا تتجسد في الهروب إلى الأمام, عبر تحرير وعينا وبناء واقعنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي على أسس أكثر إنسانية وحضارية . وينبغي أن ندرك جميعا أن الزيادة في الدين حرام, لأنها نوع من الغلو الممنوع. وإن هذا الأخير كان هو المسئول المباشر عن تمرد طائفة كبيرة من الناس على الدين.ولا يخفى علينا جميعا أنه في العالم المسيحي كان الغلو في الدين هو السبب المباشر لانتهاء سيطرة الكنيسة وتحول الناس إلى اللائكية والإلحاد.
وحين تراجعت الكنيسة تحت ضغط الظروف عن إضافاتها اللامعقولة إلى الدين عاد العالم الغربي إلى الكنيسة. من هنا غضب الباري عز وجل على طائفة من الناس لأنهم حرموا ما أحل الله لهم وقال } قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون* قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون{ . (الأعراف الآية 32-33 )..
من هنا فإننا نقول : إن فتح أبواب التطور أمام الأمة, يتطلب تحرير وعينا وبناء ثقافتنا على ضوء معطيات الإنسان والحضارة. وهذا يقودنا إلى التأكيد على النقاط التالية:
1- أصالة القيم: غني عن القول, أنه كلما ابتعدنا عن القيم والمبادئ والمثل الإنسانية والحضارية, اضطرب واقعنا وبدأنا نعيش في دائرة الفوضى والعدوان واللاأبالية. لهذا فإننا لا يمكن أن نبني ثقافتنا ونحرر وعينا من الأوهام والأغلال الداخلية والخارجية. بدون الاستناد إلى أصالة قيمنا ومبادئنا. وما أحوجنا اليوم كأفراد وأمة إلى تلك القيم التي تعلي من شأن الإنسان وكرامته وتحفزنا على التعاون والتسامح والتآخي على قاعدة المشترك الديني والإنساني. فالناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق. وإن جهدنا اليومي المطلوب, ينبغي أن يتجه صوب تعميق هذه القيم ومتطلباتها في فضائنا الاجتماعي. فكلما نقترب من الالتزام بمقتضيات هذه القيم, تتوطد أسس الأمن والاستقرار في محيطنا ومجالنا الاجتماعي. ولا تحرير لوعينا إلا برافعة هذه القيم, التي تطرد من عقولنا وواقعنا كل حالات الأثرة والأنانية والتصنيف والتهميش والانخراط الأبله في مشروعات التفتيت والحروب المجانية.
والفقهاء والعلماء والمثقفين في مجالنا العربي والإسلامي, يتحملون مسؤولية كبرى في هذا الإطار, إذ أن عطاءهم الفكري وجهدهم الإصلاحي من الأهمية بمكان أن يتوجه صوب تعميق حقائق حقوق الإنسان وخيار الحرية والديمقراطية في الأمة.
2- ضرورة الاستناد على حقائق القوة والتقدم, وترك ونبذ الشعارات التي نتعامل معها وكأنها البديل الجوهري عن العمل والبناء. فالتقدم ليس وليد الشعار المجرد, بل هو نتيجة العمل المستمر الذي يتجه نحو صناعة الحقائق الثقافية والاقتصادية والسياسية, التي تساهم في حل العديد من المشكلات,وتستوعب جملة من الطاقات والكفاءات, وتؤكد لنا جميعا أن لا خيار أمامنا إلا خيار البناء والعمل من أجل ترجمة طموحاتنا وتطلعاتنا إلى حقائق ووقائع على الأرض.
3- التفاعل مع التجارب الإنسانية الحديثة, ورفض حالات الانكفاء والانعزال والتهميش. فالعلم الحديث, خلاصة تجارب, وعلينا أن ننفتح عليها, ولكن قبل ذلك علينا أن نميز بين قشور التجارب ولبابها, بين المغزى الحقيقي للتجربة, وبين الإطار الذي وضع فيه هذا المغزى.
والأمة التي تنعزل عن تجارب غيرها, تتأخر, ولا تمتلك القدرة على استيعاب تطورات ومكاسب الآخرين.
وجماع القول: إن التطورات السياسية التي تجري اليوم في المنطقة, تتطلب منا العمل على تحرير وعينا من أوهام الاستنساخ الحرفي وأسباب العطالة والاستقالة عن الفعل التاريخي, ونعمل جميعا على تأسيس وعي معاصر, يأخذ في اعتباره أن القبض على المستقبل, لا يأتي إلا ببناء القوة الحضارية, وصنع حقائق التقدم والتطور في فضائنا العربي والإسلامي. و البداية السليمة لأي مشروع سياسي أو اقتصادي أو تجاري أو حضاري, هو التعرف التام على الراهن واللحظة التاريخية و جوانبها المختلفة, لأنه باختلاف الواقع, يختلف الأسلوب, و تتغير الوسيلة, فواقع الثمانينات الاقتصادي مثلا, يتطلب مشاريع وأفكار اقتصادية, تختلف بشكل أو آخر عن مشاريع ومتطلبات عقد التسعينات, كما أن العقد الأول من الألفية الجديدة تتطلب مشروعات وأفكار اقتصادية متميزة. والمشروع الاقتصادي أو التجاري أو الحضاري, الذي يجهل الواقع ومتطلباته, لن يتمكن من تحديد سلم الأولويات في مشروعه. وكثيرة هي الأعمال والأنشطة في المشهد العربي, التي ضيعت سلم الأولويات لا لسبب ذاتي, وإنما لجهلها التام أو النسبي للواقع الذي تعيشه و متطلباته المختلفة. ولكن ثمة خلل عميق قد يصيب المجتمع في هذه المسألة, إذ كثير من المجتمعات, تختلط لديها الأماني و التطلعات بالإمكانات والقدرات المتوفرة, لأن العمل والسعي الحثيث, هو القنطرة الوحيدة لنقل التطلع من عالم التجريد إلى عالم التشخيص, من المثال إلى الممكن. ويجانب الصواب من يرى أن أحقية تطلعه, وأهمية أمنيته وعدالة قضيته, كل هذه الأمور كافية لاجتياز طريق تحقيقها وإنجازها في الواقع الخارجي, لأن هذه القضية قضية موضوعية, خاضعة إلى النواميس والسنن, ومقدار القدرة الفعلية المتوفرة في سبيل الإنجاز.
من هنا تنتج ضرورة الموازنة بين التطلع والإمكانيات, بين الواجب و الواقع, بين المثال والممكن, بين ما ينبغي أن يكون وبين ما هو كائن, لأن هذه الموازنة, هي التي توظف الإمكانات القليلة في سبيل تحقيق التطلع الأهم وذات الجدوى.
ولعلنا لا نبالغ حينما نقول, أن دراسة تجربة العرب والمسلمين المعاصرة سواء على الصعيد السياسي, أو على صعيد مشاريع التنمية و التطوير الاقتصادي, تكشف لنا أن أحد الأخطاء التاريخية التي منيت بها تجربة العرب والمسلمين المعاصرة على هذه الصعد, هو حالة الخلل الموجودة بين الممكن و الواجب, بين التطلع والإمكانيات, إذ اختلطت هذه الأمور في التجربة, فجعلت البعض يقوم بأعمال وأنشطة و مشاريع لا تنسجم وظروفه الواقعية.
ونحن هنا بطبيعة الحال, لا ندعو إلى أن يتخلى العرب أو المسلمون عن تطلعاتهم و أمانيهم لأنها ضرورة من ضرورات الوجود الإنساني. ولكننا ندعو إلى أن المجتمعات العربية والاسلامية على المستوى العملي والفعلي, ينبغي أن يعملوا في كل الاتجاهات على قاعدة الإمكانات و القدرات, لأن الإنسان مهما أوتي من قوة, فإنه لن يستطيع أن يحقق تطلعاته دفعة واحدة, وإنما عليه أن يعمل و يسعى, لتحقيق خطوات و إنجازات ومكاسب, تقربه من تطلعه البعيد. وعلى هدى هذه الحقيقة التي ترقى إلى مستوى القانون, تتأكد مسألة الموازنة بين المثال والممكن, وإننا نرى أن أحد الشروط الأساسية لنجاح المجتمع العربي في تنميته وتطوره, هو الموازنة الواعية بين الممكن والواجب. لهذا فإن القرآن الحكيم نزل منجما [بالتدريج] والدين الإسلامي في كل توجيهاته الفكرية, و تعليماته الأخلاقية, وتشريعاته القانونية, يأخذ بعين الاعتبار واقع الحياة والإنسان. وهذا لا يعني التخلي عن المثال أو التطلع, وإنما يعني العمل على رفع سيئات الواقع و إحلال حسنات المثال و القيم بشكل تدريجي لا يفاجئ الناس, ولا يعطل مسيرة المجتمع .
فلا يكفي حماس المجتمع حتى يتحقق تطلعه و طموحه, وإنما لابد من توفير جملة من العوامل الذاتية والموضوعية, لإنجاز التطلع والطموح. وإن الخطر الحقيقي الذي يواجه الواقع العربي اليوم, ليس في الهزيمة المادية الخارجية, بل في الهزيمة النفسية. التي تسقط كل خطوط الدفاع الداخلية, وتمنع من وجود القدرة الطبيعية لإدارة الذات فضلا عن تطويرها وتذليل العقبات التي تمنع ذلك.
لعلنا لا نضيف جديدا ، حين القول إن من أهم الخصائص التي تميز تجربة العلامة السيد فضل الله الاجتماعية والحركية ، هو أن هذه التجربة منذ انطلاقتها الأولى اعتمدت على العمل المسجدي ..
فمن المسجد باشر السيد دوره الديني والوعظي ، ومن المسجد عمل على توسيع حالة الوعي الديني في المجتمع .. ومنه ( أي المسجد ) تواصل اجتماعيا مع مختلف فئات المجتمع .. ومن المسجد تحسس حاجات الناس وعمل على تلبيتها وسدها ..
فالمسجد في تجربة السيد فضل الله الاجتماعية ، هو نقطة الارتكاز التي انطلق منها ، ومن خلاله مارس أدواره ووظائفه الدينية والاجتماعية الأخرى ..
والعلامة السيد الراحل ، كان علامة بارزة في طبيعة التصاق عالم الدين بالمسجد ، وبإحياء دوره في المجتمع ..
ولا يمكن لأي دارس لتجربة السيد الاجتماعية أن يتجاوز حقيقة اهتمامه بالعمل المسجدي ، وأحياءه لوظائفه المتعددة .. وحين التأمل في هذه التجربة نرى أن المسجد في رؤية العلامة فضل الله كان يقوم بالأدوار التالية :
1- إقامة الصلوات وتعليم الأحكام الإسلامية للمصلين .. ولا يخفى على أحد أن هذه البرامج كانت آنذاك هي الرافد الأساسي لعموم أبناء المجتمع لمعرفة أحكام دينهم وتعاليم شريعتهم المقدسة .. فهي البوابة الواسعة المتاحة آنذاك لتوسيع دائرة المعرفة الدينية ، وتعزيز قيم الدين في الفضاء الاجتماعي ..
2- إحياء المناسبات الدينية :
فالمسجد في هذه التجربة ، ليس مكانا للصلاة فقط ، وإنما هو أيضا المكان الذي يحيي فيه سماحة السيد وبقية المؤمنين المناسبات الدينية المختلفة ..
ومن خلال هذا الدور تحول المسجد إلى منبر لصناعة الوعي الديني وتنمية الحالة الإيمانية في المجتمع ..
3- التواصل الاجتماعي :
فالمسجد كما أسلفنا هو حجر الزاوية في هذه التجربة الرائدة ، لذلك فإن لحضور السيد الدائم في المسجد واعتناءه اليومي بشؤونه ، عمق صلاته بأبناء مجتمعه .. فكان المسجد هو نقطة الانطلاق لزيارة المرضى ، وتفقد أحوال الناس المعيشية ، ومعالجة المشاكل الأسرية والزوجية ، ومشاركة أبناء المجتمع في أفراحهم وأحزانهم ..
فالعمل المسجدي في هذه الرؤية والتجربة ، هو الوعاء الذي يستوعب مجمل الأنشطة الاجتماعية ، التي تستهدف حماية الحلقات الضعيفة في المجتمع ، وتذليل العقبات أمام الأسر للحفاظ على استقرارها ، كما أنه الإطار الذي تنطلق منه الأعمال والمبادرات والأنشطة التي تستهدف زيادة وتيرة التضامن الاجتماعي بين مختلف الفئات والشرائح.
4- الاهتمام بشريحة الشباب :
لعلنا لا نأت بجديد حين القول : أن العلامة فضل الله بدأ تجربته الدينية والاجتماعية في ظرف يغيب فيه اهتمام عالم الدين بالأجيال الطالعة في المجتمع ..
لذلك فإن من أهم ما يميز تجربة السيد على هذا الصعيد ، هو اهتمامه بالشباب ، وحثهم على حضور صلاة الجماعة والتفاعل مع أنشطة المسجد الأخرى ..
فالمسجد في التجربة الاجتماعية للسيد الراحل ، كان واحة للاهتمام بالأجيال الطالعة ، وتلمس حاجاتهم والإجابة على أسئلتهم والأخذ بيدهم وتشجيعهم على العطاء الديني والاجتماعي ..
ثانيا : التصدي لشؤون الأمة وهمومها السياسية والثقافية :
فالسيد ومنذ انطلاقته العلمية والحركية في النجف الأشرف ، وهو يتصدى لشؤون الأمة ، ويعمل على توعية أبناء الأمة وتثقيفهم لكي يشتركوا في عملية التصدي وبناء البديل الإسلامي ..
وقد تجلى هذا التصدي في النقاط التالية :
1- معالجة المشكلات الثقافية والفكرية التي تعاني منها الساحة الإسلامية .. فأغلب كتبه وأبحاثه الفكرية والدعوية ، هي تقترب من مشكلات الأمة ، ويعمل وفق رؤية قرآنية – أصيلة لتقديم الحلول لها .. ففي كتابه ( أسلوب الدعوة في القرآن ( ناقش منهجية العمل الإسلامي ودعا وفق البصيرة القرآنية لمعالجة بعض المشكلات التي تعترض طريق الدعوة والدعاة ..
وفي كتابه ( الحوار في القرآن ) أصل لهذا المفهوم ، وجعله هو القاعدة الفكرية التي ينطلق منها كل مسلم وداعية في العلاقة مع الآخرين .. (وربما ازداد عمق الشعور بالحاجة إلى مثل هذا الحديث عندما بدأنا نلاحظ أن عصور التخلف الفكري التي عاشها المسلمون استطاعت أن تترك لنا كثيرا من المظاهر المتخلفة التي كان الدعاة يمارسونها في أساليب العمل ، حتى انطلقت الفكرة التي تقول :
إن الدين لا يتحمل المناقشة ولا يشجع على الحوار ، ولا يعترف بالانفتاح الواعي على أفكار الآخرين ومشاكلهم الفكرية وشبهاتهم وتحدياتهم للدين .. الأمر الذي استغله الآخرون الذين يحملون أفكارا معادية للدين ، في شؤون العقيدة والحياة فعملوا على الإيحاء إلى الأجيال الطالعة بأن الإيمان الأعمى هو سبيل الدين إلى حياة الناس ، أما الإيمان المنفتح الذي ينطلق من خلال الحوار للبحث عن الحقيقة فهو سبيل المبادئ الجديدة التي ترسم للإنسان طريق الخلاص من خلال حل مشاكله الاجتماعية ..
وكان هذا الكتاب في فترة حرجة عاشها العاملون في سبيل الله في مواجهة أعنف التحديات التي وجهت للإسلام ..
وكنا نريد للعمل أن يواجه التحديات من خلال الرسالة ، لا من خلال الانفعالات الذاتية الطارئة التي قد تضر بالعمل وربما تقضي عليه ..
ولم يكن في المكتبة الإسلامية فيما نعلم كتاب يتحدث عن أسلوب الدعوة بشكل موضوعي ومستقل ، الأمر الذي جعل الشعور بالحاجة أشد وأعمق ، لالتقاء الجانب العملي بالجانب الفكري في ذلك ) " راجع الفقيه المجدد المقدس السيد محمد حسين فضل الله من الذات إلى المؤسسة – حسين بركة الشامي – ص 26 ، 27 "
2-رعاية واحتضان الحالة الإسلامية في مناطق وبلدان إسلامية عديدة ، فلم يكن سماحة السيد يتحرك في فضاء مجرد ، وإنما يعمل عبر وسائل عديدة إلى رعاية واحتضان الكوادر البشرية التي تدير الحالة الإسلامية في أكثر من بلد ، ويقدم لهم التوجيهات ويشاركهم همومهم ، ويذلل لهم بعض العقبات ويمدهم برؤى وتصورات جديدة ، تساهم في تطوير أعمالهم وأنشطتهم المختلفة ..
3-صياغة المواقف السياسية والثقافية من أحداث المنطقة وتحولاتها المختلفة .. فلم ينعزل عن أحداث المنطقة وتحولاتها ، بل هو دائما في قلبها ومحل رصده واهتمامه الدائم .. ومن موقع الاهتمام والوعي وإدراك المخططات والمؤامرات ، كان يصيغ موقفه الرسالي ، الذي ينير درب السائرين في طريق ذات الشوكة..
ويعبر عن هذه الحقيقة في مقدمة الحلقات العشر التي كتبها بعنوان ( مفاهيم إسلامية عامة ) بقوله ( في طريق العمل للإسلام يشعر العاملون بالهوة العميقة بين الشباب وبين الدين ، ويلاحظون مع هذا الشعور أن سبب هذه الهوة هو الجو الرسمي الذي يخيم على الصلة التي تربط علماء الدين بالسباب ، الأمر الذي يحجب عن كلا الطرفين تطلعات الفريق الآخر وأفكاره ومنطلقاته في الحياة ، وبالتالي يخلق الحواجز الفكرية والروحية والنفسية التي تمنع من التفاهم أو تشجع على سوء الفهم ..
وقد حاولت عندما انطلقت إلى أجواء العمل في العراق أو في لبنان أن أتجاوز هذا الجو الرسمي إلى الجو المنفتح المنطلق الذي يجعل العلاقة في إطار الشعور العميق بالحاجة إلى المعرفة الواعية التي تتطلع في كل اتجاه ، وتتحرك في أكثر من طريق لتلاحق لمحات الحقيقة وومضات الحق ..
ورأيت أن ذلك يستدعي منا أن نعيش مع الشباب أفكاره ، ومطامحه ، وآماله ، وآلامه لنتعرف حياته على الطبيعة ، دون حاجة إلى اللف أو الدوران ..
وعلى ضوء ذلك كله كانت فكرة الندوات الثقافية التي يلتقي فيها الشباب تحت شعار طرحناه في اتجاه الحوار الحر المنفتح ، فأثبت نجاحه في أكثر من مجال وهو : ليس هناك سؤال تافه ، وليس هناك سؤال محرج .. فالحقيق بنت البحث ، والبحث لا يتبلور إلا في المجالات التي تفقأ فيها الدمامل وتنفذ إلى أعماق الأشياء ، تنتزع كل ما في داخل الذات من علامات الاستفهام حول كل شيء يتعلق بالعقيدة والحياة ) "راجع كتاب الفقيه المجدد المقدس السيد محمد حسين فضل الله من الذات إلى المؤسسة – حسين بركة الشامي– ص 29 ،30"
وكان سماحة السيد يردد دائما ( أقول لكل أخواني وأخواتي : إنني أنطلق من موقع إخلاصي الإسلامي ، ولخط أهل البيت (ع) ولأمتي كلها .. وإن قضيتي هي أن أقف ضد الاستكبار العالمي وضد الصهيونية ، وضد التخلف والجهل .. وإنني أعمل من أجل تأصيل مفاهيمنا وفقهنا وقضايانا ، حتى تدخل العصر وأن ندخل الإنسان إلى العصر بالوجه المشرق للإسلام ) "راجع وداع السيد كتابات ومقالات في رحيل فقيد الأمة الفقيه المجدد سماحة العالمة المرجع السيد محمد حسين فضل الله – ص 5"..
والذي يميز سماحة السيد على صعيد تصديه لشؤون الأمة ، إنه لم يختزل تصديه في بعد واحد من أبعاد الحياة ، فهو مارس التصدي في بعده الديني والثقافي وأفقه الحركي والسياسي والإنساني .. لذلك نجد أن تراثه المعرفي مليء بصور وحقائق التصدي لشؤون متعددة ومتنوعة في مسيرة الأمة ..
وانطلاقا من هذه الخاصية التزم سماحة السيد بشكل دائم بدعم المقاومة بكل صورها في فلسطين ولبنان والعراق ، ورفض كل أشكال الاحتلال الأجنبي للبلاد الإسلامية ..
وفي إطار تصدي سماحة السيد الشامل لشؤون الأمة وقضاياها المختلفة ، يأتي اهتمامه النوعي بشؤون الشباب والمرأة .. فله العديد من الكتابات والنظريات ، التي تعكس عناية خاصة تجاه الشباب وشؤونهم وشجونهم ، وقضايا المرأة وسبل انعتاقها من ربقة التقاليد البالية التي تحبس المرأة وتحول دون قيامها برسالتها الإسلامية والإنسانية ..
وبالإمكان التعرف على آراء ونظريات سماحته بهذا الخصوص في كتابيه الموسومين ب( دنيا الشباب ) و( تأملات إسلامية حول المرأة ) ..
ويعبر عن رؤيته للمرأة المسلمة في العصر الراهن بقوله : ( إنه حديث عن المجتمع في الدائرة الواسعة التي تتضمن الرجال والنساء فيما يريد الإسلام أن يصل إليه في مجال التربية الروحية والعملية التي تؤكد على مواقع القوة فيما هي مواقع الالتزام في الشخصية الإسلامية ، فيما هو الانتماء للإسلام وللإيمان والانفتاح عليه فيما يتمثل به من الانفتاح على الله ، وفيما هو القنوت لله والصدق في الكلمة والموقف والنية والصبر في مواقع الشدة ، وفي حالات الاهتزاز ،والخشوع الذي يعيش فيه الإنسان الشعور العميق في انفعالات روحه وفكره بعظمة الله ، والعطاء المتمثل بالصدقة في بذل المال حتى في حالات الضيق في سبيل الله ، والصوم الذي يوحي بالإرادة الصلبة في تحمل الجوع والعطش والحرمان الغريزي والعفة عن الحرام في مواجهة ثورة الغريزة الجنسية ، وذكر الله في كل حال في وعي الفكر ، وفي حركة الموقف ..
إنها الخط المستقيم ، والحركة الملتزمة القوية الواعية والقيم الروحية المنفتحة على الله ، وعلى الحياة والإنسان من خلاله ..
إنه مجتمع المرأة الملتزمة ، والرجل الملتزم في الإخلاص لله ، وهو الذي يحمل أكثر من دلالة على أن التربية الإسلامية الواعية يمكن أن تبدع هذه العناوين الكبيرة في الرجل والمرأة معا إذا عاشا الظروف الواحدة والخط الواحد .. ( راجع مجلة المنطلق العدد60، ص 12،13 ) ..
حين التأمل في سيرة أهل البيت ( ع ) ، نكتشف حجم اهتمام أئمة أهل البيت (ع) بقضاء حوائج الناس ، والعمل على خدمة ذوي الحاجات المختلفة ..
فخدمة الناس وقضاء حوائجهم في رؤية أئمة أهل البيت (ع) هي جزء أساسي من مشروعهم الرسالي .. لذلك نجد التوجيهات الإسلامية الكثيرة ، التي تؤكد على هذه القيمة وتدعو إليها وتحث الناس على الالتزام بها ..
والعلامة فضل الله في اهتمامه بقضاء حوائج الناس ومساعدتهم ، هو امتداد لهذه المدرسة الرسالية ، التي لا تتعالى على حاجات الناس ، ولا تستنكف من مساعدتهم وقضاء حوائجهم ..
والراصد لحياة سماحة السيد ، يجد العديد من القصص والمبادرات التي تنم عن اهتمام السيد بقضاء حوائج الناس وبالذات الفئات المحرومة والمستضعفة ..
فعالم الدين هو ضمير الناس ، ولا يجوز لمن هو ضمير الناس والناصت الدقيق لمشاكلهم وآلامهم وحاجاتهم ، أن يتعالى على هذه الحاجات ..
وإنما هو يتحمل مسؤولية دينية وأخلاقية ، للعمل على قضاء حوائج المحتاجين ..
والخدمة التي يقدمها عالم الدين ، هي جزء من رسالته ووعيه لموقعه في مسيرة المجتمع . لأنه لا يمكن لأي فكرة أو مشروع أن تتمكن في المجتمع ، بدون الاهتمام بمعالجة مشاكل الناس وتلبية حاجاتهم المختلفة ..
فأحد البوابات الأساسية للتمكن في المجتمع ، لأي فكرة أو مشروع ، هو في قضاء حوائج الناس ، وتقديم الخدمات الضرورية لهم ..
من هنا نجد أن السيد ، اهتم بمساعدة الفقراء والمحتاجين والأرامل وعمل على تزويج العزاب .. وكانت مبادرته الأولى في تأسيس جمعية المبرات الخيرية ، هي جزء من اهتمامه بمشروع خدمة الناس واحتضان ذوي الحاجات ، والعمل على رعاية الحلقات الضعيفة في المجتمع ..
وحينما يعتني عالم الدين بذوي الحاجات ، وبقوم عبر مبادرات ومؤسسات لحمايتهم ورعايتهم ، فإنهم يبادلونه حبا بحب ، ويعملون وفق إمكاناتهم المتواضعة على حمايته والدفاع عنه والالتفاف عليه وعلى مشروعاته ومبادراته المختلفة .. فهذا السيد الجليل وعبر هذا الحضور كان يعيش مع الناس ، ينصت إلى قضاياهم وهمومهم ، ويجيب على أسئلتهم واستفساراتهم ، ويتدخل لعلاج بعض مشكلاتهم ..
وحين نتحدث عن الحضور الاجتماعي بوصفه ميزة ، لأننا ندرك أن هناك نزعة لدى بعض علماء الدين وبالذات الكبار منهم ، هو ترفعهم عن الحضور الاجتماعي ، واستنكافهم لممارسة بعض الأدوار الاجتماعية ، والتي تتطلب جهدا وتحملا للناس .. فالسيد لم يتعالى على الناس ، وإنما عاش معهم ، وتفاعل مع قضاياهم ، كما هم تفاعلوا معه ، وأحبوه ودافعوا عنه ..
وبهذا السلوك تمكن السيد من بناء علاقة اجتماعية متميزة بالناس ، قائمة هذه العلاقة على الخدمة والإنصات إلى أحوالهم والعمل على رفع وعيهم الديني والاجتماعي هذا من جهة السيد ، أما من جهة الناس فكان الاحترام العميق السيد ومحبته وزيارته والالتفاف حول مشروعاته ومنبره ..
يبدو من جميع النظريات التي تناقش مسائل التغيير الاجتماعي ، أنها جميعا تتفق في مسألة أنه لا يمكن أن تحدث تحولات عميقة في مسيرة أي مجتمع ، بدون حدوث تحول فكري وثقافي ، يغير من عقلية الناس كشرط ضروري لعملية التغيير في مجالات الحياة المختلفة .. لذلك نجد أن أغلب المصلحين ، لهم اهتماماتهم الفكرية والثقافية ، ويعملون عبر وسائط عديدة لخلق تغيير ثقافي في مجتمعهم ، يهيئ الأرضية لانخراط هذا المجتمع لتحولات أخرى في حقول الحياة المختلفة ..
وكان اهتمام سماحة السيد بالعمل الثقافي والتربوي مبكرا ، فقد انتخب عضوا في جمعية منتدى النشر في النجف الأشرف ، وأشرف على مجلة ( الأضواء ) وكتب لفترة زمنية الكلمة الأولى في المجلة المعنونة ب( كلمتنا ) ..
وحين انتقل إلى لبنان لم يغفل عن النشاط الثقافية والتوعوي ، فاستمر في إلقاء المحاضرات والدروس الفقهية والعلمية ، ورعى مجموعة من طلبة العلوم الدينية ، وساهم في صقل طاقاتهم العلمية ، وانفتح على جيل من الشباب الجامعي والأكاديمي الذي كان يبحث عن رؤية إسلامية تستجيب لحاجات العصر ومستجداته ، ووجد في سماحة السيد وفكره ضالته ، فارتبطوا به ، وتواصلوا علميا ومعرفيا وثقافيا بكتاباته وأبحاثه ودراساته ..
ومع كل هذا النشاط الاجتماعي والميداني ، لن يتوقف عن التأليف وكتابة الأبحاث المعمقة ، لهذا فإنه ( رحمه الله تعالى ) رفد المكتبة الإسلامية بالعديد من الأبحاث والكتب التي أسهمت في تطوير الوعي الإسلامي والاستجابة لتحديات العصر منها ( خطوات على طريق الإسلام ) و( أسلوب الدعوة في القرآن ) و ( الحوار في القرآن ) والموسوعة القرآنية الرائعة ( من وحي القرآن ) في (25) مجلدا و( قضايانا على ضوء الإسلام ) و( الإسلام ومنطق القوة ) و( الحركة الإسلامية هموم وقضايا ) و( أحاديث في قضايا الاختلاف والوحدة ) وغيرها من الكتب والأبحاث المتميزة
الجماعات الدينية في المجتمع على ثلاثة أنحاء :
جماعات غير معنية بشؤون الإصلاح والتغيير ، ومنعزلة عن شؤون وهموم الواقع العام .. وجماعات متكيفة مع هذا الواقع ، وجماعات أخرى تتبنى مشروعات الإصلاح والتغيير .. ولا شك أن تجربة سماحة السيد فضل الله من التجارب الإصلاحية والتي حفرت عميقا في مسيرة الأمة على صعيد التغيير والإصلاح ..
وإن التجربة الدينية والفكرية لأغلب المصلحين والعلماء والجماعات الدينية ، تنطلق من قناعة مركزية ومحورية وهي :
إن العامل أو المكون الذي يكون هو مصدر القوة لدى أمة من الأمم في زمن حضاري ما ، قد يكون لعوامل تاريخية متعلقة بالفهم والركام التاريخي هو عامل تراجع وانحطاط وتخلف ..
لهذا فإن إحياء قيم الإسلام وإزالة الركام التاريخي وبيان أنه ( الإسلام ( صالح لكل زمان ومكان ، وضرورة خلق الفاعلية الحضارية للمسلمين عن طريق تفسير نهضوي لقيم الإسلام ومبادئه .. إن هذه العملية هي مرتكز مشروع السيد ، وهي الإطار النظري له ..
وحين التأمل في الواقع السياسي والاجتماعي للمسلمين ، نجد أن هذا الواقع يعاني من ثاءات أربع ( التخلف – التجزئة – الاستعمار بمرحلتيه المباشر وغير المباشر – الاستبداد ) والعلاقة بين هذه الوقائع متداخلة وعميقة ..
فلولا التخلف لما كانت هناك تجزئة واستعمار وديكتاتورية .. ولكي يديم الاستعمار هيمنة ، هو بحاجة لإدامة التخلف والتجزئة والاستبداد ..
فكل حقيقة تتغذى من الأخرى ، ولكن جذر المشكلة هو التخلف .. وقد عمل السيد ومشروعه في الأمة لمحاربته من خلال النقاط التالية :
1-صناعة الوعي الإسلامي الطارد لجذور التخلف وإحياء قيم الإسلام في نفوس وعقول المسلمين ..
2-العمل على بناء نخبة دينية واعية ، تأخذ على عاتقها صناعة الوعي والحقائق المضادة للتخلف في المجتمع ..
3- المساهمة في بناء الحركات الاجتماعية والسياسية ، التي تتبنى مشروع الإسلام وتعمل من أجل تمكينه في الأرض ..
سادسا : بناء المؤسسات والعمل المؤسسي :
ثمة سؤال عميق ومركزي ، يثار باستمرار في الدائرتين العربية والإسلامية ، مفاده لماذا لم نتمكن كشعوب وتجارب ثقافية وسياسية عديدة ، من بناء مؤسسات عامة مستقرة ، بحيث تنتقل مسئولية إدارتها وتسييرها من جيل لآخر ، بحيث ينطلق الجيل الجديد في إدارة هذه المؤسسة من نقطة النهاية التي وصل إليها الجيل السابق ..
وهل عدم قدرتنا على بناء العمل المؤسسي وطغيان الأعمال الشخصية والفردية ، وقدرة بعض الذوات الشخصية على التهام المؤسسة وتوظيفها بما يخدم مصالحه وأغراضه الخاصة والشخصية ، هو بفعل عوامل ثقافية أو بسبب طبيعة التربية والتنشئة الاجتماعية ، أم هناك أسباب أخرى تحول دون قدرتنا على بناء عمل مؤسسي مستقر وثابت .. ولماذا تمكنت الشعوب الغربية من بناء مؤسسات مستقرة في كل حقول الحياة .. بحيث انتقلت من طور حضاري إلى طور آخر أكثر تميزا وحيوية وحضارة ..
في تقديرنا أن الإجابة العميقة والدقيقة حول أسباب عدم قدرتنا على بناء مؤسسات مستقرة في فضائنا الثقافي والاجتماعي والسياسي ، تتجاوز مصالح الأفراد الضيقة ، وتعمل من أجل المصالح العامة والموضوعية ، هو أحد المداخل الضرورية لاكتشاف طبيعة الخلل الذي تعانيه مجتمعاتنا على أكثر من صعيد ومستوى ..
فالتجربة الغربية الحديثة ، استطاعت أن تتخلص من حروبها الدينية والقومية ، وتبني لنفسها نظاما استيعابيا لكل تنوعها وقومياتها ، بحيث تحولت شعوب الدول الغربية من شعوب متخاصمة ومتحاربة مع بعضها البعض ، إلى شعوب متعاونة مع بعضها البعض ، ومتنافسة في طريق البناء والتقدم والعمران ..
ونحن لا زلنا كشعوب عربية وإسلامية ، نرزح تحت نير خلافاتنا ونزاعاتنا الدينية والمذهبية والقومية ،ولا يلوح في الأفق أية قدرة حضارية لدينا لتجاوز هذه المحنة وحروبها بكل تداعياتها الكارثية ومآزقها الراهنة والمستقبلية .. كما أن التجربة الغربية تمكنت من صياغة رؤيتها الحضارية للسياسة وإدارة الدول وفق نسق حضاري – ديمقراطي ، تجاوزت من خلاله نزعات الاحتكار والهيمنة والغطرسة واختزال الدولة في شخص الإمبراطور .. فانتقلت بفعل عوامل عديدة من دولة الإمبراطور إلى دولة المؤسسات ، ومن نظرية الحق الإلهي الذي كانت تحتكره الكنيسة إلى نظرية العقد الاجتماعي ، التي تسمح وتطالب الشعب والمجتمع من ممارسة دوره في اختيار حكامه وشكل نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي ..
بينما لا زلنا نحن لم نتجاوز خلافاتنا التاريخية ،ولا زلنا أسرى حروب وأحقاد آبائنا وأجدادنا ..
لماذا استطاعت الشعوب الغربية ، أن تغير وضعها الحضاري ، وتنتقل إلى مرحلة أخرى ، بحيث أضحت اليوم هي رائدة التقدم والتطور في أغلب مجالات الحياة ..
ولماذا لم نتمكن نحن أن نتجاوز عيوبنا ومآزقنا ، ولماذا لا زلنا أسرى تخلفنا وتقهقرنا الحضاري ..
يبدو لي إن أحد الأسباب العميقة لهذه المفارقة الحضارية هو التالي :
إن الشعوب الغربية استطاعت عبر ثقافتها وتقاليدها الاجتماعية وأنظمتها السياسية أن تعيد الاعتبار للفرد ، المواطن في الشعوب الغربية .. بعد أن ألغته الكنيسة ،بفعل نظامها الشمولي وكرهها للحرية ومزاولة الأفراد لمسئولياتهم العامة ..
ولقد أجاد الأستاذ ( لويس دومون ) في رصد حركة التطور الفكري والأيدلوجي تجاه مفهوم الفردانية في التجربة الغربية في كتابه الموسوم ب( مقالات في الفردانية – منظور أنثروبولوجي للأيدلوجية الحديثة ) والذي قامت المنظمة العربية للترجمة بترجمته وطباعته. فالتحول الحضاري قي التجربة الغربية ، بدأ انطلاقته مع بداية التحول الأيدلوجي باتجاه الرؤية والموقف من الفرد والفردانية كمفهوم ودور وموقع ..
فالفردية التي مورست على نحو إيجابي في التجربة الغربية ، بعيدا عن الأثرة والأنانية والتفلت من الأنظمة والقوانين ،هي التي قادت التجربة الغربية ، إلى اجتراح فرادتها ،وبناء مؤسساتها السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية على أسس صلبة ، بحيث ضمنت لهذه الشعوب الاستقرار السياسي مع حيوية اجتماعية ودينامية علمية ، تراكمت فيه الخبرة والتجربة والعطاء ،فأنتجت مؤسسات ذات جذور عميقة في مجتمعها ، وحريصة على مصالحه الكبرى والإستراتيجية .. فالفردية ليست نكرانا للذات ،أو إعداما لطموحاتها وآمالها القريبة والبعيدة ،وإنما هي حضور دائم وحيوية مستديمة وطموحات لا حدود لها ، مع قانون شفاف وواضح ، ويساوي بين الجميع ، ولا يحابي أحدا ..
فالطموحات الفردية قادت إلى الاكتشاف والانجاز والابتكار والاختراع والجد والاجتهاد في البناء والعمران ..
والقانون العادل ضمن حقوق الجميع ،ومنع التعديات ،وحال دون الطغيان والاستئثار .. فكانت النتيجة : التقدم العلمي والاقتصادي والتكنولوجي ، والاستقرار السياسي والمدني وتداول مؤسسي للسلطة والقوة بين مختلف مكونات النخب في التجربة الغربية ..
فالفردية وفق المفهوم الحضاري ،هي أحد العوامل الأساسية التي قادت الغرب للتطور وصناعة المنجزات الحضارية الرائدة ..
من هنا فإننا نعتقد أن الطريق إلى بناء مؤسسات مستقرة في فضائنا وتجربتنا ، يتطلب العمل على إعادة الاعتبار لمفهوم الفردية في بيئتنا الثقافية والاجتماعية.. لأن قمع الأفراد وقتل طموحاتهم وتطلعاتهم ، لا تفضي إلى بناء مؤسسات ، بل تؤدي إلى سديم بشري ، ليس قادرا على فعل شيء ذا بال على الصعيد الحضاري والمؤسسي ..
ونكران الذات كقيمة ، لا تؤسس لحيوية مستديمة ودينامية قادرة على اجتراح فرادتها التاريخية .. وإنما هي قادرة على تكرار تجارب الآخرين بدون روحها وحيويتها ،واستنساخ خطوات الآخرين ومبادراتهم ، دون ظرفها الاجتماعي والتاريخي ، ودون الكتلة التاريخية التي تقف وراءها ، وتمدها بأمصال الحياة والحيوية والإنجاز ..
فالعلاقة جد ضرورية وحيوية ، بين إعادة الاعتبار إلى الفردية وممارستها على نحو إيجابي وحضاري وبين العمل المؤسسي .. فالمؤسسات لا تبنى على أنقاض الأفراد ، بل تبنى على حضورهم وشهودهم وفعاليتهم الذاتية ..
وحينما تغيب الفردية ، يبقى السديم البشري ،ولا يمكن للسديم البشري ، أن يبني مؤسسة ، أو يشيد تجربة متميزة ..
والفردانية الحديثة في التجارب الحضارية المعاصرة ، هي عنصر الحيوية والفعالية فيها ، كما أنها منصة الانطلاق للإبداع والابتكار والتميز ..
وحينما ندعو إلى ضرورة إعادة الاعتبار إلى مفهوم الفردية ، فإننا ندرك أهمية أن تمارس هذه الفردية على نحو إيجابي بعيدا عن الأنانية والانحباس في المصالح الضيقة ..
والممارسة الإيجابية تستند إلى قيمة المسئولية الذاتية والعمل الصالح ،وأن الله سبحانه وتعالى لن يثيبنا على عمل غيرنا ، وإنما على عملنا ،وإن الحساب الأخروي سيطال أعمالنا وأدوارنا بعيدا عن أي اعتبار آخر .. فإذا أردنا الفلاح الدنيوي والأخروي ، ينبغي علينا كآحاد أن نقوم بدورنا في هذه الحياة ، ونتحمل مسئولية وجودنا .. هذه في البيئة والخلفية الفلسفية والثقافية ، لممارسة الفردية على نحو إيجابي ..
فتعالوا جميعا إذا أردنا النجاح ،واجتراح تجربتنا الذاتية ، وبناء مؤسسات تتجاوز حدود ومصالح الأشخاص الضيقة ، أو التي تدور مدار هؤلاء الأشخاص ، أن نعيد الاعتبار للفرد في مجتمعنا ، ونتعامل معه بوصفه هو حجر الأساس في كل مشروع ..
وحدها الفردية الإيجابية ، هي التي تهيأ الأرضية والمناخ لصناعة الفعل المؤسسي المتميز والمستقر في فضائنا السياسي والاجتماعي والثقافي ..
وفي تجربة سماحة السيد فضل الله العديد من صور العمل المؤسسي ، الذي وفر له كل سبل الديمومة والاستمرار .. ف( جمعية المبرات الخيرية ) التي استوعبت كل مناطق وجود المؤمنين في لبنان و( مكتب الخدمات الاجتماعية ) و(معهد الهادي للإعاقة السمعية والبصرية ) وغيرها من المؤسسات كلها شواهد شاخصة على عناية سماحة السيد بالعمل المؤسسي .. لهذا فإن رحيل السيد انطلق في أنشطته وأعماله ، من عقلية بناء المؤسسة التي تقوم بدورها ووظيفتها دون أن تتوقف على أحد ..
وفي إطار اهتمام سماحة السيد بالعمل المؤسسي أنشأ (31 ) مركزا ثقافيا ودينيا و(4 ) مراكز صحية و(6 ) معاهد مهنية و(14 ) مدرسة ثانوية و(4 ) مراكز لذوي الاحتياجات الخاصة و(6 ) مؤسسات رعائية ..
وتضم جمعية المبرات الخيرية أمثر من (15 ) ألف تلميذ وتلميذة في مدارسها المنتشرة في مناطق لبنان ..
وهذه هي إحدى أهم ثمار العمل المؤسسي ، حيث لا تتوقف المؤسسة برحيل مؤسسها ، وإنما تستمر في البذل والعطاء وتقديم الخدمات بكل صورها وأشكالها ..
ثمة صور وحقائق عديدة في مسيرة المرجع الراحل ، تؤكد قيمة الحوار والوحدة في تجربته ومسيرته الرسالية .. فهو رجل الحوار ومن أوائل الذين أصلوا لهذا المفهوم ودعا إليه في مختلف دوائر الحياة .. كما أنه رجل الوحدة والتقريب والتفاهم بين المسلمين ، وهو الداعي دوما إلى ضرورة الخروج من سجن المذاهب والطوائف إلى رحاب الإسلام .. ففي كتابه الرائد ( الحوار في القرآن ) يقول ( لا تزال الحياة تحتضن الحوار وترزح في الوقت نفسه تحت ثقل الأساليب العنفية ، التي تريد أن تخنق الحوار بالقوة المادية الغاشمة ، ويقف الحوار أمام القوة ليعلم أن القوة لا تستطيع أن تبني الحياة التي تصنعها إلا من خلال الحوار ، لأن القوة التي تفقد ذلك سوف تدمر نفسها في نهاية المطاف ) ..
فالحوار كقيمة وممارسة هي من ثوابت فكر السيد ، لهذا نجده دائما يدعو إلى هذه القيمة ، ويعمل على تعزيزها في الفضاء الاجتماعي والثقافي .. فالحوار قيمة عليا ينبغي أن تتجسد في كل مسارات حياتنا .. لهذا فهو يدعو دائما إلى حوار الإنسان مع نفسه ، والحوار مع الطبيعة لاكتشاف أسرارها كمقدمة لتعميرها وعمرانها والحوار بين الزوج وزوجته وبين الأب وابنه والحوار مع المذاهب الإسلامية من أجل توسيع المساحات المشتركة ودرء الفتن المذهبية ، والحوار الإسلامي – المسيحي من أجل تعزيز قيم العيش المشترك .. لذلك نجد السيد يردد دائما ( وإذا استطاع المسلمون في لبنان أن يكونوا مسلمين من خلال ما هو معنى الإسلام وعمقه ، وإذا استطاع المسيحيون أن يكونوا مسيحيين في ما هو معنى المسيحية وعمقها ، فإنهم يعطون السياسة معنى في الروح وعمقا في الإنسانية ) ..
والحوار إذا كلن صادقا وصريحا ، فإنه يبني الوحدات الوطنية والإسلامية ، ويعزز قيم العيش المشترك .. لهذا فهو يؤصل إلى الوحدة على قاعدة احترام التعدد والتنوع .. فهو سبيل بناء الوحدة الصلبة في المجتمعات .. وإن كل محاولة لتوحيد المجتمعات على نحو قسري واستبدادي وعنفي ، فإن المآل هو المزيد من التشظي وتنمية الفروقات بين مكونات المجتمع الواحد .. فالوحدة التي يتطلع إليها سماحة السيد وينشدها ، هي الوحدة التي تبنى على قيم الحوار والحرية واحترام حقائق التنوع الموجودة في المجتمع .. أما وحدة الاستبداد والقهر ، فهي منتجة بالضرورة إلى حقائق التجزئة والتقسيم .. لهذا فهو يقول ( إننا عندما ندعو إلى الوحدة الإسلامية ، لا نعتبرها وحدة عدوانية منغلقة ، بمعنى أنها تتعقد من وجود غير المسلمين في الساحة التي تتحرك فيها ، بل إننا ندعو إلى وحدة إسلامية تنفتح على الواقع من خلال الحالة الإسلامية التي يختزنها الإسلام في داخله ، والتي تنفتح على أهل الكتاب من مواقع الرسالات السماوية التي يختزن القرآن الإيمان بها ،و يختزن كثيرا من مفاهيمها ومن حركتها في التاريخ وفي الواقع .. فنحن ، كمسلمين ، عندما ننطلق من الإسلام ، نرى أنه يحدثنا عمن هم أقرب الناس مودة للذين آمنوا ، ويحدثنا عن الذين لم يقاتلونا في الدين ولم يخرجونا من ديارنا ، ويحدثنا عن الذين تفيض قلوبهم بالمحبة وتنهمر عيونهم بالدموع عندما يعرفون بعض الحق الذي نختزنه ، وكذلك عندما نلتقي معهم في القضايا التي نعتبرها إسلامية كما يعتبرونها مرتبطة بالوجود الذي يمثلونه على أي مستوى من المستويات ..
إننا ندعو إلى الوحدة الإسلامية التي يلتقي فيها المسلمون مع الآخرين من مواقعهم الوحدوية ، لأنها المواقع التي تتأكد فيها طروحاتهم الإسلامية المنفتحة ، وتتأكد فيها شخصيتهم الإسلامية غير المعقدة من الحالة الطوائفية ، وبذلك يكون لقاؤهم مع المجتمع الآخر الموحد أو غير الموحد لقاء مرتكزا على قواعد وأصول وثوابت ..
وبذلك لن تكون عملية التعايش أو التعاون أو التفاعل عملية يمكن أن تسقط أمام أي عاصفة سياسية أو أي حال إقليمية أو دولية ، لأنها تنطلق في العمق من وعي الرسالات ، بدلا من أن تنطلق في السطح من حركة الزوايا التي تتحرك هنا وهناك بطريقة لا تخدم المسلمين وغير المسلمين في حركة الواقع ) .. ( راجع أحاديث في قضايا الاختلاف والوحدة ، إعداد نجيب نور الدين ، ص 86 – 87 )..
فالوحدة والتفاهم والتقريب بين أهل المذاهب الإسلامية وتعزيز العيش المشترك بين جميع مكونات الوطن ، كل هذه العناوين ، ليست تكتيكا أو حاجة ظرفية ، بل هي قيم ثابتة وجزء من منظومة إستراتيجية صاغها وبلور مفرداتها سماحة السيد خلال مسيرته الجهادية والعلمية والسياسية ..
فالوحدة في رؤية السيد خيار استراتيجي ، لا يمكن التخلي عنه مهما كانت الصعوبات والهواجس .. ووجود حقائق مضادة لقيم الوحدة والتقريب والعيش المشترك ، لا يسوغ لأحد التخلي عن مطلب الوحدة أو الالتزام بمقتضيات العيش المشترك ..
وفي سياق إصرار سماحة السيد على خيار التفاهم والتقريب بين المسلمين بمختلف مدارسهم الفقهية والمذهبية فإنه يشير إلى هذا الخيار بوصفه من مرتكزات رؤيته الفقهية والرسالية بقوله ( إننا نعتقد أن حركة التقريب بين المذاهب الإسلامية ، لا بد أن تتطور لتواكب الفكر الإسلامي في معالجة التحديات الجديدة ، مما قد يدور الجدل فيه بين المسلمين على أساس الاختلاف الفقهي أو الفكري في المفاهيم العامة ، لأن ذلك هو الذي يمثل التحدي الحاد الحاسم للواقع الإسلامي كله الذي يراد له أن يسقط تحت تأثير الضغوط القاسية من قبل الكافرين والظالمين والمستكبرين في الداخل والخارج ، والحرب الجديدة ضد الإسلام والمسلمين تحولت إلى حرب متعددة الأبعاد والمواقع والأهداف ، والأمر يفرض على الجميع الاستعداد بكل الوسائل الفكرية والعملية على أكثر من صعيد ، ليأخذ التقريب بين المسلمين دوره الحركي الفاعل في ساحة الواقع ، بدلا من أن يكون مجرد حالة ثقافية تجريدية في دائرة الترف الفكري ، فذلك هو الذي يطور الحركة ، لتكون وسيلة من وسائل حركة القوة في الإسلام في خط الحرية والعدالة والوحدة ) ( راجع أحاديث في قضايا الاختلاف والوحدة ، ص 265 – 266 ) ..
لعوامل ذاتية وموضوعية ، اقتحمت فضائنا الثقافي والاجتماعي في الآونة الأخيرة ، مجموعة من القيم والمبادئ ، وأضحت هذه القيم عناوين إلى أنشطة ثقافية مختلفة .. وبعيدا عن المواقف الأيدلوجية المسبقة ..
من الضروري أن ندرك أن رفع شعار الحرية أو التسامح أو التعددية أو الوسطية ، لا يعني بشكل طبيعي وأوتوماتيكي إننا أصبحنا من أهل هذه القيم ..
وإنما المطلوب بناء رؤية ثقافية متكاملة ، تساهم في تفكيك القيم المضادة لهذه القيم ،وبناء وقائع ومناهج وخيارات ، تساهم في تعزيز خيار القيم الجديدة في الفضاء الوطني الخاص والعام ..
وما ينقص المشهد الثقافي الوطني والعربي والإسلامي ، هو صياغة كيفيات وآليات التحول نحو القيم الجديدة ،وتوفير كل موجباتها في الحياة العامة ..
من هنا فإنني أود في هذا المقال الاقتراب النظري من مفهوم الحرية .. وإن الخطر الحقيقي الذي يواجهنا كعرب ومسلمين على هذا الصعيد ، حينما يتم التعامل مع هذا المفهوم بوصفه مفهوما ناجزا ،وإنه الحل السحري لمشاكلنا المختلفة ..
فالحرية في بعدها النظري وبعدها التطبيقي ، ليست مشروعا ناجزا ، وإنما هي من المشروعات المفتوحة على كل المبادرات والإبداعات الإنسانية .. من هنا فإنه لا حرية بدون أحرار ،ولا ديمقراطية بدون ديمقراطيين .. وإن كل حرية أو ديمقراطية بلا أحرار فهي حرية وديمقراطية شكلية .. وإن حجر الزاوية في مشروع الحرية هو وجود الإنسان الحر ، الذي يترجم قيم الحرية ويدافع عن مقتضياتها ومتطلباتها ..
وإن هذه العملية ، لا تتم اعتباطا أو صدفة ،و إنما هي بحاجة إلى تهيئة وتنشئة وتربية..
من هنا فإن المطلوب ليس الصراخ باسم القيم الجديدة ،وإنما العمل على التربية عليها .. لأن التربية على هذه القيم والمبادئ ، هو الطريق الطبيعي لخلق وقائع مجتمعية منسجمة ومقتضيات هذه القيم ..
والحرية في الرؤية الإسلامية، ليست بعيدة عن مرجعية التوحيد، وإنما هي منبثقة من هذه المرجعية، وهي التي تعطي للحرية معنى وهدفا وتشريعا. والشرك العقدي يعيق من انطلاقة فكرة الحرية ويضيف لها أبعادا ومضامين مناقضة للمفهوم الجوهري للحرية. فالحرية ليست تفلتا من القيم، وإنما هي انسجام تام مع النواميس والقوانين الاجتماعية والكونية.
كما أن الحرية كممارسة مجتمعية تتسع وتضيق من خلال علاقتها بقيمة العدالة. فلا عدالة حقيقية بدون حرية إنسانية، كما أنه لا حرية بدون عدالة في كل المستويات. فالحرية هي عامل محرك باتجاه إنجاز مفهوم العدالة في الواقع الخارجي. كما أن العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، هي التي تكرس مفهوم الحرية في الواقع الاجتماعي.
فالإنسان الذي لا يتمتع بالحرية، لا يستطيع إنجاز عدالته. كما أن الإنسان الذي يعيش واقعا اجتماعيا بعيدا عن العدالة وتسوده حالة الظلم، فإنه لن يستطيع أن يدافع عن حريته ويجذرها في واقعه العام. فالحرية التي تؤدي إلى الظلم أو تفضي إليه ليست مطلوبة. فالمطلوب دائما هو خلق منظومة متكاملة من القيم كالحرية والمساواة والعدالة. والتضحية بإحداهما من أجل الأخرى، يؤدي إلى بروز مشاكل اجتماعية أو سياسية أو هما معا. فكيف نؤسس لحرية لا تتعدى على حقوق وحريات الآخرين المادية والمعنوية. وكيف تقبض على العدالة بدون التضحية بقيمة الحرية. فالحرية هي جزئ من أجزاء العدالة، ومن يطلبها يطلب جزءا من العدالة.
هذه الأسئلة وغيرها لا يمكن الإجابة عليها إلا بتطوير( مجال التفاضل بين القيم). وهو من المجالات التي تحتاج إلى الكثير من إعمال العقل والاجتهاد لبناء منظومة قيمية متكاملة .بحيث لايحدث تعارض بين هذه القيم على المستوى الخارجي.
كما أنه لا حرية في أي فضاء اجتماعي، بدون احترام وصيانة حقوق الإنسان، فهي بوابة القبض على الحرية وممارستها. فالحرية في جوهرها، ليست مقولة جاهزة، وإنما هي إجراءات وحقائق وممارسات تتمسك بحقوق الإنسان وتدافع عنها.
و الحرية كممارسة، ليست خطابا يلقى، أو ادعاءا يدعى، وإنما هي إرادة إنسانية صلبة تتجه نحو التمسك بالحرية ومقتضياتها. وحيث تتوفر الإرادة الإنسانية المتجهة صوب الحرية، تتحقق بذات القدر حقائق الحرية. فحجر الزاوية في مشروع ممارسة الحرية، هو الإرادة الإنسانية. من هنا ينبغي الاهتمام بمفهوم ( التربية على الحرية )، إذ أن المهمة العامة الملقاة على كاهل جميع النخب هي تربية شرائح المجتمع المختلفة على الحرية.
والتربية على الحرية تحتاج إلى:
أ-استعداد نفسي تام للقبول بكل مقتضيات الحرية.
ب-الاطلاع والتواصل الثقافي مع المنجز الثقافي الإنساني الذي يؤسس لخيار الحرية ويبلور مضامينها.
ت- الموازنة الواعية بين ثقافة الطاعة وثقافة المسؤولية.
وخلاصة القول: أن الحرية كقيمة فردية ومجتمعية، بحاجة إلى من يدافع عنها، ويبشر ببركاتها.
وكان سماحة السيد يردد دائما ( لا مقدسات في السؤال ، لأنه جزء من حرية الإنسان ) ..
فالسيد في تجربته التربوية والمعرفية ، لم يكن يبحث عن أتباع ، بقدر ما كان يبحث عن شركاء ، يحملوا معه هم الإنسان ووجوده ويسعون متكاتفين ومتعاونين من أجل تجذير قيم الحوار والحرية واحترام الآخر والعدالة والمساواة في الفضاء الاجتماعي والوطني .. فهو لم يبحث عن سديم بشري ، بل عمل من أجل بناء ذوات واعية وفاعلة ومشاركة في الشأن العام بكل حيوية ودينامية ..
لهذا فهو لم يعش في وسط من المتفرجين والمصفقين ، وإنما أضحى قطب الرحى في مشروع فكري وحضاري ، يحتضن مئات الكفاءات والطاقات والتي تمارس دورها ووظيفتها من نقطة القوة التي تمتلكها
كل البشر الأسوياء يعشقون الحرية ،ويأملون بها ، ويطمحون إليها .. وكلهم أيضا يرفضون الرق والعبودية وجعل الأغلال على حياتهم وعقولهم ، ويأنفون من كل المحاولات التي تسعى للتضييق على حرية الإنسان أو تقييدها..وذلك لأن الحرية والقدرة على الحركة والاختيار ، هي منسجمة وفطرة الإنسان ، وكل الحقائق والممارسات المضادة لذلك ، هي محل نبذ ورفض من قبل الإنسان ، لأنها مخالفة لفطرته ومفارقة لطبيعته الإنسانية السوية ..
فالحرية بالنسبة إلى الإنسان ، هي جزء من طبيعته وفطرته ، لذلك فإن جميع البشر الأسوياء بصرف النظر عن أديانهم وقومياتهم وأيدلوجياتهم ومناطقهم ، هم ينشدون الحرية ويتطلعون إليها على المستويين الفردي والجماعي ..
والحرية في هذا السياق سواء في بعدها النظري أو بعدها التطبيقي ، ليست مشروعا ناجزا ، وإنما هي من المشروعات المفتوحة على كل المبادرات والإبداعات الإنسانية .. ومن يتعامل مع الحرية في مستوياتها الإنسانية والسياسية والاجتماعية بوصفها حالة مكتملة أو ناجزة ، فإنه لن يتمكن من تعميقها في واقعه الاجتماعي والعام ..فهي دائما بحاجة إلى الإرادة الإنسانية المستديمة التي تعمل وتكافح من أجل تعزيز حقائقها في الفضاء الاجتماعي .. وبمقدار ما تتوفر الإرادة الإنسانية الجمعية ، بذات القدر ينعم الإنسان فردا وجماعة ببركات وخيرات الحرية ..
لهذا فإن الحرية دائما وفي كل التجارب الإنسانية والتاريخية ، ليست إدعاءا يدعى ، أو لقلقة لسان ، وإنما هي رؤية وممارسة تتجه دوما صوب إنسانية الإنسان ، وإزالة كل الركام الذي يحول دون ممارسة الإنسان لحريته وإنسانيته ..
وإن التجربة الدينية والفكرية لأغلب المصلحين والعلماء والجماعات الإصلاحية ، تنطلق من قناعة مركزية ومحورية وهي : إن العامل أو المكون الذي يكون هو مصدر القوة لدى أمة من الأمم في زمن حضاري ما ، قد يكون لعوامل تاريخية متعلقة بالفهم والركام التاريخي هو عامل تراجع وانحطاط وتخلف ..
لهذا فإن إحياء قيم الإسلام وإزالة الركام التاريخي ، مرهون بحرية الإنسان وفاعليته الحضارية التي لا يمكن أن تنجز على الصعيد الواقعي بدون أفق الحرية والإصلاح ..
من هنا فإنه لا حرية بدون أحرار ، ولا ديمقراطية بدون ديمقراطيين ..
وإن كل حرية بلا أحرار ، حرية شكلية ، وأن كل ديمقراطية بدون ديمقراطيين هي شكلية وفوقية أيضا ..
لهذا فإن حجر الزاوية في مشروع الحرية الإنسانية ، هو وجود الإنسان الحر ، الذي يترجم قيم الحرية ، ويدافع عن مقتضياتها ومتطلباتها ..
وإن ارتباط الإنسان عبر العصور بالأديان السماوية ، هو الذي وفر لدية قدرة لفهم واستيعاب ما وراء الطبيعة أي الغيب .. فإيمان الإنسان بالحقائق الغيبية ، يعود بالدرجة الأولى إلى القيم الدينية ، التي أكدت وجود هذه الحقائق ، وطلبت من المؤمنين بها ، التسليم بحقائق الغيب .. فالأديان لا توفر فقط للإنسان طريقة حياة ، وإنما توفر إليه أيضا تفسيرات إيمانية وعقلية للأمور الغيبية وكل ما هو خارج نطاق الرؤية وإدراك الحواس .. ويعتقد ( دور كهايم ) أن هناك وجوها مشتركة كثيرة بين الأديان ، ومن هذه الأمور ، الاعتقاد بوجود الأشياء والحقائق غير المرئية الموجودة في عالم الوجود ، وكذلك تقسيم العالم إلى خير وشر ، ومقدس وغير مقدس .. ويشير إلى أن كلمة مقدس تعني اتصال الإنسان بالأمور الغيبية ، وهذا الاتصال يتم بواسطة الناس الذين لهم تأثير في حياتنا ..
لهذا فإن الإيمان بالغيب ، ليس مناقضا إلى الحرية وضروراتها في الحياة الإنسانية .. لأن الإيمان هو القاعدة المشتركة الذي يؤسس لمفاهيم الحرية ومضامينها المتعددة ، كما أنه هو الذي يخلق القدرة على الكشف وتبديد عناصر الجهل في حياة الإنسان .. فنحن مأمورون إيمانيا بصيانة حريتنا ورفض أي تعد عليها ، وفي ذات الوقت نحن مطالبون أيضا بإعمال عقولنا وامتلاك كل أسباب العلم والمعرفة لاكتشاف نواميس الكون والحياة ..
وإن التشريعات والتوجيهات الإسلامية ، لا تلوم الإنسان المسلم على استخدام حريته بكل مستوياتها ، وإنما تلومه للغفلة وتعطيل العقل ..
لهذا نجد هناك العديد من الآيات القرآنية ، التي توضح بشكل لا لبس فيه حرمة إكراه أي شخص على تبني دين من الأديان ..
فالإسلام دين الحق وهذا لا ريب فيه ، ولكن لا يجوز لأي أحد مهما علا شأنه
أن يكره أحد على اعتناقه .. يقول تبارك وتعالى [ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ] ( سورة يونس ، 99 ) .. وقال تعالى [ قال يا قوم ارءيتم إن كنت على بينة من ربي وءآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ] ( سورة هود ، 28 ) .. وغيرها من الآيات القرآنية التي توضح أن مهمة الأنبياء والرسل هي الدعوة والتبليغ ، وإن إكراه الناس والأقوام على الإيمان برسالات السماء ، ليس من مهمات الأنبياء والرسل .. وحينما تكون اختيارات الناس العقدية سيئة أو لا تنسجم ومقتضيات الدعوة الربانية كما تقررها الآيات القرآنية فإن الجزاء موكول إلى الآخرة .. أي أن العقاب المترتب على بطلان اختيار الإنسان لدينه وعقيدته ، هو من اختصاص الباري عز وجل .. إذ يقول عز من قائل[وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا](سورة الكهف، 29) ..
وعليه فإن الحرية في الرؤية الإسلامية ، ليست بعيده عن مرجعية التوحيد ، وإنما هي منبثقة من هذه المرجعية ، وهي التي تعطي للحرية معنى وهدفا وتشريعا .. والشرك العقدي يعيق من انطلاقة فكرة الحرية ،ويضيف لها أبعادا ومضامين مناقضة للمفهوم الجوهري للحرية .. فالحرية ليست تفلتا من القيم ، وإنما هي انسجام تام مع النواميس والقوانين الاجتماعية والكونية ..
فالحرية التي تصون كرامة الإنسان وحقوقه ، هي تلك الحرية النابعة من تحرر الإنسان من كل الشهوات والأهواء ، التي تعمل على دفعه إلى الحضيض .. فبمقدار تمكن الإنسان من التحرر من أهواءه ونزعاته الأنانية والشيطانية ، بذات المقدار يتمكن من الاستفادة من بركات الحرية في واقعه الاجتماعي والسياسي ..
فالحرية دائما بحاجة إلى إنسان حر ، والإنسان الحر هو الذي يتحرر من رذائل الدنيا والشهوات التي تركسه في الأرض .. وعليه فإن الخطوة الأولى في مشروع الحرية الحقيقية ، هي في أن يتحرر الإنسان من أهواءه وشهواته وحاجاته المذلة .. وذلك لأن بوابة الكثير من ظواهر الاستعباد وحقائق الخنوع ، هو حينما يخضع الإنسان لحاجاته النفسية والمادية ، فإن مالكها سيتمكن من السيطرة عليه ..
لذلك فإن الحرية في بذورها الأولى ، هي أن لا تكون حاجاتك قاهرة لك .. بمعنى أن المطلوب أن يعمل الإنسان على سد حاجاته بالطرق المشروعة ، ولكن إذا تعذر تلبية هذه الحاجات لسبب أو لآخر ، فإن المطلوب ليس الخضوع والخنوع لهذه الحاجات وأهلها ، وإنما الصبر على الشهوة والحاجة ..
والحرية كممارسة مجتمعية تتسع وتضيق من خلال علاقتها بقيمة العدالة .. فلا عدالة حقيقية بدون حرية إنسانية ، كما أنه لا حرية بدون عدالة في كل المستويات .. فالحرية هي عامل محرك باتجاه انجاز مفهوم العدالة في الواقع الخارجي .. كما أن العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، هي التي تكرس مفهوم الحرية في الواقع الاجتماعي .. وحتى فيما يخص الإنسان الفرد ، فإنه لا يتمكن وفق الرؤية الإسلامية من ممارسة حريته فيما يمتلكه على سبيل المثال بعيدا عن إطار العدالة .. وأية ممارسة تتجاوز هذا الإطار أو تضر به ، فإنها تصبح ممارسة غير شرعية .. فالإنسان الذي لا يتمتع بالحرية ، لا يستطيع انجاز عدالته .. كما أن الإنسان الذي يعيش واقعا اجتماعيا بعيدا عن العدالة ، وتسوده حالة الظلم فإنه لن يستطيع أن يدافع عن حريته ويجذرها في واقعه العام ..
وخلاصة القول : إن الحرية بكل مضامينها وآفاقها ، لكي تتجذر في الفضاء الاجتماعي والثقافي ، هي بحاجة بشكل دائم إلى الإنسان الحر ، الذي يبشر بها على نحو عملي ، ويسعى ويعمل ويكافح من أجل تذليل كل العقبات التي تحول دون انطلاق فكرة الحرية .. فالأحرار هم القادرون وحدهم على صناعة الحرية ومؤسساتها في المجتمع ..
وفي رؤية سماحة السيد أن قيم الحرية والديمقراطية ، لا يمكن أن تتعزز في أي مجتمع أو بيئة ثقافية ، بدون وجود الإنسان الحر ، الذي يجسد قيم الحرية ، ويدافع عنها ، ويعمل على توفير موجباتها وآلياتها في محيطه الاجتماعي .. فالإنسان الحر هو ضمانة وجود الحرية والديمقراطية في الحياة السياسية والاجتماعية ، وبدونه تبقى قيم الحرية والديمقراطية مجردة ولا قوى مجتمعية تدافع عنها ، وتعمل من أجل تثبيتها في بيئته الاجتماعية .. لهذا فإن المطالبين بالحرية في مجتمعهم ، عليهم أن يولوا أهمية خاصة بمشروع الإنسان الحر ، الذي استوعب قيم الحرية ، وأضحت جزءا من تكوينه الفكري ومن أولوياته العملية والحركية .. وحينما يكثر الأحرار في أي مجتمع ، فإن الحرية بكل آلياتها وأدواتها ، ستكون هي النتيجة الطبيعية لجهد وجهاد هؤلاء الأحرار .. فالإنسان الحر هو صانع الحرية ، والمدافع الدائم عنها أمام أخطار الداخل وتحديات الخارج ..
دائما المجتمعات الساكنة والجامدة ،تخاف من التغيير والتجديد . وهذا الخوف يتحول بفعل عمق الجمود والتكلس إلى رهاب . أي إلى مرض مجتمعي يحول دون أن ينفتح المجتمع على آفاق التغيير والتجديد وموجباتهما .
وفي هذا السياق تبرز المفارقة الصارخة ،التي تعيشها المجتمعات الجامدة . فهي تعيش التخلف والجمود والسكون على كل الأصعدة ،وتعتمد على غيرها من الأمم والمجتمعات في كل شيء ،وترضى بكل متواليات هذا الواقع السيئ . وفي ذات الوقت تخاف التغيير ،وترفض التجديد ،وتقبل العيش في ظل هذا الواقع السيئ ..
ولعلنا لا نبالغ حين القول : أن الخوف من التغيير والرهاب من التجديد ،ليس خاصا بمجتمع دون آخر ، وإنما هي من خصائص المجتمعات المتخلفة والجامدة ،بصرف النظر عن أيدلوجيتها وبيئتها .. فكل المجتمعات الجامدة تخاف من التغيير ،وكل الأمم المتخلفة تخشى من التجديد لمستوى الرهاب .
من هنا فإن لحظة الانطلاق الحقيقية في هذه المجتمعات ،تتشكل حينما تتجاوز هذه المجتمعات حالة الخوف والرهاب من التغيير والتجديد . فحينما يكسر المجتمع قيد الخوف من التغيير والتجديد ،حينذاك يبدأ المجتمع الحياة الحقيقية ،التي تمكنه من اجتراح فرادته وتجربته . أما المجتمعات التي لا تتمكن لأي سبب من الأسباب من تجاوز حالة الرهاب والموقف المرضي من التجديد ،فإنه سيستمر في التقهقر والتراجع على جميع الأصعدة والمستويات .. والفئات والشرائح التي لها مصلحة في استمرار التقهقر والجمود ،ستستثمر هذه الحالة المرضية وتبني عليها الكثير من المواقف والإجراءات ،والتي تعمق حالة التخلف وتزيد حالة الخوف المرضي من كل آفاق ومتطلبات التغيير والتجديد .
وينقل في هذا الصدد عن التاريخ الصيني القديم ،أنه في ظل سلالة هان (25 _ 220 ب م ) صدر مرسوم إمبراطوري ينص على أنه لا يجوز لأي متأدب أن يطرق ،بصورة شفهية أو خطية ،أي موضوع لم يعينه له أستاذه . فليس يحق لكائن من كان أن يتخطى ميراث معلمه .وكل من تسول له نفسه أن يتعدى الحدود المرسومة يغدو مبتدعا .
وهكذا تأسس رهاب البدعة الذي شل قدرة المثقفين الصينيين على التفكير كما على التخيل . فكأن عقولهم قد حبست في أكياس من البلاستيك حتى لا يتسرب إليها أي جديد .
فالنزوع القهري إلى رفض التغيير والخوف من التجديد ،هو حالة مرضية ،تزيد من انحطاط المجتمعات ، وتبقيها تحت ضغط الجمود والتخلف . ولا تقدم لهذه المجتمعات إلا بإنهاء حالة الرهاب من التغيير والتجديد ..ونحن هنا لا نقول أن التجديد في المجتمعات بلا صعوبات وبلا مشاكل ،ولكننا نود القول : أن مشاكل المجتمعات من فعل التغيير والتجديد أهون بكثير من استمرار حالة التخلف والجمود .. وإن المجتمعات لم تتقدم إلا حينما انخفض منسوب الخوف من التغيير والتجديد إلى حدوده الدنيا . بدون ذلك ستبقى مقولات التقدم والتجديد والتغيير ، مقولات جامدة ومنفصلة عن الحياة الاجتماعية . وهذا ما يفسر لنا حالة بعض المجتمعات العربية والإسلامية على هذا الصعيد . فهي مجتمعات مليئة في الإطار النظري بمقولات التقدم والحرية والتجديد ، إلا أن واقعها الفعلي ،أي واقع النخب وأغلب الشرائح والفئات الاجتماعية ،تتوجس خيفة من هذه المقولات ،وتنسج علاقة مرضية مع مقتضيات التقدم والحرية والتجديد .فتجد الإنسان يصرخ ليل نهار باسم التغيير والتجديد ،إلا أنه في ذات الوقت يقف موقفا سلبيا من كل الوقائع الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تنسجم ومقولة التغيير والتجديد، فتتضخم لديه الخصوصيات إلى درجة إلغاء مقولة التجديد .. فهو باسم الثوابت يحارب المتغيرات ،وباسم الخصوصية يحارب التجديد ،وبعنوان عدم التماهي مع الآخر الحضاري يقف ضد كل نزعات التغيير والتجديد .فهو على الصعيد النظري ،جزء من مشروع الحل ،إلا أنه على الصعيد الواقعي ،جزء من المشكلة والمأزق . وكل ذلك بفعل رهاب التجديد والتغيير.وهي عناوين ومقولات لا يكفي التبجح بها ،وإنما من الضروري الالتزام النفسي والعقلي والسلوكي بمقتضياتهما ومتطلباتهما .وهنا حجر الزاوية في مشروعات التجديد في كل الأمم والمجتمعات ..
لهذا من الضروري لأي إنسان ومجتمع ،أن ينسج علاقات جدلية ونقدية مع مقولاته وشعاراته ،حتى لا تتحول هذه المقولات والشعارات إلى أقانيم مقدسة ،تحارب التجديد في العمق والجوهر ،وهي تتبناه في المظهر .
ويبدو من خلال التجارب الإنسانية المديدة ،أن المجتمعات تتمايز على هذا الصعيد في هذه المسألة ..فكل المجتمعات تصدح بضرورة التطوير والتجديد والتغيير ،إلا أن هناك مجتمعات تخاف حقيقة من التجديد ،لذلك فهي على الصعيد الواقعي تحارب كل ممارسة تجديدية.فالتمايز يكون بين المجتمعات ،بين مجتمعات ترفع شعار التجديد وتلتزم بكل مقتضياته ومتطلباته . ومجتمعات ترفع شعار التجديد دون الالتزام بكل المتطلبات . ولعل من أهم الأسباب لهذا التمايز بين القول والممارسة هو في الخوف من التجديد والرهاب من التغيير . صحيح أن هذه المجتمعات ترفع شعار التجديد ،إلا أنها على الصعيد النفسي والثقافي تخاف من المقتضيات والمتطلبات . فهي مع التجديد الذي لا يتعدى أن يكون شعارا فحسب ، أما التجديد الذي يتحول إلى مشروع عمل وبرامج عملية متكاملة ،فهي ترفضه وتخاف منه . وأي مجتمع لا يتحرر من رهاب التجديد ،فإنه لن يتمكن على المستوى الواقعي من الاستفادة من فرص الحياة ومكاسب الحضارة الحديثة .
ولكي تتحرر مجتمعاتنا من رهاب التجديد والتغيير ،من الضروري التأكيد على النقاط التالية :
1- إن التجديد والتغيير في المجتمعات الإنسانية ،لا يحتاج فقط إلى توفر الشروط المعرفية والثقافية والسياسية ،وإنما من الضروري أن يضاف إلى هذه الشروط ، شرط الاستعداد النفسي والعملي لدفع ثمن ومتطلبات التجديد في الفضاء الاجتماعي . وبدون توفر هذا الشرط ،لن تتمكن المجتمعات من ولوج مضمار التجديد . لأن التجديد بحاجة إلى جهد إنساني متواصل ، واستعداد نفسي مستديم لإنتاج فعل التجديد والتغيير في الواقع الاجتماعي . والاستعداد النفسي الذي نقصده في هذا السياق ،ليس ادعاء يدعى ،وإنما هو ممارسة سلوكية ،تحتضن وتستوعب كل شروط التجديد ،وتعمل على تمثل وتجسيد متطلباته في الذات والواقع العام .
فطريق التجديد في مجتمعاتنا ،ليس معبدا أو سهلا ،وأمامه العديد من الصعوبات والمآزق ، وبدون الاستعداد النفسي والعملي لدفع ثمن التجديد والتغيير ، لن تتمكن مجتمعاتنا من القبض على حقيقة التجديد والتغيير . فالمطلوب دائما وأبدا ومن أجل الاستيعاب الدائم لمكاسب العصر والحضارة الحديثة ،هو توفر الجهد الإنساني الموازي لطموحاتنا وتطلعاتنا.وبدون ذلك ستصبح دعوات التجديد في أي حقل من حقول الحياة وكأنها حرثا في البحر .فعليه فإن التجديد في المجتمعات الإنسانية ، يتطلب وجود مجددين ،يجسدون قيم ومبادئ التجديد ،ويعملوا من أجل بناء حقائق ووقائع في الحياة الاجتماعية منسجمة وقضايا التجديد ومتطلباته .
2- إن قانون التغيير والتجديد في المجتمعات الإنسانية ، لا يعتمد على قانون المفاجأة أو الصدفة ،وإنما على التراكم . فالتجديد يتطلب دائما ممارسة تراكمية ،بحيث تزداد وتتعمق عناصر التجديد في الواقع الاجتماعي . ولهذا ومن هذا المنطلق فنحن مع كل خطوة أو مبادرة صغيرة أو كبيرة ، تعمق خيار التجديد وتراكم من عناصره في الفضاء الاجتماعي. وفي المحصلة النهائية فإن التجديد هو ناتج نهائي لمجموع الخطوات والمبادرات والممارسات الايجابية في المجتمع .
ويشير إلى هذه الحقيقة المفكر العربي (جورج طرابيشي ) في كتابه (هرطقات عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية ) بقوله : والواقع أن قانون الترابط بين حركة الإصلاح الديني والتقدم الثقافي دلل على فاعلية نموذجية في الدول الصغيرة الحجم في المقام الأول . وتلك هي حالة السويد التي كانت أول بلد في العالم يطور برنامجا شاملا لمحو الأمية . فانطلاقا من فكرة لوثر البسيطة القائلة إن جميع المسيحيين بلا استثناء كهنة ،وبما أن الكاهن هو بالتعريف في تصور بشر ما قبل الحداثة من يعرف القراءة ،بات واجبا على البشر ،كي يكونوا كهنة أي محض مسيحيين ،أن يتعلموا القراءة . وعلى العكس من الكنيسة الكاثوليكية التي عارضت وصول العامة إلى النصوص المقدسة ، شجعت الكنائس البروتستانتية أهالي المدن والأرياف على السواء على تعلم القراءة .ومنذ مطلع القرن السابع عشر أطلقت كنيسة السويد اللوثرية ،بمساندة من الدولة ،حملات واسعة النطاق لمحو الأمية . وفي أقل من قرن ،كان ثمانون في المئة من السكان ،في ذلك البلد القروي ،قد أضحوا من المتعلمين .وما إن أطل القرن الثامن عشر حتى كان تعميم التعليم في السويد قد أضحى ظاهرة جماهيرية ناجزة ،وهذا بدون وجود شبكة موازية من المدارس والأجهزة التربوية .
من خلال هذه التجربة نرى أهمية أن تترجم دعوات التجديد والتغيير إلى خطط وبرامج ومبادرات ،حتى يتسنى للمجتمع اكتشاف بركات ومنافع التجديد على المستويين الخاص والعام .
وجماع القول :أن التجديد في مجتمعاتنا ضرورة قصوى . ولكن هذا لا يعني أن طريق التجديد سالكا ومعبدا وبدون مشاكل ،بل على العكس من ذلك حيث أن طريق التجديد والتغيير مليء بالأشواك والصعاب .والشرط الضروري الذي يوفر لنا إمكانية تجاوز كل هذه العقبات وإبراز منافع التجديد والتغيير هو إنهاء حالة الرهاب والخوف من التجديد .
فالتجديد في مدرسة وتجربة السيد فضل الله ، ليس خطابات مجردة وكليانية ، بل هي ممارسة مستديمة لاستنطاق النصوص الشرعية ومواكبة مستجدات العصر بعقلية منفتحة وتواصلية ، حتى نتمكن من تفعيل مبدأ الاجتهاد ، وهو الجسر المعرفي الذي يربط بين النص الخالد ووقائع العصر والراهن المتحركة والمتبدلة باستمرار .. لهذا فإن التجديد كفعل معرفي هو إعمال للعقل بشكل دائم ، وإطلاق طاقة الفكر بدون قيد وشرط ، وملاحقة دائمة وواعية لمكاسب العصر ومنجزات الحضارة ..
4-الإبداع في المختلف :
من الطبيعي القول : أن السؤال والنقد يؤسسان لعملية انفتاح وتواصل على المستويين الثقافي والإنساني ، وأي تجاوز لهذه الحقيقة فإنه يفضي إلى العديد من المآزق وعلى المستويات كافة .
وبفعل هذا السلوك المنغلق والانعزالي والبعيد عـــن الــحس الحضاري والديني السليم ، يحدث الانفصال الشعوري والنفسي ، وتتشكل كيانات اجتماعية مغلقة ، وممانعة لأي صيغة للوحدة والاندماج .
وقد لا نبالغ إذا قلنا أن العديد من الحروب الداخلية والأهلية التي شهدتها بعض المجتمعات العربية والإسلامية ، وبصرف النظر عن مبرراتها التاريخية والسياسية ، هي من جراء تراكم العقلية المتعصبة ، التي لا ترى إلا لونا واحدا وفكرا واحدا وحقيقة واحدة .
إن هذه العقلية بمتوالياتها النفسية والاجتماعية والسياسية ، هي جذر العديد من الحروب الداخلية ، إذ أنها بمثابة الحاضن لكل الأسباب والعوامل ، التي تعمق الإحن والأحقاد ، وتشعل الفتن والنزاعات ، وتغلّب جوانب العنف والتصعيد ، على جوانب التهدئة والحلول السلمية .
فالعقلية الدوغمائية ، تسعى إلى تأكيد خصوصياتها ، حتى لو كان هذا التأكيد على حساب مصالح الأمة والوطن .
وبدل أن تمارس الأفكار والقناعات الثقافية وظيفة تربوية وروحية ومهذبة للأخلاق العامة ، ومحفزة على الالتزام بالقيم العامة التي تقوي أواصر الوحدة الاجتماعية .
تتحول هذه الأفكار إلى مادة للتأطير الضيق والتنميط والانغلاق ، وتبرز الموروثات الاجتماعية والتاريخية في صورها السلبية والمتخلفة ، و تبرز عوامل الانعزال واستخدام العنف ( عنف القول والفعل ) ضد الآخرين .
بينما من يتأمل جوهر الأفكار الإنسانية ، يجدها تتجه إلى تربية الإنسان على الالتزام بالقيم الإنسانية العامة التي لا تشكل عامل نفرة بين الاتجاهات المختلفة ، بل عامل وحدة وائتلاف ، وتقوي هذه الأفكار آفاق السلم المجتمعي ، وتعزيز الضمير الإنساني والرقابة الذاتية والاندفاع الطوعي نحو ممارسة الصلاح والخير على مختلف المستويات .
وفي هذا الإطار ، لا بد من القول أن العقلية الدوغمائية هي التي تفرغ الدين والقيم العليا من استهدافاتها النبيلة تحت دواع وحجج عصبوية مقيتة .
والمشكلة الحقيقية التي تواجه العالمين العربي والإسلامي اليوم ، ليست في تربص أعداء الأمة بنا وسعيهم الحثيث لنهب ثرواتنا والقضاء على مقومات وجودنا الذاتي المستقل . بل في تلك العقلية التي لا ترى إلا قناعاتها، وتمارس في سبيل ذلك عمليات الإقصاء والنفي والقتل إلى كل الثقافات والقناعات الأخرى .
إن هذه العقلية تلتقي موضوعياً مع أعداء الأمة التاريخيين ، لأنها هي التي تهيئ الظروف في المحصلة النهائية لنجاح مشروعات ومخططات الأعداء ، وذلك لأنها تغذي الأحقاد الداخلية ، وتمنع الائتلاف وأشكال الوحدة المختلفة ، وتحــارب بلا هوادة الآخرين الذين لا يتفقون أو يشتركون معها في القناعات والأفكار ، فتعم الفتن وتزداد العصبيات ، وتتراجع قيم العقل والحضارة .
وهذه هي الأرض الخصبة لنجاح أي عدو خارجي في نهب ثروات الأمة والانتقاص من استقلالها وحيويتها الحضارية .
من هنا نرى من الأهمية بمكان ، أن يعتني الفكر العربي والإسلامي ، بمسائل التنوع والتعدد وقيم التسامح والعدل وآليات تحقيقهما ، ويخوض بشكل جاد في أسئلة العصر وتحديات المعاصرة .
فلا يكفي الرجوع إلى فكر المقارنات والمقاربات الذي صاغه مفكــرو القرن الماضي ، إذ أن هذه الصياغات كانت محكومة بعقلية التمامية والدفاع عن الذات ، وإن حقائق الاجتماع البشري قد وجدت من عهود تاريخية قديمة ، وإن البشر لا يصنعون الحقيقة ، وأن دورهم ووظيفتهم هي فقط في أن يعثروا عليها .
لا شك أن مواجهة أسئلة العصر وفق هذا المـــنظور وهذه العقليـــة ، يـــزيدنا اغترابا ، ويعمق في نفوسنا عقداً ومركبات نقص عديدة ، بعضها صريح والبعض الآخر يختفي تحت ( يافطات ) وعناوين أخرى .
ومن المؤكد أن حقل الاجتهاد الفقهي والمعرفي ، هو الذي يفتح إلينا العديد من الأبواب والآفاق ، حتى يتجه فكرنا المعاصر إلى تأصيل أسئلة العصر في واقعنا الاجتماعي والحضاري .
ولا مجال في هذا الإطار لإنكار واقع التنوع الفكري والثقافي والمعرفي ، فهذا التنوع هو من الحقائق البديهية في الاجتماع الإنساني .
ولعل من الخطأ الجسيم النظر إلى هذا التنوع وحق الاختلاف باعتباره عقبة تحول دون إنجاز الغايات النبيلة ، ولا ريب أن العمل على ترذيل الاختلاف ونبذه المطلق ، لا ينهي الأسباب الطبيعية للاختلاف ، وإنما يغيّر مسارها ويجعلها سببا من أسباب النزاع والصراع ، بدل أن يكون وسيلة من وسائل الإثراء الفكري والمعرفي .
فلا يمكن لقوة الغلبة والقسر والقهر من نفي الحـــقوق الـــطبيعية في حيــاة الإنسان ، ويأتي في مقدمتها حق الاختلاف .
ومن الطبيعي القول ، أن القهر والقسر والإلغاء أشد خطراً وضررا على الأمم والأوطان من ممارسة حق الاختلاف والاعتراف بالتنوع المعرفي والثقافي ، واعتباره الوليد الطبيعي لقيمة الاجتهاد وسبيل تعدد الخيارات الفكرية والإستراتيجية في مسيرة الأمة .
لهذا نجد أن القرآن الحكيم يرصد حقائق الاختلاف في الكون والحياة والإنسان ويقول تعالى [ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ] ( سورة هود ، الآية 118 – 119 ) . والمذموم قرآنيا هو الاقتتال والتنابذ والنفي المتبادل والبغي ، لأنها جميعا خروج من طبيعة العلاقات الإنسانية المنشودة .
وثمة حقيقة أساسية ينبغي أن ننطلق منها في هذا السياق ، وهي أن الاختلاف في حدوده الطبيعية ، يثري علاقة التواصل والتفاعل الإنساني ، كما أن الاقتتال والتنابذ قطيعة مع الإنسان الآخر .
فالاختلاف حوار وتواصل وتفاعل ، والقطيعة والنفي طغيان واستئثار ونفي لقيم التواصل الإنساني .
وفي الإطار التــاريخي للفضاء العربي والإسلامي ، تشكلت استجابات عربية امتثالية ، واندرجت في سياق علاقات ولاء وتبعية فكرية ومعرفية لغيرها ، بحيث أضحت هذه الاستجابة ، وكأنها صدى متواصل للصوت الغربي .
ولاشك أنه حينما تذعن ثقافة لأخرى ، فإن آفاق الحرية والإبداع والراهنية تتقلص وتصل إلى حدودها الدنيا ، لأنها ثــقافة تتجه صوب المطابقة المميتة ، دون أن تتحرر من أسر وهيمنة الثقافة الغالبة .
وكما يبدو أن الثقافة المبدعة هي التي تتمكن من بلورة أفق الاختلاف الثقافي والمعرفي ، دون أن تقطع أواصر التواصل والتفاعل الخلاق مع الثقافات الأخرى ، وليس المقصود من الاختلاف والمغايرة الثقافية هنا هو اعتبار الثقافات الأخرى ذات مكونات هامشية ، أو لا ترقى إلى مستوى التوجيه الإنساني ، وإنما المقصود هو أن الاختلاف في هذه الدائرة هـو شرط التفاعل الخلاق والاستيعاب الواعي لمنجزات الفكر الإنساني المعاصر . كما أن تنمية عوامل المغايرة والاختلاف الثقافي ، هو الذي يؤسس لواقع أو ظروف تغذي الذات الثقافية وتثريها بأبعاد إنسانية وموضوعية عديدة .
وبداية النهاية لأية ثقافة ، هي حينما تتجه إلى اختزال وقائعها ومفاهيمها في البحث عن الأشكال المتوافقة أو المنطبقة مع مفاهيم وأشكال الثقافات الأخرى دون الالتفات إلى الشروط التاريخية والاجتماعية لكلتا الثقافتين .
أفق المغايرة والاختلاف من الآفاق المهمة لأي ثقافة ، لأنه يوجهها إلى أسئلتها الخاصة ، وتحدياتها الملحة ويدفع باتجاه الحوارات النقدية الواعية مع الثقافات والمكونات المعرفية الأخرى .. ( وإن اختلافاً مشروطا بالوعي ، يمكن أن يسهم بتغذية الثقافة العربية الحديثة بوجهة نظر جدية ، وبمنظور يقوم على التواصل مع الثقافات الأخرى ، من خلال إيجاد نسق يعين الثقافة العربية على فهم ذاتها وغيرها ، بما يدفعها من واقع المطابقة إلى أفق الاختلاف ، وإذا كان واقع المطابقة يفضح تبعية الثقافة العربية وولائيتها لثقافة الآخر ، أكثر من انصرافها إلى واقعها التاريخي فإن أرضية الاختلاف غير ممهدة وبحاجة إلى توافر أسباب كثيرة ليصبح الاختلاف أمرا مشروعاً وقائما بالفعل ، ومن ذلك نقد أنظمة التمركز الداخلية في الثقافة نفسها ، بما فيها المفاهيم الخاصة بالمجتمع والسلطة والمعرفة والدين والفكر والاقتصاد وغيرها ، وبما أن الاختلاف ضرورة تتصل بدائرة التكون الثقافي العربي الحديث فهو مشروط بمحددات تنظم أهدافه وغاياته وفي مقدمة ذلك إعادة نظر نقدية للعلاقة التي تربط الثقافة العربية الحديثة بأصولها الموروثة من جهة ، وبالثقافة الغربية من جهة ثانية ، وتشكيل منطقة تفكير لا تتقاطع فيها تلك المؤثرات ولا تتعارض ولا تذوب مكوناتها مع مكونات غيرها ، ولا تتداخل رؤى هذه برؤى تلك والأهم من ذلك أن تعلن عن أسئلتها الخاصة التي تترتب مقدماتها وبراهينها في ضوء حاجات الإنسان والواقع التاريخي وليس استجابة لمقترحات خاصة بسياقات وأنساق ثقافية آتية من الماضي أو من الثقافات الأخرى ) ( راجع الدكتور عبد الله إبراهيم ، المركزية الغربية ، إشكالية التكون والتمركز حول الذات ، ص 6 ) .
فوهم المطابقة مميت للثقافة، فلا حياة ثقافية إلا بأفق المغايرة والاختلاف ، وأية ثقافة تطرد من واقعها هذا الأفق بتداعياته وممكناته ومتطلباته ، فإنها ثقافة لا تاريخية ، ولا تستطيع أن تبلور أو تنشأ ثقافة ذاتية أصيلة .
فتنمية أفق الاختلاف الثقافي هو شرط الأصالة والمعاصرة معا. فلا أصالة إلا بجوهر الاختلاف الثقافي ، كما أن المعاصرة لا تتحقق في السياق التاريخي والاجتماعي ، إلا بالتحرر من وهم المطابقة التماهي بالآخر فكراً وسلوكاً .
فالتعصب والانغلاق ، لا يصنع أصالة ، بل يصنع واقعا ثقافياً تمور فيه التناقضات بكل أشكالها وأطيافها ، وتقوّض النسق أو الأنساق الثقافية المحملة بالمضامين الحضارية الأصيلة ، كما أن الحيرة والضياع والغبش في الرؤية ، لا يصنعان معاصرة بل يفضيان إلى المزيد من العزلة عن الآخر أو الذوبان فيه .
ويبقى أفق الاختلاف الثقافي هو الذي يعمق الرؤى الحضارية الذاتية ، ويؤسس لقيم الحوار مع الآخر والتفاعل معه ، وبهذا على حد تعبير الدكتور عبد الله إبراهيم يتم تجاوز السجال إلى الحوار ونقد الذات الامتثالية ، والدعوة إلى ذات هي مجموع ذوات كفؤوة وقادرة على إنتاج الفعل ، والتفاعل مع الآخر على نفس المستوى مع المقدرة والإمكانية ، لهذا كله ينبغي التأكيد على ضرورة النقاط التالية :
1) ضرورة تدشين الأرضية الصالحة لبلورة أفق المغايرة الثقافية والاختلاف المعرفي ، لأنه أحد العوامـل الضرورية لتطوير واقع الثقافة العربية والإسلامية ، واستجابتها الفعلية لتحديات الراهن الحضاري والثقافي .
2) تطوير المنظور النقدي والحواري في فضاء الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة ، لأن الاختلافات الثقافية لا تتحول إلى مصدر ثروة حقيقية للإنسان والثقافة إلا بوعي نقدي يشتت التافه من الأمور، ويثري المضامين الإنسانية والحضارية في الثقافات . وهذا بطبيعة الحال،لا يتأتى إلا بعقلية حوارية تبحث عن المشترك فتثريه وتنضجه ، دون أن تتغافل عن نقاط الافتراق والاختلاف لمناقشتها ومساءلتها ، لا لإنهائها من الوجود والحياة الثقافية والمعرفية ، وإنما للوصول إلى صيغة عملية لإدارة نقاط الاختلاف والمغايرة .
فالحوار ليس هدفه النهائي القضاء على نقاط الاختلاف ، بل هو وسيلة حضارية لإدارته بعقلية متقدمة .
فالنقد هو الممارسة الضرورية في الاختلافات الثقافية والمعرفية ،كما أن الحوار هو الوسيلة الفعالة الذي يمنع إصدار أحكام قيمة على الظواهر الثقافية ذات الشروط العامة والتاريخية .
وبهذا تكون العلاقات الداخلية بين مدارس الثقافة العربية والإسلامية، ذات أسس حوارية وتفاعلية وتواصلية، فتطرد عوامل الحقد والضغينة ، وأسباب الاحتراب الداخلي .
5- في معنى المعرفة الدينية:
ولعل من أهم مرتكزات المعرفة الدينية التي بلورها السيد وصاغها في مجموع مؤلفاته وأبحاثه الفقهية والفكرية والسياسية هي الآتي :
1- الإيمان بضرورة الاجتهاد كممارسة معرفية متكاملة لخلق القدرة على مواكبة مستجدات العصر ، والاستجابة إلى تحدياته ومسائله المختلفة ..
والانطلاق من الإيمان بهذا المبدأ الحيوي في الرؤية الإسلامية ، ليس من أجل حماية الذات وتسويرها ، وإنما من أجل حماية حق الآخرين في الاجتهاد ..
مما يفضي من الناحية العملية إلى تعدد الرؤى والأفكار والقناعات والاجتهادات .. لهذا فإن من لوازم الحياة العلمية ، هو وجود آراء وقناعات متعددة .. والذي يدفع الأمور تحت أي عنوان كان إلى الرأي الواحد والقناعة الواحدة ، هو يخالف ويناقض مبدأ الاجتهاد ولوازمه العقلية والمعرفية والعلمية ..
لهذا نجد سماحة السيد في العديد من أبحاثه ودراساته ، يحفل بالاجتهاد ، ويؤكد عليه ، ويدعو إلى امتلاك ناصيته والقبض على موجباته ..
2- الإيمان بحق الاختلاف العلمي والفكري والسياسي بوصفه أحد تجليات الاجتهاد ولوازمه العلمية .. فما دام بإمكان أي إنسان أن يمتلك المؤهلات العلمية للاجتهاد ، فإن من مقتضيات فتح باب الاجتهاد والدعوة إليه ، هو ضمان حق الاختلاف .. فما دام هناك اجتهادات علمية فهناك اختلافات علمية .. لهذا فإننا وانطلاقا من إيماننا العميق بالاجتهاد وضرورته للحياة الإسلامية المعاصرة ، نحن بحاجة أن ندافع عن حق الآخرين في الاختلاف مع اجتهاداتنا وأفكارنا وقناعاتنا من هنا فإن رفض الآراء والقناعات ، لكونها شاذة أي لم يقل بها أحد من السابقين ، ليس له أي قيمة علمية ومعرفية .. فالمطلوب هو مناقشة الآراء وفق المقتضيات والشروط العلمية سواء كان هذا الرأي له أشباه ونظائر ومماثل أم لم يكن له ..
فما دام من حق الآخرين وفق الشروط المقررة علميا أن يجتهدوا ، فمن حقهم أن يختلفوا مع آراءنا واجتهاداتنا وما دام هذا الحق محترما ومصانا فالجميع متساوون في الرأي والاختلاف والاجتهاد ..
ولعل هذه الحقيقة العلمية – التاريخية ، هي ما يميز المدرسة الأمامية التي فتحت باب الاجتهاد على مصراعيه ، ودعت إلى حمايته وصيانته وتعزيزه .. لهذا فإن كل الموسوعات والمدونات الفقهية بكل مستوياتها ، تحفل في كل أبحاثها وعناوينها بالتعدد في الآراء والفتاوى والأحكام .. وإن هذا الثراء العلمي والفقهي الذي تحتضنه كل المدونات الفقهية لم يفض بطعن أحد العلماء أو الفقهاء بسبب رأيه العلمي أو قناعاته الفقهية ..
لهذا فإننا نستطيع القول : إن عملية الطعن والتشويه لآراء العلماء ليس من طبيعة الحياة العلمية التي تنطلق من مركزية الاجتهاد وحق الاختلاف العلمي والفقهي والاجتهادي ، وإنما بسبب عوامل أخرى اجتهادية وسياسية وسيكولوجية بحاجة إلى معالجة بعد رفع الغطاء والجلباب الذي تتطلب به .. فقناعات الفقهية وآراءه المختلفة هي وليدة فهمه وإدراكه وفهمه للأدلة الشرعية ، كما هي نتاج وعي الفقيه بعصره وزمانه وشروط عملية تنزيل الأحكام الشرعية على وقائع العصر المستجدة ..
وهنا ( نحن لا ندعي أن الفقيه يملك الحقيقة المطلقة ، ولا نتصور أن على الناس أن يختزنوا في داخل نفوسهم أن ما جاء به الفقيه يمثل الحق الذي يعتبر الخروج عليه خروجا عن الدين ، تماما كما هو الخروج على ما قاله النبي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وذلك لأن الفقيه يستهدي القواعد والمناهج التي توثق له النصوص من جهة تفسيرها له من جهة أخرى ، وهو إن قطع بنتائج بحثه فإن تلك النتائج تبقى رأيه الشخصي على أقل تقدير ، ولكنها شرعية ويمكن انتسابها إلى الشريعة ، ويبقى للفقهاء الآخرين مناقشتها على ضوء القواعد والمناهج لمعرفة مقدار الخطأ والصواب فيها ) ..( راجع الاجتهاد والحياة حوار السيد محمد الحسيني ، ص 33- 34 ، مركز الغدير للدراسات الإسلامية ) ..
إن السيد فضل الله أسس لخطاب ديني وممارسة اجتماعية ، تستوعب جميع الأطياف والأطراف .. فلم يكن في أي مرحلة من مراحل حياته طرفا في عملية التمزق والتشظي الاجتماعي .. فمن حق الجميع أن يلتزم بفكرة ، ويؤمن بمشروع وخيار ، ولكن الالتزام بالفكرة شيء والمشاركة في عملية التشظي الاجتماعي شيء آخر ..
ولعل من أهم الدروس التي نتعلمها من تجربة السيد ، هو أهمية أن يكون عالم الدين في مجتمعنا حاضنا ومستوعبا لجميع الأطراف .. وهذا الاحتضان والاستيعاب الذي يأخذ أشكالا وصورا متعددة، ليس مضادا إلى التزام عالم الدين بفكرة أو مشروع محدد .. فمن حقه الطبيعي أن يلتزم بفكرة ومشروع ، ولكن بإمكانه التعبير عن التزامه بعيدا عن عمليات التسقيط والتشويه إلى الأفكار والقناعات الأخرى..
وما أحوج مجتمعنا اليوم ، إلى الشخصيات الدينية والاجتماعية ، التي تنفتح على كل شرائح المجتمع ، وتتواصل مع جميع التعبيرات وتعمل على دعم كل المبادرات التي تستهدف تعزيز قوة المجتمع وتضامنه الداخلي ..
ولقد كان السيد في خياراته الاجتماعية ، ونمط العلاقة الذي يحكمه مع فئات وشرائح المجتمع المختلفة ، مصداقا لوصية الإمام علي بن الحسين السجاد (ع) للزهري الذي جاء فيها [ أما عليك أن تجعل المسلمين والمؤمنين منك بمنزلة أهل بيتك ،فتجعل كبيرهم بمنزلة والدك،وتجعل صغيرهم منك بمنزلة ولدك ،وتجعل تربك بمنزلة أخيك .. فأي هؤلاء تحب أن تظلم ؟ وأي هؤلاء تحب أن تدعو عليه ؟ وأي هؤلاء تحب أن تهتك ستره ]
فكان السيد بمثابة الأب لكل الأطياف والأطراف ، يتواصل مع الجميع ، ويستمع إلى الجميع ، ويتعاون مع الجميع ، ويحفظ حرمة الجميع ..
إن بعض المشاكل الاجتماعية التي يعانيها مجتمعنا ، لا يمكن أن تعالج بالموعظة الدينية والأخلاقية ، مع أهمية هذه المواعظ في ضبط اندفاعات الناس المادية والدنيوية .
ولكن هذه بوحدها لا تعالج بعض المشاكل والأزمات ، وإنما هي بحاجة إلى صناعة بدائل وحقائق اجتماعية مضادة ، تعمل على تحريك عجلة الحل والمعالجة في الفضاء الاجتماعي .. فلا يكفي أن نحذر من غلاء المهور أو زيادة تكاليف الزواج في مجتمعنا ، وإنما نحن بحاجة أيضا للقيام بمبادرات لتيسير شؤون الزواج ..
وهكذا دواليك مع بعض المشاكل الاجتماعية التي يعاني منها واقعنا الاجتماعي ..
فلعن الظلام بوحده ، لا يعالج الأزمة أو المشكلة ، وإنما نحن بحاجة باستمرار مع لعن الظلام وبيان مخاطر هذه المشكلة أو تلك ، إلى إشعال شمعة ، وتأسيس مبادرة ، تساهم بشكل عملي في علاج هذه المشكلة أو تلك ..
ومجتمعنا اليوم بحاجة ماسة ،إلى بناء الأطر والمؤسسات ، التي تستوعب طاقات المجتمع ، وتعمل على سد بعض الثغرات ،ومعالجة بعض الإشكاليات .. فقوة مجتمعنا اليوم ، مرهونة إلى حد بعيد على قدرته على بناء الأطر والهياكل والمؤسسات في مختلف جوانب الحياة ، حتى يتمكن من تسيير شؤونه المختلفة ، وتوسيع دائرة المشتغلين والمهتمين بالشأن العام ..
ودائما نحن كمجتمع ، وحتى لا تتحول حالات التعدد والتنوع في الأفكار والقناعات والميولات ، إلى نافذة للفوضى والمزيد من التشظي والتفتت ، نحتاج إلى قامات علمية واجتماعية ، تدير هذا التعدد ، وتضبط حالات التنوع بعيدا عن الانفلاش أو التقوقع والانكفاء ..
ومن الضروري لهذه الشخصيات أن تتحلى بأعلى درجات المناقبية الأخلاقية ، وتمتلك قدرة على التواصل والتعاون مع جميع الأطراف والتوجهات ..
والسيد فضل الله بموقعه الديني وحيثيته الاجتماعية ، مارس هذا الدور ، وتحلى بهذه الصفات ..
لهذا تحلى المحيط الاجتماعي الذي تحرك ونشط فيه سماحة السيد ، بمستوى من الترابط والتماسك بعيدا عن عناوين التمايز أو دوائر الاختلاف ..
لهذا فإن المطلوب دائما التحلي بروح المسجد .. وهي روح جامعة وحاضنة لجميع التعبيرات والأطياف ..
ثمة توجيها ودعوة قرآنية صريحة بضرورة التعاون بين أبناء المجتمع والأمة الواحدة ، وذلك من أجل إنجاز الأهداف وتحقيق التطلعات والطموحات .. إذ يقول تبارك وتعالى [ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ] (6).
ويبدو من الآية القرآنية الكريمة ، أن التعاون بكل مستوياته ودوائره ، هو شرط الإصلاح في أي مجتمع .. لأنه لا يمكن ليد واحدة أو طرف واحد أن يحقق تطلعات الأمة والمجتمع ..
وإنما بحاجة أن تتكاتف كل الجهود ، وتتوفر كل سبل التعاون والتكامل بين المؤمنين ، وذلك من أجل تشكيل كتلة تاريخية ، قادرة على إنجاز المهام وتحقيق الآمال ..
وضرورة التعاون بين أطياف المجتمع وتياراته ، من أجل تحقيق الأهداف والغايات ، لا تلغي حقيقة التعدد والتنوع في الآراء والقناعات ..
لهذا فإن مهمتنا جميعا العمل على تطوير أوضاعنا الأخلاقية والثقافية والاجتماعية لاستيعاب مقتضيات التعاون بدون تعصب أو انغلاق ، يحول دون تحقيق قيمة التعاون في المجتمع ..
والتعاون كممارسة وأفق ، مطلوبا في كل الأحوال .. فليس هي قيمة خاصة بالضعفاء ، وإنما هي ضرورة في كل الأحوال والظروف .. فالجماعة التي تشعر بالقوة ، لا يمكن أن تستغني عن بقية الأطراف ..
لهذا فإننا نتطلع إلى ذلك اليوم ، التي تتضح فيه معالم التعاون المستديم بين جميع الجماعات والأطراف في المجتمع الواحد .. لأن أهداف المجتمع وغاياته ، تحتاج إلى جميع الجهود والطاقات .. ووجود مشكلة هنا أو هناك ، لا يمنع من التعاون .. بل حينما ننفتح على بعضنا البعض ونتعاون ، نتمكن من محاصرة المشاكل كخطوة أولى في مشروع معالجتها ..
والسيد فضل الله من النماذج التي تحتذي على هذا الصعيد .. حيث انفتاحه وتواصله مع الجميع بدون تردد وحذر .. وحيث استعداده الدائم للتعاون مع أي فكرة أو مشروع لخدمة المجتمع وتطوير أحواله ..
لهذا ومن أجل أن تتعزز قيمة التعاون بين الأفراد والجماعات في مجتمعنا نحن بحاجة إلى:
1- بث الثقافة الدينية والاجتماعية ، التي تحث على التعاون والتضامن والتكافل ، وتحترم واقع الاختلاف والتعدد ولا تعتبره حائلا دون التلاقي والتعاون ..
2- القيام بمبادرات اجتماعية وثقافية وعملية لانجاز مفهوم التعاون والتلاقي .. وفشل مبادرة هنا ، أو إخفاق تجربة هناك ، ينبغي أن لا يعطل المبادرات التي تستهدف التعاون والتلاقي بين جميع الأطراف ..
3- العمل على إدارة الاختلافات الفكرية والاجتماعية والميدانية ، بعقلية استيعابية ، تدور الزوايا وتبحث عن الحلول التي تحول دون تفاقم الاختلافات والتباينات .. فليس مطلوبا المماحكات والسجالات ، التي تشحن النفوس وتغذي الأحقاد ، وإنما الحوار الهادئ والموضوعي الذي يوسع المشتركات
9-عالم الدين والدور المطلوب :
على ضوء التطورات والتحولات الكثيرة التي حدثت في مجتمعنا ، وبعيدا عن لغة
الوعظ والإرشاد ، أعتقد بشكل عميق أن عالم الدين في مجتمعنا ، وحتى يحافظ على موقعه في المجتمع ، ويستمر في مسيرة العطاء لمجتمعه هو بحاجة :
· قدرات فكرية وثقافية تمكنه من بلورة خطاب ديني ، قادر على استيعاب شرائح المجتمع وبالذات الأجيال الطالعة ، والإجابة على أسئلتهم ، والتفاعل مع قضاياهم ومتطلباتهم المختلفة ..
وإن غياب هذه القدرة الفكرية والثقافية سيضعف من دور وموقع عالم الدين في مجتمعنا ..
· إمكانية روحية وأخلاقية وسلوكية ، تبعد هذه الشريحة المحترمة ، من شبهات عديدة ، تقلل من موقعها ، وتساهم في تراجع دورها ..
فعالم الدين في مجتمعنا ، كما أنه يحتاج إلى قدرات معرفية تؤهله مواكبة مستجدات الفكر والثقافة وفق رؤية وبصيرة إيمانية .. هو بحاجة أيضا إلى مناقبيات أخلاقية وروحية ، تبعده عن توافه الأمور أو سفاسف بعض القضايا المادية ..
وهذه الإمكانية هي التي تعصم الإنسان من الانخراط في قضايا ثانوية ، تشغل بال الإنسان وتفكيره ..
ولأنه في مجتمعنا تطغى بعض النزعات المادية ، نحن أحوج ما نكون إلى قدرة أخلاقية توازن بين متطلبات الروح والجسد ، الحياة المادية والحياة المعنوية بدون إفراط أو تفريط ..
· إعادة صياغة الدور الاجتماعي لعالم الدين .. بمعنى أن الحضور المأمول لعالم الدين في مجتمعنا على ضوء أحواله الجديدة ، تتطلب معاودة النظر في طبيعة الأدوار التي يقوم بها عالم الدين في مجتمعنا ..
صحيح أن هذه الشريحة كغيرها من شرائح المجتمع ، لا تمتلك حلولا سحرية لواقع المجتمع ، ولكننا نعتقد أنها أكثر الشرائح الاجتماعية قدرة على اجتراح مهام ووظائف تعود بالنفع والتأثير الإيجابي في مسيرة المجتمع ..
فالمناقبية الأخلاقية هي التي تحول دون الانخراط في مشاكل تزيد من التفتت الاجتماعي .. كما أنها الشرط الضروري لممارسة الدور التوحيدي والحاضن لجميع الفعاليات في المجتمع ..
وبالقدرات الفكرية والمعرفية ،نجدد حياتنا الدينية والاجتماعية ، ونطور من وعي أبناء مجتمعنا ، ونحول دون ابتعادهم عن قيم الدين وثوابته ..
وبالدور الاجتماعي الفاعل ، نساهم في تأسيس مؤسسات لحماية المجتمع وزيادة وتيرة تلاحمه الداخلي ، وتوسيع القاعدة الاجتماعية التي تحمل هم الشأن العام ..
ونحن إذ نطرح هذه الفكرة ، ندرك أن في سماء مجتمعنا الكثير من النجوم المتلألئة التي تقوم بدورها ، وتمارس وظائفها المتعددة ، وتحمل مشعل وراية النهضة والتقدم لمجتمعنا في مختلف المجالات ..
لعلنا لا نبالغ أن سماحة المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله ( رحمه الله تعالى ) ، يعد ظاهرة استثنائية في تاريخنا المعاصر .. فهو مسك المجد من أطراف عدة ، فهو مجتهد وفقيه ، يمارس دوره في استنباط الأحكام الشرعية وبيان معارف الإسلام للناس بمختلف الوسائل والسبل بدون كلل أو ملل .. وهو الزعيم السياسي الذي يتصدى لشؤون الأمة ، ويبلور لها المواقف المطلوبة من تحولات الراهن وتحدياته العديدة .. كما أنه المربي الذي يسعى إلى تربية جيل ونخبة إسلامية ، تأخذ على عاتقها حمل مشعل الهداية والنور والمعرفة .. وهو الناشط الاجتماعي الذي بنى المؤسسات والجمعيات التي تعنى بالأيتام والفقراء والحلقات الضعيفة في المجتمع .. كما أنه المفسر المتميز للقرآن الكريم ، والساعي دوما لاستنطاقه والاستهداء بهديه .. وهو صانع الفكر والمعرفة والأبحاث المعمقة.
فهو ظاهرة استثنائية في تاريخنا ، لكونه تحول إلى أمة تتحرك في مجالات الحياة المختلفة ، وتسعى بفعالية وصبر وحكمة إلى بناء حقائق الإسلام في الحياة المعاصرة .. لهذا فإن قراءة هذه التجربة ، والإلمام بجوانبها المختلفة ، يعد من الروافد الأساسية التي تثري تجاربنا وواقعنا ، وتمدنا بأسباب القبض على عوامل النجاح والتميز ..
ولعل ما يعاب على مجتمعاتنا ، إنها لا تكتشف كبارها وشخصياتها الاستثنائية إلا بعد رحيلها إلى الرفيق الأعلى .. وإذا لم نتمكن كمجتمعات من إنهاء هذا العيب ، سنخسر الكثير من الفرص والإمكانات .. فالمطلوب ليس أن نتغنى بأمجاد كبارنا وعظماءنا ، وإنما اكتشافهم وهم أحياء ، والالتفاف حولهم والعمل معهم والذود عنهم وتعريف الجميع بمشروعاتهم الكبرى التي يعملون من أجلها ..
ودراسة تجارب هذه الشخصيات ، يستهدف بالدرجة الأولى ، التعرف على مشروعاتهم ، واستيعاب أطروحاتهم ، والعمل على إنجاز ما يمكن إنجازه منها ، دون إغفال أهمية احتضان ورعاية ودعم كل الشخصيات العلمية والفكرية والدينية ، التي تعمل على بلورة مشروع وتأسيس حركة وفعالية اجتماعية باتجاه أهداف الأمة الكبرى وعزة مجتمعها ..
فالسيد الراحل لم يطرح مشروعه ، وخلد إلى الدعة والراحة ، وإنما عمل بكل طاقته من أجل ترجمة هذا المشروع على أرض الواقع .. فهو ومن خلال معرفتي المباشرة به ، ولقاءاتي المتعددة معه ، شعلة من النشاط والحيوية ، لا يفتر ولا يتراضى ، فهو دائم العمل والنشاط .. وهو يتعب الذين حوله من كثرة أعماله ونشاطه .. فما وصل إليه السيد المرجع ( رحمه الله تعالى ) من مجد وسؤدد ، هو وليد فكره الوقاد وحيويته الدائمة وكفاحه المستمر وصبره على الأذى والاتجاه دوما صوب الهدف والغاية العليا ، دون الانشغال بسفاسف الأمور أو توافه القضايا .. فالجدية هي عنوان حياته كلها ، والإنتاج والعمل الدائم والإخلاص هو ما يلازمه دائما .. ومع كل الأعمال الكبرى والجليلة التي قام بها في خدمة أمته ومجتمعه وأجيال المسلمين المتعاقبة ، حري بنا أن نفخر بإيمانه وصبره وحكمته .. فالأذى الذي أصابه ، لم يعطل حركته ، ولم يخرجه من نطاق محبة الناس وعمله الدؤوب من أجلهم .. فلقد أجترح فرادته وتميزه من مجموع الصفات الخيرة التي احتضنها قلبه الكبير ..ولتكن مقولته الرائدة ( إنني أؤمن بحقيقة وهي أن عليك أن تحب الذين يخاصمونك لتهديهم ، وتحب الذين يوافقونك لتتعاون معهم .. إن الحياة لا تتحمل الحقد ، الحقد موت والمحبة حياة ، وأنا أريد أن أحيا ولا أريد أن أموت ) نبراس حياتنا ، التي تضيء لنا الطريق وتخرجنا من أتون الضياع والالتباسات ، التي قد نضيع بسببها بوصلة الطريق ..
وقال تعالى ( وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ) ( الأعراف 85 ) ..