دراسة في المستندات التاريخية
[القسم الثاني]
ترجمة: علي الوردي
دراسة في سند عاشوراء، الببلوغرافيا الوصفية ـــــــ
تراث عاشوراء ومسألة التحريف، دراسة نقدية ـــــــ
دوّنت كتبٌ كثيرة حول حادثة عاشوراء وحياة الإمام الحسين، لكن جلّها إن لم يكن عديم الفائدة فهو بلا شك ضئيل ومتدنٍّ من حيث المستوى العلمي، ولكاتب هذه السطور مكتبة تحتوي على أكثر من خمسمائة كتاب دوّنت جميعها في هذا المضمار، ولم أقتصر على مطالعتها وإنما تمعّنت فيها واستخرجت عصارة ما يدور حوله كلّ كتاب، وبذلك استطعت أن أدوّن ملخصاً عن كلّ منها.
وقد حاولت أن أدرج جملة من النتائج التي توصّلت إليها بعد جهد جهيد بذلته في هذا الطريق الشاق، راجياً أن تنال بعض الاهتمام:
1 ـ إنّ محتويات الكتب غالباً ما تكون مكرّرةً، ونادراً ما نجد فيها كلاماً جديداً أو مفيداً.
2 ـ كثيرٌ من الكتب عبارة عن محاضرات ألقيت من على المنبر تمّ جمعها لاحقاً وإخراجها على شكل كتب، وهذا ما نلاحظه عادةً في كتب المجالس والمقاتل.
3 ـ العديد من الكتب كتبها الوعّاظ والخطباء بغية الاستعانة بها على المنبر أو حين المجلس؛ كي تسهل عليهم مهمّة الوعظ والخطابة، لكنّ الآخرين حاولوا طباعتها ونشرها بعد رحيل الواعظ والخطيب، كما حصل لكتابي: الفخري ومنتخب الطريحي.
4 ـ لم تُعرض الكتب قبل نشرها على أهل الخبرة والفنّ للاستفادة من ملاحظاتهم، بل تمّ طبعها دون تنقيح.
5 ـ معظمها طبع وهو يفتقد للجانب الفني.
6 ـ لم تراع في تدوينها الضوابط العلمية والمنطقية.
7 ـ كما افتقرت لأبسط ما يتطلّبه البحث العلمي.
8 ـ دوّن بعضها بأسلوب معقّد وغامض بعيد عن السلاسة، كما في كتاب حياة الإمام الحسين× لعماد زاده، والذي يتألّف من مجلدين.
9 ـ كثيرٌ من هذه الكتب كتب باللغتين: العربية والفارسية معاً، ولا يمكن تصنيفها على الكتب الفارسية أو العربية.
10 ـ خلت معظم الكتب من الطابع العقلاني، وقلّما نجد كاتباً حاول دراسة عاشوراء وحياة الإمام الحسين دراسةً تحليلية ممنهجة.
11 ـ العديد من هذه الكتب دوّن بقلم شباب لم يخوضوا تجربة التأليف ولم يبلغوا مستوى فكري وثقافي يمكّنهم من ذلك، وتتضح هذه الحقيقة عند المقارنة بين مؤلّفاتهم في عهد الشباب وما كتبوه في السنوات اللاحقة.
12 ـ العديد من المقاتل دوّن تحت غطاء مبدأ التسامح في أدلّة السنن، بعد أن توهّم مؤلفوها أنّ هذه القاعدة تبيح لهم كتابة ما يشتهون.
13 ـ ومنهم من انطلق في التدوين اعتماداً على القاعدة القائلة: الغايات تبرّر الوسائل، معتقداً أنّ تحقيق البكاء والإبكاء غايةٌ تتيح له ذكر ما يشاء. غافلاً عن إن للقاعدة حيّزاً تطبيقاً محدّداً وبُعداً تجسّده قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات.
14 ـ تأثرت طائفة كبيرة من هذه الكتب بالزيدية تأثراً بالغاً، ويغلب على هذا النوع من الكتب طابع العنف ويكثر فيها الحديث عن الدم والسيف وما إلى ذلك. وتدور معظم محاورها حول عبارات مختلقة، مثل: كلّ يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء.
15 ـ تتميّز هذه الكتب بالغلوّ والتطرف إلى حدّ كبير، ففي جانب منها تلتهب المشاعر بالمدح والرثاء والحنين والتملّق، وفي الجانب الآخر تتعالى الصيحات باللعن والشتائم والويل والثبور، وهذه الظاهرة إنما تعكس تدنّي المستوى العلمي والأدبي لمثل هذه الكتب.
هذه الخمس عشرة ملاحظة قد تكون كافيةً لمن أراد مراجعة هذه المصادر وتقويمها، كما أنّ الوقوف عندها قد يساعد على كشف نقاط ضعف أخرى.
وقد جعلنا المعيار في تصنيف الكتب التي تتمحور حول عاشوراء والإمام الحسين.. مدى تأثيرها في الأوساط الفكرية، سواء كان التأثير إيجابياً أم سلبياً؛ ففي القسم الأول من الدراسة تناولنا الكتب التي لعبت دوراً حاسماً في تكريس التحريفات التي تعرّضت لها واقعة الطف، وجزء كبير من هذه الكتب أصبح مقبولاً وتحوّل إلى مصدر تاريخي فيما بعد، ولا يزال لحدّ الآن يكرّس التحريفات ويزيد من تركيزها لدى الأذهان.
وقد ارتأينا في القسم الثاني، استعراض جملة من الكتب التي تكشف الستار عن مواضع التحريف والتزييف، وكان الغرض من تأليفها مناوءة التحريفات التي ملأت ثنايا الكتب الأخرى؛ آملين أن يكون هذا الجهد المتواضع حافزاً لجهد موسوعي أكبر يزيل طبقة الغبار التي تراكمت بمرور الأيام على الوجه الناصع للثورة الحسينية الخالدة؛ فإنّ هذا النوع من المشاريع يمتاز بأهمية بالغة تتطلّب السرعة في البدء بالعلاج للتوقّي ممّا لا يُرتجى.
القسم الأول: الكتب المكرّسة للتحريف، نقد موروث التزييف ـــــــ
قبل الحديث عن هذا النوع من الكتب لابدّ لنا ـ في البدء ـ من الإجابة عمّا قد يطرحه بعضهم قائلاً: مع غضّ النظر عمّا تحويه هذه الكتب من تحريفات، إلا أن هناك العديد من الفوائد التي تشتمل عليها، فلا ضير بقرائتها ولو لمرّة واحدة.
وللإجابة عن ذلك نقول: إنّ جلّ اهتمامنا في هذه الدراسة ينصبّ على جانب التحريف الذي تضجّ به هذه الكتب، ولسنا بصدد الجوانب الأخرى، كما أننا لا نصادر القاعدة القائلة: إنّ إثبات شيء لا ينفي ما عداه، وعلينا أن نقرّ بأن الغاية الأساسية التي من أجلها دوّنت هذه الكتب هي تسليط الضوء على سيرة الإمام الحسين× وواقعة الطف، أما ما تمخّض عنها لاحقاً فلم يكن متعمّداً في أغلب الأحيان، بل يعتبر أمراً ثانوياً.
1 ـ مقتل الإمام الحسين× المنسوب لأبي مخنف ـــــــ
لم يصلنا ذات الكتاب الذي دوّنه أبو مخنف حول مقتل الإمام الحسين، وما تبقّى منه روي أكثره عن طريق الآخرين من غير الشيعة، وخصوصاً المؤرخ المعروف أبو جعفر الطبري، ولهذا الباقي أهميّة لا تخفى. أمّا ما أورده المجلسي في المجلد العاشر من بحار الأنوار، وطبع لاحقاً لمرّات عديدة وتحت عناوين شتى فلا يمكن الوثوق به والاعتماد عليه بأيّ حال من الأحوال، ويحتاج إلى مزيد من الفحص والتتبّع في السند.
ومن المؤسف حقاً أن نجده قد ترجم للفارسية وللغات أخرى تحت عنوان: مقتل الحسين× أو التأريخ الشيعي الأول بعد واقعة عاشوراء وثورة المختار، مع أنّ كثيراً من محدّثي الشيعة ورواتهم قد أقرّوا بأنّ فيه بعض الموضوعات ولا يمكن الوثوق بمضامينه([1]).
2ـ كتاب نور العين، نماذج من التحريف ـــــــ
طُبع هذا الكتاب لأوّل مرة في مصر قبل مائتي عام، أي سنة 1298هـ، وعنوانه الكامل: نور العين في مشهد الحسين، وطبع لاحقاً أكثر من عشر طبعات في كلّ من مصر وبومباي وبغداد. ويُنسب الكتاب إلى إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران النيسابوري الاسفرائني (417 أو 418هـ)، الشافعي والأشعري المذهب، لكنّ المحقق المعاصر الكبير الأستاذ السيد عبد العزيز الطباطبائي اليزدي ينفي نفياً قاطعاً نسبة الكتاب إليه. ويكتب بهذا الصدد: «أغلب الظنّ أن هذا الكتاب من الموضوعات وقد نسب إلى الاسفرائني لاحقاً؛ وذلك لأن النص المذكور لا يساعد أن يكون من القرن الرابع»([2]).
ويمكن أن نستخلص من هذا الرأي العلمي أمرين:
الأوّل: إنّ مؤلف الكتاب الموضوع لم يتمّ التعرّف عليه، ويصنّف ضمن المجهولين، كما أنّ الداعي لتدوين مثل هذا الكتاب، الذي دوّن بأسلوب قريب من الهزل، لا يزال غير معروف.
الثاني: إنّ تدوين الكتاب كان موافقاً لسنة طبعه عام 1298هـ، ولم تكن ثمّة فترة طويلة بين تدوينه وانتشاره، إذاً لا يمكن أن يكون له أيّ صلة بعصر الاسفرائني الذي عاش نهاية القرن الرابع ونيّف من مطلع الخامس، يؤيّد ذلك الهوّة الكبيرة بين نصّ الكتاب ونصوص القرن الرابع؛ إذاً، فلا يمكن ـ مع وجود هذا الضعف كلّه ـ الوثوق بمضامينه.
وقد أقرّ بذلك كل من كان له باع طويل في التدوين حول عاشوراء؛ فكتب فضل علي القزويني (1290 ـ 1367هـ) بهذا الصدد: «ومن نظر في مقتله المطبوع (نور العين) يعرف أن فيه أكاذيب وأموراً على خلاف ما أجمع عليه الفريقان، ولا يهمّنا نقل مجعولاته، ومن أراد فلينظر إلى مقتله؛ فإنّا لا نعتمد على ما تفرّد به»([3])، كما وصفه الشهيد القاضي الطباطبائي بقوله: «من الكتب الضعيفة جداً والتي لا يعتمد عليها.. ومجعول وضعيف ومجهول المؤلف»([4])، وعبّر عنه في محلّ آخر قائلاً: «إن مقتل الاسفرائني يضجّ بالروايات المجعولة والقصص الزائفة»([5])، وللشيخ عباس القمي كلام حول الكتاب نأتي على ذكره لاحقاً عند الحديث عن منتخب الطريحي.
والتحريفات التي أسّس لها، أو على الأقل، نقلها كتاب نور العين كثيرة، من ضمنها هذه الأربعة:
1 ـ عندما خرج الإمام الحسين من المدينة قاصداً مكة، عاد إلى المدينة قبل أن ينطلق إلى كربلاء ثم الكوفة!
2 ـ تفرّق معظم أصحاب الحسين ليلة عاشوراء، فيما انضمّ قسمٌ منهم إلى جيش عمر بن سعد!
3 ـ فرأت رأس أخيها فنطحت جبينها بمقدم المحمل حتى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها وأومت إليه بحرقة!
4 ـ لما رجعت نساء الحسين وعياله من الشام وبلغوا العراق قالوا للدليل: مرّ بنا على طريق كربلاء، فوصلوا إلى موضع المصرع، فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري.. فوافوا في وقت واحد (يوم الأربعين) وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم، وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد.
3ـ روضة الشهداء، والتأسيس لمدرسة التحريف ـــــــ
هذا الكتاب من تأليف الملا حسين الواعظ الكاشفي (910هـ)، ولا شك أنّه من الكتب التي تضجّ بالتحريف والتزييف، وتأثير هذا الكتاب يفوق تأثير كثير من الكتب الأخرى التي اضطلعت بمهمّة التحريف ذاتها. وقد احتمل بعضهم أنه أوّل مقتل فارسي شاعت قراءته بين الفرس حتى عرف قارؤه بـ(الروضه خوان) ثم توسّع في هذا العنوان إلى هذا الزمان حتى يقال لكل قارئ: (روضة خوان)، وتكاد لا تخلو اليوم أيّ مكتبة من نسخة لهذا الكتاب أو أكثر، وهذا إنما يعكس مدى الانتشار الواسع الذي ناله.
لكن في الوقت ذاته، انتقد هذا الكتاب كثيرٌ من الباحثين في السيرة الحسينية ونوّهوا إلى ضعفه، ولا تسمح لنا هذه العجالة بنقل أقوالهم جميعاً([6])، وللتعرف على الكتاب بصورة أكبر لابد من مطالعة محتوياته، التي سنقتصر هنا على نقل إحدى القصص التي تضمّنتها، وهي ما عرف بقصّة الجارية شيرين.
أسطورة الجارية شيرين ـــــــ
اختلق صاحب روضة الشهداء قصّةً تبدو للرؤيا أقرب منها للرواية، والواقع أنّ هذه القصة تعكس مدى الخيال الواسع الذي كان يتمتع به الكاشفي، كما تكشف عن قدرةٍ كبيرة له في سرد القصص والأساطير، وقد حيكت هذه القصّة بمهارة عالية، وتشبه إلى حدّ كبير القصص التي يسردها اليوم أبرز القصّاصين والأدباء. وتكان تكون متكاملة من كافّة جوانبها، وهي جميلة بكلّ ما للكلمة من معنى.
تبدأ أحداث القصة من الجبل الشاهق الذي يقع أطراف مدينة حلب، والذي استقرّت عليه قرية عامرة بأهلها، يقال: إنها لا تزال على تلك الحال، ويتزعم ساكنيها رجلٌ يدعى عزيز بن هارون، وكان معظم أهل القرية ورجالاتها يدينون باليهودية ويمتهنون نسج الحرير، وقد اشتهر نسيجهم في كلّ من الحجاز والعراق والشام، وصادف في تلك الأيام أن يمرّ طريق أسارى كربلاء من جانب هذا الجبل، وعندما يصلوه ينزلون عند سفحه حيث المياه الوفيرة والمراتع التي تملأ أطراف المكان، كان لدى شهربانو ـ أمّ الإمام زين العابدين ـ جاريةً بغاية الجمال تدعى شيرين، وكانت بحقّ شيرينَ عصرها وليلى زمانها، كأنها العقيق الصافي تتدلّى من فوقها ضفائر تلتوي كالتواء الحبال.
عندما جنّ الليل، جاءت شيرين إلى شهربانو، فجلست عندها وبدأت تجهش بالبكاء مما جعلها تبكي هي الأخرى، وكان لشهربانو عندما جيء بها إلى المدينة مائة جارية، أعتقت خمسين منها عندما تشرّفت بالزواج من الإمام الحسين، وأعتقت أربعين جاريةً عندما ولد الإمام زين العابدين، وبقي معها من الجواري عشرة فحسب. وكانت شيرين الأبرز من بين العشرة بحُسنها وجمالها.
وفي أحد الأيام، جاءت شيرين إلى بيت الإمام الحسين× فوجدت الإمام جالساً وإلى جانبه زوجته شهربانو، فنظر الإمام× إلى شيرين، وقال متلطّفاً: يا شهربانو! إن لشيرين وجهاً مشرقاً؛ فظنّت شهربانو أنّ للإمام رغبةً ما بشيرين. فقالت: يا ابن رسول الله! قد وهبتها لك، فعرف الإمام بما ساورها، فقال في الحال: وأنا قد أعتقتها، فنهضت شهربانو إلى صندوق ملابسها وأخرجت منه رداء ثميناً وألبسته شيرين. فقال لها الإمام الحسين×: لقد رأيتك تعتقين جوارٍ كثيرة ولم أرك تُلبسين إحداهنّ كالذي تلبسينه شيرين. فقالت له شهربانو: سيدي! لقد كنّ عتيقاتي، وشيرين عتيقتك، ولعتيقتك فضلٌ على ما أعتقت؛ فدعى لها الإمام الحسين.
وقد لازمت شيرين شهربانو طيلة هذه السنوات إلى أن حلّ بهما المقام عند سفح هذا الجبل، وقد بكت شيرين عندما شاهدت السيدة شهربانو؛ إذ انتقلت بها الذكريات إلى الرداء المرصّع الذي ألبسته إياها بحضور الإمام الحسين؛ ثم طلبت من السيدة شهربانو السماح لها بالذهاب إلى القرية بغية بيع ما لديها من الزينة وابتياع بعض الألبسة التي ينسجها أهل القرية؛ فأجابتها شهربانو قائلةً: أنت حرّة، ولا حجر عليك، ولك أن تذهبي إلى حيث شئت! فقامت شيرين وانطلقت إلى أعلى الجبل حتى وقفت عند باب السور الذي يحيط بالقرية، وكان الليل قد ألقى بظلاله فوجدت الباب موصداً؛ فطرقت الباب، وكان خلفها يقف عزيز بن هارون؛ إذ شاهد رؤيا جعلته يأتي ليقف خلف الباب منتظراً؛ فصاح على الفور: شيرين! أهذا أنت؟ فأجابت: نعم؛ ففتح لها الباب وسلّم عليها ودعاها لدار الضيافة عنده، ورحّب بها ترحيباً بالغاً؛ فسألت شيرين عزيزاً أنّى له بمعرفة اسمها؟ فقال لها: بينما كنت نائماً رأيت موسى وهارون‘ وقد كشفا رأسيهما وأراقا مهجتيهما وراحا يئنّان أنين الحزين الولهان قد بدت عليهما بوادر المصاب، فأذهلني ذلك، فقمت وقلت لهما: يا سيدا بني إسرائيل! ويا مختارا الربّ الجليل! ما لي أراكما على هذه الحال؟ وكأنّ عزيزاً لكما قد فُقد؟ فأجاباني: ألم تعلم بأنّ سبط نبيّ آخر الزمان محمد المصطفى’ قد قُتل مظلوماً وقد حملوا رأسه وسبوا عياله إلى الشام، وهم الليلة قد نزلوا عند سفح هذا الجبل. فسألتهما: وهل تعرفان محمداً وتقرّان بنبوّته؟ فأجابا: وكيف لا نعرفه وهو النبيّ بالحق، ولقد عاهدنا الله سبحانه على الإيمان برسالته ونحن له مسلمون. وكل من حاد عنه فمصيره جهنم، ونحن معاشر الأنبياء براء منه. فقلت: دلّوني بآية ليطمئنّ قلبي ولأكون من الموقنين. قالا: قم واذهب إلى باب القلعة، فإنّ عتيقةً للحسين× تدعى شيرين ستصل إلى هناك فافتح لها الباب واعتني بها، فإنها ستصبح زوجاً لك عن قريب، فأسلِم واذهب لزيارة الحسين× وقف على رأسه وأقرءه منّا السلام، وستجده يردّ عليك. أفقت من النوم، واتجهت فوراً إلى باب القلعة ووجدتك تطرقينها، وهكذا عرفت اسمك، وبما أنهما أخبراني بأنك ستكونين زوجتي، فهل ترضين بذلك؟ فأجابته قائلةً: لا يكون إلا بعد إسلامك وموافقة السيدة شهربانو.
عادت شيرين إلى شهربانو وقصّت عليها ما جرى، فاندهشت السيدة وحكت هي الأخرى ما جرى لبنات الحسين وأخواته فانبهروا جميعاً.
وفي اليوم التالي، وعندما بدأت الشمس تظهر من خلف الجبل وأخذت أشعّتها تنير أرجاء القرية، بادر عزيز إلى إرشاء الشرطة بألف درهم كي يسمحوا له بالنزول عند قافلة السبايا وكان له ذلك؛ فأقبل حاملاً لكلّ علويةٍ رداءً ثميناً، وجاء إلى الإمام زين العابدين× وأعطاه ألفي دينار، وأسلم على يديه، ثم اتجه إلى رأس الحسين×ووقف عنده وقال: سيدي ومولاي! أبلغك السلام من موسى وهارون، فجاءه الردّ من رأس الحسين× بصوتٍ خافت حزين: وعليهما السلام ورحمة الله وبركاته. فقال عزيز: سيدي! هل لك أن تأمرني بما لله فيه رضا. فأجابه الإمام: لقد قمت بما فيه الخير والصلاح، فبإسلامك قد أفرحت الله ورسوله، وبإحسانك لأهل بيتي قد أرضيت جدّي وأبي وأخي، وبإبلاغك إيّاي سلام النبيّين قد أرضيتني عنك. ويوم القيامة يحشرك الله مع أهل بيتي.
عندئذ قالت شهربانو لشيرين: إن شئت أن أرضى عنك فعليك الزواج من عزيز؛ فوافقت شيرين، وعقدوا لها القران، وكان ذلك سبباً في إسلام جميع من كان في القرية.
وقد ترجم الملا محمد الفضولي، الشاعر الآذربيجاني المشهور، هذه الأسطورة إلى اللغة التركية، ونظمها في أبيات شعرية، وقد طبعت مرّات عديدة([7])، كما نظمها غيره من الشعراء، وكل شاعر يزيد عليها شيئاً حتى أصبحت قصّةً طويلة يحتاج إلقائها في المجالس وقتاً طويلاً يزيد على الساعة والنصف، وقد انتشرت مؤخراً على أشرطة التسجيل التي يبلغ وقتها ساعة ونصف.
ومن الجدير أن نشير هنا إلى أنّ هذه الأسطورة القريبة من الإسرائيليّات، لا نجد لها أثراً في أيّ كتاب معتبر، أو له شيء من الاعتبار، وإنما هي من موضوعات كتاب روضة الشهداء، ولا داعي لأن نطيل الكلام حولها فضعفها واضح بأدنى تأمل، بل إن زواج الإمام الحسين من شهربانو هو بحدّ ذاته لم يثبت، وحتى الذين أرادوا إثباته بأيّ شكل من الأشكال، قد اتفقوا على أن شهربانو قد توفيت وهي في النفاس بعد ولادة الإمام زين العابدين، ولا يمكن بأيّ حال أن تكون قد بقيت على قيد الحياة إلى يوم عاشوراء، وحتى الذين أوردوا مثل هذه الأساطير في مؤلّفاتهم لم يدّعوا بقاءها على قيد الحياة إلى ما بعد عاشوراء، وإنما ذهب بعضهم إلى أنها صعدت على ظهر ذو الجناح فحلّق بها بعيداً عن كربلاء وحطّ فوق جبل في بلدة الري! وبعضٌ آخر ادّعى أنها أقدمت على الانتحار بعد أن ألقت بنفسها في نهر الفرات يوم عاشوراء! وأغلب الظنّ أنّ أعداء أهل البيت هم الذين اختلقوا مثل هذه الأساطير كي يحطّوا من منزلة عاشوراء.
من الواضح أنّ القصة التي تقدّمت تعطي انطباعاً لدى القارئ بأن الإمام الحسين× كان يزاول حياةً ملكية ملؤها الرخاء، فالجواري التي تملكها إحدى زوجاته فقط بلغن مائة جارية، وقد مكثت خمسون جارية منهنّ في بيته حتى ولادة ابنه زين العابدين، الذي كان سبباً في عتق أربعين جارية، فيما بقي عشرة جوار لم يشملهنّ العتق بتاتاً! وهذه صورة لا تعكس سوى الحياة الرغيدة في أروقة القصور الفاخرة؛ فيا تُرى! كيف يمكن تصوّر مائة أو خمسين أو عشرة جوار يخدمن في بيت الإمام الحسين× في الوقت الذي كان الفقراء في المدينة يتضوّرون جوعاً؟ وأنّى لشهربانو بكلّ هذه الجوار؟ إذاً، هناك العديد والعديد من التساؤلات الأخرى التي يمكن إثارتها حول هذه القصة، وبالطبع سوف لن نعثر على الإجابة لأيّ منها.
ويبدو أنّ صاحب القصّة قد شاهد التفاعل الكبير الذي يُبديه الناس مع الأساطير الغرامية، فبدأ يسرد روايته على غرار تلك الأساطير؛ أملاً منه أن تكتسب ذات الصيت والتفاعل الذي نالته أسطورةٌ كأسطورة مجنون ليلى، وأسطورة فرهاد وشيرين وغيرها؛ حتى أنه استعار لقصّته أسماءً اشتهرت في الأساطير الأخرى، كاسم شيرين من أسطورة فرهاد وشيرين الإيرانية، واسم عزيز من قصة يوسف وزليخا الذي عرف فيها يوسف باسم عزيز مصر، ومن خلال تلفيق جملة من الأساطير تمكّن من إعداد: أسطورة شيرين جارية شهربانو.
4 ـ منتخب الطريحي وكتاب الفخري، ظهور رواية موضوعة لحديث الكساء، وأسطورة عرس القاسم ـــــــ
يُنسب هذا الكتاب لفخر الدين الطريحي النجفي (979 ـ 1085هـ)، الذي دوّنه ليلبّي حاجة قرّاء التعزية بغية تمكينهم من إبكاء الحاضرين، ولا يمكن وصف منتخب الطريحي بكتاب سيرة ولا بالمقتل، كما لا يمكن اعتباره كتاباً روائياً، وإنما هو مجموعة نثرية وشعرية تكرّس الحزن والبكاء.
يظهر من محتوى الكتاب أنه عبارة عن مجموعة من المآتم كان يلقيها المؤلّف في ليالي عاشوراء، وقد جمعها لاحقاً وأخرجها على شكل كتاب، وقد واجه هذا الكتاب، الذي دوّن على هيئة الكشكول، الكثيرَ من النقود التي وجّهها له خيرة الباحثين والمحدّثين([8])، وذكروا بأنّه يشتمل على مجموعة من الموضوعات، كعرس القاسم بن الحسن× وقضية دفن السيد عبد العظيم الحسني في بلدة الري وهو حيّ([9])، ويكتب الميرزا محمد أرباب في هذا الصدد: «وفيه (منتخب الطريحي) مسامحات كثيرة لا تخفى على أولي العلم» ([10])، وفي موضع آخر يقول: «والرواية المنقولة فيه لا يُعتمد عليها»([11])، ويكتب الميرزا في سياق آخر بعد إثباته تواتر حديث الكساء: «وبخصوص حديث الكساء المعروف في زماننا، فلم يرد في الكتب المعتبرة، وهو من متفرّدات منتخب الشيخ الطريحي، ونصّه لا يخلو من إشكال، ولا يخفى على أهل العلم ما عليها متفرّدات المنتخب»([12]).
مع ذلك كلّه؛ فالطلب على منتخب الطريحي كبيرٌ، وقد اعتمد عليه كثيرٌ من كتّاب السيرة في تصانيفهم حول عاشوراء والإمام الحسين، وقد دعت شهرته إلى عدم التروّي عند النقل عنه، الأمر الذي أدّى إلى تكريس التحريف والتزييف، وقد غفل جُلّ كتّاب السيرة عن أنّ المنتخب هو المصدر للعديد من المختلقات، أو على الأقل فإنّ انتشاره الواسع أدّى إلى تفشيها بشكل كبير.
ولتسليط الضوء على هذه النقطة، نشير إلى جملة من التحريفات التي تضمّنها المنتخب:
1 ـ جملة: «هل من ناصر ينصر الذريّة الأطهار؟»([13])؛ فقد نسب الطريحي هذه العبارة للإمام الحسين× مرّات عديدة([14])، لكننا ـ ورغم المحاولات الكثيرة ـ لم نعثر على مصدر معتبر يوثق مثل هذه العبارة، ولا نستبعد كون عبارة «هل من ناصر ينصرني؟» كانت في يومٍ ما شعاراً لبعض الثوار، ولم تكن لها صلة بحادثة الطفّ([15]).
2 ـ جملة: «تألّف جيش ابن سعد من سبعين ألف راكب»!([16]).
3 ـ خبر الجمال([17]).
4 ـ قصة الطفلة ذات الثلاث سنوات في خرابة الشام([18]).
5 ـ أسطورة عرس القاسم([19]).
6 ـ جملة «اسقوني شربةً من الماء»([20])، وقد نسب فخر الدين الطريحي هذه العبارة للإمام الحسين، وهي تتلاءم إلى حدّ بعيد مع الشريحة التي تقرأ كلّ الوقائع والأحداث في الحزن والبكاء، والتحقيق أن العبارة مختلقة ولا سند لها، والموقف الذليل الذي تعكسه هذه العبارة لا يتلاءم ـ بأيّ حال من الأحوال ـ مع الروح الحسينية التي عرف بها سيّد أباة الضيم، وإمام العزّة، أبو الأحرار([21]).
7 ـ جملة: «جعل الحسين يقاتلهم حتى قتل ما يزيد على عشرة آلاف فارس، ولا يبين النقص فيهم لكثرتهم»([22]).
8 ـ خبر مسلم الجصّاص، الذي روى عن زينب÷ أنها نطحت جبينها بمقدم المحمل في الكوفة و.. والنصّ الذي ذكره الطريحي كما يلي: فرأت رأس أخيها؛ فنطحت جبينها بمقدم المحمل حتى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها، وأومت إليه بحرقة، وجعلت تقول:
يا هلالا لما استتمّ كمالاً | هاله خسفه فأبدى غروباً([23]) |
وقد نقل المحدّث القمي هذا الخبر في أحد مؤلّفاته من دون مراجعة السند ([24])، لكنه استدرك في موضع آخر بعد أن تناول الخبر بالدراسة وكتب قائلاً: «لا يوجد ذكر المحمل إلا في خبر مسلم الجصاص، وهذا الخبر وإن نقله العلامة المجلسي، لكن مستنده هو كتاب منتخب الطريحي وكتاب نور العين، ولا يخفى على أهل الخبرة والفنّ في علم الحديث، حال الكتابين المذكورين، ونستبعد القول بأنّ زينب نطحت جبينها بمقدم المحمل حتى سال الدم وإنشادها تلك الأبيات؛ فإنها أجلّ من ذلك وهي عقيلة الهاشميين، عالمة غير معلّمة، رضيعة ثدي النبوة، وذات مقام شامخ في الرضا والتسليم»([25]).
وأخيراً، لابد من التنويه إلى أنّ الطريحي النجفي قد اعتمد كذلك على روضة الشهداء للملا الكاشفي ونقل عنه في منتخبه([26]).
5 ـ تظلّم الزهراء من إهراق دماء آل العباء، وأسطورة رجوع السبايا إلى كربلاء في الأربعين و.. ـــــــ
الكتاب للملا رضا القزويني (1134هـ)، وقد عرف القزويني بكتابه هذا، ولم يُعثر على مؤلَّف له سواه، وقد وصفت كتب التراجم الملا رضا بالخطيب مقتصرين على ذكر كتابه هذا فحسب.
دوّن هذا الكتاب على غرار الملهوف أو اللهوف للسيد ابن طاووس، وقد يصحّ أن نطلق عليه شرح اللهوف؛ وبالإضافة إلى اللهوف نقل المؤلف عن بحار الأنوار ومنتخب الطريحي، كما يصرّح هو في خاتمة الكتاب: «هذا ما اتفق تخريجه من أخبار تُلائم شرح اللهوف، وقد كنت فيما مضى، جمعت منها نبذاً وألّفت على شاكلتها طرفاً، إلى أن وقع في يدي نسختا البحار ومنتخب المراثي، فالتقطت فرائدهما وجمعت فوائدهما»([27]).
وعلى الرغم من كثرة ما نقل عن البحار، حتى أنه عبّر عن كتابه في المقدّمة بأنه «بحيرة من بحار الأنوار»([28])، إلا أنّ الدور الأبرز بعد اللهوف كان لمتبنّيات الطريحي، التي جاءت في منتخبه ومقتله ـ والمقتل غير المنتخب وهو من المخطوطات ـ([29]) وقد تحدّث الواعظ الخياباني عن هذا الكتاب بالتفصيل في كتاب وقائع الأيام([30])، منوّهاً إلى أنّ ناسخي الكتب قد تصرّفوا في الكتاب وزادوا عليه، ولا تخفى أهميّة هذا التقييم من الواعظ الخياباني، خصوصاً لمن عمل على تصحيح الكتاب كالسيد مهدي الرجائي المحترم. لكنّ ما يؤسف له حقاً أن ملاحظات الواعظ لم يؤخذ بها ولم نشاهد أثرها على الطبعات الجديدة للكتاب([31])، وقد وجّه الواعظ الخياباني نقداً لاذعاً لمؤلّف تظلّم الزهراء بسبب نقله أخباراً لا صحّة لها، كما استعرض جملة من الموضوعات التي أوردها، ثم كتب يقول: «وقد أورد عن لسان الحال صفحةً كاملة من الحجم الوزيري، ما يخالف الأخبار ولا يتفق مع لسان المقال. ولا نعلم ما هي الضرورة التي دعته لإيراد مثل هذه التفاصيل الخاوية مضموناً وسنداً؟ وإنه لخطأ كبير ومسامحة عظيمة وقع فيها صاحب تظلّم الزهراء، ومما يؤسف له حقاً أن يصدر مثل هذا الأمر عن مثل هذه الشخصية»([32]).
ولتسليط الضوء على إخفاقات كتاب تظلّم الزهراء، ننقل جملةً من الأخبار المزيّفة التي أوردها:
1 ـ قصّة صاحب ذخائر الأفهام (ص 70 ـ 74). 2 ـ تأويل آية كهيعص (ص 115). 3 ـ تحريف رواية استشهاد عبد الله بن عمير واختلاق شهيد يحمل اسم وهب بن عبد الله بن حباب الكلبي! (ص 228). 4 ـ جملة «اسقوني شربةً من الماء». (ص 250، 259). 5 ـ المجاملة بين الإمام الحسين وفرسه على الماء عند نزوله الفرات، والتي انتهت بعدم حصول أيّ منهما عليه (ص 252). 6 ـ قتل الإمام الحسين ـ على ما نقل ـ ما يزيد على عشرة آلاف فارس، ولا يبين النقص فيهم لكثرتهم (ص 252)، والغريب أنّ المؤلف يستعين بمنتخب الطريحي لتأييد هذه المختلقات التي استعرضنا جملةً منها قبل قليل! 7 ـ استعراض الواقعة بشكل مهين وإيراد فقرات رثائية تضجّ بالمبالغة والعنف (ص 264 ـ 269). 8 ـ رأينا دموع الخيل تنحدر على حوافرها.. (ص 270 ـ 272). 9 ـ خبر فضّة والأسد في كربلاء (ص 273). 10 ـ رواية طرماح بن عدي (ص 274). 11 ـ قصّة فاطمة الصغرى (ص 283 ـ 284). 12 ـ خبر مسلم الجصّاص (ص 299 ـ 300). 13 ـ رواية رؤيا سكينة (ص 331 ـ 334). 14 ـ رجوع أهل البيت من الشام إلى كربلاء (ص 346).
6 ـ أسرار الشهادة، قمّة التزييف والتحريف ـــــــ
هذا الكتاب هو الآخر لم يسلم من جملة النقاط التي أثرناها في مقدّمة الدراسة، سوى النقطة العاشرة والحادية عشر. وباختصار، فإنّ مواضع الضعف في هذا الكتاب بلغت حداً عجزنا عن إحصائها، فهو كما يقول المثل: «كثرة الأموات حالت دون تكفينهم».
مؤلّف الكتاب هو الفاضل الدربندي (1286هـ) الذي اشتهر بولعه بإقامة المآتم، وإفراطه في إحياء مراسم ذكرى عاشوراء. ويظهر ذلك بأدنى تأمل في كتابه، كما يصرّح هو في المقدمة: «إنّ الدنيا وما خلق، لأجل إقامة عزاء الحسين× فيها»([33])، ويكتب بصدد شرح هذه العبارة: «إن الله عز وجل خلق هذه الخيمة المرتفعة والسقف المحفوظ ـ أي السماوات المرفوعة والأرضين المدحوّة ـ دار الأحزان وبيت الأشجان لأجل [سيد] شباب الجنان، وبعبارة أخرى دار التعزية الحسينية قبل أن يولد وبعد أن يولد إلى يوم القيامة، ثم إنّ كل ما ترى من خلق الرحمن فقد خلقه أهلاً وأسباباً وأموراً متعلّقةً بإقامة العزاء في هذه الدار الحسينية المبنية من خيمة محفوظة وبسيطة مبسوطة، ولعمري أيها الموالون إنّ هذا المطلب الأنيق الدقيق كان من مركوزات قلبي ولكن جرأتي وجسارتي كانت قاصرة في إظهاره»!([34]).
وتتجلّى ذهنية صاحب أسرار الشهادة من خلال هذه العبارة؛ فهو بكلّ بساطة يرى أنّه ما خلقت السماوات السبع والأرضين السبع وما فيهنّ وما بينهن إلا لإقامة العزاء الحسيني، وما الحياة الدنيا إلا «دار الأحزان وبيت الأشجان ودار التعزية ودار الحسينية»، ومن هذا المنطلق اندفع لتدوين كتابه أسرار الشهادة الذي وظفه للعزاء وألهمه الحزن والبكاء. وهذا هو حال الإنسان، فإنه إن عشق شيئاً غفل عما سواه، كما قال أمير المؤمنين علي×: «من عشق شيئاً أعشى بصره وأمرض قلبه»([35]). ويمكن لأيّ قارئ يمتلك شيئاً من المعرفة اكتشاف مستوى هذا الكتاب؛ وذلك لكثرة ما يحتوي من أخبار متناقضة وكلام لا يقبله أيّ عقل سليم.
وللاقتراب أكثر من الصورة التي عليها الكتاب، نستعرض جملةً من آراء العلماء الذين كتبوا حوله، فقد كتب المحدّث النوري (1254 ـ 1320هـ) الذي كان معاصراً لمؤلّف كتاب أسرار الشهادة: «إن كان الهدف من وراء جمع هذا الزخم الكبير من الروايات الضعيفة وبثه في كتاب هو إبراز حجم التتبّع، وإعطاء صورة جديدة للسيرة، والتفوّق على المقاتل السابقة، فإنّ ذلك لن يحقق لنا سوى مسناة([36]) جديدة تضاف لقائمة المختلقات التي ابتلي بها هذا المذهب. والنتيجة الواضحة لمثل هذه المؤلّفات توجيه الإهانة الكبرى للمذهب والطائفة الجعفرية وجعلهما عرضةً لسخرية المخالفين وإعطائهم ذريعةً للتشكيك في كافّة منقولات الإمامية، بعد قياسها على هذه المجموعة من الأخبار المهينة والقصص الكاذبة. وقد وصل الأمر إلى مستوى أدّى بالمخالفين لوصف الطائفة الشيعة بأنها بيت الكذب، ومن أنكر فليراجع كتاب أسرار الشهادة»([37]).
وفي موضع آخر يكشف المحدّث النوري بعض الخفايا عن كتاب أسرار الشهادة، فيقول: «لا زلت أذكر عندما كنت في كربلاء المقدسة أحضر درس العلامة الشيخ عبد الحسين الطهراني الذي لا يوازيه في العلم والفضيلة أحد، لا زلت أذكر أنه قدم من الحلة سيّدٌ عربي يمتهن الخطابة ـ وكان والده من مشاهير الطائفة ـ وقد ورث عنه بعض المؤلفات، فجاء بها إلى سماحة الشيخ لغرض استبيان مدى وثاقتها. وقد فقد جزءاً من أول الكتاب ويسيراً من آخره، لكن لم يغب اسم المؤلف بعد أن أدرج أسفل إحدى الصفحات أنّ مؤلف هذا الكتاب هو فلان من علماء جبل عامل ومن تلامذة المحقق صاحب المعالم. وقد تمّ التعرف على المؤلف؛ لأن اسمه ورد في التراجم، لكن ما لم تذكره التراجم هو تأليفه كتاب المقتل. وقد عُزز هذا الرأي بعد الاطلاع على جملة من فقرات هذه المجموعة التي احتوت كماً هائلاً من الأكاذيب والأخبار الواهية، التي لا يمكن ـ بأيّ حال من الأحوال ـ أن تكون قد جمعت على يد عالم، وبذلك نهى الشيخ عن نشرها. ولم تمرّ الأيام حتى علم المرحوم الفاضل الدربندي بأمرها وكان مشغولاً حينها بتأليف كتابه «أسرار الشهادة»؛ فأخذها من السيد وملأ ثنايا كتابه برواياتها الضعيفة مما زاد في عدد الروايات الموضوعة التي احتوى عليها الكتاب، وبذلك جعل الطائفة الشيعية عرضةً لطعون المخالفين وسخريتهم، وقد وصل به الأمر إلى أن يقدّم إحصائيةً عن جيش الكوفة بلغت ستمائة ألف راكب ومليون راجل! وقد أتاح بذلك مساحةً واسعة للخطباء ليذكروا على المنابر ما يشاؤون من الإحصائيات من دون خوف أو وجل، وينسبوا كلّ ذلك وبكل ثقة للفاضل الدربندي!
والفاضل الدربندي من العلماء الأفاضل، معروفٌ بخلوصه وصفاء نفسه، لكنّ كتابه لا يمكن الاعتماد عليه، وقد واجه انتقادات الكثير من المحدّثين والأعلام، ولا ينقل عنه إلا الضعيف أو قليل الخبرة. والجدير بالذكر أن الفاضل نفسه قد أقرّ بضعف الروايات التي نقلها من تلك الأجزاء ـ التي كانت مع السيد العربي ـ وورود الكذب والوضع فيها، لكنّه التمس لنفسه العذر، إلا أن عذره ـ وكما يقال ـ: [أقبح من الذنب]؛ لأنه شريك في إفشاء هذا النوع من الروايات. ومما يثير الدهشة أن المرحوم قد نقل لي شفهياً أنّ العالم الفلاني قد نقل روايةً مفادها أن يوم عاشوراء قد بلغ 70 ساعة، وقد استغربت في حينه مما جاء على لسان العالم. لكن وبعد مدّة من التأمل حول واقعة عاشوراء بان لي صحّة ما نقله العالم وأيقنت بأن الحوادث الذي وقعت ما كان لها أن تقع إلا في وقت يقارب هذا (أي السبعون ساعة)! وكان ذلك مجمل ما نقل لي ولا أذكر النصّ بالضبط بسبب طول الفترة الزمنية التي تفصلني عن الحديث معه، وما ورد في كتاب «أسرار الشهادة» من آراء، يعزز ذلك ويعكس الانطباع الذي كان يحمله بوضوح»([38]).
وفي تذييله لكتاب «إكسير العبادات في أسرار الشهادات»، وهو الاسم الآخر لكتاب «أسرار الشهادة»؛ يكتب المحدّث الشيعي الكبير الشيخ آغا بزرك الطهراني ما نصّه: «ويقال له: أسرار الشهادة، وترجم هو نفسه من مقام وحدة الحسين عليه السلام إلى آخر الكتاب بالفارسية. ويقال له: «سعادت ناصري»؛ لأنه ترجمه باسم السلطان ناصر الدين شاه. وهو أيضاً مطبوع كما يأتي. ومن شدّة خلوصه وصفاء نفسه نقل في هذا الكتاب أموراً لا توجد في الكتب المعتبرة، وإنما أخذها عن بعض المجاميع المجهولة اتكالاً على قاعدة التسامح في أدلّة السنن، مع أنه لا يصدق البلوغ عنه بمجرد الوجادة بخطّ مجهول»([39]).
وبهذا الصدد أيضاً، يكتب آية الله السيد أحمد الحسيني الخوانساري المعروف بالصفائي ما نصّه: «وهذا الكتاب معروف مشهور بين الطائفة الحقّة وأهالي المنبر والمرثية، إلا أن فيه الغث والسمين بما لا يخفى على نقّاد فنّ الحديث»([40])، والشهيد مطهري تناول ـ هو الآخر ـ كتاب «أسرار الشهادة» بالنقد واعتبره كتاباً موضوعاً لا سند له، ولا يمكن الوثوق بمضامينه. وقد تحدّث عنه بكلام طويل عقيب حديثه عن كتاب روضة الشهداء، ربما يكون من المناسب نقل بعض فقراته هنا: «ظهر المرحوم الملا الدربندي قبل ما يقارب الستين أو السبعين عاماً، وجمع كافّة موضوعات كتاب روضة الشهداء بالإضافة إلى أمور أخرى في كتاب أطلق عليه: أسرار الشهادة. وفي الحقيقة إن مضامين هذا الكتاب تدفع المرء ليبكي على واقع الإسلام»([41]).
واستعرض مطهري آراء المحدّث النوري في هذا الصدد، وقد ساق ضمن حديثه الرواية التي نقلناها قبل قليل عن المحدّث النوري، كما وجّه كثيراً من الطعون إلى كتاب أسرار الشهادة وفي أكثر من موضع، منوّهاً إلى ضعف كافّة الأخبار الواردة فيه، ولا يسع المجال لنقل سائر كلامه في هذه العجالة، لكن نرجع من شاء الاطلاع على المزيد من آراء الشهيد مطهري في هذا المضمار إلى كتاب الملحمة الحسينية المكوّن من ثلاثة مجلدات([42]).
ولم يكن النوري ومطهري الوحيدين اللذين انتقدا كتاب أسرار الشهادة، وإنما هذا هو حال سائر من تعرّض له من العلماء؛ فقد أبدى الكثير منهم دهشته من مضامينه وانتقدوا مؤلّفه بنحو أو بآخر([43]).
7 ـ الدمعة الساكبة ، والمصادر التحريفية ـــــــ
وهو من تأليفات محمد باقر البهبهاني (1285هـ)، وهو موسوعة تاريخية تتكوّن من عدّة مجلدات، تتضمّن تاريخ أئمة أهل البيت^ مع التوسّع في مقتل الإمام الحسين في مجلّدين.
يعدّ مؤلّف هذه الموسوعة من طلبة الفاضل الدربندي ومريديه، ويكثر النقل عنه بقوله: (قال الفاضل). ومن أهمّ المصادر التي اعتمدت عليها الموسوعة هي: منتخب الطريحي، وبحار الأنوار، والعوالم، وتظلّم الزهراء، ومسند البتول، وتذكار الحزين، والتفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري×، وجامع الأخبار، ونور العين، ومهيج الأحزان، ومعدن البكاء أو المصائب، والمقتل المنسوب لأبي مخنف. وقد امتاز كتابا: المنتخب ومقتل الطريحي من بين هذه المجموعة بكثرة ما نقل عنهما.
نقل الواعظ الخياباني عن كتاب دار الإسلام للشيخ محمود العراقي رأيه في كتاب الدمعة الساكبة ومؤلّفه؛ إذ يقول: «وكان متعارفاً في تلك الفترة وفي ذلك البلد (النجف) أن يُمسك الواعظ بأحد كتب المقتل المكتوبة باللغة الفارسية كروضة الشهداء ومحرق القلوب وغيرها ويتلو من خلاله، فكان ـ مؤلّف الدمعة الساكبة ـ قارئاً للمصيبة، يمتاز بخلوص نيته مما يؤثر في الحضور أشدّ التأثير، لكنه لم يكن يجيد العربية؛ لعدم معرفته بها»([44]).
8 ـ ناسـخ التواريـخ، وأكذوبـة المجاملـة بـين الحسـين وفرسـه عـلى الفرات و.. ـــــــ
يعتبر مؤلّف ناسخ التواريخ أحد أشهر كتّاب السلطة في العصر القاجاري، ويعدّ كتابه هذا من أوسع الكتب التي تمّ تصنيفها في مجال التاريخ، وقد خصّص للإمام الحسين وواقعة عاشوراء أربعة أجزاء ضمن مجلّدين، وقد أقرّ محمد تقي سبهر بضعف كتابه في أحد المواضع عندما قال: «وقد آليت على نفسي من اليوم الأول أن أتصرّف في كلّ خبر ورواية أعثر عليها، بحيث أستوعب في كتابي سائر الأحاديث والروايات مما يكون القارئ في غنى عن مراجعة باقي المصادر، وهذا الأمر جعلني لا أستثني أيّ خبر أو قصة وردت في أيّ كتاب من كتب المحدّثين والمؤرخين، فإذا ما عثرت عليها فسوف لن أتردّد في نقلها»([45]).
ثم يذكر جملةً من مصادر السيرة الحسينية التي اعتمدها، وأبرز هذه المصادر: بحار الأنوار، وعوالم العلوم، والمقتل (الموضوع) المنسوب لأبي مخنف، وزبدة الفكرة للمنصوري، وروضة الشهادة للكاشفي.
ونكتشف ـ بالعودة إلى محتوى الكتاب ـ أنّ جلّ اعتماد المؤلّف وتركيزه، كان على بحار الأنوار، والعوالم، وروضة الشهداء، وروضة الأحباب، ومنتخب الطريحي([46])، وهذا الأمر أدّى إلى سراية المختلقات والموضوعات التي احتوتها هذه المجموعة من المصادر إلى كتابه.
ومن جملة هذه الموضوعات:
1 ـ تأويل كهيعص (1: 280).
2 ـ وهب بن عبد الله بدلاً من عبد الله بن عمير الكلبي (2: 269).
3 ـ هلال بن نافع وتحوّله من الأشقياء إلى الشهداء، تحت عنوان: شهادة هلال بن نافع! (2: 277).
4 ـ استشهاد الطرماح بن عدي (2: 311). وقد غفل عن حقيقة أن الطرماح بن عدي لم يكن من شهداء كربلاء بتاتاً، وكلّ ما في الأمر أنه التقى بالإمام الحسين في الطريق وافترق عنه بعد ذلك، وقد سمع بشهادة الإمام الحسين قبل وصوله إلى كربلاء([47]).
5 ـ المجاملة التي حصلت بين الإمام الحسين وفرسه عند نزوله الفرات..! (2: 379).
6 ـ عبارة اسقوني شربة من الماء (2: 365).
7 ـ الحديث الذي دار بين سيد الشهداء والشمر اللعين (2: 390).
8 ـ رؤية الطرماح النبي’ في الطف (3: 15).
9 ـ حديث مسلم الجصاص (3: 52).
10 ـ قصّة فاطمة الصغرى (3: 85).
11 ـ وصول أهل البيت إلى كربلاء يوم الأربعين، وتبرير ذلك أنّ السبايا عندما سيقوا من الكوفة إلى الشام مرّوا بكربلاء وكان ذلك يوم الأربعين! (3: 100، 175).
12 ـ خبر رؤيا سكينة (3: 168). 13 ـ خبر الجمال (4: 19).
ولا تنتهي سلسلة الموضوعات عند هذا الحدّ، وإنما يوجد الكثير من التحريفات التي يضجّ بها الكتاب، لكننا نكتفي هنا بهذا القدر.
9 ـ معالي السبطين ، وأسطورة الشهيد المختلق المسمّى وهب و…ـــــــ
هذا الكتاب من تأليف الشيخ مهدي الحائري المازندراني (المولود سنة 1300هـ)، وهو الكتاب الثالث له بعد كتابي: الكوكب الدرّي، وشجرة طوبى، وقد أشار لهما في مقدّمة كتابه الحالي الذي حمل عنوان: معالي السبطين في أحوال الحسين والحسين‘.
صدر كتابه هذا في مجلّد كبير ضمّ جزئين، خصّ 39 صفحة من الجزء الأول للإمام الحسن المجتبى×، ورتبه في 12 مجلساً، وفي ختام كلّ مجلس كلمة للإمام الحسن×، يليها ذكر مصاب الإمام الحسين× أو ما يسمى بـ(الكوريز).
وبإنتهاء الصفحة 39، ينهي المؤلف حديثه عن السيرة الحسنية ويبدأ بالسيرة الحسينية وواقعة عاشوراء، وإيراد مجموعة من المآتم، بدأ بالصفحة 40 ليستوعب ما تبقى من الجزء الأول ويشمل بعده الجزء الثاني بأجمعه.
وقد كان لمعالي السبطين نصيبٌ من المختلقات التي ضجّت بها الكتب السابقة، بل إنها نمت وتكاثرت في هذا الكتاب، ولم يقتصر المؤلّف على بث الموضوعات وإنما زاد عليها عشرات الروايات المختلقة الجديدة؛ مما كرّس طائفةً من التحريفات لم تعهدها الكتب التي سبقت معالي السبطين. والغريب في الأمر أن المؤلّف وجد نفسه مستغنياً عن مصادر منقولاته، ولم يكن يرى أنه بحاجة لها، سوى بعض التنويهات اليسيرة، فقد نقل العديد من الصفحات مكتفياً بقوله: «في الخبر» أو «قالوا» أو «وفي بعض الكتب»، وفي الحالات التي أرجع فيها إلى المصادر لم تكن تلك المصادر مما يُعتمد عليه؛ فقد اعتمد ـ بشكل رئيس ـ على أسرار الشهادة للدربندي ومنتخب الطريحي وبحار الأنوار، وأما باقي مصادره فلم تكن أفضل حالاً من سابقاتها، وربما كانت أقلّ اعتباراً، كروضة الشهداء للكاشفي ونور العين ومعدن البكاء وتظلّم الزهراء وإيقاد القلوب الذي نقل بواسطته عن نور العين، ومنتخب التواريخ، وكامل التواريخ، وكشكول البحراني، وروضة الصفاء، ورياض الشهادة، ومدينة المعاجز، والعوالم، والمقتل المنسوب لأبي مخنف، وناسخ التواريخ، وأنوار الهداية، والتبر المذاب، ومهيج الأحزان، كما اعتمد في بعض الأحيان على كلّ من المناقب، والإرشاد، والأمالي، وعدة الشهور، والكبريت الأحمر، والخصائص الحسينية، ونفس المهموم، وسفينة البحار.
وبهذا الصدد قد يكون من المناسب هنا أن ننقل كلاماً للشهيد القاضي الطباطبائي حول معالي السبطين يقول فيه: «ولا يمكن ـ بأيّ حال من الأحوال ـ الوثوق بمنقولات معالي السبطين، إلا في حال ذكر فيها المصادر التي نقل عنها. ولا يمكن تصنيفه ضمن المصادر المعتبرة ومن ثمّ لا يمكن النقل عنه. وقد كان لي صلة بمؤلّفه المرحوم الحاج الشيخ مهدي المازندرانيt، وكنّا نتواصل فيما بيننا، وقد جمع في كتابه الغث والسمين مما يحتم على القارئ الوقوف عنده والفصل بين صحيحه وسقيمه»([48]).
ولإعطاء صورة أكثر وضوحاً عن كتاب «معالي السبطين» وما يشتمل عليه من الأخبار الموضوعة والأحاديث الضعيفة، نسوق جملةً منها فيما يلي:
1 ـ خروج الإمام الحسين من المدينة في موكب عظيم على هيئة الملوك تحفّ به الخدم والحشم. وقد نقل هذا الخبر بقوله: «أقول: وقد وجدت في بعض الكتب» (1: 134). 2 ـ تفرّق أصحاب الحسين ليلة عاشوراء، نقلاً عن كتاب نور العين الذي ينقل بدوره عن إيقاد القلوب (1: 208 ـ 209). 3 ـ الشهيد المختلق المسمى وهب بن عبد الله بن حباب الكلبي (1: 237). 4 ـ أسطورة لجوء الحسين إلى أبي الفضل يوم عاشوراء، نقلاً عن منتخب التواريخ الذي يسند الخبر إلى رؤيا الشيخ كاظم الأزري (1: 269). 5 ـ أسطورة عرس القاسم (1: 279). 6 ـ جملة: «اسقوني شربةً من الماء»، نقلاً عن منتخب الطريحي (2: 7). 7 ـ نسبة الجهل إلى الإمام السجاد في خبر موضوع مفاده: أن الإمام جعل يسأل عن كلّ واحد من عمومته والحسين× يقول له: قتل، فقال: وأين أخي علي وحبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة وزهير بن القين؟ قال له: يا بُني! إعلم أنه ليس في الخيام رجل إلا أنا وأنت، وأما هؤلاء الذين تسأل عنهم فكلّهم صرعى على الثرى (2: 11 ـ 12)، وقد نقل هذا الخبر عن الدمعة الساكبة.
القسم الثاني: الكتب المتصدّّية للتحريف، جهود جبّارة في الإصلاح الديني ـــــــ
قد يبدو ـ للوهلة الأولى ـ أنّ وصف هذا النوع من الكتب بالمتصدّية للتحريف ينطوي على شيء من المبالغة، لكنّ مطالعتنا لهذه الكتب ـ والتي سنتحدث عنها لاحقاً ـ تبدّد هذه الرؤية؛ إذ سنجد أن مؤلّفيها قد جاهدوا جهاداً عظيماً؛ بغية التصدّي لهذا الكمّ الهائل من الأكاذيب المقدّسة.
ولا نبالغ إذا وصفنا الوقوف بوجه طبقة الجهال المحفوفين بهالة القداسة والمبتلين بالجهل المركب بأنه نوع من الجهاد مع النفس أو ما يعبّر عنه بالجهاد الأكبر، وهو نوع من السباحة عكس التيار الهائج المليء بالأمواج العاتية. وقليلٌ من العلماء من حاول اقتحام هذا التيار والتصدّي له، فالكتب في هذا المجال نادرة جداً بحيث يكون من الصعب العثور على ثلاثة أو أربعة كتب دوّنت لغرض مناهضة التحريف، في حين نجد من الكتب المليئة بالتزييف ـ من المجموعة التي تقدّمت ـ المئات، بناءً على ذلك؛ يمكن اعتبار هذه الطائفة من الكتب المتصدّية للتحريف، سفنَ النجاة الوحيدة التي بين أيدينا، فلابدّ من الاهتمام بها ونشرها مرّات عديدة، ومن الضروري جداً العمل على مشاريع علمية إصلاحية وعدم الاكتفاء بهذه المجموعة النادرة؛ لأنّ حجم الدمار الذي خلّفته الكتب المكرّسة للتحريف لا يزال هائلاً، ويتطلّب عملاً دؤوباً، آملين أن نشهد في المستقبل القريب ظهور العديد من المشاريع العلمية والبحثية المناهضة للتحريف والتزييف الذي تعرّضت له السيرة الحسينية وواقعة عاشوراء بالتحديد.
وفي هذا السياق، نستعرض كتب المجموعة النادرة المتصدّية للتحريف بحسب تاريخ تدوينها:
1 ـ اللؤلؤ والمرجان، تجربة المحدّث النوري الإصلاحية ـــــــ
عنوانه الكامل: «اللؤلؤ والمرجان في آداب أهل المنبر»، وهو خاتمة مؤلّفات حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي (1254 ـ 1320هـ)، الذي دوّنه سنة 1319هـ([49])، وقد لقّب المؤلف بخاتم المحدّثين؛ نظراً لتأليفه آخر موسوعة روائية شيعية، أي مستدرك وسائل الشيعة، ويُعرف في أغلب الأحيان بالميرزا النوري أو الحاج النوري، وفي عصرنا الحاضر بالمحدّث النوري.
لم تمنع الميرزا النوري كثرةُ أشغاله في العلوم المختلفة كعلم الحديث والرجال والتصانيف و.. عن إعداد جيل من أبرز الطلبة الذين تحوّلوا فيما بعد إلى علماء تركوا بصماتهم على المدرسة الشيعية، من بينهم المحدّث الشيخ عباس القمي صاحب مفاتيح الجنان، والآغا بزرك الطهراني صاحب الذريعة وطبقات الشيعة؛ فقد بقي هذان العالمان برفقته إلى آخر عمره، ولم يغفل القمّي عن ذكر أستاذه في كلّ تصنيف أو تأليف، وهذا هو حال الآغا بزرك الطهراني الذي لم يفتأ يُثني عليه في كلّ مناسبة ومقام. وكانا يكنّان له فائق الاحترام ويفتخران بالتلمّذ على يديه، وهو ما بدى بوضوح في سائر تصانيفهما، ويكفي المحدث النوري توفيقاً تربيته لمثل هؤلاء الطلاب، الذين أشرنا لأنموذجين منهما قبل قليل.
وقد أجمع القاصي والداني والعدوّ والصديق على وثاقته وصدقه وخلوص نيته، وكان له ـ إضافةً لما يوليه من اهتمام خاص بالإمام الحسين× ـ مجلسٌ يعقده في داره كلّ أسبوع، يحضره طائفة من العلماء والكتّاب والوعاظ وغيرهم، يتناولون فيه جملة من القضايا الإسلامية وبالتحديد السيرة الحسينية، ثم ينهون الحديث بالتطرّق لمصيبة الإمام والبكاء عليه، وقد ساهم المحدّث النوري مساهمةً فعّالة في إحياء مراسم المشي على الأقدام التي كانت تنطلق من النجف باتجاه كربلاء، والتي لفّها النسيان في تلك الفترة، وقد كانت وفاته وهو في طريقه إلى كربلاء.
وبالطبع ليس الهدف هنا تناول سيرة المحدّث النوري؛ فذلك يبحث في محلّه([50])، إنما المراد التنويه إلى أنّه وبعد أكثر من نصف قرن قضاه بالدراسة والبحث والتنقيب توصّل إلى أنّ البكاء يجب أن لا يكون على مصائب عاشوراء وإنما على التحريفات التي ابتليت بها السيرة الحسينية والتي حملت في طيّاتها الكثير من الإهانة والذلّة والخضوع، وراح جهّال الشيعة يلوكونها بألسنتهم وكأنها من ثوابت السيرة؛ مما يحتّم علينا التصدي لها قبل فوات الأوان، فإنّ هذه التحريفات سريعة النموّ وكلّ يوم يمرّ، يختلق المحرفون تحريفاً جديداً يضاف لقائمة الأساطير التي ابتليت بها السيرة.
وللأسف، فإنّ المرض الذي نبّه عليه المحدّث النوري قبل أكثر من قرن لم يلتفت له إلا القليل من الباحثين، وأقلّ منهم من ساعد على العلاج وعمل في سبيل التخلّص منه.
وهكذا، فبعد عمر مديد من الغوص في بحار الكتب والرجال، استطاع النوري إخراج هذا الدر الثمين الذي زيّنه بالصدق والإخلاص، وأطلق عليه اسم اللؤلؤ والمرجان.
يعقد كاتب اللؤلؤ والمرجان أوّل فصلين من الكتاب للحديث عن عنصرين أساسيين يعدّهما بمثابة الشروط التي يجب توفرها في كل باحث حول عاشوراء، هما: الإخلاص، والصدق. وقد أفرد فصلاً كاملاً للحديث عن كلّ من هذين العنصرين.
ولنبدأ بالمقدمة، فقد تحدّث فيها عن ثواب البكاء والإبكاء في المآتم التي تعقد على سيّد الشهداء، كما تطرّق فيها لتاريخ التعزية، وما المراد منها، وقد امتاز تعريفه للتعزية بأنه غدا فيما بعد تعريفاً مشوباً بشيء من الهزل([51]).
يلي المقدمة، الفصل الأول ـ فصل الإخلاص ـ الذي تحدّث فيه عن آثار الرياء السلبية، مستعيناً بمجموعة من الآيات والروايات لبيان المخاطر التي تنشأ بسبب الرياء في المآتم والمجالس الحسينية، وقد عدّ الأمور التالية من جملة تلك المخاطر: 1 ـ الحرمان من الثواب الإلهي. 2 ـ الابتلاء بالنفاق. 3 ـ الوقوع في الشرك الخفي، الذي يشمل كلاً من حبّ الذات (النرجسية) وحبّ الظهور والصنمية. 4 ـ بيع الدين بالدنيا. 5 ـ الابتلاء بالازدواجية على مستوى السلوك والمنطق.
إلى جانب ذلك، تطرّق النوري إلى مظاهر سلبية أخرى كالارتزاق بالدين، والإجبار على إعداد الخطباء وحرمة الكسب في العبادات، وتصدّى بشدّة لكل الخطباء المرائين والمتظاهرين بالدين، وفي ختام الفصل وتحت عنوان «تنبيهات»، يطرح النوري تساؤلاً يلخّص فيه ما دار في ثنايا الفصل، وهو: هل يجوز الرياء في العزاء على سيّد الشهداء؟! ثمّ يجيب عن ذلك من خلال التصدّي لما اشتهر من استحباب التباكي، الذي استخدمه بعضهم غطاءً لإباحة الرياء، ذاكراً بعض الآيات والروايات؛ ليعطي من خلالها البُعد الصحيح لمفهوم التباكي ويزيل كافة التفاسير السلبية لهذا المفهوم (34 ـ 39). أما التنبيه الثاني، فيشير فيه إلى حرمة الكذب في المجالس الحسينية، والثالث لمهمّة الخطباء المعاصرين في الثناء على شعراء المنبر والخطباء ممّن سلف، أمثال كميت الأسدي ودعبل الخزاعي.
وبهذه التنبيهات يختتم الفصل الأول، ويعقد الفصل الثاني الذي يضمّ ثلاثة أرباع محتويات الكتاب؛ للحديث عن الشرط الثاني، أي الصدق. وقد قسّمه إلى خمسة مقامات ومجموعة تنبيهات وخاتمة.
يسوق النوري في المقام الأول مجموعةً من الآيات والروايات؛ ليؤكّد من خلالها على مدى الأهمية التي يوليها الدّين للصدق، مشدّداً على الالتزام به، خصوصاً للخطباء والشعراء الحسينيين.
أما المقام الثاني، فيتمحور حول ذمّ الكذب وجملة ما يترتب عليه من المفاسد الدنيوية والأخروية، ولبيان ذلك يورد المصنّف عشرة أدلّة يثبت من خلالها كون الكذب أشدّ حرمةً من تعاطي الخمر، ثم يذكر أربعين مفسدةً من مفاسد الكذب متكئاً على عشرات الأدلّة القرآنية والروائية.
وفي المقام الثالث، يتحدّث عن الكذب أيضاً لكن هذه المرّة على الله ورسوله والأئمة الأطهار، ويعدّه أكبر الكبائر والذنب الأعظم، ثمّ يتمحور المقام الرابع حول أقسام الكذب وأنواعه والحكم الشرعي والوضعي لكلّ من هذه الأنواع، وقد ضمّ إليها بحوثاً جانبية أخرى كالكذب الحلال والتورية ولسان الحال، وما إلى ذلك. والمحصّلة أن اختلاق الأحاديث والروايات يعدّ من الكذب المحرّم الذي لا يمكن تجويزه بأيّ حال من الأحوال.
أما المقام الخامس، فتطرّق فيه لمراتب الصدق والصادقين، واعتبر أن صدق الحديث من أدنى هذه المراتب، ذاكراً في النهاية جملةً من التنبيهات:
1 ـ ضرورة الفحص الدقيق عند النقل عن الثقة.
2 ـ وثاقة المؤلّف لا تشكّل معياراً لوثاقة الكتاب.
3 ـ تشبيه بعض الأكاذيب التي يلقيها الخطباء بمسناة اليهود.
4 ـ أسباب الكذب والتحريف في واقعة عاشوراء.
ويختتم المحدّث النوري كتابه بالإجابة عن سؤال يطرحه بعضهم وهو: ما موقفنا تجاه ما يطرحه الخطباء من الكذب في المجالس الحسينية؟ ثمّ يجيب ببعض الآيات والروايات التي توصي باجتنابهم والابتعاد عنهم، مثل: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (الحج: 30)، و {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (النساء: 86)، وقد كشف المحدث النوري الستار عن جملة من الأخبار الموضوعة والروايات المختلقة التي كثيراً ما راجت قراءتها في مجالس العزاء، ومنها:
نماذج خطيرة من الروايات المختلقة التـي فضحها المحدّث النوري ـــــــ
1 ـ قصّة ليلى أمّ علي الأكبر، التي نسبوا زوراً للإمام الحسين أنه قال لها ـ عن لسان رسول الله ـ: «إن دعاء الأمّ في حق ولدها مستجاب»، حيث رأى المحدّث النوري أنّ القصة من أولها إلى آخرها كذب (ص90). وهل من العجيب العثور على والدة لا تدعو لولدها؟!
2 ـ الخبر الموضوع الذي يصف الحسين× مخاطباً لأخته زينب ـ وهو ملقى على الرمضاء ـ: فرمقها بطرفه فقال لها: «أخيّة ارجعي إلى الخيمة فقد كسرت قلبي وزدت كربي..» (ص90).
3 ـ جعل الحسين× يقاتلهم حتى قتل ما يزيد على عشرة آلاف فارس (ص90).
4 ـ التذييل المزيّف الذي ألحق ـ زوراً ـ بزيارة وارث، ولا يخفى أنها من الزيارات المأثورة والمعتبرة، لكن بدءاً من «السلام على أبيضكم وأسودكم..» إلى النهاية، يُعتبر من موضوعات العامّة التي لا تشكل بدعةً وكذباً على المعصوم فحسب وإنما تتضمّن أكاذيب واضحة ملموسة (ص97 ـ 98).
5 ـ كتاب «مفتاح الجنان» الذي جمعه بعض العامّة (ص98).
6 ـ كما ذكر من السبب الذي توخّوه لبعد قبر الحرّ بن يزيد الرياحي عن قبر الحسين، ذلك كلّه يدخل ضمن دائرة الموضوعات والتحريفات (ص99 ـ 100).
7 ـ حدّدوا مكاناً في المسجد، وقالوا بأن المختار دفن فيه، ونقلوا عن العلماء تأييدهم له، وهذا كلّه كذبٌ وافتراء (ص100).
8 ـ مجموعة خرافات ألبسوها ثوب الدين، بل هي من جملة البدع التي ابتدعوها لاحقاً كغسل أويس القرني، وحساء (شوربة) أبو الدرداء.. (ص101).
9 ـ لم يثبت ـ لحدّ الآن ـ حُسن حال هاني بن عروة ولم يتأكّد العلماء من وثاقته (ص102).
10 ـ وصول السبايا يوم الأربعين إلى كربلاء عند عودتهم إلى الشام ومرورهم بالعراق على نحو ما ذكره السيّد ابن طاووس في اللهوف؛ إذ هو منافٍ لكثير من الأمور والأخبار، ومخالف لأقوال جلّ العلماء الأخيار (ص145)، وقد تحدّث النوري عن هذا الموضوع بالتفصيل ونفاه نفياً قاطعاً متكئاً على جملة من الأدلّة والقرائن التاريخية (ص143 ـ 155)، من جملتها أنّ الناقل لهذه القصّة مجهول الحال.
ويعدّ كتاب اللهوف من أوائل مصنّفات السيد ابن طاووس التي دوّنها في مقتبل العمر (ص144)؛ فلم يخلُ من نقاط ضعف كالتي مرّت بنا قبل قليل، لكنه التفت فيما بعد إلى مساوئ النقل عن المجاهيل؛ فنوّه في كتابه اللاحق إقبال الأعمال([52]) عند ذكره فضل زيارة الحسين× يوم العشرين من صفر قائلاً: «ووجدت في المصباح أنّ حرم الحسين× وصلوا المدينة مع مولانا علي بن الحسين× يوم العشرين من صفر وفي غير المصباح أنهم وصلوا كربلاء أيضاً في عودهم من الشام يوم العشرين من صفر، وكلاهما مستبعد..» (ص145).
11 ـ لم يكن عطية الكوفي يوماً من الأيام مولىً لجابر بن عبد الله الأنصاري، وإنما هو محدّث وتابعي (ص155)، ويضيف المحدث النوري: «إنّ جزم الخطباء بوقوع هذه الحادثة ـ وجود جابر بن عبد الله ومولاه عطية الكوفي يوم الأربعين في كربلاء ـ ينبأ عن جهل كبير وجرأة بالغة، وليتهم اكتفوا بما ورد في اللهوف ومقتل أبي مخنف ولم يبذروا هذه البذرة التي نمت وتفرّعت وأثمرت أنواعاً مختلفة من الكذب، مما دعاهم للكذب على حجة الله البالغة، الإمام السجاد× في قصّة لقائه بجابر بن عبد الله الأنصاري، بعد أن جعلوا من عطية الكوفي المحدّث والتابعي الكبير غلاماً مملوكاً لجابر بن عبد الله» (ص155).
12 ـ قصّة هاشم المرقال ـ شهيد صفين ـ التي نقلها الملا مهدي النراقي في كتابه محرق القلوب، «الذي اشتمل على أخبار موضوعة كثيرة يقف الباحث متحيّراً من صدورها عن مثل هذا العالم» (ص156 ـ 157)، «ولا شك لدينا بكذب ما ورد في محرق القلوب وقبله في روضة الكاشفي» (ص157).
13 ـ الفضل بن علي، الشقيق المختلق للإمام الحسين والذي أضيف ـ زوراً ـ لقائمة شهداء كربلاء (ص157).
14 ـ الخطأ في تفسير لفظ المولى «بالغلام» في عبارة: وجاء عابس بن شبيب الشاكري ومعه شوذب مولى شاكر(ص158).
15 ـ نقد الفاضل الدربندي والتصدّي لكتابه أسرار الشهادة «الذي يعدّ ـ بحسب المحدّثين وأصحاب السِّيَر ـ من الكتب الموضوعة التي لا يمكن الوثوق بمضامينها، والنقل عنه يسيء لحال الناقل»(ص161).
16 ـ القصّة التي تروي خروج الإمام الحسين من المدينة في موكب عظيم على هيئة الملوك يحفّ به الخدم والحشم «وكل سطر من أسطر هذه الرواية يضمّ أكاذيب متعدّدة»(ص168).
17 ـ الخبر الحاكي أنّ الأنصار قطعوا عهداً على أنفسهم عندما وقف حبيب بن مظاهر الأسدي ليلة عاشوراء وهم حوله كالحلقة، قائلاً لهم ومؤكّداً عليهم: فإذا صار الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم، نحن نقدمهم للقتال ولا نرى هاشمياً مضرّجاً بدمه وفينا عرق يضرب.. «وهذه من القصص التي برع صاحبها في تدوين الأساطير»(ص170).
18 ـ نسبة الجهل إلى الإمام السجاد في خبر موضوع مفاده: أنّه جعل يسأل عن كلّ واحد من عمومته والحسين× يقول له: قتل، فقال: وأين أخي علي وحبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة وزهير بن القين؟ قال له: يا بُني! اعلم أنه ليس في الخيام رجل إلا أنا وأنت، وأما هؤلاء الذين تسأل عنهم فكلّهم صرعى على الثرى! (ص170).
19 ـ الخبر العجيب الذي يفيد أن الحسين× عندما بقي وحيداً وعزم على الخروج إلى الميدان ولم يكن قد بقي أحدٌ من أهل بيته يعينه على ركوب الفرس، ممّا دعا زينب لتقوم بهذه المهمة، أي تعينه على امتطاء جواده! «وكلّما ازدادت المنابر تشعّبت القصّة وتطوّر الحديث الذي دار بين زينب وأخيها، ثم تحول فحوى هذا الحديث إلى أبيات من الشعر ـ باللغتين العربية والفارسية ـ تزيّن المنابر وتركّز المصيبة لدى نفوس الحاضرين. والواقع إنّ هذه الرواية تدعو للبكاء لكن لا على المصيبة المزيّفة التي تضمّنتها وإنما على الكذب والافتراء الصريح على الإمام×، كما تدعو للبكاء على حال ذوي الشأن وعدم تصدّيهم لمثل هذه الأساطير، وذلك إما لجهلهم أو عدم اهتمامهم أو لضعفهم عن مواجهة الراوي الكاذب الذي تجرّأ على الله الجبار. والذي أورد خبراً لم نجد له أثراً في المقاتل المعتمدة..» (ص170).
20 ـ فرس الحسين وقد وصفوه بأنّه من جياد خيل رسول الله’و«لقب بالمرتجز وعرف على ألسنة العوام بذي الجناح» (ص170).
21 ـ ومن جملة الأكاذيب تلك العبارة الحزينة التي نسبت إلى زينب عند وقوفها على جسد أخيها قائلةً له: «أأنت أخي؟! أأنت رجاءنا؟! أأنت..» (ص171).
22 ـ الخبر الأليم الذي ينقل عن الإمام السجاد× أنه سقط مغشياً عليه في يومٍ واحد مرّتين، وذلك من كثرة البكاء «ولو كان هذا الخبر صحيحاً لكان ملائماً لمجالس العزاء إلى حدّ كبير» (ص172).
23 ـ الرواية الموضوعة التي نقلوها عن لسان هشام بن الحكم ليجرّوا الإمام الصادق× إلى التكايا والحسينيات ويحطّوا من شأنه ويضعوه على عتبات الأبواب عند «مستودع الأحذية»، ويصوّرونه خرقةً بالية ملقاة على الأرض(ص172).
24 ـ قصّة زعفر الجنّي وأسطورة عرس القاسم (ص183، 184).
25 ـ المبالغة الكبيرة في عدد جيش يزيد (ص184، 185).
26 ـ الأبيات التي نعى بها أبو الحسن التهامي ـ الشاعر الذي عاش بين القرن الرابع والخامس ـ ابنه الذي توفى في مقتبل العمر، وهي قوله:
يا كوكباً ما كان أقصر عمره | وكذا تكون كواكب الأسحار |
«وهم على المنابر ينسبونها للإمام الحسين× مباشرةً ـ لا بلسان حاله ـ وذلك عندما وقف على جسد ابنه عليّ الأكبر بعد مقتله، وقد شاهدتُ ذلك مراراً في المؤلّفات التي صدرت مؤخراً» (ص191).
27 ـ قصّة مشاركة أبي الفضل العباس في صفين؛ فهي غير صحيحة من الأساس(ص191).
28 ـ وأخيراً قصّة جلب العباس الماء للحسين عندما كان صغيراً(ص191).
وقد نقل المحدث النوري في ثنايا كتابه مجموعةً من القصص المفيدة، امتاز بعضها بشيء من الفكاهة، لكن لا يسع المقام ذكرها، وقد ذكر الشهيد مطهري بعضها في محاضراته التي نشرت لاحقاً في كتابه: الملحمة الحسينية.
جهود مميّزة في تحقيق كتاب اللؤلؤ والمرجان ـــــــ
وقد حظي كتاب اللؤلؤ والمرجان بالدراسة والتحقيق من قبل مصطفى درايتي الذي بذل مجهوداً كبيراً في إيراد كل ما هو مفيد من تعليقات وحواشي لو طبعت بشكل مستقلّ لكوّنت كتاباً بحدّ ذاته، وقد أطلق على الكتاب الذي حمل تعليقته اسم: «اللؤلؤ والمرجان: إطلالة على ما وقع من تحريف في تراث عاشوراء»، وكتب مقدّمةً تحدّث فيها بشكل مفصّل عن مقامي الأئمة: الثبوتي والإثباتي، وأوضح الفرق بينهما. ثم شرع بدراسة فقرات الكتاب والتعليق عليها.
ولإبراز شيء من جهده، نورد بعض الفقرات التي عمل عليها:
1 ـ قصّة اللصّ الذي عتق من النار وأصبح من أصحاب الجنة بسبب التراب الذي وطأته أقدام زائري كربلاء (ص79 ـ 80).
2 ـ القصّة التي تروى عن زينب أنّها قالت لأخيها: مهلاً مهلاً، لتقبّله في نحره عند آخر وداع بينهما(ص154).
3 ـ قصّة بنت الإمام الحسين× التي تذكّرت ـ عند فراق أبيها ـ عطفه على بنت مسلم بن عقيل عندما أصبحت يتيمة(ص155).
4 ـ حول لسان الحال (ص199ـ 200).
5 ـ «إنّ رواية فاطمة الصغرى في المدينة، لا يمكن التسليم بصحّتها وتفتقد للمصدر الموثوق» (ص199).
6 ـ حول جدوى نقل الحوادث المشكوك بصحّتها، مع استعراض رأي العلامة الشعراني في هذا الخصوص، والذي ينطوي على قيمة علمية جمّة (ص212 ـ 214).
7 ـ دراسة تتناول كتاب محرق القلوب، المقتبس من روضة الشهداء للكاشفي (ص22 ـ 44).
8 ـ أسطورة شدّ وثاق قدم الإمام السجاد أسفل بطن الدابّة كيلا يسقط، والتي نقلها الفاضل الدربندي في أسرار الشهادة، وواضحٌ للجميع حال هذا الكتاب (ص265).
9 ـ دراسة نقدية لكتاب الملحمة الحسينية إلى جانب دعم موقف كتاب اللؤلؤ والمرجان(ص266).
10 ـ حول ظاهرة اعتماد الخطباء وروّاد المنبر على الرؤى والأحلام بدلاً من التاريخ والروايات (ص272).
11 ـ دراسة حول الحسين بن حمدان الجنبلاني الذي يصفه العلامة الحلّي بقوله: «كان فاسد المذهب، كذاباً، صاحب مقالة، ملعون لا يلتفت إليه» (ص283، نقلاً عن خلاصة الرجال: 217)، ووصفه في موضع آخر: «وهذا الرجل مطعون فيه عند أصحابنا جداً، ووصفوه بالكذب وفساد المذهب» (ص283، نقلاً عن رياض العلماء 2: 51). ومع هذه الأوصاف كلّها «إلا أنّ بعض القصص المروية والحوادث المنقولة عن عاشوراء والتي راج اليوم تداولها على المنابر نقلت بطريق هذا الرجل، ولم يمتنع الخطباء من ذكرها» (ص285).
12 ـ ما هو الموقف تجاه هذا الكمّ الهائل من التحريفات؟ (ص294 ـ 296).
13 ـ تنبيهات مهمة «بهدف الارتقاء بمستوى المنبر ومجالس التعزية» (ص204 ـ 307).
14 ـ دور الجمهور ـ أولاً ـ في الترويج للتحريفات، وفي تشجيع الخطباء الذين يكثرون من تناقلها ثانياً.
وفي خاتمة المقدّمة التي ضمّنها الكتاب، يثني السيّد درايتي على المحدّث النوري وكتابه اللؤلؤ والمرجان، قائلاً: «إذا شهدنا في المستقبل أعمالاً على غرار اللؤلؤ والمرجان فسوف نستعيد أملنا في قطع دابر الأكاذيب، أمّا إذا استمرّ الوضع على هذه الحال وكان العلماء يعارضونه في السرّ ولا ينهون عنه في العلن، فستشهد السنوات المقبلة تنامياً في القصص المختلقة مما يزيد في تصدّع المذهب، وإحراج موقفنا تجاه أهل البيت»([53]).
لقد حظي كتاب اللؤلؤ والمرجان في أوّل صدوره بإطراء العديد من العلماء والباحثين؛ ففي وقائع الأيام في تاريخ الأعلام، يكتب الواعظ الخياباني (1282 ـ 1367) يقول: «فإنك إن اطّلعت على كتاب اللؤلؤ والمرجان، تأليف العلامة النوري ـ قدس الله نفسه وشكر مساعيه الجميلة ـ فلا تستغرب تصدّيه للخطباء ولا تبتئس من ذلك، فإنّي ـ الأحقر ـ قد قرأته من البداية إلى النهاية وتمعّنت في محتوياته فلم أجده يتعرّض للخطباء الموضوعيين والصادقين.. لقد كان سماحته وحيد دهره وفريد عصره ومجلسيّ زمانه، بذل قصارى جهده في ترويج الشرع المبين وتهذيب معالم شريعة سيّد المرسلين، والتأليف والتصنيف والبحث في آثار العلماء الماضين، وتحصيل كتب ورسائل المتقدّمين والمتأخرين.. إنّ طول باعه وكثرة اطّلاعه ومزيد بصيرته وخبرته في سائر المطالب، أظهر من الشمس وأبين من الأمس. وتشهد مؤلّفاته لذلك وتنادي به بأعلى صوتها، فمثله يجلّ عن المهاترات الشخصية والضغائن النفسية، وإنما هدفه الوحيد هو التصدّي للخطباء الكاذبين والوضّاعين.. وليس من الإنصاف عدّه ـ كتاب اللؤلؤ والمرجان ـ من الكتب التقليدية والبسيطة، فإنك لن تجد في خزينة أيّ ملك كمثل هذا من اللؤلؤ والمرجان؛ فعليك بتكرار قراءته والتمعّن في مطالبه والغوص في أعماق بحاره، فإنّ مثل هذه المعلومات والتحقيقات والبحوث لا تصدر عن أيّ شخص؛ فمعرفة الكتب والتصانيف أمثال: اللهوف والمنتخب ومقتل أبي مخنف وأسرار الشهادة والمخزن والمحرق وغيرها، وتقييمها والتعرّف على صحيحها وسقيمها.. ليس بالأمر الهيّن، وإنما يتطلّب عمراً مديداً واطّلاعاً فريداً؛ ولذلك ليس بمقدور أيّ شخص أن يعترض علينا إذا ما اهتممنا بالكتاب واحتفينا به»([54]).
ويستمرّ الملا علي الخياباني في دفاعه عن المحدّث النوري وثنائه على كتابه اللؤلؤ والمرجان، ثم يروي لنا شيئاً من تاريخ الكتاب الذي ترك بصماته على المجتمع الذي كان معاصراً له، وقد أثار صدوره وانتشاره في طهران وتبريز جدلاً كبيراً بين العلماء من جهة والعامّة من جهة أخرى، حتى وصل الأمر إلى نشوب نزاعات ومعارك محلّية عنيفة([55]).
وممّن مدح كتاب اللؤلؤ والمرجان وأثنى عليه بما لم يثن عليه أحدٌ من قبله هو الشهيد مطهري، فقد وصفه بأنّه: «كتابٌ فريد من نوعه» و «قد لا نجد في العالم كتاباً يضاهيه، فقد امتاز مؤلّفه بعمقٍ لا مثيل له!»([56])، وقال في موضع آخر: «إنّ كتاب اللؤلؤ والمرجان تأليف المرحوم الحاج النوري، يمثل أداءً للمهمّة المقدسة التي ألقيت على عاتق المؤلّف، فقد أصبح مصداقاً حقيقياً للحديث القائل: إذا ظهرت البدع فليُظهر العالم علمه»([57]).
وقد كتب أحد أبرز الباحثين والمفكّرين المعاصرين حول اللؤلؤ والمرجان: «إنّه أوّل كتاب من نوعه يعنى بتهذيب المنبر، وقد دوّن على غرار كتاب «التنزيه في أعمال الشبيه» للسيّد محسن الأمين، أي كما أنّ الأخير كرّس جهده في كتاب التنزيه لمناهضة الخرافات وتطهير المراسم الحسينية منها، فكذلك فعل الحاج النوري في اللؤلؤ والمرجان. ويكمن الفرق بين الاثنين أولاً: في تقدّم اللؤلؤ والمرجان وريادته في مناهضة الخرافات. وثانياً: في أنّه نال قبول العلماء والباحثين، في حين لم تحظ رسالة التنزيه بذلك، وإنما جوبهت بالعديد من النقود التي وجّهت إليها من قبل العلماء والباحثين»([58]).
وأفضل موضع يمكننا فيه ملاحظة البصمات التي تركها كتاب اللؤلؤ والمرجان، هو تصانيف تلامذة الميرزا النوري، من الذين تلمّذوا على يديه أو كان النوري شيخَهم في الرواية، كالمحدّث الشيخ عباس القمّي، ومحمد تقي أرباب، والسيد محسن الأمين، والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء؛ فقد سار هؤلاء الأفاضل على نهج أستاذهم، فكان لكلّ منهم دوراً بارزاً في مناهضة الخرافات التي ابتُليت بها السيرة الحسينية.
وامتازت أعمال السيد محسن الأمين والمحدّث القمي بتفصيلها واستقلاليّتها في الصدور، في حين تناثرت بحوث محمد تقي أرباب ـ صاحب كتاب الأربعينية الحسينية ـ وكاشف الغطاء بين تصانيفهما الكثيرة.
2 ـ ثورة التنزيه، خطوة السيد محسن الأمين ـــــــ
اشتهر السيد محسن الأمين العاملي بمصنّفه الكبير أعيان الشيعة، وقد دوّن عدّة مؤلّفات حول السيرة الحسينية وواقعة عاشوراء، نذكرها بالترتيب: لواعج الأشجان (1329هـ)، والدرّ النضيد في مراثي السبط الشهيد (1331هـ)، وأصدق الأخبار في قصّة الأخذ بالثار (1331هـ)، والمجالس السنيّة في خمسة مجلدات (1340 ـ 1345هـ)([59])، وإقناع اللائم على إقامة المآتم (1344هـ)، والتنزيه لأعمال الشبيه (1346هـ). وقد جدّدت طباعة هذه المصنّفات مرّات عديدة، ونشرت مع تعاليق وشروح مجموعة من العلماء. وكان خاتمها كتاب التنزيه الذي تضمّن عصارة أفكار السيد الأمين وآراءه. ومن الضروري لمن أراد قراءة التراث الأميني أن يكون هذا الكتاب بين يديه؛ ليقارن بينه وبين ما سبقه، وليقف على أحدث آرائه ونظريّاته.
طبعاً، لا يعني ذلك أنّ الكتب المتقدّمة على كتاب التنزيه، مفتقرةٌ للجانب العلمي والبحثي، أو أنّها دوّنت كما تدوّن سائر المقاتل دون دقّة وتمحيص؛ فالأمين كان صاحب مشروع إصلاحي كبير كرّس من خلاله قلمه لمحاربة البدع والضلالات بغية تنزيه السيرة الحسينية وتراث عاشوراء منها، وقد أقرّ هو بذلك عندما وصف إحدى تصانيفه قائلاً: «والمجالس السنيّة إنما ألّفناها لتهذيب قراءة التعزية وإصلاحها من العيوب الشائنة والمحرّمات الموبقة من الكذب وغيره، وانتقاء الأحاديث الصحيحة الجامعة لكلّ فائدة»([60])، وقال في موضع آخر واصفاً أسلوبه في التأليف: «إننا نسعى جهدنا ونصرف نفيس أوقاتنا وعزيز أموالنا في تأليف الكتب وطبعها ونشرها.. قصداً لتهذيب الأحاديث التي تُقرأ في إقامة العزاء من كلّ كذبٍ وعيب وشين؛ ليكون الذاكرون من الخطباء الذين تستجلب قراءتهم الأنظار و.. مفخراً للشيعة، لا عاراً عليهم ولتكون قراءتهم عبادةً خالصة من شوب الكذب الموجب لانقلابها معصيةً»([61]).
لم يغفل السيد محسن الأمين عن تحريفات واقعة عاشوراء، وهذا ما يتّضح بجلاء من خلال تصانيفه، وكلامه المتقدّم يعكس حجم الألم الذي كان يعانيه من هذه «المحرّمات الموبقة» و «الذنوب الكبيرة»؛ فكان همّه الوحيد تطهير الشعائر الحسينية منها وتنبيه الآخرين على التبعات المترتبة عليها، كما يصرّح بذلك في مقدّمة كتابه الموسوم بالمجالس السنيّة، فيكتب تحت عنوان مقدمة مهمّة: «هذا، ولكنّ كثيراً من الذاكرين لمصابهم قد اختلقوا أحاديث في المصائب وغيرها لم يذكرها مؤرخٌ ولا مؤلّف، ومسخوا بعض الأحاديث الصحيحة وزادوا ونقصوا فيها لما يرونه من تأثيرها في نفوس المستمعين الجاهلين بصحّة الأخبار وسقمها، حتى حفظت على الألسن وأودعت في المجاميع واشتهرت بين الناس، ولا رادع وهي من الأكاذيب التي تغضبهم عليهم السلام وتفتح باب القدح للقادح؛ فإنّهم لا يرضون بالكذب الذي لا يرضي الله ورسوله’، وقد قالوا لشيعتهم: كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا، وقد اكتسبوا هم ومن قبلها منهم وأقرّهم عليها الاسم المبين فإنّ الله لا يطاع من حيث يعصى ولا يتقبل الله إلا من المتقين. والكذب من كبائر الذنوب الموبقة، لاسيما إن كان على النبي’ وأهل بيته الطاهرين» ([62]).
وقد عرف هذا الكتاب برسالة التنزيه أو التنزيه لأعمال الشبيه، وقد نشر مؤخّراً بضميمة عدّة مقالات، وقد اعتمدنا النسخة الأخيرة في دراستنا الحالية. والمقالات المرفقة هي:
1 ـ حركات الإصلاح عند المسلمين الشيعة ـ بمثابة مقدمة الكتاب ـ لمحمد قاسم الحسيني النجفي.
2 ـ مواقف من الرسالة، للمؤلّف نفسه.
3 ـ سيد العلويين والأمويين، لجعفر الخليلي.
4 ـ ارتفع إلى مصافّ أكابر الرجال، لحكمت هاشم، عميد جامعة دمشق.
5 ـ الالتزام في فكر الإمامين: الشيخ محمد عبده والسيد محسن الأمين، لمحمد سعيد الرحيل.
6 ـ لو كان في الإسلام من مثله عدد الأنامل.. لوجيه بيضون.
7 ـ زعيمٌ من زعماء الروحانية في هذا الشرق، نقلاً عن مجلّة العرفان.
لكنّ أهم ما يميز كتاب اللؤلؤ والمرجان عن رسالة التنزيه هو أنّ الأول تمخّض لمناوءة الأخبار الموضوعة والتعازي الكاذبة، أي إنّ دائرة الكتاب الأول لم تخرج عن الاهتمام بالجانب الكلامي والخطابي، في حين تناول الكتاب الثاني ـ إضافةً لجانب السلوك والأداء، أي كلّ ما يتصل بآداب المنبر وسلوك الخطيب ـ دراسةً للأحاديث الموضوعة منوّهاً في نصف صفحة([63]) إلى البدع والتحريفات المتفشية في المآتم الحسينية.
نماذج من جهود كشف التزوير في تجربة الأمين ـــــــ
ومن جملة المختلقات التي أشار إليها الكتاب:
1 ـ نسبوا للإمام الحسين زوراً أنه قال ـ عندما سئل عن سبب خروجه من الخيمة ليلة عاشوراء ـ: «خرجت أتفقد هذه التلاع مخافة أن تكون مظناً لهجوم الخيل على مخيمنا يوم يحملون وتحملون». ثم يتساءل السيد محسن الأمين: «لو لم يكن هذا الخبر مختلقاً لأرشدونا إلى المصدر الذي ورد فيه، ولنبؤونا عن الرواية التي نقلته، سواء كانت صحيحة السند أم ضعيفة». ومن الملفت أن الخطباء نقلوا هذا الخبر الموضوع عن هلال أو هلال بن نافع، الذي عدّوه من خاصّة أصحاب الحسين^، وغفلوا أو نسوا ـ وكما يقال: بأنّ حبل الكذب قصير ـ أنّ الذي كان في جيش الحسين× هو نافع بن هلال وليس هلال بن نافع، فإنّ الأخير كان أحد أفراد جيش عمر بن سعد([64]).
2 ـ ومن الموضوعات التي ذكروها، كلام الشمر الذي وجّهه للإمام الحسين× قائلاً له: «بعدك حياً يا ابن الخارجي!».
3 ـ «إنّ البرد لا يزلزل الجبل الأصم ولفحة الهجير لا تجفّف البحر الخضم».
4ـ «أيّ جرح تشدّه لك زينب».
5 ـ «مجيء زين العابدين ـ من الكوفة إلى كربلاء ـ لدفن جسد أبيه مع قبيلة بني أسد».
6 ـ الحوار الذي دار بين زينب وأخيها العباس، بعد أن عرض الشمر الأمان عليه وعلى أخوته.
7 ـ قصّة درّة الصدف.
8 ـ قصّة الطيور التي لطّخت أجنحتها بدماء الإمام الحسين× وطارت إلى المدينة لتخبر فاطمة الصغرى بمقتل أبيها.
وبعد أن يستعرض الأمين هذه الطائفة من الأخبار الموضوعة يكتب قائلاً: «أو غير هذه من الأحاديث الكثيرة التي تقرأ على المنابر وهي من الكذب الصراح»([65]).
لقد لعب نشر رسالة التنزيه في كلّ من العراق وإيران ولبنان دوراً بارزاً في تحفيز العلماء والباحثين والكتّاب لإعادة النظر في السيرة الحسينية وتراث عاشوراء بالتحديد، لكنّ ذلك لم يخلُ من ردّ فعل ومن ضجّة واضطرابات قام بها الخطباء والمنبريّون، بحيث انقسم الناس إلى فريقين، أطلق عليهما اسم «الأموي» وهو الذي يشايع الأمين، و«العلوي»([66]) وهو الذي يحمل لواء المعارضة([67]).
والملفت أنّ هذه الأحداث سرت لتشمل زعماء الدين أيضاً، فكان للدعوة أنصارها، كالشيخ أحمد رضا والشيخ سليمان ظاهر، من علماء جبل عامل، والسيد أبو الحسن الإصفهاني، المرجع المطلق في ذلك الوقت، وجعفر الخليلي، الكاتب النجفي المشهور، والشيخ مهدي القزويني، المقيم في مدينة البصرة، والسيد هبة الدين الشهرستاني، المقيم في بغداد، والسيد محسن وكتابه. فقد أيّد هؤلاء وكتبوا وردّوا على الخصوم، حتى بلغ الأمر أن أصدر السيد أبو الحسن الإصفهاني فتوى بتحريم بعض الأعمال الضالّة التي كانت تمارس في أيام عاشوراء.
وكما كان للدعوة أنصارٌ، كان لها خصوم أيضاً، أبرزهم: السيد عبد الحسين شرف الدين، والشيخ عبد الله السبيتي، والشيخ مرتضى آل ياسين([68])، ولم يكن الأمر في إيران والهند بأفضل حالاً من العراق ولبنان، فقد شهدا تدوين ونظم عشرات الكتب والمقالات وأبيات الشعر في الردّ على رسالة التنزيه، وقد قام جلال آل أحمد في إيران بترجمتها ـ ويبدو أنها كانت أولى محاولاته في التأليف والترجمة ـ تحت عنوان «عزاداري هاي نا مشروع»، لكنّها قوبلت بالردّ السريع من قبل الخطباء والتجار([69])، فتمّ جمعها من المكتبات وإحراقها([70])، ومنذ ذلك الحين إلى قرابة عام 1371ش/1992م، تمّ طبعها مجدّداً برعاية السيد (قاسم يا حسيني) في محافظة بوشهر، في مطبعة شروه، لكنّها واجهت ذات المصير السابق، فلم تلحظ النور سوى سويعات، اختفت بعدها إلى الأبد.
3 ـ الملحمة الحسينية، مواجهة الشيخ مرتضى مطهري ـــــــ
نشر هذا الكتاب ـ لأوّل مرة ـ عام 1360ش/1981م، برعاية محمد حسين حقّ جو، والذي أطلق عليه عنوان: (ثورة الشيخ مطهري ضدّ موروث عاشوراء المزيف). والكتاب عبارة عن مجموعة محاضرات للأستاذ مطهري تمّ تسجيلها على خمسة أشرطة صوتية. ثم تطوّر هذا الإصدار بعد أن أضيفت إليه سلسلة محاضرات أخرى ومجموعة مقالات حول الإمام الحسين وواقعة عاشوراء، كان الشهيد مطهّري قد دوّنها بصورة متفرقة، فصدر في حلّته الجديدة ضمن ثلاثة مجلدات حاملاً عنوان: الملحمة الحسينية، وقد شهد هذه المرّة إقبالاً منقطع النظير؛ فجدّدت طبعاته حتى تجاوزت الإحدى وأربعين. وقد تضمن المجلّد السابع عشر من المجموعة الكاملة لأعمال الشهيد مطهري هذا الكتابَ، الأمر الذي ساعد على تكرار طبعاته مرّات عديدة. ونحن نرجع القارئ الكريم في دراستنا هذه حول الملحمة الحسينية إلى الأعمال الكاملة للشهيد مطهري، بوصفها المصدر والمنبع.
تأثر مطهّري بالميرزا النوري في بحوثه حول موروث عاشوراء تأثراً بالغاً، فقد أثنى عليه في مواطن كثيرة من ملحمته، بحيث يمكننا القول: إنّ الملحمة الحسينية تشكّل شرحاً تفصيلياً لكتاب اللؤلؤ والمرجان. يكتب مطهري واصفاً اللؤلؤ والمرجان: «إنّه كتاب لا مثيل له، يعكس المستوى العلمي الكبير الذي كان مؤلّفه المرحوم يتمتع به، وقد صنّف الكتاب ضمن محورين: الإخلاص والصدق، وقد أبدع في كليهما» (الأعمال الكاملة 17: 591). ويكتب في موضع آخر: «إنّ كتاب اللؤلؤ والمرجان للحاجّ النوري تعبيرٌ عن امتثال لمهمّة كانت ملقاة على عاتقه وقد أدّاها بأتمّ صورة ممكنة، ونحن اليوم ندين بالنتائج العلمية والتاريخية التي حصلنا عليها، إلى ذلك الرجل العظيم» ( الأعمال الكاملة 17: 613).
لو كُتب للشهيد مطهري الحياة والاهتمام بأعماله شخصياً وإعادة صياغة محاضراته بنفسه، لكانت الحال أفضل بكثير مما هي عليه الآن، لكنّ ذلك لا يقلّل من أهميّة التصانيف التي نُشرت له، خصوصاً في مجال السيرة الحسينية وموروث عاشوراء، فإن مؤلّفاته تشكّل منعطفاً حقيقياً ومناراً لكلّ باحث وكاتب، وإليكم جملة من البحوث التي طرحت في الملحمة الحسينية، كمثال على جهود مطهري في التصدّي للتزييف الذي لحق بتاريخ عاشوراء وموروثها:
1 ـ تحريف هدف الإمام الحسين وغايته (17: 32). 2 ـ مفهوم التحريف وأنواعه (17: 65 ـ 68). 3 ـ التحريف من حيث الموضوع (17: 69). 4 ـ مهمّتان على عاتق الجماهير (17: 72). 5 ـ نماذج من التحريفات التي لحقت بأحداث الواقعة (17: 74). 6 ـ أسباب التحريف (17: 84 ـ 97). 7 ـ التحريفات المعنوية لحادثة كربلاء (17: 102 ـ 110). 8 ـ مسؤوليّتنا في مواجهة التحريفات (17: 117). 9 ـ كلّكم مسؤول، الراعي والرعية (17: 120). 10 ـ مخاطر التحريف (17: 123). 11 ـ التحريف الخاصّ بنا نحن الإيرانيين (17: 124). 12 ـ المهمّة الملقاة على عاتق العلماء (17: 128). 13 ـ نقطتا ضعف في الناس لدى حضورهم مجالس العزاء (17: 128). 14 ـ جرح الراوي (17: 131). 15 ـ هل حمل الإمام الحسين مهمّة محدّدة؟ (17: 472). 16 ـ شخصيّتان في واقعة كربلاء (17: 481). 17 ـ شبهات حول النهضة الحسينية (17: 581 ـ 541). 18 ـ كلمات حول تحريفات عاشوراء (17: 581 ـ 620). 19 ـ الفكر المسيحي ودوره في حادثة كربلاء (17: 664).
إلى جانب ذلك نسرد جملةً من الأخبار الموضوعة والمزيّفة التي ذكرها مطهّري في ملحمته:
1 ـ اسقوني شربةً من الماء.. (17: 49).
2 ـ جلب العباس الماء للحسين عندما كان صغيراً (17: 74).
3 ـ الموكب الملكي العظيم لزعيم الحجاز أثناء خروجه من المدينة (17: 75).
4 ـ قصّة ليلى أمّ علي الأكبر التي لم تكن حاضرةً في كربلاء على الإطلاق (17: 75 ـ 76).
5 ـ أسطورة عرس القاسم التي لم ترد في أيّ كتاب تاريخي معتبر (17: 77، 589).
6 ـ أكذوبة تواجد هاشم المرقال في كربلاء (17: 78).
7 ـ يوم الأربعين الذي شهد مرور عيال الحسين بكربلاء؛ فإنّ طريق الشام لا يمرّ عبر كربلاء مطلقاً، وإنما يفترق في نفس الشام ويتجه صوب المدينة (17: 79، 586).
8 ـ الأسطورة المختلَقة التي حيكت حول الإمام زين العابدين× والتي تروى على المنابر، وفائدتها الوحيدة نسبة الجهل للإمام السجاد، وهي ليست سوى أكذوبة رخيصة (17: 97).
9 ـ أسطورة تفرّق أصحاب الحسين ليلة العاشر من المحرم، وهذه الرواية لا يدعمها أيّ سند تأريخي، وإنما هي هفوة من هفوات صاحب كتاب الناسخ (17: 256).
10 ـ خبر فضة والأسد في كربلاء (17: 585).
11 ـ خبر فاطمة الصغرى (17: 586).
12 ـ قصّة البنت اليهودية التي كانت مصابةً بالشلل وشفيت بواسطة قطرة من دم أبي عبد الله الحسين التي لمست جسمها بواسطة الطير (17: 586).
ومن بين المقالات التي دوّنها الشهيد مطهري، وبلغ مجموعها سبعة مجلدات، هناك العديد منها يصبّ في سياق الملحمة الحسينية، مثل:
1 ـ مفهوم التحريف من خلال الرجوع لكتاب الأخبار الدخيلة للعلامة الشيخ محمد تقي التستري (2: 77). 2 ـ تحريف المفهوم (2: 82 ـ 77). 3 ـ الحسين وارث آدم (2: 221 ـ 218). 4 ـ الخطابة والمنبر (3: 358 ـ 324). 5 ـ رجال الدين (4: 561 ـ 551).
4 ـ كتـاب: مـع الشهيـد مطهـري في ملحمتـه الحسينيـة، تجربـة الشيـخ صالحي نجف آبادي ـــــــ
هذا العنوان اختاره الأستاذ الشيخ نعمة الله صالحي نجف آبادي (2006م) لكتابه الذي جاء في البداية رداً على الانتقادات التي وجّهها مطهري لكتاب نجف آبادي المعروف بالشهيد الخالد (شهيد جاويد)، والذي نال شهرةً كبيرة، ثم تطوّر الكتاب ليشكّل ـ في المقابل ـ رداً على آراء مطهري والتعازي التي كان يقرؤها في ذيل كلّ كلمة أو خطاب كان يلقيه بين الحين والآخر.
اشتمل هذا الكتاب على أربعة أقسام: الأول تضمّن 12 أنموذجاً مختاراً من آراء الشهيد مطهري تحت عنوان: الآراء المتقدّمة للشهيد مطهري، فيما تضمّن الثاني سبعة نماذج اعتبرها المؤلّف من جملة التناقضات، وأورد في القسم الثالث تسعة مصاديق أطلق عليها: الأخطاء التاريخية، وفي القسم الرابع أشار إلى عشرة من الوقائع المزيّفة التي نقلها الشهيد مطهري واعتبر نقله لها قد حصل نتيجة اعتماده على المصادر الضعيفة. وأنهى نجف آبادي كتابه بخاتمة اشتملت على أربعة أقسام، أطلق عليها عنوان: رسالة الكتاب، وتمحّضت الرسالة الأولى والثانية للحديث عن كتابه الشهيد الخالد والردّ على منتقديه، في حين كانت الرسالة الثالثة تنوّه بـ «أنّ الاعتماد على الذاكرة منشأ كثير من الأخطاء التاريخية»، كما أنّ «الحدس، هو الآخر يعدّ عاملاً مهماً في بلورة تاريخ مزيّف بعيد عن الصحة»، يضاف لهما «العشق، الذي كثيراً ما يساهم باختلاق الأساطير التاريخية»، فيما تمحورت الرسالة الرابعة والأخيرة حول خبر فضة والأسد في كربلاء، ومواطن الضعف في هذا الخبر، وأخيراً حديث مفصّل عن ثقافة الأسطورة وتعزيزها اجتماعياً.
لقد ساهم هذا الكتاب مساهمة فعّالة في تهذيب الموروث الحسيني وتنقيته مما علق به طيلة السنوات المنصرمة، وتمكّن من رفع جزء مهمّ من الستار المزيّف الذي تراكم بمرور الزمان وحجب الوجه الناصع لسيرة سيد الشهداء×.
نماذج نقدية: رمي الأسرى أنفسهم على الشهداء من على ظهر الدواب و .. ـــــــ
لقد كان من جملة ما بحثه الكتاب بالتفصيل، شخصية الحسين بن حمدان الجنبلاني، الذي يعدّ من أبرز الوضاعين وممن كثر كذبه على الإمام الحسين وسيرته يوم عاشوراء (ص295 ـ 317). كما تضمّن بحوثاً مهمة أخرى من بينها:
1 ـ تجاوز عدد شهداء كربلاء الاثنين وسبعين شخصاً (ص257).
2 ـ طلب الأسرى المرور على أجساد الشهداء، أمرٌ لا سند له، وقد ورد في كتاب أسرار الشهادة، الذي كثر فيه الكذب والوضع (ص344).
3 ـ خبر توثيق قدم الإمام السجّاد أسفل بطن الدابة، لا سند له ولم يرد في المصادر المعتبرة، وقد ورد في كتاب أسرار الشهادة الموسوم بكثرة الكذب (ص347).
4 ـ لقد تضمّن كتاب ناسخ التواريخ، الصحيحَ والسقيم والغث والسمين؛ فلا يمكن الاعتماد عليه مصدراً من مصادر التاريخ المعتبرة، وخصوصاً في المواضع التي أغفل فيها ذكر المصادر (ص347).
5 ـ إنّ الخبر الذي نقلوه عن قيام الأسرى برمي أنفسهم على أجساد الشهداء من على ظهر الدواب، يدخل ضمن دائرة الشائعات وليس له حظ من الصواب (ص348).
6 ـ خبر تصدّق أهل الكوفة على أسرى أهل البيت، هو الآخر يفتقد إلى السند المعتبر، وقد ورد في مقتل أبي مخنف المزيّف، وفي كتاب نور العين الذي هو أقرب للأسطورة منه للواقع، وأخيراً في منتخب الطريحي الذي لا يمكن الوثوق بمضامينه (ص362).
7 ـ ومن الأخبار الموضوعة ما ينقل عن فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) أنها أنّت من داخل الكفن ثم ضمّت الحسنين‘ إلى صدرها (ص379).
5 ـ بحوث متفرقة وأخرى بقيت طي الكتمان ـــــــ
ظهرت بعد المحدّث النوري وكتابه اللؤلؤ والمرجان بحوثٌ ودراسات عديدة تعرّضت لموروث عاشوراء وما لحق به من وضع واختلاق وتدليس. وكان من بينها منظومة تركي الشيرازي المعنونة بـ «السفرة في ذمّ الرياء»، والتي لم تخلُ من الطابع التهكّمي. ومقالات آغا خان الكرماني التي ناقشت الموروث من خارج دائرته([71])، في حين ضرب المحدّث النوري في الصميم، وعلى أثره جاءت بحوث الشيخ عباس القمّي تبعاً لأستاذه، لكنّها تميزت عن سواها بعمقها ودقتها.
5 ـ 1 ـ بدءاً بنفس المهموم وانتهاء بمنتهى الآمال، تجربة الشيخ عباس القمّي ـــــــ
يعدّ المحدث القمّي من أبرز الباحثين في مجال السيرة والتاريخ، وبالتحديد السيرة الحسينية؛ فقد تمكّن من طيّ مرحلة طويلة وشاقة من البحث والتنقيب في موروث عاشوراء بدءاً بكتابه نفس المهموم وانتهاء بمنتهى الآمال. ومن خلال هذه الرحلة العلمية الممتدّة عبر عقود من الزمن، والتي رافقها ـ إلى جانب الدقّة في التمحيص والبحث ـ حالةٌ من التقوى والورع لا نظير لهما، توصّل إلى نتائج وحقائق كثيرة ومهمّة ساهمت بشكل كبير في كشف الكثير من التزييف والتدليس الذي تعرّض له موروث عاشوراء، لكن بما أن القمّي اشتهر بكتابه الأول ـ نفس المهموم ـ فقد غطّى هذا الكتاب على باقي أعماله العلمية، وبذلك أغفلت ولم يتمّ الاهتمام بها بالشكل المطلوب.
وللتعرّف أكثر على مسيرته العلمية والبحثية في مجال السيرة الحسينية وواقعة عاشوراء، يلزمنا الوقوف عند مصنّفاته التي دوّنها في هذا المجال؛ فمن خلال استقراء مؤلّفات القمي في مجال السيرة الحسينية اكتشفنا أنها مرّت بثلاث مراحل: الأولى: نفس المهموم، تمّ تصنيفه بتاريخ 1335هـ. الثانية: نفثة المصدور، بتاريخ 1342هـ. الثالثة: منتهى الآمال، بتاريخ 1350هـ.
وعلى الرغم من تفوّق كتاب نفس المهموم على سواه من المصنّفات التاريخية، إلا أنه إذا ما قورن بمصنفات القمي اللاحقة فسيكون أدنى منها من حيث الدقة والإتقان؛ ذلك أنه اعتمد فيه على بحار الأنوار الذي نقل بدوره ـ في بعض أخباره ـ عن مصادر لا اعتبار لها. مع ذلك تكرّرت مع مصنّفه الثاني (نفثة المصدور) الظاهرة عينها، إلا أنّ اختصار الكتاب حال دون نقل الكثير من روايات المجلسي التي وردت في نفس المهموم.
أما منتهى الآمال، فقد تخلّص نهائياً من روايات بحار الأنوار سوى عدد ضئيل لا يمكنه التأثير على اعتبار الكتاب، لكن في المقابل حرص القمي على الاهتمام بكلّ ما جاء في اللؤلؤ والمرجان، وبالغ في دراسة مضامينه بحيث رفض ما تردّد المحدث النوري في صحّته، ولم يكتف القمّي في منتهاه باللؤلؤ والمرجان، بل اعتمد طريقين آخرين لينأى بكتابه عن التحريف: أحدهما: أنّه استبعد عنه كل رواية ضعيفة السند أو الدلالة([72]). وثانيهما: محاولته عند سرده أحداث السيرة الحسينية وواقعة عاشوراء الوقوف عند كل موضع يراه تعرّض للتحريف أو التزييف؛ ليبحثه بحثاً وافياً وينزهه عن كل ما لصق به من شوائب تمثلت بروايات موضوعة ومختلقة.
وبالعودة إلى نفثة المصدور الذي دوّنه تتميماً لنفس المهموم، اختتمه بالحديث عن الخطباء وروّاد المنبر، راجياً منهم مراعاة عشرين وصيّة ليكونوا بذلك من الدعاة إلى الله وممّن يقيم شعائره لهداية الناس، فمن جملة هذه الوصايا:
1 ـ الإخلاص والابتعاد عن الرياء وحبّ الظهور. 2 ـ الصدق وترك الكذب تحت غطاء لسان الحال. 3 ـ عدم ترويج الباطل، ومدح الفاسق والفاجر. 4 ـ عدم إعانة الظالمين، واللجوء إليهم. 5 ـ التخلّي عن قراءة التعازي المهينة([73]).
أما في منتهى الآمال، فيمكن ملاحظة بحوث كثيرة تتصدّى للتحريف والتزييف، نحاول نقلها أو ملخص عنها بنصّ عبارة المحدّث القمي:
1 ـ «يكون قد مضى على عمر بن سعد من كربلاء خمساً وعشرين سنة.. وما جرى على ألسنة العامّة من أن عمر بن سعد كان يوم عاشوراء شيخاً كبيراً لا مأخذ له، والله العالم» (ص215، الحاشية).
2 ـ يقول القمّي بعد نقله لأحداث استشهاد طفلَي مسلم بن عقيل: «إنّي استبعد استشهاد هذين الغلامين بهذه الكيفية وهذا التفصيل..» (ص233).
3 ـ «في المصباح للكفعمي أنه قالت سكينة: لما قتل الحسين× اعتنقته فأغمي عليّ فسمعته يقول:
شيعتي ما إن شربتم ري عذب فاذكروني | أو سمعتم بغريب أو شهيد فاندبوني
|
والظاهر أنّ بقية الأبيات التي يقرؤها أصحاب العزاء لم ترد على لسان الإمام وإنما هي من نظم الشعراء» (ص245، الحاشية).
4 ـ يكتب حول نافع بن هلال: «يمضي في بعض الكتب هلال بن نافع، والمظنون سقوط اسم نافع من أوله، وسبب ذلك تكرار اسم نافع» (ص265).
5ـ «هل كانت أمّه ـ أم علي الأكبر ـ حاضرةً في كربلاء أو لا؟ الظاهر عدم حضورها هناك، ولم أجد في الكتب المعتبرة شيئاً» (ص272).
6 ـ «وأما ما اشتهر من أنّ الحسين× جاء إلى أمّ علي الأكبر بعد ذهابه إلى الميدان، وقال لها: قومي وادعي لولدك فإنّي سمعت جدّي رسول الله’ يقول: إن دعاء الأم مستجاب في حقّ ولدها، فإنه كذب محض من أوله إلى آخره كما قاله شيخنا (النوري)» (ص272).
7 ـ «ولا يخفى عليكم عدم صحّة قصّة عرس القاسم» (ص275).
8 ـ «يقول المؤلّف: لم ينقل أحدٌ من أرباب المقاتل المعتبرة شيئاً عن أحوال أهل البيت^ في يوم عاشوراء بعد مقتل الحسين× وليلة الحادي عشر، حتى نوردها هنا» (ص291).
9 ـ ونستبعد القول بأنّ زينب نطحت جبينها بمقدم المحمل حتى سال الدم، وإنشادها تلك الأبيات: (يا هلالاً لما استتمّ كمالاً)؛ فإنها أجلّ من ذلك وهي عقيلة الهاشميين، عالمة غير معلّمة، رضيعة ثدي النبوة وذات مقام شامخ في الرضا والتسليم» (ص296)، ويمكن ملاحظة رأي المحدّث القمي في هذا الشأن بصورة أوضح في مراجعته لكتاب منتخب الطريحي.
10 ـ تحليل إجمالي للمقتل الموضوع والمنسوب لأبي مخنف (ص303، الحاشية).
11 ـ «ما ورد في نفس المهموم من قوله: كأنه يضحك ظاهراً، واصفاً رأس العباس، إنما هو من سهو القلم» (ص308).
12 ـ «يقول الفقير: إنّ خبر كنيسة حافر والحكاية المنقولة عن كامل البهائي، كلاهما مستبعدان ولا يمكنني الوثوق بهما» (ص316).
13 ـ «اشتهر بين علماء الطائفة أنّ الإمام زين العابدين نقله (رأس الحسين) إلى كربلاء يوم الأربعين، وهذا القول مستبعد جداً نظراً للأخبار التي بين أيدينا..»، وبعد أن ينقل المحدّث القمي هذا الكلام عن المجلسي يقول: «يقول الفقير: إنّ هذه الرواية ـ وكما سوف يأتي ـ تؤيد ما ورد من قول يزيد لعلي بن الحسين×: إنّك سوف لن ترى رأس أبيك أبداً» (ص318).
14 ـ «من البعيد جداً تواجد أهل البيت في كربلاء في اليوم العشرين من شهر صفر، أي يوم الأربعين، وقد استبعد السيد علي بن طاووس الذي اشتهر نقله لهذا الخبر في اللهوف، هذا الأمر أيضاً في الإقبال، مضافاً إلى عدم التلويح والإشارة إلى هذا الأمر من العلماء وأهل السير والتاريخ والمقاتل، بل يظهر من سياق كلامهم إنكار هذا الأمر..» (ص320)([74]).
15 ـ في الخاتمة، يورد القمي بحوثاً قيّمة حول ذمّ الرياء والكذب والغناء، ويستعرض بإيجاز ملامح من كتاب اللؤلؤ والمرجان تكريماً لأستاذه وإجلالاً له. وجديرٌ بسائر الخطباء وروّاد المنبر مراجعة هذه الخاتمة التي تتضمّن فوائد جمّة لا غنى لأحد عنها (ص335 ـ 344).
الأمر الآخر الذي نودّ لفت الأنظار إليه هنا هو أنّ دراسة واقعة عاشوراء وتدوين مقتل الحسين، إذا تمّ بالاعتماد على مضامين كتاب منتهى الآمال فسيكون من أفضل المقاتل وأدقّها من حيث السند والاعتبار، ويتأكّد هذا الأمر إذا ما علمنا أنّ منتهى الآمال قد تمّ تأليفه باللغة الفارسية.
5 ـ 2 ـ الإمام الحسين وأصحابه، دراسة فضل علي القزويني ـــــــ
درس فضل علي القزويني (1290 ـ 1367هـ)، في كلّ من قزوين وإصفهان وطهران والنجف، وحصل على إجازة الاجتهاد من الآخوند الخراساني وأصبح فيما بعد من وكلائه والمقرّبين منه، وكان& من أصحاب السلوك والعرفان، ومن الملازمين للعارف الكبير الشيخ حسين علي النخودي المشهدي، وقد اشتغل بالتدريس في كلّ من مشهد وكربلاء المقدّسة، وله عدّة مصنفات لم ينشر منها سوى الكتاب الذي نحن بصدده.
امتاز القزويني في هذا الكتاب بالبحث والمناقشة والتدقيق في جزئيات وحتى ألفاظ الوقائع والأحداث التي نقلها، بحيث يبدو وكأنّه من جملة المصنّفات المتخصّصة التي دوّنت في الفقه والأصول، وباختصار، فإنّ الدقة والتمحيص ومجمل الجهود التي بذلها المؤلّف في تدوينه جعلته من الكتب التي قلّ نظيرها، والحديث عن تفاصيل هذا الكتاب يستدعي وقفةً لا تسعها هذه العجالة، وربما حالفنا الحظّ في تدوين مقالة مستقلّة حوله إذا ما تمّ صدور أجزائه كافّة في المستقبل؛ إذ لم يصدر ـ لحدّ الآن ـ سوى الجزء الأول من مجموع أجزائه الثلاثة، وهذا الجزء تمحور حول مقتل الإمام الحسين، فيما دار الجزءان الآخران حول أصحابه وذويه، رجالاً ونساء، شهداء وغيرهم.
تضمّن الجزء الأول آراءً وأفكاراً مهمّة بإمكانها أن تساهم بشكل كبير في تهذيب موروث عاشوراء وتنقية السيرة الحسينية من الشوائب؛ فكلّ فصل من فصول الكتاب يحوي نقاطاً وملاحظات قيّمة نورد طائفةً منها على وجه الاختصار، ونرجؤ تناولها بالتفصيل إلى موضع آخر إذا ما حالفنا التوفيق في إيراد تعليقة على الكتاب.
1 ـ عبارة «ثم ليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي» التي جاءت في ذيل الخطبة المشهورة التي ألقاها الإمام الحسين ليلة العاشر من المحرّم، لم ترد في رواية الإمام السجاد ولا الإمام العسكري، وإنما وردت في رواية الضحاك المشرقي فحسب، كما أنّ كتب المقاتل لم تنقلها سوى عن الضحاك، ومن المعلوم «أنه لا يمكن الاعتماد على منقولات الضحّاك» (ص36).
2 ـ «وكم فرق بين القول بأنّ الله شاء قتلك، أو شاء الله أن تكون قتيلاً، وبين شاء الله أن يراك قتيلاً» (ص80).
3 ـ دراسة تناولت شخصيات عمر بن علي الأصغر وعمر بن علي الأكبر، والأخطاء التي نتجت من الخلط بينهما (ص108 ـ 109).
4 ـ بعد دراسة مفصّلة لما نُسب للإمام الحسين من قوله: «لله درّ ابن عباس فيما أشار عليّ به» يكتب القزويني: «وبالجملة فالمظنون بل المقطوع أنّ هذه الكلمة ـ وهي قول: لله درّ ابن عباس وأشباهها ـ لم تصدر من الحسين× في وقعة الطف، وإنما أسندوها إليه لأغراض لا تخفى على المتأمل» (ص125 ـ 127).
5 ـ دراسة مفصّلة لكلام الشيخ محمد الخضري حول ثورة الحسين (ص131 ـ 145).
6 ـ يكتب القزويني حول ما ينقل عن الإمام الحسين من أنه قصد العودة إلى المدينة بعد سماعه مقتل مسلم بن عقيل؛ فمنعه من ذلك أولاد مسلم: «وهذا غلط فاحش وخلاف ما عليه أصحابنا رضوان الله تعالى عليهم، بل قد مرّ في رواية أبي مخنف عن عبد الله بن سليم المذري بن المشمعل أنهما قالا: فنظر إلينا الحسين فقال: لا خير في العيش بعد هؤلاء. قالا: فعلمنا أنه قد عزم على المسير» (ص175).
7 ـ الخبر الذي ورد في المقتل المنسوب إلى أبي مخنف، من أنّ الإمام الحسين عندما وصل كربلاء توقّف جواده ولم يتحرّك؛ فاستبدله بآخر ولم يتحرّك، وهكذا إلى سبعة أو ثمانية جياد فلم يتحرّك أي منها.. إلى آخر الخبر، يقول: «وهذا ما لم تورده أيٌّ من كتب السير أو المقاتل المعتبرة، وتفرّد بنقله المقتل الموضوع والمنسوب لأبي مخنف والطريحي في منتخبه، بالإضافة إلى طائفة من المعاصرين ممّن أخذ عن المنتخب». والغريب في الأمر أنّ لسان المؤرّخين ـ صاحب ناسخ التواريخ ـ نقل هذا الخبر عن مقتل أبي مخنف تاركاً الكمّ الهائل من المصادر التي كانت بحوزته، ومما زاد الأمر غرابةً أنه ادّعى أنّ الراوي هو يحيى بن لوط، فيما هو لوط بن يحيى (ص197).
8 ـ المقترحات الثلاثة التي نسبوها للإمام الحسين زوراً، والتي اتفق المعاصرون على بطلانها (ص235).
9 ـ لم يكن الجيش الذي واجه الإمام الحسين في كربلاء مقتصراً على أهل الكوفة، وإنما التحق به من الشام عشرة أو أربعة آلاف مقاتل ـ على اختلاف الأخبار ـ «فمن أنكر وجود جنود من الشام فهو من عدم علمه بالتاريخ» (ص253 ـ 254).
10 ـ ويكتب القزويني حول قصّة الجمال: «وفيها غرائب تركناها لعدم مستند صحيح لها ومنافاتها لأخبار كثيرة» (ص364).
11 ـ خبر فضة والأسد في كربلاء (ص369 ـ 370).
هذا، وقد اشتمل الكتاب ـ إلى جانب ما ذكرنا ـ على إثارات وبحوث ذات قيمة علمية جمّة، يمكن للقارئ مراجعتها عبر الصفحات التالية: 97، 99، 100، 103 ـ 105، 110، 127 ـ 131، 145 ـ 146، 150، 243 ـ 249، 298 ـ 303، 317، 315، 323 ـ 327، 376 ـ 377، 395. وللوقوف على رأي المؤلف فيما يخصّ جرح وتعديل ابن عباس، يمكن مراجعة الصفحات: 121، 128 ـ 130، و..
لقد نجح المؤلّف نجاحاً غير قليل فيما طمح إليه في هذا الكتاب، فقد كان همّه التأليف من دون الاعتماد على المصادر الضعيفة، كما أكّد على ذلك في أكثر من موضع (ص255، 263)، لكن مع ذلك كلّه، يبقى هناك فقرات تحتاج إلى مزيد من المراجعة والتمحيص (ص96، 153، 304)، كما في قصّة شجرة جنار العجيبة([75]) (ص403 ـ 407). ومما يستدعي الوقوف عنده أيضاً ما أشار إليه محقّق الكتاب السيد أحمد الحسيني في التعليقة التي أوردها عليه بقوله: يبدو أنّ المترجمين قد أخفقوا في ترجمة عبارة: «ثم أخذ السهم فأخرجه من ورائه»، فاشتهر في التعازي على أنّ سهماً ذي ثلاث شعب أصاب صدر الإمام الحسين× ونبت بقلبه، فأخرجه الإمام من خلف رأسه، ونظراً لكون السهم مثلثاً يبدو أنّ الأمر كما أشار إليه المؤلف «بعيد جداً، لا يمكن تصوّره فكيف بوقوعه» (ص307)؛ فالصواب في تفسير هذا الخبر هو أن الضمير في «من ورائه» أو حتى في «ظهره» يعود إلى السهم نفسه، وليس إلى الإمام الحسين، وبذلك يصبح مفهوم العبارة: إنّ الإمام الحسين أمسك السهم من الخلف وأخرجه.
ومثل هذا الإخفاق، وقع أيضاً في ترجمة خبر استشهاد القاسم بن الحسن، وإلى ذلك أشار أحد الكتّاب: «ومما اشتهر على الألسن أنه بعدما سقط القاسم وطأته الخيل حتى مات، في حين أنّ قاتله، أي عمرو بن سعد بن نفيل الأزدي، هو من وطأته الخيل. فمن فرط جهلهم أخفقوا في إرجاع الضمير إلى صاحبه»([76])، وقد عالج العلامة السيد محسن الأمين الأمر بإظهاره صاحب الضمير فنقل الحدث بقوله: «فوطئت الخيل عمراً حتى مات وانجلت الغبرة..»([77]).
5 ـ 3 ـ شمس الشهادة، مطالعة لأعمال مؤتمر عاشوراء الأوّل ـــــــ
حمل هذا الكتاب عنواناً ثانياً هو: مجموعة مقالات مختارة من المؤتمر الأول الذي عقد لدراسة أبعاد السيرة الحسينية ومصادرها وما تعرّضت له من تحريف. وقد اشتمل ـ وكما هو واضح من العنوان ـ على مجموعة مقالات تبحث التزييف في موروث عاشوراء، وهي كما يلي:
1 ـ مدرسة الشام التاريخية ودورها في تحريف الثورة الحسينية، لأصغر قائدان.
2 ـ المدرسة الإسلامية الإيرانية ودورها في تحريف الثورة الحسينية، لنوروز أكبري زادكان.
3 ـ العقل، أداة فاعلة في ردع التحريف ونشر معالم الثورة الحسينية، لمحمد منصور نجاد.
4 ـ ظاهرة تزييف موروث عاشوراء من زاوية إنسانية، لعباس ايزدبناه.
5 ـ أسباب تعرّض تاريخ الثورة الحسينية للتحريف، لمهدي رفيعي.
6 ـ الأبعاد العسكرية لحادثة عاشوراء بين الواقع والتزييف، لإبراهيم مشفقي فر.
7 ـ مثال على التحريف، دراسة لأحداث رجوع نساء الحسين× وعياله من الشام إلى كربلاء في العشرين من صفر سنة 61 للهجرة، لعبد الرحيم قنوات.
8 ـ الملحمة الحسينية في الأدب الفارسي وجملة من الإخفاقات، لمحمد دانشكر.
9 ـ أبو مخنف، أشهر مؤرّخ لأحداث عاشوراء، للسيد علي مير شريفي.
10 ـ أبو مخنف الأزدي وحادثة عاشوراء بالاعتماد على المقتل المنسوب له، لعبد الله رجائي.
5 ـ 4 ـ ظاهرة التحريف في موروث عاشوراء في ضوء الإمامة، مشروع داوود إلهامي لنقد التحريف الباطني ـــــــ
يعدّ هذا المصنّف آخر عمل يقدّمه الأستاذ داوود إلهامي (1316 ـ 1379ش/2000م)، يبحث فيه ظاهرة التحريف الباطني للدراسات التي تتناول حادثة عاشوراء، تاركاً التحريف الظاهري الناتج عن ضعف المصدر والسند والمضمون، إلى دراسات أخرى مهتمّة بهذا الشأن.
ويستعين المؤلّف في دراسته لأحداث عاشوراء بالمنهج التاريخي والاجتماعي، مضيفاً لهما الرؤية المسيحية والاتجاه الصوفي والعرفاني، كما يشرك النظرة الفقهية، ويخرج بعد ذلك بنتيجة يعبّر عنها قائلاً: «إنّ الأساليب المذكورة ليست كافيةً لدراسة حادثة عاشوراء وتقييم أخبارها، والأسلوب البديل الذي بإمكانه أن يكون مؤثراً في هذا المجال هو الاستعانة بخصائص الأئمة» (ص78). وبعبارة أخرى: «كلّ خبر يروي هذه الحادثة إذا لم يكن موافقاً لخصائص المعصومين ومقامهم فبالإمكان عدّه من جملة التحريفات».
والذي يبدو من تركيز المؤلّف على أسلوب خصائص الأئمة لتقييم الأخبار هو اعتماده المنهج الكلامي التقليدي، وقد تأثر في ذلك بدراسة السيد ايزدبناه الذي تقدّم الحديث عنه في إطار ذكرنا للمقالات والدراسات المنتشرة في كتاب شمس الشهادة، وقد حملت الدراسة عنوان: ظاهرة تزييف موروث عاشوراء من زاوية إنسانية.
ويثني إلهامي في كتابه على آراء الشهيد مطهري والعلامة الطباطبائي وبحوثهما حول حادثة عاشوراء، ويشيد بهما بصورة كبيرة، فيما يرى أنّ سواهما ممّن كتب في هذا المجال قد ابتلي بالتحريف بشكل أو بآخر، لكنه مع ذلك يخالف الشهيد مطهري الذي يجلّ آراء عمان الساماني وصفي علي شاه العرفانية ([78])، ويرى أنّ آراءهما حول حادثة عاشوراء ـ المتمخضة عن العقيدة الصوفية والعرفانية ـ أدت إلى ظهور نوع جديد من التحريف، بل أسوأ أنواع التحريف.
ويقتفي إلهامي أثر مطهّري في جعل العزة والإباء معياراً قيمياً لموروث عاشوراء، ويكتب بهذا الصدد في خاتمة بحوثه: «بعد كلّ ما تقدّم، يمكننا الخروج بنتيجة مهمة للغاية وهي أنّ العزة والإباء في واقعة كربلاء هي المعيار الأهم الذي يجب أن تقيّم في ضوئه كافّة الأخبار والمقاتل؛ ليعرف صحّتها من سقمها، وطبقاً لهذا الأصل فإنّ أيّ خبر أو رواية أو مقتل أو قصيدة أو شعر يفهم منه الذلّة والوهن وتوسّل الإمام الحسين× وأصحابه وعياله بالعدو، فهو كذب وتحريف وتزييف لا يمكن قبوله» (ص150).
هذا، وهناك مصنّفات عديدة تمّ مراجعتها وإعدادها لهذه الدراسة، لكننا نعرض عن ذكرها خوفاً من الإطالة والتكرار، ونكتفي بذكر هويّة كل منها:
1 ـ أضواء على ثورة الإمام الحسين، للسيد محمد الصدر، قم، مطبعة الشريف الرضي، الطبعة الأولى، 1318هـ، 237 صفحة، حجم: وزيري.
2 ـ أبداً حسين أو شرعية الخروج على حكم الجور، شريف راشد الصدفي، بيروت، دار الهادي، الطبعة الأولى، 1422هـ، 455 صفحة، حجم: وزيري.
3 ـ دراسة تاريخية نقدية لأدب عاشوراء، للسيد عبد الحميد ضيائي، طهران، دار نقد فرهنك للنشر، الطبعة الأولى، 1381ش/2002م، 171 صفحة، حجم: رقعي.
4 ـ دراسة تفصيلية لثورة عاشوراء: الشبهات والتزييف، مجموعة من الباحثين في حقل التاريخ، قم، مركز دراسات وبحوث الحوزة العلمية، الطبعة الأولى، 1381ش/2002م، 130 صفحة، حجم: رقعي.
ومن الكتب إلى المقالات؛ فقد تصدّرت مقالة الأستاذ مقصود فراستخواه مجموعة المقالات المدوّنة حول حادثة عاشوراء، وقد جاءت تحت عنوان: «حادثة عاشوراء تجربة سلوك اجتماعي في المجتمع الديني»، وهي جديرة بالمراجعة؛ لاشتمالها على ملاحظات قيّمة في مجال تحريف السيرة الحسينية، ولكونها تعيد قراءة الموروث لتقدّم عرضاً جديداً ومختلفاً لحادثة الطف([79]).
* * *
الهوامش
(*) باحث متخصص في تاريخ الثورة الحسينية.
([1]) النوري، اللؤلؤ والمرجان: 150؛ والقمي، نفس المهموم: 8؛ وله أيضاً، هدية الأحباب: 45؛ والطهراني، الذريعة 22: 27؛ والموسوعة الإسلامية الكبرى 6: 219؛ والسيد علي مير شريفي، أبو مخنف وتاريخ المقتل المنسوب له، مجلة آينه پژوهش، السنة الأولى، العدد 2: 31 ـ 40؛ ومحمد اسفندياري، مصادر السيرة الحسينية: 70 ـ 74؛ ورسول جعفريان، وقفة مع ثورة عاشوراء: 17 ـ 20.
([2]) الطباطبائي، أهل البيت في المكتبة العربية: 655، الطبعة الأولى، قم، مؤسّسة آل البيت، 1417هـ؛ وقد كتب إسماعيل باشا: «أنها رسالة نسبت للإسفرائني»، راجع: المصدر نفسه: 654، نقلاً عن هداية العارفين 1: 8.
([3]) فضل علي القزويني، الإمام الحسين وأصحابه 1: 150.
([4]) السيد محمد علي القاضي الطباطبائي، دراسة الأربعين الأولى لسيّد الشهداء: 60، 221، 294.
([6]) عبد الله أفندي، رياض العلماء 2: 190؛ والتبريزي، مرآة الكتب 5: 384؛ واسفندياري، مصادر السيرة الحسينية: 88 ـ 93؛ ورسول جعفريان، وقفة مع ثورة عاشوراء: 317 ـ 359.
([7]) الملا محمد الفضولي، حديقة السعداء: 536 ـ 539، طبعة قم.
([8]) الذريعة 22: 420؛ ومرآة الكتب 4: 101، الطبعة الحجرية؛ وعباس القمّي، منتهى الآمال 1: 753 ـ 754.
([9]) المحدّث النوري، اللؤلؤ والمرجان: 183 ـ 184.
([10]) الميرزا محمد أرباب، الأربعين الحسينية: 9.
([14]) المصدر نفسه: 22، 200 ـ 263.
([15]) راجع: صحّتي سردرودي، مراجعة مجموعة من الأخبار المشهورة حول عاشوراء، مجلة علوم حديث، العدد 26: 120 ـ 139، 2002م.
([17]) المصدر نفسه: 372 ـ 375.
([19]) المصدر نفسه: 372 ـ 375؛ وراجع أيضاً: السيد علي مير شريفي، فريادي به بلنداي تاريخ (نداء عبر التاريخ): 199 ـ 214، مقالة: أسطورة عرس القاسم، طهران، دار الثقافة الإسلامية للنشر، الطبعة الأولى، 1381ش/2002م.
([21]) راجع: مراجعة مجموعة من الأخبار المشهورة حول عاشوراء، مجلة علوم حديث، العدد 26: 120 ـ 139.
([24]) القمي، نفس المهموم: 399 ـ 401.
([25]) منتهى الآمال 1: 753 ـ 754.
([26]) الواعظ الخياباني، وقائع الأيام في تتمّة محرم الحرام: 253.
([27]) رضي القزويني، تظلّم الزهراء: 547.
([30]) وقائع الأيام في تتمّة محرم الحرام 2: 112 ـ 121.
([31]) تظلّم الزهراء: 70 ـ 74، 264 ـ 269.
([32]) وقائع الأيام في تتمّة محرم الحرام: 119.
([33]) الفاضل الدربندي، أسرار الشهادة: 5.
([35]) نهج البلاغة: الخطبة: 109، تصحيح: صبحي الصالح.
([36]) المسناة أو المثناة: من كتب اليهود.
([38]) المصدر نفسه: 161 ـ 160.
([39]) الذريعة إلى تصانيف الشيعة 2: 279.
([40]) السيد أحمد الصفائي الخونساري، كشف الأستار 3: 458، قم، مؤسّسة آل البيت، الطبعة الأولى، 1411هـ.
([41]) مرتضى مطهّري، الملحمة الحسينية 1: 55.
([42]) المصدر نفسه 1: 29، 44، و3: 262.
([43]) لمزيد من الاطلاع راجع: محمد اسفندياري، مصادر السيرة الحسينية: 107 ـ 114 (فارسي)؛ ويبدو أنه تمّ الخلط في سيرة الواعظ الخياباني بينه وبين الملا ميرزا الشيرواني، فاعتُبرا شخصاً واحداً. راجع أيضاً: محمد التنكابني، قصص العلماء: 107؛ وله أيضاً: تذكرة العلماء: 141 ـ 144.
([44]) وقائع الأيام في تتمّة محرم الحرام: 25.
([45]) محمد تقي سبهر، ناسخ التواريخ في أحوال سيّد الشهداء 1: 378.
([46]) المصدر نفسه 2: 358، 365 و..
([47]) راجع: محمد تقي التستري، قاموس الرجال 5: 559 ـ 562.
([48]) دراسة الأربعين الأولى لسيّد الشهداء: 382.
([49]) أعيدت طباعة اللؤلؤ والمرجان أكثر من عشر مرات في كلّ من إيران والهند، وترجم للأوردية على يد سعيد حيدر زيدي عام 1418هـ، ونشر تحت عنوان: آداب أهل منبر، في 350 صفحة. راجع في هذا الشأن: السيد علي شرف الدين الموسوي، معجم كتب ومؤلّفي حياة وثورة الإمام الحسين: 46؛ كما ترجم اللؤلؤ والمرجان للغة العربية بواسطة إبراهيم بدوي، تحت عنوان: اللؤلؤ والمرجان في آداب أهل المنبر لحسين بن محمد تقي النوري الطبرسي، الطبعة الأولى، دار البلاغة، بيروت، 1423هـ/ 2003م، في 293 صفحة.
([50]) راجع: صحّتي سردرودي، المحدّث النوري خبر من نور، الطبعة الأولى، طهران، مؤسّسة التبليغ الإسلامي، 1372ش/1993م.
([51]) انظر: اللؤلؤ والمرجان: 9، يقول: علم يبحث فيه عن عوارض أجساد الشهداء وما يتعلّق بها.
([52]) ابن طاووس، إقبال الأعمال 3: 100 ـ 101.
([53]) نافذة على تزييف موروث عاشوارء (اللؤلؤ والمرجان): 30، الطبعة الأولى، دار الأستاذ أحمد مطهري للنشر، قم، 1370ش/1991م.
([54]) وقائع الأيام: 272 ـ 273، مجلّد شعبان.
([55]) المصدر نفسه: 273 ـ 274.
([56]) مرتضى مطهّري، الأعمال الكاملة 17: 71.
([58]) اسفندياري، مصادر السيرة الحسينية: 135، 155.
([59]) ترجم المجلّد الأول من هذا الكتاب إلى الفارسية بواسطة محمد رضا جباران تحت عنوان: شرح وصال.
([60]) محسن الأمين العاملي، ثورة التنـزيه: 30.
([62]) محسن الأمين العاملي، المجالس السنيّة 1: 6 ـ 7.
([64]) البهبهاني، الدمعة الساكبة 4: 372.
([66]) المصدر نفسه، مقالة: سيّد العلويين والأمويين: 57 ـ 65؛ ومحسن الأمين، إقناع اللائم: 33، نقلاً عن: «السيد الأمين سيرته».
([67]) وقد وصف لنا مقطع من ترجمة السيد الأمين الأحداثَ التي رافقت ظهور رسالة التنـزيه بقوله: «وألّف رسالةً سمّاها التنـزيه لأعمال الشبيه، فقوبل بهجمة شرسة واحتجاجات صارخة، وانقسم الناس في النجف وغيرها ـ بمن فيهم زعماء الدين ـ إلى فريقين، أطلق عليهما اسم «الأموي» وهو الذي يشايع الأمين و«العلوي» وهو الذي يحمل لواء المعارضة، وكثرت الاعتداءات على الأشخاص، واستغلّها المغرضون للإطاحة بخصومهم، كما هو المألوف في مثل تلك الحال، وصدرت في الردّ عليه عدّة كتب، وهُجي بقصائد، أذكر مطلع إحداها:
يا راكباً إما مرّرت بجلّق | فابصق بوجه أمينها المتزندق |
وقد اشتهر ببيتين آخرين لم يسمّ قائلهما، وكان المشهور أنهما قيلا في الأمين أيضاً، وإن قال فريق بأنهما قيلا في السيد محسن أبي طبيخ، وهما:
ذرية الزهراء إن عددت | يوماً ليطري الناس فيها الثنا | |
فلا تعدّو محسناً منهم | لأنها قد أسقطت محسنا |
(المترجم، نقلاً عن كتاب القاديانية لسليمان ظاهر العاملي: 65).
([69]) لا يخفى أهميّة دور التجّار في الحياة السياسية والاجتماعية الإيرانية، فقد كانوا محوريين في كافّة التحولات التي شهدها تاريخ إيران المعاصر (المترجم).
([70]) مصادر السيرة الحسينية: 155 ـ 156، نقلاً عن (يك جاه ودو جاله) لجلال آل أحمد.
([71]) راجع: عبد الحسين زرين كوب، النقد الأدبي 2: 633، مطبعة امير كبير، الطبعة الثالثة، 1361ش/1982م.
([72]) انظر: منتهى الآمال 1: 216، طبعة دار النشر العلمية الإسلامية، 1331ش/1952م.
([73]) نفس المهموم: 681 ـ 692.
([74]) راجع في هذا الشأن وما سبقه (13): نصّ منتهى الآمال، الذي أجمل الكلام في الأول وفصّل في الثاني: 320 ـ 321.
([75]) وهي شجرة يقال: إنها كانت يخرج منها الدم في يوم عاشوراء من كل سنة، وهي بمشهد الإمام زادة (مرقد أحد أبناء الأئمة) في زرآباد على ثمانية فراسخ من قزوين (المترجم، نقلا عن الذريعة للطهراني 5: 307).
([76]) السيد علي أكبر البرقعي القمي، كانون إحساسات (محور العواطف): 159.
([77]) المجالس السنيّة 1: 109؛ وله أيضاً: لواعج الأشجان: 176.
([78]) مطهّري، الأعمال الكاملة 17: 381 ـ 382.
([79]) مقصود فراستخواه، دين وجامعه (الدين والمجتمع): 557 ـ 599، طهران، مؤسّسة سهامي للنشر، الطبعة الأولى، 1377ش/1998م.