فيما يلي نتحدّث عن المهام الأساسية الثلاثة للشهيد وهي:
1 ـ التذكير.
2 ـ القدوة.
3 ـ حفظ كتاب اللّه وشريعته من التحريف.
المهمة الأولى للشهيد في الدنيا: التذكير
هو الرسالة الأولى للشهيد. يقول تعالى: {إنّ هذه تذكرةٌ فمن شاءَ اتّخذ إلى ربِّه سبيلاً}[1].
ورسالة الأنبياء «أن يعود الناس إلى أنفسهم»، كما كان الإمام الحسين (عليه السلام) يخاطب الناس في كربلاء: «عودوا إلى أنفسكم».
نفسهم هي فِطَرهم وعقولهم وضمائرهم التي يسلخها عنهم الهوى والطاغوت والشيطان.
إن في نفس الإنسان كنوزاً من القيم والمعرفة واليقين والاستجابة للّه، ورصيداً كبيراً من الفطرة الصافية النقية، ومهمّة الشهداء الوصول إلى هذه الكنوز. إن هذه الأمة التي انطلقت من قلب الصحراء في جزيرة العرب، واستطاعت أن تهزم أكبر إمبراطوريتين في التاريخ في مدة يسيرة من عمر التاريخ لم تتمكّن من انجاز هذه الفتوح بقوة عسكرية نظامية متفوّقة ولا بالمال، وإن كان لابدّ لهذه الدعوة من تلك وذاك معاً، ولكن الأمة الشاهدة التي انطلقت من قلب الصحراء استطاعت أن تخاطب ضمائر الناس وفِطَرهم التي صدّهم عنها الطاغوت.
وفتحت هذه الأمة الشاهدة الطريق إلى فِطَر الناس وضمائرهم التي حاول الطاغوت في هاتين الإمبراطوريتين أن يغمرهما، واستجاب الناس في كل هاتين الإمبراطوريتين إلى دعوة هؤلاء الفاتحين الذين جاءوهم برسالة العودة إلى أنفسهم.
إن لنا نحن الدعاة إلى اللّه رصيداً من الفطرة في أعماق نفوس الناس، ومهمتنا الوصول إلى هذه الأعماق، فإذا استطعنا أن نصل إلى كنوز الفطرة فإن الناس يستجيبون لدعوة اللّه أفواجاً وأفراداً.
ونحن لا ننفي ولا ننكر أن الفطرة والضمير قد يجفّان وينضب معينهما تماماً، وقد يطمرهما الهوى والطاغوت والشيطان تماماً، فتنعدم الفطرة، وينعدم الضمير، كما حدث ذلك في قوم نوح (عليه السلام) {وقال نوحٌ ربّ لا تذرْ على الأرض من الكافرين ديّاراً * إنك إن تذرْهم يضلّوا عبادك ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفّاراً}[2].
ولكن اللّه تعالى قد أودع في فطرة الإنسان وضميره وعقله من القوة ما يمكّنه من المقاومة أمام ضغوط الهوى والشيطان والطاغوت ردحاً طويلاً من الزمن. فإذا تمكّن الدعاة إلى اللّه أن يصلوا إلى نفوس الناس، واهتدوا الطريق إلى فِطَرهم وضمائرهم برفق ولين، فإن اللّه تعالى يفتح عليهم من قلوبهم ما أغلقه الهوى والطاغوت.
بين [الميثاق] و[الشهادة]:
ما هي الرسالة التي يحملها الشهداء والأمة الشاهدة إلى فِطَر الناس ؟ إن هذه الرسالة هي العودة إلى «الميثاق».
إنّ في فطرة كلّ إنسان عقداً وميثاقاً مع اللّه تعالى، والتزاماً بالعبودية والطاعة، ولا يشذّ إنسان عن هذا الميثاق الفطري. وقد شرحنا هذا الميثاق في رسالة مستقلة في تفسير قوله تعالى: {وإذْ أخذَ ربّك من بني آدمَ من ظهورِهم ذرّيتهم وأشهدَهم على أنفسِهم ألستُ بربّكم قالوا بلى}[3].
وكلّ إنسان يرتبط في عمق فطرته بهذا العهد والميثاق مع اللّه تعالى عن وعي والتزام وتعهّد.
إلاّ أنّ العوامل الضاغطة على الإنسان تتمكّن من إخماد جذوة الفطرة وإضعافها وطمرها أحياناً، فتختفي الفطرة من حياة الإنسان، وينسى الإنسان هذا الميثاق، ويغفل أنه شهد على نفسه بين يدي اللّه بهذا الميثاق {وأشهدهم على أنفسهم}. فيأتي دور الشهيد والأمة الشاهدة في إعادة الناس إلى ميثاق الفطرة، وتنبيههم إلى هذا الميثاق الذي عقدوه مع اللّه تعالى بوعي الفطرة ثمّ نسوه وأهملوه.
وإلى هذه العلاقة بين الشهادة والميثاق يشير الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام):
«فبعث اللّه فيهم رسله وواتر أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسيّ نعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن عقولهم».
وإنما يتمكّن الشهداء من معرفة فِطَر الناس، وما أودع اللّه تعالى في نفوسهم من الوعي الفطري العميق، بسبب الموقع الوسط الذي يحلّون فيه، فإنّ هذا الموقع الوسط يمكّنهم من شهود الفطرة، وما أودع اللّه تعالى فيها من الوعي الفطري وميثاق الطاعة والعبودية للّه تعالى، وشهود الانحراف الذي طرأ على هذه الفطرة بعد وعي وعهد وميثاق.
وهذا الشهود يحمّلهم ـ كما ذكرنا ـ مسؤولية تنبيه الناس وتذكيرهم بهذا الوعي وهذا الميثاق. إن العودة إلى اللّه تعالى حاجة حقيقية في نفس كل إنسان، كما أن الأكل والشرب والنوم حاجات في الإنسان، فلا يحتاج الإنسان إلى إكراه وضغط ليأكل أو يشرب أو ينام بقدر حاجته الطبيعية، ولكن قد يحتاج الإنسان إلى من ينبهه بموعد الأكل والشرب والنوم، كذلك (الدين) والعودة إلى اللّه حاجة فطرية مركوزة في عمق النفس، فلا يحتاج الإنسان لكي يعود إلى الفطرة إلى إكراه أو ضغط {لا إكراه في الدينِ قد تبيّن الرشدُ من الغيّ}[4].
ولكن الإنسان يحتاج إلى من ينبهه ويذكّره باللّه تعالى.
وهذه هي المهمّة الأُولى للشهيد والأمة الشاهدة في التاريخ.
التذكير رسالة الأنبياء في التاريخ:
إن القرآن الكريم صريح في أن رسالة الأنبياء (عليهم السلام) في التاريخ هي التذكير أولاً، ثم بعد ذلك التعليم، وإن مهمة التذكير قبل التعليم، وقد ورد التصريح بهذه الحقيقة في سورتين من أوائل ما نزل على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) من القرآن بعد تكليفه بالرسالة، وهما سورتا «المدثر» و«المزمل».
يقول تعالى: {كلاّ إنه تذكرةٌ * فمن شاء ذكره}[5].
ويقول تعالى: {إنّ هذه تذكرةٌ فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلاً}[6].
ويقول تعالى: {إنْ هو إلاّ ذكرى للعالمين}[7].
{وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين}[8].
ويأمر اللّه نبيه (صلى الله عليه وآله) بالتذكير، ويصرّح له بأنه مذكّر قبل كل شيء، بل يذكّره اللّه تعالى بأن مهمّته الوحيدة هي التذكير، وسائر المهام التي يجب عليه أن ينهض بها إنما هي من شؤون التذكير.
وهذه الحقيقة تتضح في الحصر الوارد {فذكّر إنما أنت مذكّرٌ}[9]، والقرآن الكريم «ذِكرٌ» أكثر من أي شيء آخر، أو إنه ذِكْرٌ فقط، والمسائل الأخرى التي يحفل بها كتاب اللّه من متطلّبات الذكر ومستلزماته.
يقول تعالى: {إنْ هو إلاّ ذكرٌ وقرآنٌ مبينٌ}[10].
{هذا ذكرٌ وإن للمتقين لحسنَ مآب}[11].
{إنا نحنُ نزّلنا الذكرَ وإنّا له لحافظونَ} [12].
{وهذا ذكرٌ مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون} [13].
ومهمّة القرآن الكريم ورسالته هي التذكير وتيسير التذكير:
{ولقد يسّرنا القرآن للذّكر فهلْ من مُدّكر} [14].
{وإنه لتذكرةٌ للمتقين} [15].
{ولقد صرفنا في هذا القرآنِ ليذّكّروا} [16].
ويقول اللّه تعالى لنبيه الكريم إنه لم ينزّل عليه القرآن ليشقى بجحود الناس وعنادهم ولجاجهم، وإنما بعثه بالقرآن ليذكّرهم به فقط، وما عليه بعد ذلك من أمرهم استجابوا أم لم يستجيبوا.
{طه * ما أنزلنا عليك القرآنَ لتشقى * إلاّ تذكرةً لمن يخشى} [17].
الاستجابة والانغلاق عن التذكير:
وللناس تجاه التفكير حالتان: حالة الاستجابة والانفتاح وحالة الانغلاق والصدود.
وفيما يلي نتحدث عن هاتين الحالتين:
أولاً ـ حالة الاستجابة والانفتاح:
إن من الناس من يستجيب للذكرى من دون صدود وإعراض، وينفتح قلبه للأنبياء والشهداء، ويتلقّى الذكرى ويتفاعل معها. وهؤلاء هم أصحاب القلوب الواعية الذين لم يتمكّن الشيطان من قلوبهم، ولم يصدّهم عن ذكر اللّه، ولم تنغلق قلوبهم عن ذكر اللّه، ولم يتمادوا في الإعراض عن اللّه.
وتعبير القرآن عن الذين يستجيبون والذين لا يستجيبون للذكرى دقيق وحريّ بالتأمّل والتفكير.
يقول تعالى عن الذين يستجيبون للذكرى: {تبصرةً وذكرى لكلِّ عبد منيب} [18].
والإنابة هي العودة.
وكلّ عودة تتضمّن بعداً وغفلة، ولكن عندما يكون البعد والغفلة والتخلّف عن الاستجابة والطاعة من غير عمد ولا صدود ولا لجاج فإن صاحبه يعود للذكرى سريعاً، ويستجيب.
يقول تعالى: {لنجعلَها لكم تذكرةً وتعيَها اُذنٌ واعيةٌ} [19].
وتعبير القرآن دقيق {اُذنٌ واعيةٌ}، أما الاذان الصمّاء فلا تعي ولا تدرك، ولا تنفعها التذكرة كيفما تكون الذكرى وأيّاً كان المذكّر.
يقول تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيدٌ} [20].
ذكرى لمن كان له قلب، أما من مسخ قلبه مسخاً، فلا تنفعه الذكرى، وذكرى لمن ألقى السمع، أما من صدّ عن السمع فلا تنفعه الذكرى.
وذكرى لمن كان شهيداً حاضراً، أما من كان غائباً بروحه وعقله وحاضراً بجسمه فقط فلن تنفعه الذكرى.
والشهيد هنا من الشهود والحضور، وهو الشهيد المتذكّر في مقابل الشهيد المذكّر يقول تعالى: {وذكّرْ فإن الذكرى تنفعُ المؤمنينَ} [21].
والمؤمنون في مقابل أهل الجحود والكفر المعرضين عن اللّه.
وهؤلاء المؤمنون يستجيبون للذكرى وتطمئن قلوبهم بذكر اللّه تعالى.
{الذين آمنوا وتطمئن قلوبُهم بذكر اللّه ألا بذكرِ اللّه تطمئن القلوبُ} [22].
ثانياً ـ حالة الانغلاق والصدود:
وفي مقابل حالة الانفتاح والاستجابة والإنابة نواجه حالة مرَضية هي حالة الانغلاق والجحود والصدود والإعراض عن اللّه تعالى، وهؤلاء لا تنفعهم الذكرى.
يقول تعالى عن هذه الطائفة: {وإذا ذُكّروا لا يذكرونَ} [23].
ويواجهون الذكرى والتذكير بالإعراض والصدود.
يقول تعالى: {وما يأتيهم من ذكر من الرحمنِ مُحدَث إلاّ كانوا عنه معرضينَ} [24].
{فما لهم عن التذكرةِ معرضينَ} [25].
وهؤلاء المعرضون يعاقبهم اللّه تعالى بأشد العقاب، ويجعل معيشتهم في الدنيا ضنكاً، ويحشرهم يوم القيامة عمياناً لا يرون شيئاً، كما تعاموا في الدنيا عن ذكر اللّه تعالى.
يقول تعالى: {ومن أعرض عن ذ كري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشرهُ يومَ القيامةِ أعمى} [26].
الإعراض عن اللّه عن علم وعن غير علم:
وحالات الإعراض عن اللّه تعالى على طائفتين:
فمن حالات الإعراض والضلال وإتباع الباطل والهوى ما يكون من دون علم ولا هدى.
يقول تعالى: {بل اتّبع الذين ظلموا أهواءَهم بغيرِ علم} [27].
والحالة الأخرى من الإعراض، أسوأ من هذه الحالة وأبعد عن اللّه، وأكثر انغلاقاً وصدوداً عن ذكر اللّه، وهي التي يعرض فيها صاحبها عن اللّه، بعد أن جاءه العلم، بغياً وظلماً، ثم بعد أن استيقنتها نفسه، يقول تعالى: {وما تفرّقوا إلاّ من بعد ما جاءهم العلمُ بغياً بينهم} [28] ، ويقول تعالى: {أفرأيتَ من اتّخذ إلهه هواه وأضلّه اللّه على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد اللّه أفلا تذكّرون} [29] ، ويقول تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} [30].
عقوبة الإعراض عن ذكر اللّه:
وعقوبة هؤلاء من سنخ الجريمة، إن الجريمة هي الإعراض عن اللّه والتصامّ والتعامي عن ذكر اللّه وآياته، والعقوبة هي الإضلال والختم والإغفال.
يقول تعالى: {وأضلّه اللّه على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة} وهي عقوبة تتطابق مع الجريمة بدقة.
يقول تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه وكان أمرُه فرطاً} [31].
والإغفال عقوبة من يتغافل عن ذكر اللّه ويتبع هواه، و (الفرط) من الإفراط، وهو الخروج والتجاوز عن حدود اللّه تعالى وحقوقه، كحبّات القلادة التي تنفرط وتتناثر وتخرج عن مواقعها ونظمها، كذلك الإنسان عندما يتبع هواه ينفرط أمره كله: عقله، وضميره، وقلبه، وفطرته، ووعيه، ودينه، ويختل تعادله وتوازنه.
ومن عقوبة الذين يعرضون عن ذكر اللّه ويتعامون عن آيات اللّه أن يحشرهم يوم القيامة عمياناً، كما تعاموا في الدنيا عن آيات اللّه، ويجعل معيشتهم فيها ضنكا، وهما عقوبتان مع سنخ الجريمة.
يقول تعالى: {ومن أعرض عن ذ كري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال ربّ لِمَ حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى * وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربّه ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى} [32].
ومن عقوبة المعرضين عن ذكر اللّه أن يقيّض اللّه تعالى لهم شيطاناً ويجعله قريناً لهم، ذلك أنهم مكّنوا الشيطان من أنفسهم، فتلك أيضاً عقوبة من سنخ الجريمة التي ارتكبوها.
يقول تعالى: {ومن يعشُ عن ذكرِ الرحمنِ نقيّض له شيطاناً فهو له قرينٌ} [33].
والذي يضلّه اللّه تعالى ويغفل قلبه فلا هادي له {ومن يضلل اللّه فما له من هاد} [34].
وهذا الضلال الذي يلزم الإنسان إجباراً ولا علاج له عقوبة وجريمة وليس بجريمة فقط، ولكن العقوبة هنا من سنخ الجريمة.
ولأن هذه العقوبة إلزامية ولا علاج لها يأمر اللّه تعالى نبيه بالإعراض عنهم.
يقول تعالى: {فأعرضْ عن من تولّى عن ذكرنا ولم يُردْ إلاّ الحياةَ الدنيا}[35].
والإلزام في العقوبة لا ينافي الاختيار.
فإن هذه العقوبة نتيجة لما اختاروا من العناد والشقاق، والنفاق بعد أن أتم اللّه تعالى لهم الحجّة وجاءتهم البينات.
عوامل الإعراض والصدود:
نذكر منها عاملين يذكرهما القرآن الكريم:
الأول: الشيطان.
يقول تعالى: {فأنساه الشيطان ذكر ربه}[36].
{استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر اللّه}[37].
والشيطان يصد عن ذكر اللّه {يصدكم عن ذكر اللّه}[38].
والثاني: الانغماس، والاستغراق في متاع الحياة الدنيا ولذاتها. يقول تعالى: {ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوماً بورا} [39].
وساعات اليسر والرفاه تنسي الإنسان ذكر اللّه، وبالعكس فان ساعات الشدة والعسر تذكر الإنسان باللّه تعالى.
يقول تعالى: {وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون}[40].
{ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذَّكَّرون}[41].
أسلوب التذكير:
مفتاح قلوب الناس اثنان: الصدق والرفق.
والكلام عندما يصدر من الإنسان عن صدق ويكون صاحبه مؤمناً بما يقول، وعاملاً بما يقول، يكون حينئذ له في النفوس من الفعل والتأثير ما ليس لغيره، فإن الكلام عندئذ يصدر من عمق النفس، ويحمل معه قناعة صاحبه وإيمانه وتفاعله معه، والكلام عندما يحمل معه تلك الخصائص، يكون له من التأثير ما ليس للكلام الذي يصدر عن سطح ضحل من سطوح النفس، ودون أن يكون له عمق وامتداد في نفس الإنسان.
ولأمر ما ينهانا اللّه تعالى أن نقول ما لا نفعل. يقول تعالى: {يا أيّها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون * كبُرَ مقتاً عند اللّه أن تقولوا ما لا تفعلون} [42].
و (الرفق) المفتاح الآخر من مفاتيح النفس.
والذين آتاهم اللّه تعالى مفتاح الرفق يُحسنون النفوذ بالتذكير والموعظة إلى القلوب، وتلين لهم القلوب الصعبة، وتستجيب لهم القلوب النافرة.
ومهمة الوعظ ترقيق القلوب، فإذا رقّت القلوب استجابت للتذكير، وانفتحت على ذكر اللّه، وأقبلت على اللّه تعالى، أما عندما تعشو القلوب فلا تستطيع الذكرى أن تنفذ إليها.
فلابدّ للمذكّرين باللّه والدعاة إلى اللّه لكي يهتدوا إلى قلوب الناس أن يرفقوا بها، ويتخيّروا من أساليب الوعظ والتذكير أرقّها وأكثرها ليناً ورفقا، ويتجنّبوا الشدّة والقسوة في الكلام، فإن القلوب تستجيب للرفق، وتصدّ عن الشدة. ولهذا السبب يجب أن لا نحمّل الناس في الوعظ والتذكير ما لا يتحمّلون وما لا يعرفون.
عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): « إنا أمُرنا معاشر الأنبياء أن نكلّم الناس بقدر عقولهم. أمرني ربي بمداراة الناس، كما أمرنا بإقامة الفرائض »[43].
ويقول الإمام الصادق (عليه السلام): « خالطوا الناس بما يعرفون، ودعوهم مما ينكرون »[44].
وعن الإمام الرضا (عليه السلام) ليونس (رحمه الله): « يا يونس حدّث الناس بما يعرفون، واتركهم مما لا يعرفون »[45].
ومن الرفق الاعتدال في الترغيب والترهيب، والخوف والرجاء.
عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): « ألا أخبركم بالفقيه حقاً ؟ من لم يقنّط الناس من رحمة اللّه، ومن لم يؤمّنهم من عذاب اللّه، ولم يؤيسهم من روح اللّه، ولم يرخّص في المعاصي»[46].
الرفق والعنف في الإسلام:
إن الرفق والعنف وجهان لحركة الدعوة على وجه الأرض، ومن دون أن يقترن هذان الوجهان لا تتمكّن هذه الدعوة أن تشق طريقها إلى قلوب الناس على وجه الأرض، من خلال العقبات والعوائق التي يزرعها ويضعها الطاغوت، أمام حركة الدعوة.
والوجه الأول لهذه الحركة هو الرفق واللين في دعوة الناس إلى اللّه تعالى، وتذكيرهم باللّه واليوم الأخر.
{ادعُ إلى سبيلِ ربِّك بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ وجادلهم بالتي هي أحسنُ} [47].
{اذهبا إلى فرعونَ إنه طغى * فقولا له قولاً ليّناً لَعلّه يتذكّرُ أو يخشى} [48].
{وإذا سمعوا اللغوَ أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالُنا ولكم أعمالكم سلامٌ عليكم لا نبتغي الجاهلين} [49].
{ولا تجادلوا أهلَ الكتاب إلاّ بالتي هي أحسنُ إلاّ الذين ظلموا منهم وقولوا آمنّا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهُكم واحدٌ ونحن له مسلمون} [50].
{ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى اللّه وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمينَ * ولا تستوي الحسنةُ ولا السيئةُ ادفع بالتي هي أحسنُ فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌّ حميمٌ} [51].
{اذهبْ إلى فرعونَ إنه طغى * فقلُ هل لك إلى أن تزكّى * وأهديَك إلى ربِّك فتخشى} [52].
هذا هو الوجه الأول من حركة الدعوة وهو وجه الرفق واللين.
والوجه الأخر وجه يختلف تماماً عن هذا الوجه، وهو وجه العنف والشدّة. ولنقرأ بعض ملامح هذا الوجه الأخر في كتاب اللّه تعالى.
يقول تعالى: {واقتلوهم حيثُ ثقفتموهم وأخرجوهم من حيثُ أخرجوكم} [53].
{فخذوهم واقتلوهم حيثُ ثقفتموهم} [54].
{فإما تثقفنّهم في الحربِ فشرّد بهم من خلفهم} [55].
وهذا هو الوجه الأخر لحركة الدعوة، وهما وجهان متكاملان وليسا وجهين متناقضين. إن الوجه الأول هو الذي تواجه به الدعوة الناس في حركتها على وجه الأرض، فلا يقبل الناس على هذا الدين إلاّ بالرفق واللين، ولا تكسب الدعوة قلوب الناس ولا تنفذ إليها إلاّ بالرفق واللين، والتفاهم، والحكمة، والموعظة الحسنة. ولكن الطاغوت لا يدع هذه الدعوة تتحرّك على وجه الأرض بين الناس لتكسب قلوبهم وقناعاتهم وإنما يحاول أن يضع العقبات والعوائق في طريق الدعوة، ويصد الناس عنها، ويفتنهم ليتخلّوا عنها، ويعمل من أجل أن يحول بين الناس وبين رسالة اللّه تعالى.
ولكي تواصل الدعوة حركتها على وجه الأرض، لابدّ أن تدافع عن نفسها وعن الناس الذين تطلبهم، ولابدّ أن تواجه العقبات والفتن التي يزرعها الطاغوت في طريق حركة الدعوة بالقوة والشدة والعنف.
ولا يكاد ينفع هنا الرفق والإحسان، فإن لغة الرفق تنفع الناس وتكسبهم إلى جانب الدعوة وتفتح مغاليق قلوبهم، أما الطاغوت في رحلة المواجهة والصراع فلا تردّه إلاّ لغة القوة والعنف، ورد الكيد بالكيد، والمكر بالمكر، والشدّة بالشدّة.
وهذا هو الوجه الأخر للدعوة، ومن دونه لا تستطيع أن تواصل حركتها على وجه الأرض.
ولكن علينا أن نعرف جيداً أن الوجه الأخير من دون الوجه الأول لا يشق طريق الدعوة، ولا يفتح قلوب الناس.
وإن الذي كسب الناس للإسلام في الفتوح الإسلامية العسكرية في صدر الإسلام ليس القوة والسيف، وإنما الرفق واللين، واستخدم المسلمون القوة فقط لكسر شوكة الطاغوت وإزالة العقبات من أمام حركة الدعوة.
المهمة الثانية للشهيد في الحياة الدنيا: القدوة
يقول تعالى: {لقد كان لكم فيهم اُسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو اللّه واليومَ الاخرَ ومن يتولّ فإن اللّهَ هو الغنيُّ الحميدُ} [56].
الشهيد [مذكّر] و[قدوة]:
قلنا إن الدور الأول للشهيد هو التذكير، ورسالة التذكير هي الدعوة إلى اللّه، والتذكير به، والدعوة إلى [الموقع الوسط]، تذكيراً وتعليماً.
والدور الثاني للشهيد هو تجسيد القدوة للناس، للاقتداء والتأسّي. وفي الرسالة الثانية لا يدعو الشهيد إلى الموقع الوسط، وإنما يجسّد بسلوكه الموقع الوسط. فلا يشذّ عنه في قول أو فعل، ولا ينحرف، ولا يشطّ، ولا يقصّر، ولا يزيد.
ويجد الناس فيه تبلوراً واقعياً وحقيقياً للموقع الوسط.
والقدوة بهذا التصوّر تعني المرآة التي يجد الإنسان فيها نفسه وما أودع اللّه فيه من كنوز اليقين، والمعرفة، والتوحيد، والقيم، والجد، والعزم، والقوة، والشجاعة، والمقاومة، والحب.
يرى الإنسان في (القدوة) كل ما أودع اللّه فيه من هذه الكنوز، فهو من سنخ خلقه، إنسان يمشي في الأسواق، فما يجد في القدوة من المعرفة والقيم والكفاءات موجودة عنده، غير أن (القدوة) يمكن أن يبرزها إلى الفعل ويخرجها إخراجاً حسناً، وهو لم يفعل ذلك.
ولو كان الأنبياء من الملائكة لما وجد الإنسان فيهم مرآة صادقة لنفسه، وقد كان المشركون يستنكرون أن يكون الرسول من نوع البشر، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويطلبون أن يكون الرسول من غير البشر، من الملائكة، مثلاً.
ويرد عليهم القرآن الكريم ردّاً بليغاً:
يقول تعالى: {وما أرسلنا قبلَك من المرسلينَ إلاّ إنهم ليأكلونَ الطعامَ ويمشونَ في الأسواقِ وجعلنا بعضَكم لبعض فتنةً أتصبرونَ وكان ربٌّكَ بصيراً * وقال الذين لا يرجونَ لقاءَنا لولا أنزل علينا الملائكةُ أو نرى ربَّنا لقد استكبروا في أنفسِهم وعتوا عتوّاً كبيراً} [57].
{وقالوا ما لهذا الرسولِ يأكل الطعامَ ويمشي في الأسواقِ لولا أنزل إليه ملكٌ فيكونَ معه نذيراً} [58].
{ولو جعلناه ملَكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون} [59].
والرد واضح، فإن الملكَ لا يكون قدوة للإنسان، ولا يكون مرآة تعكس له شخصيته وقيمته وكفاءاته.
وبالنتيجة لا يعكس له ما ينبغي أن يكون، ولا يعكس له مقدار تخلّفه وتقصيره.
أما القدوة (الإنسان) فيصلح أن يكون مرآة للناس، تعكس لهم أنفسهم، وتعكس لهم ما ينبغي أن يصلوا إليه ويحققوه، وتعكس لهم مقدار تخلّفهم وعجزهم، وتنبّه الناس إلى ضرورة تدارك أخطائهم وجبر نقاط الضعف والنقص في سلوكهم، وتعديل أفكارهم وأعمالهم بموجب ما تعكسه هذه المرآة.
أسلوبان في الدعوة:
هناك فرق واضح بين أسلوب الشهيد في الدعوة إلى اللّه، والأسلوب الذي يتّخذه غير الشهداء من عامة الناس إلى اللّه.
فمن الدعاة من يدعو الناس إلى الموقع الوسط ويرشدهم إليه. أما الشهيد (القدوة) فلما كان يجسّد بأقواله وأفعاله الموقع الوسط فهو يأخذ الناس معه إلى ذلك الموقع. والناس ـ على طريق اللّه ـ ينجذبون إلى من يقول لهم: هلموا معي إلى اللّه، أكثر مما ينجذبون إلى من يقول لهم: إذهبوا إلى اللّه.
وكانت دعوة الإمام الحسين (عليه السلام) من النوع الأول، يدعو الناس إلى مواجهة الظالمين، ويتقدمهم وأهل بيته وذراريه، فكان يقول لهم: « نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم ».
يروي الكاشاني في كتابه الصافي في تفسير القرآن أن أصحاب الحسين (عليه السلام) كانوا إذا أرادوا الخروج استأذنوا الحسين (عليه السلام) وقالوا: السلام عليك يابن رسول اللّه، فيردّ عليهم السلام، ويقول لهم: نحن على الأثر قادمون، ثم يقرأ قوله تعالى: {فمنهم من قضى نحبَه ومنهم من ينتظرُ وما بدّلوا تبديلاً}.
ويقول أميرالمؤمنين (عليه السلام) عن حروبه مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): « كنا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ، فلم يكن أحد منا أقرب إلى العدو منه »[60].
وفي حرب الأحزاب كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بنفسه يحفر ويحمل التراب من الخندق ويقول: « لا عيش إلاّ عيش الآخرة ».
وإذا كان (صلى الله عليه وآله) مع أصحابه في سفر، وكانوا يوزّعون الأعمال فيما بينهم قال: « وعليّ يلمُّ الحطب ».
وهذا هو الفرق بين الشهيد وغيره. إن الشهداء من الأنبياء والأوصياء والعلماء والدعاة إلى اللّه يجسّدون الموقع الوسط، ويأخذون الناس معهم إلى هذا الموقع، أما غير الشهيد من العلماء والدعاة، فيدلّون الناس على الطريق، ويدعون الناس إلى الإعمال الصالحة.
ولذلك دعوة الشهيد لا تضاهيها دعوة، ولا حركة، ولا يكون لغير الشهيد من التأثير والنفوذ في حياة الناس، ومن القدرة على تغيير مجرى التاريخ ما يكون للشهداء. وفي سير علمائنا الشهداء نجد نماذج كثيرة من أمثال هؤلاء، ممن كانوا يجسّدون المقاومة والثبات والصبر في البأساء والضرّاء، قبل أن يدعوا الناس إليها. وقد كان شيخ الشريعة الأصفهاني (رحمه الله) يحضر بنفسه القتال مع الانجليز، وهو في سنّ متقدمة من الشيخوخة، وكان يعسكر مع عساكر المجاهدين ويسير معهم، وكان القائد العثماني التركي يقول: كلما أرى خيمة شيخ الشريعة المتواضعة في وسط المعسكر ازداد قوة وطمأنينة وثقة.
وقد انقلب به القارب في النهر، وكاد أن يغرق، لولا أن أنقذه بعض المجاهدين.
اهتمام القرآن بالقدوة:
وللقرآن اهتمام بليغ في طرح القدوة للناس من الأنبياء والشهداء.
يقول تعالى عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): {لقد كان لكم في رسولِ اللّه اُسوةٌ حسنةٌ} [61].
ويقول تعالى عن إبراهيم الخليل (عليه السلام): {قد كانت لكم أسوةً حسنةٌ في إبراهيم والذين معه} [62].
ويقول تعالى: {لقد كان لكم فيهم اُسوةٌ حسنة لمن كان يرجو اللّهَ واليومَ الاخرَ ومن يتولّ فإن اللّهَ هو الغنيُّ الحميد} [63].
وبعكس ذلك يشجب القرآن الحالات التي ينفصل فيها الفعل عن القول، ولا يكون الكلام نابعاً من إيمان وتفاعل وعمل.
يقول تعالى: {لِمَ تقولونَ ما لا تفعلون * كبُرَ مقتاً عند اللّهِ أن تقولوا ما لا تفعلون}.
التأهيل للشهادة:
{إنْ يمسسْكم قرحٌ فقد مسّ القومَ قرحٌ مثلُه وتلك الأيامُ نداولها بين الناسِ وليعلمَ اللّهُ الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداءَ واللّهُ لا يحبُّ الظالمينَ} [64].
فأولئك أولاهم اللّه سبحانه مهمة الشهادة في الناس، واتخذ منهم شهداء.
إن الأمة الشاهدة لا تثبت على طريق الدعوة، ولا تستطيع أن تقاوم عواصف المواجهة، وألوان المكر والكيد، إلاّ من خلال معاناة صعبة ورحلة عذاب طويلة. وهذه المعاناة والعذاب يؤهلانها للشهادة بين الناس، وتدخلانها الجنة.
يقول تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلِكم مسّتهم البأساءُ والضرّاءُ وزُلزلوا حتى يقولَ الرسولُ والذين آمنوا معه متى نصرُ اللّهِ ألا إنّ نصرَ اللّهِ قريبٌ} [65].
المقاومة والرؤية:
إن المعاناة والعذاب يمنحان الإنسان المقاومة، والمقاومة تمنح الإنسان الرؤية. يقول تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلَنا وإن اللّهَ لمع المحسنينَ} [66].
والآية الكريمة صريحة في أن الجهاد يمنحُ الإنسان الهداية والرؤية، كما يمنحه معيّة اللّه تعالى في الحركة على طريق ذات الشوكة {وإن اللّهَ لمع المحسنين}.
المهمة الثالثة للشهيد: حفظ كتاب اللّه وشريعته من التحريف
{إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونورٌ يحكم بها النبيّون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيونَ والأحبارُ بما استُحفظوا من كتابِ اللّه وكانوا عليه شهداء} [67].
وهذه هي المهمّة الثالثة للشهيد، لان تحريف الكتاب، وتحريف حدود اللّه وشريعته من الوسائل التي تتبعها الجهة المعادية للدعوة، في إحباط دور الدين، ومسخه، وتفريغه من محتواه الحركي بعد ما تفشل هذه الجبهة في استئصال الدعوة من الأساس.
ولذلك نظائر في الشرائع الإلهية السابقة في تاريخ الدعوة والرسالة.
وقد أولى اللّه تعالى الشهداء مهمة المحافظة على الكتاب والشريعة من التحريف والتشويه، واستحفظهم كتابه وحدوده.
وأولى الناس بأن يوليهم اللّه تعالى هذه المهمة هم الشهداء، فان الشهداء أكثر الناس وعياً لشريعة اللّه وحرصاً على سلامتها.
شرطا الشهادة العصمة والعدالة.
إن المهمّة التي ينيطها اللّه تعالى بالشهيد مهمّة ضخمة، فهو من جانب مذكّر ومعلّم، ومن جانب آخر قدوة ونموذج، ومن جانب ثالث مسؤول عن حفظ الكتاب والشريعة.
وهذه المهام الثلاثة ترتبط بالكتاب والشريعة من جانب، ومن جانب آخر بحياة الناس، ومهمّة الشهيد تطبيق حياة الناس على هدى الكتاب والشريعة. وهذه المهمّة الصعبة تتطلّب من الشهيد أن يكون على درجة عالية من الاستقامة والاعتدال والالتزام.
وقد تحدثنا عن ذلك من قبل في البحث عن القدوة وتجسيد الموقع الوسط.
وهذه الاستقامة في الأنبياء بمعنى العصمة، وفي الأمة الشاهدة والدعاة والعلماء الشهداء بمعنى العدالة وهي الالتزام بحدود اللّه تعالى في الحلال والحرام.
وهذا الشرط في الحقيقة ملحوظ في صلب معنى الشهادة، فلا نحتاج إلى أن نطيل الحديث عنه.
الشهادة في الآخرة
الشهادة من مشاهد القيامة:
من مشاهد القيامة الشهادة، وهو مشهد رهيب. ويتم هذا المشهد بحضور الأنبياء وسائر الشهداء من المؤمنين، ويتم القضاء بحضور الأنبياء والشهداء وبشهادتهم.
يقول تعالى: {وأشرقت الارضُ بنورِ ربّها ووُضع الكتابُ وجيء بالنبيّين والشهداءِ وقُضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون} [68].
ولماذا يتمّ القضاءُ بحضور الأنبياء والشهداء؟
لان هؤلاء الشهداء كانوا مقاييس للناس في الحق والباطل في الدنيا، في الآخرة يقاسون بهم ويحاسبون على كل انحراف عنهم، ويقضى بينهم بموجب هذا المقياس.
وبذلك يؤدّي الشهيد شهادته يوم القيامة.
ولان الأنبياء والشهداء كانوا مسؤولين في الدنيا عن تذكير الناس وتوجيههم ودعوتهم لذلك يشهدون يوم القيامة على الناس أنهم أدّوا ما عليهم من التذكير والدعوة، ويقطعون على الناس الحجّة.
ولان هؤلاء الشهداء كانوا مسؤولين عن توجيه هؤلاء الناس وتذكيرهم، والناس أمتهم وإخوانهم في الدين، لذلك يكونون أشفق عليهم من غيرهم في الشهادة.
إنّ الطالب يؤثر أن يؤدّي الامتحان لدى المعلّم الذي علّمه الدرس، فإنه في أغلب الأحوال أشفق عليه من غيره ممن لم يكن له دور في تعليمه.
حضور للشهود في الدنيا وأداء في الآخرة:
ذكرنا من قبل أن للشهادة مرحلتين: مرحلة التلقّي، ومرحلة الأداء.
ولابدّ في الأداء من التلقّي، ومن دون التلقّي لا يمكن الأداء، وفي كل تلقٍّ لابدّ من حضور، وما لم يكن الشاهد حاضراً عند الناس لا يتمكّن من أن يتلقّى أعمال الناس.
والقرآن الكريم صريح في أن للشهداء حضوراً في حياة الناس وأعمالهم، وأنهم يرون أعمال الناس.
يقول تعالى: {وقل اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون وستردّون إلى عالم الغيبِ والشهادة فينبئُكم بما كنتم تعملون} [69].
والشهود الذين يحضرون أعمال الناس في هذه الدنيا، بموجب هذه الآية الكريمة، ثلاثة: اللّه، ورسوله، والمؤمنون.
{وقل اعملوا فسيرى اللّهُ عملَكم ورسوله والمؤمنونَ}.
ويوم القيامة يكون الشاهد والقاضي والحاكم هو اللّه تعالى.
{وستُردّون إلى عالم الغيبِ والشهادة فينبئُكم بما كنتم تعملون}.
وفي موضع آخر يبين القرآن أنه يتحد يوم القيامة الشاهد والقاضي، وهذه المرّة ينهض الإنسان بنفسه بهاتين المهمّتين معاً يوم القيامة.
يقول تعالى: {وكلَّ إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرجُ له يومَ القيامةِ كتاباً يلقاه منشوراً * اقرأ كتابك كفى بنفسِكَ اليومَ عليك حسيباً}[70].
و (الطائر) عمل الإنسان، وكأنّ الوجه في التعبير عن العمل بـ (الطائر) أن العمل، بعد أن يقوم به صاحبه، ينفصل عن الإنسان ويستقلّ عنه ويفلت من قبضته، فإن العمل في قبضة الإنسان ما لم يؤدّه، فإذا فعله خرج عن قبضته. و(في عنقه) تعبير عن تثبيت عمل الإنسان في عهدته، وتسجيله عليه، واستحالة تخلّصه منه، وهذه هي مرحلة أداء الشهادة {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً}.
فيتّحد في هذه الآية الكريمة الشاهد والقاضي، فيشهد الإنسان على نفسه فيقرأ كتابه الذي ألزمه اللّه تعالى إياه في عنقه، دون أن يتمكّن من نفيه أو أن يشكّ فيه، أو يتخلّص منه، ويحاسب نفسه بنفسه، والمحاسبة هنا هي الحكم والإدانة.
الشهداء يوم القيامة هم الشفعاء:
ومن رحمة اللّه تعالى بالإنسان أن جعل من الشهداء عليه شفعاء بإذنه تعالى، ومهمة الشهيد الرقابة والشهادة، ولكن عندما يكون الشاهد لدى القاضي شفيعاً عنده بإذنه تثبت للشاهد عند القاضي نقطة بيضاء في حياته للتجاوز عن الصفحات السوداء من أعماله، وشفقة الشهيد وشفاعته من فضل رب العالمين ورحمته.
يقول تعالى:{ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعةَ إلاّ من شهد بالحقّ وهم يعلمون} [71].
ويوم القيامة لا يتكلّم أحد عن أحد إلاّ بإذن اللّه تعالى، وما لم يأذن اللّه تعالى لأحد في الكلام لا ينطق بكلمة في ذلك اليوم الرهيب.
يقول تعالى: {ربّ السمواتِ والأرضِ وما بينهما الرحمنِ لا يملكون منه خطاباً * يومَ يقومُ الروحُ والملائكةُ صفاً لا يتكلمون إلاّ من أذن له الرحمنُ وقال صواباً} [72].
وهو موقف عجيب يمتزج فيه الجلال والكبرياء بالرحمة {ربّ السمواتِ والأرضِ وما بينهما الرحمنِ لا يملكون منه خطاباً}. ويصطفّ الملائكة والروح في هذا اليوم الرهيب صفاً، ولا يتكلم منهم أحد بكلمة إلا من أذن له الرحمن.
يقول تعالى عن مشاهد هذا اليوم الرهيب الذي لا يحق لأحد التكلم فيه إلاّ بإذنه: {يوم يأتِ لا تكلّمُ نفسٌ إلاّ بإذنه فمنهم شقيٌّ وسعيد * فأما الذين شقوا فف النا لهم فيها زفيرٌ وشهيقٌ * خالدينَ فيها ما دامت السموات والأرضُ إلاّ ما شاء ربّك إن ربّك فعّال لما يُريد * وأما الذين سُعدوا ففي الجنةِ خالدين فيها ما دامت الستُ والأرضُ إلاّ ما شاء ربّك عطاءً غير مجذوذ} [73].
وفي هذا اليوم لا يتكلم أحد بين يدي اللّه تعالى إلاّ من أذن له الرحمن، ولهذا الإذن نظام وقانون ; وقانون هذا الإذن أن من شهد بالحق يحق له يومئذ أن يشهد ويشفع في عباد اللّه {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلاّ من شهدَ بالحقّ} [74].
من الشهداء من ينظر في الكتاب المرقوم:
ومن هؤلاء الشهداء من له حضور في أعمال الناس، وينظر في الكتاب المرقوم الذي يضبط ويسجل أعمال الأبرار.
يقول تعالى: {كلاّ إن كتابَ الأبرارِ لفي علّيين * وما أدراك ما علّيون * كتاب مرقومٌ * يشهده المقرّبون} [75].
إن الشهداء ينظرون في هذا الكتاب المرقوم الذي يضبط أعمال الأبرار، وهذا الكتاب ليس كسائر الكتب، إنما هو أعمال العباد، ينظر فيها المقربون. ورسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ينظر في أعمال أمّته ويشهدها، بضرورة النصوص الصريحة الواردة في هذا الموضوع.
يقول تعالى: {فكيف إذا جئنا من كلّ اُمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاءِ شهيداً}[76].
{ويومَ نبعثُ في كلّ اُمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء ونزّلنا عليكَ الكتابَ تبياناً لكل شيء وهُدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين} [77].
الهوامش:
ـــــــــــــــــــ
[1] المزمل: 19.
[2] نوح: 26 ـ 27.
[3] الأعراف: 172.
[4] البقرة: 256.
[5] المدثر:54 ـ 55.
[6] المزمل: 19.
[7] الأنعام: 90.
[8] هود: 120.
[9] الغاشية: 21.
[10] يس: 69.
[11] ص: 49.
[12] الحجر: 9.
[13] الأنبياء: 50.
[14] القمر: 17.
[15] الحاقة: 48.
[16] الإسراء: 41.
[17] طه: 1 ـ 3.
[18] ق: 8.
[19] الحاقة: 12.
[20] ق: 37.
[21] الذاريات: 55.
[22] الرعد: 28.
[23] الصافات: 13.
[24] الشعراء: 5.
[25] المدثر: 49.
[26] طه: 124.
[27] الروم: 29.
[28] الشورى: 14.
[29] الجاثية: 23.
[30] النمل: 14.
[31] الكهف: 28.
[32] طه: 124 ـ 127.
[33] الزخرف: 36.
[34] المؤمن: 33.
[35] النجم: 29.
[36] يوسف: 42.
[37] المجادلة: 19.
[38] المائدة: 91.
[39] الفرقان: 18.
[40] إبراهيم: 6.
[41] الأعراف: 130.
[42] الصف: 2 ـ 3.
[43] بحارالانوار2: 69.
[44] بحار الأنوار 2: 71.
[45] رجال الكشي: 487.
[46] وسائل الشيعة 4:830.
[47] النحل: 125.
[48] طه: 43 ـ 44.
[49] القصص: 55.
[50] العنكبوت: 46.
[51] فصلت: 33 ـ 34.
[52] النازعات: 17 ـ 19.
[53] البقرة: 191.
[54] النساء: 91.
[55] الأنفال: 57.
[56] الممتحنة: 6.
[57] الفرقان:20 ـ 21.
[58] الفرقان: 7.
[59] الأنعام: 9.
[60] نهج البلاغة ،الكلمات القصار.
[61] الأحزاب: 21.
[62] الممتحنة: 4.
[63] الممتحنة: 6.
[64] آل عمران: 140.
[65] البقرة: 214.
[66] العنكبوت: 69.
[67] المائدة: 44.
[68] الزمر: 69.
[69] التوبة: 105.
[70] الإسراء: 13 ـ 14.
[71] الزخرف: 86.
[72] النبأ: 37 ـ 38.
[73] هود: 105 ـ 108.
[74] الزخرف: 86.
[75] المطففين: 18 ـ 21.
[76] النساء: 41.
[77] النحل: 89.