تحليلٌ واستنتاج
الشيخ محسن غرويان(*)
مقدّمة([1]) ــــــ
يندر أن تجد بين العلماء والمفكّرين مَنْ يتمتَّع بذهنية ناقدة وفكر وقّاد. ولعلهم يعدّون بالأصابع حقّاً أولئك العلماء الذين يتَّصفون بأنّهم من ذوي التأمّل والتفكّر، ولهم نصيبٌ وافر من الدقة العقلية والحدّة الذهنية. الشهيد السيد محمد باقر الصدر& من جملة النجوم اللامعة التي تلألأت حقّاً بأبهى ما يكون في سماء العلوم الإلهية والمعارف الإسلامية. فقد كان سماحته فيلسوفاً دقيقاً، وفقيهاً عميقاً، ومتكلِّماً نقّاداً، وأصولياً وقّاداً. فقد جمع بين العقل والنقل بشكل رصين، وأوجد بين هذين المصدرين الأساسيين مناخاً جديداً طيّباً من التلاؤم والتوافق.
وللشهيد الصدر& مكانة خاصة ومرموقة في تاريخ الفكر الإسلامي. فقد كان مبتكراً وخلاّقاً في الأسلوب والنظم الأدبي والتأليف. وشأنه وشخصيته الأخلاقية أنموذجٌ وقدوةٌ للسالكين سبل السلوك الأخلاقي والمعنوي. وكان سلوكه السياسي، ومنهجه الاجتماعي، وحضوره الواضح في «جماعة العلماء» و«الحركة الإسلامية»، وإشرافه على قضايا العالم الإسلامي، كقضية فلسطين ولبنان وأفغانستان وغيرها، كلّها، تحكي عن هواجسه واهتماماته السياسية. ونضاله المتواصل الدؤوب في الثورة الإسلامية في العراق، ومساندته ووقوفه إلى جانب الإمام الخميني& والثورة الإسلامية في إيران، ونداءاته السياسية إلى الشعب العراقي، كلها، ترسم صورة رائعة لملامح شخصية ساحرة وفاعلة للمرجعية الدينية.
النظريات العلمية لسماحته في مجالات العلوم القرآنية، والفلسفة والمنطق، والسيرة والتاريخ، والعقائد، والرجال، والفقه، والأصول، وخاصة في المجالات الاقتصادية، تستحقّ المزيد من الدراسة والتأمّل بحقّ.
ومن الخصائص البارزة للسيد الشهيد محمد باقر الصدر& شموليته. فرؤيته الشاملة في تناول القضايا، وأساليبه الأصولية والعميقة في نقد النظريات وتحليلها، تنمّ عن عمق الفكر، والنطاق الواسع لدراساته وأبحاثه العلمية. وبنظرة سريعة على مصنفاته القيّمة، من قبيل: «الأسس المنطقية للاستقراء»، و«بحثٌ حول الولاية»، و«فلسفتنا»، و«موجزٌ في أصول الدين»، و«الفتاوى الواضحة»، والتأمل في مواضيع بكر، من قبيل: «حقّ الطاعة»، و«الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي»، و«موضوع العلم الإجمالي»، و«موضوع سيرة المتشرّعة وسيرة العقلاء»، و«نظرية الاحتمالات في الأصول»، و«موضوع القطع الذاتي والقطع الموضوعي في الاستقراء» وعشرات المسائل العلمية الأخرى، يرى المرءُ نفسه أمام بحرٍ عظيم وعميق من المعارف العلمية الرصينة والنقاط الفكرية البديعة.
إنّ إقامة المؤتمر العالمي للاحتفاء بشخصية السيد الشهيد الصدر& خطوةٌ حميدة ورائعة على طريق الترويج والتعريف بالفكر الإلهي ونشر المعارف الإسلامية. والمؤمَّل أن يُصار إلى الوقوف على الجوانب الفكرية لذلك الفقيه والفيلسوف النحرير، ودراستها بأفضل ما يكون، وأن يصار إلى دراسة وتوضيح آراء سماحته البديعة البكر على أيدي العلماء والمفكِّرين البارزين وأصحاب الرأي الثاقب.
توضيح نظرية الشهيد الصدر في مسلك «حق الطاعة» ــــــ
يعتبر الشهيد الصدر& خاصية الكشف من الخارج في موضوع حجّية القطع بأنّه قطع ذاتي. وكنتيجة لذلك يقول فيما بعد بخاصّية الكشف، وخاصية المحرِّك للقطع. والمراد بخاصية المحرّك أن الفرد القاطع عندما يحصل له القطع يتحرَّك نحو هذا القطع، ويصبح في صدد الوصول إلى هدفه وغرضه. فالشخص العطشان مثلاً عندما يقطع بوجود الماء في نقطة معينة يتحرَّك في ذلك الاتجاه طالباً الماء. وهذه الحركة تعدّ من الآثار المحرِّكة للقطع.
وبالإضافة لخاصّيتي الكاشفية والمحرّكية يقول الشهيد الصدر& بخاصّية ثالثة للقطع، تسمى «الحجّية»، فيقول: تعني حجّية القطع أنها تنجِّز التكليف على الشخص المكلَّف. والمراد بتنجُّز التكليف أنّ العقل يحكم بوجوب الامتثال، قائلاً بصحّة العذاب على مخالفة ذلك.
وتعتبر الخاصتين الأوليين من الخصائص الثلاثة المتقدّمة «للقطع» بديهيّتان، ولا تحتاجان إلى مزيد من التأمّل والدراسة، إلا أن خاصية «الحجّية» بحاجة إلى مزيد من البحث والدراسة.
بعض النقاط المهمة في باب حجّية القطع ــــــ
للشهيد الصدر& جملة من الملاحظات الرائعة عن الخاصّية الثالثة للقطع، أي«الحجّية»، نشير إليها في ما يلي:
النقطة الأولى ــــــ
إن «الحجّية» تعدّ أمراً لا ينطلق من داخل الكاشفية والمحرِّكية؛ بمعنى أن خاصية الكشف والتحريك لا يقتضيان الحجّية ذاتياً. ولذلك من الناحية المنطقية إقرار المرء بخاصيّتي الكاشفية والمحرّكية للقطع لا يعني ذلك أنّه قد أقرّ وجوباً وضمناً بخاصّية «الحجّية» كذلك. وبعبارة أخرى: إنْ اقترن القول بتلكم الخاصّيتين بإنكار الخاصية الثالثة، أي إنكار حجية القطع، فليس في ذلك تناقض من الناحية المنطقية.
النقطة الثانية ــــــ
القول الدارج والمشهور: إن الحجّية لازمٌ ذاتي للقطع، ونسبة الحجّية إلى القطع كنسبة الحرارة للنار. ومن هنا لا يستطيع حتّى المولى نفسه أن يسلب منها حجّية القطع.
يقول السيد الشهيد الصدر&: صحيحٌ أن الحجّية والتنجيز من لوازم القطع، ولكنّ السؤال هنا: أيُّ قطع هو المراد بهذا القطع؟ هل المراد القطع بتكليف «المولى» أم القطع بتكليف أيّ آمر؟ يرى الشهيد الصدر& أن المراد بهذا القطع هو القطع بتكليف «المولى» فقط، وليس بتكليف أيّ آمر؛ إذ إنه من الواضح البديهي أنّ تكليف أيّ آمر، غير المصداق الحقيقي «للمولى»، غير منجَّز على العبد، حتّى لو كان للعبد يقينٌ وقطع بذلك التكليف.
النقطة الثالثة ــــــ
يتَّضح لنا ممّا سبق أنّ التنجيز في الحقيقة من توابع القطع بتكليف «المولى» ـ بما هو مولى ـ؛ بمعنى أننا نفترض أوّلاً في موضوع التنجيز والحجّية أن الآمر هو شخص له المولوية، وثانياً: نفترض أننا نقطع بصدور التكليف من قبله. وعندئذ نستنتج أن هذا القطع هو حجّة علينا، والتكليف ناجز علينا.
معنى المولوية ومفهوم «حق الطاعة» ــــــ
بعد التأمّل في النقاط المتقدّمة يبرز أمامنا السؤال التالي: مَنْ هو «المولى»؟ وما هو المعنى الدقيق «للمولوية»؟ وكيف تؤدّي المولوية إلى التنجيز وحجّية القطع؟
يقول السيد الشهيد الصدر&: «المولى» هو مَنْ له حقّ الطاعة عقلاً؛ بمعنى أن العقل يحكم بالامتثال لأوامره ونواهيه، ومخالفته تجعل الإنسان يستحقّ العذاب. وهذا هو معنى «الحجية». وبناءً على ذلك فالحجية من لوازم مولوية الآمر. وتكمن في مفهوم مولوية المولى حجية القطع بتكليفه. وخلاصة القول: إننا عندما نقول «القطع بتكليف المولى حجّة» يعني ذلك أن تكليف المولى واجب الامتثال. وبعبارة أوضح: كأننا نقول: إن الامتثال القطعي بتكليف مَنْ يجب الامتثال له واجب. وهذا أمر واضح وبديهي، وقضية تشبه قضية (التوتولوجي / Totology).
يقول السيد الشهيد الصدر& : إن المحور الأصلي للبحث يدور هنا حول مفهوم المولوية وحقّ الطاعة، ولا بدّ لنا أن نرى مقدار دائرة مولوية المولى بالنسبة إلى المأمور والعبد وحدودها. هل أن حقّ المولوية وحقّ الطاعة في دائرة «القطع» فقط، أم أنّ حقّ الطاعة أوسع، ويشمل التكاليف الظنّية والمحتملة أيضاً، أم أنّ دائرة حقّ الطاعة أضيق من موارد القطع، ويشمل بعضاً من التكاليف القطعية فقط؟
الفرضيات الثلاثة في حقّ الطاعة ودائرة المولوية ــــــ
يقول السيد الشهيد الصر&: إنّ حدود مولوية المولى لها ثلاث فرضيات، هي:
أـ إن حدّ المولوية محدود بموارد القطع. وطبقاً لهذه الفرضية فالتنجيز والحجّية تخصّ حالات القطع بتكليف المولى.
ب ـ إن حدّ المولوية غير محدود بموارد القطع. وطبقاً لهذه الفرضية فالتنجيز والحجّية ثابتان في حالات القطع والظنّ والاحتمال الثلاثة.
ج ـ إن حدّ المولوية محدود بالبعض من موارد القطع. وطبقاً لهذه الفرضية فالتنجيز والحجّية ثابتان في بعض حالات القطع، مثل: القطع الحاصل من الكتاب والسنّة، وليس عن طريق الأدلّة العقلية.
تأسيس الأصل العقلي في حقّ الطاعة وحدّ المولوية ــــــ
للسيد الشهيد الصدر& موقف تأسيسي في موضوع المولوية وحقّ الطاعة، ويقول: ما تدركه عقولنا أن الله تبارك وتعالى يتمتَّع بمولوية غير محدودة، وليس بإمكان أيّ شيء أن يحدّ من دائرة مولويته وحقّ طاعته، إلاّ إذا أجاز هو ذلك في بعض الحالات. وبعبارة أخرى: إن لله تعالى حقّ المولوية والطاعة في جميع التكاليف التي نعرفها، سواء كانت قطعية، أم ظنّية، أم محتملة.
ومن خلال ما تقدَّم نتوصَّل في الحقيقة إلى أنّه لا بدّ من القول: إنّ التنجيز والحجّية من لوازم الانكشاف، وليس من لوازم القطع. وعليه كلّ انكشاف يعتبر ناجزاً، إلاّ عندما يسمح الشارع بعدم الاهتمام بالبعض من درجات الانكشاف.
النقطة المهمّة التي يجب الاهتمام بها برأي السيد الشهيد الصدر& هي أنه كلّما كانت درجة انكشاف التكليف أعلى ستكون درجة الطاعة أو قبح المخالفة للمولى أكثر. ومن هنا فإن القطع بالتكليف يتطلَّب مرتبة أعلى من التنجيز والطاعة، مقارنةً بالظنّ والاحتمال؛ لأن القطع هو أعلى مراتب الانكشاف.
المعيار والشرط للخروج من دائرة حقّ الطاعة ــــــ
يرى السيد الشهيد الصدر& أنه كلما حصل انكشافٌ في موضعٍ ما تحقَّق معه حقّ المولوية للمولى سبحانه وتعالى. وكما سبق فحقّ الطاعة ودائرة المولوية تشمل جميع التكاليف المقطوعة والظنية والمحتملة، وهناك حالة واحدة فقط لا يترتَّب فيها على العبد تكليف حقّ الطاعة، وذلك عندما يحصل للعبد القطع بعدم التكليف. وبناءً على ذلك لا يكفي عدم القطع للخروج من حقّ الطاعة ودائرة التكليف، بل إن القطع بعدم التكليف هو الشرط. والسرّ في هذه النقطة يكمن في أن الإنسان عندما يحصل لديه القطع بعدم التكليف لا يبقى لديه دافعٌ لأداء التكليف، ولذلك من المحال أن يحكم العقل بلزوم التحرُّك للتعبير عن الامتثال للتكليف في هذه الحالة.
مسلك «حقّ الطاعة» ومقارنته مع مسلك «قبح العقاب بلا بيان» ــــــ
وفقاً لمسلك «حقّ الطاعة» فالتنجيز ووجوب الامتثال ليسا من مختصّات القطع، بل إنه يشمل جميع أنواع الانكشاف. ولكنْ يوجد إلى جانب هذا المسلك مسلكٌ آخر لمجموعة من الأصوليين القائلين بأن التنجيز والحجّية هما من الخواصّ واللوازم الذاتية للقطع فقط. ولذلك إذا لم يحصل القطع والعلم في موضعٍ ما فلا يوجد تنجيزٌ؛ أي إذا لم يحصل القطع واليقين بتكليفٍ معين لا يصبح ناجزاً، ولا يصحّ العذاب على مخالفته.
ويرى الشهيد الصدر& أن المسلك الأخير يحدِّد في الحقيقة دائرة مولويّة المولى وسعة حقّ طاعته من البداية، في حين أنه لا يوجد وجهٌ معقول لهذه المحدوديّة.
ظهور مسلك حقّ الطاعة في مبحث «التجرّي» و«العلم الإجمالي» ــــــ
مَنْ يحصل له القطع بتكليفٍ معين، خلافاً للواقع، ويخالفه فهو متجرِّئ. وهناك خلافٌ بين الأصوليين حول ما إذا كان شخصٌ كهذا يستحقّ العذاب عقلاً. يقول السيد الشهيد الصدر&: إن حلّ هذه المسألة يكمن في أن نشخّص موضوع حقّ الطاعة بشكل دقيق. فلو كان موضوع حقّ الطاعة «التكليف المنكشف» فلا تكليف في الواقع في مسألة التجرّؤ لكي تتمّ مخالفته، ويؤدّي إلى العذاب. ولكنْ لو كان موضوع حقّ الطاعة نفس «انكشاف التكليف» فبما أن «الانكشاف» قد حصل للمتجرّئ ـ وإنْ لم يكن مطابقاً للواقع ـ فحقّ الطاعة ثابتٌ، ومخالفة المتجرّئ تستلزم العذاب.
يقول السيد الشهيد الصدر&: نرى أن حقّ الطاعة ناجمٌ عقلاً من لزوم احترام المولى، ووجوب مراعاة مسألة مولويته. ومن هنا لا فرق بين العاصي والمتجرّئ؛ لأن الاثنين قد تجاوزا حدود مولوية المولى. لذا يستحقّان العذاب على حدٍّ سواء.
وأمّا بخصوص تنجُّز العلم الإجمالي فيقول الشهيد الصدر& : لا شكّ في أن العلم بالجامع بين أطراف العلم الإجمالي ناجزٌ. كما أن الاحتمال في أيٍّ من الأطراف ناجزٌ؛ لأن العلم والاحتمال كلاهما من مصاديق الانكشاف. وكما قلنا فحقّ الطاعة وحدّ مولوية المولى يشمل جميع هذه الحالات.
وأصبح من الواضح نتيجة تأسيس الأساس في مسلك حقّ الطاعة، وفائدته في موضوعي «التجرّي» و«العلم الإجمالي» المهمّين.
القول بالإباحة برأي مسلك حقّ الطاعة ــــــ
من المواضيع المهمة والحسّاسة اليوم في فلسفة الأخلاق والكلام وعلم الإنسان ما يلي: هل يجب على الإنسان أن يعتبر أوّلاً وبالذات أنّ كلّ شيء مباحٌ له، ويقول بأصالة الإباحة في جميع الأمور والأشياء، أم أنّ الأصل هو الحظر والمنع؟ إنّ اتّخاذ أيٍّ من هذين المبدأين ينطوي على نتائج غاية في الأهمّية في الأخلاق والحقوق وعلم الإنسان.
وطبقاً لرأي السيد الشهيد الصدر& فالأصل هو «الحظر والمنع» في مسلك حقّ الطاعة؛ ذلك أن الكون بأسره هو ملك الله تعالى، والإنسان أوّلاً وبالذات هو «عبد» الله تكوينياً، وليس له حقّ التصرُّف في أيّ شيء، إلاّ إذا أُذِن له بذلك من قبل الله تعالى، طبقاً للقول القائل: «العبد وما في يده ملكٌ لمولاه». وطبقاً لرأي سماحته فإن حقّ مولوية المولى الحقيقي، أي الله تعالى، يسيطر على جميع شؤون وحالات وأطوار وأفعال الإنسان. ولذلك بمجرد انكشاف التكليف ـ ولو في حدّ الاحتمال ـ يعتبر التكليف ناجزاً على الإنسان.
الهوامش
(*) أستاذ الدراسات العليا في الحوزة العلميّة في الأصول والفلسفة؛ وأستاذٌ في مؤسّسة الإمام الخميني التي يشرف عليها الشيخ مصباح اليزدي. كانت له مساهمات مشهودة في نقد الحركة الإصلاحية في إيران، ولا سيما على صعيد الدراسات الفكريّة السياسيّة والفلسفيّة الجديدة. له عددٌ كبير من المؤلَّفات.
([1]) اعتمدتُ في كتابة هذه المقالة على كتاب «علم الأصول ـ الحلقة الثانية» بشكلٍ أساسي.