نقد إشكاليّات سروش
د. يحيى کبير(*)
مقدمة ـــــــ
(الاستقراء) مسألة شغلت أذهان المفكرين منذ قديم الزمان،خصوصاً الفلاسفة منهم، فقد اهتموا في تبيينه، وزاد هذا الاهتمام شدة عندما بذل عدد من التجريبيين جهوداً كبيرة في سبيل جعل الاستقراء يقينياً، مقابل الذين اعتبروا القياس هو الطريق الوحيد والمعتبر للاستنتاج.
يشهد تأريخ الفلسفة أنّ لسقراط السبق في ميدان الاستقراء، فهو يعد أول مفكر مال إلى الاستقراء، فمن خلال معرفة المصاديق و الجزئيات شرع بطريقته الديالكتيكية، إلى أن توصل في نهاية المطاف إلى تأسيس عدة تعاريف عامة. وهكذا سار أفلاطون على نفس النهج مقتدياً طريق أستاذه([1])، ولكنه لم يفت أبداً باعتبار الإدراكات الحسية والتجريبية([2]) . أما أرسطو ـ خلافاً لرأي أستاذه ـ فقد اعتبر أنّ الذي يفيد اليقين من الاستنتاجات المنطقية هو القياس فقط، ورجّح جميع الحجج، ومن جملتها (الاستقراء)، على القياس، وهذا هو مبنى عموم الحكماء الشرقيين والغربيين، حيث جعلوا هذه الطريقة أصلاً مسلماً عندهم، أمّا رسانس، فكان أول منتقد لجعل الاستقراء قياسياً، و بيّن الخلل في ذلك، ثم انتهى إلى ترميمه و تعديله. و ما سنقدّمه في هذه المقالة هو تبيين و تحليل مختصر و دقيق للمنهج العلمي للمفكر الشهيد السيد محمد باقر الصدر، في باب الاستقراء و إشكالاته مستمدين من الله العون والتوفيق.
اختلاف نظرية الاستقراء بين الرياضيات و المنطق ـــــــ
هناك اختلاف بين الاستقراء المنطقي أو الفلسفي،والاستقراء في علم الرياضيات. فالاستقراء المنطقي هو سير من الخاص إلى العام، مع البحث في المصاديق والجزئيات لأجل تحصيل الكليات. أما الاستقراء الرياضي فهو أحد الأساليب الرئيسة في إثبات قضايا الرياضيات، وصدق نتيجتها قطعاً ويقيناً، فلا يمكن قبول مقدمتين في الاستقراء الرياضي دون صدق النتيجة، فذلك يؤدي إلى التناقض، فهو في الحقيقة نوع من القياس المنطقي. و مثال ذلك: إذا أردنا أن نثبت خصوصية ما لجميع الأعداد الطبيعية، فعلينا أن نبحث أولاً هل أنّ للصفر خصوصية إكس؟
ويسمى هذا، المرحلة الرئيسة في الاستقراء، حينها نفرض أنّ (س) هو رمز للأعداد المفترضة التي تمتلك أيضاً خصوصية إكس، وهذه المقدمة تدعى فرضية الاستقراء، حين ذلك إذا كان 1 + س، لـه خصوصية إكس أيضاً، نستنتج أنّ جميع الأعداد الطبيعية تمتلك خصوصية إكس، فجملة (1 + س التي تمتلك خصوصية إكس أيضاً) تعتبر مرحلة الاستقراء، لهذا فإنّ الاستقراء الرياضي يتكون من أربعة أركان وهي: المرحلة الرئيسة، وفرضية الاستقراء، ومرحلة الاستقراء، والنتيجة([3]).
بيان الاستقراء ـــــــ
إنّ الفكر البشري يعتمد على نوعين من الاستدلال:
الأول ـ عن طريق الاستنباط والقياس: وهو كل استدلال لا تكبر نتيجته المقدمات التي منها ذلك الاستدلال.
والثاني ـ الاستدلال الذي يكون من خلال الاستقراء: وهو كل استدلال تجيء النتيجة فيه أكبر من المقدمات. فالدليل الاستنباطي يتكئ على أصل، وهو أنّ نفي النتيجة الحاصلة يستلزم التناقض، أمّا السير من الخاص إلى العام، والاستدلال الاستقرائي فلا يبتني على ذلك. فـقابلية الانبساط بالحرارة لا تصدق إلاّ في الأجسام الحديدية التي رضخت للتجربة، فالحكم الكلي هنا قابل للخطأ، وهذه الفقرة هي أهمّ ثغرة في الدليل الاستقرائي الذي يخرجه من الطريقة المنطقية. فإنّ هذه المشكلة الرئيسة هي من المشاكل القديمة بين الفلاسفة والمناطقة الإسلاميين والغربيين، وهي من المسائل المفصلية في فلسفة العلم.
إنّ سقم مناهج منطق العقل الأرسطي، و منطق التجربة لجون ستيوارت ميل، وفرانسيس بيكون، و ديفيد هيوم، و منطق الاحتمالات، حتى نصل إلى منطق فلسفة العلوم لكارل بوبر، ولاكاتوش، وفايرابند، وكواين وغيرهم، الذين انتهت بهم إلى نتائج غير سليمة أدى بالبعض منهم إلى الاعتراف و التصريح أيضاً بأنّ الطريقة التي تسمّى بالاستقراء ليست إلاّ خرافة، و بهذا الدليل فإنّ كل ما صدق عليه ذلك فهو غير معتبر، من هنا فهو لا يحمل تبريراً عقلائياً ([4]).
وهذا راسل يقول في مسألة الاستقراء: كلما أرى أمرين مقترنين كراراً، لا أراهما يفترقان على الدوام، فهل و قوع أحدهما في أمر حادث يعد مجوزاً لوقوع الآخر؟ و جوابنا عن هذا السؤال هو الذي يضفي اعتباراً لجميع ما ننتظر و قوعه في المستقبل. (راسل، 1988، ص 87)،
و جاء كارناب يقول أيضاً من خلال بيان أهمية القوانين العلمية في الحياة العلمية و العملية للإنسان: «كيف يمكننا الوصول إلى هذه القوانين؟ و ما هو المعيار في مصادقة أي قانون و تبريره؟ ما الذي يوصلنا إلى تبرير القوانين المبينة لترتيب نظام الطبيعة من خلال النتائج و المشاهدات المباشرة للحوادث الخاصة و الاستناد إليها؟ هذا هو السؤال الذي يسمى في الاصطلاح الخامس (بمسألة الاستقراء) المعروفة». (كارناب، 1984، ص 41).
أما بوبر فيرى في منطق الاكتشاف العلمي،أنّّ مشكلة الاستقراء تكمن في: «أنّ المتداول هو إطلاق الاستقراء على استنتاج أو استنباط معين، عندما ننتقل به من المصاديق الجزئية الخاصة التي أوصلتنا إلى مشاهدات و نتائج معينة إلى المصاديق الكلية العامة، كالفرضيات و النظريات المعينة، و هذا ناء عن الصحّة منطقياً، فمن أين لنا الحق أن نستنبط كلياً من الجزئيات و إن كثرت، و ذلك لاحتمال عدم صحة مثل هذه النتائج … فإنّ (مسألة الاستقراء) سميت كذلك؛ لأنّها في صدد إثبات صحة الاستنباط الاستقرائي، أو قبول صحته بشروط»([5]) .
منهج الشهيد الصدر في دراسة الاستقراء ـــــــ
كتاب الأسس المنطقية للاستقراء، كتاب يحتوي على بحوث جديدة في الاستقراء، و يُعنى بكشف الأُسس المنطقية المشتركة بين العلوم الطبيعية، والإيمان بالله. و يتضمن أربعة أقسام، القسم الأول يبحث فيه عن الاستقراء والمذهب العقلي للمعرفة في المنطق الأرسطي، و بيان ضعف هذا المذهب، وكيفية حل مشكلاته. والقسم الثاني يبحث فيه عن الاستقراء و المذاهب التجريبية، و انتهى بنتيجة، وهي عدم قدرة المذهب التجريبي على وضع أساس للدليل الاستقرائي.
و القسم الثالث وهو الذي ابتنى الكتاب عليه، و قد أجاد في تفسير الدليل الاستقرائي القائم على أساس قانون الاحتمال، و بيان نظرية الاحتمال و التوالد الموضوعي و التوالد الذاتي.
أما القسم الرابع فهو في تبيين أُصول النظريات الطبيعية التي ابتنيت على أساس النتائج الحاصلة في البحوث السالفة، وتفسير خاص للتجربيات والحدسيات والمتواترات والمحسوسات، و المصادرات والفطريات مع الأخذ بالنظر التوالد الذاتي.
وقد و جّه الشهيد الصدر في كتابه الأُسس المنطقية للاستقراء نقداً إلى بعض أُسس منطق الاحتمالات و فلسفة العلم، حتى وصل إلى طرح طريقة التوالد الذاتي، يقول عندما يصل إلى تقسيم الاستقراء إلى كامل وناقص في منهج المنطق الأرسطي: «إنّ الاستقراء في مفهومنا لا يمكن أن يقسم إلى استقراء ناقص؛ لأننا نريد بالاستقراء كل استدلال يسير من الخاص إلى العام، و الاستقراء الكامل لا يسير من الخاص إلى العام، بل تأتي النتيجة فيه مساوية لمقدماتها، وعلى هذا الأساس، نعرّف الاستقراء بأنّه تعبير عام عن كل استدلال يقوم على أسس تعدد الحالات والأفراد»([6]) .
ولا يعتبر الشهيد الصدر أنّ الاستقراء الكامل هو الموضوع الرئيس لكتابه، ولكنه يشير إليه إجمالاً، فأولاً إنّ الاستقراء على خلاف ادّعاء أرسطو لا يبتني على أصل التناقض، بمعنى أنه إذا كانت المقدمات مقبولة، و النتيجة مرفوضة فلا تناقض في البين. إذ لا نستكشف رابطة التلازم السببية بين المقدمات والنتائج.
وثانياً إنّ الاستقراء الكامل لا يمكن أن يتوفر في القضايا الكلية في العلوم؛ لأنّ استقراء الأفراد مهما كان شاملاً ومستوعباً لا يمتد خارج نطاق الأفراد التي وجدت فعلاً للمعنى الكلي. نعم، إنّ الشهيد الصدر يجيب عن الإشكال المعروف وهو أنّ الاستقراء الكامل لا يأتي بأمر جديد، ويعترف بأنّه يأتي بأمر جديد. (الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء، 1402 هـ،: 17 – 24).
ويقول الشهيد الصدر في بيان مشكلة الاستقراء الناقص: «إنّ الاستدلال الاستقرائي أو السير من الخاص إلى العام، ومشاهدة الحرارة والتمدد في الحديد، والاقتران المستمر بينهما، في تجاربنا العديدة أنّ الحرارة هي السبب في التمدد، فيحق لنا تعميم هذا الحكم، و بعبارة أُخرى يمكننا أن نصدر فتوى بالانتقال من التقارن إلى التلازم، و من التلازم إلى التعميم، مع ملاحظة ما يلي:
أولاً: لا بدّ من إثبات أنّ لكل ظاهرة طبيعية سبباً (السببية العامة).
ثانياً: إثبات أنّ سبب التمدد في الحديد هو الحرارة المجاورة له، لا بسبب آخر، أو كان مجرد صدفة.
ثالثاً: ثبوت أنّ هذا السبب سوف يظل في المستقبل سبباً لذلك»([7]).
للإجابة عن هذه المسألة تصدّى القدماء من الفلاسفة و العقليين التجريبيين وغيرهم، و إن اختلفت إجاباتهم، و التي سوف نتعرض لها لاحقاً.
1ـ الاتجاه العقلي ونقد السيد الصدر ـــــــ
دأب العقليون والتجريبيون من الفلاسفة لحل مسألة الاستقراء، وتبديل الظن الحاصل من الاستقراء باليقين المنطقي، فاعتبر أرسطو وأتباعه في مذهب المشائين أنّ الطريق الأوحد للوصول إلى الحقيقة، واليقين هو طريقة القياس، ولا حجة لطريقة التمثيل والاستقراء الناقص([8]).
من هنا بدلوا الاستقراء الناقص بالاستعانة بالقياس المنطقي إلى التجربة واعتبار التجربيات في المنطق بعنوان البديهيات الثانوية، وعبّر الفارابي بخصوص ذلك: «إنّ الفرق بينها (التجربة) وبين الاستقراء هو أنّ الاستقراء هو ما لم يحصل عنه اليقين الضروري بالحكم الكلي، والتجربة هي ما يحصل عنها اليقين بالحكم الكلي<([9]).
إذن، ففلاسفة المشاء ينظرون إلى القياس باعتباره الطريق إلى كسب اليقين ولا ثمرة عملية بالنسبة للاستقراء عندهم.
ويقول ابن سينا: أما الاستقراء فهو الحكم على كلي بما وجد في جزئياته الكثيرة، مثل حكمنا بأنّ كل حيوان يحرك عند المضغ فكه الأسفل، استقراء للناس والدواب والطير، والاستقراء غير موجب للعلم الصحيح، فإنه ربما كان ما لم يستقرأ بخلاف ما استقرئ، مثل التمساح في مثالنا، بل ربما كان المختلف فيه و المطلوب بخلافه حكمه حكم جميع ما سواه، و أمّا القياس فهو العمدة([10]) .
ويقول الشيخ ابن سينا في كتابه (موسوعة علائي) ما معناه: إنّ المجربات هي محصول الحس و العقل([11])، و يصرح في برهان الشفاء أنّ التجربة لا تفيد العلم و إنّْ كثرت المشاهدات، بل إنّها تؤدّي إلى اليقين مع اقترانها بالقياس([12])
أما المناطقة و الاتجاه العقلي المشائي فإنهم استعانوا بقواعد عدة لأجل الحصول على اليقين للاستقراء الناقص، من قبيل: (الاتفاقي لا يكون دائماً و لا أكثرياً) أو (حكم الأمثال فيما يجوز، و فيما لا يجوز واحد)، أو (العلة لا يتخلف عنها معلولها أبداً).
ولقد تمسك الشهيد مطهري لأجل نفي الصدفة المطلقة بأصل العلية، ولأجل نفي الصدفة النسبية بتغيير الأوضاع والظروف، ولأجل التعميم بأصل السنخية. (الشيخ مطهري، 1987م 3: 361 – 377، الشيخ مطهري 3: 103 – 104).
أما الشهيد الصدر فقد طرح سبعة اعتراضات على قانون الصدفة النسبية لأرسطو، من جملتها إذا صدق أنّ الصدفة النسبية لا تتكرر في عشر تجارب متتابعة، صدقت القضية الشرطية القائلة: لو وجدت الصدفة النسبية في تسع تجارب فسوف لن توجد في التجربة العاشرة حتماً، علماً بأنّ أتباع أرسطو لا يقبلون بذلك، والحال لو كان علماً عقلياً لأدّى إلى الاعتقاد ـ بنفس الدرجة ـ بالقضية الشرطية الملازمة. (الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء 64 – 65). و أيضاً إذا شوهد الاقتران بين (أ) و (ب) من خلال التجربة، فلا يوجد أي دليل على و جوب كون (أ) علة لـ (ب)، لاحتمال وجود سبب يكون علة، و نحن في غفلة عنه. (الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء 63). إذن الصحيح أنّ العلم بأنّ الصدفة لا توجد مرة واحدة على الأقل: هو ناتج جمع عدد من الاحتمالات (الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء 62).
وخلاصة القول: إنّ قاعدة الصدفة النسبية لأرسطو ليست علماً عقلياً، وما قبل التجربة، فلا يعدو في هذه الحالة، إمّا أن يكون علماً أولياً أو ثانوياً، وعلى كلا القسمين لا بد أن يكون ثبوت المحمول للموضوع فيها ضرورياً، وهذه الضرورة إمّا ذاتية، فالقضية أولية، وإن كانت الضرورة ناشئة عن سبب، فالقضية قضية ثانوية، ولا معنى لهما،لأنّ مفاد القضية المفروضة عدم وقوع الصدفة، لا إنّ عدم و قوعها ضروري. (الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء: 59 – 60).
والإشكال الآخر للشهيد الصدر على أرسطو هو أنّ الأخير كان خاطئاً أيضاً في أصل احتياج الدليل الاستقرائي إلى الأصول المسلمة الثلاثة، و يبين في نهاية كتابه الأُسس المنطقية للاستقراء، إمكانية تعميم نتيجة الاستقراء بدون الحاجة إلى الأُصول المسلمة المذكورة، و هي الأُصول المسلمة الثلاثة لأرسطو التي ثبتت في ضوء الاستقراء.
2ـ الاتجاه التجريبي ونقد الشهيد الصدر ـــــــ
المذهب التجريبي هو الاتجاه الذي يؤمن بأنّ التجربة والحس هما الأساس العام والمصدر الرئيس لكل ألوان المعرفة، وينكر وجود أي معرفة قبلية مستقلة عن الحس والتجربة. وقد تقدم في بحث الاستقراء أننا نواجه ثلاث مشاكل رئيسة:
الأُولى: لماذا ينبغي الفرض أنّ لـ (ب) سبباً وعلّة، ونستبعد احتمال الصدفة المطلقة؟
الثانية: إذا كان لـ (ب) سبب، فلماذا يجب أن نفترض أن سببه هو (أ) الذي اقترن بـ (ب) و نستبعد احتمال الصدفة النسبية لـ (ب)؟
الثالثة: إذا استطعنا بواسطة الاستقراء أن نصدر حكماً قطعياً هو أن (أ) كان هو السبب لـ (ب) فكيف نستطيع أن نعمم النتيجة؟ (الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء: 69)
لقد استقطبت المشكلتان الأولى والثالثة اهتمام المذهب التجريبي، الذي لـه ثلاثة اتجاهات لحل مسألة الاستقراء، و هي: اليقين، والترجيح، والعادة الذهنية.
1ـ 2ـ الاتجاه اليقيني عند جون ستيوارت ميل ـــــــ
اتجاه اليقين هو إمكان الوصول إلى اليقين عن طريق الدليل الاستقرائي، ويعتبر الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل من كبار روّاد هذه النظرية، إذ يؤمن بحاجة الاستقراء إلى مبدأ السببية في حل المشكلتين الأولى والثالثة، متفقاً مع المنطق الأرسطي. نعم، يعتقد جون ستيوارت ميل أنّ مبدأ السببية هو نتيجة للاستقراء العام لكل ما حولنا من ظواهر الطبيعة، بل إنه لا يشير في تفسير السببية إلى مفاهيم الإيجاد و التأثير والضرورة؛ لأنّ هذه العناصر ليست داخلة ضمن الحسّ والتجربة، فالسببية في المفهوم التجريبي لها لا بد أن يكون فيها بين الظاهرتين تتابع زمني مطرد.
من هنا يعتقد الشهيد الصدر ـ بالأخذ بمباحث القسم الثالث من الكتاب والنتائج الحاصلة من القسم الرابع ـ أنّ الدليل الاستقرائي بمبادئه وقضاياه الأولية القبلية ليس بحاجة إلى ترجيح التعميم (الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء: 73).
والأمر الآخر أنّ قضايا السببية تستنتج من الاستقراء نفسه، ولا يعني هذا أنّا نرفض المصدر العقلي القبلي لهذه القضايا، بل يعني إنا حتى لو استبعدنا العلم العقلي القبلي لهذه القضايا، يظل بالإمكان إثبات قضايا السببية عن طريق الاستقراء، فالدليل الاستقرائي قادر بمفرده ـ وبدون افتراض الأُصول الأولية مثل القضايا السببية ـ على إثبات التعميم، وبعدها إثبات السببية عن طريق الاستقراء (الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء: 74).
وقد لجأ جون ستيوارت ميل في مواجهة المشكلة الثانية للاستقراء إلى أربعة طرق وهي: الاتفاق والاختلاف والتلازم في التغيير وطريقة البواقي([13]) . كما هو حال المنطق الأرسطي في القضية الأولية «إنّ الاتفاق لا يكون دائمياً و لا أكثرياً»، محاولة لنفي الصدفة النسبية، و لكن هذه الطرق الأربعة غير قادرة على نفي احتمال و جود (ت) وإثبات سببية (أ) لـ (ب)، و ذلك لأنّ هذا الاحتمال مهما كان ضئيلاً لا يصل إلى الصفر بحال من الأحوال([14]).
2ـ 2ـ الاتجاه الترجيحي وبرتراند راسل ـــــــ
يعتقد اتجاه ترجيح الاستقراء أنّ التعميم الاستقرائي يحتاج إلى أُصول أولية، ولكن إثبات تلك الأُصول الأولية غير ممكن لا بالطريقة التي حاولها المذهب العقلي، ولا بطريقة الاتجاه السابق للمذهب التجريبي، فلا يتاح لأي استدلال استقرائي أن يؤدّي إلى درجة اليقين، وإنما يقتصر دوره على تنمية احتمال القضية الاستقرائية، من أجل ذلك يرى راسل ـ الفيلسوف الغربي المعاصر ـ أنّ تعميم الاستقراء بأصل أوّلي وعقلي لا يحتاج إلى الحس والتجربة، (فما يصدق على بعض أفراد النوع الواحد، يصدق كذلك على بقية أفراده)([15]).
تقول نظرية راسل: إن مبدأ الاستقراء قائم على أساس غير تجريبي، وإنّ الظنون الناشئة من الاستقراء تبتني على أساس الاحتمالات، وإنّ الصدق الاحتمالي لا الصدق اليقيني هو حاصل ذلك الاستقراء. هذه النظرية ينقدها السيد الشهيد الصدر بقوله:
أولاً: إنّ الدليل الاستقرائي يؤدي إلى العلم بالتعميم، لا نعني بذلك تحويل الاستقراء إلى استنباط، وسير من العام إلى الخاص، بل هو نمط آخر من الاستدلال لا يدخل في نطاق الاستنباط، وهذا الاستدلال يسير من الخاص إلى العام، دون الاستعانة بأي مبادئ عقلية قبلية … فمن العبث أن نحاول الحصول على مبرر من هذا النوع للتعميم الاستقرائي الذي يسير في الاستدلال من الخاص إلى العام، ولسنا بحاجة إلى إثبات هذا المبرر، لأنّنا لا نزعم للقضية الاستقرائية يقيناً منطقياً، وإنما نؤمن في المجال الاستقرائي باليقين الموضوعي فلا حاجة إلى مبررات منطقية مستمدة من مبدأ عدم التناقض([16]).
ثانياً: إنّ حساب الاحتمال لا يمكن أن يؤدي إلى ازدياد قيمة احتمال القضية الاستقرائية واقترابه من اليقين، إلاّ إذا أدّى في نفس الوقت وبنفس الدرجة، إلى ترجيح فرضية السببية بمفهومها العقلي الذي يستبطن الضرورة، والمنطق التجريبي يرفض الاعتراف بالمفهوم العقلي للسببية. وليعلم أتباع المذهب التجريبي أنّ هذا الفرض عاجز حتى عن التفسير الظني للاستقراء (الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء: 87 – 88).
3ـ 2ـ الاتجاه النفسي (السيكولوجي) وديفيد هيوم ـــــــ
إنّ الاتجاه النفسي في تفسير الدليل الاستقرائي، هو اتجاه يؤدّي إلى تجريد الاستدلال الاستقرائي من أي قيمة موضوعية، ويربط الاعتقاد الاستقرائي بالعادة، وذلك لأنّ تعميم الحوادث الناشئة من العلة والمعلول هي في الواقع مرتبطة بالحسّ والتجربة، والمشاهدة المتكررة للشيء، كاحتراق الأشياء بالنار مثلاً، وهكذا يرى هيوم أنّ شعورنا باستعداد الذهن للانتقال من العلة إلى المعلول هو انطباع نتج عن تكرر تلك الأمثلة، هذه هي طبيعة الضرورة التي تمثلها فكرة العلة والمعلول، فهي شيء قائم في الذهن لا في الأشياء.
ولو لم تكن هذه العادة والنزعة هي الأساس لفكرتنا عن العلة والمعلول، ولو كانت فكرتنا عن العلة والمعلول تعكس الواقع الموضوعي لا انطباعنا النفسي الذاتي فحسب، لكفى مثال واحد في الاستدلال؛ لأنه لا يختلف في و جه من و جوهه عن كل الأمثلة الأخرى التي يمكن أن نضيفها إليه.
وقد استعرض الشهيد الصدر في هذا الفصل آراء هيوم النفسية وتقسيمه للإدراكات إلى انطباعات وتصورات، وتفسيره لأصل العلية، ونقد آراءه وقيّمها،وقد اتفق مع هيوم على أنّ مبدأ العلية لا يمكن استنباطه من مبدأ عدم التناقض، حيث يقول: لا يوجد أي تناقض منطقي في افتراض حادثة بدون سبب، لأنّ مفهوم الحادثة لا يستبطن ذاتياً فكرة السبب([17]).
ثم يقول الشهيد الصدر: وهناك محاولتان تذكران عادة في بحوث الفلاسفة العقليين الأرسطيين للاستدلال العقلي على مبدأ العلية، وهما أنّ كل حادثة ممكنة الوجود، لا بد أن يرجح وجودها على عدمها، وأيضاً، أنّ كل ماهية ممكنة بذاتها لا يمكن أن تجب إلاّ بسبب خارجي عن ذاتها، فهما دليلان عقليان على مبدأ العلية عندهم.
و يشكل على هذين الدليلين بأنّ فيهما مصادرة للمطلوب، و ذلك لأنّ كليهما مبتنيان على أصل العلية. نعم، قد خالف الشهيد الصدر هيوم في ناحيتين، إحداهما، خالفه في عدم قبول مبدأ العلية، بعنوان أنها قضية عقلية قبلية، والثانية أنّ هيوم يعتقد عدم إمكان الاستدلال بالتجربة أيضاً على مبدأ العلية، و يخالفه الشهيد الصدر في ذلك([18]).
يرى هيوم أنّ منشأ كل فكرة بسيطة هي نسخة من انطباع، و أنّ العلية فاقدة للانطباع، فلا تصور للعلية على أنّها من معاني الضرورة، بل إنّ تكرار اقتران الحادثتين في الذهن هو الحاصل، فيعتقد أنّ رابطة العلية هي رابطة نفسية، لا أنها رابطة حقيقية واقعية([19])، أما الشهيد الصدر فيرى أنّ العلية واقعية حقيقية، ويمكن على هذا الأساس إثبات أصل العلية من خلال التجربة والخبرة الحسية([20]).
وخلاصة استدلال هيوم هو أنّ التمييز في مجال الاستدلال على العلية بين مثال واحد وأمثلة متعددة، لا يمكن أن يفسّر إلاّ على أساس ما يكونه تكرار الأمثلة من عادة ذهنية، يعجز المثال الواحد عن إيجادها. ولكن حينما يتكرر اقتران (أ) و (ب) يضعف احتمال تكرر الصدفة في كل تلك الأمثلة، أمّا إذا لاحظنا في مرة واحدة فهذا لا ينفي احتمال الصدفة. و أنّ قانون الاحتمالات في تخفيض قيمة احتمال الصدفة النسبية له دور أساسي([21]).
و في نهاية الفصل يبين الشهيد الصدر الفرق بين الاستدلال الاستقرائي و قانون المنبه الشرطي، الذي زعم هيوم أنهما أمر واحد([22])..
الاتجاه الذاتي للشهيد الصدر ـــــــ
إلى جانب دراسة الاستقراء على أساس المذهب العقلي والمذهب التجريبي، هناك اتجاه جديد في نظرية المعرفة يسمّى (المذهب الذاتي) الذي فيه نقطتان رئيستان في تفسير المعرفة البشرية. فالتجريبيون يؤمنون بأنّ التجربة، والخبرة الحسية هي المصدر الوحيد للمعرفة، فلا توجد لدى الإنسان أي معرفة قبلية وعقلية. والعقليون يؤمنون بوجود قضايا ومعارف مستقلة عن الحس والتجربة. ويتفق في هذه النقطة المذهب الذاتي والمذهب العقلي.
والاختلاف الأساسي بين المذهب العقلي مع المذهب الذاتي، في أنّ المذهب العقلي لا يعترف عادة إلاّ بطريقة واحدة لنمو المعرفة والمعلومات، وهي طريقة التوالد الموضوعي والحقيقي، بينما يرى المذهب الذاتي علاوة على التوالد الموضوعي، أنّ هناك طريقة أُخرى تسمّى التوالد الذاتي والشخصي.
التوالد الموضوعي والحقيقي هو الأساس في كل استنتاج قياسي، القائم على ملازمة المقولات المولّدة لمعرفة جديدة، ففي مثال: خالد إنسان، وكل إنسان فانٍ، يكون >خالد< فانٍ. أما التوالد الذاتي والشخصي فهو عبارة عن توالد معرفي من معرفة أخرى مع عدم وجود التلازم الحقيقي بينهما، فالمذهب الذاتي يختلف عن المنطق الأرسطي في اعتقاده أن عمدة العلوم والمعارف مستنتجة من معارف أولية بالطريقة الذاتية الشخصية، لا التوالد الحقيقي.
فهناك في رأي المذهب الذاتي أنّ المعارف البشرية على ثلاثة أنواع:
1- المعارف الأولية والعقلية القبلية، وهي الأساس للمعرفة البشرية، مثل مبدأ عدم التناقض.
2- المعارف الثانوية المستنتجة من معارف أولية بطريقة التوالد الحقيقي، مثل المسائل النظرية الهندسية الإقليدية.
3- المعارف الثانوية المستنتجة من المعارف الأولية بطريقة التوالد الذاتي والشخصي، مثل التعميمات الاستقرائية المستنتجة من مجموعة أمثلة وشواهد لا يوجد أي تلازم بينها، فالعلم بالتعميم ينشأ عن طريق العلم بتلك الأمثلة، والشواهد على أساس التوالد الذاتي.
إذن، كما قلنا في أول الكتاب إنّ المحاولة التي قام بها المنطق الأرسطي لإعطاء الاستدلال الاستقرائي شكلاً قياسياً لكي يقوم على أساس التوالد الحقيقي، لم تكن ناجحة، ولا بد من الأخذ بطريقة التوالد الذاتي في تعميم الاستقراء والاستدلال به، ولكن هذا لا يعني فسح المجال لاستنتاج أي قضية من أي قضية، فنستنتج مثلاً أنّ >زيداً< قد مات من >إنّ الشمس طالعة<.
وكل معرفة ثانوية يحصل عليها العقل على أساس التوالد الذاتي تمرّ بمرحلتين:
1- مرحلة التوالد الحقيقي، في هذه المرحلة تبدأ المعرفة الاحتمالية وينمو الاحتمال باستمرار، ولا تنقلب إلى يقين أبداً.
2- ثم تبدأ مرحلة التوالد الذاتي.
لذا، فإنّ الشهيد الصدر يُدلي بنظريته ويبينها في فصلين (تفسير الدليل الاستقرائي في مرحلة التوالد الموضوعي والواقعي) و(تفسير الدليل الاستقرائي في مرحلة التوالد الذاتي). (الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء: ص 123- 131)
أولاً ـ تفسير الدليل الاستقرائي في مرحلة التوالد الموضوعي
إنّ التوالد الموضوعي في مرحلته الأولى يكون دليلاً استنباطياً، يسير وفقاً للتوالد الموضوعي،ولكنه لا يستطيع أن يوصل المعرفة إلي مستوى اليقين، وإنما يقتصر على منحنا أكبر درجة من الاحتمال، لكي نصل بعد ذلك إلى مستوى اليقين بواسطة المرحلة الثانية.
ثم بعد ذلك يبدأ الشهيد الصدر بدراسة نظرية الاحتمال والبديهيات وعمليات الحساب فيها، ويناقش جميع أنواع الاحتمالات والتعريف الأصيل لها، والاحتمال القائم على التكرار، وتعريف راسل ونقده ([23]).
إنّ حساب الاحتمالات يشكل القسم الكبير من الرياضيات، و هو كالهندسة يبتني على أُصول بديهية، ومن خلال الحسابات الرياضية يقدر ميزان الاحتمال في الحوادث، وهناك مذاهب مختلفة في حساب الاحتمالات، كمذهب لابلاس الكلاسيكي، ومذهب فون ميزر التواتري، و هناك من تبنى نظريات على مستوى الأشخاص، مثل رايشنباخ، و كارناب وكينز أيضاً.
واكتفى الشهيد الصدر بالاستفادة من النظرية الكلاسيكية والنظرية التواترية، ومن كتاب المنطق الوضعي لزكي نجيب محمود. والاحتمال في تعريفه الكلاسيكي عبارة عن تقسيم عدد الاحتمالات على كل الاحتمالات المتساوية الإمكان([24]). وهذا التعريف يبتني على العلم من جهة وعلى الجهل من جهة أخرى، وهناك إشكالان في منطق الاحتمالات، هما عدم الكفاية، وعدم الشمولية؛ لأنّ:
1) تعريف الاحتمال مستمد من الاحتمال؛ لأن الإمكان في متساوي الإمكان بمعنى الاحتمال.
2) جميع وجوه الاحتمال غير متساوية؛ لأّن بعض المصاديق يكون الاحتمال فيها أكثر، كالنقود الموزونة و غير الموزونة، ففي حالة رميها و ظهور وجه الصورة أو ظهور وجه الكتابة، هما احتمالان غير متساويين في الظهور.
إن تعريف تواتر الاحتمال قائم على أساس التكرار و التحقق الخارجي، لا الإمكان المنطقي وموضوعه تكرر الحوادث، فإذا كانت فئة من الحوادث عدد أفرادها «ن»، وإنّ وصف «أ» قد تكرّر بمقدار «م» من المرات، فيكون احتمال وصف «أ» يساوي: ن/م= «آ» ب، وكلما زاد عدد أفراد «ن» يميل الاحتمال في «أ» إلى عدد ثابت و معلوم([25]).
ولكن هذا التعريف وإن كان مصوناً عن إشكالات التعريف الكلاسيكي، وشاملاً للحوادث التي تنضوي تحت الفئات الكبيرة، و قادراً على تغيير الاحتمال فيها، إلاّ أنّه ليس جامعاً لكل الأفراد، حيث لا يشمل جميع الحالات والحوادث الممكنة ([26]).
أما أجوبة راسل ورايشنباخ وغيرهما، فهي لم تكن شافية أيضاً، لذا فإنّ السيد الشهيد أتى بتعريف جديد يشمل جميع الحالات والأشكال، مصوناً عن الخلل الموجود في غيره من التعاريف، فقد استعان فيه بالعلم الإجمالي والتفصيلي، ويقول: المعلوم قد يكون مشخصاً محدداً فيعتبر العلم في هذه المسألة علماً تفصيلياً، ولا مجال للاحتمال فيه. و قد يكون المعلوم غير مشخص، كما إذا علمت بأنّ أحد أصدقائك الثلاثة بدون تعيين سوف يزورك، ويعتبر العلم في هذه الحالة علماً إجمالياً و لا يرتبط العلم بالمعلوم، والعلاقة بينهما احتمالية، وكلما تعددت أطراف العلم الإجمالي، فإنّ احتمال التطابق مع المعلوم يكون ضئيلاً، فالاحتمال عضو من مجموعة الاحتمالات، و قيمته تساوي دائماً ناتج قسمة رقم اليقين على عدد أطراف العلم الإجمالي([27]).
أولاً: إنّ الاحتمال في هذا التعريف هو تصديق بنسبة خاصة من الاحتمال، ولا يرتبط خارجياً مع باقي الحوادث، و ليس هو مجرد تكرار لمجموعة أُخرى، بل هو تصديق، وأيضاً فإنّ كارناب يعتقد أنّ الاحتمال هو نوع من التصديق الظني، والاطمئنان القلبي المبرّر.
ثانياً: لا بدّ من اكتشاف وجود ظاهرة ما، والثغرات الممكنة الحدوث فيها بالتجربة والتقسيمات العقلية، لنحصل على الاحتمال لكل وجه خاص من المجموعة طبقاً للتعريف أعلاه، وأنّ قيمة الاحتمال مساوية لخارج قسمة الأعضاء على عدد جميع أعضاء العلم الإجمالي.
من خصوصيات هذا التعريف أنّه يضمّ حتى الحوادث الخاصة والجزئية، وهناك صعوبة أساسية يواجهها هذا التعريف، وهي شمولـه لمفهوم أعضاء مجموعة العلم الإجمالي، ودرجة الاحتمال فيها، فلو افترضنا أنّ أحد ثلاثة أشخاص، وهم محمد ومحسن وعلي يأتي قطعاً إلى منزلنا، فنحن أمام مجموعة أطراف متكونة من ثلاثة أعضاء للعلم الإجمالي، بحيث يكون احتمال مجيء أي واحد منهم يساوي 3/1، فالسؤال هو: هل يمكن أن نقول: إنّ المجموعة لها عضوان، مجموعة يبدأ اسم كل واحد منها بحرف الميم، والأخرى ليست كذلك، ففي هذه الصورة أنّ احتمال مجيء عضو يبدأ بحرف الميم يساوي 2/1، واحتمال مجيء >علي< أيضاً هو 2/1 كذلك، مع أنّ احتمال مجيئه في المحاسبة الأولية كانت 3/1([28]).
هذا الإشكال الذي أورده الشهيد الصدر، معقول وفي محلّه بالنسبة للاستفادة من الطريقتين:
الطريقة الأولى: تحديد الأعضاء في مجموعة أطراف العلم الإجمالي يتكون من فقرتين:
1ـ إذا كان أحد الأطراف صالحاً للتقسيم، وكان بالإمكان إجراء تقسيم مناظر في سائر الأطراف الأخرى، فلا بد من إجرائه في الأطراف الأخرى، أو إهمال ذلك التقسيم في الجميع.
2ـ إذا كان أحد الأطراف صالحاً للتقسيم، ولم يكن بالإمكان إجراء تقسيم مناظر في سائر الأطراف، فيجب إجراؤه في الطرف الذي يمكن فيه التقسيم، وعلى هذا الأساس يمكن أن نقسم في مجموعة الأعضاء الذين يبدأ اسمهم بالحرف (م)([29]).
الطريقة الثانية: إذا أمكن تقسيم أحد أطراف العلم الإجمالي إلى أقسام دون أن يناظره تقسيم للأطراف الأُخرى، فهذه الأقسام إمّا أن تكون أصلية، وإمّا أن تكون فرعية، فإذا كان بعض الأقسام أصلية فيعتبر كل قسم من أقسام الطرف عضواً من مجموعة أطراف العلم الإجمالي، وإذا كانت الأقسام فرعية فلا يعتبر كل قسم من أقسام الطرف عضواً، بل يكون الطرف عضواً واحداً. فمثلاً المجموعة التي تبتدئ أسماؤها بالحرف (م) تقبل التقسيم، حيث إنّ أقسامها أصلية، وهي أعضاء مجموعة أطراف العلم الإجمالي، و لكن إذا قسمنا >محمد< في أربعة أنواع من الألبسة فهذا التقسيم فرعي، ومجموعه ليست أحد الفروض التي تزيد أطراف العلم الإجمالي([30]).
إذن، فإنّ مجموعة أطراف العلم الإجمالي هي المجموعة التي تضمّ كل أطراف العلم الإجمالي المتّصفة:
1ـ بأنّها ليست أقساماً فرعية.
2ـ صدق التقسيم الأصلي لبعض أطراف العلم الإجمالي، كما في هذه الحالة التي شملت سائر الأطراف([31]) .
خلاصة الكلام: إنّ الاحتمال عند الشهيد الصدر قائم دائماً على أساس علم إجمالي، والقيمة الاحتمالية لأية قضية تحددها نسبة عدد الأعضاء التي تستلزم تلك القضية من مجموعة أطراف العلم إلى عددها الكلي.
ويردف بعد التعريف تبيين كيفية إعمال البديهيات والقواعد الموجودة في حساب الاحتمالات بالنسبة إلى تعريفه، و يجيب عن الإشكالات المحتملة([32]).
إنّ الشهيد الصدر من خلال دراسة الدليل الاستقرائي في مرحلة التوالد الموضوعي والاستنباطي، وبيان الفارق بين سببية المفهوم العقلي والتجريبي والسببية الوجودية والعدمية. وبيان الرابطة الضرورية والحتمية في السببية العقلية، والاتحاد الزمني للحتمية من السببية التجريبية، يؤكّد أنّ الاستقراء يمكن أن يزيد احتمال التعميم إلى حدّ الوصول إلى درجة عالية من التصديق الاحتمالي، وهذه الالتفاتة أيضاً تؤخذ من الأصول النظرية للاحتمال، وبعبارة أخرى إنّ دليل الاستقراء في مرحلة الاستنباط والتوالد الموضوعي ليس إلاّ إجراء لنظرية الاحتمالات في الدليل الاستقرائي، ولا يحتاج في هذه المرحلة إلى أصل قبلي ثابت، إلا أنّ العلاقة الوحيدة في هذه المرحلة هي عدم و جود مجوّز لإلغاء علاقة السببية فيها، لذلك فإنّ الذي ينكر الرابطة السببية بمفهومها العقلي لا يمكنه تفسير الدليل الاستقرائي في مرحلة التوالد الذاتي.
وبعد بيان النظرية المتقدمة يقارن الشهيد الصدر بين رأيه و بين رأي لابلاس، وكينز وما فيهما من تعقيد، و بعدها يشرح الشروط اللازمة لمرحلة الاستنباط، و يقول: إنّ من الضروري ـ لكي يمارس الدليل الاستقرائي مرحلته الاستقرائية ـ أن تنصبّ التجارب المتكررة على (الألفات) بينها وحدة مفهومية وخاصية مشتركة، وليس مجرد فئة مصطنعة نضمّ أعضاءها بعضاً إلى بعض اعتباطاً، لكن تكون سببية تلك الخاصية المفهومية المشتركة هي المحور الذي تتجمع فيه كل القيم الاحتمالية التي في صالح السببية.
كيف نستطيع أن نعرف أنّ الألفات تعبّر عن وحدة مفهومية وخاصية مشتركة؟ الذي يتوقف بدوره على الاستقراء، هذا ما يبينه الشهيد الصدر كسؤال ليطرح طريقة الاستقراء بعده([33]).
الشرط الآخر أن تكون الألفات ـ التي امتدت التجربة إليها على قدر فهم المجرّب ـ ذات خاصية مشتركة أُخرى تميز الألفات التي شملتها التجربة عن الألفات الأُخرى، فهنا يظهر مفهومان وخاصيتان، الأولى خاصية شاملة وامتياز للألفات التي أجريت عليها التجربة عن غيرها، والأخرى القيم الاحتمالية التي تبرهن على سببية الخاصية المشتركة لا تستطيع أن تعين الخاصية الأولى للسببية، بل هي حيادية تجاه فرضية سببية كل من الخاصيتين، ويصبح التعميم على هذا الأساس بلا مبرر، فعلى هذا فإنّ نجاح الدليل الاستقرائي في مرحلته الاستنباطية يتوقف على شرطين:
1ـ إنّ الألفات فئة ذات مفهوم موحد، أو خاصية مشتركة، و ليست مجرد تجمع عشوائي لأشياء متفرقة.
2ـ أن لا يلاحظ تمييز الألفات التي شملتها التجربة على سائر الألفات في خاصية مشتركة أُخرى.
وهنا في نهاية مرحلة التوالد الموضوعي ينقل الشهيد الصدر نماذج من أخطاء التعميمات الاستقرائية الواردة في كتاب (المعرفة البشرية) لراسل، ويبين أنها فاقدة للشروط المذكورة([34]).
والنقد المطروح على ما ذكر من الشروط هو: كيف يمكن كشف الوحدة المفهومية والاشتراك في خصوصية الأفراد من خلال الاستقراء، والوصول إلى اليقين في ظهور خصوصيات هذه الأفراد لنا، ولا انفكاك وصفي بينها، وفي الواقع أنّ ادّعاء كشف الأوصاف المشتركة والمتفاوتة للأفراد بكل سهولة، هو ادّعاء سطحي وغير دقيق، وهذا ما يشهد به تاريخ العلم والاكتشافات المعاصرة.
ثانياً ـ توضيح الدليل الاستقرائي في مرحلة التوالد الذاتي
هناك فارق أساسي بين الطابع الاستنباطي للدليل الاستقرائي والطابع الاستنباطي للأدلة الاستنباطية البحتة، كالبرهان الذي يستنبط «أنّ زوايا المثلث تساوي قائمتين» من مصادرات الهندسة. وهذا الفارق يكمن في أنّ الأدلة الاستنباطية البحتة تبرهن على الجانب الموضوعي من الحقيقة، فالبرهان الهندسي على «أنّ زوايا المثلث تساوي قائمتين» يثبت ـ وفق مناهج الاستدلال الاستنباطي ـ هذه المساواة بين زوايا المثلث و قائمتين كحقيقة موضوعية، وأما الدليل الاستقرائي في مرحلته الاستنباطية فهو لا يبرهن على الجانب الموضوعي من الحقيقة، وإنما يثبت بطريقة استنباطية درجة من التصديق بقضية أنّ «أ» سبب لـ «ب»، تتمثل في القيمة الاحتمالية الكبيرة التي أنتجها تجمع عدد كبير من الاحتمالات على محور واحد هو سببية «أ» لـ «ب»، إذن: إنّ المستنبط من الدليل الاستقرائي نفس قضية السببية ـ سببية «أ» لـ«ب» ـ ولكن بدرجة من التصديق تقل عن اليقين. و بناءً على ذلك، فإنّ المرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي لا تؤدي إلى اليقين بالسببية، ولا إلى اليقين بالتعميم الاستقرائي، وإنّما تعطي قيمة احتمالية كبيرة لدرجة التصديق بتلك السببية وهذا التعميم. و في المرحلة الثانية، يبيّن الدليل الاستقرائي ثلاثة أوجه لليقين، اليقين المنطقي أو الرياضي، واليقين الذاتي واليقين الموضوعي.
اليقين المنطقي: ويعني العلم بقضية معينة والعلم بأنّ من المستحيل أن لا تكون القضية بالشكل الذي علم، فإذا فرضنا ـ مثلاً ـ تلازماً منطقياً بين قضيتين على أساس تضمن إحداهما للأُخرى من قبيل: «زيد إنسان»، «زيد إنسان عالم» فنحن نعلم بأنّ زيداً إذا كان إنساناً عالماً فهو إنسان، أي نعلم بأنّ القضية الثانية إذا كانت صادقة فالقضية الأولى صادقة، و هذا العلم يقين منطقي؛ لأنّه يستبطن العلم بأنّ من المستحيل أن لا يكون الأمر كذلك. كما يمكن أن ينصبّ اليقين المنطقي على قضية واحدة حين يكون ثبوت محمولها لموضوعها ضرورياً واستحالة سلب المحمول عن الموضوع.
و اليقين الموضوعي: هو اليقين المبرهن بوساطة القرائن الموضوعية والخارجية، مع التمييز أنّ لكل يقين ـ أي يقين ـ ناحيتين، إحداهما القضية التي تعلق بها اليقين، والأُخرى درجة التصديق التي يمثّلها اليقين، وبهذا يمكننا أن نلاحظ وجود نوعين ممكنين من الحقيقة و الخطأ في المعرفة البشرية:
أحدهما: الحقيقة و الخطأ في اليقين من الناحية الأُولى، أي من ناحية القضية التي تعلّق بها، والحقيقة والخطأ من هذه الناحية مردّهما إلى تطابق القضية التي تعلق بها اليقين مع الواقع وعدم تطابقها، والحقيقة والخطأ اللتان تتعلقان بدرجة التصديق. فإذا كانت متطابقة فاليقين صادق في الكشف عن الحقيقة و مطابق للواقع، و إلا فهو مخطئ.
والآخر: الحقيقة والخطأ في اليقين من الناحية الثانية، أي من ناحية الدرجة التي يمثلها من درجات التصديق، فقد يكون اليقين مصيباً وكاشفاً عن الحقيقة من الناحية الأُولى، و لكنه مخطئ في درجة التصديق التي يمثلها. فإذا تسرّع شخص وهو يلقي قطعة النقد، فجزم بأنّها سوف تبرز وجه الصورة نتيجة لرغبته النفسية في ذلك، وبرز وجه الصورة فعلاً، فإنّ الجزم واليقين المسبق يعتبر صحيحاً وصادقاً من ناحية القضية التي تعلّق بها؛ لأنّ هذه القضية طابقت الواقع، و لكنّه رغم ذلك يعد يقيناً خاطئاً من ناحية درجة التصديق التي اتّخذها بصورة مسبقة، إذ لم يكن من حقّه أن يعطي درجة للتصديق بالقضية: «إنّ وجه الصورة سوف يظهر» أكبر من الدرجة التي يعطيها للتصديق بالقضية الأخرى: «إنّ وجه الكتابة سوف يظهر». وهذا يعني: افتراض أنّ للتصديق درجة محددة في الواقع طبق مبررات موضوعية، فهناك ـ إذن ـ تطابقان في كل يقين:
الأول: تطابق القضية التي تعلّق بها اليقين مع الواقع.
والثاني: تطابق درجة التصديق التي يمثّلها اليقين، مع الدرجة التي تحدّدها المبررات الموضوعية.
على هذا الأساس، فإنّ اليقين الذاتي هو التصديق بأعلى درجة ممكنة، سواء كان هناك مبررات موضوعية لهذه الدرجة أم لا، بينما اليقين الموضوعي هو التصديق بأعلى درجة ممكنة على أن تكون هذه الدرجة متطابقة مع الدرجة التي تفرضها المبررات الموضوعية، أو بتعبير آخر: إنّ اليقين الموضوعي هو أن تصل الدرجة التي تفرضها المبررات الموضوعية إلى الجزم.
إنّ الدرجة الموضوعية للتصديق هي: تلك الدرجة التي يمكن استنباطها من الدرجات الموضوعية لتصديقات سابقة، فكما أنّ قضية من قضايا الرياضة أو المنطق تُستنبط من قضايا أخرى، كذلك الدرجات الموضوعية للتصديقات تستنبط من الدرجات الموضوعية لتصديقات سابقة([35]).
إذن، فهدف الشهيد الصدر من استبدال الظنّ باليقين هو اليقين الموضوعي لا اليقين المنطقي والرياضي، أو اليقين الذاتي، ذلك أنّ اليقين الذاتي بالنسبة للقضايا الاستقرائية شائع بين أكثر الناس. و من جهة، فإنّ اليقين المنطقي، الذي يرى استحالة سلب المحمول عن الموضوع في القضايا الاستقرائية، أمر غير قابل للتحقيق، فيكون إذن المراد باليقين قدرة الاستقراء على إيجاد اليقين الموضوعي، وما إذا كان في استطاعة المبررات الموضوعية أن ترفع درجة التصديق بالقضية الاستقرائية في المرحلة الثانية إلى ذروته، أي إلى درجة الجزم واليقين، الجواب هو بالإيجاب و ذلك عبر تبيين المصادرة والشروط اللازمة لها([36]).
والمصادرة هي: «إذا تجمع عدد كبير من القيم الاحتمالية في محور واحد، فحصل ذلك المحور نتيجة لذلك على قيمة احتمالية كبيرة، فإنّ هذه القيمة الاحتمالية الكبيرة تتحول ـ ضمن شروط معينة ـ إلى يقين»([37]).
فكأنّ المعرفة البشرية مصممة بطريقة لا تتيح لها أن تحتفظ بالقيم الاحتمالية الصغيرة جداً، فأي قيمة احتمالية صغيرة تفنى لحساب القيمة الاحتمالية الكبيرة المقابلة، و هذا يعني تحول هذه القيمة إلى يقين. و اليقين الذي تفترضه المصادرة هو يقين لا تتاح إزالته، ما دام الإنسان سوياً في تفكيره، على العكس من اليقين الذاتي الذي يمكن إزالته([38]).
وتصدق المصادرة فيما إذا لم يكن فناء القيمة الاحتمالية الصغيرة يعني فناء تلك القيمة الاحتمالية الكبيرة ذاتها، وإلاّ فسوف لن تتحول القيمة الاحتمالية الكبيرة التي اكتسبها المحور إلى يقين، ومثال ذلك نجده في كل علم إجمالي نعلم بموجبه بأنّ حادثة واحدة فقط قد وقعت لواحد مرددٍ بين عدد كبير من الأشياء، كالعلم الإجمالي مثلاً بأنّ نقصاناً ما قد وقع في كتاب واحد فقط، وهذا الكتاب مردد بين مجموعة الكتب البالغة مئة ألف كتاب، فإنّ العلم في هذا المثال ينقسم إلى مئة ألف قيمة احتمالية متساوية وفقاً لنظرية الاحتمال، ومجموع هذه القيم يمثّل القيمة الكاملة للعلم، و كل قيمة من تلك القيم الاحتمالية المتساوية 100000/1، وترتبط بكتاب معين من كتب المكتبة، وإنّ احتمال عدم النقص هو 99999، لكن هذا المجموع ـ رغم ذلك ـ لا يمكن أن يؤدّي إلى تحول القيمة الاحتمالية الكبيرة الناتجة إلى يقين، و فناء القيمة الاحتمالية الصغيرة المضادة، ذلك أنّ هذا التبدّل يعني في النهاية نفي العلم الإجمالي بنقصان كتاب واحد في المكتبة. لذا، فلكي تكون المصادرة معقولة، ويتحقّق الشرط الذي وضعناه لها، فإنّ وجود الفرض الثاني من العلم الإجمالي لازم([39]).
ولتطبيق المصادرة، يوجد لدينا علمان إجماليان على سببية «أ» لـ «ب» هما:
ـ العلم الإجمالي الذي يحدّد الاحتمال القبلي لسببية «أ» لـ «ب»، فإذا افترضنا أننا كنا نعلم مسبقاً بأنّ لـ «ب» سبباً، وأنّ هذا السبب هو إما «أ» وإما «ت»، فسوف يكون هذا العلم محتوياً على عضوين.
ـ العلم الإجمالي الذي اتّخذناه في المرحلة السابقة أساساً لتنمية احتمال السببية، وهو العلم الذي يستوعب محتملات «ت» في التجارب الناجحة، فإذا كانت التجارب الناجحة عشراً، كان عدد الحالات التي تمثّل أطراف العلم الإجمالي: 1024 حالة، وحالة واحدة من هذه الحالات حيادية تجاه العضوين المحتملين في العلم الإجمالي الأول، وكل الحالات. وهذا يعني: أنّ العلم الإجمالي الثاني يضمّ 1024 قيمة احتمالية وأنّ 2/1 (1024) قيمة احتمالية منها تشكل تجمعاً إيجابياً في محور محدد، وهو سببية «أ» لـ «ب» ويؤدّي هذا التجمع إلى اكتساب هذه السببية قيمة احتمالية كبيرة. وفي هذه الحالة، يمكن تطبيق المصادرة المفترضة للمرحلة الثانية من الدليل الاستقرائي: فنفترض أنّ هذا التجمع يسبب اليقين بالسببية و إفناء القيمة الاحتمالية الصغيرة المضادة لسببية «أ» لـ «ب»، ولا يؤدي هذا الافتراض إلى أي تناقض؛ لأنّ التجمع المسبب لذلك يمثل الجزء الأكبر من قيمة العلم الثاني، والقيمة الاحتمالية التي تسبب هذا التجمع في إفنائها ليست من القيم الاحتمالية المتساوية التي يضمها العلم الثاني، بل هي قيمة احتمالية تنتمي إلى العلم الأول، فلا نواجه مشكلة إفناء العلم نفسه، أو إفناء العلم لبعض قيمه الاحتمالية المتساوية دون بعض بدون مبرر.
وهكذا يتحقق الشكل الأول لتطبيق المصادرة: كلما تجمع عدد كبير من القيم الاحتمالية للعلم في محور خارج نطاق ذلك العلم، وتسبب في إفناء قيمة احتمالية لا تنتسب إلى نفس العلم، الذي تنتسب إليه القيم المتجمعة نفسها. فلا مناص من أن لا تكون القضية التي يراد إفناء قيمتها الاحتمالية عن طريق تجمع القيم الاحتمالية في محور واحد، ملازمة لأحد أطراف العلم الإجمالي الثاني.
وفي هذه الحالة نواجه علمين: أحدهما هو الذي يفني القيمة الاحتمالية لأحد أطرافه، وهذا هو العلم الإجمالي الأول، والآخر هو الذي يسبب هذا الفناء عن طريق تجمع عدد كبير من قيمه الاحتمالية في محور واحد. في هذا الشكل الجديد من تطبيق المصادرة نفترض أنّ العلم يفني القيمة الاحتمالية لأحد أطرافه، ولكن رغم ذلك لا يؤدّي هذا إلى افتراض أنّ العلم يفني نفسه، أو يفني بعض قيمه الاحتمالية المتساوية دون بعض بدون مرجح؛ و ذلك لأنّ الطرف الذي أفنى العلم قيمته الاحتمالية من بين أطرافه لم تكن قيمته الاحتمالية مساوية للقيمة الاحتمالية لسائر أطراف هذا العلم.
ومثال ذلك ما إذا ألقيت قطعة النقود عشر مرات، فمن المستبعد جداً أن يظهر وجه الكتابة في كل مرة؛ لأنّ ذلك يعتمد على وضع الكف التي تقذف قطعة النقد، ووضع القطعة النقدية في الكف و هي تقذف؛ و وضع الهواء ونوع تحركه، وأوضاع سائر الأشياء التي قد تتدخل في تغيير اتجاه قطعة النقد، إنّ كل هذه الأوضاع تختلف من حالة إلى حالة، ولا يظل شيء منها ثابتاً ومشتركاً بين الحالتين إلاّ أحياناً وبقدر يسير، ولذلك لا يمكن الحصول على نتيجة مشابهة، والحقيقة أنّ هناك علمين إجماليين في هذه الحالة: الأول، علم إجمالي يحتوي جميع الاحتمالات لوجهي قطعة النقد، والثاني، العلم الإجمالي بعوامل وظروف ظهورهما، والعلم الإجمالي الثاني يتوافر على احتمالات أكبر بالمقارنة مع العلم الإجمالي الأول، وتجمّع قيم احتمالية أكبر في محور واحد يؤدّي إلى فناء القيم الاحتمالية الأقل([40]).
نقد د. سروش لنظرية السيد الصدر ، وقفات وتأملات ـــــــ
يرى الدكتور عبد الكريم سروش في كتابه (تفرج صنع) في معرض نقده مرحلة التوالد الموضوعي، أنّ انكشاف جميع مواصفات الشيء الخاضع للتجربة أمر مستحيل ولا يمكن تحقيقه، وإنّ الكشف الدائم للمواصفات الجديدة للأشياء إنّما هي وظيفة العلم، وفي هذا الصدد يقول: «إنّ الذين اعتبروا الاستقراء مسألة بسيطة ومحلولة إنّما انطلقوا من الوهم الساذج بتعميمه على الإنسان أو الخشب، فالإنسان إنسان والخشب خشب، وتناسوا مسألة مهمة، وهي أنّ اعتبار الموجود الذي نتعامل معه إنساناً أو خشباً إنّما هو مبني على الاستقراء، وفوق هذا، لو أنّ أي إنسان يحمل خصوصيات C+B+A، فإنّ هذا لا يعني أنّ كل موجود يحمل خصوصيات C+B+A هو بالضرورة إنسان… وهذه هي في الحقيقة مشكلة الاستقراء، وهي أنّه لا يمكن من خلال التجربة كشف طبائع الأشياء ووحدة المفهوم و الصورة النوعية المشتركة لها، ولهذا السبب، لا يمكن لأي مخيط أن يرقع فتق الاستنتاج الاستقرائي<([41]).
إذن، فإنّ سروش يُشكل على مرحلة التوالد الموضوعي تحقق الشرط المذكور، والنتيجة الحتمية لذلك هو عجز قواعد حساب الاحتمالات في تنمية احتمال قضية الاستقراء، بمعنى إنّ كثرة التجارب لن يكون لها أثر في إفادة الظن، وإنّ الحالة هي واحدة بالنسبة للمجرّب، قبل التجربة وبعدها. بينما تاريخ العلوم يثبت بوضوح عكس ذلك، فهل تتساوى القيمة الاحتمالية لقضية مثل الماء هو(H2O)التي تمّ تجربتها بنجاح آلاف المرات مع القيمة الاحتمالية لقضية مثل «وجود الماء على القمر» التي لا تمتلك دليلاً واحداً يبرهن على وجودها؟ إنّ هكذا ادّعاء يتطلّب قبول التشكيك المطلق في مجال العلوم التجريبية، وهو ما يغلق باب طرح الفرضيات أو النظريات العلمية أمام كل عالم.
وعدا هذا، فإنّ ظهور جميع أوصاف الشيء موضع التجربة، في مرحلة التوالد الموضوعي، لا ينطوي على أهمية أصلاً، ليتمّ بحث إمكان ذلك من عدمه أو تحققه من استحالته، بل يكفي هنا معرفة عدد من الخصوصيات المشتركة. بعبارة أُخرى: إنّ الألفاظ لم توضع لبيان معاني علمية، بل للتعبير عن مفاهيم عرفية، فالماء هو ذلك الشيء السائل العديم اللون الذي يرفع العطش، بعد ذلك يتمّ تحرّي هذه المواصفات في مصاديق الماء بمساعدة الحواس الظاهرية. إذن، لحدّ الآن، ليس هناك من حاجة إلى الاستقراء والتجارب وتكرارها، بل يكفي أن نستعين بالحواس الظاهرية لتحديد مصاديق الماء، من هذا المنطلق، فإنّ اللغوي يضع هذا اللفظ عند أول مصداق للماء يصادفه، ويحمل الصفات التي ذكرنا (سائل، عديم اللون، ويرفع العطش)، ثم يبدأ تالياً بحثه عن المصاديق بالاستعانة بحواسه، ومن ثمّ و بعد تكرّر التجارب يصل إلى أنّ جميع مصاديق الماء هي نفسها H2O، إذن فخصوصيات C+B+A أو مواصفات (السيولة وانعدام اللون ورفع العطش) لا تشكل لوازم معنى الماء، بل معنى لفظ الماء بحسب إطار العرف، وبناءً عليه، ينتفي الإشكال المنطقي آنف الذكر، القائل بعدم دلالة اللوازم على الملزوم.
وكخطوة أُولى، لم تكن ثمة حاجة إلى الكشف عن الوحدة المفهومية والصورة النوعية المشتركة لطبائع الأشياء، بل يكفي كشف مصاديق المفهوم العرفي بواسطة الحواس الظاهرية، و بعد ذلك ومن خلال الاستقراء و تكرر التجربة ندرك أنّ جميع مصاديق الماء ـ المكتشفة عن طريق الحواس ـ هي H2O، وهذا المقدار وبالاستعانة بقواعد حساب الاحتمالات كفيل بخلق الظن القوي حيال جميع مصاديق الماء و تنمية قوة الاحتمال.
وكما أسلفنا، فقد طرح الشهيد في مرحلة التوالد الذاتي مسألة تنامي الاحتمال باليقين الموضوعي لا المنطقي، ولهذا، فلا نتوقع يقيناً منطقياً من كثرة التجارب وقواعد حساب الاحتمالات و المصادرة و العلمين الإجماليين، ولا يجوز تبعاً لذلك أن نُشكل على نظرية الشهيد الصدر؛ لأنّ هذا التوقع غير ممكن، لجهة أنّ نقصان الاحتمال يحول دون حصول اليقين. والحقيقة أنّ هذا النوع من النقد و الإشكال على نظرية التوالد الذاتي ليس في محله؛ لأنّ الشهيد الصدر قد ذكر مراراً و تكراراً في نظريته أنّه لا يسعى وراء اليقين الموضوعي، و لا اليقين المنطقي ـ هذا إن توفرت الشروط لذلك ـ و بالنسبة لإشكالات الدكتور عبد الكريم سروش في كتابه (تفرّج صنع) على نظرية التوالد الذاتي فهي كالآتي:
1 ـ طرح اليقين النفسي عوضاً عن اليقين المنطقي
سعى الشهيد الصدر إلى طرح اليقين الموضوعي المبرّر كبديل عن اليقين المنطقي، و هو في ذلك ينطلق من أنّ الإنسان السوي لا يشك و لو للحظة واحدة بأنّ قطع رأس الكائن الحي سيؤدّي إلى موته حتماً، وأنّ قذف الحجر إلى الأعلى سيسقط على الأرض لا محالة، و أنّ إلقاء فصّ ملح في الماء سيذوبه بالتأكيد، هذه الأنماط اليقينية هي تعبير عن حالة نفسية حتى نتبيّن مسارات حصول وجهتها المنطقية ـ غير قياسية ـ بيد أنّ السؤال المهم هنا هو: هل أنّ تحديد العوامل و الدوافع التي تقف وراء حصول حالة ذهنية نفسية يعتبر مجوزاً منطقياً و دليلاً على صحة تلك الحالة؟
من المعلوم أنّ هنالك خرافات كثيرة تسكن في عقول الناس، ويمكن اكتشاف أسباب إيمانهم بها عن طريق أساليب التحليل النفسي، لكن من المؤكّد أنّ تشخيص تلك العوامل لا يعد بأي حال من الأحوال مجوزاً للإيمان بتلك الخرافات، وباعتقادنا هذا ما فعله الشهيد الصدر، حيث طرح أسلوب التحليل النفسي بدلاً عن المنطق، واستعاض عن المجوز المنطقي بالمجوز النفسي، والتحليل النفسي آخر ما يمكن أن تتلوث به الفلسفة. (سروش، تفرّج صنع: 458 – 460).
باعتقادنا لا يصحّ هذا الإشكال على منطق التوالد الذاتي؛ ذلك لأنّ الشهيد الصدر لم يوظّف اليقين الذاتي والتحليل النفسي في الأُسس المنطقية للاستقراء لإصدار مجوز للإيمان بالخرافات، على الرغم من أنّ الإيمان بالخرافات أيضاً يرجع إلى مجموعة من الأسباب و العوامل، يمكن الكشف عنها بأساليب التحليل النفسي.
فالشهيد الصدر في منطقه الاستقرائي بصدد التبيين المعرفي لدلائل اليقين الموضوعي، فهو يحاول تسليط الضوء على العملية المعرفية ليمكن من خلالها الوصول إلى اليقين الموضوعي المستند إلى القرائن و المبررات الموضوعية، ولهذا نراه يستعين بالعلمين الإجماليين، إذن نعتقد هنا أنّ الناقد المحترم لم يكن موفقاً في نقده، إذ إنّه خلط بين الأدلة و القرائن المعرفية لليقين الموضوعي، و بين العلل النفسية لليقين الذاتي، كما أنه لم يستطيع وضع تمييز معياري بين بحوث التحليل النفسي، و بين البحوث المنطقية، حيث إنّ كليهما يتناولان مباحث التصورات والاستدلال والمعرفة، مع فارق أنّ علم التحليل النفسي يقوم بوصف عملية الفكر، دون أن يأخذ بنظر الاعتبار إن كانت مبرهنة أو لا، أو أنّ المعارف معلّلة أو مستدلة، في حين أنّ المنطق كعلم قواعدي يسعى نحو المعرفة الصحيحة المستدلة والمبرهنة. لهذا السبب فإنّ تقديم المعايير والأُسس المعرفية هي من اختصاص علم المنطق، كما يبدو ذلك بوضوح في المنطق الكلاسيكي. والشهيد الصدر يقوم بنفس هذه المهمة، أي أنّه يذكر القواعد والضوابط ليضمن حصانة الفكر الاستقرائي من الخطأ و الزلل، وصولاً إلى النتيجة الاستقرائية الصحيحة. إذن، فمهمّة الشهيد الصدر في «الأسس المنطقية للاستقراء» هي لا شك مهمة منطقية وليست تحليلية نفسية.
2 ـ نظرية التوالد الذاتي ذات جوهر استقرائي
يقول الشهيد الصدر: «الجميع متأكدون من أنّهم إذا أكلوا شبعوا»، هذه المقولة بحدّ ذاتها مقولة استقرائية، ولا نشكّ في الشخص كان متأكداً من شعوره هذا، لكن كيف استطاع التأكّد من أنّ الآخرين يشاركونه نفس شعوره؟ ألا يحتمل أن يكون هناك من لم يصل إلى هذه الدرجة من اليقين؟
في هذه الحالة، فإنّ رمي هؤلاء الأفراد بأنّهم غير أسوياء هو من باب استبعاد الآخرين من حلبة المنافسة، وإذا كنّا نفترض بداهة أنّ الجميع يشاطروننا يقيننا بالقضية المذكورة، و نتّخذ من هذا اليقين دليلاً لتعميمه على الآخرين، فلا بأس من تجربة هذه الطريقة في حقل آخر، و نقول: بما أنّنا نعتقد في دواخلنا بأنّ الاستقراء يفيد اليقين، فهذا يكفي أن نحكم على أنّ الجميع يشعر بنفس اليقين، و لا حاجة بعد ذلك إلى جميع تلك البراهين الرياضية و المعرفية المعقدة لإثبات الاستقراء([42]).
ويجيب الشهيد الصدر عن هذا الإشكال بقوله: إنّه حتى مع الفرض بأنّ القضية المشار إليها «الجميع متأكدون من أنّهم إذا أكلوا شبعوا» زعم استقرائي، فإنّه يمكن البرهنة استناداً إلى الأساس المنطقي للتوالد الذاتي، على اليقين الاستقرائي لهذه القضية والقضايا المشابهة لها، ولا تؤثّر استقرائيتها على جوهر الموضوع المطروح.
بالإضافة إلى أنّ مشكلة الاستقراء هي في تحقّق اليقين في مجال العلم الحصولي، والمثال المذكور يتعلّق بالعلم الحضوري والوجدانيات، أي العلم الحصولي المقتبس من العلم الحضوري، ويحظى العلم الحضوري لجميع الأفراد على اليقين المنطقي؛ ذلك لأنّ الوجود معلوم و حاضر لدى العالم، وإنكاره يستلزم اجتماع النقيضين. لذا، فإنّ العلم الحضوري يقترن بالقيمة المعرفية.
من هذا المنطلق، ليس لأحد الزعم أننا نستشعر في قرارة أنفسنا بأنّ الاستقراء يفيد اليقين، ذلك لأنّ قضية كهذه؛ هي من سنخ العلم الحضوري، و ليس الحضوري الشهودي.
أمّا الإشكال الثاني فهو قياس في غير محلّه، والسبب هو أنّ القضية «الجميع متأكدون من أنّهم إذا أكلوا شبعوا» تختلف عن القضية «إنّي على يقين بأنّ الاستقراء يفيد اليقين»، بمعنى إنّه إذا اعتبرنا العلم الحضوري بالجوع و العطش والألم واللذة وما شابه ـ و هي أشياء مشتركة في الإنسان ـ مبدأ موضوعي مفروغ منه، فلا يمكن من خلال هذه الأمثلة أن نستنتج بأنّ أي زعم حضوري هو مبرّر و مستدلّ، فالذين ينكرون تعميم العلم الحضوري ووضوحه لم يوصموا من قبل الشهيد الصدر بأنّهم غير أسوياء، بل العقلاء هم الذين أخرجوا هؤلاء المنكرين من دائرة العقل.
3 ـ ظنية شمولية المجموعة
من المآخذ الأخرى المطروحة على نظرية الأسس المنطقية للاستقراء هي أنّها تشرح الاحتمال استناداً إلى العلم الإجمالي، و تقوم بالكشف عن أعضاء مجموعة العلم الإجمالي عن طريق المشاهدة والاستقراء، ويقول المستشكل:
في البداية، نشخّص أعضاء المجموعة عن طريق التقسيم العقلي أو الممارسة التجريبية، وحين نصدر حكماً يقينياً حول أحد أعضاء المجموعة، عندئذ نوزّع ذلك اليقين على باقي الأعضاء، ليصيب كلَّ عضو سهم مساوٍ من الاحتمال، وفي المقابل، لا نستطيع لمجرّد علمنا بوجود أربع فصائل للدم البشري، أن نحكم بأنّ القيمة الاحتمالية لكلّ إنسان يحمل فصيلة من الفصائل المذكورة (A أو B أو O أو AB) هي 4/1، في البداية يجب اللجوء إلى الاستقراء وأن نحدّد نسبة توزيع فصائل الدم المذكورة بين البشر، ثم استناداً للمعطيات المتوافرة نقوم بتشكيل المجموعة، لنصل إلى الاحتمال المطلوب في داخل المجموعة.
هنا، يبرز سؤال ملحّ و هو، هل يمكن الاعتماد على التجربة والاستقراء، وأن نقنع أنفسنا بالوصول إلى جميع أعضاء المجموعة؟ لا شك أنّ القطع بالظنّ والوصول إلى اليقين الموضوعي الأكيد يتوقّف على أنّنا، ومنذ البداية، قمنا بتشكيل مجموعتنا وفق منهج شامل وصحيح، وهذا يعني أن نقوم بتشخيص جميع الأعضاء، وأن يتمّ التقسيم داخل المجموعة بطريقة صحيحة، و لكن هيهات أن يكون هذان الشرطان حاصلين.
ليس بمقدور الاستقراء الإحصائي الزعم بأنّه قد جمع أعضاء المجموعة كلها، وأنّه قام بتقسيم الاحتمال عليها بالعدل والتساوي. وبناءً على ذلك، فإنّ النقطة الرئيسة في نظرية الشهيد الصدر والمتمثّلة في تشكيل العلم الإجمالي في بداية الأمر، ثمّ الاستقراء الإحصائي لا يتيحان مثل هذا العلم، بل الظنّ في أحسن الحالات، ولا يمكن بالظنّ ـ المشتمل على اليقين ـ أن نجلب العلم الإجمالي([43]).
وردّاً على الإشكال الثالث المطروح على نظرية الشهيد الصدر نقول:
إنّ العلم الإجمالي و تشخيص أعضاء المجموعة يتيسّر بوجهين: الوجه الأول هو الحصر والتقسيم العقلي، ما يعني دوران الأمر بين النفي و الإثبات، وفي هذه الحالة، يكون العلم الإجمالي حائزاً على اليقين المنطقي فضلاً عن شمولية المجموعة، أمّا الوجه الثاني فهو عن طريق الاستقراء الإحصائي، إذ يمكن بهذه الوسيلة للعلم الإجمالي وشمولية المجموعة أن يتوافرا على اليقين الموضوعي.
وكما اعترف بذلك الشهيد الصدر، فإنّ تحديد مطلق القيمة الاحتمالية لعضو في مجموعات العلم الإجمالي التي ليس لنا علم وافٍ بعددها، أمر غير ممكن، بينما بالإمكان تشخيص نسبتها التقريبية، بمعنى معرفة ما إذا كانت قيمتها مساوية أو أكبر أو أصغر من القيمة الأخرى([44]).
- قلة الحيلة إزاء مغالطة «أخذ ما بالعرض بدلاً من أخذ ما بالذات»
الإشكال الرابع الذي يوجّهه سروش إلى الشهيد الصدر هو: إنّ الأخير لم يقدّم أي قاعدة يمكن من خلالها النجاة من الخطر المميت لمقولة «أخذ ما بالعرض بدلاً من أخذ ما بالذات». ربّما كان هناك الآلاف من العوامل المؤثرة في هذا المجال والتي لم تخطر ببال أحد، دائماً ثمّة احتمال بوجود عوامل غير مرئية قد تؤثّر على نتيجة التجربة وتسوقها إلى وجهة خاصة، ولا يمكن أبداً نفي مثل هذا الاحتمال في أي مرحلة، وهذا هو بالضبط ما يجعل الصورة مهتزة بالنسبة لنتيجة الاستقراء([45]).
تعرّفنا على الإشكال الرابع، وهو لا يعدو كونه تقريراً آخر عن مشكلة الاستقراء، وهو الإشكال الذي جعل الشهيد الصدر يدوّن كتابه، في الواقع إنّ معضلة الاستقراء هي: كيف يمكن تعميم حكم من خلال معاينة مسائل مشهودة على مسائل غير مشهودة؟ و كيف يمكن صرف النظر عن تأثير آلاف العوامل الأُخرى في القضية الاستقرائية؟
يحاول الشهيد الصدر من خلال نظرية الأسس المنطقية للاستقراء، تبيين عملية احتمال الظن باليقين الموضوعي، بعبارة أوضح، عند تكرار التجربة مع مصاديق مشابهة، والحصول على نتيجة واحدة، ينمو احتمال تصديق نتيجة الاستقراء، ويمكن كذلك تنمية الاحتمال حتى يتحول إلى يقين ـ عند توفّر شروط معينة ـ وحينذاك تعمّم نتائج التجربة على الأشياء التي لم تخضع للتجربة.
إذن، فقواعد حساب الاحتمالات في مرحلة التوالد الموضوعي وقواعد مرحلة التوالد الذاتي، هي نفس الضوابط التي فيها نجاة علماء العلوم التجريبية وخلاصهم من الخطر المميت لمقولة «أخذ ما بالعرض بدلاً من أخذ ما بالذات»، وإذا لم يكن الناقد المحترم يسلّم بتلك القواعد المذكورة في كتاب الشهيد الصدر، فينبغي لـه نقدها بصراحة ووضوح الواحدة تلو الأخرى، وأن يدخل في التفاصيل و الخصوصيات و يبتعد عن العموميات.
أمّا الإشكال الخامس للناقد المحترم وهو المتعلق بالصورة غير الصحيحة عن نمو المعرفة العلمية، فهو بلا شك تكرار للإشكالات التي سبقته([46]).
نتيجة البحث وعلامات استفهام على نظرية الصدر ـــــــ
لقد نجح الشهيد الصدر عبر طرح مشكلة اليقين وتعميم الاستقراء، وتوجيه النقد إلى المنطق الأرسطي والمنطق التجريبي، أن يقدّم البديل الجديد، وهو منطق التوالد الموضوعي والذاتي، وأن يبتدع نظاماً معرفياً حديثاً. وعلى الرغم من الردّ على الإشكالات الموجّهة إلى نظرية الشهيد الصدر والدفاع عنها، لكن ما تزال هذه المدرسة الفكرية تواجه العديد من الأسئلة والتحديات الجدية، وأنّ تقديم إجابات مقنعة من قبل أنصار مدرسة الصدر، تلحّ أكثر من أي وقت مضى.
أولاً: إنّ المصادرة المذكورة في موضوع مرحلة التوالد الذاتي هي أشبه بالقواعد العقلية للفلاسفة، لا هي بيّنة وبديهية، ولا هي مبرهنة، بل تقدّم حلاً نفسياً ليس إلاّ، لكن ليس حلاً نفسياً شخصياً، بل نفسياً عقلائياً، لذا، أفلا يشكّل مثل هذا الحلّ مرادفاً للنظرية التأييدية؟
ثانياً: السؤال المتعلق بالمصادرة هو: ما هي درجة الضآلة اللازمة لفناء القيمة الصغيرة، وتحول القيمة الاحتمالية الكبيرة إلى يقين؟ الجواب أنّ الناس يختلفون في هذه النقطة، والمصادرة التي يحتاجها الدليل الاستقرائي لا تحدّد درجة التراكم التي تؤدي إلى اليقين، على الرغم من أنّ الشهيد الصدر يقول: «هذه المصادرة تكفي للوصول إلى أهداف معينة ولا حاجة بعد ذلك لتحديد درجة التراكم»[47])، ولكن في ضوء التباين في حصول اليقين الموضوعي عند الناس، وضرورة تقنين عملية تحول الاستقراء إلى يقين، فإنّ تحديد الدرجة يبدو أمراً ملحاً، ولكن هل حقّاً يمكن تحديد درجة التراكم؟
ثالثاً: السؤال الذي يضمّ بداخله عدّة أسئلة و يتناول موضوع المعرفة التجريبية، هو: هل العلوم التجريبية تبدأ بالمشاهدة والتجربة؟ هل يقتصر الذهن على البعد الانفعالي، أم أنّه كالمصباح يقوم بإنارة العالم الخارجي عبر تقديم أفكار خاصة وطرح نظريات محددة؟ هل يمكن اعتبار المشاهدة و التجربة المجرّدة من الفروض الميتافيزيقية المسبقة و الرؤية الكونية الشمولية معرفة؟ إذا كانت العلوم التجريبية تستند إلى الإدراك الحسي حصراً، وإنّ الآراء الميتافيزيقية غير التجريبية وحتى غير المستدلّة تترك أثرها على النتائج التجريبية، فكيف يمكن من خلال القواعد المذكورة في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء حصراً الوصول إلى مرحلة اليقين الموضوعي؟
الهوامش
(*) أُستاذ مساعد في كلية الفقه والفلسفة. پرديس ـ قم، جامعة طهران.
([1]) عبد الرحمن بدوي ، أفلاطون في الإسلام: 140، 1974.
([2]) جمهورية أفلاطون، ترجمة محمد حسن لطفي،1970.
([3]) الموحد،1989: 124 ـ 125؛ ريتشارد جفري، 1987: 76؛ وموسوعة مصاحب، 1987: 513.
([6]) الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء: ص41.
([9]) الفارابي،1408هـ ، 1: 271: وأيضاً1409هـ : 528.
([10]) ابن سينا،1402هـ: 231 ـ 233.
([12]) ابن سينا،1956: 95 ـ 96.
([13]) كابلستون،1991م5: 79 ـ 93، وفروغي 1987م: 129 ـ 141.
([14]) الأسس المنطقية للاستقراء : 81 .
([19]) كابلستون، 1983، 281 -285، و: 295 – 305.
([20]) الأسس المنطقية للاستقراء : 108 .
([22]) المصدر نفسه: 117 ـ 119.
([25]) سروش، عبد الكريم، تفرّج صنع: 436 – 437.
([26]) الأسس المنطقية للاستقراء: 165 – 166.
([29]) المصدر نفسه: 186 ـ 187.
([30]) المصدر نفسه: 189 – 190.
([32]) المصدر نفسه: 223 – 224.
([33]) المصدر نفسه: 309 – 310.
([34]) المصدر نفسه: 312 فما بعد.
([39]) المصدر نفسه: 336 – 337.
([41]) سروش، تفرّج صنع: 445 ـ 446.
([43]) المصدر نفسه: 461 – 463.
([44]) الصدر: الأسس المنطقية للاستقراء: 463.