الشَّعائر الحسينيةبين النَّمذجة والإصلاح
حيدر حب الله
الشَّعائر الدينية والمظاهر الإيمانية أقوى رسوخاً في حياة الإنسان حتى من الاعتقادات الدينية نفسها، ومن ثم فإنَّ إجراء تعديلات، أو إصلاحات فيها، يبدو أصعب من إجراء إصلاحات في مجالات دينية أخرى.
ولعل بعض أسباب ذلك يعود إلى دخول الشعائر والمظاهر الدينية في مكوّنات الشخصية الإنسانية، كونها المظهر الحسي للدين الذي يتعامل الإنسان معه تعاملاً مباشراً.
1-والشعائر الحسينية، في المذهب الإمامي، لها خصوصياتها ووضعها في نفوس المؤمنين، وقد تحوّلت عبر الزمن إلى مضخّة تضخّ “الحراك” الذي ساعد ويساعد على خلق روح ثورية دفاعية في النفوس، تقف مانعاً دون نفوذ كل جسم غريب أو تسلّط كل جائر، ولسنا نبعد عن مظاهر أسهمت مقولات الثورة الحسينية في خلقها كالثورة الإسلامية في إيران والمقاومة الإسلامية في لبنان و… إن الحفاظ على هذه الروح الأبية التي تضخّ بها مقولات الثورة الحسينية في عصرٍ ما زال قانون المواجهة حاكماً فيه، تشهد بذلك السياسات الإسرائيلية والأمريكية، لهو فريضة من فرائض الدين، لاستثارة الهمم للدفاع عن الذات والأهل والوطن والدين والإنسان، ولا يصحّ – بأيّ حالٍ من الأحوال – أن نقتل هذه الروح التي حققت لنا نتائج باهرة عبر الزمن، بل وفي العصر القريب أيضاً.
2-لكن ذلك لا يمنع من أن تتنوّع المواقف، أحياناً، حسب طبيعة الظروف، فتغدو حسنيَّةً بعد أن كانت حسينيَّة، أو تتحوّل إلى حسينيَّة بعد أن كانت حسنيَّة، والقصد من ذلك أن لا يتحوّل المذهب الإمامي إلى مذهب زيدي لا يرى شرعيةً إلاّ للخروج بالسيف، ولا يرى إماماً إلاّ فاطمياً نهض بسيفه لمواجهة الظلم.
ربما لا يكون الأمر كذلك في العقيدة أو الفكر، لكنه قد يغدو كذلك في العقل الجمعي والذهن الجماعي، فتنعدم في ذاكرة الجماعة تنوّعات الأداء، ويغدو أداء واحد حصراً يمثل شريعة الله ورسوله، بل يتفاقم الأمر إلى حدّ اتهام الناس بتهم قاسية والتجريح بهم، وهم أصحاب رؤى مختلفة.
ليس من الضروري تفسير انطلاق كلّ من يقدم أو يكون حسينيّاً على أنه حماس شبابي أو تهوّر غير عقلاني، ولا واقعي، كما أنه ليس من السليم تفسير رؤية كلّ من يتّخذ موقفاً حسنيّاً على أنه عميل أو متخاذل أو جبان أو…، بل يفترض أن تدرس الأمور بنمط عقلاني وعلمي وهادئ، بعيداً عن الاتهامات المتبادلة للوصول إلى أكبر قدرٍ ممكن من التفاهم والتفهّم.
3-وقد سعى فريق من كبار العلماء المصلحين، كان من أوّلهم السيد محسن الأمين، ومن آخرهم السيد علي الخامنئي، وبينهم الكثير من العلماء كالشهيد المطهري..، سعوا إلى إصلاح الشعائر الحسينيّة، وقد شكّلت رسالة “التنـزيه” للسيد الأمين عام 1346هـ، منعطفاً في التاريخ الحديث للطائفة الشيعية، رغم ما لاقاه صاحبها من حملات طالت المرجع الديني السيد أبا الحسن الأصفهاني آنذاك لدفاعه عن آراء الأمين الإصلاحية.
ولعلّه من المؤسف – وربما من المتوقَّع – أن تتضاعف مظاهر عاشوراء التي تعرّضت لنقد المصلحين، باعتبار ذلك ردّة الفعل الانتقامية على حركات الإصلاح، وهذا ما شاهدناه لدى بعضهم بعد الدعوة التي أطلقها المرشد الخامنئي عام 1994م. في خطابه التاريخي في مدينة ياسوج الإيرانية.
4-وقد شعر التيار الرافض لحركة إصلاح الشعائر أن المذهب الإمامي والعقائد الشيعية تتعرّض لغزو وإبادة، فرأى أن تتوقف حركة النقد الداخلي في هذه المرحلة على الأقل، ورجّح سياسة الدفاع على سياسة الإصلاح، من دون أن يدرك بجدية – على ما يبدو – المخاطر القادمة نتيجة هذه السياسة التي تراكم المشاكل الداخلية حتى تتعاظم تحت شعار مواجهة الآخر الخارجي، وربما زاد فريق ليحاول إقناع نفسه بشرعية ما يقوم به مما كانت دعوات إلى إصلاحه، فيتمسّك به بدليلٍ هنا أو بشاهدٍ هناك، لسنا في معرض بحثه أو مناقشته فعلاً.
وقد تعزّز، لدى فريقٍ من الفرقاء، الاقتناع بأنّ تصفية الحساب مع بعض المظاهر أو الوقائع غير الثابتة دينياً، ربما يواصل سيره لتتعرّض الأمور الثابتة بعد ذلك لهزّة أو ارتجاج، فقرّر إبقاء المعركة في دائرة الموضوعات البسيطة، بل وتضخيمها، في ما يشبه خطّاً دفاعياً وهمياً، يصون الثوابت من أن تغدو عرضةً لهجمات.
5-وتتنوّع جهات الإصلاح اللازمة في الشعائر الحسينية وأمثالها، ويقف على رأسها ضرورة تصفية نصوص السيرة الحسينية التاريخية من الأكاذيب والأساطير التي اختلقت عبر الزمن، ولم يكن لها من وجود في مصادر الحديث ولا التاريخ ولا التراث، وإنما صنعتها العقلية الشعبية أو ما هو بحكمها، إنّ هذه الضرورة ضرورةٌ علمية ومعرفية، كما أنّها ضرورة توعوية وتربوية في الوقت عينه.
ولا يعني ذلك أبداً تنحية كل نصّ تاريخي لا تستسيغه عقولنا العادية أو تجده خلاف المألوف، وإنما تنحية ما تقوم الشواهد التاريخية أو العقلية أو الشرعية أو… على نفيه، وفق منهج ينبغي تحديده على أسس علمية وضوابط منطقية، تخضع لنظريات مدروسة ومبرهن عليها في قراءة التاريخ، لا لأيديولوجيات مسقطة تهدف التزييف أو..
ولا ينبغي تنحية الأكاذيب والمعلوم عدم صدوره ولا وقوعه ولو بالعلم العادي الاطمئناني فقط، بل من الضروري تشييد السيرة الحسينية وفق أسس النقد التاريخي والحديثي أيضاً، فالذي لم يثبت – ولو لم يكن عدمُه ثابتاً – ينبغي تخفيف حضوره على الأقل، كما أنّ الذي يقع مرجوحاً من الناحية التاريخية ينبغي تقديم الطرف الراجح المقابل له عليه، وبعبارة جامعة: ينبغي التعامل مع وقائع الثورة الحسينية والنصوص التاريخية الواصلة إلينا عنها، تبعاً لدرجة صحتها، فالمؤكد صحته ينبغي الترويج له والإصرار عليه وإشاعته، وأما غيره فينبغي أن يكون حضوره تبعاً لقيمته العلمية والتاريخية، ولا ينظر فقط إلى رغبة الرأي العام الذي نطالب نحن – من ننعت أنفسنا بالعلماء – أن نوجّهه ونصوّبه لا أن يكون هو المسيّر دائماً لحركتنا وأدائنا.
إن الشعوب في حال إنتاج دائم للمعتقدات الشعبية الممزوجة بالخرافة، كما تؤكّد ذلك أيضاً تواريخ الأديان كافّة، وعلماء الدين ومفكرو المسلمين والمصلحون الاجتماعيّون يمثلون بالدرجة الأولى مصفاةً تنقّي هذه المنتجات الملوّثة بالخرافة أو الوهم، فإذا تعطّلت هذه المصفاة تلوّث المناخ كلّه، وصار من العسير ديمومة الحياة في ظلّه.
6-ومن عناصر الإصلاح الضرورية الأخرى، إصلاح المظاهر العامّة، وإعادة النظر فيها وفق الموازين الشرعية والعقلية والإنسانية، ثمة مظاهر يجب نقدها لتقديم صورةٍ أكثر جماليةً وتأثيراً في القلوب عن الثورة الحسينية، فمظاهر مثل التطبير (ضرب القامات)، ووضع الأقفال على الأبدان، وضرب السلاسل، واللطم العنيف المدمي، وشبه التعرّي الموجود أحياناً، والمشي على النيران، والزحف والمشي مشية الكلاب على أبواب المراقد المطهرة للمعصومين(ع)، ونعت الذات بأنّها كلب الأئمة(ع) أو التسمّي بأسماء تحمل هذا المضمون أو..، وغير ذلك من المظاهر، لم يقم عليها ـ من وجهة نظرنا ـ دليل شرعي، بل باتت اليوم سلاحاً بيد الآخر لتشويه المذهب الإمامي في أرجاء المعمورة.
ولا نريد بذلك التنازل عن عقائدنا وشعائرنا لأجل الآخر، أو خوفاً من تشويهه وتشهيره، فهذا ما لا يرضاه الله لنا، وإنما نقصد ملاحظة قانون التـزاحم بين المصالح والمفاسد، سيما وأنّ هذه المظاهر على أقصى تقدير مستحبّة بعنوانها الأوّلي لا واجبة، فلا ينبغي التورّط في الحرام لأجل تحقيق مستحب.
7-ولسنا نطالب بقمع هذه المظاهر بالقوّة أو مواجهتها بالعنف والقسوة، فهذا ما لا نجد عظيم جدوى من ورائه، إنما المطلوب نشر الوعي، ورفع مستواه بين العامة من الناس، بل بين بعض رجال الدين أيضاً، بطريقٍ مباشرٍ أو غير مباشر، لا بإثارة العامة أو تهييجهم.
إنّ المعتقدات والمشاعر الدينية ربما يضيق نطاقها على صعيد الكم من حيث عدد المقتنعين بها عندما نمارس ضغطاً وقسوةً، لكن العدد القليل المتبقّي ترسخ عنده المفاهيم المحمولة، وتزداد رسوخاً وتعمّقاً، ليتحوّل تياراً صلداً على قلّة مناصريه.
إنّ الطرف الرافض لهذه الأنشطة الإصلاحية يحقّ له أن يبدي رأيه، ويمارس نشاطه بحريّة، وأن لا يُقمع أو يرهب أو يستخفّ به، من دون أن يكون له قمع غيره أو تفسيقه أو تضليله أو تكفيره.. بسبب أمور لا تسمّى سوى الاختلاف في وجهات النظر ليس إلاّ.
8-ومن أبرز مظاهر الإصلاح تطوير آليّات عرض الثورة الحسينية، فليست مجالس العزاء المتداولة هي السبيل الوحيد لنشر ثقافة الثورة، بل قد استجدّت طرق يمكن إضافتها إلى ما كان، فإدخال الثورة الحسينية إلى دور السينما، وإلى التلفزيون والفضائيات والكمبيوتر، وللأطفال والشبان، قصّةً وروايةً وحكاية و…، هذه جميعها وسائل جديدة يمكن توفيرها لخدمة الأهداف الحسينية الكبرى.
كما أنّ تنظيم المسيرات ومجالس العزاء، واتسامها بالترتيب والتنظيم والأناقة والتناسق والجمال و.. وإخضاعها لتجويد وتحسين مستمرّين، هذه جميعها عناصر مساعدة على رفع مستوى إحياء الشعائر، لتكون منبراً إعلامياً للإسلام يعرض الفكر والمفهوم كما يُبدي العاطفة والإحساس، بدل أن تستغلّ للتشويه والتـزييف.
إنّ صور الإحياء وأشكاله أمرٌ بشريّ لا يخضع لنصٍّ إلهي أو حكم ديني، وإنّما يتبع الأوضاع الاجتماعية والثقافية في المجتمعات المختلفة، شريطة أن يبقى محافظاً على القواعد والأخلاقيات والأسس الدينية العامة، وهذا ما يسمح لأشكال إحياء الشعائر بفرص كبيرة من التطوير والتجويد، تبعاً لحاجات العصر وضرورات المرحلة، من دون أن يكون هذا التطوير ـ بالضرورة ـ خوفاً من طرفٍ أو حياءً من آخر، وإنّما رغبة عقلانية صادقة في رفد نظم مشاركاتنا الشعبية بالمزيد من التناسق المنسجم مع التطوّرات التي تلفّ المجتمع برمّته.