أحدث المقالات

 

 

صناعة الحياة وثقافة الموت

 

إيمان شمس الدين

مقدمة:

الإنسان هذا المخلوق العجيب الذي خلق الله لأجله الكون بأسره وخلقه الله كإنسان لأجل نفسه لا لغاية في هذا الأجل وإنما لتتجلى قدرته وعظمته وكينونته في هذا المخلوق فيكون الخالق بصفاته الذاتية ويكون المخلوق انعكاسا له بالعرض.لذلك تجلت قدرة الخالق في الإنسان بأسمى المعاني وأهمها حينما خلقه ضمن مثلث وجودي يكمن فيه كماله وصيرورته الآدمية وهي الحرية والإرادة والاختيار وجعل على رأس هذا المثلث العقل ثم أبدع في ترجمة هذه الامور حينما أودعها الآلة الجسدية التي بها تترجم عمليا وفق حدود رسمتها الشريعة المقدسة لضبط الغرائز لتكون هناك لغة متناغمة بين الجسد الآلة والروح بمثلثها وعقلها.

ومن هنا جاء الاستخلاف ليكون الترجمة العملية على الأرض لإرادة الخالق في إظهار إبداعه لعياله,ففطر الإنسان على حب الكمال والسعي نحو الأفضل بل أودع به حب الذات الذي يعتبر الشرارة الأولى لكل شيء حسنه وقبيحه.

ومن حب الذات ينطلق الإنسان نحو ترجمة إرادته واختياره وحريته ويكون الفيصل بين الخير والشر هو من يكون الحاكم والموجه لحب الذات هذا؟

فإن كان العقل أبدع الإنسان وعمر الأرض بالخيرات والعدل والحب والتسامح بل كانت حياته مليئة بالعمل والعطاء والمبادرة في سبيل تحقيق الاهداف السامية,أما إن كان الحاكم هو الغرائز فإن حب الذات لن يخنق فيه حب المبادرة بل هو سيوجه هذه المبادرة إلى تكريس ذاته الأنانية بطريقة فاسدة تسعى للهيمنة والسيطرة على عباد الله وثروات الأرض بطريقة ظالمة تحطم فيها البشر والحجر وتغرس فيها المبادئ الهدامة وتحارب القيم والأخلاق التي ترتقي بالمجتمع ليصبح سفك الدماء من مقومات وجودها وكينونتها.

وبما أننا نعيش على الأرض وفي الدنيا فلا بد للحق أن يصارع الباطل ولابد لصراع الخير والشر وبالتالي تصبح للمفاهيم الكلية مصاديق كثيرة يعتمد فهمها على الأهداف المرجوة منها وبالتالي تكون المقدمات والمنطلقات مرتبطة بتلك الاهداف وهنا يأتي خيار النفس الإنسانية وفقا لتطلعاتها ورؤاها الكونية التي ترتكز في كل أبعادها على نظرية المعرفة ومكوناتها الفكرية والفلسفية.ولعل أهم ما يمكن أن يشكل رادعا حافظا للإنسان من اختيار الشر وتفضيله على الخير هو ثقافة الجزاء الآخروي ومبدأ الحساب والثواب والعقاب وهي ثقافة ارتبطت بحركة انتقالية من دار إلى دار وصفت بالموت.لأن الهدف من وجود الإنسان هو خلوده الآخروي الذي تحدده خياراته الدنيوية بعد أن أمده الله تعالى بالثالوث السالف الذكر.

 

1.ثقافة الموت:

  وطالما أرق الموت مضاجعنا وأشعل صدورنا بالخوف والريبة والهاجس من المجهول الذي لا يعلمه إلا الله, وكان لهذه الثقافة التي تراكمت كميا عبر الزمن أن تتغير تغيير نوعي في  معرفتنا عن الموت,ولعل أبرز عنوان يجمع كل الثقافات هو الخوف والحزن لمجرد ذكر الموت.ولكن ما الذي لعب دورا في أن يتلازم الموت مع حالة الخوف والهلع؟

إن الطريقة التي يتم من خلالها طرح وترويج ثقافة الموت هي طريقة من وجهة نظري خاطئة في كثير من مناحيها,بل تتضمن الطريقة صيغة إرهابية رادعة ومنفرة للنفس الإنسانية التي فطرت على حب الحياة والخلود.ولعل أبرز من لعب هذا الدور في التوجيه الثقافي لمفهوم الموت هو الفهم الديني للفكرة من قبل رجالات الدين,ولا ننكر أن للموت قدرة هائلة على الردع والتقويم,ولكننا أيضا لا ننكر أن لا أصالة للردع وللتقويم في ثقافة الموت بل هي عرض و الأصالة هو أن الموت قنظرة للوصول إلى السعادة التي تشكل الأصل في ثقافة الموت وأما العرض هو الخوف والردع.ولعل البعض يستغرب كيف يمكن أن تجتمع السعادة مع الموت! لكن حينما نعلم أن الله تعالى خلقنا وأودعنا أمانة الخلافة الإلهية على الأرض لنعمرها بطاعته وعدله وخدمة عياله,وشرع لنا لذلك منهاجا قويما نستطيع من خلاله أن نصنع الحياة بوجهيها الدنيوي والآخروي,إذ أن وظيفة الإنسان بما هو إنسان أن يجعل من هذا المنهاج واقعا عمليا يمكن تطبيقه في كل الأزمنة والعصور بطريقة تصنع حياة عامرة بالسعادة والمحبة تعبد الطريق أمام حياة وسعادة أبدية يكون منشؤها وأصلها وقنطرتها ومزرعتها الدنيا “لان الشرائع لا تحدد للناس سيرهم في الآخرة ,ولكن الآخرة جعلها الله جزاء على الأحوال التي كانوا عليها في الدنيا”[1].ولا يمكن أن يتم لنا ذلك إلا إذا توغلنا في هذا الدين برفق وإنسانية واستطعنا أن نكسر الأطر التقليدية ونحافظ على ثوابته وأصالته وخلوده بطريقة تتناسب مع حراكية الزمان والمكان,ليكون للدين مرونته في أن يحكم كل زمان ومكان,لان الدين شرع على أساس المفاسد والمصالح الإنسانية وجاء وشرع ليخدم الإنسان وليس ليكون الإنسان خادما له فالدين جاء لهداية الناس وخدمتهم ولحريتهم وتزكيتهم وتعليمهم ليسعدوا في الدارين لأن المؤمن أولى بالدنيا من غيره,فيكون الموت في أحدها قنطرة للسعادة الأبدية في الأخرى إذا ما التزموا بهداية الله لهم.

1.2سلبيات الثقافة الرادعة للموت:

لعل أبرز ما يمكن أن ينظر له في هذه الثقافة هي السلبيات الهائلة التي انعكست على حركة التطور التاريخي عند المسلمين خاصة بعد الانتكاسات السياسية المتكررة للخلفاء في الدولة  الإسلامية المتوالين عليها حيث مارسوا أشد أنواع الظلم والانكباب على الدنيا,مما حدا بالأئمة عليهم السلام التركيز على الناحية الرادعة من مفهوم الموت وعدم إغفالهم للجانب المشرق منه خاصة فيما يتعلق بحياة المؤمن ما بعد الموت. ولكن اجتزاء النص من بيئته وظروفه حدا بكثير من العلماء الأفاضل أن يحولوا هذه النصوص إلى ثقافة موت رادعة ومنفرة للنفس الإنسانية من حلاوة لقاء الله تعالى إذا ما اقترنت هذه النفس والروح بمنهاج حياتي يتواءم وأصل التوحيد في اتباع كل ما امرنا الله تعالى به والانتهاء عما نهانا عنه وطوعت الجسد كآلة لهذه الحدود التي رسمتها الشريعة والتي لها رؤى تتناسب وكل عصر وبيئة وزمان.

ونتيجة هذه الثقافة وهذا الفهم المجتزئ للنص ظهرت مجموعة من السلبيات التي كان لها أثرا بالغا في حركة النهضة الاسلامية وتطور مسيرة حضارتها وأهم هذه السلبيات:

1.مفهوم تولي السلطة وإقامة دولة إسلامية تعرض لهجر من قبل من هم أهل للقيام بهذه الامانة نتيجة لفهم هذه النصوص الزاجرة عن السعي لطلب السلطة فهما مرتبطا بثقافة الموت,والزهد السلبي بالدنيا واعتبار السعي في ذلك من مهلكات النفس فرغب كثير من العلماء عن السعي في هذا الاتجاه حتى جاء الإمام الخميني قدس سره ليفعل أحقية رجل الدين في النهوض وإقامة دولة عادلة تزلل الصعاب أمام عيال الله تعالى وتهيؤ لهم الظروف ليعمروا الأرض بالعدل ويجعلوها قنظرة سعادتهم إلى الآخرة.وكم أخر هذا الفهم الخاطئ في تطور مسيرة المسلمين عبر التاريخ.

2. تنفير الناس من الحياة الدنيا بشكل سلبي أدى إلى هجر الكثير من المؤمنين والعلماء للحياة الاجتماعية والانزواء للعبادة خوفا على أنفسهم من العذاب البرزخي بعد الموت ومن أثار الاختلاط بالناس من الوقوع بالكبائر كالغيبة وغيرها متناسين أن جهاد النفس هو الجهاد الاكبر وأنه لا يكون جهادا إلا إذا كان سعيا في الدنيا واختلاطا بالناس والقيام بخدمتهم وإقامة العدل والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.وبالطبع لا يمكننا إنكار حاجة الإنسان بين الفينة والاخرى للعزلة لإعادة النظر فيما مر عليه من حوادث ولصياغة حياة أفضل من خلال أخذ العبرة من التجارب والاخطاء,إلا أننا نستنكر جعل العزلة أصلا لا حاجة عرضية.

3.عدم السعي نحو تطوير العلوم الدنيوية تحت ذريعة الزهد بالدنيا طلبا للراحة بعد الموت.وقد أثر ذلك كثيرا على مسيرة المسلمين في تطوير الحياة بكافة مناحيها والاستفادة من العلوم القرآنية والحديثية التي رسمت معالم الطريق ووضعت مفاهيم كلية نستطيع أن نستشف منها نظريات علمية تخدم الإنسانية وتطور حياتها وتسهل عليها أعبائها,ادى ذلك إلى تنامي حركة الغرب العلمية وتطوير عجلتها وسيطرته على الطبيعة ومكوناتها مما ادى إلى هيمنتهم على كافة مناحي الحياة واستغلالهم لنا بطريقة نهبت ثرواتنا وعطلت عقولنا وإنتاجنا للمعرفة والعلم.

لعل هذه أهم السلبيات التي نتجت عن الترويج لثقافة الموت السلبية. 

 

2.صناعة الحياة:

لذلك نحن بحاجة لقراءة دينية تنطلق من الإنسان وإلى الإنسان وبما يتناسب مع الحيثيات الزمانية والمكانية”ويقول الله تعالى في سورة الجن – آية 16 :” وألو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا”,ويقول:” «و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض»: الأعراف 96

وقال عز شأنه:”يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه”[2]

فالكدح لا ينتهي إلا عند لقاء الله تعالى المتحقق بالموت ومن مصاديق الكدح السعي في هذه الدنيا نحو حياة أفضل في إطار طاعة الله وتوحيده.

 ,ولكن للأسف الجدل الإنساني حول الدين من خادم له إلى حاكم عليه وفق صيغ ومفاهيم وعقليات تقليدية ضيقة جعلت منه غلا وإصرا على رقاب الناس.مع أن الدين هو وسيلة الارتباط بين الأرض والسماء بطريقة تحاكي فطرة الإنسان وتجعل من نفسه طائرا يحلق كلما ارتقى بدينه وارتبط بخالقه.وإذا ما استطاع الإنسان أن يفهم الدين على أنه جاء كمنهاج يعمر الأرض بالعدل والمحبة واستطاع أيضا أن ينتقل من النظرية إلى التطبيق في واقع الحياة على قاعدة وما من أمر إلا ولله فيه حكم فإنه سيكون صنع حياة يملؤها العدل والمساواة والمحبة والسعادة. وبما أن فطرة الإنسان مرتبطة بأصل التوحيد فهو قادر على أن يرتبط بهذا الأصل عبر الوسيلة ألا وهي الدين, ولكن بشرط أن من يقوم بربطه بهذه الوسيلة قادرا على أن يستقرأ النظريات الدينية بطريقة أقرب إلى الحقيقة وبعيدة عن القبليات والبيئة والموروث.ومن هنا نستطيع أن نقول لو أننا استطعنا أن نفهم الدين كدين جاء لعمارة الحياة بالعدل والمحبة  وحفظ كرامة الإنسان نكون بذلك جعلنا من الموت قنطرة للسعادة الأبدية فنكون سعدنا في الدنيا وصنعنا الحياة بكل ما تحمل هذه الحياة من معاني إنسانية جميلة وعمرنا الأرض بالعلم والتطور السليم النافع لخدمة الإنسان وربطنا النفس بالله تعالى فتصبح مشتاقة إلى لقائه .ولا ننسى أن الله فطر الإنسان على حب الخلود وجعل لهذه الفطرة مسالك تؤدي بها إلى هذا الخلود وهو خلودا ليس فارغا لا معنى فيه, بل أصل في نفس الإنسان الخلود والسعادة به ورسم طريق الوصول بالفطرة إلى هذا الهدف العظيم. وعل أبرز ما يؤسس لثقافة الحياة ويجعل من الموت قنطرة للسعادة هو ما قاله علي ابن أبي طالب عليه السلام:اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا. وهي ثقافة تؤسس للنهوض وعمارة الأرض بكل مقومات الحياة الكريمة التي تتناسب مع حفظ كرامة الإنسان وأهمها رفع كل مقومات الاستضعاف و محفزات الاستغلال من قبل الآخرين له والهيمنة على ثرواته ومقدراته.

وحينما ضرب من قبل قاتله قال كلمته الشهيرة “فزت ورب الكعبة”. ولكن كيف لنا أن نصنع الحياة وهناك من يقتات على ثقافة الموت ويفتح لها دكاكينا تدر عليه الرزق؟وينشر أفلام الموت المرعبة على الجدران وفي الإذاعات وفي الكتب ويروج للموت كثقافة رادعة ومقومة لها أصالتها وأن ما يمكن أن يحمله الموت من سعادة هو أمر ثانوي بعيد المنال.ونظرة عابرة ومتفحصة لأدعية الأئمة عليهم السلام التي تفوح رائحة الرجاء والامل وحسن الظن منها في الله تعالى لجديرة أن تعيد صياغة مفهوم الموت,فالأئمة هم سفراء الله على الأرض وهم القدوة والنموذج الذين قدمهم الله تعالى لنا لنتبعهم فنسعد في الدارين,وكما يقول الشهيد الدكتورعلي شريعتي في كتابه الإمامة:” الإمام إنسان ما فوق وليس ما فوق الإنسان فهو عبارة عن موجود إنساني تشكل روحه وأخلاقه ونهج حياته دلالة لبني الإنسان على كيف يجب أن يكونوا وكيف يجب أن يحيوا وعلي عليه السلام إنسان موجود على غرار ما يجب أن يكون أبناء الإنسان عليه “فهو النموذج البشري الذي يبين كيف يجب للإنسان أن يحيا وكيف يجب له أن يموت ليصبح الموت في ثقافة علي النموذج فوز وسعادة ,وهي ثقافة أراد أهل البيت عليهم السلام  ترسيخها من خلال الدعوة إلى الزهد الإيجابي بهذه الدنيا والنظر إلى ما هو أسمى من هذه الدنيا والارتقاء بطموح الإنسان إلى مستوى يناسب كرامته ومكانته في هذا الوجود وهو الخلود في الآخرة والسعادة الأبدية .   

chamseddin72@gmail.com

                 

 


[1] محمد الطاهر بن عاشور :مقاصد الشريعة الإسلامية ص 36

[2] الانشقاق آية 6

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً