مدخل أوَّلي
بذل علماء الشيعة جهوداً مكثَّفة ومتواصلة في سبيل ترسيخ عقيدة أهل البيت (عليهم السلام) في الضَّمير الشيعي، ولا نبالغ إذا قلنا: إن الإنسان الشيعي يمتلك رصيداً معرفياً معمَّقاً ومتميزاً بعقيدته ومذهبه وفقهه وتاريخه. وقد عُرف عن العائلة الشيعية حرصها الشديد على صيانة هذا الانتماء وحمايته ورعياته، وهي تعدّه جزءاً من تكوينها الوجودي والمصيري، فالتشيع هويتها الذاتية والجوهرية، هذه العائلة تعمل جاهدة على ربط أبنائها بهذا المذهب الطاهر بشكل أو بآخر، بدءاً من اختيار الاسم، ومروراً بالممارسات الحياتية اليومية التي تتصل بالمسؤولية التعبدية, وانتهاء بإحياء التراث وتنشيطه في حاضر الحياة. وفي المقدمة من هذا التاريخ ملحمة عاشوراء الخالدة.
وفي ضوء هذه المؤشرات، لا يمكننا أن نعدّ انتماء الإنسان الشيعي إلى هذا المذهب مجرد عاطفة ساذجة أو موقف يمليه وجدان تاريخي، إنه ليس ذكرى، بل هو انتماء مسوّغ من داخل عقله وروحه وضميره، فليس غريباً أن تكون الحجة الشيعية ثقافة ساطعة وحاضرة في حياة هذا الإنسان.
ولكن هل يكفي الانتماء العقيدي المدعّم بالدليل؟
إن التشيُّع ليس منظومة أفكار، ولا هو ثروة فقهية هائلة، ولا هو تاريخ فحسب، بل إضافة إلى ذلك كله، هو كيان بشري، فلا مذهب بلا بشر، هذا الكيان يشكل نسبة كبيرة من دائرة بشرية أوسع هم المسلمون. والآخر، مهما كانت هويته، لا يتعامل مع التشيع بوصفه طريقة في فهم الإسلام وحسب، بل زيادة على ذلك يتعامل مع التشيع بوصفه كياناً بشرياً، له جغرافيته وامتداده وأحزابه ونشاطاته وأهله المتواجدون في أنحاء العالم كله. وليس من شك في أن الحفاظ على التشيع وصيانته، ينبغي ألاَّ ينطلق من تأمين الحجة الشيعية على الصعيد العقيدي وحسب، بل كذلك من رعاية الكيان البشري لهذا المحمل العقيدي العظيم، فإن سلامة المذهب قد تتوقف إلى حدٍ بعيد على تماسك الكيان، وعلى أقل تقدير يمكننا أن نقول: إن تماسك الكيان يؤول إلى مزيد من الالتصاق بالمذهب، وليس من شك في أن هذا الكيان، إذا كان ضعيفاً مهلهلاً ممزقاً، فإن ذلك يقود إلى انزوائه. كما أنه يتسبب في تشويه الفكر وتشطيره، بل قد يستفيد العدو في استغلال هذه النقطة الحرجة لينفذ منها للطعن في نزاهة التشيع وعظمته وروعته. من هنا ينبغي أن يستوعب الاهتمام هذا المركب المزدوج، أي العقيدة وأهلها معاً، في إطار من التفاعل الحي النشط الذي يؤول إلى حماية العقيدة وقوة أهلها.
وفي الحقيقة ـ ومنذ زمن ليس بالقصير ـ بقدر ما كان الجهد كبيراً على مستوى التعزيز العقيدي، كان العمل على ترسيخ الانتماء الكياني ضعيفاً فاتراً، لقد كان هناك عمل دؤوب لتمكين العقيدة من ذاتها ومن الآخر، وقد تميّز الخطاب الشيعي بالقطع الحاد، بالمتانة، بالقوة، بالبيان… ولكن الخطاب الشيعي الكياني منسي… مفقود… ولم يتوافر للتربية العائلية مثل هذا الشعور المصيري الذي من شأنه بناء كتلة شيعية عالمية تتحدى جميع المحن والصعاب في سبيل الحياة الحرة الكريمة، بل بالعكس، نرى في الأيام الأخيرة حالة من التمزق والاحتراب، ما ينذر بشرٍّ مستطير.
في ضوء هذه الحقائق، وبوحي من الحاجة الملحَّة، ندعو إلى كيانية شيعية عالمية!
معنى الكيانية
ماذا نقصد بالكيانية الشيعية العالمية؟
إنَّها وجود منظَّم وفق قواعد تتسم بالمرونة، من شأنها تكتيل الشيعة في العالم على أساس التكافل الاجتماعي، والتفاهم والتواصل الفكري، قواعد متحركة قابلة للتطبيق والفعل، يتجاذب الشيعة من خلالها وبوساطتها مهمة الاستنهاض المتبادل والمتفاعل، قواعد نظمية تحقق قدراً معيناً من التضامن الحي المعطاء، وذلك بغضّ النظر عن التخوم الفاصلة من عرق ولون وجنس ولغة، قواعد في حدود الممكن الذي تسمح به الظروف والقدرات، تتجاوز مسألة تعدد المرجعيات الدينية، واختلاف التوجهات السياسية، قواعد تضبط أكبر مساحة ممكنة من أتباع آل محمد (عليهم السلام). وفي الحقيقة أن مثل هذه الكيانية كانت موجودة على عهد الأئمة الهداة (عليهم الصلاة والسلام)، فقد كان موضوع إغناء الفقير الشيعي مسألةً تهمّ الكيان كلّه، وكانت حماية الشيعي المضطهد مسؤولية جميع إخوانه مهما تفرَّقت بهم السبل، بل ومهما كان مستوى الالتزام الديني لكلا الطرفين، المغيث والمستغيث، كان إخوانه في حبّ آل البيت يلبون نداءه وإن كانوا على بعد قصيٍّ منه، وكانت حاجة الإنسان الشيعي تجد صداها العلاجي عند كل منتمٍ لهذا المذهب الطَّاهر، والإمام يكمن وراء العمليَّة كلِّها، عبر جهاز وظيفي متكامل، وربما شهدت بعض المراحل مثل هذه الكيانية، ولكن وفق صيغة عفوية، ولكن بمرور الزمن اختفت هذه الظاهرة الجميلة التي هي من صميم العقيدة ومن صميم المسؤولية الجادة.
إن أسباب هذه النكسة كثيرة، ومن الصعب استقصاؤها في هذه العجالة، ولكن الأمر المدهش حقاً، والذي يثير غريزة الغيارى، هو عدم الالتفات الجاد إلى هذه القضية… لقد أهمل موضوع ربط الإنسان الشيعي مصيرياً بالشيعة بوصفهم كياناً بشرياً، جماعةً متوادَّة في أنحاء متعددة من العالم، أكثرية أم أقلية، ما أسهم بشكل لا شعوري في ضعف العلاقات الحميمة بين الجمهور الشيعي في العالم.
حاجة مصيريَّة
الكيانية الشيعية، بالنسبة لنا نحن الشيعة، حاجة مصيرية في هذه الأيام، إذ تمارس الطوائف، في كثير من بقاع العالم، أدواراً سياسية مؤثرة ربما تتجاوز درجة الضغط إلى التوجيه والقيادة، فالطائفة اليوم مفردة عالمية فاعلة في صياغة شكل العالم السياسي والفكري، خصوصاً في العالم الإسلامي بل في العالم المتقدم أيضاً، إضافة إلى ذلك هناك اتجاه فكري عالمي نحو تقليص مفهوم سيادة الدولة، وليس من شك في أن فكرة العولمة بقدر ما تستبطن من دعوة إلى فتح الحدود وتداخل المجتمعات والحضارات، بلا قيود أو شروط، فإنها في الوقت نفسه ستكون مدعاة إلى التمسك بالجذور، والمؤشرات تؤكد احتدام الصراع بين معادلات كثيرة ستفرزها هذه التطورات المذهلة على صعيد الفكر والعلم والإنتاج والفن والأدب. وفي هذا السياق، ينبغي أن نعي استحقاقات العديد من الشعارات المطروحة اليوم في ساحة الفكر الإنساني، مثل مسألة حقوق الإنسان ومبدأ تقرير المصير وحوار الحضارات، أو صراع الحضارات والتعددية السياسية والشراكة الاجتماعية في صنع القرار السياسي.
إن هذه الفواعل والتطورات جميعها تستوجب استعدادنا للتفاعل معها بالمضمون والطريقة اللذين من شأنهما الحفاظ على الوجود الشيعي فكراً وطائفة، بل ورفع مستوى هذا الوجود. غير أنه تنبغي الإشارة إلى نقطة في هذا الخصوص، ذلك أن الشيعة في هذه الأيام تحولوا إلى رقم عالمي خصوصاً بعد قيام الدولة الإسلامية المباركة في إيران، والانتصار الرائع في جنوب لبنان، والموقف الشيعي المتميز من الديكتاتورية في العالم، حيث إن ذلك كله يجعل هذا الكيان في مواجهة سافرة وخفية مع الغرب بكل ما يمتلك من مقوِّمات فكرية واقتصادية وتقنية، تدعمه في ذلك العديد من الكيانات المحلية التي تتصور، عن جهل أو حقد، أن تصاعد النجم الشيعي يشكل لها تهديداً أمنياً وفكرياً ووجودياً، وذلك رغم ما عرف عن هذه الطائفة من تسامح مشهود، حتى مع الذين اضطهدوها وأذلُّوها وحرموها أبسط الحقوق.
في الحقيقة، من الصعب استيفاء جميع الأسباب الداعية إلى مشروع الكيانية الشيعية، فهي كثيرة ومتشعِّبة، ولماذا تذهب بعيداً، ونحن نقرأ، في القرآن الكريم وتراث أهل البيت، الكثير من الآيات والأحاديث التي تحث على التعاون والتعاضد بل وتدعو صراحة إلى مثل هذه المشاريع.
إن هذا العصر هو عصر التكتلات، والكيانية الشيعية ليست بدعة، وهي عودة إلى عصر الأئمة من أهل البيتo.
الكيانية الشيعية والطائفية
لا ندعو إلى طائفية شيعية، وإنما ندعو إلى كيانية شيعية عالمية توفِّر للشيعة الوجود الإنساني الفاعل الذي من شأنه رفع مستوى كل شيعي علمياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وذلك في سياق من الاعتراف بالآخر، والدفاع عن الحق، وترسيخ قيم العدل في جميع أنحاء العالم.
إن مشروع الكيانية الشيعية لا يتضاد مع كل انتماء خيِّر، بل هو يعزز الانتماء إلى الوطن والأمة والقومية والعالم. أكثر من ذلك إن هذه الكيانية تضمن لهذه الانتماءات شحنة روحية رائعة. إن الدفاع عن الوطن، انطلاقاً من كوني شيعياً، يعطي لهذا الدفاع زخماً روحياً عالياً، وفكر أهل البيت يركز على الاندماج في صميم الأمة وروحها، وهكذا مع جميع الانتماءات الخيِّرة الأخرى، وبالتالي فإن مشروع الكيانية الشيعية العالمية ليس بديلاً عن الانتماء إلى الأمة أو الوطن أو القومية أو الدولة أو العالم، لأنها ضرورية، والتجربة الشيعية أثبتت إخلاص الشيعة لهذه الانتماءات عبر كفاحهم الطويل في سبيل القضايا القومية والوطنية، وتجارب لبنان والعراق والهند وإيران من الشواهد الصارخة على ذلك، فقد حاربنا الإنكليز والفرنسيين والصهاينة، وكان لنا شرف تأسيس الدولة العراقية، وأسهمنا بفاعلية في طرد الاستعمار البريطاني من الهند، وكنَّا فخر المقاومة في جنوب لبنان.
إن الطائفة الضعيفة تتحول إلى عالة على الوطن، تخلق المشاكل الاجتماعية الخطيرة للأمة والعالم، تخون المجتمع، وتحقد على رموزه، فيما الطائفة القوية ذات المستويات الفكرية والاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية المتقدمة، تنصهر في خدمة الوطن والأمة والعالم، لأنها لا تعاني من العقد والأوهام.
إن الطائفة القوية الخيِّرة بنية متينة فاعلة في بناء الوطن والمجتمع، بل هي تسهم في تعبيد الطريق إلى مجتمع عالمي سعيد وآمن ومتعادل.
إن هذه الكيانية المأمولة تجذِّر العلاقة بين الإنسان الشيعي والدولة بوصفها مؤسسة حضارية عصرية تهتم بخدمة الإنسان، ومن المناسب أن نذكر هنا أن الشيعي لا يمتلك أي عقدة من الدولة كما يدّعي بعضهم، رغم ما عاناه الشيعة من الدولة، وإنما الشيعة ضد ممارسات الدولة التي تسعى إلى استعباد الإنسان وضد الدولة الطائفية العنصرية، وأكبر شاهد على ما نقول جهاد الشيعة ضد الاستعمار العالمي، ودورهم الجبّار في تأسيس الدولة العراقية.
الكيانية الشيعية في مواجهة المخاطر الخارجية
الوجود الشيعي مهدّد بكثير من المخاطر التي تهدِّد بالانتقام من أهله، ومراجعة بسيطة لما يجري على الشيعة في العالم يكفي للاطلاع على هذه الحقيقة التي لم تلتفت لها عيون من الشيعة للأسف الشديد، فالشيعة في العراق موضوع نفي وقتل وتشريد، وكان الشيعة في أفغانستان موضوع استئصال كامل، وقد أعلن رسمياً وسوّغ شرعياً، وهناك في باكستان المجازر البشعة التي تقع في الجسم الشيعي بين آونة وأخرى، وقد أعلنت منظمة سلفية باكستانية "حليِّة" الدم الشيعي بتهمة الكفر. ومن الملاحظ أن ما يعانيه الشيعة، بعد انفصال باكستان في القارة الهندية، أكثر مما كانوا يعانون منه قبل هذا الانفصال، وليس من شك في أن مستقبل الشيعة في لبنان محفوف بالمخاطر، وشيعة إيران معرَّضون لمؤامرة دولية كبيرة، وقد تشتَّتت السبل بنا هناك، وأميركا تراهن على الصراع القائم في إيران بين ما يعرف بالإصلاحيين والمحافظين، وهو رهان لا يأتي من فراغ، ولا نفصل ذلك كله عن التوجه الوهابي الجديد الذي شدّد من حملته على الشيعة في جميع أنحاء العالم بلا هوادة، وهناك دائرة قد استحدثت في داخل ما يسمَّى رابطة العالم الإسلامي تدعى دائرة مواجهة الرفض، فضلاً عن هذا وذاك يتعرض الشيعة في أوروبا للضياع، خصوصاً على مستوى الأجيال، وهذا لا يحتاج إلى برهان.
هذا الواقع المأساوي ليس له إلا الكيانية الشيعية العالمية، الكيانية ذات المواصفات العقلانية التي تعي المعادلة العالمية، الكيانية العالمية التي تدرك قواعد اللعبة السياسية، المتمكِّنة فكرياً واقتصادياً وإعلامياً.
الكيانية الشيعية والمخاطر الداخلية
إذا كانت الكيانية الشيعية ضرورة حتمية لمواجهة المخاطر، فإنها أكثر من ضرورة في مواجهة المخاطر الداخلية، فليس سرّاً أن الجسم الشيعي ليس منسجماً في داخله، فهناك طبقية اقتصادية قاتلة في داخل هذا الجسم، وهو مرض فتاك طالما حذر منه الأئمة الأطهار (عليهم الصلاة والسلام). وهذا التجانس يكاد يكون شبه مفقود بين الكثير من العلماء والجيل الجديد. وللأسف توجد معالم صراع بين الحوزات والمرجعيات الدينية، كما أن الأحزاب الإسلامية التي تهتدي بخط أهل البيت (عليهم السلام) ليست على وئام بل هي في شقاق، سواء في العراق أم في لبنان أم في إيران أم في أفغانستان، ويفتقد التجار الشيعة إلى أبسط صيغ التعاون، ولم يخطر في بال أحدهم أن يطرح مثل هذا المشروع المهم، كما أن المنافي تهدد الملايين من أطفال الشيعة بالضياع والدمار، فضلاً عن فقدان الهدف المركزي وتشتت الجهود هنا وهناك، وفي الحقيقة إن فقدان الهدف يشكل كارثة شيعية عظيمة، لأن ذلك يؤدي إلى التعثر وتفتيت الطاقات، ومن ثم إلى ولادة جيل شيعي غير واضح، وفي هذه الأيام نسمع عن مفارقة في عمق هذا الجسم، تعبر هذه المفارقة عن وجود خطين متناقضين أو متضادين: خط العلماء وخط المثقفين، وقد تبلورت هذه المفارقة في إيران، وراحت تجد صداها في المنافي الأوروبية.
إن هذه المخاطر حقيقية وليست وهمية، وهي في طريقها إلى التجذر والتفاعل مع الظروف، ما قد ينذر بتسارعها وتضاعفها.
العلنيَّة والوضوح
الكيانية الشيعية العالمية عبارة عن مشروع علني، إنه مشروع واضح،، لا يعمل في الكواليس والكهوف والغرف المظلمة، لأنه مشروع حضاري يهدف إلى الخير، ليس فيه ما يدعو إلى الخفاء أو إلى التستُّر، فالشيعة لكي تعمل في إطار كياني عالمي لا تحتاج إلى السرية، إننا لا نضمر ما يخيف أو يتضاد مع القيم الحضارية الإنسانية، وتاريخنا معروف على مستوى الإنجاز الفكري والسياسي، فالمشروع يعمل لأهداف مشروعة، تتمثل أولاً وأخيراً برعاية الشيعة في العالم، وإيجاد الإنسان الشيعي الصالح، من خلال النهوض بهذا الإنسان فكرياً واقتصادياً وأخلاقياً، وهذا يسهم في إغناء العالم وليس في إرباكه، وهي تتوسل بالآليات المشروعة لتحقيق أهدافها، بالفكر المسالم النير، والحوار مع الأنظمة والحكومات، والتعاون مع المؤسسات العالمية المعترف بها، واللجوء إلى القوانين والأعراف الدولية، والأساس طبعاً هو القوانين الداخلية المنظمة للكيانية التي هي الأخرى تتصف بالموضوعية والوضوح والشفافية والمرونة، وسوف نتعرض لهذه القضية لاحقاً.
النقطة الجوهرية هنا هي التركيز على العلنية والوضوح، فإنهما من الأركان المكينة في تأسيس هذه الكيانية المرتقبة، سواء على صعيد المشروع أم الأهداف أم المعالجة أم الآليات.
من هو الشيعي؟
ليس من شك، ونحن نطرح فكرة الكيانية الشيعية، في أنّه لا بدّ من أن نقدِّم تعريفنا للإنسان الشيعي، فمن هو الشيعي يا ترى؟
ينتظر بعضهم تعريفاً على سنة الأنموذج، وهذا التعريف يختزل الحقيقة ويحذف الكثير من مصاديقها، ولا نتفق مع ذلك التعريف الذي يعقد تطابقاً قدرياً أو اختياراً بين الإنسان الشيعي والموت قتلاً، ومن غير المنطقي سلب الهوية والاكتفاء بالانتماء التاريخي، وفي الحقيقة الانطلاق من المنظور الشرعي يكفينا مؤونة هذه الفوضى، فالشيعي هو هذا الإنسان المسلم الذي يفهم الإسلام بطريقته المعروفة، بغض النظر عن الالتزام ودرجته، ولكن في ضمير الإنسان الشيعي يكمن رفض قاطع لكل من يدَّعي التشيع إلاَّ أنه ينكر ضرورة من ضرورات الدين أو يستحق عنوان العمالة السياسية بشكل من الأشكال.
هذا هو الشيعي الذي يعمل مشروع الكيانية الشيعية على تبنِّي قضاياه الكبيرة، فنحن نرى أنّ من حق هذا الإنسان أن يحصل على حقه من التعليم، وأن يكون له مصدر رزق شريف، ويتوفر على هدف إنساني نبيل، ويشغل أوقات فراغه في هواية نافعة، ويتمتع بمستوى ثقافي إسلامي إنساني يؤهله لخدمة أهله وأمته ووطنه والعالم، ويؤدي دوراً فاعلاً وإيجابياً في الحياة.
العناصر الأساسية المكونة للكيانية الشيعية
في الجسم الشيعي مجموعة مكوِّنات جوهرية وأساسية، إلا أن هذه المكوِّنات، رغم إسهامها في تشكيل البنية الخارجية لهذا الجسم، تفتقر إلى التعاضد الوظيفي في ما بينها، وهذه إحدى المشاكل الكبيرة التي يعاني منها هذا الجسم، فهو جسم عليل ليس في مكوناته العضوية بل في افتقاد نظرية ـ ولو في معالم بسيطة ـ تشخص هذه المكونات، وتربط في ما بينها بعلاقات وظيفية انطلاقاً من أُسس شرعية وواقعية، وفي ضوء أهداف واضحة كالتي أشرنا إليها مثلاً.
مكونات المرجعية الدينية، وموقعها في قلب الوجود الشيعي، هي إمكانية مشحونة بقدرة التواصل مع امتداد الوجود فكراً وتاريخاً وجغرافيةً وروحاً، ومن ثم الأحزاب الشيعية، والتنظيم الحزبي خطوة متقدمة على طريق الفكر والسياسة والعمل من أجل الحقوق والحياة الكريمة.
وهناك المؤسسات الرسمية في هذا البلد أو ذاك، وهي خير مدخل للتعامل مع المعادلات والأعراف الحكوميَّة والإقليمية والعالمية، ولا يمكن أن نغفل الطاقات الأكاديمية المشتتة في جميع أنحاء العالم طوعاً أو كرهاً، وهي مشدودة إلى مذهبها وتاريخها إيماناً أو تراثاً أو إعجاباً أو عاطفةً، جغرافية ممتدة تترافد بإمكانات التوافق الأثني والعرقي والأسري، جغرافية خصبة بالتاريخ، وقد وجهته في سياق من العطاء الحضاري المستمر. وأخيراً هناك الشرائح الشيعية المثقفة، أي المثقفين من كتّاب وشعراء وفنانين ومسرحيين… وهؤلاء المثقفون يعانون من اضطهاد مزدوج: اضطهاد من الغوغاء من جهة ومن رفض بعض الذين جمعوا على مستوى واحد ومتوازٍ بين النص المقدس والتفسير البشري لهذا النص من جهة أخرى. وقبل كل هذه المقدمات نقول: إن هذا الوجود أمَّة تتصف بالحساسية السياسية والعاطفة الفذة والوعي التاريخي العميق، فليس مصادفة أن أكثر رواد الحركات السياسية في الوطن العربي من المنتمين إلى هذا المذهب ـ ونحن نشير هنا إلى البلدان التي يقطنها شيعة أقلية أو أكثرية ـ هذه الأمة تتطلع إلى التكامل الكياني بالاعتماد على الإمكانات الذاتية للطائفة قبل الدولة!
هذه هي مكّونات الكيانية الشيعية التي نطالب بها!
البداية الممهِّدة
كيف نبدأ؟
إن مشروع الكيانية الشيعية مشروع ضخم، لا يمكن أن يتحقق من دون مقدمات، هي بدورها تحتاج إلى زمن ومعاناة وتفكير، إن مشروع الكيان الشيعي المتكامل والمتناسق والمتفاعل والمتكافل مشروع عظيم، وإن مشروعاً بهذه الضخامة والجسامة يحتاج، في الدرجة الأولى، إلى نظرية تتناول أصالة القضية وضرورتها القصوى وأهميتها الملحة في هذه الظروف الصعبة، ويمكننا أن ننطلق، في تأسيس هذه البداية، من الأسس الآتية:
الأول: الحقيقة الموضوعية المستقاة من تجربة الحياة، خصوصاً في هذا الزمن الملتهب المتفجر، حيث تلعب لغة التكتل دورها الفاعل في صنع الحاضر السياسي والاقتصادي والفكري في جميع أنحاء العالم، التكتل وفق مقاييس قومية وعنصرية وطائفية…
الثاني: أحاديث أهل البيتo، تلكم الأحاديث التي تعالج موضوع الكتلة الشيعية، وهي أحاديث كثيرة وعميقة وجادة وملتزمة، ونحمد الله على أنها حفظت للأجيال عبر هذه الأزمنة القاسية.
ثالثاً: تجربة أهل البيتo العملية، فإنها مسيرة سخية ومعطاءة في تصوير هذه الحقيقة ونظمها في هذا الزمان وكل زمان، فلقد شهد عصر الأئمةo، وخصوصاً في حياة الأئمة الأواخر تجربة تكتل رائعة يمكننا تبنِّيها والاستفادة منها كفكرة وممارسة وأحكام وآليات.
وفي الحقيقة، وقبل أي بداية عملية على صعيد هذا المشروع العظيم، لا بد من بداية ضرورية سابقة على أي إجراء، إنها عملية التثقيف الجادة بالمشروع، وذلك بنشر الكتب والنشرات وإجراء اللقاءات والحوارات والمناظرات. وفي رأيي أن المنبر الحسيني يمكن أن يؤدِّي دوراً رائداً في هذا الخصوص، متوسلين، إلى ذلك بأحاديث أهل البيتo وبالتحليل الدقيق لما يجري في العالم من أحداث وتطورات تتصل بالقضية.
إن رعاية علماء الدين الروحية والشرعية لهذا المشروع تختزل الكثير من الخطوات والجهود وتقرِّبه إلى الواقع العملي مسافات كبيرة.
نعود ونقول: إن التبشير بالفكرة هو البداية الطبيعية، التبشير بلغة التثقيف العلمي الرصين والأرقام الفكرية والسياسية والاجتماعيَّة، فإن طرح الفكرة وحده يفجر فينا حيوية الضمير وفهم المصير وعواطف التواصل، والشيعة في جميع أنحاء العالم متشِّوقون لمثل هذا الطرح لأنهم يعانون من الظلم والاضطهاد بسبب هذا الانتماء الشريف.
الكيانية والمستقبل!
يتنبَّأ الدارسون بمستقبل ساخن في العالم، وذلك على جميع الأصعدة والمجالات، سيكون لموضوع الدين حضور حي، وربما يتصف هذا الحضور بالتعصب هنا وهناك، وسوف تتخلل هذا الحضور انبثاقات وتصورات جديدة تتراوح بين الانفتاح والانغلاق تتمثلها جماعات مستحدثة. ما يزيد من حدَّة الصراع في العالم من جهة ويصاعد من وتيرة الدعوة إلى فكرة حوار الحضارات من جهة أخرى، وترى الكثير من الدراسات المستقبلية أن هذا الحضور سيكون في بعض مفرداته على شكل فرق دينية سرية خصوصاً في إسرائيل والصين وروسيا، وليس من شك في أن التصور الذي يقول: إن القرن الآتي هو قرن العولمة لا يخلو من دلائل قوية، ونلاحظ بوضوح أن هناك ظاهرة إحياء قوية للنزعات القومية والطائفية والعنصرية في العالم، وظاهرة التكتلات الاقتصادية في طريقها إلى الانتشار والتوسع، وتكاد تكون من مبادئ التكامل الإقليمي، وقد شهد عالم الفكر تحولات جذرية، ومن الأدلة على ذلك هذه التطورات المذهلة في بنية الفكر الماركسي على يد أبرز قياديِّيه ومنظريه البارزين، وكان من أهم التطورات في هذا المجال دعوة سكرتير الحزب الشيوعي الروسي إلى نبذ الإلحاد والاعتراف بدور الأديان الإيجابي في التاريخ، ومن معالم التطور الفكري في العالم مشروع الطريق الثالث وهو في طريقه إلى التبلور والتشكل، والظاهرة القومية تحولت إلى حقيقة موجهة في تصميم الشعور والفكر مهما كان مجرَّداً.
إن خيار العزلة مستحيل، وهو المعادل الموضوعي للانتحار الحضاري، وربما يقود إلى رد فعل قاسٍ يستهلك حتى الذاكرة، ويغوي بالذوبان الذليل والتسويغ بالعجز التكويني والإرادي، وهو من أخطر الأمراض التي تعصف بالأمم والطوائف.
ما هو موقف الشيعة، مذهباً وطائفة، من هذه الفتنة العالمية؟
إن الكيانية الشيعية هي الجواب، الكيانية التي تستهدي الفكر الإسلامي العميق والتكافل الشيعي الواسع اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، كيانية تؤهلنا للاندماج في العالم، نؤثر فيه ونتأثر به إيجابياً وحيوياً.
إن اندماجنا الإيجابي، مذهباً وطائفة في العالم، وأعني الاندماج الذي من شأنه حمايتنا وتقدمنا وإثراؤنا، لا يكون عبر قائد أو حزب أو حوزة أو مؤسسة رسمية وإنما عبر كيانية شيعية متماسكة… كيانية لها قواعد عملها وأهدافها وجماهيرها وفكرها وكتَّابها ورموزها بل وحتى شعارها وأناشيدها.
إن الكيانية الشيعية، على ضوء هذه الحقائق، قضية حياة أو موت!
العالم الشيعي والكيانية
من الثوابت، التي دخلت في إطار الحقائق الموضوعية المشهودة، أن عالم الدين بالنسبة للجمهور الشيعي يشكل مرجعية معرفية ضخمة، فهو مسؤول عن الصياغة الفعلية لحياة هذا الجمهور على كثير من الأصعدة والمجالات، فالإنسان الشيعي يرجع إلى هذا الرمز الروحي العظيم لاختيار أنموذج سلوكه الاجتماعي، في ضوء ما يسطره الرمز المذكور من أحكام شرعية ومفاهيم أخلاقية، بل في بعض الأحيان يكون هذا الرمز هو المرجع الفكري، حيث يُتوسم له التجسيد الحي للتقوى والعدالة والأمل. وفي الواقع إن هذه المعادلة تمتلك امتداداً طويلاً، وهي منذ مدّة تمارس فاعليتها داخل الوجدان الشيعي، وفي صميم تكوينه الروحي، وقد تضافرت على مر العصور والتجارب مجموعة عوامل مركزية، أسهمت في تأسيس هذه الحالة وبلورة مدياتها المتشعبة، وعلى رأسها طبيعة الشريعة الإسلامية، ومبدأ الإمامة الذي يشكل ما يميّز المذهب الجعفري العظيم، وعقيدة المهدي المنتظر التي وجدت تفصيلاتها الفذة في تراثنا المقدس، ومن ثم غربة الإنسان الشيعي في العالم الإسلامي في بحر عقود من السنين، وليس من ريب في أن ذكورية المجتمع وكونه زراعياً أُمياً وانعدام فرص الثقافة والتعلم، عوامل مساعدة في تأسيس هذه الظاهرة، ورغم النشأة الموضوعية والطبيعية لهذه المعادلة بلحاظ العوامل الآنفة، إلا أنها تعرضت لشيء من الارتباك، ولذلك أسباب بطبيعة الحال، منها انحسار مساحة الشريعة في ضمير الإنسان المسلم بشكل عام، والتحولات الجذرية في بنية مجتمعاتنا، وإفرازات الحضارة الغربية، وتغلغلها في كثير من مرافق حياتنا وسلوكنا، وانتعاش فكرة السوق، وتبلور فكرة الوظيفة المدنية بمستلزماتها القانونية والسلوكية، وبالتالي موجات الفكر الوافد الذي يتعارض أساساً مع الإسلام أو يجانبه أو يعمل على طرحه تماماً، ولا ننسى هنا دور ما يسمى بالحكومات الوطنية على الفصل بشكل أو بآخر بين العلماء وقواعدهم الشيعية الشعبية.
لقد أدت جميع هذه التطورات والمتغيرات إلى انحسار المعادلة المذكورة، خصوصاً أن بعض علماء الدين انساقوا، بوعي أو بغفلةٍ، مع هذا الوضع المؤسف، فهم لم يعملوا على معالجة هذا الامتحان العسير، فأهملوا وهم كثر للأسف الشديد شؤون الأمة الكبرى، ولم يحاولوا استيعاب حركة الجيل الجديد، وعزلوا أنفسهم عن حركة العالم الصاخبة، واكتفوا بجملة من الممارسات العادية التي لا تمس جوهر التاريخ، وبالتدريج تحول العالم الديني إلى رمز شكلي، ولكي نكون أكثر إنصافاً للحقيقة والتاريخ، لا بد من أن نقول: إن بعض العلماء الأعلام انتبه إلى هذه الظاهرة الخطيرة، وآمن بضرورة الحل العاجل والناجع، وتقدم، بخطوات سريعة في هذا المجال، ولكن الظروف المعاكسة كانت أقوى، ولا مجال في هذه العجالة لاستيفاء بحث ملابسات هذه الظروف ومضاعفاتها، على أن الأمور استدارت دورة هائلة، فقد شاء الله تعالى في سياق من الظروف الموضوعية أن يظهر على الساحة غير رمز، استطاعوا أن يحدثوا نقلة فكرية وسياسية وروحية في ضمير الإنسان الشيعي، وبخاصة في إيران والعراق، وقد تمخضت جهود هؤلاء العلماء الأعلام عن أكبر إنجاز تاريخي، ذلك هو الثورة الإسلامية في إيران، ولكن في تصوري أن الإنجاز الأعظم هو عودة المعادلة المفقودة، أي العلاقة القيادية والأبوية والروحية والامتثالية بين الإنسان الشيعي وعالمه الديني العزيز، وكانت عودة واعدة، لأنها تأسست على قاعدة فكرية مبرهنة واقعياً وفكرياً ومادياً. وقد تعززت بالتنظير الفقهي العقيدي في ما بعد، وزاد من صلابتها وقوتها إخفاق القيادات العلمانية في العالم الإسلامي.
كانت عودة محسوبة التكاليف ومقدرة الاستحقاقات في نظر الإنسان الشيعي المعاصر، وجوهر هذا التكليف والاستحقاقات، في نظر هذا الإنسان، هو أن عالم الدين الشيعي، يجب أن لا يتحول إلى رمز من فوق بل إلى رمز من الداخل، ولكن للأسف الشديد لم يتفاعل الكثير من علماء الدين مع هذا المفهوم الخير، الذي هو في الحقيقة ترجمة موضوعية للتطورات الجديدة، فضلاً عن كونه المعادلة التي تترجم سلوك رسول الله’ وخلق الأئمة (عليهم السلام)، لقد استغل بعضهم هذه العودة بشكل سيء ومخالف لضرورات المرحلة، ومتناقض مع أبجديات التشيع وروح الإسلام، كانت هناك ظاهرة الإثراء والاستعلاء، وتقديم الروابط على الضوابط، والصراع على المواقع الوظيفية، والتنافس غير المحكوم بأدب الحوار الجميل، والحملات التشهيرية المتبادلة.
ماذا كانت النتيجة؟
لقد عادت المعادلة طريدة الحياة، عادت متنسكة وليست متقهقرة، لأن الموقف الجديد من الإنسان الشيعي يصنعه الوعي وليس القدر العفوي، ولا نريد أن نبين معالم هذا التقهقر، فإننا كشيعة نعرفها جيداً، وتحز في نفوسنا وضمائرنا.
إن العالم الديني هو الرمز والقوة، بل هو عمود الوجود الشيعي وسره وشريانه الحار، ولذلك لا بد من أن يعيد دوره التاريخي، ولكن هذا يتوقف على مجموعة من المتطلبات، ينبغي أن يستوعب هذا الرَّمز الكريم حركة الفكر الجديد، ويمتهن بمهارة فائقة لغة الكتابة المعاصرة، وأن يتجرد كاملاً للدعوة المباركة، بعيداً عن كل مظهر دنيوي، ويحيط بالمعادلات السياسية العالمية والإقليمية والمحلية.
والحقيقة، إذا توافر طاقم من هذا اللون من العلماء في الوسط الشيعي، سوف يكون مشروع الكيانية الشيعية قريباً جداً من الواقع الناجز، وذلك بعد أن يشفع هذا كله بحركة ديناميكية حية في الموج البشري الشيعي ـ قدر ما يستطيع ـ مبشراً بالفكرة وضرورتها، وداعياً إلى التحرك في اتجاهها، مطالباً الجماهير الشيعية بتبني الفكرة بعنوانها العام، إلى أن تتهيأ فرصة التفصيل والبيان، بخلق الجو الشعوري المتعاطف مع الفكرة، يجعل منها سؤالاً مطروحاً، وعناوين عريضة، فمن المعروف أن المشاريع الحضارية الجماهيرية الضخمة تبدأ بمثل هذه الخطوات التي قد تبدو، في الوهلة الأولى، خيالية وهلامية وفضفاضة، ولكنها بمرور الزمن وتعدد الطروحات وتصاعد دائرة الحوار واتساعها واشتداد الجدل، يتبلور المشروع ويكثر أنصاره وأتباعه.
التاجر الشيعي والكيانية
لا نعتقد بأن الحديث عن دور التاجر الشيعي، في موضوعة الكيانية الشيعية، يدخل في دائرة النوافل، لأن التاجر ليس مفردة في ظل الأرقام التي تحكم العالم في هذه الأيام، ولم يعد التاجر مجرد قوة اقتصادية بحت، بل هو إضافة إلى ذلك موقع اجتماعي وقيمة معرفية، وربما فضاء سياسي وحركي بشكل أو بآخر، وفي مستويات متفاوتة من السعة والفاعلية والعمق، وقد أدرك زعماء الطوائف والأديان هذه الحقيقة المهمة، فسعوا على صعيد الاستفادة منها إلى أبعد الحدود الممكنة، ولم تكن هذه الاستفادة متروكة للمزاج الشخصي أو مستوحاة من الظروف الطائرة، بل هو لبنة في تخطيط، أي أن التاجر في حساب هذه الطوائف، بنية تأسيسية، يمارس دوره المرسوم بفاعلية وقوة بلحاظ جميع قدراته المادية والمعرفية والاجتماعية، وقليل من الاطلاع على أحوال اليهود والبهرة والبهائية وغيرها من الطوائف والملل، تكشف بوضوح عن الدور الرائد للتاجر، حقاً إنه الدور المؤسس.
لقد أسهم هؤلاء في تطوير الواقع الاقتصادي لطوائفهم، ومكنوها من مواقع متقدمة في العالم، وقدموا لشركائهم في الانتماء العون المادي والمعنوي، كي يحصلوا على التعليم العالي والوظائف المؤثرة في صنع القرار السياسي والاجتماعي، الوطني والإقليمي والعالمي، ووفروا لإخوانهم الحماية السياسية والأمنية والقانونية، وذلك كله يعود بالنفع العام على الطائفة برمتها.
المطلوب من التاجر الشيعي أن يكون على هذا المستوى من العطاء، أن يكون عنصراً مخططاً داخل الكيان، أن يتحول من كتلة مالية داخل التيار إلى وظيفة قيادية، تشارك بوعي ومسؤولية في قيادة الطائفة، وهي تكافح من أجل الحياة ومن أجل التقدم، ومن أجل الانتشار، ومن أجل الرفعة، فعلى التاجر الشيعي أن يتحرر من الفهم الساذج لمفهوم إبراء الذمة وينتقل إلى معناه الأعمق، إلى فضائه الأوسع، فإبراء الذمة لا يساوي دفع الحقوق الشرعية وحسب، بل يعني التطابق بين الإمكانات والمسؤولية.
إن المطلوب من التاجر الشيعي أن ينزل بنفسه إلى الميدان، أن يدرس الواقع الشيعي بجميع إشكالياته ومشاكله، بجميع نقاط ضعفه وقوته، يحدد الحاجات والآليات، بالتعاون مع العلماء الأعلام أهل الفكر والاختصاص وبمراجعة المؤسسات الشيعية من مدارس وجمعيات، أن يتحرك بنفسه في أحياء الشيعة الفقراء، يتصل بهم مباشرة، ويقوم بمسح للساحة الشيعية ـ على الأقل القريبة منه ـ ثم يدرس الحلول المطلوبة.
إن من المهمات التي تنتظر التاجر الشيعي هي توسيع القاعدة الشيعية، إن تكثير الرقم التجاري الشيعي عملية ضرورية ملحة وحاسمة، هذه هي الطوائف في جميع أنحاء العالم، تسعى إلى توظيف كل من تجد فيه الكفاية التجارية، لتجعل منه رقماً جديداً في جملة تجارتها، تضيفه إلى طاقتها المالية المتحركة لينفع نفسه وأهله وطائفته، إن توسيع القاعدة التجارية الشيعية عملية سهلة، إذ تتوافر جميع عناصرها الحية من مال وكفاءات ومجال، والعملية في عنصرها الجوهري تعتمد على همّة التجَّار الموالين.
إن توسيع القاعدة التجارية الشيعية حاجة ماسة ومن صميم الواقع، فاقتصاد السوق هم الحاكم والمهيمن والسائد، وهذه القضية من أهم ما يتدارسه تجار الأديان والطوائف مع قادتهم الروحيين. إن العلاقة بين التجار والأنظمة في طريقها إلى المزيد من القوة بسبب القيم الاقتصادية الجديدة، وتناقص دور سيادة الدولة، وهذا كله بدوره يوفر للتاجر دوراً في العمل السياسي، وبالتالي يمكن أن نستثمر هذا كله في خدمة الطائفة.
إن المطلوب من التجار الشيعة أن يسعوا إلى تشكيل التيار التجاري الشيعي العالمي، التيار الذي من شأنه تبادل الخبرات والأفكار، وتأسيس المشاريع المشتركة التي تصب في تعزيز القوة الاقتصادية لتجارنا، إن المطلوب من التجار الشيعة تشكيل التيار التجاري الشيعي الذي يحول دون إفلاس هذا التاجر أو ذاك من أبناء الطائفة، التيار الذي يوحد الجهود في مواجهة أي حرب مضادة، وأي تنافس مبرمج يسعى إلى تصفية تجارنا بشكل أو بآخر، إنَّ افتقاد هذا التيار المدروس يعرض تجارنا إلى الضربات القاصمة التي قد تنهي كل شيء، وذلك مهما بالغ هؤلاء التجار بالتحفظ على تشيعهم، ومهما بالغوا بالانزواء والابتعاد عن طوائفهم، بل مهما بالغوا بالعداء لأبنائهم.
والواقع أننا لا ندعو إلى ذلك انطلاقاً من دوافع طائفية، فالمعروف عن شيعة آل البيتo أنهم مسالمون، يعطون بلا حساب، وإننا نطرح هذه الأفكار لأننا طائفة مجردة من كل حماية وكل سند وكل عون.
الأمر الذي نريد التأكيد عليه في هذه العجالة ـ وهو في غاية الأهمية والخطورة ـ هو أن التاجر الشيعي لا يكون في مستوى هذه المسؤوليات الرائدة إلا إذا كان مثقفاً، يقرأ النص الشيعي بعمق، ويحيط بالواقع الشيعي تفصيلاً، ويجيد تحليل الأحداث السياسية العالمية والإقليمية والوطنية، ويطَّلع على الفكر العالمي ويجيد لغة النقد العالمية.
إن التاجر المثقَّف يؤدي دوراً بنائياً، ينتقل بالطائفة من الفرقة إلى الوحدة، من الضعف إلى القوة، من الجهل إلى العلم، وهو عنصر فاعل نشط مخطط، موجه…، عدته في ذلك المال والموقع الفكر والعقل والعلاقات والجاه والمعرفة.
لقد عاصرنا وشاهدنا بعض التجار المؤمنين الذين تحملوا شيئاً من المسؤولية تجاه انتمائهم وإخوانهم، ورغم بساطة ما قدموا، كان لهم التأثير البالغ في تطوير شؤون الطائفة، ولا يتسع المجال هنا لبيان بعض الشواهد، وبناءً على هذا نتساءل عن مدى هذا التأثير في ظل كيانية شيعية ـ ولو في حدود بسيطة ـ، ليس من شك سيكون التأثير كونياً وعالمياً.
إن التاجر الشيعي المتزود بالوعي يمكن أن يكون من أبرز مؤسسي الكيانية الشيعية العالمية، لأنه مجموعة إمكانات مؤثرة على صعيد المرجعية والحوزات العلمية والجمعيات والمؤسسات الشيعية والدوائر الحكومية والنشاطات التجارية، ومجالات أخرى متعددة، يمكنه أن يطرح هذا المشروع وآلته المال والفكر والجاه، وسوف يلقى تجاوباً شعبياً واسعاً، من العلماء والمثقفين ونظرائه من أصحاب المال وجميع الشرائح الشيعية، وسوف يجد صدى واسعاً ومؤثراً، فإن كلمة التاجر المثقف أكثر من غيرها تأثيراً، والأسباب ليست خفية على كل ذي لب.
المثقف الشيعي والكيانية
من المميزات التي تشخِّص الوجود الشيعي هذا الكم الكبير من المثقفين، فالشيعة مثقفون، وقد أسهمت ظروف كثيرة في خلق هذه الحالة المتميزة بخصوص الشيعة، ولعل منها الاضطهاد المستمر الذي عانت منه هذه الطائفة، وجهدها المتواصل للحفاظ على تراث أهل البيتo، والمآثر الرائعة التي عرف بها الأئمةo، فقد كانوا روَّاد فكر وتضحية وإباء، وهم أمثلة أنموذجية لجميع المسلمين على جميع الصعدة. فلا عجب وهذه الحقيقة أن يكون أعظم الشعراء من الشيعة، كذلك أشهر الفلاسفة والمفكرين، هذه الظاهرة مستمرة إلى الآن، ولعله من المعروف أن أكثر القيادات السياسية الثورية ومؤسسي الاتجاهات الراديكالية في العالم الإسلامي ـ حيث يوجد شيعة أقلية أو أكثرية ـ كما أن النهضة الفنية المعاصرة في العالم العربي شهدت بزوغ أسماء شيعية وصلت إلى مستوى النجومية العالمية.
الشيعي صديق الكتاب، ومن المعروف أنه ذو قدرة على الجدل الحي، ويحمل ثقافة تراثية ساخنة تتصل بالمساحة الكبرى للتاريخ الإسلامي، يتلهف إلى الجديد، ويتطلع إلى المزيد، وقد عرف بتسامحه انطلاقاً من روحه الشيعية الشفافة.
هذا المثقف مشدود إلى تراثه حتى إذا لم يكن ملتزماً، تسري روح علي ودماء الحسين وعلم الصادق ومعانات الكاظم في شعره ولوحته الفنية ومسرحه وقلمه وروايته وأمثلته، إنه ذو انتماء تراثي متحرك وحاضر باستمرار.
هذا المثقف عانى من حرمان اقتصادي وسياسي بسبب هذا الانتماء، وهذه قضية معروفة، ولم يحتضنه أصحاب الكلمة الدينية في الجسم الشيعي لأسباب لا محل الآن للتفصيل فيها، كما أنه لم يجد ذلك التجاوب الكافي من قبل الجمهور الشيعي إلا بحدود بسيطة. ولكن رغم ذلك بقي مشدوداً إلى مذهبه اعتزازاً وعملاً واستلهاماً، وقد أبدى نشاطاً رائعاً عندما نهض العلماء بالفكر الأصيل، وحركوا مكامن القوة في الإرادة الشيعية، وكان هذا المثقف في طليعة المعطائين، ولكنه ما زال خائفاً من سطوة الوصاية التي تستمد قوتها من أسباب كثيرة، يختلط فيها الجهل المتراكم بالقصد بالشخصي، ومهما يكن من أمر فإن المثقف الشيعي ملتهب بالفكر والحيوية والتطلع، سياسي النزعة، شغوف بالمعرفة، نزاع إلى الاجتماع والتفاعل، وليس من شك في أن تعاليم أهل البيتo التي تلقَّاها من على المنبر الحسيني، وعلى لسان أمه وأبيه ومن أصدقائه وأقرانه ومن العادات الشيعية التي تتسم بالكرم والعطاء والحنان والانتصار للحق، أسهمت في هذه الصياغة الحية للمثقف المذكور.
هذا المثقف يمكن أن يتحول إلى "محرِّك" الكيانية الشيعية، العصب الحساس، من خلال القصيدة واللوحة والمسرحية والقلم والمقالة، ومن خلال قدرته على الحركة في الوسط الشيعي.
إن هذا المثقف، إذا تزود بالمادة المطلوبة، في هذا المجال، سوف يحدث حركة نشطة في مشروع الكيانية الشيعية، الأمر الذي نريد الإفصاح عنه في هذه العجالة هو أنَّ هذه الكيانية تشكل في حد ذاتها مكمن أمان لهذا المثقف، في ظل الأوضاع العالمية الجديدة التي تنطوي على إغراءات هائلة، تدعو المثقف إلى التمرد والخروج، ومما ثبت من خلال التجربة أن الانشداد إلى الانتماء لا يستمد قوته من صلاحية المبدأ والفكر فحسب، بل إضافة إلى ذلك من تماسك المنتمين لهذا المبدأ، فإن تفكك أهله، وتناقضهم اقتصادياً، وعدم انسجامهم في إطار منظم متناسق ومتكافئ، وغياب الأهداف الواضحة، وانعدام التصور المتقارب من قضايا العالم… ذلك كله يقود إلى الغربة الفكرية والانقلاب العقيدي، أو إلى التحلل المبدئي والانصراف إلى عوالم أخرى، وهذه القضية سنعود إليها قريباً.
وفي الحقيقة، إن المثقف الشيعي يستطيع أن يسهم في طرح موضوعة الكيانية الشيعية بلا فاصل وبفعالية عالية، فإن لوحة فنية معبرة تترجم الواقع الشيعي المؤلم وتطرح البديل… إن إنجازاً من هذا النوع يهز الضمير الشيعي، ويخلق حالة من الوعي المستنفر، سيكون سبباً في تولُّد قيم جديدة على صعيد البنية الشيعية… إن رواية تتعرض لحالة التمزق التي تحكم العلاقة بين مكونات الجسم الشيعي، وتستنجد الضمير الحر في التصدي لهذه الحالة المرفوضة في ضوء قيم أهل البيتo، وبلحاظ قيم القرن الواحد والعشرين السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبمعاينة متطلبات العصر وتعقيداته… إن مثل هذه الرواية إذا أُحكمت وجاءت وفق قواعد الرواية الحديثة، ستحدث انقلاباً في عمق العقلية الشيعية بشكل عام، تستنبت وعياً بالواقع، وتحرِّك نزعة التغيير.
إن المثقف الشيعي مدعو للقيام بدوره الفاعل على طريق الكيانية الشيعية العالمية، التي من شأنها جمع هذا الشتات، وحماية هذا الوجود من المؤامرات الهادفة إلى تمزيقه وتقطيع أوصاله، والارتفاع به إلى تذوق جماليات العمل الموحد والمتعاضد، من أجل القوة الهادية، والتقدم الذي يعود بالخير على الذات وعلى الآخر.
الأكاديمي الشيعي والكيانية
صاحب الاختصاص ثروة وسلطة، والطوائف الناجحة تسعى إلى الاستفادة من أبنائها أصحاب الاختصاص، سواء في تأصيل وجودها واستجلاء تاريخها، أم في الدفاع عن سياستها ومواقفها، أم في تجديد فكرها وفلسفتها، أم في طرح مشاكلها والعمل على تذليلها وحلها. إنهم فريق عمل على جميع الأصعدة وفي جميع الاتجاهات، والشيعة طائفة مثقفة متعلمة، تضم في صفوفها مئات الآلاف من أهل الاختصاص في العلوم الطبيعية والإنسانية، وهم طاقة مبدّدة، إذ لم يوجد أي سعي جاد للاستفادة من هذا الجيش المعرفي الكبير لصالح هذه الطائفة المظلومة، في حين تعمل الطوائف الناجحة على احتضان هذه الثروة وتضع في خدمتها جميع الإمكانات، وتنيط بها مهمة التخطيط للحاضر والمستقبل، والهدف الجوهري هو الارتقاء بمستويات الطائفة والارتفاع بقدراتها وإمكانياتها المادية والمعنوية.
إن ذوي المعرفة الأكاديمية، في علم المال والاقتصاد، يمكن أن يقدموا للوجود الشيعي أطروحة ناضجة عن الرأسمال الشيعي (الحقوق الشرعية) وكيفية استثماره وتشغليه، ليس لتسيير شؤون الحوزة العلمية وحسب، بل لعلاج مشكلة الفقر داخل الجسم الشيعي، كما أن ذوي الاختصاص الإداري والسياسي، يمكن أن يقدموا أطروحة تنظيمية تتولى مهمة التكامل الفكري والاقتصادي والسياسي والاجتماعي بين مكونات الجسم الشيعي المبعثر والمجزأ، ويمكن لذوي الاختصاص الإعلامي، أن يقترحوا خطة إعلامية ناجحة تؤهلنا للدخول إلى العالم، نتحرك من خلالها للدعوة إلى الإسلام، ونستعين بها للذود عن حقوقنا وللرد على الشبهات الفكرية والسياسية التي تشن على التشيع عن قصد أو جهل، ويمكن لذوي الاختصاص، وفي جميع المجالات المعرفية، أن يقدموا منهجاً علمياً وتربوياً للنهوض بشباب الطائفة على جميع الأصعدة والاتجاهات.
إننا على ثقة بأنَّ هذه الجمهرة من ذوي الاختصاص من أهلنا، يتفاعلون مع مشروع الكيانية الشيعية، وهم على استعداد لتقديم كل الدعم في هذا الاتجاه الخير، إلا أن هؤلاء بحاجة إلى التفات ذوي الكلمة الحاسمة في الجسم الشيعي، أقصد المرجعية العظيمة، فإنهم وبمجرد إشارة سريعة سيضعون جميع طاقاتهم على هذا الطريق.
في الواقع، إن تجميع أهل الاختصاص من الشيعة لأجل مشاريع ثقافية وتربوية، تخدم أتباع آل محمد (عليهم السلام) ليس بالفكرة الجديدة، فقد سبق أن تحركت في هذا الاتجاه مجموعة من الأكاديميين الشيعة في العراق، وبدعم من المرجعية الدينية العظيمة، آنذاك، وكان أول مشروع فُكّر به آنذاك، هو جامعة الكوفة، وقد كان المتصدون خيرة الأكاديميين من أهلنا، حيث وجد المشروع أصداء شعبية واسعة، وتفاعل معه جميع الشيعة، وأبدوا استعدادات هائلة للوقوف إلى جانب المشروع المذكور، ومنها نعرف جيداً أن الجمهور الشيعي متفاعل مع أي مشروع من شأنه إيجاد كيانية خاصة به، تجمع الشتات وتنسق الطاقات وتؤلف بين الاختصاصات، وباتجاه النهضة والتقدم والازدهار.
الفقير الشيعي
يشكل الفقر ظاهرة بارزة في الوسط الشيعي بشكل عام، ولم تأخذ هذه الظاهرة المؤسفة موقعها المركزي من الدرس والبيان والمعالجة من قبل الشيعة بالذات، وذلك رغم كونها ظاهرة تتضاد مع القيم الإنسانية ومنطق الحياة، فضلاً عن تناقضها الجذري مع بديهيات الفكر الإسلامي الذي أسسه أهل البيت (عليهم السلام)، بل قد تلمس أحياناً العكس، حيث طالما يتردد على ألسنة بعض الوعَّاظ وأصحاب المنابر ورجال الدين، أن الفقر فضيلة، وأنه من سمات المؤمنين، وربما هو قضاء الله الذي لا مفر منه!
هذه الظاهرة قد يفسرها بعض الدارسين بأنها نتيجة منطقية لأوضاع اقتصادية متردية، فيما يتصور آخرون أنها قد تشكل حالة انسجام مع اتجاه معين في فهم الإسلام والتشيع، أو هي من ملامح الكسل الفكري والجسدي للمجتمع العربي والإسلامي، أو هي من مستحقات تحريم المدارس والاشتغال بالوظائف قبل عقود من السنين!
الواقع أن كل واحد من هذه التصورات لا يصيب كل الإصابة ولا يخطئ كل الخطأ، ولكن لا ريب في أنها تهمل عنصراً أساسياً في الموضوع، ذلك هو الانتماء المذهبي، فالإنسان الشيعي دفع ضريبة ضخمة بسبب انتمائه إلى خط أهل البيتo. لقد حورب في رزقه وحياته وطموحاته لأنه كان محسوباً على الأئمة الأطهارo هذه حقيقة نتلمسها بوضوح، زمن الأئمة، ثم تأسست موقفاً تاريخياً ساري المفعول على مرّ العصور! وإلى هذه اللحظة يُضيَّق على الإنسان الشيعي اقتصادياً، حتى إذا كان غير ملتزم، لا لسبب إلاَّ لكونه شيعياً، والشواهد على ذلك معروفة.
تطلع الإنسان الشيعي إلى الحكومات الوطنية لحل مشكلته هذه، ولكن الحكومات الوطنية كانت نسخة مكررة للعقلية السلفية في الحكم والسياسة والرؤى، رغم التغير الشكلي في المظاهر العامة، فاتخذ أكثرها موقفاً سلبياً من الشيعة، واتجهت طائفياً في سياستها التعليمية والاجتماعية والاقتصادية، وكانت الطائفة الشيعية ضحية هذه السياسة المتخلفة، رغم أن للشيعة الدور الرئيسي في محاربة الاستعمار وفي بناء الدولة الحديثة، كما هو في العراق والهند ولبنان وإيران…، وقد كانت هذه النتيجة متوقعة، لأن مجتمعاتنا محكومة لعقود من السنين بالطغيان الطائفي البغيض والمفارقات المذهبية الظالمة، وليس هناك في الأفق ما يدعو إلى الأمل في هذه القضية!
إن استمرار هذه المشكلة له انعكاس سلبي على الطائفة وخصوصاً في هذا الزمن الذي أصبح فيه الدخل الفردي من علامات التقدم في الحياة وأسبابه، كما أننا نعي جيدا أن لقمة العيش مذهب ودين، والبطون الخاوية لا تحمل المعاني السامية، وليس من شك في أن الأفكار الهدامة تجد مرتعها في أحضان الوسط المعدم، كما أن الفقر من أكبر دواعي الانحلال الخلقي والديني، وهذه هي الوهابية تستغل ظاهرة الفقر في بعض الأوساط الشيعية، لاستمالة الشباب إلى أفكارها الخرافية. إنها بعض النتائج المخيفة، وربما تتوالد وتتناسل في المستقبل.
ما يدعو للأسف هو أن الشيعة، بوصفهم وجوداً بشرياً ضخماً، يمكنه أن يحل هذه المشكلة من خلال التضامن الاجتماعي، ومن خلال تنظيم رأسمال الطائفة، تماماً كما تعمل طائفة البهرة وطوائف أخرى، حتى أننا لم نجد فيهم فقيراً.
إن إغناء الفقير الشيعي من مهمات الشيعة بالذات قبل أن يكون مهمّة الأنظمة الحكومية، إنها مسؤوليتنا بالدرجة الأولى، ونملك جميع أسباب الحل الكامل، ومن الطبيعي أن هذا لا ينفي ضرورة المطالبة بحقوق الشيعة، وذلك عبر جهاد منظَّم ومنسَّق في جميع أنحاء العالم، انطلاقاً من كونهم بشراً ومواطنين وبناة، فإن هذا العمل لا ينفصل بأي حال من الأحوال عن توظيف الرأسمال الشيعي الشرعي لحل هذه القضية الحساسة، ولكن وبكل صراحة، لو وجدت الكيانية الشيعية سيكون حل هذه المشكلة أسهل وأيسر، وسيتخذ صفة الاستراتيجية العامَّة والمبرمجة، إن مما يؤسف له حقاً أن يتوزع جزء كبير من الحقوق الشرعية الذي يخصص للفقراء على شكل صدقات، تستهلك على شكل نفقة يومية أو شهرية، في حين بالإمكان أن تتحول إلى عمل وظيفي، وهو الأسلوب الذي تتبعه الطوائف الأخرى في سياسة المساعدات، ولو أتبع هذا الأسلوب منذ زمن لحقَّقنا مساحة عريضة من الاكتفاء الاقتصادي في مجال طائفتنا، ولكن اتباعنا للأسلوب التقليدي تسبب في إهدار كميات ضخمة من المال!
إن مشروع الكيانية الشيعية ينقذ الرأسمال الشيعي من التبذير، ومن الطريقة التقليدية في صرف هذا المال العزيز، إنه يحوِّل هذا المال إلى وظيفة، وينقذه من قانون "قضاء حاجة"، ويحوله من صدقة إلى مهنة أو شهادة أو حرفة.
الكيانية الشيعية والأولويات
في نطاق مشروع الكيانية الشيعية لا بد من تحديد الأولويات، ومن الملاحظ أننا نفتقد هذه المسألة التي تدخل بشكل جدّي ومباشر في صميم المصير، وإهمال هذه الحقيقة يقود إلى بعثرة الطاقات، وربما يساعد على خلق حالة مزرية من التشتت والتبعثر، كما أنه يزج بالطائفة في حالة من الصراع العلني والخفي. إن استقراءً عادياً من خلال النقاش وبعض ما يكتب هنا وهناك، وفي ضوء جملة من النشاطات، يمكننا من أن نكتشف اتجاهات كثيرة في هذا الخصوص. إن بعضهم يحصر الأولوية في قضية واحدة لا غير، ألا وهي الدفاع عن الجمهورية الإسلامية والذب عن حياضها ضد الأعداء في الداخل والخارج، وليس من شك في أن هذا واجب شرعي، لأن الجمهورية الإسلامية معقل الدين والحق، وهي أمل الإمام المهدي (عج). والشيعة في كل مكان وجدوا فيه يعملون من أجل ازدهار أوطانهم وتحرّرها، وفاقاً لأولويات يرونها، وهذه الأولويات نابعة من أسباب عديدة، يتمّ تحديدها في كل بلد في ضوء الظروف والمعطيات.
وفي الواقع أن كل أولوية من هذه الأولويات حق، وهي نابعة من ظروف موضوعية، وذلك بغض النظر عن بعض المفارقات والتناقضات، ولكن الأمر الخطير هنا، أو العنصر المفقود، أو العقدة التي يجب أن تحل، هو افتقاد التنسيق بين الشيعة، الذي من شأنه احترام الأولويَّات، ومن ثم تبادل الخبرات وتقدم الإمكانات، الأمر الذي سوف يسهم كثيراً في تفعيل كل طرف شيعي على مواجهة الأولوية التي تهمه وتنشيطه وترشيده، بالعكس، قد نجد إصراراً على حذف جميع الأولويات وحصرها في عنوان واحد، وفي ذلك ضرر خطير قد يهدد الكيان برمته.
إن مشروع الكيانية الشيعية يوفر مثل هذا التصور وبعمق، حيث سيتضمن المشروع تحديداً علمياً دقيقاً للأولويات، ويضع خطة فكرية وعملية لكيفية التضافر بين الإمكانات الشيعية المبعثرة على طريق معالجة هذه الأولويات.
إن المراجع العظام وعلماء الدين الأبرار والمثقفين الواعين والتجار الأتقياء والأكاديميين المخلصين مدعوون إلى بيان أولويَّاتنا كشيعة في ضوء إمكاناتنا وحاجاتنا، وبلحاظ الأجواء العالمية وما يحيط بنا من أحداث وتغيرات، وبمعاينة مستجدات الفكر والثقافة وجميع العوامل الأخرى ذات العلاقة في الموضوع.
إن الكيانية الشيعية ستكون عنصر دعم فاعل للنظام الإسلامي، تحقق له حضوراً معنوياً وأخلاقياً في الضمير والواقع، وتكون قوة احتياط إضافية إلى إمكانات الانتصار العظيم الذي تشرَّف الشيعة بإنجازه في الجنوب اللبناني، وصمام أمان من تكرار مأساة الاقتتال بين الأخوة في لبنان، وسوف تحول الشيعة إلى قوة سياسية واقتصادية في أوروبا، تسهم في دعم قضايانا، فضلاً عن كونها السبيل الوحيد إلى إنقاذ أجيالنا من الضياع والخراب.
بدايات بسيطة
قلنا: إن الكيانية الشيعية العالمية عبارة عن وجود منظَّم، يسير وفق قواعد مرنة باتجاه أهداف عامة، تصب أولاً وآخراً باستنهاض هذه الطائفة، اجتماعياً وفكرياً وسياسياً، يشكل المراجع قوتها الروحية، والتجار قوتها المادية، والأكاديميون قوتها العلمية، والمثقفون قوتها الفكرية، والجماهير الشيعية قاعدتها الشعبية، والمذهب الإسلامي الجعفري هو الأيديولوجيا التي تميز الهوية الأولى، وهي المسؤولة عن تنظيم العلاقات داخل الكيان، وتحدد المواقف خارج الكيان، تعين وتشخص شرعية الأهداف والوسائل والأولويات والخطوات والممارسات، ولا نعتقد بأنَّ مثل هذه المنظومة أمر مستحيل إذا وضعنا خطة تدريجية، تبدأ من مصاديق بسيطة، من القرية والمحلة لتكون بعد ذلك على مستوى المدينة، ثم على مستوى الجغرافية الشيعية ككل، مروراً بهذا البلد وذاك، ونعتقد بأن لبنان جاهز لمثل هذه الأطروحة في ظل ظروفه الحالية، كما أن دول المهجر عينات رائعة لتنفيذ التجربة خصوصاً مهاجر الشمال الأوروبي، ولا مجال هنا للإفاضة في هذه المسألة.
إن الانطلاق من تجارب محلية بسيطة، توفر فرصة ثمينة لطرح التجربة عملياً، وربما تتحول إلى تجربة للدراسة على مستوى الفكر والتطبيق، ومن الطبيعي سيكون من الخطأ الفادح إذا فكر أصحاب التجربة بكسب جميع الشيعة إلى المشروع، بل المطلوب تحقيق الفكرة عملياً ولو في نطاق مجموعة من المؤمنين بالفكرة، وبمرور الزمن ومن خلال مجموعة من الإنجازات البسيطة الملموسة ذات المردود الحسي، تتهيأ إمكانات التفاعل الإيجابي مع المشروع. وفي الحقيقة لو أن علماءنا في القرى والأرياف والمدن الصغيرة يباشرون هذا المشروع في ظل إمكاناتهم العادية لقدموا خدمة جليلة على طريق الفكرة.
ولكن ماذا لو حصل العكس؟!
إذا لم يبادر العلماء وجميع المعنيين بالشأن الشيعي إلى تبنِّي هذا المشروع المصيري، قد نواجه مصيراً غير مريح، إذ ربما تتأكد حالات التصدع داخل الجسم الشيعي، وتتفاقم عمليات التشقق في الكيان المهدد أصلاً، وتطفح على السطح القضايا الهامشية، وتحتل مركز الاهتمام الفكري والسياسي، فيما تغيب القضايا الكبيرة التي تتصل بالمصير، ومن الطبيعي أن تصاحب حالة التمزق الداخلي نتائج سلبية، ولعل من أخطرها ـ لا سمح الله ـ انحسار العلاقة بين الناس وقادتنا العلماء، وهو الهدف الذي تخطط له دوائر الاستعمار العالمي، وفي هذه الظروف قد تُفرز حالات من الغلو، وفي المقابل تفرز حالات من التميّع العقدي المخيفة، وبالتالي قد ينشأ جيل غريب عن فكر أهل البيتo.
إن الكيانية الشيعية هي الحل الوحيد، إنها الحل الناجع والوحيد لجميع مآسينا، وهي الطريق الوحيد لتقدمنا ونهضتنا وانتصاراتنا.
(*) كاتب من العراق مقيم في أوروبا.