أحدث المقالات
تمهيد
في العقد الأخير من القرن العشرين، برز في الاسواق كتاب يحمل عنوان "أصول مذهب الشيعة الامامية الاثني عشرية"، من تأليف الدكتور ناصر بن عبد الله بن علي القفاري، وقد استعرض المؤلف في هذا الكتاب المكوّن من ثلاثة اجزاء مجمل الموضوعات التي تخص الطائفة الشيعية على صعيد المعتقد، وعلى صعيد الفكر الشيعي عموماً، وسجل الباحث فيه سلسلة من الانتقادات على الفكر الشيعي، ليحوز الكتاب في النهاية على رعاية خاصة من بعض التيارات الاسلامية المعاصرة، أعني بها التيارات السلفية عموماً.
وقد كانت لنا وقفة مطوّلة مع مؤلف الكتاب حول موضوع تحريف القرآن، في كتاب مستقل خصّص لنقد المقولات التي أثارها القفاري في كتابه، وكشفنا هناك مدى التحامل واللامانة في تعاطي القفاري مع المذهب الشيعي، لكننا هنا سنعرج على مغالطتين وقع فيهما الباحث المذكور، تخصان قضايا تتعلق بالتراث الشيعي، وذلك لكي يطل القارئ عبر هذين النموذجين على طبيعة الآليات التي استخدمها، فبعض ادعاءات الدكتور القفاري في هذا الكتاب تشكل ضربة قاصمة وخطيرة بحيث لا يتسنّى للإنسان أن يمضي عليها دون اعتناء أو يتجاهلها دون ما اهتمام، وذلك نظراً للآثار البالغة السوء التي تتركها هذه الادعاءات في أذهان الآخرين.
ومن هذه الجهة سوف أحاول معالجة نقطتين ـ أثارهما القفاري ـ على سبيل الاختصار والإيجاز.
الادعاء الأول: يقول الدكتور القفاري: "نحوت في دراسة الموضوع منحى علمياً تكشفت فيه معالم جديدة ولعل من أبرزها… اكتشاف صلة شيخ الإسلام ابن تيمية ومنهاج السنة بأكبر تحول في تقويم النصوص عندهم وتقسيمها إلى صحيح وضعيف وموثّق…" ([1]).
فهل صحيح أن التحوّل في تقويم الشيعة للنصوص كان مرتبطاً بابن تيمية وكتابه أو لا؟
الادعاء الثاني: وهو ادعاء كثيراً ما يكرره الدكتور القفاري في كتابه وهو قوله: "…إن الشيعة يغيّرون من كتب قدمائهم…" ([2]).
هل أن الشيعة فعلاً غيّرت من كتب قدمائها مضيفةً أو منقصةً شيئاً مما فيها؟
 
تأثيرات ابن تيمية في الفكر الشيعي الحديثي
ونهدف هنا إلى دراسة وتحليل كشف القفاري للصلة ما بين ابن تيمية ومنهاج السنة وأكبر تحول في تقويم النصوص عند الشيعة، وتقسيمها إلى صحيح وضعيف وموثق.
قال الدكتور القفاري: "يلحظ أن بداية تقويم الشيعة للحديث وتقسيمه إلى صحيح وغيره قد كانت في القرن السابع، وجاءت متوافقةً مع حملة ابن تيمية عليهم في منهاج السنة حينما شنع على الشيعة قصورهم في معرفة علم الرجال.
إن التوافق الزمني بين رد ابن تيمية ووضعهم لهذا الاصطلاح قد ينبئ عن تأثرهم بنقد ابن تيمية لهم حيث اعترفوا بـ "أن هذا الاصطلاح (وهو تقسيم الحديث عندهم إلى صحيح وموثق وضعيف) مستحدث من زمن العلامة"([3]).
والعلامة إذا أطلق في كتب الشيعة، يقصد به ابن المطهر الحلي الذي رد عليه ابن تيمية، بل هناك ما يؤكد الموضوع أكثر، وهو أن ابن المطهر الحلي هذا هو ـ كما يقول صاحب الوافي ـ : "أول من اصطلح على ذلك وسلك هذا المسلك"([4]) إذن ألا يدل هذا على أن لابن تيمية ومنهاج السنة أثراً في ذلك، وأن بدء ابن المطهّر في وضع هذه المقاييس للشيعة إنما هو بسبب النقد الموجّه له من ابن تيمية؟"([5]).
لكن اكتشاف الدكتور القفاري هذا ليس سوى ادعاء موهوم، بعيدٍ عن الأدلة والإثباتات، وليس له أساس عدا تلك الرغبة التي تشد الدكتور القفاري وباقي السلفيين نحو ابن تيمية.
إن الدليل الوحيد الذي يقدّمه لنا الدكتور القفاري على ادعائه هذا هو التوافق الزمني ما بين ابن تيمية والعلامة الحلي (ت 762 هـ ق)، وأن كتاب منهاج السنة لابن تيمية هو نقد على كتاب "منهاج الكرامة في معرفة الإمامة" الذي ألّفه العلامة الحلّي.
إننا نوافق الدكتور القفاري على مدّعاه القول بان ابن تيمية ترك أثره في العلامة الحلي نفسه عندما يُثبت أمامَنا بالدليل:
أ ـ أن العلامة الحلي كان قد قرأ كتاب منهاج السنة المخصّص للرد على منهاج الكرامة في معرفة الإمامة للعلامة الحلي نفسه.
ب ـ أن يكون العلامة الحلي قد استند في كتابه منهاج الكرامة على الروايات الشيعية حتى يؤدي انتقاد ابن تيمية له إلى التفتيش عن مخلص يضع النصوص الروائية الشيعية في دائرة الميزان والمقياس.
ج ـ أن يثبت أن أوّل شخص ابتكر فكرة وضع المقاييس لروايات الشيعة هو العلامة الحلي، وأنه هو الذي قام بتقسيم هذه الروايات إلى صحيح وحسن وموثق وضعيف.
هذا، ولكن إثبات هذه القضايا الثلاث أمرٌ غير ممكن وذلك:
أولاً: إن الدكتور القفاري كأنه يغفل أو يتغافل عن أن الكتب السنية ـ وبقطع النظر عن الكتب الشيعية ـ قد ذكرت بأن كتاب منهاج السنة لابن تيمية لم يتعرّض للردّ من طرف العلامة الحلي، وأنه بمجرد أن لاحظ العلامة الحلي عنوان كتاب ابن تيمية "منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة القدرية" قال: "لو كان يفهم ما أقول أجبته"([6])، وذلك كناية عن أن الشيعة لم تكن قدرية في يوم من الأيام، أي أن العلامة الحلي كان يريد القول بأن نفس عنوان كتاب منهاج السنة الذي يقدّم الشيعة على أنهم قدريون يدلل على أن ابن تيمية لم يفهم حتى الآن المعتقدات الشيعية ولم يتعقّلها جيداً حتى يُقدِم على توجيه نقد عليها أو رد.
وبناء عليه، فإننا نسأل الدكتور القفاري إن الكتاب الذي لم يقرأه العلامة الحلي على الإطلاق كيف يمكن أن يقع تحت تأثيرات مؤلفه حتى يكون ذلك باعثاً له على تأسيس تقسيم جديد لروايات الشيعة يضعها تحت أقسام أربعة؟
ثانياً: على تقدير قراءة العلامة الحلي الانتقادات التي سجلها ابن تيمية عليه في كتاب منهاج السنة، لكن ابن تيمية نفسه لم يتمسك في نقده هذا على كتاب منهاج الكرامة بروايات الشيعة أبداً، حتى يقع العلامة الحلي تحت تأثير ابن تيمية في هذه الردود ليضع على أساسٍ من ذلك مقاييس يُخضع لها الروايات الشيعية فيما بعد، وليبقى مصوناً من تلك الهجمات التي قام بها ابن تيمية عليه، بل إن كافة روايات العلامة الحلي التي استند إليها إنما هي من كتب أهل السنة، فابن تيمية نفسه ـ كما يقول ابن حجر ـ هو الذي رد الكثير من الروايات السنّية المعترف بها في أوساط أهل السنة والتي شكلت معتمداً للعلامة الحلي لإثبات الأفكار الشيعية، وقد وجّه ابن تيمية إهانات كثيرة جداً إلى العلامة الحلي بحيث بلغت به الحال أن تعرّض لنفس الإمام علي عليه السلام([7]).
ثالثاً: لقد وقع خلاف بين علماء الإمامية حول تحديد الشخصية الأولى التي قامت بتقسيم الأحاديث إلى أقسام أربعة، وهو ما بعث بعض العلماء للوقوف موقف الشك والترديد، وهل أن من قام بذلك هو أحمد بن طاووس أستاذ العلامة الحلي أو أنه نفس العلامة الحلي؟([8]) ويضم المحدث الحر العاملي (م 1104 هـ ق) نفسه إلى هذه الفئة ـ أي المترددين ـ قائلاً: "إن هذا الاصطلاح مستحدث في زمن العلامة أو شيخه أحمد بن طاووس كما هو المعلوم"([9])، وانتم تلاحظون أن الدكتور القفاري قد استند إلى نفس هذه العبارة لإثبات مدعياته، بيد أنه ـ ومع الأسف ـ قام بحذف الفقرة التي تقول "أو شيخه ابن طاووس"، ظاناً أنه بهذا التقطيع لكلمات الحر العاملي يمكنه أن يبلغ ذاك الكشف المبتكر الذي ادعاه.
كما أنّ الدكتور القفاري قد اقدم على هذه الخيانة العلمية التي فعلها في عبارة الحر العاملي بتقطيعه النص ليستنتج منها بعد ذلك ما استنتجه قائلاً: "وكأن… رواياتهم (أي الشيعة) كانت بلا زمام ولا خطام حتى شنع الناس عليهم بذلك فاتجهوا حينئذ لذكر الاسناد…" ([10]) وهي نتيجة كاذبة نجمت عن ذاك التقطيع القبيح([11]).
 
هل مورست عمليات تحريف للتراث الشيعي من قبل الشيعة أنفسهم؟
يقول الدكتور القفاري فيما يتعلق بكتاب من لا يحضره الفقيه: "زادوا في روايات كتاب من لا يحضره الفقيه لابن بابويه أكثر من الضعف كما سيأتي في فصل اعتقادهم في السنة"([12]).
إن كتاب القفاري بين أيدينا، وها هو الفصل المعنون بعنوان "اعتقادهم في السنة" لا نجد فيه عيناً ولا أثراً لهذا البحث، بل ولا نجد ذلك في أي فصل آخر، ومن ثم فلا نجد ما يدفعنا للبحث في ردّ هذا الادعاء الذي أقامه القفاري([13]).
أمّا فيما يتعلق بالكتب الأخرى فيكتب قائلاً: "إن كتبهم الأربعة الأولى (أي الكافي، وتهذيب الأحكام، والاستبصار، ومن لا يحضره الفقيه) لم تخل من دس وزيادة، وآية ذلك أن تهذيب الأحكام للطوسي بلغت أحاديثه (13950) حديثاً كما ذكر آغا بزرك الطهراني في الذريعة ومحسن العاملي في أعيان الشيعة وغيرهما من شيوخهم المعاصرين، في حين أن الشيخ الطوسي نفسه صرّح في كتابه عدة الأصول بأن أحاديث التهذيب وأخباره تزيد على (5000)، ومعنى ذلك أنها لا تصل إلا إلى (6000) في أقصى الأحوال، فهل زيد عليها أكثر من الضعف في العصور المختلفة؟! الدليل المادي الملموس أمامنا يؤكّد ذلك.
وأيضاً تراهم اختلفوا هل كتاب الروضة ـ وهو أحد كتب الكافي التي تضم مجموعة من الأبواب وكل باب يتضمن عدداً كبيراً من الأحاديث ـ هل هو تأليف الكليني أم مزيد فيما بعد على كتابه الكافي، فكأن أمر الزيادة شيء طبيعي ووارد في كل حال"
"بل الأمر أخطر من ذلك، فإن شيخهم الثقة عندهم حسين بن حيدر الكركي العاملي (م 1076 هـ ق) قال: إن كتاب الكافي خمسون كتاباً بالأسانيد التي فيه لكل حديث متصل بالأئمة بينما نرى شيخهم الطوسي (م 360 هـ ق هكذا في كتاب القفاري، والصحيح 460 هـ ق) يقول: "كتاب الكافي مشتمل على ثلاثين كتاباً أخبرنا بجميع رواياته الشيخ…".
"فهل زيد على الكافي للكليني فيما بين القرن الخامس والحادي عشر عشرون كتاباً، مع أن كل كتاب يضم عشرات الأبواب، وكل باب يشمل مجموعة من الأحاديث؟! لعل هذا أمراً طبيعياً فمن كذب على رسول الله والصحابة والقرابة فمن باب أولى أن يكذب على شيوخه… وشواهد هذا الباب كثيرة"([14]).
 
نقد الشواهد التي ذكرها الدكتور القفاري:
أولاً: لنفرض المحال، أن الدكتور القفاري كان مصيباً في دعواه التحريف هذه، فهي مرتبطة بكتابين من الكتب الأربعة، وهما التهذيب والكافي، إذن فلماذا يعمّم القفاري حكمه مدعياً شمول التغيير للكتب الأربعة قائلاً: "إن كتبهم الأربعة الأولى لم تخل من دس وزيادة"؟!
ثانياً: إن قول الدكتور القفاري: "إن الشيخ الطوسي نفسه صرّح في كتابه عدّة الأصول: بأن أحاديث التهذيب وأخباره تزيد على (5000)" مستنتجاً عقب ذلك أنه "زيد على كتاب التهذيب أكثر من الضعف في العصور المختلفة"، هذا القول هو من أساسه نتيجة عملية خيانة علمية تورط فيها القفاري، فنصّ عبارة الشيخ الطوسي في عدة الأصول ليس كذلك، بل هو على الشكل التالي: "وقد ذكرت ما ورد عنهم عليهم السلام من الأحاديث المختلفة التي تختص الفقه في كتابي المعروف بـ "الاستبصار" وفي كتاب "تهذيب الأحكام" ما يزيد على خمسة آلاف حديث"([15]).
وبناءً عليه فإن كلام الشيخ الطوسي إنما يتعرّض لبيان كمية الأخبار المختلفة (أي الأحاديث المتعارضة) في كتابي تهذيب الأحكام والاستبصار، ولا علاقة لكلامه بحجم الأحاديث الواردة في هذين الكتابين بأجمعهما([16])، وهنا نجدد مرةً أخرى سؤالنا للدكتور القفاري، لماذا لا تراعِ أيها الدكتور الأمانة العلمية؟ ولماذا حذفت عبارة "الأحاديث المختلفة" ووضعت مكانها عبارة "أحاديث التهذيب وأخباره تزيد على (5000) …" هل هذه طريقة علمية ودفاع عن الدين؟!
ثالثاً: إن كتاب "الروضة من الكافي" من وجهة نظر علماء الإمامية، من تأليفات ثقة الإسلام أبو جعفر الكليني رحمه الله([17])، والشخص الوحيد الذي أثار الشك ووقف موقف المتردد من هذا الأمر هو "خليل بن الغازي القزويني" (م 1089 هـ ق)، بل إنه لم يشكك في أصل كون كتاب الروضة من تأليفات الكليني، وإنما تردّد في كونه جزءاً من كتاب الكافي أم لا، أي أنه تردد في كونه كتاباً مستقلاً أو جزءاً من الكافي.
يقول القزويني في هذا الصدد في شرحه على الكافي ما معرّبه: "اشتمل كتاب الكافي ثلاثة وثلاثون كتاباً، فإن كان كتاب الروضة من الكافي فحينئذٍ يكون كتاب الكافي أربعة وثلاثون كتاباً"([18]).
وهنا نسأل الدكتور القفاري على سبيل فرض المحال، لو فرضنا أن شخصاً واحداً أثار تشكيكاً في صحة نسبة كتاب الروضة إلى الكليني، فهل يحق لنا سوق الكلام مساقاً عاماً، والقول بأنهم "تراهم اختلفوا هل كتاب الروضة من تأليف الكليني… فكان أمر الزيادة شئ طبيعي ووارد في كل حال"، فهل هذا الحكم حكمٌ عادل؟!
هذا ويسرّني أن استحضر هنا، ما ذكره الدكتور حسين علي محفوظ([19]) حول الموضوع فيما كتبه استجابة للفاضل علي أكبر الغفاري محقق كتاب الكافي: "وقد سألتني عن الروضة… أقول: صنّف الكليني رحمه الله كتاب (الكافي) في الأصول والفقه… ولمّا أكمل الكليني كتابه هذا، وأتمّ ردّ موادّه إلى فصولها، بقيت عنده زيادات كثيرة من خطب أهل البيت ورسائل الأئمة وآداب الصالحين وطرائف الحكم وأبواب العلم، مما لا ينبغي تركه، فألّف هذا المجموع الانف، وسمّاه "الروضة"، لأن الروضة منبت أنواع الثمار ومعدن ألوان الزهر…"([20]).
رابعاً: إن كتاب الكافي كتاب معروف من زمن الكليني إلى عصرنا الراهن، وهو كتاب متّصل الاسناد والرواية مع تغيّر الأزمان وتبدل الدهور والأيام، وقد كان شيوخ أهل عصره يقرؤونه عليه ويروونه عنه سماعاً وإجازةً، قال النجاشي: "…جماعة من أصحابنا يقرؤون كتاب الكافي على (تلميذه) أبي الحسين أحمد بن أحمد الكوفي الكاتب"([21])، وروى هذا الكتاب جماعة من أفاضل علماء الشيعة عن طائفة من كملة حملته.
ومن رواته من الأقدمين أبو جعفر الصدوق([22]) (م 381 هت ق)، والشيخ المفيد([23]) (م 413 هـ ق)، والسيد المرتضى([24]) (م 436 هـ ق)، وأبي العباس احمد بن علي النجاشي([25]) (م 450 هـ ق)، وشيخ الطائفة الطوسي([26]) (م 460هـ ق) وغيرهم.
وممّن روى عن الكافي من أهل السنة عبد الكريم الشهرستاني([27]) (م 548 هـ ق) في تفسيره، وغيره من العلماء… ([28]).
أمّا ما نسبه إلى السيد حسين بن السيد حيدر الكركي العاملي (م 1076هـ ق) من قوله: "إن كتاب الكافي خمسون كتاباً…" فهو ـ بالتأكيد ـ إماً من سهو القلم، أو اشتباه من النساخ، أو على أبعد التقادير حساب من جانب السيد الكركي يجعل فيه بعض الأبواب أبواباً مستقلةً، ودليلنا على هذا الأمر هو:
أ ـ لم يقل أحدٌ من علماء الإمامية بأن كتاب الكافي مشتمل على خمسين كتاباً، فها هم علماء الإمامية وكبارهم من القدماء والمتأخرين حتى من كان منهم معاصراً للسيد الكركي، وحتى أولئك الذين أتوا على سرد فهرس كتاب الكافي بشكل مفصّل([29])، لم يذكر أحدٌ منهم على الإطلاق أمراً من هذا القبيل، وهو أن كتاب الكافي مكوّن من خمسين كتاباً.
ب ـ إن كتاب الكافي موجود في أيدينا اليوم، وقد تمّ تحقيقه وطباعته لمراّت كثيرة، وعليه فبإمكاننا نحن والدكتور القفاري حساب عدد كتبه، هل هي فعلاً خمسون كتاباً أو لا؟ وعليه، إنه لأمر مثير للعجب والاستغراب أن يكون كتاب الكافي أحد المصادر التي اعتمدها الدكتور القفاري في دراساته والتي رجع إليها في تحقيقاته مرّات ومرّات ناقلاً عنها العديد من الروايات، أفهل كان هذا الكتاب ـ والسؤال موجّه إلى الدكتور القفاري ـ مؤلفاً من خمسين كتاباً؟ هلّا حسبها بنفسه ليتأكّد من هذا الأمر.
إن الدكتور القفاري كأنه ملتفت إلى هذا الحكم غير العادل الذي يصدره في هذا الموضوع، وهو لكي يقنع قارئه، يكتب في خاتمة ادّعائه هذا: "وشواهد هذا الباب كثيرة"([30]) فأية شواهد هذه؟ ولماذا لم يأت على ذكرها في كتابه؟
إننا نطالبه بالإتيان بشاهد على هذا الادعاء الذي تقدّم به، وأن يذكر لنا أسماء تلك الكتب العشرين التي تمّت إضافتها إلى الكافي نفسه، وتحديد مواضعها من الكتاب مهما كانت، بل إذا أمكنه أن يأتينا برواية واحدة في المصادر الشيعية أو السنية منقولة عن كتاب الكافي دون أن تكون هذه الرواية موجودة في كتاب الكافي الذي بأيدينا، فهذا أمر جيد يمكّنه من القول: إن هذه الرواية جزء من تلك الكتب العشرين التي أسقطت من كتاب الكافي!!
 
جدلٌ واعتراف بوقوع التغيير في التراث الحديثي السنّي
إن الغرض الذي ابتغاه القفاري وسعى إليه عبر إثباته وجود دسّ وزيادة في الكتب الشيعية الأربعة الأولى ـ وهو أمرٌ لم يوفق فيه ـ هو محاولة تغطية الضعف الذي اشتمل الكتب السنية الكبيرة، وهي كتب سبق أن اعترفوا بأنها لم تخل من الدس والزيادة، وهنا نكتفي بذكر بعض الأمثلة على هذا الأمر:
 
أ ـ اختلاف روايات الموطّأ لمالك بن أنس([31]).
قالوا: "روي عن مالك روايات مختلفة تختلف في ترتيب الأبواب، وتختلف في عدد الأحاديث حتى بلغت هذه الروايات عشرين نسخةً، وبعضهم قال: إنها ثلاثون"([32]).
وقالوا أيضاً: "وبين الروايات اختلاف كبير من تقديم وتأخير وزيادة ونقصان، ومن أكبرها وأكثرها زيادات رواية أبي مصعب، قال ابن حزم: في رواية أبي مصعب زيادة على سائر الموطّآت نحو مائة حديث، وقال السيوطي: في رواية محمد بن الحسن الشيباني أحاديث كثيرة يسيرة زيادة على الموطّآت"([33]).
 
ب ـ اختلاف روايات صحيح البخاري.
قال ابن الصلاح في عدد أحاديث صحيح البخاري: "سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثاً بالأحاديث المكررة، وقد قيل إنها بإسقاط المكرّر أربعة آلاف حديث"([34])، وقال ابن خلدون في المقدّمة إنها (9200) تسعة آلاف ومائتان([35])، وتبعه ابن حجر، قال في كشف الظنون عن ابن حجر: "وجملة ما فيه بالمكرّر تسعة آلاف واثنان وثمانون حديثاً، خارجاً عن الموقوفات على الصحابة والمقطوعات على التابعين"([36]).
وقد حرّره في مقدّمة كتاب فتح الباري: "إن عدة ما في البخاري من المتون الموصولة بلا تكرار 2602، (ألفان وستمائة وحديثين)، ومن المتون المعلّقة المرفوعة 159، (مائة وتسعة وخمسون)، فمجموع ذلك 2761 (ألفان وسبعمائة وواحد وستون)([37])، وقال في شرح البخاري: إن عدّته على التحرير 2513 حديثاً!! (ألفان وخمسمائة وثلاثة عشر)"([38]).
وفي كتاب شروط الأئمة الخمسة قال: "عدد أحاديث البخاري يزيد في رواية الفربري على عدده في رواية إبراهيم بن معقل النسفي بمائتين، ويزيد عدد النسفي على عدد حمّاد بن شاكر النسفي بمائة كما ذكره العراقي"([39]).
وقالوا: مات البخاري قبل أن يتم تبييض كتابه، قال أبو الوليد الباحي: ويدل عليه اختلاف رواية أبي إسحاق المستملي ورواية أبي محمّد السرخسي ورواية أبي الهيثم الكشهيمي ورواية أبي زيد المروزي مختلفة بالتقديم والتأخير مع أنهم استنسخوا من أصل واحد، وإنما ذلك بحسب ما قدر كل واحدٍ منهم فيما كان في طرة أو رقعة مضافة أنه من موضع ما، فأضافه إليه، ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس بينها أحاديث([40]).
واعترف بعض أهل السنة كابن قتيبة([41]) والآلوسي([42]) بوجود الدس والزيادة في مسند أحمد وغيره.

 

الهوامش:

([1]) أصول مذهب الشيعة ج1 ص 14.
([2]) أصول مذهب الشيعة ص 291، وانظر أيضاً ص 286 و 287 و 289 و 291 و 294 و…
([3]) عن وسائل الشيعة ج 20 ص 102.
([4]) عن الوافي، المقدمة الثانية: 1، ص 11.
([5]) أصول مذهب الشيعة: ص 385.
([6]) لسان الميزان، الجزء الثاني، ص 587، رقم الترجمة: 2841، الدرر الكامنة، ج 2، ص 71، رقم الترجمة 1618، قال في الدرر الكامنة: ولما وصل إليه كتاب ابن تيمية في الرد عليه كتب أبياتاً أولها:
لو كنت تعلم كل ما علم الورى طرّاً لصرت صديق كل العالم
لكن جهلت فقلت أن جميع من يهوى خلاف هواك ليس بعالم
([7]) قال ابن حجر في ترجمة ابن المطهر الحلي: "طالعت الرد المذكور ـ أي رسالة منهاج السنة لابن تيمية ـ فوجدته… كثير التحامل إلى الغاية في رد الأحاديث التي يوردها ابن المطهر، وإن كان معظم ذلك من الموضوعات والواهيات، لكنه في ردّه كثيراً من الأحاديث الجياد… وكم من مبالغةٍ لتوهين كلام الرافضي أدّته أحياناً على تنقيص علي (عليه السلام)"، لسان الميزان ج 7، ص 520، رقم الترجمة 9465.
وقال السيد محسن الأمين في تعليقه على كلام ابن حجر: "… فهو قد أنصف بعض الإنصاف في قوله إن ابن تيمية تحامل في مواضع، وردّ احاديث موجودة بأنها مختلقة، لكنه ما أنصف في قوله إنها ضعيفة، فإن فيها المتواتر والمستفيض، وما روته الثقات وأودعته في كتبها الرواة" أنظر أعيان الشيعة، ج5، ص 398.
واكتفي هنا بذكر هذا المثال فإنه يكفي.
بناء عليه فالحق هو أن حق ابن تيمية على السلفيين هو في أنه يمكنهم من رد وإبطال الأحادث الجياد، وأن بعملوا على استخدام تلك المبالغات في الفحش والإهانات والسباب أكثر فأكثر، كما هو الحال مع الدكتور القفاري مع الأسف وآخرين تعلموا من ابن تيمية هذا الدرس جيداً.
([8]) انظر معالم الدين وملاذ المجتهدين، ص 216 وما بعدها، وكذلك تلخيص مقباس الهداية، ص 23، وأيضاً منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان، ج1، ص 4، بل يرى البعض ان هذه المصطلحات كانت موجودة في أوساط المتقدمين ولو بشكل آخر، ومن هذه الجهة كان القدماء يقولون: لفلان كتاب صحيح، أو "اجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عن فلان"، أو "فلان ضعيف"، وضعيف الحديث ونحو ذلك، راجع تلخيص مقباس الهداية، ص 24، ولمزيد من التفصيل يمكن مراجعة تعليقات محمد اسماعيل الخواجوئي (م 1173 هـ ق) على مشرق الشمسين للشيخ البهائي، ص 31 ـ 33.
([9]) وسائل الشيعة، ج 20، ص 96 و 102.
([10]) أصول مذهب الشيعة، ص 385.
([11]) ذلك أن الحر العاملي لم يقل أبداً بأن روايات الشيعة كانت بلا زمام ولا خطام ما قبل هذا الاصطلاح الجديد، بل ـ وفقاً لمشربه الأخباري ـ قائل بصحة (بالمعنى القديم لهذا المصطلح) الروايات المدونة في كتابه وسائل الشيعة، وقد استفاد منها وتحدث حول هذا الموضوع بالتفصيل، راجع وسائل الشيعة ص 96 وما بعدها.
([12]) أصول مذهب الشيعة، ص 289.
([13]) نعم، إن للقفاري الكثير من هذه الإحالات التي لا اسم لها ولا عنوان، وكنموذج من هذا الأمر قوله: "إن مسألة الاسناد عندهم قد وجدت بعض القرائن ـ كما سيأتي ـ التي تدل على أنها صنعت متأخرة كما أن من أساليبهم وضع الأسانيد الصحيحة لمتون مكذوبة" أصول مذهب الشيعة، ص 226، وهذا الادعاء الذي يحيل إليه القفاري بقوله (كما سيأتي) لم يتعرض له في أي مكان من كتابه حتى نبحث عنه ونحلله.
([14]) أصول مذهب الشيعة، ص 260 ـ 261.
([15]) عدّة الأصول، ج 1، ص 137، قال الشيخ الطوسي لدى بيانه أدلة جواز العمل بخبر الواحد: "ومنها… ما ظهر بين الفرقة المحقّة من الاختلاف الصادر عن العمل بتلك الأخبار المختلفة… يفتي أحدهم بما لا يفتي به صاحبه ووجدتهم مع هذا الاختلاف العظيم لم يقطع أحد منهم موالاة صاحبه ولم ينته إلى تضليله… وفي ذلك دليل على جواز العمل بما عملوا به الأخبار" ثم تعرّض الشيخ لكميّة الأخبار المختلفة (أي المتعارضة) ليقول: "وقد ذكرت ما ورد عنهم عليهم السلام من الأحاديث المختلفة… ما يزيد على خمسة آلاف حديث".
([16]) إن عدد روايات كتاب "تهذيب الأحكام" هو ما ذكره آغا بزرك الطهراني والسيد محسن الأمين العاملي، وهو ما يقارب (13950) من بينها حوالي (5000) حديث من الأخبار المتعارضة، وقد أفرد الشيخ الطوسي لهذه الأخبار كتاباً مستقلاً أسماه "الاستبصار فيما اختلف من الأخبار"، محاولاً في هذا الكتاب إزاحة شبح التعارض عنها وتقديم توفيقات فيما بينها وفقاً للقواعد المقررة في علم أصول الفقه، ويصرح الشيخ الطوسي في مقدمة الاستبصار (1: 2ـ 3) وفي آخره بعدد تلك الروايات المختلفة ويقول: "أبواب الكتاب تسعمائة وخمسة وعشرون باباً تشتمل على خمسة آلاف وخمسمائة وأحد عشر حديثاً حصرتها لئلا يقع فيها زيادة أو نقصان" أنظر الاستبصار ج 4 ص 343.
والأمر المثير للدهشة والتعجب، هو إقرار الدكتور القفاري نفسه ـ في موضع آخر من كتابه (ص 359) ـ بأنه رأى كتاب الاستبصار ومقدمته وعلى أساسٍ من ذلك يكتب: "وهو (أي كتاب الاستبصار) لا يعدو أن يكون اختصاراً لكتاب تهذيب الأحكام للطوسي، كما صرّح بذلك الطوسي في مقدّمة الاستبصار"، ومع ان الدكتور القفاري قد رأى نفس عبارة الشيخ الطوسي وفهمها واعياً أن كتاب الاستبصار كما يفيده اسمه مخصص للبحث حول الأخبار المتعارضة، لكنه هنا يرتكب خيانة علمية جديدة بحذفه عبارة "الأحاديث المختلفة" من كلام الشيخ الطوسي.
([17]) منهم أبو العباس أحمد بن علي النجاشي (م 450 هـ ق) في رجال النجاشي، ج2، ص 291، وشيخ الطائفة الطوسي (م 460 هـ ق) في الفهرست ص 165 وغيرهما.
([18]) الصافي، شرح الكافي، الملّا خليل القزويني ص 31.
([19]) كتب مقدّمةً قيّمةً علميةً على الكافي ومؤلفه ثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني الرازي، أنظر مقدمة كتاب الكافي، بقلم الدكتور حسين علي محفوظ.
([20]) مقدّمة الروضة من الكافي، تصحيح علي أكبر الغفاري، ص 9 ـ 10.
([21]) رجال النجاشي، ج2، ص 291.
([22]) من لا يحضره الفقيه ج 4، الباب 99، ص 151، والباب 115، ص 165.
([23]) تفصيل وسائل الشيعة، ج 3، 519. (من الطبعة المكوّنة من عشرين مجلّداً).
([24]) رسائل الشريف المرتضى، ج1، ص 409.
([25]) رجال النجاشي ج 2، ص 291.
([26]) تهذيب الأحكام ج 2، ص 480، والاستبصار ج2، ص 353، وخلاصة الأقوال، ص 136.
([27]) مفاتيح الأسرار ومصابيح الأنوار، مخطوط، الورقة 2 (ب) و 29 (ب)، والمطبوع ج 1، ص 70 و 89.
([28]) أنظر مقدّمة الكافي للدكتور حسين علي محفوظ.
([29]) انظر رجال النجاشي لأبي العباس النجاشي (م 450 هـ ق) ج2، ص 291، والفهرست للشيخ الطوسي (م 460 هـ ق) ص 165، ومعالم العلماء لابن شهر آشوب (م 588 هـ ق) ص 99، وذكرى الشيعة في أحكام الشريعة لأبي عبد الله محمد بن مكّي الشهيد الأول (م 784 هـ ق) ص 6، ووصول الأخبار إلى أصول الأخبار للشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي (م 984 هـ ق) ومشرق الشمسين واكسير السعادتين لشيخ الإسلام بهاء الدين محمد بن الحسين العاملي (م 1030 هـ ق) ص 102 ـ 104، وهكذا عدد كتب الكافي الموجودة في شروحه كشرح الجامع لمحمد صالح المازندراني (م 1080 هـ ق) والصافي في شرح أصول الكافي للملا خليل بن الغازي القزويني (م 1089 هـ ق) ص 31، ومرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول لمحمد باقر المجلسي (م 1110 هـ ق)…
([30]) أصول مذهب الشيعة، ص 361.
([31]) وهو عند الشافعي أصح الكتب بعد كتاب الله، وأطلق جماعة على الموطّأ اسم الصحيح، راجع شرح الزرقاني على الموطّأ ج1 ص 9، وتنوير الحوالك ص 8.
([32]) شرح الزرقاني على الموطّأ ج1، ص 7، وفيه: "عن ابن الهياب أنه خمسمائة حديث… وعن الكيالهراسي أنه سبعمائة، وعن سليمان بن بلال أنه ألف ونيف، وعن أبي بكر الأبهري المسند منها ستمائة حديث، وعن الغافقي مسند الموطأ ستمائة حديث وستة وستّون".
([33]) أضواء على السنّة المحمدية ص 312، هذا، وقال أحمد أمين في سبب هذا الاختلاف: "إن مالكاً لم ينته من نسخة يؤلفها ويقف عندها، بل قد كان دائم التغيير فيها… وحذف ما لم يثبت صحته منها، فالذين سمعوا الموطأ سمعوه من مالك في أزمان مختلفة…" أنظر ضحى الإسلام ج2، ص 215.
وهذا التعليل ضعيف لا محالة؛ ذلك أنه لو كان صحيحاً لكان لابد أن يكون عدد روايات الموطأ برواية أبي مصعب أقل من الآخرين، لأن أبا مصعب كان آخر من روى الموطأ عن مالك لصغر سنّه، وعاش بعد مالك 63 سنة، والحال أن الأمر على العكس من ذلك تماماً، وكما قال ابن حزم: في رواية أبي مصعب زيادة على سائر الموطّآت نحو مائة حديث.
([34]) مقدّمة ابن الصلاح في علوم الحديث، ص 23.
([35]) مقدّمة ابن خلدون ج 3، ص 1039.
([36]) كشف الظنون، ج1، ص 544.
([37]) مقدّمة فتح الساري، ص 477.
([38]) ج 1، ص 70، آخر كتاب التوحيد.
([39]) ص 58 نقلاً عن أصواء على السنة المحمدية ص 322.
([40]) فتح الباري ج 1، ص 5.
([41]) عن أضواء على السنة المحمّدية ص 347.
([42]) روح المعاني، ج 12، ص 216.


 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً