أحدث المقالات

د. الشيخ مهدي مهريزي(*)

ترجمة: حسن علي الهاشمي

توطئةٌ

على الرغم من تحديد مصادر الاستنباط في الفقه الإسلامي بالمصادر الأربعة، أي: الكتاب، والسنّة، والإجماع، والعقل، إلاّ أن قواعد وأصول الاستنباط والفقاهة تمتدّ إلى أكثر من ذلك. إن المصادر، ومكانة موران الفقه والقواعد، والأصول الثابتة المستخرجة من تلك المصادر، مؤثِّرة ومفيدة جدّاً في تنسيق محتويات المصادر، والاستجابة للفروع، وملء منطقة الفراغ وما إلى ذلك.

وبعبارةٍ أخرى: إن القواعد بمثابة الميزان والشاقول الذي يستعمله الفقيه في مقام الاستنباط؛ ليوازن مجهوده الفكري على أساسه.

إن القواعد الفقهية والأصول تمثِّل علمين متزامنين في الظهور، وقد تمّ وضعهما لخدمة الفقاهة. وهناك الكثير من الكتب التي تمّ تأليفها في مجال القواعد الفقهية، وقد حظي هذا المجال باهتمامٍ خاصّ من قِبَل الفقهاء، من الشيعة والسنّة، وظهر للفقهاء في هذا الشأن الكثير من المصنَّفات المفردة، التي تتحدَّث عن قاعدةٍ واحدة أو مجموعةٍ كبيرة من القواعد([1]).

ومع ذلك كلّه يمكن الادّعاء بأنه لا تزال هناك الكثير من القواعد الفقهية التي تلعب دَوْراً حاسماً في عملية الاستنباط، ولكنْ لمّا يُنظر إليها بَعْدُ بوصفها قواعد فقهية. وعلى الرغم من الاستفادة القصوى من هذه القواعد في تضاعيف فتاوى الفقهاء واستدلالاتهم الفقهية، إلاّ أنه لم يتمّ بيانها وتدوينها حتّى الآن على شكل قاعدة فقهية، ولم يتمّ بيان حدودها بوضوح. ويمكن أن نذكر القواعد التالية من بين تلك القواعد:

1ـ قاعدة العدالة.

2ـ قاعدة الحرّية.

3ـ قاعدة الأهمّ والمهمّ.

4ـ قاعدة السهولة.

5ـ قاعدة المساواة.

وغيرها من القواعد الأخرى.

وفي هذه المقالة نسعى إلى بيان قاعدة العدالة ـ بشكلٍ مختصر ـ بوصفها قاعدةً فقهية بالغة التأثير في عملية الاستنباط. وبطبيعة الحال إن لهذه المسألة الكثير من التشقيقات والتفريعات، وإن فضاء التحقيق فيها واسعٌ جدّاً. وسوف نكتفي منها هنا ببحث أصل المسألة، وهي أن العدالة قاعدةٌ فقهية.

أوّلاً: بيان المسألة

هل يمكن للعدالة أن تطرح بوصفها قاعدةً فقهية؟ هذا السؤال يمثِّل تعبيراً عن إجمال المسألة، وأما المزيد من التوضيح بشأنها فهو رهنٌ بتقديم شرحٍ مقتضب على مفرداتها:

1ـ تعريف العدالة

إن تعريف العدالة ليس بالأمر السهل، لا لأنها تفهم بشكلٍ خاطئ؛ إذ العدل والظلم من المفاهيم البديهية في مجال العقل العملي ـ كالوجود والعدم في مجال العقل النظري ـ، بل الذي يجعل من تعريف العدالة أمراً صعباً هو بساطتها المفهومية.

إن التعريفات المطروحة من قِبَل العلماء للعدالة ناظرةٌ في الغالب إلى التعريف بالمصداق. ومن ذلك مثلاً أن علماء الأخلاق عرَّفوا العدالة بأنها: «انقياد العقل العملي للقوّة العاقلة»، أو «سياسة القوّة الغضبية والشهوية»([2])، وعرَّفها الفقهاء بأنها: «ملكة نفسانية تأمر بالواجب، وتنهى عن الحرام»([3]). وهكذا الأمر بالنسبة إلى تعاريف الفلاسفة والمتكلِّمين للعدالة أيضاً([4]). أو ما قاله أبو البقاء([5]) في تعريف العدالة: «العدل هو أن يعطي أكثر ممّا عليه، ويأخذ أقلّ ممّا له»([6]). فكلّ هذه التعاريف إنما هي من قبيل: التعريف بالمصاديق، كما هو الحال بالنسبة إلى الأمور الواردة في بعض الروايات، من قبيل: «العدل أقوى الجيش»، أو «العدل أفضل من الشجاعة»، فهي من قبيل: ذكر الفوائد والآثار([7]).

ومن هنا لا نعثر في النصوص الدينية على أيّ تعريف أو تفسير للعدالة. وقد أشار السيد الشهيد محمد باقر الصدر إلى أن فلسفة عدم تعريف العدالة من قِبَل الدين تكمن في الحيلولة دون مختلف التفسيرات الخاطئة لهذا المفهوم. فإن سماحته، بعد بيانه أركان الاقتصاد الإسلامي في المالكية والحرّية والعدالة الاجتماعية، قال: «…فإن الإسلام حين أدرج العدالة الاجتماعية ضمن المبادئ الأساسية التي يتكوّن منها مذهبه الاقتصادي لم يتبنَّ العدالة الاجتماعية بمفهومها التجريدي العامّ، ولم ينادِ بها بشكلٍ مفتوح لكلّ تفسيرٍ، ولا أوكله إلى المجتمعات الإنسانية التي تختلف في نظرتها للعدالة الاجتماعية باختلاف أفكارها الحضارية ومفاهيمها عن الحياة، وإنما حدَّد الإسلام هذا المفهوم وبَلْوَرَه في مخطّطٍ اجتماعي معيَّن، واستطاع ـ بعد ذلك ـ أن يجسِّد هذا التصميم في واقعٍ اجتماعي حيٍّ تنبض جميع شرايينه وأوردته بالمفهوم الإسلامي للعدالة… فلا يكفي أن نعرف من الإسلام مناداته بالعدالة الاجتماعية، إنما يجب أن نعرف أيضاً تصوّراته التفصيلية للعدالة، ومدلولها الإسلام الخاصّ»([8]).

ومع ذلك فإن هذا لا يعني عدم وجوب القيام بمجهودٍ علميّ من أجل تحديد دائرة العدالة، وبيان حجم الملاكات والمعايير التطبيقية له.

والخلاصة هي أن التحديد والتفسير المفهومي للعدالة وإنْ كان صعباً، يمكن بيان المساحة المنشودة في هذه المسألة، وذلك من خلال القول بأن العدالة تستعمل في أربعة مجالات:

1ـ العدالة في التكوين ونظام الخلق.

2ـ العدالة في التشريع والنظام التشريعي.

3ـ العدالة في التدبير والنظام التنفيذي.

4ـ العدالة في السلوك وفي منهج الحياة الفردية والاجتماعية.

أما المنشود لنا من بين هذه المجالات فهو الثاني، أي العدالة في التشريع والنظام التشريعي.

2ـ القاعدة الفقهية

إن القاعدة الفقهية في الفهم السائد عبارةٌ عن كلّيات تجمع ضمن إطارها مختلف الفروع، وتجعل حفظها واستذكارها متاحاً للفقيه. ومن هنا فإنها لا تحظى بالاهتمام بوصفها علماً آليّاً، كما هو الحالة بالنسبة إلى علم الأصول، ولا تجد لها موضعاً في الاستنباط.

بَيْدَ أن المعيار الصحيح في فهم القاعدة الفقهية يكمن في الاستنباط، وعلى الفقيه أن يختبر استنباطه بواسطتها. وربما كانت هذه العبارة من الشهيد الأول ناظرةً إلى هذه الرؤية، إذ يقول: «فممّا صنفتُه كتاب القواعد والفوائد في الفقه، مختصرٌ مشتمل على ضوابط كلّية، أصولية وفرعية، تستنبط منها أحكامٌ شرعية»([9]).

وربما كان الأدقّ أن يقال: إن القواعد الفقهية على نوعين، وهما: ما كان معياراً وملاكاً في الاستنباط، وما كان من قبيل: الأمر الكلّي الذي يشتمل على فروع وينفع في التطبيق. وربما أمكن استظهار هذا المعنى من عبارة «أصولية وفرعية» في كلام الشهيد الأوّل. وعلى أيّ حال عندما يتمّ الحديث عن العدالة بوصفها قاعدة فإنما يكون ذلك على أساس الفهم الثاني. أي إن العدالة ميزان ومعيار للفقاهة والاستنباط، وإن جميع الأفهام الفقهية والفتاوى يجب تقييمها بواسطة العدالة. يمكن لهذه القاعدة أن تكون مؤثِّرة في تنسيق مجموع الفقه، كما هو الحال في ملء منطقة الفراغ بوصفها حريماً لا ينبغي تجاوزه.

قال الشهيد الشيخ مرتضى المطهري في بيان العدالة بوصفها قاعدةً: «أصل العدالة من موازين الإسلام؛ لنرى ما الذي ينطبق عليها. فالعدالة تقع في سلسلة علل الأحكام، وليس في سلسلة معلولاتها، ولا بمعنى أن ما يقوله الدين عدلٌ، وإنما بمعنى أن ما هو عدلٌ يقول به الدين»([10]).

وبعبارةٍ أخرى: «العدل حاكمٌ على الأحكام، وليس تابعاً للأحكام. العدل ليس هو الإسلام، بل الإسلام هو العادل»([11]).

وبالتالي يَرِدُ هذا السؤال القائل: هل يمكن للعدالة أن تشكِّل للفقيه مصدراً ومعياراً، بحيث يمكنه على أساسها أن يستنبط أو يتبيَّن صحّة استنباطه؟ هذا هو السؤال الجوهري في هذه المقالة، حيث نسعى إلى العثور عن جوابه، ومن هنا سوف نقتصر على الإجابة عن هذا السؤال، ونعرض عن ذكر الأبحاث والفروع الأخرى.

ثانياً: الجذور التاريخية

لقد كان العدل في دائرة العلوم الإسلامية مطروحاً في علم الكلام والفقه والأخلاق. وفي كلّ واحدٍ من هذه العلوم يُعَدّ البحث في مفهوم العدل أمراً متجذِّراً. إن نزاع الأشاعرة والمعتزلة في مسألة العدل الإلهي ومسألة الحُسْن والقُبْح شكّل أرضية لهذا الموضوع في علم الكلام.

كما تمّ الحديث في علم الأخلاق عن العدل أيضاً في معرض الحديث عن الصفات الأخلاقية والكمال النفساني.

وفي علم الفقه تمّ بحث العدالة في موردين مستقلّين: أحدهما: تناول العدالة بوصفها واحدة من صفات المجتهد، والقاضي، وإمام الجماعة، والشهود وما إلى ذلك، وتمّ التعبير عنها في الرأي المشهور بوصفها ملكة نفسانية. وفي هذا المورد ـ باستثناء هذا الموقع المذكور في الفقه ـ تمّ تصنيف الكثير من الرسائل في هذا الشأن([12]).

والمورد الآخر بوصفها قاعدةً، حيث يَرِدُ التعبير عنها بقولهم: «قاعدة العدل والإنصاف»، وتستعمل في الأخطاء الخارجية، بمعنى عندما تختلط الأموال ببعضها ويصعب التمييز بينها. ولهذا المورد سابقةٌ طويلة في علم الفقه([13]).

والذي نُعنى به هنا، ويجب أن ندرس جذوره التاريخية، هو قاعدة العدالة في الفقه بالمعنى الذي تقدَّم ذكره.

يذهب الشهيد المطهري إلى القول بأن الجذور التاريخية لأصل العدالة في الفقه تعود إلى توظيف الرأي والقياس في الشريعة من قِبَل أهل السنّة([14]). وهذا ما يؤيِّده بعض علماء أهل السنّة أيضاً، من أمثال: الشيخ مصطفى المراغي([15]). كما أعاد الشهيد المطهري الجذور التاريخية لهذا البحث بين علماء الشيعة إلى بحث الملازمات العقلية والحُسْن والقُبْح العقليين([16])، وأما في علم الأصول وفي كتب الفقه فلا نجد تصريحاً حول هذه المسألة.

ويبدو أن أول مَنْ تحدَّث عن العدالة بوصفها قاعدةً، وعبَّر عن قلقه إزاء غفلة الفقهاء عنها، هو الشهيد الشيخ مرتضى المطهري، حيث قال في هذا الخصوص: «إن أصل العدالة الاجتماعية، رغم أهمّيته في فقهنا، قد تمّ تجاهله والغفلة عنه، ففي الوقت الذي تمّ استخراج عمومات في الفقه من آيات من قبيل: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ (البقرة: 83)([17])، و﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ (المائدة: 1)، ولكنْ على الرغم من تأكيد القرآن الكريم على مسألة العدالة الاجتماعية، مع ذلك لم يُستنبَط منه قاعدة وأصل عام في الفقه، وهذا الأمر أدّى إلى حدوث ركودٍ في التفكير الاجتماعي لدى فقهائنا»([18]).

كما عبَّر عنه الإمام الخميني بالميزان والمعيار، حيث قال: «…لأن تطبيق القوانين على أساس القسط والعدل، ومنع الظالمين والحكومات الجائرة، وبسط العدالة الفردية والاجتماعية، والحيلولة دون وقوع الفساد والفحشاء وأنواع الانحرافات، وضمان الحرّيات طبقاً لمعيار العقل والعدل، والاستقلال والاكتفاء الذاتي، والوقوف بوجه الاستعمار والاستثمار والاستعباد، والحدود والقصاص والتعزيرات على ميزان العقل والعدل والإنصاف، ومئات الموارد من هذا القبيل، ليس بالأمر الذي يبلى بمرور الزمن، وعلى مدى تاريخ البشر والحياة الاجتماعية. إن هذا الادّعاء يشبه القول في الظروف الراهنة: إن القواعد العقلية والرياضية يجب أن تستبدل بقواعد أخرى»([19]).

وقد تحدَّث بعضٌ آخر في هذا الشأن على نحو الإجمال أيضاً([20]).

ثالثاً: مستند النظرية

قلنا: إن العدالة يمكنها أن تكون قاعدةً فقهية يستند إليها الفقيه في استنباط الأحكام الشرعية، أو يجعل منها ميزاناً لتقييم استنباطه. وقيل: إن الفقهاء لم يصرِّحوا بهذا الأمر، ولم يتمّ تناولها بوصفها مسألةً علمية. وبطبيعة الحال يقوم الاعتقاد على أنهم قد استفادوا منها في تضاعيف فتاواهم وكتبهم في الفقه الاستدلالي.

وفي ما يلي نسعى إلى بيان مستندات هذه النظرية من الكتاب والسنّة؛ لتشكل أرضيّةً للمحقِّقين في دراساتهم العلمية.

وصف الله سبحانه وتعالى نفسه في كتابه الكريم آمراً بالعدل والإحسان؛ إذ يقول: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ (النحل: 90). كما اعتبر أن الهدف من رسالة الأنبياء يكمن في قيام الناس بالقسط، ومن ذلك قوله: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25).

إن القيام بالقسط إنما يتحقَّق إذا كان التشريع والتدبير قائماً على أساس القسط، وأن تكون طريقة حياة الناس عادلةً أيضاً. فإذا حدث خللٌ في أيّ واحد من هذه المجالات الثلاثة لن يتحقَّق القيام بالقسط. ومن الواضح ـ بطبيعة الحال ـ أن مجال التقنين والتشريع؛ حيث يرتبط بالله سبحانه وتعالى، فإنه لا يتطرَّق إليه الخلل. وعلى هذا الأساس يكون التشريع والتقنين عادلاً. وإن الفقيه الذي يروم الاستنباط عليه أن يأخذ هذا الأصل بنظر الاعتبار.

وقد تمّ التأكيد على معيار العدالة في الكثير من الروايات أيضاً. ومن ذلك: ما رُوي عن رسول الله| أنه قال: «العدل ميزان الله في الأرض، فمَنْ أخذه قاده إلى الجنة، ومَنْ تركه ساقه إلى النار»([21]).

وفي صحيحة أبي ولاّد، أن الإمام الصادق× عندما رفض فتوى أبي حنيفة قال: «قضى عليه أبو حنيفة بالجَوْر والظلم»([22]).

وقال أمير المؤمنين× في وصف القرآن الكريم: «هو الناطق بالسنّة العدل والأمر بالفضل»([23]).

وقال× أيضاً: «إن العدل ميزان الله سبحانه الذي وضعه في الخلق، ونصبه لإقامة الحقّ، فلا تخالفه في ميزانه، ولا تعارضه في سلطانه»([24]).

كما نقل عنه× الكثير من الكلمات الواردة في هذا الشأن، من قبيل: قوله: «العدل ملاك»([25])، و«العدل قوام الرعيّة»([26])، و«العدل قوام البريّة»([27])، و«العدل نظام الإمرة»([28]).

إن هذه الآيات والروايات يمكن لها أن تكون مصدراً لاصطياد هذه القاعدة الفقهية القيِّمة، كما أن الأمر لا يقتصر على هذه الموارد التي تقدَّم ذكرها.

وبالإضافة إلى الآيات والروايات، يشهد العقل على هذه المسألة أيضاً؛ إذ يلتزم الأصوليون من الشيعة، وكذلك المعتزلة، بالحُسْن والقُبْح العقليين، ويرَوْن أن المثال الأبرز على ذلك يتمثَّل بحُسْن العدل وقُبْح الظلم، واعتبروا أن إدراك أو حكم العقل ـ في هذا الشأن ـ أمرٌ مستقلّ، بمعنى أن العقل يدلّ على هذا الأمر بمعزل عن حكم الشرع.

قال الشيخ مصطفى المراغي من علماء التفسير من أهل السنّة: «أما مصدر العدالة في الشريعة الإسلامية، بعد الكتاب والسنّة والإجماع، فهو العقل وحكمة التشريع في الإسلام»([29]).

وكذلك منهج الفقهاء في الاستفادة من العدالة ـ بوصفها مصدراً ومعياراً ـ يمثِّل شاهداً واضحاً وصريحاً آخر على هذه النظرية. وسنأتي على ذكر نماذج لهذا الأمر في القسم الآتي.

رابعاً: تطبيق قاعدة العدالة

كما سبق أن أشرنا يمكن لقاعدة العدالة أن تكون مصدراً، ويمكنها أن تكون معياراً أيضاً. وعلى هذا الأساس يمكن للفقيه أن يستنبط الأحكام بواسطة هذه القاعدة، كما يمكن له أن يعمل على تقييم فهمه للنصوص الدينية أيضاً.

وفي ما يلي نستعرض بعض تطبيقات هذه القاعدة، مع ذكر نماذج من الأمثلة الفقهية عليها:

أـ الاستنباط على أساس قاعدة العدالة

1ـ قال صاحب الجواهر في مسألة الأرض عند اختلاف أهل الخبرة في تحديد القيمة: «قد عمل به الأصحاب في محلّه، بل قالوا: الضابط أن تجمع القيمتان أو القِيَم، ويتصدق بقيمةٍ منسوبة إلى القِيَم بالسويّة»، ثم قال في مقام الاستدلال على هذا الرأي: «ومقتضى العدل الجامع بين حقّي المشتري والبايع هو ما ذكره الأصحاب»([30]).

2ـ ذهب العلاّمة الحلّي في مسألة ضمان المثلي إلى ترجيح رأيٍ على أساس قاعدة العدل، وذلك حيث قال: «هل المدار في مطالبة المثل على مكان الغصب والاستيلاء، أو مكان التلف، أو مكان المطالبة، ولو مع اختلاف القِيَم فيها؟ ذهب الشيخ الأعظم& إلى أن للمالك المطالبة ولو كانت قيمته في مكان المطالبة أزيد منها في مكان التلف؛ وفاقاً للجمع، وعن الحلّي& أنه الذي يقتضيه عدل الإسلام»([31]).

3ـ يذهب الإمام الخميني إلى حرمة التصرُّف في ملكٍ لا مالية له؛ لأنه ظلمٌ([32]).

4ـ وقد ذهب الشيخ الأنصاري إلى الاعتقاد بأن للمالك المطالبة بالقيمة عند تعذُّر عين المثل، وإلاّ كان ظلماً: «منها ما أفاده الشيخ الأعظم&، من أن منع المالك ظلمٌ، وإلزام الضامن بالمثل منفيٌّ بالتعذُّر، ومقتضى الجمع بين الحقّين وجوب القيمة»([33]).

5ـ وفي ما يتعلَّق بمسألة وجوب تسليم «ما وقع عليه العقد» من قِبَل المتعاقدين تمّ الاستدلال على ذلك بأن إمساك مال الغير ظلمٌ، وإذا قام أحد الطرفين بظلمٍ، وأمسك ما عليه تسليمه، فإن الطرف الآخر لا يحقّ له أن يظلم([34]).

ب ـ طرح الحديث على أساس قاعدة العدالة

قال الإمام الخميني: إن حرمة الرِّبا تأتي من كون أخذ الزيادة ظلماً، وإن الحِيَل المستعملة في هذا الشأن لا تزيل الظلم المترتِّب على الرِّبا. ومن هنا فإن سماحته يرفض استعمال الحِيَل الشرعية في هذا الشأن، وقال في ذلك: «إن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾ (البقرة: 279) ظاهرٌ في أن أخذ الزيادة عن رأس المال ظلمٌ في نظر الشارع الأقدس، وحكمة في الجعل إنْ لم نقُلْ: بالعلّية، وظاهرٌ أن الظلم لا يرتفع بتبديل العنوان مع بقاء الأخذ على حاله، وقد مرّ أن الروايات الصحيحة وغيرها علَّلت حرمة الرِّبا بأنه موجبٌ لانصراف الناس عن التجارات واصطناع المعروف، وأن العلّة كونه فساداً وظلماً»([35]).

وعلى هذا الأساس يذهب& في هذا السياق إلى اعتبار الرواية التي يستدلّ بها على جواز الحيلة موضوعةً، ويرى أن هذا النوع من الروايات إنما تمّ اختلاقه لتشويه الحقيقة الناصعة للمعصومين^، حيث قال: «لا أستبعد أن تكون تلك الروايات من دسّ المخالفين؛ لتشويه سمعة الأئمّة الطاهرين»([36]).

ج ـ تحديد شمول المطلقات والعمومات

وقد ذهب ابن عاشور في تفسير «التحرير والتنوير» إلى اعتبار الروايات الواردة في جواز ضرب المرأة منحصرةً بعدم كون هذا السلوك ظلماً، وإلاّ فهو غير جائز؛ إذ يقول: «احتجّوا بما ورد في بعض الآثار من الإذن للزوج في ضرب زوجته الناشز، وما ورد من الأخبار عن بعض الصحابة أنهم فعلوا ذلك في غير ظهور الفاحشة. وعندي أنّ تلك الآثار والأخبار مَحْمَل الأباحة فيها أنها قد رُوعي فيها عُرف بعض الطبقات من الناس، أو بعض القبائل، فإنّ الناس متفاوتون في ذلك، وأهل البَدْو منهم لا يَعُدّون ضرب المرأة اعتداءً، ولا تعدّه النساء أيضاً اعتداء… فإذا كان الضرب مأذوناً فيه للأزواج، دون وُلاة الأمور، وكان سببه مجرَّد العصيان والكراهِية، دون الفاحشة، فلا جرم أنّه أذن فيه لقومٍ لا يَعُدّون صدوره من الأزواج إضراراً ولا عاراً ولا بِدْعاً من المعاملة في العائلة»([37]).

ويمكن لتحديد روايات الإجارة في قانون العمل أن يكون من هذا القبيل أيضاً.

وفي الختام لا بُدَّ من التذكير بأن غاية هذا المقال لا تزيد عن كونها مجرّد إثارة لهذه المسألة وتوجيه الأنظار إليها، وهي تستدعي أبحاثاً أكثر تفصيلاً في هذا الشأن. وإن التحقيق العميق والشامل في هذه المسألة يقتضي تناول الأبحاث التالية بدراسةٍ وافية وكاملة؛ كي نتمكن من ترسيخ العدالة بوصفها قاعدةً فقهية:

1ـ تتبُّع جذور هذه المسألة في الكتب الفقهية: لا شَكَّ في أن الفقهاء والعلماء قد استفادوا من هذه القاعدة في أبحاثهم، وإن جمع هذه الموارد وضمّها إلى بعضها من شأنه أن يشكِّل دعامة علمية للدفاع عن هذه النظرية.

2ـ إن تعيين مفهوم العدالة، وبيان طريق تشخيص مصاديقها، من أهمّ الأبحاث والتحقيقات في هذا الشأن. فإذا تمّ بيان وتوضيح مفهوم العدالة بشكلٍ صحيح، وتمّ التوصل إلى معيارٍ لتعيين حدود مفهومه، وتمّ تحديد معيارٍ لتعيين مصاديقه، وكيفية تطبيق المفهوم على المصداق، سوف نقترب خطوةً أخرى من الحفاظ على منزلة هذا الأصل؛ إذ هناك الكثير من الأسئلة الجادّة المطروحة في هذا الشأن، ومن ذلك: هل يمكن التوصُّل إلى مفهوم العدالة؟ هل مفهوم العدالة عُرفي أم حقيقي؟ هل مصاديق العدالة قابلةٌ للتغيير؟ وما إلى ذلك من الأسئلة الأخرى.

3ـ إن جمع كافّة الآيات والروايات التي يمكن لها أن تشكِّل مستنداً لهذا الأصل يمثِّل خطوةً أخرى لفهم هذه القاعدة وترسيخها.

4ـ إن بحث مسألة الحُسْن والقُبْح العقلي في باب العدالة يمثِّل مساحةً أخرى لهذا البحث.

5ـ إن تحديد مواضع تطبيق قاعدة العدالة في الفقه، من قبيل: كشف الحكم الشرعي، وتقييد الأدلّة اللفظية، وتوسعة الدليل اللفظي، وطرد وتأويل الدليل اللفظي، وما إلى ذلك، يمثِّل باباً آخر للدراسة والتحقيق في هذه المسألة.

الهوامش

(*) أستاذٌ حوزويّ وجامعيّ معروف. له مصنَّفاتٌ عدّة.

([1]) انظر: السيد مصطفى محقّق داماد، قواعد فقه [بخش مدني 2] (قواعد الفقه [القسم المدني 2]): 5 ـ 19، نشر سمت، طهران، 1374هـ.ش. (مصدر فارسي).

([2]) انظر: محمد مهدي النراقي، جامع السعادات 1: 51 ـ 52، دار الكتب العلميّة، قم.

([3]) انظر: اليزدي، العروة الوثقى 1: 899؛ الحكيم، مستمسك العروة الوثقى 7: 332.

([4]) انظر: محمد ضميران وشيرين عبادي، سنّت وتجدّد در حقوق إيران (التراث والتجديد في حقوق إيران): 161 ـ 205، نشر كتابخانه گنج دانش، ط 1، طهران، 1375هـ.ش. (مصدر فارسي).

([5]) أبو البقاء الرّندي الأندلسي (1204 ـ 1285م): محدِّثٌ حافظ وفقيه وشاعر وأديب مسلم من الأندلس، عاصر الفتن والاضطرابات التي حدثت في بلاد الأندلس من الداخل والخارج، وشهد سقوطها على يد الإسبان. تعود شهرته إلى القصيدة التي نظمها بعد سقوط عددٍ من المدن الأندلسية، وعنوانها (رثاء الأندلس)، ومطلعها: (لكلّ شيء إذا ما تمّ نقصانُ)، وفيها محاكاة لنونية البستي ومطلعها: (زيادة المرء في دنياه نقصانُ). وقد عرَّف به عبد الملك المراكشي في كتابه (الذيل والتكملة). المعرِّب.

([6]) دائرة معارف الأعلمي 22: 4، مؤسسة الأعلمي، ط 1، قم، 1390هـ ـ 1970م.

([7]) انظر: المصدر السابق.

([8]) محمد باقر الصدر، اقتصادنا: 303، دار التعارف، بيروت، 1399هـ ـ 1979م.

([9]) محمد بن مكّي العاملي، القواعد والفوائد 1: 12، مكتبة المفيد، قم.

([10]) مرتضى المطهري، مباني اقتصاد إسلامي (أسس الاقتصاد الإسلامي): 14، انتشارات حكمت، ط1، طهران، 1409هـ. (مصدر فارسي).

([11]) عبد الكريم سروش، روشنفكري ودينداري (التنوير والتدين): 47، نشر بويه، ط1، طهران، 1367هـ.ش. (مصدر فارسي).

([12]) انظر: حسين المدرسي الطباطبائي، مقدمه إي بر فقه شيعه (مقدّمة على فقه الشيعة): 434، ترجمه إلى اللغة الفارسية: آصف فكرت، بعنوان «رسالة في العدالة»، انتشارات آستان قدس رضوي.

([13]) انظر: المصطفوي، القواعد: 163؛ شفائي، مجموعه قواعد فقه: 140؛ الموسوي البهبهاني، الفوائد العلمية: 45.

([14]) انظر: مرتضى المطهري، العدل الإلهي: 31، نشر صدرا، ط10، طهران، 1357هـ.ش.

([15]) انظر: مجلة الأزهر، المجلد السادس والعشرين، العددان 15 ـ 16، مقالٌ بعنوان: (مقالة بين العدالة التشريعية في القوانين الوضعية والرأي في التشريع الإسلامي)، سنة 1374هـ.ش.

([16]) انظر: مرتضى المطهري، العدل الإلهي: 33 ـ 34.

([17]) وراجِعْ: النساء: 36؛ الأنعام: 151؛ الإسراء: 23.

([18]) مرتضى المطهري، مباني اقتصاد إسلامي (أسس الاقتصاد الإسلامي): 27.

([19]) روح الله الخميني، صحيفه نور (صحيفة النور) 21: 177. (مصدر فارسي).

([20]) محمد الصادقي، أصول الاستنباط بين الكتاب والسنّة: 185، المؤلف، ط1، قم، 1411هـ.

([21]) وسائل الشيعة 11: 310، المكتبة الإسلامية، طهران.

([22]) المصدر السابق 13: 255، الباب السابع عشر، ح1.

([23]) غرر الحكم 2: 795، ح39.

([24]) المصدر السابق 1: 222، ح88.

([25]) المصدر السابق 1: 12، ح274.

([26]) المصدر السابق 1: 26، ح749.

([27]) المصدر السابق 1: 28، ح856.

([28]) المصدر السابق 1: 28، ح834.

([29]) مجلة الأزهر، المجلد السادس والعشرين، العددان 15 ـ 16، مقال بعنوان: (مقالة بين العدالة التشريعية في القوانين الوضعية والرأي في التشريع الإسلامي)، سنة 1374هـ.ش.

([30]) محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 23: 294.

([31]) الخميني، كتاب البيع 2: 460، مطبعة مهر، قم.

([32]) انظر: المصدر السابق 2: 409.

([33]) المصدر السابق 2: 369.

([34]) انظر: المصدر السابق 5: 371.

([35]) المصدر السابق 2: 451.

([36]) المصدر السابق 5: 354.

([37]) ابن عاشور، التحرير والتنوير 5: 39 ـ 41.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً