حوارٌ مع: الشيخ أحمد مبلِّغي(*)
خصائص البحث عن تاريخ قاعدة العدالة
_ لقد دأبتم على معالجة الأبحاث الفقهية من الزاوية التاريخية. فهلاّ بيّنتم لنا الجذور التاريخية لتبلور مفهوم العدالة، وما هي التحوّلات التي شهدها هذا المفهوم في خضمّ الأحداث التاريخية؟
^ في ما يتعلّق بالبحث التاريخي يجب الإقرار بلوازم الماهية التاريخية للبحث، والمحافظة على هذا الالتزام. وفي ما يلي نشير إلى بعض النقاط في هذا الشأن:
النقطة الأولى: أسلوب التمسّك بالقرآن في الأبحاث التاريخية
إننا لو تمسّكنا في البحث التاريخي بالقرآن الكريم مثلاً يجب عدم توجيه النقد بالقول: لماذا لا يتمّ الاهتمام بالسنّة في تفسير القرآن؛ إذ في البحث التاريخي يجب بحث السنّة في موضعها. وبطبيعة الحال يمكن ممارسة الاستنباط من خلال البحث التاريخي أيضاً، بمعنى أننا كلما وصلنا إلى السنّة، واتّخذنا من السنّة قنطرةً إلى الإحاطة بالقرآن، عندها سوف نعمل على إدخال الرؤية ـ التي سبق لنا أن حصلنا عليها في المرحلة الأولى في مورد القرآن ـ في البحث الثاني، أي الوصول إلى مرحلة السنّة؛ كي يتمّ الاهتمام بالتعاطي والتفاعل بين القرآن والسنّة»؛ لأن البحث التاريخي يجب أن يحظى بهامش من الحرّية، فهو ليس مجرّد بحث استنباطي بَحْت، كي نبدأ منذ البداية من السنّة، ونقرأ القرآن الكريم بعدسات السنّة.
النقطة الثانية: عدم ضرورة التنظير التامّ في الأبحاث التاريخية
في ما يتعلق بالبحث عن الجذور التاريخية من الممكن أن نطرح مجموعة من الاحتمالات في مرحلةٍ ما، كأن نطرح بعض الاحتمالات حول آيةٍ أو عدد من الآيات، والسعي من أجل الوصول إلى نظرية أو رؤية بشأن تلك الآية، ولكنْ حتى إذا لم نصل إلى مثل هذه الرؤية لا يترتّب إشكالٌ على ذلك البحث التاريخي؛ إذ قد حصل سعيٌ في نهاية المطاف. وبطبيعة الحال لا بُدَّ من أخذ هذا الاحتمال بنظر الاعتبار؛ كي يتمّ في موضعٍ ما ترجيح فهم متشرّع أو سنّة أو شيء آخر على ذلك الاحتمال.
النقطة الثالثة: التنظير ضمن الرؤية التاريخية
إن الأبحاث التاريخية تكون في بعض الأحيان لمجرّد التيمُّن والتبرُّك، بمعنى أن الهدف شيءٌ آخر، وإلى جانب أو مدخل البحث يتمّ إلقاء نظرة على المسار التطوّري للبحث أيضاً. في هذا النوع من البحث التاريخي لا يمكن أن نرجو الوصول إلى النتيجة المنشودة كما ينبغي. وفي نوعٍ آخر من البحث التاريخي ـ وهو المنشود لنا ـ إننا ضمن دراسة المراحل التاريخية نعمل على بحث جميع النظريات والآراء، حتّى إذا كان لدى الشخص المؤرّخ نظرية عمد إلى طرحها في إطار المسار التاريخي لها. وفي الحقيقة إن هذا البحث يمكن أن يكون نوعاً من التنظير والتعرُّض للعلم أيضاً، ولكنْ في إطار بحثٍ تاريخي. وإن التنظير في الكثير من الأبحاث الغربية يسير تقريباً على هذا المسار التاريخي.
النقطة الرابعة: مساحة الدراسة التاريخية لقاعدة العدالة
حيث يجب أن نحتمل في المسار التاريخي أن كلّ شيء قد يكون مؤثِّراً، ويؤدّي دَوْر القرينة أو الدالّة والعلامة في العثور على ضالّتنا، يمكن للمسائل الأخلاقية والكلامية المرتبطة بالعدالة أن تشكّل موضوعاً لفقهنا أيضاً؛ إذ إن هذا المقدار ـ الذي تقع فيه هذه الأبحاث في مظانّ التأثير وتعريف ذلك المؤرّخ للوصول إلى ذلك المطلوب والضالّة ـ يكفي لكي تكون للمحقّق نظرة في الحدّ المعقول إلى تلك المساحة. ولذلك يجب إلقاء نظرة على العدالة الكلامية، وكذلك على المجتمع الذي تبلورت الأبحاث الإسلامية المرتبطة بالعدالة في صلبه. ومن ذلك مثلاً أنه يجب علينا دراسة المجتمع الجاهلي أيضاً؛ لأنه قد شكّل حاضنةً لنزول الآيات المرتبطة بالعدالة، ومن الممكن أن تكون تلك الآيات ناظرةً إلى مسائل وأمور ذلك المجتمع.
هل للعدالة حكمٌ فقهي؟
من هنا يتعيَّن علينا الإجابة عن هذا السؤال الأساسي، وهو: هل للعدالة حكمٌ فقهي؟ إن هذا السؤال في الواقع منسجمٌ مع تلك المقالة التي تصنّف العدالة في عداد العلل. فإذا كانت العدالة من ضمن العلل يمكن في حالة واحدة أن يلعب دَوْر المناط والموضوع، وعندها سيكون له حكمٌ طبعاً. ومن هذه الناحية نسعى إلى العثور على حكم العدالة من زاويةٍ تاريخية. وبطبيعة الحال فإننا نستنبط الحكم من مصادر التشريع، وليس من التاريخ، ولكننا في الوقت نفسه نبحث عن مصادر التشريع في مرحلته التاريخية، كما نلقي نظرةً على مرحلة ما قبل وما بعد التشريع أيضاً؛ لأن مرحلة ما قبل التشريع قد شكّلت ظرفاً وحاضنة للتشريع، ومرحلة ما بعد التشريع تمثِّل حلقة الوصل بيننا وبين مصادر التشريع لتلك المجتمعات، أو أن تلك المراحل تمثِّل تطوّراً للمعطيات التاريخية التي كانت مؤثّرة في فهمنا الراهن، أو أنها في الحدّ الأدنى في مظانّ التأثير. ومن هنا يجب أن تكون لنا نظرة إلى تلك الناحية أيضاً؛ إذ رُبَما كان فهمنا مأخوذاً من تلك المراحل التي تبلورت بعد التشريع، وأنهم كانوا قد فهموا العدالة في القرآن أو السنّة بشكلٍ خاطئ، وأننا قد اقتفينا آثارهم، فوقعنا في ذات الخطأ. وعليه فإن البحث التاريخي في الفقه لا يعني اعتبار التاريخ مصدراً من مصادر التشريع، وإنما هو قنطرةٌ توصل إلى مصادر التشريع. وفي الحقيقة إن التاريخ يمثِّل منهجاً وطريقاً في القراءة.
السؤال عن البحث التاريخي لموضوع العدالة
يجب علينا تحديد الموضوع، أو بعبارةٍ أخرى: علينا أن نحدِّد مفهوم العدالة ومصداقها، ولكنّنا نهتمّ بكلا مجالي مفهوم ومصداق العدالة، أو طريق الوصول إلى مصاديقها. وإن السؤال بالغ الأهمّية الذي يطرح نفسه في المجتمعات الراهنة يتعلّق بطرق الوصول إلى العدالة. وقبل التعرّف على حكم العدالة يجب علينا أن نفهم معنى العدالة. وإننا سوف نواصل العمل على معرفة هذا الموضوع أثناء البحث عن التاريخ.
العدالة الطبيعية والانتزاعية
هناك اليوم الكثير من الآراء المتفاوتة والمتعارضة بشأن العدالة، ويمكن لنا أن نطرح رأيين رئيسين في هذا الشأن على نحو الإجمال، وهما: العدالة الانتزاعية؛ والعدالة التوافقية. وقد كانت العدالة الطبيعية والانتزاعية هي الرؤية الغالبة في مجمل التاريخ البشري.
ففي المراحل القديمة كانوا يعتبرون العدالة ظاهرةً طبيعية؛ بمعنى أنهم كانوا يدرسون منزلة الإنسان والطبقات المختلفة في طبيعة المجتمع، وحيث كانوا يرَوْن هذه المنازل متغايرة ومختلفة كانوا يقولون: إن العدالة عبارةٌ عن إعطاء الحقوق إلى الأشخاص بما يتناسب وتلك المنازل.
وبعبارةٍ أخرى: إن لكلّ فردٍ أو طبقة وفئة في المجتمع موقعاً ومنزلة، ومن الممكن أن تكون هذه المنزلة مخالفةً ومغايرة لمنزلة طبقة أو جماعة وأفراد آخرين. وإن العدالة الطبيعية ـ في هذه الرؤية ـ تعني السعي من أجل وضع كلّ شخصٍ في موقعه الطبيعي. والمراد من الطبيعة هي طبيعة المجتمع، بمعنى أن للمجتمع طبيعة، وأن هناك حقوقاً تنبثق عن تلك المواقع الطبيعية، وإذا أعطيتم هذه الحقوق إلى الأفراد تكونون قد عملتم على مراعاة العدالة. ومن هنا إن لطبقة العلماء والمفكِّرين أو الحكماء منزلةً ومرتبة، ويجب وضعهم في منازلهم ومراتبهم. كما أن لكلٍّ من السلاطين والرعية منزلةً ومكانة مختلفة عن بعضهم. فإذا قمنا بالتعرُّف على النظم الطبيعي في المجتمع نكون قد توصّلنا إلى فهم العدالة الطبيعية.
العدالة التوافقية
إن العدالة التوافقية تعني أن على أفراد المجتمع أن يتوصّلوا إلى ما يُعتبر عدالة وما لا يُعتبر عدالة. وبطبيعة الحال إن مفهوم العدالة في المجتمعات المختلفة يكتسب معنىً مختلفاً. ففي مجتمعٍ ما قد يتمّ اعتبار شيء ما عدالة، ولكنْ قد تتحوّل الشرائط والأوضاع في المستقبل بحيث تتغيَّر نظرة ذلك المجتمع إلى العدالة، فيتحوّل إلى اعتبار العدالة في شيءٍ آخر.
_ يَرِدُ هنا سؤالان، وهما: أوّلاً: هل كان هذا المصطلح من وضعكم أم له سابقة تاريخية؟ وثانياً: هل يعود تقسيمكم إلى اعتبار مفهوم العدالة أو إلى اعتبار المصداق؟ مع العلم أنه ليس هناك اختلافٌ كبير في مفهوم العدالة. وحتّى في التاريخ نفسه لم نشهد نزاعاً كبيراً حول مفهوم العدالة، وإنما الخلاف كان يدور حول تحديد مصداق العدالة، وما هو مصداق النظام العادل في الوقت الراهن؟ وهل يمكن تحديد النظام العادل بالنظام الديمقراطي أو الاستبداي أو الدستوري؟
المصطلحات المتنوّعة للعدالة الطبيعية
^ في ما يتعلَّق بالسؤال الأول يجب القول: إن مصطلح العدالة الطبيعية أو العدالة التوزيعية أو العدالة الانتزاعية مصطلحٌ معروف وشائع الاستعمال، ويقال: إن العدالة الأرسطية عدالة طبيعية. ويقال أحياناً: العدالة الانتزاعية، وفي بعض الأحيان الأخرى: العدالة التوزيعية. والعدالة التوزيعية هنا تعني أننا نعمل على توزيع الإمكانات الاجتماعية أو المواهب الطبيعية على أساس منزلة ومكانة الطبقات أو الأفراد في المجتمع. إن هذه المنازل تخلق حقوقاً، بحيث إذا أعطي كل شخص حصّته منها يكون قد حصل على حقّه.
العدالة التوافقية من وجهة نظر الغربيين
إن العدالة التوافقية ناظرةٌ في الغالب إلى الآراء الغربية. وإن هؤلاء الغربيين قد انقسموا بشأن هذه العدالة التوافقية إلى عدّة أقسام؛ فهناك مَنْ قال: إن العدالة تعني التوافق والتعاقد حول المصالح؛ وقال بعضٌ آخر: إن الملاك والمبنى ليس هو المصلحة، وإنما يجب النظر إلى ما هو أبعد من ذلك، وإن المجتمع هو الذي يجب أن يتّفق، لا أن يكتفى باتّفاق مجموعةٍ على تنظيم عقد بحسب الربح والخسارة. وسوف يأتي الكلام حول اختلاف الآراء حول ذلك في محلّه. طبقاً لهذا التعريف: يعمل التوافق من قبل الجميع على إقامة العدالة، لا أن تكون العدالة كامنةً في الطبيعة بمعزل عن الإنسان، وأن يكون للإنسان مجرّد دَوْر الكاشف والتعرُّف على الحصص الطبيعية والمنازل، وتوزيع الحقوق على أساس ذلك.
العلاقة بين مفهوم العدالة ومصداقها
أما السؤال القائل: هل هذا هو مفهوم العدالة أو مصداقها؟ فيجب القول في الجواب عنه: إن مفهوم العدالة في الأساس تابع بدَوْره إلى ذلك الشيء الذي نعتبره عدالة، أو ما هو الشيء الذي نعتبره طريقاً في الوصول إلى العدالة؟ لو اتّضحت مقولتا: الوصول إلى العدالة؛ ومصاديق العدالة، عندها يجب إصلاح وتشذيب مفهوم العدالة على طبق ذلك. ومن هنا يختلف مفهوم العدالة تَبَعاً لاختلاف الآراء. وإن المتَّفق عليه من قبل كافّة المجتمعات في الماضي والحاضر والمستقبل، والذي يؤمن به الجميع، هو وجوب مراعاة العدالة والتوزيع العادل، غاية ما هناك أن القدماء كانوا يرَوْن التوزيع العادل قائماً على أساس القابليات والحصص الطبيعية؛ أما اليوم فيقوم التوزيع العادل على أساس التوافق الذي يجب فيه العمل من قِبَل الجميع على خلق حاضنةٍ جماعية، وأن ينبثق من صلب هذه الحاضنة توافقٌ على تحديد العدالة.
أسباب البحث التاريخي عن العدالة
عندها يطرح هذا البحث نفسه: هل من المعقول أن نبحث عن الجذور التاريخية لما هو مطروحٌ بيننا في اللحظة الراهنة؟ لأن النظرية التي ترى العدالة ضمن سلسلة العلل([1])، أو بحث العدالة التوافقية، تُعَدّ من النظريات الجديدة.
والجواب هو أننا نروم في بعض الأحيان أن نبحث عن مصطلح العدالة الطبيعية والتوافقية في التاريخ، وقد لا يكون ذلك معقولاً؛ وذلك لأن هذا المصطلح مستحدثٌ، ولم يكن الإسلام هو الذي أوجده، أو لم يكن مطروحاً في تلك الأزمنة، إلاّ أن بحثنا لا يدور حول المصطلح.
وأحياناً نبحث في نظرية العدالة التوافقية أو النظريات الواقعة ضمن العدالة التوافقية، ونتساءل: هل كانت موجودةً في تلك الأزمنة أم لا؟ وهذا بدَوْره قد لا يكون معقولاً أيضاً؛ لأنك تذعن بأن هذه النظريات مستحدثة. كما أن الشارع ليس من شأنه التنظير أصلاً، وإنما التنظير من شأن الإنسان والبشر. وإنما غايتنا أن نرى هل كان تعامل الشارع مع العدالة من باب العلّية أو المعلولية؟ وعلى هذا الأساس نسعى إلى اختبار هذه النظرية بالقرن الأوّل أو التاريخ الماثل بين أيدينا. وهكذا الأمر بالنسبة إلى العدالة التوافقية، حيث نريد أن نرى هل المجتمعات في تلك الأزمنة كانت تعمد إلى التوافق من أجل الوصول إلى العدالة أم لا؟ ولا سيَّما أننا ـ طبقاً للمبنى الكلامي ـ نعتبر الشارع هو الخالق، ونؤمن بأن الشارع يعلم بأن هذه النظرية سوف تظهر لاحقاً، كما أنه يعلم بأن هناك عدّة طرق للوصول إلى العدالة. فإذا ارتضينا طريق الوصول الجماعي مثلاً وجب البحث عن نماذج لذلك عند الشرع. إن تتبُّع هذه الأسئلة في التاريخ لا يعتبر غير مبرَّر أو غير معقول.
العدالة في المرحلة الجاهلية
إذا أردنا دراسة العدالة في الإسلام من الناحية التاريخية وجبت علينا العودة في البداية إلى العصر الجاهلي السابق على الإسلام؛ لأن الإسلام قد ظهر ضمن هذا المجتمع. وقد كانت المجتمعات في العصر الجاهلي على قسمين، وهما: المجتمعات المتفلسفة؛ والمجتمعات المجرَّدة عن الفلسفة بالكامل.
تفلسف المجتمع اليوناني والإيراني القديم
لقد كان المجتمع الإغريقي مجتمعاً متفلسفاً، وكانت اليونان القديمة تنظر إلى العدالة بوصفها عدالةً طبيعية؛ إذ كانوا ينظرون إلى العدالة من زاوية فلسفية؛ لأن النُخَب كانوا متأثِّرين بهذه العدالة الطبيعية، ويعمدون إلى تعريف العدالة على هذا الأساس.
كما كان المجتمع الإيراني يتعاطى مع الحكمة بشكلٍ وآخر، ومن هنا كانت رؤيته إلى الأمور فلسفيةً أيضاً. وإنْ كنتُ لم أعثر على موضعٍ تناول فيه الإيرانيون بحث العدالة الطبيعية، إلاّ أنه يمكن مشاهدة العدالة الطبيعية بمفهومها الأرسطي في المجتمع الإيراني بشكلٍ من الأشكال؛ إذ نرى لكلّ طبقة منزلتها، وحتى العدالة في التربية والتعليم كانوا يرَوْنها حِكْراً على منزلةٍ وطبقة خاصة. ومن هنا كان الكثير من الطبقات محروماً من نعمة التعليم والتعلُّم. وحتّى أنوشيروان([2]) ـ الذي كانوا يعتبرونه عادلاً ـ كان أكثر إخلاصاً وتشبُّثاً بالقوانين الطبقية. ومع ذلك فإننا ـ طبقاً لتعريفنا المعاصر للعدالة ـ لا نعتبره عادلاً.
خلوّ المجتمع الجاهلي من الفلسفة
أما المجتمع الجاهلي فلم يكن متفلسفاً، ولذلك أمكن ـ لحُسْن الحظّ ـ دراسته من مختلف مجالات السياسة والفلسفة والحقوق الاجتماعية على نحوٍ أيسر؛ لأنه كان مجتمعاً مجرّداً من الفلسفة، ولم تَشُبْه شوائبها. ولذلك سيكون من السهل علينا الإجابة عن هذا السؤال القائل: هل كان هذا المجتمع يشتمل على هذه العدالة التوافقية حقّاً؟ وبطبيعة الحال لا نقصد بذلك نظرية العدالة التوافقية؛ ليُشْكَل علينا بعد ذلك بأن المجتمع الجاهلي كان يفتقر حتّى إلى العلوم الأوّلية، ناهيك عن أن يكون لديهم تنظيرٌ في هذا الشأن؛ بل المراد هو هل أنهم في تعريف العدالة أو تحديد مصداقها كانوا يتجاوزون القاعدة الجماعية أم لا؟ أم أنهم كانوا ـ مثل الفلاسفة ـ يحملون رؤية فلسفية؟
الشاهد على توافقية العدالة لدى عرب الجاهلية
هناك بعض المؤشّرات المتوفّرة التي تثبت أن العدالة في المجتمع الجاهلي كانت عدالة توافقية. وأما أن تكون هذه التوافقات ضعيفة أو غير كافية فهو بحثٌ آخر. ولكنْ مهما كان فإن اتّخاذهم للقرارات كان يتمّ عبر آلية التوافق.
وفي ما يلي نستعرض بعض نماذج الظلم والعدل في المجتمع الجاهلي:
عرب الجاهلية وحلف الدفاع عن المظلومين
لقد كان لدى العرب حلفٌ يقضي بالدفاع عن المظلوم ومقارعة الظلم([3]). قد يُقال: إن المجتمع الجاهلي ـ بسبب جهله ـ كان يقضي على الواقعيات، ويخالفها لا شعورياً، ويعمل في نهاية المطاف على ما يخالف الواقع، ولكنْ لا يمكن القول: إنه كان مجتمعاً ظالماً، وإنه يسارع إلى ارتكاب الجَوْر متعمِّداً.
وهناك عدّة أدلّة لا تبيح استخدام هذا التعبير بشأنهم:
إمضاء الإسلام لبعض الحقوق السائدة في الجاهلية
من ذلك: أوّلاً: أن الإسلام قد أمضى بعض الحقوق التي كانت سائدة في العصر الجاهلي، مع رفضه لكافّة الحقوق الظالمة والمجحفة.
وثانياً: إنهم كانوا يمتلكون حلفاً للدفاع عن المظلوم.
وثالثاً: إنهم كانوا قد وضعوا مختلف المعاهدات والقوانين بشأن الحروب. إن الحرب منشأٌ للظلم، وحتّى اليوم تُعَدّ الحروب واحدة من مصاديق أو مناشئ الظلم. إن الحرب تمثِّل مصدراً للكثير من أنواع الظلم. ولذلك فقد عمد العرب في الجاهلية إلى وضع قواعد وقوانين للحروب، ومن ذلك أنهم حرموا القتال في أربعة أشهر معيّنة. وهذا يشير إلى أنهم كانوا يميلون إلى السلم والعدل، وكانوا يرومون القضاء على هذه الظاهرة القبيحة واجتثاثها ما أمكنهم.
كان العرب في الجاهلية يصفون النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بالأمين
الأمر الآخر الذي يدلّ على أن المجتمع الجاهلي في تلك المرحلة كان ينزع إلى العدالة أنه كان يلقِّب النبي الأكرم| بالأمين. إن تلقيب النبي بهذا اللقب، والرجوع إليه في النزاعات بوصفه أميناً، يثبت أنهم كانوا ينشدون تطبيق الإنصاف والعدالة.
تبرير وأد البنات ومطالبة الجاهليين بالعدالة
قد يَرِدُ هنا بعض الإشكالات، ومنها: لو قلنا بوجود نوعٍ من الجاهلية في المجتمع الجاهلي حقَّ لنا أن نتساءل: لماذا كان وأد البنات شائعاً بينهم بوصفه حالة سائدة ومقبولة؟ والجواب عن ذلك: صحيحٌ أن نظامهم لم يكن عادلاً، إلاّ أن هذا لا يعني أنهم كانوا ينظرون إلى هذه الظاهرة بوصفها من مصاديق الظلم، فحتّى الأشخاص الذين كانوا يرتكبون هذه الجريمة ويقتلون بناتهم لا يفعلون ذلك بوصفه ظلماً، وإنما كان يقترفون ذلك لأنهم يعتبرون البنت عاراً عليهم، والعار قبيحٌ، والقبيح لا ينسجم مع العدل. فقد كانت طريقتهم تقوم على أن الشيء إذا كان ينطوي على عار، واعتبره الجميع عاراً، وجب على الجميع أن يتخلَّص من هذا العار.
_ إن ادّعاء وجود عدالة في المجتمع الجاهلي أمرٌ يدعو إلى التأمّل. يبدو أن المجتمع الجاهلي كان يقوم على أساس الظلم، وليس على العدالة ـ سواء على مستوى العلاقات الفردية أو الاجتماعية أو حتّى في أصل العلاقات الاعتقادية ـ، وكانت العلاقات في المجتمع الجاهلي حتّى في تعابير القرآن الكريم والسنّة الشريفة تدور حول محور الظلم، دون العدل. وإن وجود الأشهر الحُرُم لا يُشير إلى نزوع إلى العدل، وإنما تمشّياً مع ما تقتضيه المصلحة، حيث يتمّ استغلال تلك الأشهر في تنظيم شؤون الحياة، والتمهيد للعودة إلى الحروب والغارات في الأشهر الباقية.
الأمر الآخر الذي ينفي سيادة مفهوم العدالة بين العرب في المرحلة الجاهلية هو تغليب النزعة القبلية والعصبية، فالذي كان يحظى بالأهمّية عندهم هو مصالح القبيلة، وعلى الرغم من علم أفراد القبيلة أن هذا الأمر باطلٌ ومجانب للحقّ، ولكنْ حيث يتعلق الأمر بالقرابة والانتماء القبلي فإنهم يدوسون على جميع الحقوق من أجل الحفاظ على حقّ القبيلة. وقد جاء الإسلام لكي يواجه هذه العصبية الجاهلية بشدّةٍ. وإن مسألة الأواصر القبلية والقصاص والديات وما إلى ذلك إنما يأتي في سياق أن المنطق الجاهلي لا يعترف بأيّ خطوطٍ حمر، ولا يقرّ بأيّ عدالة، إلاّ ما كان ضمن دائرة رابطة الدم أو القبيلة. وعليه فإنهم لا يعترفون بأيّ حقٍّ من الحقوق، ناهيك عن العدالة. وعليه لا وجود أساساً لمفهوم العدالة في المجتمع الجاهلي أبداً. وبطبيعة الحال إذا اعتبرنا العدالة بمعنى رعاية القواعد التي تحكم بناء المجتمع فإن جميع المجتمعات في العالم ستكون عادلةً في هذه الحالة، وليس المجتمع الجاهلي فقط.
عدالة كلّ مجتمعٍ طبق معاييره الخاصة
^ إن المجتمعات طبقاً لرؤيتها لا تكون إلاّ عادلة، ولكن الظلم يأتي من قِبَل الأفراد. فلا تنسبوا الظلم إلى المجتمع؛ لأن المجتمع يمثِّل الوجدان العام. نعم، من منطلق تعريف الإسلام للظلم، إذ يقول الله تعالى: ﴿ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ (هود: 101؛ إبراهيم: 45) يكون كلامكم صحيحاً. إن للظلم هنا معنىً خاصّاً، فهو بهذا المعنى يستأصل نفسه، والجهل بدَوْره يؤدّي في نهاية المطاف إلى ظلم نفسه؛ قال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ (الأحزاب: 72). وأما بحثنا فهو ـ بغضّ النظر عن رؤيتكم ـ يدور حول السؤال القائل: هل كان هناك في المجتمع الجاهلي توجُّهٌ نحو العدالة أصلاً أم لا؟ والجواب هو أن هذا التوجّه كان موجوداً، والدليل على ذلك أنهم كانوا يبحثون عن نظامٍ يحقِّق لهم هذه العدالة.
_ في ما يتعلَّق بسبب اعتناق الشعب الإيراني للإسلام نقول: كان الشعب الإيراني قد ضاق ذرعاً بالظلم. فإذا كان الملك أنوشيروان عادلاً بهذا الاعتبار الذي يعني أنه كان يراعي القواعد الاجتماعية وجب عدم اعتباره ظالماً.
التحوُّل في معايير العدالة
^ إن ثورة الشعب على الظلم حقٌّ تقرّه جميع الشرائع والأنظمة، وهو حقٌّ معترف به رسمياً. فلو أن العدالة التوافقية أدّت في نهاية المطاف إلى الظلم، ولم تتمكن من تلبية تطلّعات الشعب وتحقيق ما يصبو إليه، فإن الشعب سوف ينتفض لا محالة. وهذه الانتفاضة والثورة لن تكون ضدّ الاتفاق المبدئي، وإنما هو توافقٌ من أجل تغيير قواعد العدالة. والثورة من أجل تغيير قواعد العدالة أمرٌ مختلف عن الثورة ضدّ العدالة نفسها. فرُبَما كان أولئك الملوك غير ملتزمين بالأُطُر التي وافقوا عليها مبدئياً، وهذا الأمر يجب أن ندرسه من الزاوية التاريخية.
_ ولكن الأمر يبدو وكأن القواعد التي جاء بها الإسلام كانت أكثر جَذْباً لهم من القواعد التي كانت لديهم.
^ أجل، ولكن هذا لم يكن يمثِّل ثورة ضد العدالة.
_ كان نظام الحكم في تلك المرحلة الزمنية نظاماً قَبَلياً يقوم في الغالب على رؤية الشخص وتخطيطه، ويتمّ الاحتفاء بإرادته وتوجّهاته، رغم وجود مفهوم الشورى والتوافقات الجزئية والتفصيلية بينهم.
^ لا زلتم تصرّون على دراسة هذه المسألة بالأدوات المعاصرة. لا يمكنكم القول: يجب على المنظومة أن لا تكون فردية، ولا بُدَّ أن تكون جماعيةً وقائمة على أساس مبدأ الشورى. وإنما الكلام هو: هل كان لديهم توجُّه نحو العدالة؟ في المجتمع الذي يفتقر إلى نزعةٍ نحو العدالة يجب أن لا نجد موضعاً من الإعراب لمفردة الأمين في المجتمع الظالم. إن تعلُّق ذلك المجتمع بالنبيّ الأكرم|، وإطلاقه لقب (الأمين) عليه، ومراجعته في حدود ما تسمح به بنيتهم، كلّ ذلك يشير إلى وجود أرضيةٍ لتقبُّل العدالة في ذلك المجتمع في الحدّ الأدنى.
_ يقوم ادّعاؤكم ـ بطبيعة الحال ـ على فرضية اعتبار الأمانة مساوقة للعدالة. إن جميع القرائن التي أتيتُم على ذكرها أعمّ من المدّعى. تارةً يكون المفهوم مساوقاً للمفهوم مورد البحث، وهناك يمكن للمفهوم أن يكون شاهداً على مدّعانا؛ وأما إذا أخذنا معنىً عامّاً أو خاصّاً بنظر الاعتبار لا يعود بإمكانه أن يكون شاهداً، إلاّ إذا ضممنا عدّة قرائن؛ كي تقيِّده وتجعله مساوقاً للمعنى مورد البحث.
الاحتراز عن العار التوافقي بوصفه معياراً للبحث عن العدالة
^ لا شَكَّ في أن الأمانة من مظاهر العدالة. كان المبنى لنشاطهم وممارساتهم يقوم على عدّة أمور، ومن بينها: الاحتراز عن العار. لقد كانوا يعتبرون العار قبيحاً، ويتنصّلون منه، وهذا العار لم يكن منبثقاً من طبيعتهم؛ لأن الإنسان مجبولٌ على حبّ ابنته، وإنما كان هناك توافقٌ قد تحقّق حول هذا الأمر، وكان هذا التوافق من القوّة والرسوخ بحيث يتقدَّم على المشاعر العاطفية والأسرية؛ فكانوا يدوسون على مشاعرهم استجابةً لهذا التوافق. وعلى هذا الأساس يجب أن يكون هناك وجودٌ لهذا التوافق، وإن هذا التوافق يأتي في إطار تنظيم العلاقات العامّة أو الاحتراز عن العار.
_ إن وأد البنات بسبب العار كان مجرَّد جزء من دوافعهم، أما الدافع الرئيس إلى ارتكاب هذه الجريمة فقد كان يتمثَّل في الخوف من العوامل الاقتصادية والسياسية([4])، فكان الخوف من الفقر يرجِّح كفّة الفتيان على الفتيات، وكان وجود البنت يؤثِّر في المسائل الاقتصادية، حتّى أن البنت لم تكن تعتبر عنصراً منتجاً أبداً، بل كان ينظر إليها بوصفها عنصراً استهلاكياً فقط.
حلف الدفاع عن المظلوم دليل على المطالبة بتحقيق العدالة
^ لقد كانوا يعتبرون الإملاق أيضاً عاراً، فإذا تعرَّض شخص إلى الافتقار في المجتمع شكّل ذلك نوعاً من العار، الذي يفقد معه الشخص مكانته ومنزلته. وكان أعضاء المجتمع يتقبَّلون هذه الرؤية. وبطبيعة الحال أنا لم أذكر هذا المثال بوصفه مظهراً من مظاهر العدالة. وأما حلف الدفاع عن المظلوم فهو الذي يشكِّل مظهراً من مظاهر المطالبة بإقامة العدالة بينهم، ويمثِّل شاهداً ودليلاً على نزوعهم إلى العدالة.
_ هل يقوم ادّعاؤكم على أن مطالبة أفراد المجتمع الجاهلي بالعدالة كانت موجودةً في جميع أبعاد حياتهم؟
كانت المطالبة بالعدالة في المجتمع الجاهلي توافقية
^ كلاّ، بل الذي أقوله هو أن الاتجاه كان في الجملة يتّجه نحو المطالبة بالعدالة، لنقوم بعد ذلك بدراسة ما إذا كانت هذه العدالة المنشودة لهم عدالة توافقية أم عدالة فلسفية. والذي نفهمه من الحلف الذي تشكّل في المجتمع الجاهلي للدفاع عن المظلوم هو أن هذه العدالة كانت عدالةً توافقية.
_ في المجتمع القبلي كان حقّ أفراد القبيلة محفوظاً، وفي ضوئه يحظى الفرد بالناصر والحامي والمعين، أما الأجنبي عن القبيلة فلم يكن يتمتّع بأيّ حقوق. وفي المجتمع الجاهلي تتبلور أمور، من قبيل: الولاء، وضمان الجريرة، وحلف الفضول، فما هو منشأ هذه الأمور؟ وهل كانوا يُقيمون التحالفات لأولئك الذين لم يكن لهم مَنْ ينصرهم أم أن الذي كان مهمّاً في البين هو الوشائج القبلية فقط، والذي لا يكون منتمياً إلى القبيلة، لا يمتلك أيّ حقٍّ من الحقوق؟
العدالة التوافقية في المجتمع الجاهلي ضمن الإطار القَبَلي
^ ان الوشائج القبلية لا تعتبر اليوم مستساغةً من وجهة نظركم؛ ولكن عليكم الالتفات إلى أنهم قد نشأوا وترعرعوا في أحضان القبيلة، وكانوا يرَوْن العدالة في الالتزام بتقاليد القبيلة. وبطبيعة الحال نحن لا نقول: إن ما كانوا يرَوْنه من العدالة يجب أن يكون من العدالة حتماً، وإنما الذي نقوله هو أنهم كانوا من القبائل المترحِّلة التي تسكن الصحراء، وكانوا يضطرّون أحياناً إلى أكل الجراد والزواحف، وبطبيعة الحال كانوا يهاجرون التماساً للكلأ وينابيع الماء والغدران، وبذلك كانت تتشكّل القبائل، وتنعقد التحالفات والمعاهدات في ما يتعلّق بتحقيق العدالة ضمن الإطار القَبَلي. وعليه إن تبلور القبائل في العصر الجاهلي كان محكوماً بالاقتضاءات الاجتماعية والتاريخية. ثم كانوا يعملون ـ في إطار الاستجابة لبعض الأمور ـ على عقد وإبرام التحالفات والعهود والمواثيق لرعاية الحقوق. لقد كان فهمهم للعدالة والحقّ يندرج في إطار فهمهم القَبَلي.
_ تقولون: إن هذه التحالفات تأتي في إطار مراعاة الحقوق وضمان العدالة، ونحن نقول: إن هذه التحالفات إنما كانت تقوم على أساس ضمان مصالحهم الخاصّة، الأعمّ من أن تكون تلك المصالح عادلةً أم ظالمة.
^ أرى أن العدالة تعني التوزيع العادل للمنافع.
_ إن هذه التحالفات كانت تشمل الأمور العادلة وغير العادلة، وكان الهدف منها ضمان مصالح القبيلة الصغيرة عندما تحصل على دعم وحماية قبيلةٍ أكبر، وهذه القبيلة الأكبر بدَوْرها تبحث عن ولاء وحماية قبيلةٍ أخرى أكبر منها. فكان هؤلاء يبحثون عن ضمان مصالحهم من خلال بناء تحالفات بين القبائل الكبرى والصغرى، ولم يكونوا يحملون هموم الحقوق.
توزيع المصالح من مصاديق العدالة
^ إن من بين أهمّ النظريات حول العدالة تلك النظرية التي تربط العدالة بالمنفعة، بمعنى أنه إذا تمّ توزيع المنافع والمصالح سوف تتحقّق المساواة أيضاً.
_ إنما يدور بحثنا حول هذه المساواة.
محدودية العدالة في المجتمع الجاهلي
^ إن التركيبة القَبَلية لا يمكنها القيام بالتوزيع المتساوي فوق طاقتها، فيبقى ذلك في حدود التحالف. وعليه لا يمكن لنا أن نتوقّع من هذه المنظومة أن تتمكّن من توزيعٍ متكافئ للمزيد من النعم والمواهب في مختلف أبعاد الحياة.
_ ليس الكلام حول التمكُّن وعدم التمكُّن، بل الكلام يدور حول انضمام القبائل الصغيرة إلى القبائل الكبرى من أجل إحلال النظم، ولم يكن الهدف من هذا النظم تحقيق العدالة بالضرورة. ولكي نثبت العدالة نحتاج إلى المزيد من الشواهد.
العدالة الفطرية لدى البشر
^ لقد كان المجتمع الجاهلي ـ كما يلوح من اسمه ـ مجتمعاً جاهلاً، وكان يفهم العدالة من هذه الزاوية. إن العدالة أمرٌ ذاتي في جبلّة البشر. وكان جُلّ ما يقدرون على فهمه هو أن المنتسب إلى القبيلة إذا لم يحْظَ بدعمها وحمايتها فإنه سوف يُسْحَق تحت سنابك خَيْل القبائل الأخرى.
_ يمكن أن نرى جذوراً من العدالة في معاهدة حلف الفضول التي عقدت من أجل حماية المظلوم. ولكنْ ما مدى إمكانية تعميم هذه النزعة إلى تحقيق العدالة في ذلك المجتمع؟ ففي مقابل هذه المعاهدة نجد ظاهرة وأد البنات ضاربةً بأطنابها في عمق المجتمع الجاهلي!
^ لم تكن ظاهرة وأد البنات هي الطابع الغالب، وإنما كانت مقتصرةً على بعض القبائل.
_ خُذْ بنظر الاعتبار مجتمعين أو قبيلتين تتنازعان حول توزيع المصالح، غاية ما هنالك أن إحداهما تنطلق من منطلق الضعف؛ والأخرى من منطلق القوّة. وحيث إنهما تعيشان هذا الواقع اللامتكافئ فإنهما يتوصّلان إلى إبرام مثل هذه التحالفات والمواثيق. هل تعتقدون أن القبيلة المغلوب على أمرها ترى العدالة متحقّقة في هذا الحلف والميثاق؟ إن المجتمع الجاهلي يرضخ لمثل هذه التحالفات على الرغم من أنه لا يراها عادلة. بينما سماحتكم تدّعي أن كلّ أنواع النظم والتحالفات وأيّ اتفاق كان يتبلور في ذلك المجتمع يُعَدّ عادلاً.
الفرق بين الاتفاق العامّ والاتفاق الجزئي
^ لم تكن جميع التحالفات معيارية، غاية ما هنالك أن تحالفاتهم واتفاقياتهم العامّة إنما كانت تهدف إلى إيجاد النظم والتوزيع العادل، رغم أنهم لم يتمكّنوا من تحقيق التوزيع العادل. وإن ذهنيتي وذهنياتكم قد تأثَّرت بثلاثة اتجاهات، وهي:
1ـ فهمنا للإسلام بوصفه تجسيداً للعدالة المشتملة على روح النوايا الطاهرة والصادقة؛ فنقول لذلك: إن فلاناً إنسانٌ طاهر وعادل، ويراعي الحقوق.
2ـ لقد تعرَّفنا على الأحكام الإسلامية والعدالة التي بيَّنها الإسلام.
3ـ إننا من الناحية العقلائية والمجتمع البشري والازدهار العلمي قد حصلنا كذلك على سلسلةٍ من الآراء التي تطمح إلى تحقيق العدالة.
وإنكم من زاوية هذه الاتجاهات الثلاثة تنظرون إلى المجتمع الجاهلي بوصفه من أسوأ المجتمعات الظالمة.
_ يمكن القول: إن تحالفاتهم واتفاقياتهم من أجل إيقاف الحرب كانت تمثِّل واحداً من تلك المعايير، وأما أن يكون محتوى كلّ اتفاق متطابقاً بالضرورة مع المعايير فهو بحثٌ آخر. لنفترض أن حصّتكم تبلغ الثلاثة أرباع، وحيث إني أتمتّع بقوة أقلّ سوف أقتنع بنصيبي في الربع. فهل يُعَدّ هذا الاتفاق متطابقاً مع المعيار أو العدالة؟!
عدم اشتراط العدالة في اتصاف الاتفاق بالعدالة
^ أنتم تفترضون أن أحد طرفي التعاقد إذا قام بسلوكٍ أو فعلٍ معيَّن وجب عليه القول: هذا ما أراه عادلاً؛ في حين أنه ليس بالضرورة أن يكون هناك توجّه من قِبَل هذا الطرف المتعاقد إلى العدالة، وإنما يكفي أن يرى ما يقوم به صحيحاً للاتفاق على هذا الأساس، ويكون هذا هو معنى العدالة.
_ هل يدور البحث حول مفهوم العدالة؟
تقدُّم البحث التاريخي للعدالة على تعريفها
^ لا أروم تعريف العدالة. فعلينا أوّلاً أن نبحث في التاريخ لنصل إلى النتائج. والذي أريد قوله هو أن العصر الجاهلي كان يحمل بذور العدالة الفطرية. فعلى الرغم من أنهم كانوا يعيشون حالة من الجهالة، إلاّ أنهم كانوا يمتلكون عدالةً فطرية، ولم تكن هذه الفطرة نتيجةً لما تمخّضت عنه الفلسفة الإيرانية أو اليونانية، وإنما كانت على أساس من الاتفاقيات التي أُبرمَتْ من أجل إقامة النظم وتوزيع المصالح والمنافع فيما بينهم، رغم أن توزيع هذه المنافع كان مقروناً بنسبة مئوية متدنّية ومشوبة بالظلم أيضاً. ولست بصدد القول: إن العدالة تعني ما يتمّ الاتفاق عليه بشأنها. وإنما يأتي دَوْر هذا البحث في المراحل اللاحقة. إنما المراد هو أن ذلك المجتمع غير الفلسفي كان يعمل بشكلٍ توافقي. إن المجتمع الجاهلي في تلك المرحلة؛ حيث كان قد تخلّى عن الفلسفة بمعناها الخاصّ، فقد انطلق من الطبيعة، وتوصّل إلى التوافق حديثاً. لقد كانت آلية وصول ذلك المجتمع إلى العدالة آليةً توافقية، حتّى إذا كان هذا الأمر ظالماً.
لا يمكن لأيّ مجتمعٍ أن يكون ظالماً
أرى أن المجتمع لا يستطيع أن يتجاهل فطرته، أو يتجاوز الاتفاقيات الجماعية، دون اتفاقيات الأفراد والحكام. إنهم كانوا ـ على كلّ حالٍ ـ يسعون إلى توزيع المنافع والمصالح. فهل العدالة شيءٌ غير توزيع المصالح؟ إننا نرى بعض معالم العدالة في ذلك المجتمع متمثِّلة بحفظ الأمانة؛ لأن هذه المعالم تنبثق من مناشئ إنسانية مشتركة، ولكننا نكتفي بالتفاعل إيجابياً مع ذلك القسم من مظاهر مطالبتهم بالعدالة التي تنسجم مع أفكارنا فقط. لقد رصدوا عقوبات للمتمرِّدين والمخالفين في إطار إقامة النظام، وقد أقرّ الإسلام تلك العقوبات وأمضاها.
آيات العدالة
من المناسب هنا أن نستعرض بعض الآيات المتناغمة مع التوافق، لنرى هل تتوافق هذه الآيات القرآنية مع التوافق أم لا؟ وهذه الآيات من قبيل:
ـ ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ (النحل: 90).
ـ ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة: 8).
ـ ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ (النساء: 58).
ـ ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لا تَعْدِلُوا﴾ (المائدة: 8).
ونحن قبل الرجوع إلى القرآن الكريم توجَّهنا في بحثنا إلى المجتمع الجاهلي، ولم نعرِّف هذا المجتمع بوصفه مجتمعاً يسعى إلى الظلم برمّته عامداً. إنهم كانوا ـ مثل سائر إخوتهم في الإنسانية ـ يسعون إلى تحقيق مطالبهم الفطرية، ومن بينها: العدالة، في حدود الاستعداد ومستوى الوعي والمعرفة والأوضاع البيئية، وعدم خبرتهم في إدارة السلطة بطبيعة الحال. إنهم كانوا يرَوْن الآلية الصحيحة في ضمان المساواة وتحقيق العدالة تكمن في عقد التحالفات وإبرام العهود والمواثيق، بمعنى أن آلية الوصول إلى تحقيق العدالة كانت آليةً توافقية.
أسباب تقدُّم البحث التاريخي على بحث أدلة العدالة اللفظية
إن السؤال الذي يَرِدُ هنا يقول: لماذا يتعيَّن علينا الرجوع إلى المجتمع الجاهلي لفهم تحليل العدالة من وجهة نظر الإسلام؟ والجواب عن ذلك هو: إن السبب في ذلك يعود إلى أن القرآن الكريم قد نزل في بيئتهم، وفي ظلّ ظروفهم وشرائطهم الاجتماعية؛ ومن ناحيةٍ أخرى: إن العدالة يمكن أن ترتبط بجميع أبعاد المجتمع وفهم الشرائط الاجتماعية وجميع أنواع العقلانيات المرتبطة بذلك المجتمع. إذن لا بُدَّ في تكوين رؤيةٍ صحيحة عن العدالة من النظر إلى أوضاع ذلك المجتمع من ناحية العدالة، لنرى ما هو الشعور المعتمل في الخطابات القرآنية أو لغة القرآن والنبيّ بالنسبة إلى تلك الأوضاع. فهل يقوم الشعور على أن القرآن يروم إلغاء العدالة التي كانت تحكم ذلك المجتمع بشكلٍ كامل، أم أنه يقتصر على إلغاء جانب منه فقط، أم أنه ينفي آلية الوصول إلى العدالة أو جانب من اتفاقياتهم؟ وإنكم إذا أردتم إدخال بحثكم منذ البداية وبشكلٍ مباشر في مقولة دراسة النصوص الناظرة إلى العدالة لا يمكن تسمية ما تقومون به بحثاً وتحقيقاً علمياً، وإنما سيكون مجرّد تحقيقٍ افتراضي لا ينطبق على الوقائع في شيء. وإن الرجوع إلى المجتمع الجاهلي إنما يأتي لهذه الغاية.
_ هل عدالة المجتمع بوصفه مجتمعاً ـ لا بوصفه فرداً ـ تعني أنه يمتنع على جميع أفراد المجتمع أن يتّجهوا نحو الفساد والضياع ومناهضة العدالة. فإذا كان الأمر كذلك فما هو سبب إعراض قوم لوط وغيرهم من الأقوام الأخرى عن العدالة الأخلاقية؟
إمكان اجتماع المطالبة بالعدالة والضلال
^ إنما الممتنع هو أن لا تكون لدى المجتمع فطرةٌ إلى العدالة، بمعنى أن المجتمع يتّجه نحو العدالة حتماً. وإن الموجود في أدبياتنا الدينية هو مفهوم الضلال، وعليه يجب عدم الخلط بين مفهوم الهداية الدينية والعدالة. ومن هنا قد يكون الحاكم عادلاً، ولا يكون متديّناً، ومن ذلك أننا نقرأ في عهد الإمام عليّ× إلى مالك الأشتر قوله: إنك تذهب إلى بلدٍ (مصر) شهد مختلف تعاقب حكام الجَوْر والعدل عليه([5])، مع أن المجتمع المصري لم يكن متديِّناً. نعم، إن العدل بمعناه الإسلامي إنما هو قرين المعنوية والتقوى، ولكنْ كلامنا يدور حول العدل الاجتماعي.
_ فما هو سبب إعراض قوم لوط وقوم نوح عن الفطرة؟
إمكانية المطالبة بالعدالة حتى في الأمم الكافرة
^ يتمّ هنا ذمّ معصيةٍ خاصّة، ولكنْ ليس من المعلوم أن فطرتهم المطالبة بالعدالة أو تقسيم المصالح الاجتماعية لم تكن قائمةً على أساس الحالة العقلائية. ورُبَما لو أمكن الحصول على بعض الأخبار عنهم ـ أو أمكن لنا البحث في ما توفَّر لدينا من المعلومات بشأنهم ـ لأمكن العثور على مظاهر من العدالة. إن ما نراه من ذمّ الدين لبعض المجتمعات إنما كان بسبب تكذيبهم الأنبياء، والتكذيب قد لا يرتبط ضرورةً بنبذ العدالة. نعم، رُبَما كان هناك ارتباطٌ في بعض الأبعاد، إلاّ أن هذا لا يعني عدم وجود العدالة في المجتمع المكذِّب بالمطلق. إن فطرة العدالة موجودةٌ، رغم إمكان عدم كونها متحقِّقة. والدليل على وجود فطرة المطالبة بالعدالة في كلّ مجتمعٍ أن الأنبياء كانوا ـ من أجل الحيلولة دون تكذيبهم من قِبَل قومهم ـ يركِّزون على هذه الفطرة.
وعلى هذا الأساس فإن كلّ مجتمعٍ يتّجه نحو العدالة، ولا سيَّما المجتمعات التي لا تخضع لسيطرة الدولة؛ لأن الدول والحكومات هي منشأ الظلم. في المجتمعات البسيطة التي تدار حول محور القبيلة تُعَدّ النزعة القَبَلية وسيلةً لضمان العدالة والأمن. ولذلك قد يكون هناك اليوم الكثير من الذين يؤيِّدون الأوضاع القبلية، ويفضِّلون الحالة القبلية على الحكومة والدولة.
_ لا شَكَّ في وجود أصل الفطرة المطالبة بالعدالة، غاية ما هنالك هناك فرقٌ بين تحقُّق هذه الفطرة في منظومة الإنسان وبين تحقُّقها في الخارج وعلى أرض الواقع.
الفرق بين الفطرة إلى تحقيق العدالة وبين تحقُّق العدالة في الخارج
^ هناك فرقٌ بين وجود أصل الفطرة إلى تحقيق العدالة وبين تحقُّقها على أرض الواقع. ومدّعانا هو المفهوم الثاني.
_ ما قلتموه من عدم تساوي النسبة بين الفساد ومناهضة العدالة كلامٌ صحيح، ولكنّنا نجد القرآن في الكثير من الموارد يذمّ بعض الأمم بسبب ظلمها، وليس لمجرّد فسادها، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ﴾ (الأعراف: 162).
الوجه في نسبة الظلم إلى بعض الأمم السابقة في القرآن
^ هل يأتي ذمّ الظلم في القرآن الكريم على أساس التعريف التوافقي من قِبَل العقلاء أم الظلم بالنظر إلى التعريف الإسلامي؟ يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (آل عمران: 117). إن للظلم في ضوء التعريف الديني مفهوماً، وله في ضوء التعريف غير الديني المتّفق عليه بين جميع العقلاء ـ سواء المتديّنين منهم أو غير المتديّنين ـ معنىً آخر. إن الظلم في هذه الحالة قد يكتسب معنىً خاصاً، كما أن العدل كذلك أيضاً.
والنقطة التي أريد التأكيد عليها هي أن المجتمع الجاهلي لم يكن له نصيبٌ من التعاليم الفلسفية، وإن هذا المجتمع لم يقُمْ على أساس العدالة بمعناها الطبيعي والفلسفي الذي كان موجوداً آنذاك في اليونان، ورُبَما في إيران أيضاً.
إن العدالة الطبيعية في الأساس ـ إذا صحّ هذا التعبير ـ بمثابة الكرة التي يتمّ تداولها بين الحكّام وساسة الدول من جهةٍ، وبين الفلاسفة (في التنظير) من جهةٍ أخرى، وكانت هذه الكرة تتقاذفها الأيدي ويتمّ التحاور على هذا الأساس. إن المجتمع القَبَلي لم يكن يتمتّع بوجود الفلاسفة، ولم تكن لديه دولة، وبالتالي فإنه كان يعيش حياته على أساسٍ من التوافق، بمعنى أنهم كانوا يتوافقون على كلّ قاعدةٍ تضمن لهم العدالة والأمن وإقامة النظام؛ كي لا يصيبهم غير المقدار القليل من الظلم والعدوان. وأرى أن جميع وسائل وأدوات ضمان العدالة في ذلك المجتمع كانت تتمّ عبر آلية التوافق، بمعنى أنه كان هناك مسارٌ وعقل جمعيّ هو الذي يتّخذ القرار، وكان يقرِّر الدفاع عن المظلوم، ويعقد التحالفات على هذا الأساس.
_ لقد عمدتم إلى تقسيم العدالة إلى: طبيعية؛ وتوافقية، فهل هناك من قسمٍ ثالث؟ طبقاً لهذا التقسيم لا يمكن أن نتصوَّر أن المجتمع في شبه الجزيرة العربية؛ حيث كان بعيداً عن اليونان، ولم يكن يمتلك عدالة طبيعية، أو لم تكن هذه العدالة مفهومة بالنسبة له، إذن يجب أن تكون العدالة التي تحكمه هي من نوع العدالة التوافقية؛ فإن هذا الاستدلال يقوم على عدم وجود شقٍّ ثالث.
عدالة الآداب والتقاليد مع العدالة التوافقية
^ لو أردنا أن نجعل المبنى قائماً على انحصار العدالة بين هاتين الحالتين فإن نفي إحداهما يؤدّي إلى إثبات الأخرى بطبيعة الحال، وعندها يكون كلامكم صحيحاً. بَيْدَ أن المدّعى يقول: إن هناك شواهد بأيدينا تثبت تبلور ضمان الأمن والعدالة من خلال مسار التوافق. وفي الوقت نفسه لا يمكن لنا أن ننفي أن جانباً من المطالبة بالعدالة في المجتمع كان يتمّ من خلال نوعٍ من الالتزام بالآداب والتقاليد؛ إذ هناك تعريفٌ ثالث يعتبر العدالة بمعنى الالتزام بالآداب والتقاليد الاجتماعية، وإن كانت هذه الآداب والتقاليد من الموروثات القديمة. بَيْدَ أن هذا لا يضرّ بما ندّعيه؛ وذلك لأنكم تشاهدون التيار الحيوي المطالب بالعدالة في ذلك المجتمع على نحو الموجبة الجزئية، حتّى على خلاف ما كان عليه أسلافهم، وكانوا يتّفقون وتتبلور الأعراف والتقاليد على هذا الأساس.
نماذج من توافقات المجتمع الجاهلي لإدارة المجتمع
لذلك كانت التقاليد والأعراف في مختلف المراحلة الجاهلية متفاوتة، وكانت هناك مرحلة الجاهلية الأولى؛ ومرحلة الجاهلية الثانية، وكانت المرحلة الثانية قريبة من ظهور عصر الإسلام. لقد كان المجتمع الجاهلي مجتمعاً حيّاً، وكان على الدوام يتّخذ قرارات جديدة، وكان الكثير من القرارات الهامة في المجتمع الجاهلي، التي تمّ تسجيلها في التاريخ، ذات صلةٍ بالمجتمع القريب من عصر النبيّ وعلى أعتاب ظهور الإسلام. وعلى هذا الأساس يمكن لنا أن نسوق الكثير من الشواهد التي تثبت أنهم كانوا يُبْدون أهمّيةً وقيمة كبيرة للتوافق.
إن المجتمع الذي لا يمتلك دولة يتّجه في إدارة شؤونه إلى التوافق. إنهم منذ اليوم الأول أبدعوا النظام القَبَلي أو الولاء والتحالف؛ كي يتمكَّنوا من تحقيق التعايش السلمي. كان المجتمع الجاهلي يمتلك عدّة محاور وأُطُر، ومن بينها: التحالف. والآخر هو الحساب الخاصّ في مورد «الزمان» و«الأيام». وفي الحقيقة إن أصل مفهوم «أيام الله» الموجود في الإسلام مأخوذٌ من ذلك المجتمع، غاية ما هنالك أنهم كانوا يسمّونها أيام العرب. ورُبَما كان منشأ بحث «الشهور» ينبثق من هذه الناحية أيضاً. كما أن تقبُّل الجوار وطلب الحماية من المحاور الأخرى التي كانت سائدةً بينهم. ويمثِّل السخاء والكرم مبنىً آخر لإدارة المجتمع. إن السخاء في ذلك المجتمع لم يكن ظاهرةً فردية يمكن تهميشها، كما هو الحال في مجتمعنا. لقد كان الكرم في المجتمع العربي يمثِّل ظاهرةً، وكان الكثير من الأمور الإنسانية يتمّ إنجازه عن طريق التفضُّل والسخاء والكرم.
أفضلية عرب الجاهلية على المجوس
إن وصف المجتمع العربي قبل الإسلام بالجاهلي إنما كان بالقياس إلى الإسلام، ولكنّ هذا لا يعني أن المجتمع الجاهلي كان أسوأ حتّى من المجتمع الإيراني، بل رُبَما كان المجتمع العربي الجاهلي من بعض الجهات أفضل منه. فقد ورد عن أبي عبد الله× ـ في حديثٍ ـ «أن زنديقاً قال له: أخبرني عن المجوس كانوا أقرب إلى الصواب في دينهم أم العرب؟ قال: العرب في الجاهلية كانت أقرب إلى الدين الحنيفي من المجوس؛ وذلك أن المجوس كفرت بكلّ الأنبياء ـ إلى أن قال: ـ وكانت المجوس لا تغتسل من الجنابة، والعرب كانت تغتسل، والاغتسال من خالص شرائع الحنيفية. وكانت المجوس لا تختتن، والعرب تختتن، وهو من سنن الأنبياء، وإن أول مَنْ فعل ذلك إبراهيم الخليل. وكانت المجوس لا تغسِّل موتاها ولا تكفِّنها، وكانت العرب تفعل ذلك. وكانت المجوس ترمي بالموتى في الصحاري والنواويس، والعرب تواريها في قبورها وتلحدها، وكذلك السنّة على الرسل. إن أول مَنْ حفر له قبر آدم أبو البشر، وألحد له لحدٌ. وكانت المجوس تأتي الأمّهات وتنكح البنات والأخوات، وحرّمت ذلك العرب. وأنكرت المجوس بيت الله الحرام، وسمَّته بيت الشيطان، وكانت العرب تحجّه وتعظِّمه وتقول: بيت ربِّنا. وكانت العرب في كلّ الأسباب أقرب إلى الدين الحنيفي من المجوس…»([6]).
إمضاء الإسلام لبعض تقاليد عصر الجاهلية
من هنا فإن المجتمع الجاهلي لم يكن يخلو من الحياة الإنسانية بالمَرّة، ورُبَما أمكن الادّعاء بأن هذا المجتمع كان يحتوي على أشياء من الديانة الحنيفية، ولذلك فإن بعض تقاليدهم وأعرافهم تصبح جزءاً من تعاليم ديننا ـ سواء في ذلك تقاليدهم الاجتماعية أو الدينية ـ، من قبيل: الحجّ، حيث إن الكثير من عناصر الحجّ كانت موجودةً لديهم بنحوٍ من الأنحاء.
إننا من خلال ذكر هذه الشواهد نروم إثبات ثلاثة أمور:
الأوّل: إن المجتمع الجاهلي كان يسعى إلى تحقيق العدالة، وكان لفطرتهم هذه تجلٍّ وظهورٌ اجتماعيّ.
الثاني: إن المجتمع الجاهلي كان يتّجه من مسار التوافق إلى بناء التقاليد والأعراف.
الثالث: إن وجود الظلم بينهم كان ناشئاً من أمرين، وهما: الجهل؛ وضعف البنية الاجتماعية.
ومن هنا أطلق الإسلام على ذلك المجتمع اسم (الجاهلي)، ولم ينعَتْه بالظلم؛ لأنه في الحقيقة إنما كان مجتمعاً أمّياً، ولم يكن يستطيع إلى ذلك سبيلاً في بعض الأحيان. وحيث كان هذا المجتمع في الوقت نفسه يتّصف بالعصبية والحمية والغرور والتكبُّر والصَّلَف كان الكثير من الإشكالات والصفات الأخلاقية السلبية تنشأ من هذه الظواهر.
شواهد على العدالة التوافقية في المجتمع الجاهلي
الشاهد الأوّل: انتخاب شيخ القبيلة
انتخاب شيخ القبيلة، بمعنى أن النظام القبلي كان يحتوي على انتخابات. وكما جاء في الكتب التاريخية أنهم ذكروا شروطاً ومواصفات يجب أن يتحلّى بها شيخ القبيلة، نشير في ما يلي إلى بعضها: الشرط الأوّل: أن يكون معروفاً بنصرة الضعيف، وأن يكون بابه مفتوحاً للضيف؛ والشرط الثاني: أن يتحمل دية الفقير، وما إلى ذلك من الصفات الأخرى. وقد اشتملت كتبنا الفقهية على شيءٍ من هذه المواصفات أيضاً.
الشاهد الثاني: التحالف
بالإضافة إلى ضمان العدالة داخل القبيلة، كانوا يتّجهون إلى ما هو أبعد من دائرة القبيلة الضيّقة، فكانوا لذلك يعقدون التحالفات لضمان العدالة على نطاق أوسع في حدود ما تستوعبه أفهامهم. وكان بسط الأمن، وعدم إلحاق الأذى بالمظلوم، والتعايش السلمي، من الأمور التي يرَوْنها ذات قيمةٍ إيجابية عالية. وقد جاء في التاريخ أنهم كانوا يجنحون إلى الصلح والسلام فيما بينهم، وفي الصلح دوافع إنسانية، أو تنصُّل من العنف.
الشاهد الثالث: حلف الفضول
ومن تلك التحالفات: (حلف الفضول)، الذي يستحقّ التأكيد عليه بشكلٍ خاص. لقد تمّ إبرام حلف الفضول مرّتين. وجاء في الحلف الأول: يجب عدم السكوت على الظلم الذي يتعرَّض له المظلوم. والملفت في ذلك أن هذا الحلف لم يكن يقتصر على خصوص أبناء القبائل المتحالفة فقط، وإنما يشمل كلّ عابر سبيلٍ أو مستطرقٍ يدخل حدود سلطة تلك القبائل المتحالفة ويطاله الظلم. ثم كان هذا الحلف قد طواه النسيان. وأما التحالف الثاني الذي عُرِف بحلف الفضول فقد كان عندما تعرَّض شخصٌ إلى ظلم، واستغاث بصوتٍ عال يطلب النصرة من الناس، والغريب أنه اجتمع عددٌ من كبار شيوخ القبائل، وأبرموا ذلك الحلف، وكان النبيّ الأكرم| ممَّنْ حضر إبرام ذلك الحلف. وكان السبب الذي دعا إلى عقد هذا الحلف هو الدفاع عن المظلوم.
_ رُبَما كانت مسألة حلف الفضول حادثةً بسيطة وقعت في برهةٍ من الزمن، ولم تكن مسألةً عامة، يشارك فيها جميع القبائل أو أغلبها.
^ بل كانت أغلب القبائل مشاركةً في هذا الحلف. وبطبيعة الحال لا بُدَّ من التأكيد مجدّداً على أن مسار المطالبة بالعدالة في المجتمع الجاهلي يجب أن لا يُقاس بالإسلام؛ لأن النتيجة التي سيحصل عليها المجتمع الجاهلي عندها ستكون صفراً، وإنما ندّعي أن النظام القبلي المحدود في العصر الجاهلي كان يجنح نحو رفع الظلم.
_ إذا كنتم تريدون إثبات مدّعاكم بحادثةٍ مفردة فيجب التعرُّف على تلك الحادثة أوّلاً. أنتم تنظرون إلى حادثة حلف الفضول نموذجاً لتيّارٍ عامّ مطالب بالعدالة، في حين أن الأمر لم يكن كذلك؛ فإن حلف الفضول كان قليل الوزن وضعيف الوَقْع وهامشياً من الناحية الاجتماعية.
حلف الفضول بوصفه اتجاهاً شاملاً
^ بل العكس هو الصحيح؛ فلم يكن حلف الفضول حلفاً هامشياً. انظروا إلى هذه القضية من زاوية أن القبيلة في العصر الجاهلي كانت تعطي الأهمّية لبسط العدالة داخل القبيلة، وإن هذه الفطرة كانت تجد لنفسها إمكانية الظهور والتحقّق ضمن إطار القبيلة بشكلٍ أكبر، ولكنْ كلّما عجزت قبيلة عن ملء الخلأ كان يتمّ طرح المشكلة في سياق عقد تحالف بين القبائل. وفي مثل هذه الظروف نجدهم يبدون قلقاً حتّى تجاه الغرباء والآتين من خارج القبائل المتحالفة. إن حلف الفضول يمثِّل شاهداً على الحساسية التي يحملونها تجاه الظلم، وكانوا لذلك يبحثون عن وسائل للحدّ من الظلم. وهذا المقدار في حدّ ذاته يُعبِّر عن وجدان. فإذا لم نعترف بأن هذا الأمر كان يمثِّل ظاهرةً عامّة فلا أقلّ من اعتباره شاهداً على وجود نزعة إلى العدالة.
الشاهد الرابع: تجنُّب قتل الحيوانات واقتلاع الأشجار
ممّا قيل في صفة المجتمع الجاهلي: إنه كان يتورّع عن قتل الحيوانات اعتباطاً، وكانوا يرَوْن للبهيمة حقّاً، وكذلك لم يكونوا يعمدون إلى قطع النباتات والأشجار عبثاً، إلاّ عند الحاجة.
_ على الرغم من أن كلامكم جديرٌ بالملاحظة، ولكنْ يبدو أنه لا يمكن إثبات المدّعى الثاني بهذه الشواهد؛ فإن عدم قتل الحيوانات قد يكون لدوافع اقتصادية تتوقَّف عليها ديمومة حياة المجتمع في تلك البيئة القاحلة، وهذا لا ربط له بالروح المعنوية والفطرة. والدليل على ذلك أنهم كانوا يتورَّعون عن قتل الحيوانات، وفي الوقت نفسه يبادرون إلى وأد فتياتهم بكلّ بساطة.
^ إن المدّعى يقوم على أمرين: الأوّل: إنهم كانوا يمتلكون فطرة العدالة، وإلا لما عمدوا إلى الدفاع عن المظلوم. والأمر الثاني: إنهم كانوا يعملون على بلورة العدالة في إطار التوافق. نضيف إلى ذلك أننا لا ندّعي أن العدالة القبلية كانت شيئاً جيّداً، ونحن نعلم أن العدالة الجاهلية كانت حسنةً بالنسبة لهم فقط.
_ كان المدّعى الآخر يقول: إن العدالة تعني ضمان المصالح.
^ ذكرتُ أن التركيبة القبلية كانت ضعيفةً، ولم يكن بمقدورها تحقيق العدالة على نطاقٍ أوسع.
_ على الرغم من ذلك فإن الشواهد المذكورة أعمّ من المدَّعى.
مفهوم العدالة في المجتمع الجاهلي
^ السبب في ذلك يعود إلى أنكم تنظرون إلى تلك العدالة الدينية المقرونة بالتقوى والنية الصالحة. وأما نحن فنرى في كلّ ما يؤدّي إلى تحقيق الأمن، وتوزيع المنافع والمصالح، وإقامة النظم، ويقرِّب من أجواء السلام، ويحدّ من الظلم والعدوان أو يزيله، توجُّهاً نحو تحقيق العدالة.
_ هناك مَنْ يقول في تفسير قوله تعالى: ﴿لإِيلافِ قُرَيْشٍ﴾ (قريش: 1): إن الله هو الذي وفَّر الأمن للمجتمع الجاهلي([7]).
^ أوّلاً: إن كلّ عمل نأتي به فإن الله يمنّ علينا به، ويحقّ له أن يمنّ. وثانياً: حتّى في هذا التفسير قيل: إن القبائل في المجتمع الجاهلي كانت تعقد التحالفات لضمان الأمن التجاري.
الشاهد الخامس: طريقة تحرير العبيد
إن منهج تحرير وعتق العبيد لم يكن من المفاهيم التأسيسية في الإسلام، بل كان يتمّ تحرير العبيد في المجتمع الجاهلي في بعض الحالات أيضاً، وجاء الإسلام ليعمل على تقوية وتعزيز هذه الظاهرة. وظاهرة تحرير العبيد لا يمكن أن تنبثق من روحٍ عدوانية.
الشاهد السادس: السخاء والكرم
الأمر الآخر يتعلّق بالقمار في ذلك المجتمع، حيث نجد هذا الأمر يقترن ببعض النقاط الأخلاقية. هناك أبياتٌ شعرية مأثورة تعبِّر عن وجود النزعة إلى السخاء والكرم. ومن ذلك مثلاً: لو امتنع الخاسر في القمار عن بذل جميع أغنامه أو إبله فإنه سوف يوسم بالبخل. وكانت الأعراف تقضي بأن يعمد الغالب في القمار إلى التضحية بجميع ما يحصل عليه من الإبل والأنعام، وتوزيعها على الجيران والمساكين. ومن ذلك: قول لبيد في بعض شعره: «بذلت لجيران الجميع لحامها»([8]).
ومن هنا نرى أنهم حتّى في الظواهر القبيحة ينشدون بعض الجوانب الأخلاقية؛ من أجل تقديم الخدمات إلى المجتمع. وكان العرب يضرمون النار على الأماكن المرتفعة في الصحراء؛ لتكون منارةً يهتدي بها مَنْ يضلّ الطريق، ويتّجه إليها، ويكون له حقّ الضيافة ثلاثة أيام. وكان هذا الكرم يعود إلى أن ذلك المجتمع لم يكن يستطيع إدارة نفسه من دونه. فلم يكن الأمر يعود إلى أنهم أناسٌ صالحون، وأنهم كانوا يمارسون الكرم قربةً إلى الله، بل يأتي الكرم بوصفه آليةً اجتماعية متَّفق عليها فيما بينهم. كان أفراد المجتمع الجاهلي يقومون ببعض التصرُّفات القبيحة؛ بسبب جهلهم، ومن ذلك أنهم ـ على سبيل المثال ـ كانوا يطوفون حول الكعبة عراةً؛ إذ إنهم كانوا يبحثون أوّلاً عن ثياب الإحرام، فإنْ لم يتمكّنوا من الحصول على شيء منها كانوا يتعرّون؛ إذ كانوا يقولون: يجب أن نمثل بين يدي الله بثيابٍ طاهرة (وهي ثياب الإحرام)، وحيث لم يكونوا يجدون تلك الثياب كانوا يؤثرون الطواف من دون ثيابٍ، على أن يلبسوا ثياباً غير طاهرة.
الشاهد السابع: ذبح الأضاحي في سنوات الجَدْب
الشاهد الآخر هو التضحية في سنوات القَحْط والجَدْب. وكلما ظهرت بعض المشاكل كانت المجتمعات في عصر الجاهلية تبادر إلى توزيع الأضاحي بين الناس. وقد كانت هذه المجتمعات تعاني على الدوام من وفرةٍ في الأيتام والأرامل؛ بسبب كثرة الحروب والغزوات، وكانت تلك المجتمعات تولي هؤلاء الأشخاص اهتماماً كبيراً.
الشاهد الثامن: اشتهار شخصية حاتم الطائي
ومن الشواهد الأخرى في هذا الشأن ظهور شخصيةٍ في المجتمع الجاهلي مثل شخصية حاتم الطائي. طبقاً لرؤيتكم وتفسيركم للمجتمع الجاهلي يجب أن لا يكتب الظهور لشخصية حاتم الطائي؛ إذ تعرِّفون المجتمع الجاهلي بوصفه مجتمعاً قاسياً وجافّاً لا يمكن له أن يحتوي على أيّ مؤشِّر أخلاقي. ولكنكم ترَوْن أن هذا المجتمع يتمخَّض عن شخصٍ يمثِّل رمزاً للكرم والسخاء، وكان النبيّ الأكرم| يبدي احتراماً خاصّاً لهذه الشخصية. ومن هنا يتّضح أن هناك آليّات كانت تعمل على تعديل وتوجيه ذلك المجتمع نحو الصلاح.
الشاهد التاسع: حقّ اللجوء والجوار
إن حقّ اللجوء، الذي يُعَدّ اليوم واحداً من حقوق الإنسان، كان يُراعى في المجتمع الجاهلي على أفضل وجهٍ. إن اللاجئ كان يحظى بالحماية حتّى في أسوأ الظروف، إلاّ إذا تمّ رفع صفة اللجوء عنه. وبطبيعة الحال لا أريد القول: إن الدافع من وراء ذلك كان يتمّ بنيّةٍ خالصة وقربةً إلى الله، بل يأتي ذلك ضمن تلك الآليات التي تضمن لهم إدارة المجتمع، وتوجيهه نحو إرادتهم الفطرية المتمثِّلة بمنع الظلم والعدوان.
الشاهد العاشر: ادّعاء السبق إلى الخير
الشاهد العاشر أن هذه الآية إذا كانت قد نزلت بشأن المجتمع الجاهلي، حيث تقول: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾ (الأحقاف: 11)، يتَّضح أنهم كانوا يتسابقون إلى فعل الخير، وكانوا يرَوْن أنفسهم في إطار أعمال البرّ، وكانوا يقولون: ﴿لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾. لا أريد القول: إن منطقهم كان صحيحاً، وإنما هو في الحدّ الأدنى يعبِّر عن أنهم كانوا يرَوْن أنفسهم من دعاة المسارعة إلى الخير.
الشاهد الحادي عشر: العفّة
لقد كانت العفّة موجودةً في المجتمع الجاهلي. فعلى الرغم من انتشار ظاهرة الزنا، إلاّ أن هذا كان يحصل في الغالب بين أثريائهم والظَّلَمة منهم. ولم يكونوا في الغالب ينظرون إلى النساء في خدورهنّ وداخل خيامهنّ. وهناك أشعارٌ تروى بهذ المعنى، ومنها: قول أحدهم:
وأغضّ طرفي ما بَدَتْ لي جارتي *** حتّى يواري جارتي مأواها([9])
وهذا الأمر لم يكن قائماً على أساسٍ ديني، وإنما هي طريقة لإدارة المجتمع وتوزيع المنافع. ومرادُنا من توزيع المنافع هو أن علينا أن نعمل على تعبئة بعض الآليات في خوان المجتمع؛ كي تتمّ إدارة المجتمع، ولا يحدث تجاوزٌ أو عدوان.
الشاهد الثاني عشر: الأمن والوفاء بالعهد
لنذكر هنا شاهداً من نهج البلاغة. ومن باب المقدّمة يجب القول: إن التماهي أو الاتجاه إلى إيجاد التناغم في المجتمع يعبِّر عن سيادة العقل الجمعي. وكان العقل الجمعي للمسلمين لم يتّجه بعدُ إلى الانسجام، بَيْدَ أن المجتمع الجاهلي كان ينزع إلى التناغم. وإن النصّ المأثور عن أمير المؤمنين يُعبِّر عن هذه الرؤية، إذ يقول×: «فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشدّ عليه اجتماعاً، مع تفرُّق أهوائهم وتشتُّت آرائهم، من تعظيم الوفاء بالعهود»([10]). والعهود تعني المواثيق الاجتماعية. «وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم، دون المسلمين؛ لما استوبلوا من عواقب الغدر»([11]). وهنا نجد أمير المؤمنين× يقول: إن المشركين كانوا يحترمون العقود والمواثيق فيما بينهم؛ لأنهم يرَوْن في عدم الوفاء بها هلاكاً لأنفسهم.
وهكذا نرى أن مظاهر المطالبة بالعدالة في ذلك المجتمع كانت كثيرةً للغاية. وما تقدَّم كان يمثِّل القسم الأوّل من البحث حول المجتمع الثاني. وأما القسم الثاني فسوف نتناول فيه تعاطي الإسلام مع هذا الموضوع.
_ تمّ حتّى الآن إقامة شواهد على أن المجتمع الجاهلي كان يُطالب بالعدالة، وأن هذه العدالة كانت تقوم على أساس التوافق فيما بينهم. وإن جميع هذه الشواهد كانت تثبت المطالبة بالعدالة على نحو الموجبة الجزئية، بغضّ النظر عما إذا كانت هذه المطالبة بالعدالة متحقّقة في الخارج على نحوٍ شامل أم هي مقتصرة على حدّ الأمر الداخلي والفطري بين خصوص المظلومين والطبقات المحرومة من المجتمع الجاهلي. والسؤال هنا يقول: بالإضافة إلى وجود فطرة المطالبة بالعدالة في المجتمع، هل ترَوْن أن هذه المطالبة بالعدالة كانت سائدةً ومتحقّقة في عموم المجتمع؟ وهل يمكن لهذه الشواهد أن تثبت هذا الأمر أيضاً؟
مناشئ الظلم في المجتمع الجاهلي
^ إن الادّعاء يقوم على أن مظاهر المطالبة بالعدالة بين أبناء المجتمع الجاهلي كانت من الكثرة بحيث يتمّ طرحها بوصفها تياراً اجتماعياً، غاية ما هنالك أن هذا لا يعني أنهم كانوا يمتلكون تلك العدالة المثالية المنشودة من وجهة نظرنا بوصفنا مسلمين. وإذا كان يحدث ظلمٌ هنا وهناك فهو يعود إما إلى الغرور أو التكبُّر أو يقوم على أساس العنجهية والعصبية؛ لأن النظام القبلي بطبيعته يؤسِّس للعصبية، وإلاّ لن تكون إدارة القبيلة أمراً ممكناً. كما كان الجهل يمثِّل عنصراً آخر في جنوح المجتمع الجاهلي نحو الظلم. كما أن للجهل ارتباطاً بالعنصرين السابقين.
وعليه فإننا لا ننكر وجود الظلم الفاحش في المجتمع الجاهلي، كما في حالة وأد البنات. ولكنْ علينا أن لا نعتبر هذا أمراً شائعاً، وحتّى القرآن الكريم لم يقُلْ: إن هذا الأمر كان سائداً؛ إذ لو كان هذا أمراً عامّاً وشاملاً لكنّا قد شهدنا انقراض الناس في شبه الجزيرة العربية. وبالمناسبة إن ارتباط بعض زعماء العرب في العصر الجاهلي ببناتهم كان من القوّة بحيث إنهم كانوا يكْتَنُون بأسماء بناتهم. يُضاف إلى ذلك أن قتلهم لبناتهم كان من أجل التخلُّص من العار؛ حيث كانت ثقافة المجتمع تنظر إلى البنت بشكلٍ سلبي، وقد وصف القرآن حالة مَنْ تولد له البنت بقوله: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ (النحل: 58). وفي الحقيقة إنهم كانوا يعتبرون ذلك عاراً، وإن الأسباب التي ذكرتها كانت هي منشأ تبلور هذه الثقافة والتقاليد الخاطئة.
_ لقد تحدَّث القرآن الكريم عن العهد الذي عقده رسول الله| معهنّ بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ﴾ (الممتحنة: 12)، الأمر الذي يثبت أن هذه الموبقات كانت شائعةً.
وجود بعض المفاسد الاجتماعية لا يتنافي مع المطالبة بالعدالة
^ إن هذا لا يُثبت أن قتل الأولاد كان أمراً شائعاً. ولو سلَّمنا أن الأمر كان كذلك، إلاّ أن كثرة مفاسد وموبقات، من قبيل: الزنا والقمار وما إلى ذلك، لا يتنافى مع المطالبة بالعدالة، كما أن مظاهر العدالة بدَوْرها كثيرةٌ في هذا المجتمع أيضاً. وبطبيعة الحال لا ننكر أن عدالتهم كانت خاطئةً، ولكنهم كانوا في الحدّ الأدنى يطالبون بالعدالة. وبالمناسبة كانت بعض آلياتهم ناجعة، ولا سيَّما في ما يتعلَّق بالوفاء بالعهود والمواثيق؛ فقد كان التزام المشركين بها أشدّ من التزام معاوية في ما يتعلَّق بالعهود والمواثيق التي أبرمها مع الإمام عليّ×، حيث نقضها لاحقاً، وكان الغدر والمكر ونقض العهود سمةً بارزة في ذلك العصر، خلافاً لما كان عليه الأمر في الجاهلية. وقد أشار الإمام بنفسه ـ على ما تقدَّم ـ إلى أن المشركين في العصر الجاهلي كانوا يحترمون العهود؛ لأنهم كانوا يعلمون أن نقض العهود يؤدّي إلى انفراط نظامهم الاجتماعي: «وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم، دون المسلمين؛ لما استوبلوا من عواقب الغدر».
تعاطي الإسلام مع عدالة المجتمع الجاهلي
_ لقد تعرَّضتم حتى الآن إلى مسألتين، وهما: أوّلاً: إن المجتمع الجاهلي كان ينشد العدالة؛ وثانياً: إن العدالة المنشودة في هذا المجتمع الجاهلي كانت من النوع التوافقي. فما هو مستوى اهتمام القرآن والسنّة النبوية بهذه العدالة التوافقية التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي؟ ومن ناحيةٍ أخرى ما هو حجم التأثير الذي كانت تتركه العدالة المنشودة بالنسبة إلى المجتمع الجاهلي على فهم هذا المجتمع للقرآن الكريم والسنّة المطهّرة؟
لوازم إمضاء العدالة الفلسفية (الذاتية) والتوافقية
^ يجدر من باب المقدّمة الإجابة عن هذا السؤال: ما الذي يجب على الشارع فعله إذا أراد إمضاء العدالة الفلسفية أو الذاتية؟ إن العدالة الذاتية تعني اشتمال ذات الشيء على أمرٍ يدفع أفلاطون إلى إدراجه ضمن المُثُل، ويدعو أرسطو إلى اعتباره من العدالة الطبيعية. وبطبيعة الحال إن العدالة الطبيعية تشمل العدالة الأفلاطونية أيضاً. فإذا كان الشارع قد أخذ العدالة الذاتية أو العدالة الفلسفية بالاعتبار كيف كان يعكس هذه العدالة في تشريعه؟ وما هي القوالب التي يجب على الشارع اصطناعها أو الكلمات التي يستعملها في التشريع إذا كان ناظراً إلى العدالة التوافقية؟ يجب القول في الجواب: إن الشارع إذا لم يكن لديه أيّ اهتمام بالعدالة التوافقية يجب أوّلاً: أن تكون لديه عدالة ضمنية، بمعنى أن يدرج العدالة ضمن أحكامه؛ وثانياً: أن يلقي هذه العدالة على أسس وأركان هذه الأحكام فقط، بمعنى أن نعتقد بحصريّة هذا الأمر، فلا يبحث عن العدالة في غير التضمين. وأما إذا وجدنا أن الشارع كانت لديه عدالة ضمنية، دون القول بالحصر، عندها لن نستطيع القول بأن الشارع قد سار على خطى العدالة الفلسفية أو الطبيعية حتماً. فإذا رأينا أن الشارع قد اتّجه ـ على سبيل المثال ـ إلى العدالة الضمنية، وشاهدنا في كلماته قوالب متناغمة مع العدالة التوافقية، عندها يتعيَّن علينا أن نرى لماذا لجأ الشارع إلى العدالة الضمنية؟ إذ لو كان البناء على أن العدالة يمكن تحقيقها بالتوافق إذن لماذا اللجوء إلى التضمين؟ إذن نحن أمام ثلاث فرضيات، وهي: التضمين البَحْت، والقوالب المتناغمة مع العدالة التوافقية البَحْتة، وحالة بين بين. وهذه الحالة البينية [الأخيرة] تكون بأن يقبل الشارع على التضمين، بمعنى أن يدرج العدالة ضمن أحكامه، وتكون له في الوقت نفسه قوالب وكلمات منسجمة مع العدالة التوافقية أيضاً. وأما إذا كانت لدينا الحالة الثانية فإن الأمر سيكون في غاية البساطة، حيث نقول: إن الشارع لم يكن له أيّ اهتمام بالعدالة الطبيعة والفلسفية والذاتية أبداً، وإنه يريد للعدالة أن تنبثق من صلب التوافقات. وإذا كانت لدينا حالة التضمين البَحْت فإن هذه الحالة بدَوْرها تنسجم مع تلك العدالة الفلسفية والطبيعية أيضاً. وبذلك فإن هاتين الفرضيتين واضحتان.
أما الفرضية الثالثة فهي تدفع الإنسان إلى المزيد من البحث بشأن الموارد التي لجأ فيها الشارع إلى التضمين، بمعنى أنه يسلك طريق العبارات والقوالب المنسجمة مع العدالة التوافقية. وفي هذه الحالة يجب أن نعمد إلى توجيه المسألة. إذا كانت العدالة تضمينيةً فالأمر سهلٌ؛ إذ إن الكثير من الأحكام تتضمَّن العدالة. كما نشاهد أن الكلمات المنسجمة مع العدالة التوافقية لا تنسجم مع التضمين. وبحثنا ينحصر غالباً في أن نرى ما هي القوالب المنسجمة مع العدالة التوافقية في كلام الشارع.
العدالة المنبثقة عن التقاليد الاجتماعية والتوافق
يبدو أن المسألة تغدو واضحةً إذا أخذنا بعض النقاط بنظر الاعتبار. ومن بين تلك النقاط أن الشارع ينظر إلى العدالة في التقاليد والأعراف الاجتماعية بوصفها حصيلة ونتاج تلك الأعراف والتقاليد والأنظار والتوافقات. وهذه النقطة قابلةٌ للإثبات. والنقطة الثانية: حيث يكون الشارع بصدد الربط بين المعنويات والمادّيات، وبين الدنيا والآخرة، فمن الطبيعي أن تدخل المفاهيم المعنوية في المفاهيم المادّية، وتعرّض المفاهيم المادّية إلى التغيير. ومن الطبيعي أن يتمّ العمل في هذا التغيير على تأسيس العدالة في بعض الموارد، ويتعيَّن على بعض المؤسّسات العادلة أن تعمل على تشريع بعض المفاهيم المرتبطة بالعدالة، وتعمل كذلك على تشريع سلسلةٍ من الأحكام الخاصّة. وكأنّ وظيفة الشارع تكمن في أن يعمل ـ بلحاظ هذه المعنوية والمادّية التي لا يمكن أن تتأتّى إلاّ من قبل الشارع ـ على الربط بين المادّيات والمعنويات. وإن تضمين الشارع يكون بلحاظ ضمان لوازم هذا الربط بين المعنويات والمادّيات.
_ بمعنى أن هناك تأثيراً للمعنويات في بعض الموارد، ولا يكون لها تأثير في الموارد الأخرى. فهل يمكن الفصل بين هذين المجالين؟
^ أجل، يمكن التفكيك والفصل بين هذين المجالين. وحتّى إذا لم يكن الفصل ممكناً أمكن الادّعاء بأن الشارع كان يروم من خلال الربط بين المعنويات والمادّيات واللوازم المترتِّبة على هذا الربط في مجال العدالة تحصين الدين من الأضرار. والذي يتكفَّل بهذا الأمر، ويتعيَّن عليه أن يضمِّنه هو الشارع.
تضمين العدالة على شكل تحديد العدالة التوافقية
إن آراء وتغييرات الشارع التي نعبِّر عنها بوصفها تضميناً للعدالة على أقسام؛ فتارةً يظهر حكمٌ لم يكن موجوداً بين البشر والتوافقات البشرية أبداً، بمعنى أنه يكون تأسيسياً بالكامل؛ وفي بعض الحالات يعمل الشارع على تقييد العدالة في دائرة التوافقات البشرية، ولا يخفى أن مراعاة القيود أمرٌ لازم، وإن هذه القيود تأتي في سياق تلك الروابط المعنوية التي تربط الإنسان بالله والآخرة، وكذلك ارتباط الإنسان بروحه ومعنويته أيضاً. وعليه فإن العدالة تكون في بعض الأحيان تأسيسيةً بشكلٍ مَحْض؛ وفي بعض الأحيان يكون في الأمر تقييداً وتحديداً للعدالة.
_ هل ترَوْن أن فلسفة التضمين تكمن في الحفاظ على الجوانب المعنوية فقط، بمعنى أن الإنسان قادرٌ لوحده على تشخيص المفاهيم المادّية في العدالة، وأنه إنما يكون جاهلاً في موارد الارتباط بين المعنويات والمادّيات فقط، وأن الله سبحانه وتعالى إنّما يتدخّل في تضمين العدالة من هذه الزاوية فقط، أم أن الإنسان عاجز حتّى عن تشخيص الأمور المادّية، وأن الشارع لهذا السبب يتدخّل في تضمين العدالة أيضاً؟
لغوية السؤال عن قدرة الإنسان في العدالة التوافقية
^ إن بحث التشخيص غير مطروح في العدالة التوافقية، وإنما في العدالة الذاتية يتمّ طرح السؤال القائل: هل يمكن لي أو هل يمكن للمجتمع أو الفيلسوف أو الله أن يرعى العدالة؟ إن التقاليد الاجتماعية هي التي تضفي على العدالة التوافقية مفهومها ومعناها. ومن هنا كلّما كان المجتمع على درجةٍ عالية من الوعي والمعرفة، فإن التوافق سوف يتحقَّق بشكلٍ أفضل، وسوف يتمّ تفسير العدالة على نحوٍ أحسن. لو ارتضينا أن العدالة التوافقية كانت موضع اهتمام الشارع عندها لن يكون البحث دائراً حول ما إذا كان يجب على الشارع أن يتدخّل وأن الناس جاهلون، بل إن ما يفهمه الناس سيكون هو العدالة. وعليه لن يكون هناك تدخُّل من قِبَل الشارع. تبقى هذه النقطة فقط، وهي أنه إذا تمّ ترك بعض مجالات العدالة للتوافقات هل يمكن للشارع أن يفرض بعض القيود المرتبطة بالعدالة أيضاً؟
دلالة الآيات على إمضاء العدالة التوافقية
علينا الآن أن نرى مدى انسجام الأدلّة مع هذا المدَّعى. يمكن لبعض الآيات أن تحظى باهتمامنا في هذا الشأن. هناك سنخٌ من هذه الآيات يتحدَّث بشكلٍ مستقلّ عن العدل، حيث تشتمل على تصريحٍ بكلمة العدل. وقد ورد بعض هذه الآيات بهذه الصيغة القائلة: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ (النحل: 90). إن قالب هذه الآية لا ينسجم مع العدالة التضمينية، ونحن لا نستطيع الجمع بين هذا القالب وبين العدالة التضمينية؛ لأن العدالة التضمينية من مهمّة الشارع. إن التضمين يعني أن الشارع يعمل على تعبئة العدالة ضمن حكمٍ من الأحكام. وعندما يتحدَّث الشارع معنا يقول: أعطوا الزكاة، أو ادفعوا الخمس، أو اعملوا على بناء هذا الوضع الاقتصادي، ولا تبنوا هذا الواقع الاقتصادي، وبعدها لا معنى لأن يجعل من العدالة موضوعاً لأمره أو حكمه. وعلى هذا الأساس إن إطار قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ يطلب منا شيئاً، وهذا إطارٌ لا ينسجم مع العدالة التوافقية.
الأمر بالإحسان قرينةٌ على العدالة التوافقية
القرينة الأخرى على هذا الادّعاء استعمال مفردة «الإحسان» في هذه الآية؛ لأن الإحسان شيءٌ مودَع في طبيعة وفطرة الإنسان، وهي مفردةٌ غنيّة وزاخرة بالمعاني، بحيث نجد لها مصداقاً وتجلّياً في كلّ مكان. وفي الإحسان للوالدين لم تتعرّض الآية إلى ذكر مصداق الإحسان بشكلٍ دقيق، وإنما تُرك تحديد ذلك إلى الإنسان؛ كي يتمّ تجسيد الإحسان بمقتضى الأوضاع والأحوال والشرائط الزمنية المختلفة. وإلى جانب الأمر بالإحسان هناك أمرٌ بالعدل أيضاً. وعليه فإن العدالة أمرٌ قد تمّ تركه إلى المجتمع أو الفطرة الإنسانية. إن الفطرة تعني الفطرة الجماعية، حيث يصلون إلى هذه النتيجة فيما بينهم.
_ يمكن لنا أن نفترض هنا معنىً آخر، فلا يكون هذا الفهم تامّاً، وهو أن الشارع قد بيَّن العدل ضمن أحكام، وقال بأن الأحكام التي شرّعتها عادلة، ثم يقول بعد ذلك: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾، بمعنى الأمر بهذه الأحكام التي سنَّها وشرَّعها.
^ إن الحديثَ بهذا الشكل إلى المجتمع الذي يعتبر العدالة توافقيةً مخالفٌ لأُطُر الكلام؛ إذ لو كنّا نؤمن أنّ فعلاً قد صدر عن الله، وهو تضمين العدالة في ضمن الأحكام، يكون التضمين قد حصل، ولو صدر عن الله فعلٌ ثانٍ، وأمرٌ بإجراء هذا الحكم، وبََدَلاً من أن يجعل من مفردة الزكاة والخمس وما إليهما موضوعاً للحكم قال: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾، لن يكون هناك مَنْ يفهم هذا المعنى من هذه الآية.
احتمال العدالة القضائية في آية الأمر بالعدل
كما يمكن ـ بطبيعة الحال ـ طرح بعض الإشكالات أيضاً: فأوّلاً: إن المراد من العدل في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ هي العدالة في مقام القضاء. إن العدل في مقام القضاء يختلف عن العدل في مجالات الحياة والعلاقات الاجتماعية الأخرى. فالعدل في مقام القضاء هو أن يعمل الإنسان أوّلاً: على تطبيق القواعد القضائية بشكلٍ دقيق؛ وثانياً: أن لا ينحاز إلى أحد الطرفين؛ وثالثاً: أن يدقِّق في الشواهد والاتفاقات التي يقوم بها كلا طرفي الدعوى. وأما إذا لم تعتبروا الآية مختصة بمقام القضاء فعندها سيطرح هذا السؤال القائل: لماذا أمر الله بالعدالة؟ إلاّ إذا كان الأمر كما ذكرتم، وكان معنى قوله تعالى: ﴿يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ هو «أن الله يأمر بالعمل بالزكاة»، و«أن الله يأمر بالعمل بالخمس»، و«أن الله يأمر بالعمل بالصدقات»، وما إلى ذلك. ومع ذلك فإن هذا التوجيه لا يتناسب مع الآية.
_ يمكن القول: إن الله سبحانه قد راعى العدالة التضمينية، إلاّ أننا لا نحتاج إلى العدالة التضمينية فقط، بل إن الناس في حياتهم اليومية، وفي معاشرتهم مع الآخرين بشكلٍ عامّ أو بشكلٍ خاصّ ـ كما في الأمور القضائية ـ، يحتاجون إلى العدالة. ومن هنا كانت هناك حاجةٌ إلى مخاطبة الناس بمثل هذه الآية، والآية الأخرى: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة: 8)، ودعوتهم إلى مراعاة العدالة في علاقاتهم الاجتماعية بشكلٍ عامّ.
ترك شطر من العدالة إلى الناس
^ وهذا هو المدَّعى، وهو أن جزءاً من العدالة مع التضمين، وجزءاً منها مع الترك للناس. فإنْ كان الكلّ من قبيل: التضمين عندها يَرِدُ الإشكال القائل: كيف نفسِّر: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ بأنه يعني «أن الله يأمر بالعمل بالزكاة والخمس»، ولا سيَّما أن الآية مقترنةٌ بالإحسان، وهذا لا ينسجم كثيراً، وإن الله لا يتحدَّث بهذا الشكل.
نتيجة ترك العدالة إلى الناس
لو ارتضينا أن الشارع ـ في ما وراء العدالة التضمينية ـ قد طالب الناس بالتأسيس للعدالة فإننا سوف نحصل على بعض النتائج. ومن تلك النتائج: إبطال الفرضية التي أتَيْنا على ذكرها في البداية حيث قلنا: إن الله إنما يريد العدالة التضمينية، وبالتالي فإن العدالة التوافقية خاطئةٌ. وأما الآن، حيث يفتح باب العدالة التي يتمّ تفويضها إلى الناس، يَرِدُ هذا البحث في التشريع، حيث يُقال: هل الصحيح هو التوافق أم غير التوافق؟ لأن تفويض العدالة إلى الناس، كما ينسجم مع العدالة التوافقية، ينسجم كذلك مع العدالة الفلسفية أيضاً، أي إن «اعدلوا» قد تكون بمعنى أن يحصل الفلاسفة على العدالة الذاتية. وللإجابة عن هذا السؤال يمكن الاستفادة من بعض القرائن التي تثبت التوافقية.
القرينة الأولى: مجرّد تفويض العدالة إلى الناس
إن القرينة الأولى تتمثَّل في مسألة كلامية، وهي أن الحقيقة والواقعية إذا كانت العدالة الذاتية الطبيعية والفلسفية موجودة، فحيث يكون للشارع دينٌ كامل لماذا تخلى عن هذه العدالة الفلسفية والحقيقية؟ إن هذا التخلي من دون أيّ قيدٍ، وغير محدودٍ بزمنٍ، من قبيل: الإحسان الذي تمّ تفويضه إلى الشرائط والأوضاع والأحوال. إن هذا الأمر يُثبت أن الشارع كان يعلم أن العلاقات في كلّ عصرٍ ومجتمع تستدعي عدالةً خاصّة تنبثق من داخل المجتمع. ولذلك نشهد تبلور قرينة، وكأنها في الواقع توافقية.
القرينة الثانية: طريقة حديث الشارع إلى ذلك المجتمع
لو قبلنا بأن تلك الأدلّة والقرائن والشواهد تشير إلى أن المجتمع كان ينظر إلى العدالة التوافقية فإن هذه الطريقة في الحديث مع ذلك المجتمع تدلّ على القبول بهذا التوافق من قبل الشارع.
القرينة الثالثة: موقف الشارع من التقاليد الاجتماعية في تلك المرحلة
إن القرينة الثالثة تكمن في موقف الشارع من بعض الأحكام المرتبطة بالتقاليد والأنظمة الاجتماعية التي كانت قائمةً آنذاك، من قبيل: قانون الرقّ والعبودية، حيث لا يمكن اعتبار الاستعباد منفصلاً عن أعراف وقوانين تلك المرحلة. إن الرقّ ليس منفصلاً عن مقولة العدل والظلم؛ إذ يتمّ فيه إجبار شخصٍ على ممارسة العمل، وتسلب منه حرّيته. واليوم يُعَدّ الاستعباد ظلماً، إلاّ أن التقاليد الاجتماعية في تلك المرحلة التاريخية لم تكن ترى في الاستعباد ظلماً، وقد سار الشارع على ذلك، واقتصر تدخُّله على تحديد هذه الظاهرة وتقييدها؛ من أجل الحفاظ على العلقة الروحية والمادّية، وكان ينصح ويدعو إلى تحرير العبيد بنية التقرُّب إلى الله.
القرينة الرابعة: طريقة التعاطي مع الاستعباد
هناك مَنْ يجيب عن السؤال القائل: لماذا قَبِل الإسلام بقانون الاستعباد؟ قائلاً: إن الإسلام كان يهدف من وراء ذلك إلى القضاء على هذه الظاهرة بشكلٍ تدريجي. إلاّ أن هذا الجواب ليس صحيحاً؛ إذ لو كان الشارع يريد القضاء على هذه الظاهرة تدريجياً لكان قد أصدر أمراً عامّاً وصريحاً بهذا الشأن، ولكننا نجد أنه قد اكتفى بالسلوك العملي على نحوٍ جزئي، وهذا الأمر يتمّ تبريره من خلال ضمان الارتباط بين المادّيات والمعنويات. ولكنّه في الوقت نفسه ـ بطبيعة الحال ـ لا يشكّل عقبةً دون التوافقات اللاحقة، وهو التوافق الذي ينبثق من الداخل، وليس التوافق الذي يُفْرَض من قبل الظالم والجائر. وعليه فإن الشارع لا يوجد شيئاً يتعارض مع الوجدان الاجتماعي.
_ هل الاستعباد يتناغم مع مفهوم تلك العدالة التي كان يتمّ اعتبارها في فترةٍ من الزمن؟
العدالة وليدة التوافق
^ لا يدور البحث في العدالة التوافقية حول مفهومها. فالمفهوم بحثٌ آخر، وإنما البحث يدور حول ما إذا كانت العدالة شيئاً له مثالٌ، كما كان يقول أفلاطون، أم هناك حقيقة ذاتية نريد أن نكتشفها؟ وهل هي قابلةٌ للكشف أم لا؟ وهل تقوم تقوم على أساس التوافق أو لا؟ وحيث يقوم ادّعاؤنا على أن الشارع قد قبل بالتوافق فإننا نمتلك تبريراً صائباً في ما يتعلّق بظاهرة الرقّ والاستعباد.
_ إذا أردتم إمضاء العدالة التوافقية بأدلّةٍ من قبيل: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ عندها كيف سيكون الارتباط بين هذا النوع من الآيات والأحكام التي عمد الشارع إلى تضمين العدالة فيها؟ فلو افترضنا أن توافقات المجتمع في مرحلةٍ ما سوف تتعارض مع الأحكام التي وضعها الشارع وأدخل العدالة ضمنها، أو لم تَعُدْ تلك الأحكام قابلةً للتطبيق، فكيف سيتمّ التعامل مع هذا التهافت؟
التوافق الجديد يجب أن يتطابق مع قيود الشارع
^ إن هذا بحثٌ آخر يجب تناوله لاحقاً، ولكنْ الذي يمكن قوله إجمالاً هو أن الشارع كلّما ذكر قيداً في مورد حكمٍ ما ـ سواء أكان قيداً في الأحكام المطالبة بالعدالة في ذلك المجتمع أو قيداً لتوافقاتٍ لاحقة ـ كانت رعايةُ هذا القيد لازمةً، ويجب أن يتم ّالتوافق على ذلك الإطار.
_ هل الأحكام قيدٌ للعدالة أم العدالة قيدٌ للأحكام؟
أحكام الشارع قيدٌ للعدالة التوافقية، دون العكس
^ كان الكلام في أن الشارع يقوم بأمرين، وهما: أوّلاً: العمل على تأسيس سلسلةٍ من المنظمات والمؤسّسات الجديدة؛ بهدف ضمان العدالة، وبذلك يؤسِّس للعدالة؛ وثانياً: العمل على تحديد العدالة، بمعنى أنه يضع القيود على الحالة المتّفق عليها، كما حصل ذلك بالنسبة إلى ظاهرة الاستعباد والاسترقاق. فإذا كان الأمر كذلك يجب أن تتبلور بعض التوافقات الاجتماعية ضمن إطار معيَّن حدَّد الدين بعض معالمه. ولذلك لا معنى لحصول التهافت.
_ إذن هل ترَوْن أن هذه الأحكام إذا كانت مخالفةً للعدالة التوافقية كانت رعايتها واجبةً، وأن العدالة التوافقية يجب أن تتبلور في إطار هذه الأحكام، أم أن العدالة التوافقية هي المعيار، وأن الأحكام المقيّدة بهذه العدالة توافقية، وما دام الأمر كذلك، تكون هذه الأحكام قائمة؟
عدم وجوب رعاية الأحكام التي يزول موضوعها بالتوافق
^ كلاّ، إن الأحكام تمثِّل الأُطُر على الدوام، ولو تبلورت توافقاتٌ على خلافها لن تكون مقبولةً من قبل الإسلام، إلاّ إذا كان الشارع قد عرض تلك الأحكام رعايةً للتقاليد الاجتماعية في عصره، كما هو الحال بالنسبة إلى ظاهرة الاستعباد. وعليه لا يمكن القول: حيث تناول الفقه مسألة الرقّ والعبودية إذن يكون التوافق على مكافحة الاستعباد مخالفاً للشارع؛ لأننا نعلم أن الشارع إنما وافق على الاستعباد لأنه كان مورداً للتوافق.
_ بمعنى أنه لو عاد التوافق على الاستعباد ونظام الرقّ مجدّداً فإن أحكامه بدَوْرها ستعود أيضاً؟
^ من المستحيل أن يتمّ التوافق مرّةً أخرى على الاستعباد؛ لأن المجتمع قد تطوَّر، ولا يمكن له الرجوع إلى الوراء.
_ ألا يُعَدّ الأسرى الإسرائيليين في عصرنا من العبيد؟
^ هذا ما يقوله الفقهاء، وليس الجميع يقول ذلك.
_ كيف يتمّ إثبات أن ظاهرة الاستعباد في تلك المرحلة الزمنية كانت توافقية؟
^ عِدْل ذلك هو أن الشارع كان ينظر إلى ظاهرة الاستعباد بوصفها أمراً ذاتياً.
_ لماذا تسمّي هذه الظاهرة بالاستعباد؟ إن الثقل السلبي لظاهرة الاستعباد ينشأ من إخضاع بعض الأشخاص لسلطتنا، ونجعلهم عبيداً لنا بشكلٍ جائر. إلاّ أن الرقيق في الفقه الإسلامي هو الشخص الذي يقوم بالهجوم على بلدٍ إسلامي بهدف احتلاله، وبذلك يكون معتدياً. ومثل هذا الشخص يمكن قتله، فضلاً عن استعباده، وعليه فإن استبدال قتله باستعباده لا يُعَدّ ظلماً من وجهة نظر العُرْف؛ لأنه يمثِّل عقوبة يستحقّها. فلو هجمت إسرائيل علينا، ووقع بعضُ جنودها أسرى بأيدينا، هل من الظلم استعبادهم، مع العلم أنه كان يجوز لنا قتلهم؟
^ إنما تذكرون هذا التبرير نتيجةً لاستئناسكم الفقهيّ، إلاّ أن الوجدان العامّ يبقى متسائلاً ويقول: لماذا تستعبدون البشر؟
_ لأنه كان يريد قتلي، ولكنّي بَدَلاً من قتله قمتُ بأسره.
^ ليس هناك من دليلٍ على عدم كون ذلك ظلماً. من خلال التبرير المتقدّم نجد أن ما قام به الشارع كان منسجماً مع ظاهرة الاستعباد، كما ينسجم مع حقيقة أسر واستعباد بعض الناس، ولو في ظروف معيّنة. فعندما يظهر صاحب العصر والزمان# سيقوم باستعباد بعض الأشخاص. ويقال في بيان سبب ذلك: إن الإمام يلاحظ ذات الأمور. ليس لدينا روايةٌ واحدة تثبت أن جزءاً من المجتمع سوف يتحوَّل إلى عبيدٍ؛ إذ ليس هناك توافقٌ على ذلك.
_ هذا يُثبت أنكم تجعلون المحورية للعدالة التوافقية، وتجعلون الأحكام تابعةً لها.
^ كلاّ، لا أجعل الأحكام تابعةً لها.
_ إن مثال الاستعباد لا ربط له بالأحكام المعيارية، وإنما هو مرتبطٌ بعصره. هل دليلكم ومستندكم في ذلك يقوم على ظواهر الألفاظ؟
البحث في القرائن، وليس في الحكم
^ كما أن الطرف المقابل لا دليل عليه أيضاً. إن هذا النوع من الأبحاث رهنٌ بالقرائن. قد نذكر في بعض الأحيان عدّة قرائن لتقديم نموذج، ولا نكون في مقام إثبات المسألة بضرسٍ قاطع؛ لأن ما نحن بصدد الحديث عنه بحثٌ جديد.
دلالة قوله تعالى: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾
قال تعالى: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة: 8). وإنما أذكر هذه الآية بوصفها قرينةً، ولا أعتبرها دليلاً. إن هذه الآية هي مثل الآية القائلة: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ (النحل: 90). والملفت في الآية هو اعتبار العدالة «أقرب للتقوى»، وكأنّ الشارع إنما يتولّى الاهتمام بأمر التقوى، وأن المهمّ بالنسبة له هو صيانة التقوى، وإيجاد الارتباط بين المادّيات والمعنويات؛ لأن العدالة ترتبط بالوقائع والأحداث الاجتماعية. ومن هنا فإن الشارع ينظر إلى العدالة من هذه الزاوية، ويقول: إنها أقرب الطرق الموصلة إلى التقوى. وهذا بدَوْره مجرَّد شاهد.
قرائن آية ﴿اعْدِلُوا﴾ على العدالة التوافقية
هناك نقطتان في كلمة «اعدلوا»: الأولى: إنها صيغة أمر، وبذلك يكون الله سبحانه وتعالى قد أمَرَنا بالعدل، وفوَّض ذلك إلى المجتمع؛ والأخرى: إن عبارة «أقرب إلى التقوى» تصلح لكي تطرح بوصفها قرينةً أيضاً.
دلالة قوله تعالى: ﴿لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾
إن جزءاً من آيات العدالة يرتبط بعدالة الله سبحانه وتعالى، من قبيل: قوله تعالى: ﴿لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾ (آل عمران: 182؛ الأنفال: 51؛ الحج: 10). لا يمكن لنا أن نستفيد من هذه الآية في إثبات العدالة التوافقية أو نفيها. وإنما كلّ ما نستطيع فهمه من هذه الآية هو أن الله عادلٌ. وقد تبلورت هذه العدالة في التكوين كما تبلورت في التشريع أيضاً. وتنشأ العدالة التضمينية في بعض الأحيان من عدم اتّصاف الله بالظلم. لقد قام الله تعالى ـ بوصفه شارعاً ـ بإدخال العدالة ضمن تشريعاته.
البحث التاريخي للعدالة في مرحلة رسالة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)
_ كيف فهم المجتمع الجاهلي ـ وهو المخاطَب الرئيس بالقرآن والسنّة، مع الالتفات إلى أنه كان في السابق قد قَبِل بالعدالة التوافقية، سواءٌ في عصر النبيّ أو بعده ـ هذا النوع من الآيات القرآنية والسنّة النبوية؟ وهل حدث تغيُّر وتحوُّل من وجهة نظر المجتمع الجاهلي في العدالة التوافقية التي كانت سائدةً بينهم؟
منهج بحث تاريخ العدالة في عصر النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)
^ يجب القول في الجواب عن سؤالكم: يمكن الفصل بين مرحلتين تاريخيتين، وهما: مرحلة عصر النبيّ؛ ومرحلة عصر ما بعد النبيّ. إن منهج التحقيق في الحقبة الزمنية لعصر النبيّ بمنزلة حركة الذهاب والإياب بين ما يقوله الدين والنصوص وما يفهمه عامّة الناس. ونجد في النصوص المأثورة عن الشارع ـ في بعض الأحيان ـ تدخُّلاً منه في المجالات المندرجة تحت عنوان العدالة، بمعنى أنه تصرَّف في مورد أحد مصاديق العدالة، ونظر تارةً إلى واحدٍ من المجالات المرتبطة بالعدالة.
يجب من ناحيةٍ النظر إلى هذا الموضوع وهذه الدائرة من التشريع والشارع، والنظر من ناحيةٍ أخرى إلى الأفهام العامة، والعمل على رصد ماهيّة الحقيقية ما بين هذا الذهاب والإياب. ونبدأ أوّلاً بالفهم العام، ثم ننتقل إلى البحث في النصوص. لا يدور بحثنا حول القول بأن هذا هو التشريع وهذا هو الفهم. وإنما البحث يكمن في حالة الذهاب والإياب.
ثلاث فرضيات لفهم الإنسان الجاهلي لكلام النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)
في عصر النبيّ سادت بين الناس هذه الحالة العامة، وهي أن النبيّ الأكرم إذا قال شيئاً بادروه بالسؤال قائلين: هل هذا حكم الله أم لا؟ ولو تتبَّعنا بعض القرارات والأحكام لوجدنا أن النبيّ الأكرم| كان يواجه هذا السؤال من قِبَل الناس أو بعض الصحابة. ومن خلال تحليل هذا السؤال نحصل على ثلاث فرضيات في ما وراء هذا السؤال:
1ـ الرضا بحكم الله: إحدى الفرضيات هي أن الرضا بحكم الله ـ بعد انتهاء المرحلة الجاهلية وبداية مرحلة الإسلام ـ قد دخل معترك معادلات الآراء الاجتماعية. وبعبارةٍ أخرى: حتّى ما قبل الإسلام فإن كلّ ما كان هو التوافقات، والآراء، والأعراف، والتقاليد. وأما بعد ظهور الإسلام فقد اشتمل على هذا التأثير القاطع المتمثِّل بالرضا بحكم الله وإدخاله في المعاملات. فحتّى ما قبل الإسلام لم يكن حكم الله مطروحاً، ولم يتمّ السؤال عن حكم الله، ولكنْ بعد ظهور الإسلام كانوا يسألون عما إذا كان هذا هو حكم الله. إذن تكون إحدى الفرضيات هي الرضا والاعتبار المطلق لحكم الله.
2ـ عدم الرضا بحكم غير الله: الفرضية الثانية أن هناك حكماً آخر غير حكم الله أيضاً. فعندما كانوا يسألون: هل هذا هو حكم الله؟ فهذا يعني أنه إذا لم يكن حكم الله كان هناك متَّسعٌ لعدم الالتزام به. وبطبيعة الحال إن هذه الفرضية ليست بقوّة الفرضية الأولى، ولكنْ يمكن طرحها كفرضية.
_ هل الحكم الآخر هو كلام النبيّ الأكرم| أم حكمهم العقلائي؟!
^ بل حكم الناس أنفسهم. وبطبيعة الحال إن الذي نريد قوله هنا هو أن هناك حكماً آخر في مقابل حكم الله أيضاً.
3ـ اعتبار حكم غير الله، حيث لا يكون لله حكمٌ: إن التقسيم الثنائي، وهما: (حكم الله؛ وحكم غير الله) واضحٌ للجميع، بَيْدَ أن المنظور لنا هنا هو افتراضٌ ثالث، حيث يقول بالرجوع إلى حكم غير الله في الموارد التي لا يكون لله حكمٌ فيها. إن هذا الافتراض يقرِّبنا شيئاً ما من القول بأن العصر الجاهلي كان يشتمل على اتجاه الخضوع واتجاه الإقبال على التوافقات، والدين لم يقبل بهذا الاتجاه. وفي الحقيقة إن المجتمع الجاهلي كان يحمل هذا الفهم، وهو أن الله إذا لم يقدِّم رؤيةً جديدة كانت الرؤية السابقة المتَّفق عليها معتبرةً. فلم يكن الفهم قائماً على أن الإسلام قد أغلق الأبواب ومنع الرجوع إلى التوافق بشكلٍ مطلق.
عدم إبطال العدالة التوافقية في عصر النبوّة
ولو كان الإسلام يريد ذلك كان عليه أن يتحدّث بشكلٍ يُبطل هذا الفهم، إلاّ أن هذا الفهم لم يتمّ إبطاله؛ لأنهم كانوا يسألون: «هل هذا هو حكم الله؟»، وفي الحقيقة يمكن هنا تشكّل برهانٍ مؤلَّف من الصغرى والكبرى. فلو قبلتم بأن طريقة الرجوع إلى التوافق كانت موجودةً في العصر الجاهلي فإننا في مرحلة الإسلام سنكون أمام فرضيتين، وهما: أوّلاً: إن الإسلام منع من هذه الطريقة بالمطلق، وإنه في حالة المنع كان يتعيَّن عليه أن يتحدَّث بحيث لا يبقى معه وجودٌ لتلك الطريقة وهذا الفهم العام، القائل بأن الله إذا لم يكن له حكمٌ فإنهم يقبلون على طريقتهم التوافقية. ولكنْ حيث كانت هذه الطريقة والفهم العام قائماً يتّضح أن الشارع لا يتكلَّف المؤونة اللازمة لإبطال ذلك الفهم، وإذا كان يقصد الإبطال كان عليه أن يُبطله بشكلٍ كامل، إلاّ إذا تمّ طرح بحث التدريج في إبطال الأحكام، وهذا بحثٌ آخر. وعلى أيّ حالٍ إن هذه القرينة تتوفَّر على شروط القرينية في حدّ ذاتها. يُضاف إلى ذلك أن هذه الطريقة قد استمرّت في عصر النبيّ الأكرم|، حيث لم يكن التدريج في بيان الأحكام بعد النبيّ مطروحاً.
_ هل يمكن لكم أن تذكروا لنا بعض الموارد التي كانوا يسألون فيها النبيّ الأكرم؟
نماذج من فصل المسلمين بين حكم الله وحكم النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)
^ من النماذج التي أذكرها الآن تلك التي ترتبط بالوصيّة لأمير المؤمنين×. حيث سألوا رسول الله|: هل تعيين الوصيّ من النبيّ أم من الله؟ ولا بُدَّ من تتبُّع الموارد الأخرى؛ كي يكون هذا الادّعاء موثَّقاً ومُسنَداً.
_ في معركة بدر وقع اختيار النبيّ الأكرم على موضعٍ، فسأله رجلٌ: هل هذا من أمر الله؟ فإذا لم يكن من أمر الله فأنا أعرف موضعاً آخر.
^ هناك الكثير من هذه الموارد. وعلى أيّ حالٍ إن استمرار هذا الفهم يعني أن الشارع لم يضع عقبةً أمام هذه الطريقة.
تقرير وإمضاء العدالة التوافقية من قِبَل النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)
ومن ناحيةٍ أخرى يمكن العثور على اعتبار لهذا الفهم، وذلك أن النبيّ عندما كان يواجه هذا النوع من الفهم لم يكن ينسبه إلى الخطأ، بل كأنّما كان يقرّه ويمضيه. وإلاّ لو كان النبيّ لا يرتضيه لكان عليه أن يردعهم عن طرح مثل هذه الأسئلة. فإنْ قبلنا بهذا التقرير لن يَرِدَ حتّى إشكال التدريج، حيث كانت نظرة النبيّ الأكرم| إلى هذه الأفهام نظرةً مرحِّبة، وليست نظرةً طاردة أو ممتعضة.
إمضاء موارد من العدالة التوافقية في الجاهلية
وحتّى في ما يتعلَّق بالتشريع نرى أن النبيّ قد قرَّر بعض التوافقات الحاصلة في العصر الجاهلي، ويكون بعبارةٍ أخرى قد عمل على تثبيت طريقة التوافق، أو أنه سار في ضوئها، من قبيل: الدية التي تتناغم مع بحث العدالة، ومع بحث الحقّ أيضاً. وقد ورد في الحديث المأثور: «الدية كانت في الجاهلية مئةً من الإبل، فأقرَّها رسولُ الله»([12]). إن هذا الأمر يدلّ على هذه النقطة، وهي أنه ليس كلّ ما كان يتبلور في العصر الجاهلي ـ ولا سيَّما في ما يتعلَّق بمسألة الحقّ والحقوق وضمان وتحقُّق العدالة ـ كان خاطئاً حَتْماً؛ إذ لو كان الأمر كذلك لما كان هناك معنىً لإقرار رسول الله لها. وبذلك يتّضح أنه كانت هناك في الجاهلية موارد صحيحة، وأن النبيّ الأكرم| قد أقرّها وأمضاها.
_ في ما يتعلَّق بالرواية التي أقرّ فيها رسول الله| دية المئة من الإبل هناك مسألة قد تحول دون القول بالتوافق العقلاني الممضى، وهو أنه قد جاء في هذه الرواية([13]) أن عبد المطّلب قد وضع عدّة أحكام، ثمّ أمضاها رسول الله، وكانت الدية من بينها. وعليه لا يمكن القول: إن إمضاء النبيّ هنا كان إمضاءً لتوافق المجتمع الجاهلي، وإنما هو تقريرٌ لكلام عبد المطّلب، ولا يخفى أن عبد المطّلب كان يتمتَّع بشخصيةٍ مرموقة تميِّزه من سائر أفراد المجتمع الجاهلي.
القرائن على انتساب حكم الدية إلى المجتمع الجاهلي
^ في الإجابة عن هذه الملاحظة لا بُدَّ من التطرُّق إلى بعض النقاط، وهي:
النقطة الأولى: لقد كان عبد المطّلب شخصاً يعيش في العصر الجاهلي. ولا ينبغي تصوُّر العصر الجاهلي بوصفه عصراً يخلو من العقول النيّرة والشخصيات العادلة. ومن خلال وجود هذه الشخصيات يتّضح أن عصر الجاهلية كان يشتمل على أشخاص ينشدون العدل، أو أنهم كانوا يصدرون أحكاماً عادلة في الحدّ الأدنى.
النقطة الثانية (وهي الأهمّ): إن عبد المطلب على أيّ حالٍ شخص قد نشأ في مرحلةٍ، وكان واحداً من أعضاء ذلك المجتمع. ولا أحد يصدر حكماً دون الاستناد إلى أساس. وفي مورد حكم عبد المطّلب يجب إما القول بأن حكمه كان حكم الله (وهذا غير صحيح)؛ لأننا لا نعتبره نبيّاً؛ أو القول بأنه إنسانٌ عادي قد نشأ في صلب ذلك المجتمع وترعرع فيه، وفي هذه الحالة حكمه ينتمي ـ ولو على نحوٍ ارتكازي ـ إلى أوضاع وأحوال تلك المرحلة.
النقطة الثالثة: إن هذا الحكم قد حَظِي ـ على أيّ حال ـ بقبول وتوافق المجتمع الجاهلي، ولذلك ورد في الحديث: «كانت في الجاهلية»، ولم يَرِدْ: «كان لعبد المطّلب».
النقطة الرابعة: لا ينبغي تصوُّر الأمر وكأنّه كان هناك حكمٌ باد واندثر، ثم عمل النبي الأكرم على إحيائه، بل كان التوافق على مئة من الإبل في دفع الدية لا يزال قائماً ومعتبراً في ذلك المجتمع. وفي الحقيقة إن ما قام به النبيّ الأكرم| كان مجرّد إمضاء وتقرير التوافق الذي كان موجوداً في عصره، ولذلك نقلته الروايات على هذه الصورة، وإلاّ فإن تلك الطريقة الجاهلية كانت تلقي بظلالها على ذلك المجتمع؛ لأن المجتمع كانت له روابط معقّدة، وإذا كان يتمّ الاتفاق على شيء كان يستمرّ على هذه الشاكلة.
رفض بعض موارد العدالة التوافقية في المجتمع الجاهلي
وبطبيعة الحال لو أن النبيّ الأكرم| كان يرى ذلك الحكم مخالفاً لحكم الله فإنه كان يعمل على إبطاله حَتْماً، ولكنْ حيث لم يكن للشارع في هذا الشأن حكمٌ خاصّ فقد استمر التوافق على ذلك الحكم من الناحية العملية. وكانت هناك في الوقت نفسه بعض موارد التوافق الأخرى أيضاً، ولكنّ النبي الأكرم رفضها، من قبيل: نكاح الشغار، أو حصر التوريث بالرجال فقط، وكان هذان الحكمان من الأحكام الجاهلية.
نكاح الشغار
لقد كان نكاح الشغار بأن يجعل الرجل ابنته أو أخته مهراً يعطيه لوالد زوجته. كما أن نكاح الشغار من الموارد الملفتة للانتباه، والتي تشير إلى أن عصر الجاهلية كان يشتمل على آلية لضمان العدالة. فقد كان هؤلاء يلجأون حقيقةً إلى التحالفات والمعاهدات لإدارة المجتمع وضمان العدالة.
التوارث بالحلف والنصرة
وقد كانت هذه التحالفات والمعاهدات من التجذُّر في عمق ذلك المجتمع بحيث أضحَتْ وسيلةً للتوارث: «اعلم أن الجاهلية كانوا يتوارثون بالحلف والنصرة»([14]). وعندما يغدو شيءٌ مبنى للتوارث فهذا يعني أنه قد ترسَّخ في أعماق ذلك المجتمع. وهذا أعلى حدود التوافق؛ لأن هؤلاء كانوا يضمنون جميع آمالهم وأمانيهم بهذه الطريقة.
وعلى كلّ حالٍ فقد كان بإمكان الإسلام أن يرفض هذه الأحكام بأجمعها، ولكننا نرى أن النبيّ قد أقرّها وأمضاها، غاية ما هنالك عندما تغيَّر المجتمع، وأصبحت آليات ضمان وبسط العدالة راسخةً وقوية، لم تَعُدْ هناك حاجةٌ إلى التحالفات؛ لأن فرضية التحالفات كانت تقوم على انقسام القبائل وتخاصمها، وبعد جمع القبائل كلّها تحت منظومة الدولة الإسلامية برئاسة شخصٍ واحد لم تَعُدْ هناك موضوعيّةٌ لإقامة التحالفات بعد دخول الجميع ضمن منظومةٍ واحدة، وبعبارةٍ أخرى: أصبحت مسألة التحالفات من السالبة بانتفاء الموضوع. وعليه فإن نفي الإسلام اللاحق لا يعني أن التوافق كان على شيءٍ آخر. وفي الحقيقة لو قدّر لعصر الجاهلية أن يبني دولةً موحّدة لزالت تلك التوافقات؛ لأن كلّ توافقٍ له مرحلته الخاصة.
_ إذا كان سبب سكوت النبيّ الأكرم| يعود إلى عدم تشكيل الحكومة الإسلامية، وكان عدم المخالفة الصريحة له عائداً إلى تدرُّج الأحكام، فإن سكوته لن يكون معبِّراً عن الإمضاء؛ لأنه لم يكن ليستطيع بيان الأحكام المخالفة للإسلام. وعليه فإن هذا السكوت لا يعني إمضاء التوافقات الجاهلية.
الأشكال المختلفة لرفض وإمضاء العدالة التوافقية لأحكام الجاهلية
^ طبقاً لكلامكم يمكن لنا أن نفترض ثلاثة أنواع من التصرُّف من ناحية الشارع تجاه مواريث الجاهلية، أحدها: الإبطال والتغيير والتبديل القاطع لتلك الطريقة، والحكم بطريقةٍ أخرى. ولهذا الافتراض هناك الكثير من الأمثلة، من قبيل: حصر الإرث على الرجال، وما إلى ذلك. والافتراض الثاني: الإقرار، وفي هذا الشأن يمكن لنا التمثيل بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾ (النساء: 33)، حيث ارتضت الآية الحلف في التوريث وأقرّت به. والافتراض الثالث: السكوت. ليس هناك مَنْ هو أعلم من الشارع في مسائل الاجتماع، وليس هناك مَنْ هو أكثر واقعية من الدين في التعاطي مع الأمور. وعليه من الطبيعي إذا أراد الشارع إبطال بعض الموارد الراسخة في المجتمع، ولم يكن إبطاله بصلاح المجتمع، فإنه سوف يسكت ويلتزم الصمت بانتظار الفرصة المناسبة لإبراز وتشريع الحكم، أو إبرازه بعد تشريعه. ولهذا الافتراض الثالث الكثير من الموارد أيضاً، ولكنّ كلامي هنا يدور حول المورد الثاني، الذي يكون فيه إمضاءٌ صريح من قِبَل الشارع، ولو في بداية الأمر. وعلى كلّ حال هناك موارد كانت لها جذورٌ في التوافقات العامة في العصر الجاهلي.
وفي مقابل ذلك هناك ـ بطبيعة الحال ـ آياتٌ يجب البحث فيها. لقد سبق أن ذكرنا أننا إذا أردنا فهم رؤية الشارع يمكن لنا الرجوع مرّةً إلى إقرار وإثبات النبيّ والإسلام تجاه تلك الأحكام والطرق؛ ومرّةً إلى الآيات المرتبطة بالحكم أو العدالة.
_ قبل بحث الآيات والروايات، هناك سؤالٌ حول تقرير التوافق. نرى مجتمعاً جاهلياً زاخراً بالتوافقات. وإن الإسلام يعمل على إبطال ما كان يخالف الشرع من بينها، ويلتزم السكوت تجاه الباقي. وعليه من الناحية العملية يتمّ تقرير هذا الحكم، كما يتمّ تقرير أصل التوافق. توجد هنا حالتان، ويمكن لإحداهما أن تكون شاهداً لنا، دون الأخرى. والتي لا يمكن أن تكون شاهداً على مدّعانا هي تلك الحالة التي يرى فيها الشارع الحكم في مورد التوافق ـ وليس أصل التوافق ـ، وهو الحكم المطابق للإسلام، ولذلك فإنه يختار السكوت والإمضاء. وفي الحقيقة إن هذا الحكم حتى إذا لم يكن توافقياً فإن الشارع سيمضيه، ولكنّه في بعض الأحيان إنما يمضيه من أجل تعلُّق حيثية التوافق به. وفي هذه الحالة حتّى لو حصلت توافقات لاحقة في مجتمعات أخرى، وإنْ في غير عصر رسول الله بحيث لا يمكنه تقريرها، فإن تلك التوافقات سوف تُمْضى أيضاً. فأيّ هاتين الحالتين موجودةٌ في تقريرات رسول الله|؟
إمضاء الدية على أساس التوافق دون الأمر الذاتي
^ ليس لدينا أيُّ شاهدٍ يثبت أن دية القتل في اللوح المحفوظ مئة من الإبل. إن هذا الحكم كان قائماً على أساس التوافق وقبول المجتمع، وهذا أمرٌ مستحسن ، والإسلام يؤيِّد ذلك أيضاً. وعليه فإن قبول الشارع ناتجٌ من توافق المجتمع، ولا معنى لتغيير شيءٍ مركوز في صلب المجتمع ونسيجه.
_ لقد أشرتُم بطبيعة الحال إلى الموارد الأخرى التي كانت مورداً لتوافق المجتمع، ولكنْ تمّ رفضها وإبطالها. وهذا يُثبت أن أصل التوافق لم يكن محطّ اهتمام الشارع، وإنما كان ينشد تحقيق العدالة فقط. وقد ذكرتُ هذه النقطة لكي تتّضح شواهد إمضاء التوافق في نفسه.
^ إن كلامكم هذا يعني أن الذي كان مورداً لقبول الشارع هي الأمور التي تمّ التوافق عليها، وليس آلية الإقبال على التوافق. وحتّى في هذه الحالة يمكن لنا أن نثبت أن الشارع قد قَبِل بعض أحكام المرحلة السابقة، ولم يُبْطِلْها. وأما أن نعتبر هذه الأحكام إلى الأبد، وبوصفها قضيةً حقيقية، هي الطريق الوحيد إلى تحقيق العدالة فهذا أوّل الكلام، ولكنْ توجد هناك عدّة نقاط نجملها على النحو التالي:
العدالة في المجتمع الجاهلي توافقيةٌ، وليست ذاتيةً
النقطة الأولى هي أن جميع حيثية وهوية المرحلة الجاهلية كانت تكمن في هذه التوافقات، ولم يكن هناك شيءٌ آخر. فقد كانوا يتوصّلون بآرائهم الجاهلية إلى بعض النتائج، ويتّفقون عليها. لم تكن هناك أبحاثٌ فلسفية يثيرها أمثال: أرسطو وأفلاطون؛ كي نحتمل أنهم كانوا يتوصّلون إلى اكتشاف بعض الأمور بواسطة العقل. وعلى هذا الأساس عندما يقبل الشارع فهذا يعني أنه إنما وافق على النتيجة المنبثقة عن التوافق؛ إذ لا وجود للبحث الذاتي، وخاصّة في الأحكام. ما هو المفهوم الذي يمكن أن ينطوي عليه تعيين مقدار الدية بمئةٍ من الإبل؟ لا سيَّما إذا أضفنا هذا الأمر الذي كان مورداً لتوافق الجاهلية بالأمس وإمضاء الإسلام له حالياً. ولا يزال هذا التوافق باقياً في سدى ولحمة نسيج ذلك المجتمع، بوصفه مؤلّفاً من أفراد يتّفقون على أمرٍ ما.
ظهور الإسلام لا يُبطل التوافق الاجتماعي
كما يجب علينا أن نأخذ بنظر الاعتبار ذلك العامل النفسي في المجتمع، وهو أنه إذا حصل الإجماع والتوافق في المجتمع فإن هذا التوافق لا يزول بظهور الإسلام من تلقائه. ولذلك كأنّ الإسلام قد أقرّ بما تمّ التوافق عليه في زمانه؛ لأن التوافق قاطعٌ جداً، ومثل هذا التوافق لا ينتقض أبداً. فلو كان للإسلام رأيٌ مخالف للتوافق السابق فلماذا لم يجعل مقدار الدية أكثر أو أقلّ من مئة من الإبل؟!
قبول حكم زعيم القبيلة والشورى قرينتان على إمضاء العدال التوافقية
النقطة الثانية أننا نجد توافقات وطرق أخرى كان النبيّ الأكرم| يرجع إليها، ومن ذلك: لو أن يهودياً ـ مثلاً ـ قد ارتكب جريمةً، وأُلقي القبض عليه، كان النبيّ يترك الحكم عليه إلى زعيم القبيلة؛ لأنه مقبولٌ من قِبَل الجميع، وكان النبيّ يأمر بالعمل على طبق حكمه. وكذلك كان يتمّ الإجماع والشورى على أمرٍ، وكان النبيّ يمضي نتائج الإجماع والشورى.
وعليه فإن هذه الأمور المتَّفق عليها لم تكن لها خصوصيةٌ ذاتية، ومن هنا كان النبيّ يرتضي أساليب وطرق المتّفقين في العصر الجاهلي، وكأنّه يرى موضوعيةً لذات التوافق.
وهنا يجب التأكيد مجدّداً على أننا لا نروم الحصول على كلّ شيء بقرينةٍ واحدة، بل يجب ضمّ جميع القرائن إلى بعضها؛ كي نصل إلى نتيجةٍ ما.
الآيات التي تبطل العدالة المتَّفق عليها في المجتمع الجاهلي
إلى جانب هذه القرائن، هناك آياتٌ وقفت في مواجهة الجاهلية. ويجب البحث في هذه الآيات؛ كيما يتّضح ما هي اللوازم المترتِّبة عليها تجاه التوافق، وهي اللوازم التي قد تؤدّي إلى إبطال هذا التوافق.
الآية الأولى: قوله تعالى ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (المائدة: 50). لقد أقام الله سبحانه وتعالى في هذه الآية حكمين متقابلين، وهما: حكم الله؛ وحكم الجاهلية. ويمكن تفسير هذه الآية على ثلاثة أنحاء:
التفسير الأول: التقابل التامّ بين حكم الله وحكم الجاهلية
أن يكون حكم الله هو المعتبر في مقابل كلّ حكمٍ جاهلي. فإنْ صحّ هذا التفسير لا تعود هناك إمكانية للقول بأن مرحلة الجاهلية كانت تشتمل على مشاهد جميلة ومطالبة بالعدالة، وإن الإسلام قد أقرّها وأمضاها. ولكنْ لا يمكن القبول بهذا التفسير؛ إذ رأينا أن الإسلام قد ارتضى بعض الموارد التي كانت موجودةً في المجتمع الجاهلي. وقد تقدَّمت بعض الأدلة على أن مشكلة الجاهلية كانت تكمن في التطبيق، وليس في المطالبة بالعدالة، أو أنهم كانوا يعانون من مشكلة عدم الوصول إلى بعض المسائل الواقعية في المجتمع.
التفسير الثاني: التقابل الجزئي بين حكم الله وحكم الجاهلية
كان يحدث أحياناً عندما يُصدر الله حكماً في بعض الموارد يعمد بعض الأشخاص في عصر الجاهلية ـ من المتمسِّكين بعصبيّتهم ـ إلى التمرُّد على حكم الله. وفي الحقيقة إن الآية تريد الوقوف بوجه هذا النوع من الأشخاص. إذن ليس هناك تقابلٌ تامّ بين حكم الله وجميع الأحكام الجاهلية؛ ففي ما يتعلَّق بالإرث كان الناس في الجاهلية يورِّثون الرجال فقط، ثم جاء الإسلام وأشرك النساء في الميراث. وهنا يحدث التقابل، ولكنّ هذا لا يعني أن جميع الأحكام الجاهلية هي ضدّ الأحكام الإلهية. ويبدو أن هذا التفسير هو الأنسب؛ بالنظر إلى القرائن التي أسلفناها؛ لأن بعض الموارد قد قَبِل بها الله وأقرَّها النبيّ، ولا سيَّما أنه كان يصعب ويشقّ على كثيرٍ من الذين يعيشون في عصر الإسلام التخلّي عن تقاليدهم وأعرافهم.
التفسير الثالث: الحلّ الوسط
التفسير الثالث هو الجمع بين الأمرين، ورُبَما عمدنا في رؤيتنا الراهنة إلى تبنّي هذا التفسير، ولكنْ على أيّ حالٍ لا يجب التسرُّع في الرؤية التاريخية والقبول بتفسيرٍ ما، دون تتبُّع جذوره التاريخية. يقول التفسير الثالث: إن لدينا حكمين على جميع الأحوال، وهما: حكم الله؛ وحكم الجاهلية. والحكم الجاهلي إنما يكون معتبراً إذا أقرّه الله، وعندها يكون هو حكم الله. وعليه فإن تقرير الإسلام يثبت أن ذلك الحكم كان جيّداً وحَسَناً. وفي هذه الحالة يطرح هذا البحث نفسه، وهو أن حكم الإسلام يقوم دائماً على أساس الحُسْن والقُبْح الذاتي والمصالح.
_ إن الافتراض الثالث يحصر التوافق الممضى بعصر النبيّ الأكرم|، بمعنى أنه لا إمضاء في التوافقات اللاحقة؛ لأن الوحي قد انقطع، وإن الحكم هو الذي تمّ تأييده في عصر النبيّ الأكرم.
آية ﴿اعْدِلُوا﴾ تجعل من العدالة قاعدةً
^ أجل، إن هذا التفسير ينطوي على مثل هذه الملازمة، ولكنها لا ترقى لتكون دليلاً. وعندها يجب عليكم الإتيان بأدلّةٍ أخرى، من قبيل: آية ﴿اعْدِلُوا﴾، التي تقول: عليكم أنتم أن توجدوا العدالة. وهنا يطرح هذا السؤال نفسه: هل العدالة قاعدة أم لا؟ إن ﴿اعْدِلُوا﴾ تعني أن هناك قاعدةً. وهناك افتراضان لا أكثر: إما أن تكون العدالة كامنةً ومتضمّنة؛ أو أن يتمّ التخلّي عن العدالة؛ لأنه هو الذي يوجد قانون العدالة.
الآية الثانية: آية ﴿ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾
إن الآية الأخرى بشأن الجاهلية هي قوله تعالى: ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ (آل عمران: 154). يجب عدم إدخال هذه الآية ضمن هذا البحث؛ لأن العلّة في سلسلةٍ من المواجهات الشديدة بين الإسلام والجاهلية تكمن في فهمهم الخاطئ عن الله سبحانه وتعالى.
عدم ارتباط آية ﴿ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ بالتوافق الجاهلي
إن هذا البحث يدور حول المسائل العقائدية، ولا رَبْطَ له بالتوافقات الاجتماعية. وبطبيعة الحال عندما نؤمن بالله سبحانه وتعالى فإن التوحيد سوف يبسط مظلّته على سماء المجتمع، بَيْدَ أن الانتساب إلى التوحيد لا يؤدّي إلى التخلّي عن التوافقات الاجتماعية. وعليه فإن هذه الآية إنما تخصّ سوء ظنّ الجاهلية بالله، والآراء الخاطئة في تلك المرحلة الجاهلية بشأن الله سبحانه وتعالى، وليس البحث حول عدم صحّة الأحكام الجاهلية. نعم، لو تحقَّق حسن الظنّ بالله فإن الكثير من الأمور سوف تتّجه إلى الصحّة، وهذا شيءٌ آخر.
الآية الثالثة: آية ﴿تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾
الآية الأخرى، وهي قوله تعالى: ﴿وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ (الأحزاب: 33)، ترتبط بتبرُّج الجاهلية، وهذا بدَوْره خارجٌ عن محلّ بحثنا تخصُّصاً. لقد كانت الفحشاء والفساد والمنكرات متفشّية ومنتشرة في الجاهلية. وهذه الآية إنما تنظر إلى هذه الظاهرة.
الآية الرابعة: آية ﴿حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾
الآية الرابعة قولُه تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ (الفتح: 26). إن هذه الآية ترتبط بدَوْرها بالحميّة والعصبية، والحميّة شيءٌ آخر لا ربط له ببحثنا؛ فإن الذي نريد قوله هو أنهم كانوا يمتلكون آليّةً باسم التوافق، وكانت هذه الآليّة توصلهم في بعض الأحيان إلى العدالة، إلاّ أن هذه الآية غير ناظرةٍ إلى موضوع بحثنا.
التقابل بين حكم الله وحكم الجاهلية في الروايات
هناك روايةٌ مأثورة عن الإمام الصادق× تقول: «الحكم حكمان: حكم الله؛ وحكم الجاهلية. فمَنْ أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية»([15]). إن هذه الرواية ترتبط بالآية المتقدّمة، ونعني بها قوله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ (المائدة: 50). ويبدو أن هذه الرواية واردةٌ في سياق القضاء. إن هذه الرواية تقول: إن هناك تقابلاً وثيقاً بين حكم الله وحكم الجاهلية، بحيث لو أن شخصاً أخطأ اكتشاف حكم الله بمقدار أنملة فإنه سيقع لا محالة في حكم الجاهلية. نحن مكلَّفون بأن نفسِّر آيات القرآن في ضوء الأحاديث، وحيث تكون رؤيتنا تاريخية فإنه، بالإضافة إلى الرواية، يجب أن نلاحظ تاريخ الإمام الصادق× أيضاً. إن معنى الرؤية التاريخية هو دراسة جميع الأبعاد التاريخية، دون الخضوع للمؤثِّرات. فإنْ تمّ التوصُّل إلى فهمٍ آخر فهذا بحثٌ آخر.
_ هل تريدون القول: إن كلام الإمام الصادق× ناظرٌ إلى حكم أهل السنّة؟
الفرق الدلالي بين الآية والرواية
^ رُبَما كان لديهم كلامٌ في هذا الشأن. يجب عدم تجاهل هذه النقطة، وهي أن الروايات كانت عملانيةً إلى حدٍّ ما، بمعنى أن الروايات ـ خلافاً للآيات ـ لم تكن بأجمعها ذات مدلولٍ واحد إلى الأبد؛ وذلك لأنها كانت تقع في أوضاع متغيِّرة، ومن ذلك مثلاً أنها في موضعٍ تنفي خبر الواحد، وفي موضعٍ آخر ترتضيه وتقبل به. وعندما تقوم بنفي خبر الواحد إذا لم يكن الشخص على درايةٍ تاريخية فإنه لن يفهم أن هذا الخبر الواحد هو روايةٌ منقولة من طرق أهل السنّة، أو أن راويها هو أبو هريرة الدوسي، أما الرواية التي تقبل خبر الواحد فهي ناظرةٌ إلى خبر الواحد الذي يرويه زرارة بن أعين مثلاً، أو أنه تمّ بحثها خبر الواحد ضمن منظومة ومدرسة أهل البيت^. وعلى أيّ حال إن هذه القرينة على خلاف مدّعانا.
_ لقد ذكرتم آيات وروايات تشكّل قرينةً على خلاف مدّعاكم. فهل تعملون على توجيهها؟
^ أجل، إنما كان هناك تفسيرٌ واحد فقط على خلاف المدّعى. أما الآيات الأخرى فقد كانت خارجةً تخصُّصاً. ومن الآيات التي تحدَّثت عن الجاهلية كانت هناك آيةٌ جعلت حكم الجاهلية في مقابل حكم الله. وعلى كلّ حال لو قبلنا بالتفسير الأوّل تنتفي العدالة التوافقية؛ وإنْ قبلنا بالتفسير الثاني يكون للتقابل معنىً خاصٌّ؛ وإذا كان هناك من تفسيرٍ ثالث فإن البحث سيغدو جَدَلياً، ولكنْ لن يكون هذا التفسير مؤثِّراً جدّاً.
_ في الآيات التي ذكرتموها بوصفها قرائن على خلاف مدّعاكم وردت تعابير من قبيل: «الجاهلية»، و«حميّة الجاهلية»، و«حكم الجاهلية»، وما إلى ذلك من التعبيرات الأخرى، إلا أن بعض الآيات لا يسمّي الجاهلية، ولكنْ رُبَما يُنكر التوافق الجاهلي مباشرةً، ومنها: الآيات التي تستقبح تقليد الآباء؛ لأن سلوك الآباء له جذورٌ في التوافقات الاجتماعية التي تنتقل عبر الأجيال. وليس جميع هذا النوع من الآيات مرتبطٌ بالتوافقات الاجتماعية. فكيف تجيبون عن هذا النوع من الآيات؟ وهل يمكن لهذه الآيات أن تبطل النزعة التوافقية؟
آية استقباح التقليد
^ لا يمكنها ذلك؛ إذ لو كانت هناك آية تشكّك في جميع كينونة وأحكام الجاهلية، كما هو الحال بالنسبة إلى هذه الآية ـ بناءً على التفسير الأول ـ كان الجواب بالإيجاب. فإنْ كانت الآية قابلةً للحمل، وكان هذا الحمل موجّهاً، عندها ستغدو الآية خارجة تخصُّصاً، كأنْ نقول مثلاً: إن الكلام في التقليد كان يخصّ المسائل الوثنية والشرك والعقائد وما إلى ذلك. وقد كان بحثنا منذ البداية يدور حول الدوائر الاجتماعية، وإن هذه الروابط هي التي تعطي العدالة مفهومها، ومن دون الربط لا تكتسب العدالة معناها. إن الروابط الاجتماعيّة روابط توافقية. يضاف إلى ذلك أنه لو كانت بعض موارد تقليد الآباء تشمل المسائل الاجتماعية كان ذلك أمراً في مقابل التوافق. وكانت هناك أشياء يتمّ التوافق عليها اجتماعياً؛ كي تؤدّي إلى تحقيق العدالة، ويتحالفون فيما بينهم، ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن العرب في العصر الجاهلي كانوا يفهمون بعض الأشياء، ولكنهم يعملون على خلافها. وممّا ورد في هذا الشأن: «إنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إيّاه؛ واذا وجب على أقويائهم بالغنى والشرف في الدنيا لم يأخذوهم به»([16]). ولكنّ هذا لا يعني أنهم كانوا يعتبرون ذلك عادلاً، أو أنهم لم يكونوا يمتلكون القدرة على مواجهته. ونعني بذلك أن هذه الظاهرة لا تنسف جميع ما كان لدى المجتمع الجاهلي من الأحكام والتوافقات أو يشكِّك فيها؛ لأنها إما أن تكون ناظرةً إلى الأبحاث الاعتقادية فقط، أو إذا وسَّعنا دائرة النظر وجب أن نرى ما مدى هذه السعة؟ كما كانت هناك موارد يمكنهم التوافق عليها ـ كما كان ذلك متحقّقاً في الواقع ـ، حيث يمكن للمجتمع الجاهلي أن يتّفق على بعض الموارد، ولكنهم لم يكونوا يمتلكون البنية لذلك، أو أنهم كانوا يقلِّدون آباءهم أو أيّ شيءٍ آخر. وعليه فإن ما أشرتُم إليه لا يمكن أن يكون دليلاً على النفي.
_ هل يمكن القول ـ مضافاً إلى ذلك ـ: إن المعنى الآخر للتوافق هو رأي الأغلبية؟ وهذا ما لا يكتب له الاستمرار دائماً؛ كي يكون قابلاً للتقليد؛ لأن رأي الأغلبية يتغيَّر من عصرٍ لآخر. ومن هنا فإن ذلك التقليد كان ناظراً إلى الموارد الثابتة في الثقافة الجاهلية. وبعبارةٍ أخرى: لقد كانت الثقافة الجاهلية تحتوي على أصول ثابتة، ويمكن تقليدها؛ وأما في المجالات الأخرى، من قبيل: مجال التوافق الاجتماعي، فقلَّما نشهد حالةً من الثبات.
خلاصة فهم المجتمع الجاهلي لنصوص عصر النبيّ الأكرم
^ أجل، إن ما ذكرناه حتّى الآن يرتبط بعصر النبيّ الأكرم، حيث كان هناك رؤيةٌ وفهمٌ عامّ، وألقينا نظرةً على النصوص أيضاً. وإن هذا البحث يحتاج ـ بطبيعة الحال ـ إلى المزيد من القراءة، ومع ذلك فإن هذا المقدار من شأنه أن يقرِّبنا إلى نقطةٍ حسّاسة من الأفكار الجديرة بالطرح في عصر النبيّ. كما توصّلنا إلى هذه النتيجة، وهي أنه عند وقوع التعارض بين القرائن يكون الترجيح لقرائن القبول بالتوافق. وهناك في الوقت نفسه بطبيعة الحال قرائن على خلاف ذلك، وهي المرتبطة برواية الإمام الصادق×، وهذه الرواية ترتبط ـ كما هو واضحٌ ـ بعصرٍ آخر غير عصر رسول الله|.
فهم الناس للعدالة في عصر ما بعد النبيّ الأكرم
_ تحدّثنا حتى الآن عن عصر النبيّ الأكرم|. فلنتحدَّث الآن عن عصر الأئمة الأطهار^. فأوّلاً: كيف تعامل الأئمّة الأطهار مع مسألة العدالة؟ وثانياً: ما هو الموقف الذي اتَّخذه المسلمون حديثاً من نصوص الأئمّة الأطهار؟
الاحتمالات المختلفة لفهم العدالة بالنسبة إلى المسلمين حديثاً
^ نذكر لفهم الناس للعدالة في مرحلة ما بعد عصر النبيّ ثلاثة احتمالات، ثم نتعرّض بعد ذلك إلى بيان أدلة كلّ واحد من هذه الاحتمالات:
1ـ حيث لا يكون للشارع حكمٌ تكون العدالة متروكةً للناس: الاحتمال الأول أن ينظر الناس إلى العدالة بوصفها نصوصاً أو أحكاماً شرعية ـ تسمّى حاليّاً (فقهية) ـ جاءت لتنظيم مساحة كبيرة من مصاديق العدالة، وتقديم أحكام خاصّة في مواردها، أما القسم الآخر فقد تمّ تفويضه إلى الناس. أو بعبارةٍ أفضل: حيث أن الشارع لا يتدخل أو يتصرَّف في هذه المساحة فإنها تكون تحت تصرُّف الناس تلقائياً. إذن فالاحتمال الأوّل هو أنه كلّما يكون للشارع كلامٌ وحكمٌ لضمان العدالة بخصوصها فإن الناس سيكونون متعبِّدين وملتزمين بذلك الحكم، وحيث لا يعمل الشارع على تقديم نصٍّ يضمن العدالة فإن الناس في مثل هذه الحالة سيعتمدون على مركوزاتهم الفطرية، ويرجعون إلى ما يفهمه المجتمع في هذه الأمور، أو إن رؤيتهم كانت منبثقةً عن مسار مؤلّف من مجموعة من الأفكار الاجتماعية.
2ـ إن لدى الشارع حكماً في جميع مجالات العدالة: الاحتمال الثاني أن الشارع لم يترك أيّ مساحةٍ من هذه المجالات دون نصٍّ. وعلى هذا الأساس فإن الناس كانوا يبحثون ـ في إطار تحقيق العدالة ـ عن حكمٍ للشارع؛ لكي يطبِّقوه، وكانوا يرَوْن هذا الحكم هو عين العدالة، ومن ذلك أنه يجب تطبيق أحكام الشارع بدقّةٍ لضمان العدالة في الفَيْء ـ على سبيل المثال ـ أو الصدقات أو الجهاز القضائي.
3ـ عدم تعبُّد الناس بالشارع في مجال العدالة: الاحتمال الثالث هو أن الناس لم يكونوا ملتزمين بالنصّ من الأساس، وأنهم كانوا ينظرون إلى العدالة ويعملون على تعريفها في ضوء رؤيتهم وفهمهم الخاصّ، أو أنهم يتوصّلون إليها طبقاً لمرتكزاتهم. إلاّ أن هذا الاحتمال الثالث احتمالٌ خاطئ؛ لأننا نرى القرائن المعبِّرة عن النزعة النصّية والتعبُّدية بين الناس بوضوحٍ. ففي الكثير من المواقع نجد كلمة العدل أو العدالة في النصوص الروائية أو التاريخية في ذلك العصر ممزوجةً برعاية الأحكام. ومن خلال نظرتي العابرة وقفتُ على موارد يُراد فيها من العدالة تطبيق بعض الأحكام. وعليه فإننا نتجاهل الاحتمال الثالث، ونبقى في الاحتمالين الأوّلين.
أما الاحتمال الأول فحتّى إذا تمّ إثباته نبقى أمام مفترق طريقين؛ فهل كانوا يرجعون إلى الحاكم أو النُّخَب لتحقيق العدالة؟ وهل كانوا يطبِّقون العدالة الفلسفية أم كانت لديهم عدالة توافقية بالمعنى التامّ للكلمة، وهي عدالة عُرفية منبثقة من صلب المجتمع والعلاقات الاجتماعية؟ وعليه حتّى إذا تمّ إثبات الاحتمال الأوّل نبقى على مفترق طريقين، بمعنى ما هي العدالة التي تتمخّض بمعناها الخاصّ من رحم غير الشرع؟
_ هل يأتي تدخُّل الشارع في جميع أبعاد العدالة أو بعضها؟ بمعنى هل يقتصر عدم تدخُّل الناس على خصوص الأحكام الإلزامية فقط، أم لا يجوز لهم التدخُّل حتى في مجال الأحكام غير الإلزامية (من قبيل: المستحبّات والمكروهات) أيضاً، أم أن الأمر بمعنى أن الناس إنما يتمكَّنون من الرجوع إلى توافقهم إذا لم يكن هناك أيّ نصٍّ في البين (لا على نحو الإباحة، ولا على نحو الوجوب، ولا على نحو الحرمة)؟
مزيدٌ من التوضيح بشأن الاحتمال الأوّل
^ توجد هنا مسألتان، فأيُّهما تقصدون؟ إحدى المسألتين: إن الناس كانوا يرجعون إلى مرتكزاتهم وفهمهم حيث لا يكون هناك نصٌّ من الشارع، وكانوا يطبِّقون العدالة على أساسٍ من رؤيتهم الخاصة، وكانوا يرَوْن ذلك بنحوٍ من الأنحاء مندرجاً تحت عنوان الشرع. وبعبارةٍ أخرى: يذهب فهمهم إلى أن الشارع في نهاية المطاف قد ترك منطقةً لهم، من قبيل: قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ (النحل: 90). فإن الله قد أمر في هذه الآية بالعدل، ولكنّه لم يبيِّن مفهوم العدل، وترك ذلك إلى رؤيتهم وفهمهم، أو الرجوع إلى رؤية وفهم الحكّام والنُّخَب. وبالتالي فإن فهمهم العام يتّجه إلى أنهم إذا كانوا يرجعون في تطبيق العدالة إلى رؤية الحكّام أو النُّخَب فهذا يندرج في نهاية المطاف تحت حكمٍ كلّي من الشرع، مع فارق أن تدخُّل الشارع هنا لا يكون بشكلٍ محدّد ومباشر، كما هو الحال بالنسبة إلى المواريث والفرائض والقضاء.
_ على سبيل المثال: هل تعتبرون موارد من قبيل: «رُفع عن أمّتي ما لا يعلمون» ـ حيث أجرى الشارع أصالة البراءة ـ من التدخُّل أم من النصّ؟
هناك تدخُّل للشارع في مجال الإباحة الشرعية بالمعنى الأعمّ
^ يمكن التطرُّق هنا إلى بحثين: أحدهما: البحث النظري، الذي يرى في هذه الأمور نوعاً من تدخُّل الشارع، بمعنى أنه حيث يجب عدم خروج أيّ مجالٍ من دائرة تشريعه من الطبيعي أن يقدّم بعض الأبعاد على شكل مباحات (بمعنى المباحات بالمعنى الأعمّ والمباحات بالمعنى الأخصّ)؛ والآخر: البحث التاريخي عن فهم الناس في ذلك العصر، بمعنى أن فهمهم كان قائماً على وجود دائرة المباحات بالمعنى الكامل والعامّ. ومن هنا حيث لا يكون هناك نصٌّ أو حكم من وجهة نظرهم فإنهم كانوا يبيحون ذلك لأنفسهم. أما السؤال القائل: هل كان لدى الناس مثل هذا الفهم ـ ولو على نحو الارتكاز ـ أم لا؟ فهو في حدّ ذاته يحتاج إلى إجابةٍ تاريخية. إننا عند التنظير بشأن تدخُّل الشارع يمكن لنا أن نقدِّم مثل هذا الجواب، وهو هل كان الناس في ذلك العصر يرَوْن مفهوماً واسعاً لتدخُّل الشرع، بحيث يشمل التدخُّل المباشر والمحدّد من قِبَل الشارع، أو يشمل تفويضه إلى المكلَّف، أو منطقة المباح التي كان الشارع قد أعلن عنها؟ إن كلّ واحد من هذه الاحتمالات يحتاج إلى إجابةٍ تاريخية. ونحن نرى عدم الفرق بين كفّة هذه الاحتمالات، فما أن نصل إلى أحدها حتّى يكون الشارع قد طالب الناس بتطبيق العدالة. وهذا المقدار يكفي لاعتبار العدالة التوافقية.
أمر الشارع بالعدالة يؤيِّد تفويض العدالة
من الممكن أن تثبت الكفّة الأخرى من هذه الاحتمالات، بمعنى أن يثبت أن الناس لم يكن لديهم هذا الفهم القائل بأن الشارع قد بسط مظلّةً على جميع أبعاد العدالة، وفي مثل هذه الحالة فإن الناس إذا لم يجدوا ـ بشكلٍ ارتكازي ـ قيداً من قِبَل الشارع فإنهم سوف يستنتجون بطبيعة الحال أن الشارع قد فوَّض الأمر إليهم، وكانوا لذلك يرجعون إلى أنفسهم. فكما أن إطاعة الوالد واجبةٌ، إلا أن هذا الوالد إذا لم يصدر أمراً فإن الولد سوف يستنتج أن والده قد ترك تشخيص المسألة إليه. وعلى كلّ حال إن هذا الجواب يحتاج إلى دقّةٍ تاريخية أخرى، وحيث إن إثبات أو عدم إثبات هذا الموضوع لن يختلف بالنسبة إلينا يبقى هناك احتمالان، وهما: هل تنبثق العدالة من صلب أفكار الناس أم لا؟
ـ يتبع ـ
الهوامش
(*) عالمُ دينٍ في الحوزة العلمية في قم، وأستاذٌ على مستوى بحث خارج الفقه والأصول. شغل الكثير من المناصب، ومن بينها: مدير مركز التحقيقات في مجمع التقريب بين المذاهب. كما مارس التدريس في بعض الجامعات. وله من الأعمال: (موسوعة الإجماع في فقه الإمامية)، بالإضافة إلى الكثير من المقالات والدراسات.
وقد شارك في الحوار: إبراهيم شفيعي سروستاني، وعلي شفيعي، وسيف الله صرامي، ومحمد رضا ضميري، وسعيد ضيائي فر، وحسن علي علي أكبريان.
([1]) نظرية الشهيد الشيخ مرتضى المطهري.
([2]) أونوشيروان أو كسرى الأول (501 ـ 579م): كسرى أونشيروان بن قباذ بن يزدجرد بن بهرام جور، ويعرف باسم أنوشيروان العادل (بالفارسية: انوشيروان دادگر). حكم الإمبراطورية الساسانية ما بين (531 ـ 579م). خلال عهده ازدهرت الفنون والعلوم في بلاد فارس، وهو أحد الأباطرة الأكثر شعبية في الثقافة والأدب الفارسي. المعرِّب.
([3]) وهو الحلف المعروف بـ (حلف الفضول). هو أحد أحلاف الجاهلية التي شهدتها قريش في دار عبد الله بن جدعان التميمي، بعد شهرٍ من انتهاء حرب الفجّار، وقد تمّ التوافق فيه بين القبائل أن لا يُظْلَم أحدٌ في مكة إلاّ ردّوا ظلامته. وقد شهده النبيّ الأكرم|، وقال عنه لاحقاً: (لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان ما أحبّ أن لي به حمر النعم، ولو دُعيتُ به في الإسلام لأجبتُ). المعرِّب.
([4]) انظر: الأنعام: 151؛ الإسراء: 31.
([5]) إشارة إلى الكتاب رقم 53 من نهج البلاغة. (عهده إلى مالك الأشتر النخعي حين ولاّه على مصر).
([6]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 2: 178، أبواب الجنابة، ح14، مؤسّسة آل البيت^.
([7])إشارة إلى الآية 4 من سورة قريش: ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾.
([8]) هذا الشطر من بيتٍ لقصيدة لبيد بن أبي ربيعة، نذكر منها الأبيات الثلاثة التالية؛ لصلتها بموضوع بحثنا:
وجزور أيسار دعوت لحتفها *** بمغالق متشابه أجسامها
أدعو بهن لعاقر أو مطفل *** بذلت لجيران الجميع لحامها
فالضيف والجار الجنيب كأنما *** هبطا تبالة فحصبا أهضامها
في دلالة على أن الكرم كان أثيراً عند العرب، وأنه كان من بواعث الميسر عند أجوادهم وأثريائهم إذا اشتدّ البرد وكلب الزمان؛ ليطعموا ذوي الحاجة الجزور التي تياسروا عليها. وإن لبيد يقول في هذه الأبيات: ربّ جزورٍ ممّا ينحره أصحاب الميسر دعوتُ ندمائي لنحرها بسهام الميسر المتشابهة الأجسام، وأنا أدعو بالقداح لنحر هذه الناقة ـ سواء أكانت عاقراً أم ذات ولد ـ، وأبذل لحمها للجيران جميعاً، فالضيوف والجيران يشبعون، كأنهم نزلوا بوادي تبالة الخصبة سهولة. و(تبالة) موضع ببلاد اليمن يُضرب المثل بخصبه. المعرِّب.
([9]) بيت للشاعر الجاهلي عنترة بن شداد العبسي، من قصيدةٍ يقول في مطلعها:
يا عبل أين من المنية مهربي *** إنْ كان ربي في السماء قضاها
المعرِّب.
([10]) نهج البلاغة 3: 106، الكتاب رقم 52 (عهده إلى مالك الأشتر)، تحقيق: محمد عبده، دار المعرفة.
([12]) الكليني، الكافي 7: 280.
([13]) الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه 4: 365: «يا عليّ: إن عبد المطّلب× سنّ في الجاهلية خمس سنن أجراها الله ـ عزَّ وجلَّ ـ في الإسلام: حرّم نساء الآباء على الأبناء؛ فأنزل الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾. ووجد كنـزاً؛ فأخرج منه الخمس وتصدَّق به؛ فأنزل الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ…الآية﴾. ولمّا حفر بئر زمزم سمّاها سقاية الحاج؛ فأنزل الله تبارك وتعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ…الآية﴾. وسنّ في القتل مئة من الإبل فأجرى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ ذلك في الإسلام. ولم يكن للطواف عددٌ عند قريش فسنّ لهم عبد المطّلب سبعة أشواط، فأجرى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ ذلك في الإسلام».
([14]) النوري، مستدرك الوسائل 17: 152.