التسامح والتعايش نموذج
إيمان شمس الدين
هناك آثار نفسية عميقة تتعلق بالأفراد لكنها لها انعكاسات خطيرة على المجتمع سواء آنيا أو استراتيجيا.
ومنظومة القيم التي تعتبر من أهم ما يوجه السلوك وضبط النفس، يمكن اعتبار بعضها قيم نفسية سلوكية فردية وأخرى قيم سلوكية اجتماعية لكنها مؤثرة مباشرة بالبعد النفسي للفرد والمجتمع.
فالعدالة ذات بعدين نفسي وسلوكي وفردي واجتماعي، وهي مؤثرة بل مقوم ضروري لقيم أخرى في تحقيق السلم الاجتماعي والأهلي.
العدالة تحتاج تحقق على مستويين:
– مستوى نفسي فردي
– مستوى سلوكي اجتماعي
تحقيق العدالة على المستوى النفسي في بعدها القيمي، هي خطوة لتهييء القابليات الفردية والاجتماعية لقبول العدالة في الخارج، سواء على مستوى الدولة والحكم أو على مستوى المجتمع.
لذلك السعي نحو العدالة في كل أبعادها يتطلب التالي:
– دولة عادلة و تتمظهر عدالتها في القوانين الناظمة، والدستور الحاكم، ومنهجها في القيادة داخليا وخارجيا.
– نظم تعليمية تؤسس لمنظومة القيم، وتعلم الأجيال نظريا وعمليا منظومة القيم وخاصة العدالة وأثرها الفردي والاجتماعي.
– مؤسسات دينية تدعم وتراقب مسيرة العدالة وتهيئة قابليات المجتمع لقبول الحق والعدل. بل تقدم نموذج عملي في ذلك.
– مؤسسات مدنية توظف طاقاتها في سييل العدالة الاجتماعية والعمل الميداني الاجتماعي وترشيد الأفراد خاصة المقبلين على الزواج، في تنشئة أجيال على منظومة القيم وأهمها أهمية تحقيق العدالة في الحفاظ على كرامة الفرد والمجتمع والدولة.
وفي القرآن كثير من الآيات كانت توضح هدف بعثة الأنبياء وهي تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال نفي الشرك و بناء مفهوم التوحيد وفق أسس سليمة.
بل أمر الله أنبياءه بالعدل حيث قال :
الشورى / الآية 15
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ
وفي النحل / آية ٩٠
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
أهمية العدالة:
أن تحقيق العدالة بكافة مصاديقها تتطلب بداية إزالة كل ما تم تحميله من فهم هذا المصطلح ، فهو يشكل المدخل السليم والحقيقي للتوحيد ، وأهم ما تحقق العدالة هو رفع الحجب التي فرضتها المسلكيات البشرية نتيجة الفهم البشري المتراكم للنص الديني والذي غالبا ما انحرف عن واقع الأمر، مما أدى إلى حجب الحقيقة وتشويه المفاهيم وتغييب منظومة القيم ،مما انعكس بالتالي على السلوك فتشكلت منظومة مفاهيمية بعيدة عن الحقيقة ورست على ضوئها منظومة سلوكية بعيدة عن الواقع، فحجبت الحقيقة وعلى ضوئها حجبت المعارف وألبست العدالة لباس آخر تحكمه الأهواء والاستمزاجات الشخصية .
إن تحقيق العدالة وفق واقع الأمر يعني رفع كل تلك الحجب عن العقل البشري ، واستجلاء المفاهيم وفق دلالاتها واستعمالاتها وبناءاتها الصحيحة ليتجلى الأمر بحقيقته بعد ذلك في النفس، لترى الحقيقة وتستقيم الذات وفق أسس العدالة السليمة ، وتنعكس عدالة الذات على تحقيق العدالة في الخارج فترتفع الحجب عن كثير من المعارف والعلوم،وتنتظم الحياة تحت عنوان القيم وجوهرها العدالة.
إن العدالة هي مطلب قيمي مهم في المجتمع ، لأن مقصد تحقيق العدالة هو تحقيق كرامة الإنسان، وتحقيق كرامة الإنسان مطلب لأداء وظيفته الاستخلافية وفق الرؤية الإلهية في الأرض ليقيم المشروع الالهي فيها.
فوفق مقولة العدالة تتحقق الحريات بما يحقق العدالة ، وتكون المساواة وفق ما يحقق العدالة ، وتنتظم لذلك مجموعة الحقوق والواجبات وفق مطلب تحقيق العدالة ، وإذا تحققت هذه القيم في طول مطلب العدالة تحققت بذلك كل مقومات الكرامة الإنسانية وتأهلت النفس لأداء دور الخلافة على الأرض.
فكلما ازداد منسوب العدالة في النفس كلما ازداد في الخارج، وكلما انتظمت القيم وبالتالي ارتقت كرامة الإنسان، فالعلاقة بين العدالة والكرامة علاقة طردية .
ومن فروع العدالة المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، وفي تطبيق القانون، واعتماد مبدأ تكافؤ الفرص، لما لذلك من أثر كبير على نفس الفرد و المجتمع.
فالاحساس بالإنصاف وعدم الظلم يخلق في نفس الفرد حالة الرضا والاتزان وحب الوطن، وبالتالي تنبعث لديه قيم التسامح والتعايش بشكل تلقائي وكنتيجة حتمية لتلك المساواة.
التسامح والتعايش قيم تتقوم بتحقيق العدالة والمساواة، وهي قيم نفسية تتحقق نفسيا و تلقائيا كنتيجة للعدالة والمساواة.
التمييز وانعكاساته:
التمييز كقيمة سلبية حينما تمارسه الدولة بين مكونات المجتمع، فهي تدفع باتجاهات خطيرة اجتماعيا والمتضرر منها المجتمع أولا وأخيرا.
فن استخدام السلطة لسلاح التمييز ضد الأقليات على أساس مذهبي أو طائفي يخلق شعور نفسي بالظلم، وهو ما ينعكس على قيم التسامح والتعايش التي هي قيم نفسية وليست شعارات و مقولات للاستهلاك ولا إعلانات مدفوعة الثمن.
فلكل من التسامح والتعايش مقومات هامة إذا ما توفرت فإنها تعمل على اعتدال النفوس وانتظامها اجتماعيا.
ومن أهم مقومات التعايش والتسامح هي المساواة والعدالة.
فالمساواة والعدالة قيم سلوكية فعلية تطبيقية تظهر أثارها على المجتمع بشكل كبير في النهضة والتنمية.
فهي ترتب الأولويات وتوجه الطاقات في حال تحققت في المجتمعات، وتهيئ القابليات لقيمتي التعايش والتسامح ليصبحا شعورا ذاتيا لا يحتاج دفع أو تعليم.
فيتقوم المجتمع بهما وبالتالي تصبح انشغالات المجتمع وأولوياته تنصب على التعليم والابداع والتنمية والنهضة، بدل انشغاله بالتناحر الداخلي المذهبي والطائفي الذي يستهلك النفوس في الحقد والكراهية ويشغلها عن دورها في نهضة الوطن وتنمية موارده .
فالتمييز المذهبي والطائفي نوع من أنواع الإرهاب الفكري الذي ينتج مجتمعا منافقا .
تقنين قوانين تكرس من التمييز كممارسة سلوكية ضد الأقليات، يدفع ببعض مكونات المجتمع وأفراده، بإظهار قناعات مختلفة، بعضها مزيف والبعض الآخر حقيقي، والمزيف هو ما تظهره هذه المكونات من قناعات ناتجة إما عن الإعلام الموجه، أو الشعوبية التي تضغط باتجاه تبني قناعات من لون واحد تناسب قناعاتها الخاصة حتى لو كانت قناعات فاسدة ومضرة، هذه القناعات قد تكون تشكلت في ظل ظروف سياسية أو اجتماعية، يكون فيها للأكثرية الفصل في تبني الرأي وفرضه على باقي مكونات المجتمع إما بالإرهاب الفكري، أو باستغلال القوانين فيما لم تقنن له، من خلال ثغرات قانونية وضعها المشرع كي ينفذ إليها القانوني ويوظفها باتجاهات معينة ليس من بينها مقاصد التنمية والنهضة، وإنما غالبا الفتنة وإشغال المجتمع داخليا بقضايا فرعية ليست ذات قيمة حقيقية، لتتفرغ السلطة وتتحكم في مؤسسات الدولة بعيدا عن رقابة المجتمع أو متابعته.
فيظهر المكون المضطهد قناعات ظاهرية تتناسب وروح المجتمع، لكنه داخليا لديه قناعات مغايره، وقد يكرس ذلك حالة النفاق الاجتماعي، وعدم شعور المضطهدين بالقدرة على الاندماج والتعايش، وتغيب قيمة التسامح نتيجة توظيف القوانين في الانتقام والرصد.
هذا التمييز القائم على العصبيات المذهبية والطائفية ينتج عنه غياب العدالة وبالتالي تحقق الظلم بحق مكون من مكونات المجتمع.
وهو ما يعني ظهور تأثيرات واقعية على هذا المكون أهمها:
– انكفاء المكون المضطهد على ذاته، وظهور شعور بالغبن الاجتماعي، و يتنامى لديه الشعور بالانتماء لمذهبه على حساب شعوره بالانتماء للوطن، ويؤدي في هذه الحال ذلك إلى بروز حالات التطرف والتشدد التي قد تنعكس على السلوك الاجتماعي وتؤثر في التسامح والتعايش الاجتماعي لغياب العدل، بالتالي فقدان الشعور بالانتماء والأمن المولدان للشعور النفسي بقبول التعايش والتسامح مع الآخر.
– هجرة بعضهم إلي الخارج، وهو ما يجعل المجتمع لونا واحدا يفقده عناصر قوته الكامنة في التنوع، وقد يشعر الفرد المغبون اجتماعيا بالانفصال عن وطنه واللجوء لجغرافيا تنصفه وتشعره بالأمان الاجتماعي.
– التمترس بالقبيلة والمذهب واللجوء لقوانينها وعدم الاكتراث بالدولة نتيجة تمييزها وازدواجية معاييرها، وهو ما يدفع باتجاه الخندقة الاجتماعية، وازدياد منسوب العصبيات وغياب دولة القانون والمؤسسات.
- من يمارس ضده التمييز سواء كانت أقليات أو أفراد قد يخلق لديهم رد فعل نفسي يتمثل في رفض الآخر، بالتالي التمسك لا بالدولة والمجتمع، بل
بالإنتماء الخاص ويكرس ما لديه من معتقدات أو قيم فاسدة، كون العدالة تحقق عند الفرد رغبة حقيقية في الاندماج والانخراط بالمحيط دون هواجس، وهي فرصة ذهبية لتبادل المعارف وتصحيح المعتقدات وتوجيه القيم ونهضتها.
التسامح والتعايش قيم نفسية شعورية ذاتية تتولد كنتاج للعدالة الاجتماعية والاقتصادية والدولتية، وتحقيق نظرية تكافؤ الفرص للجميع، والتمييز التنافسي الذي يدفع باتجاه تطوير الفرد وتطوره وينهض بالمجتمع والدولة، والتمييز التنافسي يعني أن مبدأ تكافؤ الفرص متاح للجميع، لكن نتاج كل فرد وكفاءته هي من تحدد حقانيته بالمميزات وتمييزه بالمرتبة والمنصب، أي يكون تمييزه وانتخابه للترقيات نتاج عمل وجهد وتميز وعطاء، وهذا يفتح باب التنافس بين أفراد المجتمع لتحقيق الأحسن، وتطوير القدرات والنتاجات بما يحقق النهضة.
أما التمييز التناحري، هو الذي يكون على أساس الانتماء سواء القبلي أو المذهبي، أو القرابة النسبية، أو تقصير الدولة بواجباتها مما يجعل من النواب ممثلين الأمة سعاة خدمات لتحقيق عدد أكبر من الأصوات حتى لو على حساب دولة القانون والمؤسسات.
هذا بذاته يكرس الفساد والتقسيم الاجتماعي، ويخلق حواجز نفسية نتيجة الإحساس بالغبن، أو التفوق بغير وجه حق، فيجعل من المجتمع طبقات، ومن الصعب في المجتمع الطبقي أن تجد قيم التسامح والتعايش متحققة إلا في الإعلانات والشعارات.
أهم مقومات قيمتي التسامح والتعايش هي العدالة، وتحقيق الكرامة الإنسانية، وهذا يحتاج قيام دولة مؤسسات وقانون قادرة على تكريس قيم المواطنة الحقيقية، وتطبيق القانون على الجميع دون تمييز، وعدم استغلال القانون في تقسيم المجتمع واستضعاف الأقليات فيه.