أحدث المقالات

ـ الحلقة الثانية ـ

حيدر حبّ الله(*)

 

2ـ مرجعيّة المبادئ الفقهيّة التحوّليّة المساعدة (نظريّة مشهور الفقهاء)

اختار هذه النظريّة جمهور الفقهاء القدامى والمعاصرين. وهي نظريّة ترى عدم وجود منطقة فراغ في الشريعة الإسلاميّة، كما أنّه لا توجد متغيِّرات يمكن للفقيه أن يسنّ القوانين لها، بل ليست له مثل هذه الصلاحيّة أساساً، والخطأ الذي حصل هو تصوّر وجود عجز داخل المنظومة الاجتهاديّة أظهرها غير قادرة على تغطية مساحة المتغيِّرات، فألجأها لمرجعيّاتٍ مساعدة، كمرجعيّة وليّ الأمر في سنّ القوانين، في حين أنّ واقع الحال ليس كذلك، حيث جهَّزت المنظومة الاجتهاديّة بعدّةٍ ذاتيّة كافية لتغطية المستجدّات.

إنّ حلّ المشكلة ـ عند هذا الاتجاه ـ يكون من خلال وضع أربعة مبادئ متعاضدة متكاتفة متعاونة، وهي:

 

المبدأ الأوّل: تغيُّر الأحكام بتغيُّر العناوين

إنّ هذا المبدأ هو الذي يضمن ـ عند هذا الاتجاه ـ حركيّة الفقه، وهو الذي يُطلق عليه قديماً عنوان: (تبعيّة الأحكام للأسماء)، أو كما اصطلح عليه المتأخِّرون: (تبعيّة الأحكام للعناوين)، أو (تغيُّر الأحكام بتغيُّر موضوعاتها).

فالماء الطاهر يحتفظ بوصفه واسمه، ومن ثمّ جواز شربه والتوضُّؤ به، طالما لم يتَّصف بالنجاسة، ويتبدَّل اسمه إثرها، فيكون ماءً نجساً. فالأحكام تتغيَّر تبعاً لتغيُّر العناوين. وهذا الأمر موجودٌ في حياتنا بشكلٍ طبيعي؛ فربما يكون الشيء حراماً في فترةٍ من الفترات، وها هو اليوم يتحوَّل إلى حلالٍ؛ لتغيُّر عنوانه الذي صُبَّتْ عليه الحرمة إلى عنوانٍ يقتضي ويستدعي الحلِّيّة. وبهذه الطريقة نضمن عدم جفاف الشريعة وجمودها.

 

المبدأ الثاني: العناوين الثانويّة

يمكن الركون إلى العناوين الثانويّة لتكييف الحياة مع متطلَّباتها واقتضاءاتها؛ فحين يتزاحم الأكثر ضرراً مع الأقلّ ضرراً تأتي قاعدة التزاحم؛ لتقدِّم الأقلّ ضرراً على الأكثر؛ وحينما يكون الحكم المعيّن ضارّاً بمعنى من المعاني فسوف تتدخّل قاعدة (لا ضرر)؛ من أجل نفيه أو تحجيمه؛ وكذا الأمر في قاعدة (لا حَرَج) مثلاً. وهذا معناه أنّ الأحكام الأوَّليّة تقع على الدوام تحت سلطان العناوين الثانوية، القادرة على نفيها أو تحجيمها في موردها. فحينما تثبت الولاية لشخصٍ فغاية ما هنالك هو أنّه سوف يتمكَّن من إعمال القواعد الثانوية نفسها في المواطن المسموحة، وهنا لا يضع هو أيَّ حكمٍ، ولا يلغي أيَّ حكمٍ، بل يقوم بتطبيق الحكم الثانوي على مورده الخارجي. فدورُه تطبيقيّ تنفيذيّ، وليس تشريعيّاً تقنينيّاً.

 

المبدأ الثالث: عمومات الشريعة وإطلاقاتها

جاءت الأحكام في الشريعة الإسلاميّة على نحو القضيّة الحقيقيّة، أي إنّ موضوعها ليس الموضوع الخارجيّ الذي صدر الحكم لإعطاء موقفٍ إزاءه، بل هو موضوعٌ مقدَّر على طول الزمان، فكلَّما فُرض موضوعٌ بهذه المواصفات فهذا حكمه. وهذا يعني أنّ لمثل هذه الأحكام استمراريّة عالية في التطبيق، لا تقتصر على المصداق الخارجيّ في زمانها، بل تتعدّاه إلى كلِّ الأزمنة القادمة، شرط توفُّر نفس الشروط والمواصفات.

ومن خلال عمومات هذه النصوص وإطلاقاتها نستطيع أن نوفِّر الحكم المناسب لكلّ المتطلَّبات في عصرنا الحاضر.

فالاستصحاب روايةٌ وردت في باب الوضوء، وأخرى في باب الصلاة، لكنّ الفقيه الأصوليّ استنتج منها قاعدةً كلِّية عامّة، جعلتها تنطبق في جميع موارد الشكّ المسبوق باليقين.

كما أنّ الضرر الذي نفَتْه الشريعة كما ينطبق على تناول السمّ ينطبق أيضاً على استنشاق الهواء الذي يحمل إشعاعات نوويّة مثلاً، دون فرقٍ بينهما.

وهكذا الحال في (العقود المُستحْدَثة والمعاملات الجديدة)، فهي مشمولة لعنوان وجوب الوفاء بالعقود الوارد في الآية الأولى من سورة المائدة. فمهما كثرت المعاملات والعقود واستجدَّتْ فلدينا نصوصٌ عامّة ومطلقة زمانيّاً وأفراديّاً وحاليّاً تصلح لاستيعابها، بلا حاجةٍ إلى نصوصٍ خاصّة في واقعةٍ حادثة في هذا الزمان أو ذاك.

 

المبدأ الرابع: ولاية الأمر، من القوانين إلى المقرَّرات

حينما لا تنفع إطلاقات الشريعة وعموماتها في الاستجابة لابتلاءات الناس وقضاياهم في هذه العصور، كما في قوانين السَّيْر والبيئة، فإنّ المجيب في مثل هذه الحال هو النظام السياسي الذي يختاره الفقيه في عصر الغيبة، سواءٌ كان ولاية الفقيه العامّة أو شورى الفقهاء أو نظريّة ولاية الأمّة على نفسها أو غير ذلك.

وقد ذهب الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في نقده لنظريّة السيّد الصدر المتقدِّمة إلى أنّ الأحكام التي يسنّها وليّ الأمر ما هي إلاّ مقرّرات إجرائيّة تطبيقيّة، وليست قوانين تشريعيّة، ومن ثمّ لا تحمل هذه القوانين طابعاً تأسيسيّاً يقع في عرض وبموازاة أحكام الإسلام الأساسيّة. كما لا يوجد في الإسلام فراغٌ لكي تأتي مثل هذه الأحكام لملئه، بل هي قوانين جزئيّة، تتعلَّق بآليّة التطبيق، لا بالحكم نفسه.

ومجمل القول في هذه النظريّة: إنّ هذه المبادئ الأربعة هي التي تستطيع أن تحلّ لنا الأزمة التي تخلِّفها ما يُطلق عليه (منطقة الفراغ)؛ وذلك من خلال تغيُّر الأحكام تبعاً لتغيُّر عناوينها؛ أو من خلال العناوين الثانويّة؛ أو من خلال عمومات الأدلّة وإطلاقاتها؛ أو من خلال إعطاء وليّ الأمر صلاحيّة سنّ مقرَّرات إجرائيّة تطبيقيّة جزئيّة. ومن هنا حاول هذا الفريق من العلماء، الذين لأكثرهم موقفٌ سلبيّ من حركة التحديث في الفقه، أن ينتقدوا نظريّة الطباطبائي والصدر، حيث وسموا نظريّاتهم هذه بكونها تقرِّر نقصان الشريعة، وهو أمرٌ مسلَّم البطلان.

 

تساؤلات نقديّة في النظريّة المشهورة

هناك العديد من الملاحظات النقديّة على هذه النظريّة. ولا أريد الآن أن أخوض فيها؛ فالمجال لا يسمح، وأكتفي بمداخلةٍ واحدة، وهي أنّه من حقّنا هنا أن نتساءل: هل حقّاً أنّ الأحكام الولائيّة هي في واقع الأمر مقرَّرات إجرائيّة تنفيذيّة بسيطة، وليست سنّاً لقوانين إضافيّة، كما تحاول هذه النظريّة أن تبسِّطها؟!

يبدو لي أنّ الصدر والطباطبائي والمطهَّري وآخرين شعروا بأنّ مساحة الأحكام الولائيّة ليست بسيطةً، ومن ثمّ لا يمكن أن يقال: إنّها مجرّد إجراءات تطبيقيّة يسيرة، كما تذهب لذلك النظريّة المتقدِّمة؛ فكيف يمكن الذهاب إلى أنّ قوانين البيئة مثلاً هي أمورٌ بسيطة؟! وكيف يمكن أن نتعقَّل أنّ الشريعة التي اهتمَّتْ بطريقة دخول الإنسان إلى بيت الخلاء لم تهتمّ بقضايا الاحتباس الحراري وذوبان الجليد في القطب الشمالي والموادّ الكيميائيّة التي أُسِّست لها مجالس قانونيّة في العالم؛ بغية إيجاد الحلّ المناسب لها؟! كيف يمكن تبسيطها وجعلها قضايا جزئيّة بسيطة فيما أحكام الطهارة والنجاسة قضايا كلِّية وعميقة، تحتاج لتدخُّلٍ مباشر من الله تعالى؟!

من هنا، قد يصف المنتصرون لنظريّة أمثال: الصدر والطباطبائي… النظريّةَ أعلاه بكونها تبسّط المشكلة، ولا تنظر إليها بعُمْقٍ. فالدولة ومؤسَّساتها التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة، بمختلف تشعّباتها وتراتبيّتها، مع آلاف القوانين المتعلِّقة بعمل المحاكم والوزارات و…، تحتاج إلى رؤيةٍ معمَّقة لا يمكن طرحها من خلال المبادئ الأربعة التي طرحتها النظريّة المتقدِّمة. ولا يمكن افتراض جميع هذه الأمور ثانويّة بسيطة تحتاج إلى مقرَّرات إجرائيّة جزئيّة تطبيقيّة. كما لا يمكن للباحث أن يتعقَّل أنّ أمثال هذه الأمور تحتاج إلى قوانين إجرائيّة جزئيّة تفتقدها النصوص الشرعيّة الأساسيّة، بينما نجد نصوصاً شرعيّة في قضايا جزئيّةٍ بسيطة للغاية في حياة الإنسان! هذا كلُّه يدعونا إلى تقديم نظريّة أكثر عمقاً ودقّةً من هذه النظريّة.

إنّ تغيير كلمة (القوانين) إلى كلمة (المقرَّرات)؛ بهدف تبسيط دور العقل الإنساني وعقل وليّ الأمر في ما يقوم به، لا يغيِّر من واقع الحال شيئاً. فالنصوص الدينية الموجودة اليوم ليس فيها شيءٌ عن الكثير من هذه المسمّاة بالمقرَّرات، رغم أنّ هذه المقرَّرات تطال اليوم أبعاداً عميقة في تنظيم حياة الإنسان المالية والاقتصادية والسياسيّة والاجتماعيّة وغيرها، أليس من الأفضل أن نقول بأنّ حجم هذه التحوُّلات ـ مع عدم وجود نصوص، وإنّما مبادئ تشريعيّة عامّة ـ كاشفٌ عن أنّ الشريعة تركت هذا الأمر من الأوّل، وأوكلَتْ إلى العقل الإنساني أن يدير أموره في ظلِّ عناوين شرعيّة عامّة؟! فلماذا نبخل على العقل الإنساني في تسمية نشاطه الضخم هذا بأنّه تقنينٌ، ونقوم بتقزيم جهوده، عبر وصفها بأنّها مجرَّد مقرَّرات أو تطبيقات؟! وسوف يأتي مزيدٌ من توضيح هذا النقد عند استعراض نظريّة العلاّمة شمس الدين.

وخلاصةُ القول: إنّ إعطاء شخص ثلاث أو أربع قواعد قانونيّة عامّة؛ ليقوم بوضع مئات المقرَّرات في ضوئها، يستدعي منطقيّاً تسمية جهوده هذه بالتقنين الجزئي تحت سقف الدستور الكُلِّي؛ فليست القوانين الجزئيّة في كثيرٍ منها سوى استعانة بكُلِّيات الدستور، وتحويلها إلى مفردات قانونيّة، فكيف نسلب وصف التقنين عن كلِّ هذا؟ وما هي معايير تسمية هذا الجهد تقنيناً أو سَنّاً لمقرَّرات؟ هل قدَّمت هذه النظريّة رؤيةً تمييزيّة بين جهود التقنين البشري (المقرَّرات) وما تقدِّمه النصوص الدينية من قوانين جزئيّة كثيرة أيضاً، حتّى نقول: هذا تقنين، وذاك ليس بتقنين؟! وأين؟! وهل التقنين ـ بوصفه مفهوماً ـ مشروطٌ بالخلود، فنحن لا نريد أن نخلع على هذه الجهود اسم القانون الكُلِّي الأبدي، لكنَّ توصيفه بأنّه تقنين ـ ولو زمنيّ ـ ليس أمراً غير موضوعيّ أبداً، بعيداً عن أيديولوجيا التبرير والتوجيه.

 

3ـ مرجعيّة أدلّة التشريع العليا المساعدة (نظريّة العلاّمة شمس الدين)

يذهب الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين إلى أنّ المرجعيّة المساعدة لحلّ أزمة المتغيِّرات هي ما يُسمَّى بـ (أدلّة التشريع العليا). ولهذا لم يقبل& بالنظريّة الأولى واتّجاهاتها، ولا بالنظريّة الثانية ومبادئها.

لقد مال العلاّمة شمس الدين إلى أنّ الشريعة الواقعيّة في اللوح المحفوظ شاملةٌ لكلّ الوقائع والأحداث، لكنّ النصوص الواصلة إلينا لا تفي بذلك، وليس لها قدرة شمول لكلّ الوقائع الحادثة، ولا يمكن للنصوص ـ خلافاً للإجماع الإماميّ ـ أن تُغطّي مساحات الحياة، لا بالعمومات ولا بالإطلاقات. بينما المعروف والمشهور في الفقه الإماميّ أنّ الشريعة، بوجودها الواصل، لها قدرة تغطية جميع متطلَّبات الحياة؛ إمّا بنحو الحكم الواقعي؛ أو بنحو الحكم الظاهري، سواء أكان أمارةً أم أصلاً عمليّاً، كما هو معروفٌ في علم أصول الفقه، بمعنى أنّها تغطّي مساحات الحياة كلّها؛ إمّا عبر الحكم الواقعي؛ أو الظاهري الظنّي؛ أو عبر الأصل العملي.

وهذه النقطة في نظريّة شمس الدين تشبه ما ذهب إليه أهل السنّة؛ إذ إنّهم لجأوا إلى القياس؛ لعدم توفّر نصوص دينيّة أو نصوص من الصحابة أو إجماعات؛ لحلّ القضايا المُستحْدَثة في حياتهم. ومن هنا تداول في فقهم اصطلاح: (ما لا نصّ فيه). لكنّ الفقه الإماميّ لا يعاني من هذه المشكلة من وجهة نظره؛ إذ لا توجد مسألةٌ مُستحْدَثة لا يوجد فيها نصٌّ يقدر على تغطيتها، سواء كان هذا النصّ يقدِّم حكماً ظاهريّاً أماريّاً، أم كان مرجعاً لأصلٍ عملي له قدرة التغطية، كما هو مبحوثٌ في علم أصول الفقه الإمامي.

من هنا نرى أنّ تنديد أئمّة أهل البيت النبويّ بالقياس، وتحريمهم استخدامه في الأحكام الشرعيّة؛ لأنّهم قالوا: إنّ استخدام القياس مع وجود النصّ يعني مَحْق الدين والشريعة. وهكذا طلبوا من مستخدمي القياس أن يرجعوا إليهم؛ كي يعرِّفوهم ما قاله الله وما قاله رسوله، لا أن يتمسَّكوا بعدم وجدان النصّ؛ بغية تمرير قياساتهم، واستنساخ حكم أقرب الأشياء إلى القضيّة.

إنّ أدلّة التشريع العليا هي الحاكمة في دائرة ما لا يوجد فيه نصٌّ مباشر أو شبه مباشر، عند العلاّمة شمس الدين. وهذه المبادئ هي قوانين وقواعد كبرى أشبه بالدستور، وفي ضوئها تُسَنّ القوانين التفصيليّة المدنيّة، والجزائيّة، والتجاريّة، والجنائيّة…

فإذا اعتبرنا آية: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الحجرات: 10) دستوراً دينيّاً يمكن سنّ القوانين الجزئيّة على أساسه، مثل: تزاوجوا، تزاوروا، تحالفوا.

وإذا اعتبرنا مبدأ (حفظ الأمّة الإسلاميّة)، من خلال ملاحظة خطوط الشريعة العامّة، فيمكن أن يسنّ على أساسه مجموعة من القوانين التي تحفظ للدولة الإسلاميّة قوَّتها…

وهكذا يخلُص شمس الدين إلى ضرورة استقصاء المبادئ العليا للشريعة في الاجتهاد المعاصر، وهذه المبادئ العليا تشبه مفردة (المؤشِّرات) التي جاءت في بعض نصوص السيّد الصدر.

فالفارق بين نظريّة شمس الدين وكلٍّ من: نظريّة المشهور؛ ونظرية الصدر والطباطبائي، هو أنّ شمس الدين أقرّ واقعيّاً بوجود فراغٍ تشريعي على مستوى بعض التفاصيل، ولم يَرَ أنّ الأصول العمليّة وقوانين التزاحم والعناوين الثانويّة وغير ذلك ممّا ذكره المشهور بالذي يقدر على أن يؤمِّن تقنينات للمستجدّات البشريّة الكثيرة؛ وأنّ هذه الدعوى أشبه بالمبالغة الأيديولوجيّة. وفي المقابل أخذ شمس الدين بمنطلق فكرة مرجعيّة وليّ الأمر، لكنْ من زاوية أنّها إقرارٌ حقيقيّ واقعيّ بأنّ الشريعة الواصلة ليست قادرةً على التغطية، وأنّ الأصول العمليّة (البراءة؛ والاستصحاب؛ والاحتياط؛ والتخيير) لا تستطيع أن ترفدنا بما نحتاجه اليوم من مئات القوانين الجزئيّة المتفرِّقة، التي يجب تسميتها بالقوانين، وليس بالمقرَّرات.

لقد كان شمس الدين ـ من وجهة نظر المنتصرين له ـ أكثر واقعيّةً من جهةٍ، وأكثر التيّارات الإسلاميّة تسميةً للأمور بأسمائها. ولعلَّهم ينتصرون لنظريّته من خلال تجارب تطبيق الشريعة في مختلف المناطق التي مارست هذا التطبيق في العصر الحديث، حيث رأينا حجم القوانين التي سُنَّتْ في ضوء المؤشّرات العامّة والمبادئ الكُلِّية، لا في ضوء عمليّةٍ اجتهاديّة تفصيليّة على طريقة الاجتهاد الفقهي.

ولعلّ الأمر الآخر الذي لا يقلّ أهميّةً هنا يكمن في ما قدَّمه شمس الدين من تسميته النصوص بأدلّة التشريع العليا. فهو يريد بهذا أن يعطي العقل الإنسانيّ دور التشريع ـ ولو الزمنيّ ـ بما للكلمة من معنىً، غاية الأمر أنّ هذا التشريع يجب أن يمارسه العقل الإنسانيّ في ضوء القواعد الدينيّة القانونيّة العامّة، فليست القواعد هي التي تُنتج القوانين الجزئيّة بالدقّة، بل العقل يُنتج القوانين في ضوء توجيهات القواعد. والفرق بالغ الدقّة.

ويستعين شمس الدين بعدَّةٍ من المقولات، لا مجال لطرحها في هذا المختصر، مثل: دعواه أنّ الإطلاقات والعمومات منصرفةٌ عن كثيرٍ من الوقائع المُستَجِدَّة اليوم، وأنّ فرض عمومات لهذه الوقائع ضربٌ من التكلُّف والمبالغة.

تساؤلاتٌ تواجه نظريّة العلاّمة شمس الدين

ولم تَخْلُ نظريّة الشيخ شمس الدين من ملاحظاتٍ واعتراضات:

فكيف يمكن تحديد أدلّة التشريع العليا؟ وما هو الفرق بينها وبين العمومات والمطلقات؟ وإذا قُدِّر للإنسان الاجتهاد والوصول إلى قوانين في ضوء مبادئ التشريع العليا فهل تعتبر هذه القوانين جزءاً من الشريعة أو لا؟ وإذا كانت جزءاً من الشريعة فكيف يمكن القبول بشرعيَّتها ولا يوجد تنصيصٌ من الشريعة عليها؟ وإذا لم تكن كذلك فلا فرق حينئذٍ بينها وبين نظريّة ولاية الأمر، وغير ذلك من الأسئلة العديدة.

 

كلمةٌ أخيرة

مجمل ما نريده قوله في هذا المقال المقتضب: إنّ إشكاليّة الثابت والمتغيِّر، وقدرة الشريعة على التكيُّف مع الواقع المعاصر ومتطلَّباته، إشكاليّةٌ تحتاج إلى مزيدٍ من التفكير والتطوير. وإنّ الاستمرار في مسيرة علماء الجيل السابق هو مطلبٌ أساس؛ بغية التوصُّل إلى صيغةٍ عقلانيّة منطقيّة مقنعة لكيفيّة كون الدين صالحاً لكلِّ مرافق الحياة، وكيف يمكن لقانون سابق أن يُغطّي احتياجات مراحل لاحقة.

وما نتمنّاه على الدراسين من طلابنا وباحثينا أن يخصّوا هذا البحث بطروحاتهم الجامعيّة، وأن يتواصلوا معه بطرح أسئلةٍ جديدة، وإثارات نافعة؛ بغية إعطاء رؤية جديدة ومعمَّقة للبحث، نروم بذلك الوصول إلى إجابات لما يدور في خلد شبابنا في العصر الحديث، في ظلّ المرحلة العصيبة التي تمرّ على حاضر أمَّتنا الإسلاميّة، دون الاستخفاف بالعدوّ، ودون الانطلاق من انفعالٍ وردّات فعلٍ، وإنَّما من خلال رؤيةٍ بحثيّة جادّة.

إنّ مشكلة الثابت والمتغيِّر هي التي تدفع كثيرين اليوم للحديث عن عُقْم الشريعة، وأنّه قد انتهى وقتها. لذلك قلنا بأنّ هذا الموضوع مهمٌّ؛ لأنّ التيارات الأخرى تقول بأنّكم تتكلَّفون جعل الشريعة قادرةً على تغطية مختلف الوقائع.

أكتفي بهذا القَدْر، ونَكِلُ البحث في التيارات غير الإسلاميّة، ومعالجاتها وقراءاتها لهذا الموضوع، إلى مناسبةٍ أخرى.

________________

(*) المحاضرة التي أُلقيت في مركز السيد الشهيد الصدر الثاني، في مدينة قم في إيران، بتاريخ 12 ـ 7 ـ 2013م، مع بعض التعديل والتصرُّف.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً