أحدث المقالات

د. أكبر إيراني القمّي(*)

ترجمة: نظيرة غلاب

مقدّمة

تعدّ حواشي العلامة أبي الحسن الشعراني على كتاب (الوافي) من المطالب العلمية القيّمة، ومن التحقيقات والاجتهادات الأصولية من العيار الثقيل بامتياز. وقد كان الغناء واحداً من المواضيع الهامّة التي تعرَّض لها ضمن هذه الحواشي، حيث عمل على نقد آراء بعض الفقهاء في الغناء، وبيَّن ضعف تحاليلهم وآرائهم في الميدان، وخصوصاً في ما يتّصل باعتبار العرف ملاكاً في تشخيص الغناء الحرام.

إن طرح هذه الآراء والاجتهادات في موضوع الغناء من شأنه المساهمة الفعليّة في توسيع دائرة البحث، من خلال النقد الذي تكون أولى ثماره أنّه يصنع الجديد، ويفسح المجال أمام استخلاص آراء حديثة، بشرط أن تنطلق من المعطيات الاجتماعية والثقافية لزمانها، بمعنى أن يكون البحث وفق الشروط الموضوعيّة الجديدة والعصريّة.

الشعراني ونقد رأي الشيخ الأنصاري في الغناء

ابتداءً بيَّن العلامة الشعراني وجهة نظر الشيخ الأنصاريّ& في الغناء، ليعرض بعدها وجهة نظره الشخصيّة، ويفسِّر ما تفيده الروايات الواردة في الموضوع. فقد كتب يقول: «لقد اجتهد المحقِّق الكبير الشيخ الأنصاريّ& أثناء تعرّضه لموضوع الغناء في طرح مطالب غنية وشاملة قلّ لها النظير والمثل. فهو قد ينظر إلى شجو الصوت بحيث يكون لغرض اللهو، وفي هذه الحال يكون حراماً، سواء تضمّن فعلاً حراماً أو لا، فتكون الأصوات اللهوية حراماً».

لكنّ العلاّمة الشعراني، وباستناده إلى رواية كان السائل فيها يسأل عن كسب المغنية؟ وكان جواب المعصوم×: «التي يدخل عليها الرجال حرام، والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس»([1])، كتب يقول: «يعني أنّ غناء المرأة في محضر الرجال الأجانب حرام، أما كسب التي تدعى إلى أعراس النساء فلا إشكال فيه». يقول العلاّمة الشعراني: إن ظاهر هذا الحديث الشريف يبيِّن أن صوت المرأة الأجنبيّة الذي يعبِّر عن الشهوة، ويؤدّي إلى الريبة، وشجو الصوت في حدّ ذاته، سواء كان قبيحاً وغير موزون أم كان حسناً وموزوناً، من نوع الغناء الحرام، وأنّ الاستماع إليه حرام.

ومن تلك الروايات ما روى عليّ بن جعفر، نقلاً عن أخيه موسى بن جعفر×، عن الحكم في الغناء في مجالس الأفراح وعيد الفطر والأضحى؟ وقد أجاب×: «لا بأس به، ما لم يُعْصَ به»([2]). فلا إشكال فيه إذا لم يكن موجباً للمعصية أو مقروناً بما يوجبها.

الشعراني وتبني القول بنفي الحرمة الذاتية للغناء

يرى العلاّمة الشعراني أن الحديث يبيّن أنّ الصوت لذاته لا يحتمل الحرمة، وهو بذلك يخالف نظر الشيخ الأعظم([3]).

والحديث الثالث عن الإمام الصادق×، حيث سئل عن كسب المغنية؟ فأجاب: «ليس به بأس إذا لم يدخل عليها الرجال»([4])، يعني أنّ الغناء حلالٌ بشرط أن لا يدخل عليها رجال أجانب. وهذا يؤيِّد ما ذهبنا إليه في أن حرمة كسب المغنية ليس حراماً في ذاته، وإنّما حرم حين تعلَّق الأمر بسماع صوتها من طرف الأجانب، وقد استثني الغناء في مراسم العرس؛ من جهة كون الأجانب لا يحضرونه، وليس لأنه يقع في العرس، فالعرس هنا لا موضوعيّة له في الاستثناء. أما إذا صار الأمر على العكس، بحيث صار الاختلاط واقعاً في حفلات الأعراس، وغير واقع في غيرها، فإن الحكم سيتغيَّر بالتَّبع، فيصبح حراماً في الأعراس، وجائزاً في غيرها. وبالتالي فإنّ أجرة المغنية بقصد اللهو في مجالس الرجال الأجانب يكون حراماً، أما إذا كان في مجلس النساء، كمجلس العروس (حفلة الزفاف)، فهو حلالٌ وجائز.

ويلاحظ عدم ذكر الروايات لحكم غناء الرجل؛ وذلك لأن المرأة عادةً هي التي تمارس الغناء. وإلى يومنا هذا فإنّ نسبة المرأة في ميدان الغناء أكبر مقارنةً مع الرجال المغنّين، ولا يتمّ دعوة الرجل إلى مجالس اللهو إلاّ إذا كان مشهوراً بتمرّسه في فنون السماع والغناء وعرف بصوته الحسن، وهي حالات نادرة.

وبناءً عليه فإذا كان غناء الرجل في مجالس الرجال، ولم يكن كلامه ممّا يدعو أو يحمل عبارات ومعاني الكفر والفسق، ولم يكن فيه هجاء أو مساس بالأعراض، ولم يقترن بموسيقى آلات اللهو([5])، فإن صوته لا يكون من الغناء الحرام، مع وجود اختلاف في الآراء في المسألة. ويشمل هذا الحكم الأناشيد الحماسية التي تقال في حالة الحرب؛ لتشجيع الجيوش، ورفع معنوياتهم، والأشعار الداعية إلى رفض العصبيّات بكلّ ألوانها، الدينية والعرقية و…، والمناهضة لكلّ دعوات التفاخر والاستعلاء.

ويلاحظ في كلّ الروايات أنّ السؤال كان موجَّهاً إلى أشياء متعلِّقة بالغناء، وليس إلى الغناء بذاته.

وعن الوشّاء قال: سئل أبو الحسن الرضا× عن شراء المغنية؟ فقال: «قد يكون للرجل الجارية تلهيه، وما ثمنها إلاّ ثمن الكلب، وثمن الكلب سحت، والسحت في النار»([6]).

التركيب اللفظي المنظوم والصوت الشجيّ لا يحمل قابليّة اللهو، حتى لو كان المغنّي قادراً على تحويله إلى لهويّ، بقراءته وفق الوزن المناسب والإيقاع الجيّد، ولاسيّما أن الإيقاعات غالباً ما تدفع إلى الرغبة في الرقص. أما إذا كان الصوت مطرباً وموزوناً، ورافقه إيقاعات الرقص، وتناسب ومجالس اللهو واللعب، بمعنى أن يوجد المغنّي نوعاً من الإيقاعات ـ أو ما يُسمّى في لغة الموضة بـ (الريتم) ـ والهزّات الصوتية، التي يستطيع من خلالها إعطاء غنج ودلال لصوته، وخصوصاً إذا كان ضمن ما ينشده من أشعار عبارات مبتذلة طابعها العامّ مناشدة الشهوة، فإنّ هذا كلّه قادرٌ على التأثير السلبي على نفسيّة المستمع، وقادر على إخراجه من حالة الاتزان والاستقرار العاطفي إلى حالة تشبه ما يكون عليه السكران إلى حدّ الثمالة، بحيث تصبح كلّ قوى النفس في قبضة الشهوات، ولا يعود للعقل قدرة على تنبيه النفس من غفلتها.

إذاً فإنّ ما استنبطه العلاّمة الشعراني من رواية عليّ بن جعفر، ورواية حرمة كسب المغنية، أنّ مجرّد الصوت ليس له موضوعية في الحكم بالحرمة، لكن إذا كان الصوت لهويّاً يكون مصداقاً للغناء الحرام.

 ويضيف الشعراني، معقِّباً على مفهوم الروايتين: الظاهر أنّ صرف سؤال السائل كان معرفة حكم شراء وبيع الجارية المغنية، ولم يكن حول صوتها وغنائها، فحال مَنْ يتاجر في الجواري المغنيات أنه يسهر الليالي ذوات العدد في تعليمهنّ الغناء بالصوت الحسن والمدلَّل، كما يعمل على تعليمهنّ كيفية العزف على آلات العود وغيرها من الآلات، كلّ ذلك من أجل أن يزيد من ثمنها، لذلك كان سؤال السائل عن الحكم في ما يكسبه من وراء عمله، ولم يكن يستفسر عن الحكم في غنائها.

علّة تحريم الغناء

في حديث آخر سأل رجل الإمام الصادق× عمّا يعقد في بيت جاره من مجالس الغناء…([7]).

وهذا الحديث يبيِّن أن سبب اعتبار الغناء حراماً هو كونه سبباً في الاستماع إلى صوت المرأة الأجنبيّة. وربما يرجع هذا إلى كون صوت المرأة ـ كما بدنها ـ عورة، ويحرم الاستماع إليه، كما يحرم النظر إلى بدنها، وقد جاء الأمر بأن لا يخضعن في القول، أو لعلّه راجع إلى كون صوتها في الغناء موجباً لتحريك الشهوة عند الرجل، وخصوصاً إذا كان ملحَّناً، ووفق لحن وموسيقى لهوية، وفيه رقّة ودلال.

وبالطبع فإنّ حضور الرجال ورؤيتهم للمرأة المغنّية لا يمكن أن يكون هو سبب إيجاد الحكم بحرمة الغناء.

ويعتقد البعض أنّ هذا الحديث يحمل دلالة على حرمة الاستماع إلى الغناء، ولو لم تتغنَّ به المرأة أو الجارية، ولم يكن موجباً لتحريك الشهوة. ووفق هذا الرأي يصبح سماع صوت الرجل أثناء تغنّيه بالأشعار الحماسية ونحوها ضمن هذه المجموعة من الغناء المحرَّم. لكنّني أستبعد أن يكون الحكم موجَّهاً إلى الغناء بهذا الشكل.

موقف الشيخ الطوسي والفيض الكاشاني

ذهب الشيخ الطوسي في كتابه (الاستبصار) إلى جواز الغناء في حالة عدم تضمُّنه لكلامٍ باطل، ولم يرافقه العزف على الآلات الموسيقية اللهوية، لكن إذا تضمَّن الغناء العزف على آلات اللهو، وكانت كلماته مبتذلة، وتدعو إلى الباطل والمفسدة، أو استفاد من الأمور التي تكون عادةً في اللهو، أصبح حراماً. وقد بيّن الفيض الكاشاني أن ما يستفاد من كلام الشيخ أنّ حرمة الغناء جاءت بسبب استعماله في اللهو والعمل القبيح، وليس الغناء حراماً لذاته.

وكتب العلاّمة الشعراني، معلِّقا على هذا الرأي: إن وجهة نظر الملاّ محسن الفيض الكاشاني هي نفسها نظر الشيخ الطوسي، وقد اعتبرها البعض وقبل بها، بينما لم يقبل بها البعض الآخر. وأما مَنْ قال بحرمة الغناء في نفسه فقد رأى أنّ الأصوات الحلال خارجةٌ موضوعاً عن مبحث الغناء.

الغناء، السماع، القول: الغناء والسماع الصوفي

أسفر البحث عن كون الغناء في كلام العرب ولغتهم وأشعارهم، كما هو عند الفقهاء وأهل الأدب والبلاغة، يطلق على مطلق الصوت، أو على كلّ صوت عالٍ، مع وجود الترجيع فيه، حتى ولو لم يكن جميلاً وحسناً، ولم يكن ينمّ عن الرغبات والشهوات. ومن هنا يصبح «القول والسماع» غناءً.

ويطلق القول ويُراد به الكلام عموماً، وقد يراد به الغناء المطرب. ويطلق لقب «القوّال» على المسمع في مجالس الصوفيّة.

وأما السماع فقد يُراد به مطلق الاستماع إلى كلّ خطاب وصوت، وهناك مَنْ يعرِّفه بأنه الغناء، وقد قيل: «ربّ سماع حسن سمعته من حسن».

وكما أنّ القول والسماع في اللغة أعمّ من المحرَّم فكذلك الغناء وتمديد الصوت وترجيعه أعمّ من الصوت الحرام، فمطلق الغناء ومدّ الصوت لا يكون حراماً.

ومثاله: لفظ الشراب. فالشراب في اللغة بمعنى الشرب، وفي هذه الصورة ليس حراماً، لكنه في الاصطلاح أصبح يعني المسكر، والحرمة جاءت في الشراب المسكر. وكذلك هي كلمات الغناء والسماع والقول، فإنّها ـ مثل الشراب ـ تنقسم إلى الحلال والحرام، لكنْ لكثرة استعمال القسم المذموم والحرام في لسان الشرع أصبحت له الغلبة، وصار إذا أُطلق الغناء ذهب إلى الحرام منه. ونفس الشيء نجده في ما يخصّ البدعة، فهي في الأصل بمعنى الشيء المحدث والحادث، لكنْ لغلبة استعمالها في الجانب السلبي والمذموم أصبح كلّما أطلق لفظ (البدعة) انصرف إلى الجانب المذموم والسلبيّ، دون غيره. وقد قال الشاعر يصف حمامته:

إذا هي غنَّتْ أَبْهَتَ الناسَ حسنُها   وأَطْرَقَ إجلالها كلّ حاذقِ([8])

ويلاحظ أنّ الغناء أطلق هنا على هديل الحمام، وهذا يبيِّن أن المراد به الاستعمال اللغوي للفظ، وليس هناك حرمة في الاستماع الى أصوات الطيور والحيوانات والالتذاذ بما تصدره من نغمات وتغريد. وكذلك يطلق الغناء بمعناه اللغويّ على النياحة والمراثي، ولا يلاحظ فيها ما يؤثِّر على الشهوة أو يكون مجلبةً للرذيلة والفسوق.

الغناء وفق ألحان مناسبة

يذكر أن إبراهيم الموصلي ـ موسيقار هارون الرشيد ـ قال يصف اللحن المختلف باختلاف موضوعه: «إذا تغنَّيت بالمديح ففخِّم، أو بالنسيب فأخضع، أو بالمراثي فاحزن، أو بالهجاء فشدِّد».

أي إنه في حالة المدح يكون اللحن والإيقاع غليظاً مفخَّماً، وفي النسيب يرقَّق اللحن والإيقاع كأنه فيه انخفاض، أما في المراثي فاللحن يكون حزيناً، وأما في الهجاء فإنّ وزنه والإيقاع الشعريّ فيه يفرض أن يكون اللحن فيه ثقيلاً غليظاً([9]).

ويقول أرباب الموسيقى وفنّانوها: إنّ الغناء هو ما أيقظ فيك الوجد، وملأ نفسك طرباً، وجعل فؤادك يهفو شوقاً وفرحاً، أو أن يشغل وقتك ويملأ فراغك، أو أن يجعل عبرة الحزن تغرق عيناك، وتحبس أنفاسك عن الخروج؛ من شدّة الحزن والشعور بألم الفراق والأسى. وهكذا يتَّضح لنا أنّ الغناء لا يختصّ بإيقاظ نار العشق والبكاء على المعشوق، كما لا يكون في اللهو والهزل، بل كذلك يكون في المراثي والمآتم ومجالس العزاء، يستعمل لتهييج الإحساس بالحزن، وتعبيراً فنّياً عن الحزن والأسى.

العلاج بالموسيقى

لقد قيل الكثير عن فوائد الموسيقى، وتأثيرها الإيجابي في علاج العديد من الأمراض النفسيّة بالأخصّ. وذهب العديد يستخبر عن حقيقة هذه الأقوال، ليخلص إلى أنّ الغناء يخفِّف العلّة، ويقوّي الطبيعة. ومن الأمثلة على ذلك: ما جاء في أحوال يعقوب بن إسحاق الكندي، حيث جرَّب العزف على بعض المصابين بالأمراض العقليّة السريريّة، وتبيَّن أن نغمة العود كان لها تأثيرٌ فعّالٌ، حيث أبدى المرضى تجاوباً مع ممرِّضيهم، واستجابوا لكلّ ما يُطلب منهم، لكنْ ما إنْ كفّ العود عن العزف حتّى عادوا إلى حالتهم السابقة، ليغطّوا في نوم عميق، ملجمين عن الحركة، كأنّهم ينتمون إلى عالم غير هذا العالم([10]).

الثناء على الصوت الحسن

نستطيع القول ـ وبشكل مختصر ـ: إن المزج بين الغناء والعزف على الآلة الموسيقيّة محدثٌ لأصواتٍ ونغمات توجد تفاعلاً في النفس، وتؤثِّر فيها بشكل ملحوظ، وفي المقابل فإننا لا نستطيع الحكم على مطلق الصوت الشجيّ والنبرة الجيدة والجذّابة بالحرمة، حيث تذكر لنا الروايات أنّ الإمام السجاد× كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وقد كان الناس يتركون أعمالهم ويجتمعون إلى حائط بيته يستمعون إليه([11]).

ويروى أنّ النبي الأكرم| لمّا استمع إلى رجلٍ يتلو القرآن، ويتغنّى به، قال له: «لقد أوتيت مزماراً من مزامير داوود»، بمعنى أن النبيّ الأكرم| قد أُوتي مزماراً من مزامير داوود، أي إن الله سبحانه وتعالى قد وهبه صوتاً ملكوتياً، لكنّ الناس لم تكن لهم القدرة على سماعه.

وروي عنه| أنه قال: «من لم يتغنَّ بالقرآن فليس منّا».

وقد أوصى الإمام الباقر× بقسطٍ من ماله لمَنْ ينوحه في أيّام الحج في منى بعد مماته، وغير خفي ما يمتلئ به صوت النائحات من نغمات الحزن والأسى، وما المآتم إلاّ لإظهار الحزن والأسى. وكذلك الأمر بالنسبة لصوت الحادي، حيث يعمل على إيجاد تركيب مؤثِّر من نغمات صوته وألحانه، فقد يرجِّع ويمدّ في الصوت، ولا أحد من الأوّلين ولا الآخرين قال بحرمة صوت الحادي أو صوت النائحة.

وبلحاظ تلك المصاديق، التي يصدق عليها الغناء والتغنّي، نميل إلى عدم قبول نظر الشيخ في (الاستبصار)، حيث جعل الغناء منحصراً في الصوت مطلقاً، بل لابدّ من تعيين ملاك التحريم، ومن خلال هذا الملاك يتعين لدينا أيُّ الأصوات تدخل في ساحة الحرمة وأيُّها خارجةٌ موضوعاً منه. فالصوت ليس هو الملاك الذي يحدَّد به النوع الحرام من غيره، لكنّ موضوع الغناء والأجواء التي يكون فيها هي العامل الأوّليّ والنهائي في تحديد الحرام منه. فالغناء الذي يحرِّك الشهوات، فيجعلها تتحرّك نحو الحرام والرذيلة والفساد، أو يوقظ روح العصبيات القبلية، الدينيّة أو المذهبية، حتّى تشتعل فيها النفس الشيطانيّة، فتقدم على قتل النفس المحترمة أو انتهاك عرضها، كل هذا يشكِّل ملاك التحريم وعلّته، التي متى وُجدت في الغناء والصوت حُكم بالحرمة. ومن هنا يتَّضح أنّ ملاك التحريم كونها سبباً في فعل الحرام، فتشملها أحاديث التحريم وفتاوى الفقهاء.

الغناء الباعث على الحزن أو الفرح

إن الصوت واللحن الذي يدفع بالإنسان إلى التوجُّه نحو ربه، ويقوّي فيه الرغبة في الخلوص إليه بالتوجُّه والتضرُّع وتصفية الروح له في العبادة، ويبعِّد النفس عن الانغماس في متاع الدنيا وبهرجتها الفانية، بل يرفع معنويّات الإنسان، فتجعله يشعر بمظلوميّة بيت النبوّة، فيشعر بالحزن والأسى لما أصابهم، ويذرف دموع القلب قبل دموع العين مواساةً لهم، ويرقى بالنفس إلى أن تمتثل مناقبهم، وتهتدي شمائلهم، كل هذه المواضيع خارجةٌ عن دائرة الحرمة، وتكون عقلائياً في نفس رتبة القراءة الحسنة للقرآن، ولها حكم التغنّي به، والترغيب فيه.

نقل الراغب في كتاب (المحاضرات)، وقد بكى ماسرجويه من قراءة أبيّ ـ رضي الله عنه ـ فقيل له: كيف تبكي لكتابٍ لا تصدِّق به؟ فقال: أبكاني الشجا…([12]).

وقال إبراهيم الموصلي: «أمر الصوت عجيب، منه ما يسرّ سروراً يرقص، ومنه ما يبكي، ومنه ما يكمد، ومنه ما يزيل العقل حتّى يغشى على صاحبه، وليس يعتري ذلك من قبل المعاني؛ لأنهم في كثير من الأحوال لا يفهمون، وقد تسكن النفوس إليه، وذلك موجود في أكثر البهائم والدوابّ، إذا غنّى المكاري صرّت آذانها»([13]).

وبالتأكيد فإن الغناء الذي يكون الغرض منه إشعال نار الفتنة في النفس، والدفع بها نحو ممارسة بعض السلوكيّات المنحرفة، كالرقص أو معاقرة الخمرة أو الارتماء في أحضان الرذيلة([14])، هو المقصود بالغناء اللهوي، الذي جاءت فيه الأحاديث والروايات، كما أنه يشكِّل مصدر رزق المغنّية أو المغنّي، بمعنى أن هذا النوع من الغناء حرفة لمَنْ يتعاطاه. أما حين يكون الغناء موجباً للبكاء، كبكاء العشّاق (عشق مجازي)، وبكاء من خمر عقله من كثرة الشرب، فهذا الغناء هو الآخر يدخل في الحرمة، ولا يستثنى منه سوى ما يكون في مجالس العزاء والمراثي، أو في الموعظة وذكر الجنة والنّار، فهذا خارج عن دائرة الحرمة موضوعاً، ولم تشمله الروايات التي جاءت في حرمة الغناء.

ونظراً إلى شمول لفظ الغناء لكلا النوعين فقد تستعمل بعض ألحان الحلال في مجالس اللهو والفسق والفجور، كما قد تستعمل بعض ألحان أهل الفسق في مجالس الموعظة والمراثي، فتكون الأولى حراماً، وتكون الثانية حلالاً؛ لأن ملاك الحرمة والحلية هو الموضوع وموارد الاستعمال، وليس اللحن في ذاته .

لكن هناك بعض الألحان تكون حراماً مطلقاً، ولا يجوز استعمالها في تلاوة القرآن أو في المواعظ والمآتم، كتلك الألحان الخاصّة بالرقص، التي استعملت خصّيصاً لتتناسب وحركات الرقص. والأمثلة على هذا النوع كثيرة، فرغم كوننا ننطلق من الاعتقاد بعدم حرمة اللحن لذاته، إلاّ أن هذا النوع من الألحان حرامٌ، ولا ينظر إلى موضوعه، فلا يجوز استعماله في موارد العبادة مطلقاً.

ولعلّ السبب في هذا الاستثناء الأخير أنه لو استعمل في العبادات، كقراءة القرآن أو الموعظة، أدّى الى توهينها والمساس بقدسيّتها، ولاسيّما أنّها قد عدت ألحان وإيقاعات الرقص والشهوة حراماً، ومن جملة مصاديق الغناء اللهوي. وتستعمل موسيقى الرقص في مجالس الرقص واللهو واللعب، ويختار لها إيقاعات خاصّة ـ مع اختلاف هذه الإيقاعات بين الشرق والغرب ـ روعي فيها عنصر إثارة الشهوات، وتغليب البعد الحيواني في الإنسان على البعد العقلانيّ والإنسانيّ. ولا تنحصر هذه الموسيقى الحرام في ذاتها في الموسيقى المستعملة في الرقص، ولكنْ عبّر عنها بموسيقى وألحان الرقص لأنها أبرز مصاديقها، وإلاّ فإنّ الموسيقى في بعض الثقافات تحمل معاني في التجسيم أو الشرك والانحراف، والظاهر أن نطاق استعمال مصطلح الموسيقى أكبر من أن يحصر الحرام منها في موسيقى الرقص أو اللحن الغنائي.

وإذا رجعنا إلى مجالس تلاوة القرآن أو مجالس العزاء التي تقام للحسين بن عليّ| وباقي الأئمة المعصومين من بيت النبوة^ فإنّ الألحان والنغمات التي تتمّ بها خالية من كلّ ما يلازم الموسيقى والألحان المثيرة للشهوة، أو التي تجري في مجالس اللهو واللعب والفسق والفجور. كما أنها ليست عاملاً أو باعثاً على الفساد والانحراف، بل هي ـ على العكس من ذلك ـ عاملٌ في استجلاب الحزن الإيجابيّ، الذي يستتبعه التفكُّر في الله سبحانه وتعالى، والرغبة في التزام ذكره والخلوص إليه. وكذلك هي في مجالس عزاء الحسين بن علي’ عاملٌ في التبرّي من الظلم، وما يستتبعه من ملازمة طريق الحق. لذا فإن هذا اللحن وهذا التغنّي يصبح أمراً مستحبّاً. ولو أن قارئ العزاء تجرّأ واستعمل بعض ألحان أهل الفسق أو ألحان الرقص لغدا مدعاةً للاستهزاء وموضعاً لسخرية المستمعين([15])، كما أن أهل الفسوق قد يتغنون ببعض الآيات القرآنية أو بعض شعر الرثاء، مرفقين ذلك بالرقص أو الضرب أو التصفيق وغيره، وكلّ هذا حرام. فقراءة القرآن بالألحان والإيقاعات اللهويّة حرام مؤكَّداً.

الشعراني ونقد نظرية الإرجاع إلى العرف في مسألة الغناء

لقد قام العديد من الفقهاء الأجلاّء في تشخيص موضوع الغناء بالإرجاع إلى العرف، وهو الأمر الذي قوبل برفض شديد من العلاّمة الشعراني، ووجده أسلوباً خاطئاً.

يقول في نقد وتحليل هذه النظرية: جاء لفظ التغنّي في (المصباح المنير) بمعنى الصوت، ومدّ الصوت([16]). وكتب ابن الأثير في (النهاية) أنّ الغناء عند العرب يطلق ويُراد به كذلك الصوت المرتفع([17]). هذا التفسير لقي القبول لدى أهل التتبُّع والتحقيق، لذلك اعتبر حجّة في موضعه. لكنّ بعض المتأخِّرين حصل لهم التوهُّم، فحكموا على مطلق الغناء بالحرمة، واعترفوا في المقابل بأنّ مجرّد الصوت أو مدّ الصوت لا يكون حراماً، لذا لم يستطيعوا إعطاء تعريف تامّ لمفهوم الغناء (خصوصياته، ملاكه، وتشخيص موضوعه)، ولم يستطيعوا قبل هذه المعضلة تفهيمه للآخرين. وللتغطية على عجزهم تجدهم يرجعون السائل إلى «العرف»([18]). وهذا الإرجاع غير صائب البتّة، فكيف نطلب من الناس الذين يعجزون كلّ العجز عن تحديد معنى الغناء أن يعطوا مراد غيرهم منه، وهم في هذا وذاك النحويّ الذي يرجع تفسير الرفع أو النصب والجرّ إلى العرف سواء! وغيرُ معلومٍ المعنى العرفيُّ للغناء في زمن صدور الأخبار، هل كان أخصّ من المعنى اللغويّ، حتى نستطيع حمله على المعنى العرفيّ المتداول آنذاك، أم لا؟

لكنّ القدر المطمأنّ إليه أنّنا لا نستطيع حمل تلك الأحاديث على المعنى العرفيّ للغناء في زماننا الحاضر([19]).

وبالمناسبة فالعرب اليوم يستعملون الغناء في شكله المطلق والأعمّ، وهو الاستعمال الذي يتوافق ونظر ابن الأثير في (النهاية).

ويرجع بعض الفقهاء معنى الغناء إلى عرف المتشرِّعة، أعمّ من أن يكونوا عجماً أو عرباً.

وهو إرجاع خاطئ؛ لأن المتشرِّعة يتبعون الفقهاء، والفقهاء هم أولى الناس بمعرفة الاستعمالات اللغوية للألفاظ، ممّا يعني أن الفقهاء إذا تحيَّروا في أمر من الأمور فالمتشرِّعة سيكونون مثلهم بالتَّبَع، وكذلك إذا حسم الفقهاء في أمرٍ فإنّ المتشرِّعة؛ لعلاقة التَّبَعية، سيحسمون فيه، وهكذا دواليك. ولا يكون الرجوع إلى العرف إلاّ في الموارد المستقلّة، وغير التابعة للفقهاء، أو من اختصاصهم.

ويقول الفاضل التوني، في حاشيته على الروضة: «ليس للعرف قانونٌ مشخَّصٌ، ولا يستطيع دفع الإشكال عن جميع أفراد الغناء وأشكاله، لذا العمل بالاحتياط في كلّ الوجوه المحتملة على اللهو، فنتجنّبها تبرئةً للذمّة».

وقد أصاب الفاضل التوني في القول: إن العرف لم يشخِّص لنا تعريفاً محدَّداً للغناء، وبهذا تثبت عدم صحّة إرجاع تعريف الغناء إلى عرف المتشرِّعة . مع الإشارة إلى أنّ عرف العرب في زمن الأئمة لم يكن بهذا التعقيد والحيرة، بل كان الغناء في اللغة يعني مطلق مدّ الصوت. ورغم كون الاحتياط بالترك في الشبهات أمراً مستحسناً، لكنّ عمل العلماء في مثل هذه الشبهة لم يكن الاحتياط بالترك والاجتناب، وإنما كان العمل بأصالة البراءة وأصالة الحلّية([20]). لذا ففي الحرام وجب الاجتناب، لكن حين يحصل الشكّ في الموضوع (الشبهة الموضوعيّة) يكون العمل بأصل عدم الوجوب، وليس العكس.

الغناء اللهوي

بيَّن كتاب (الرياض) في باب الغناء أنّ الصوت اللهويّ كان يعرّف بالغناء، لكن ليس كلّ صوت يشمل الترجيع والتغريد هو غناء. وهكذا يكون الصوت اللهوي هو المراد بالغناء الحرام، لكنّ الغناء في اللغة أطلق على اللهوي وغيره، ولم يختصّ بالصوت اللهوي.

ومع ذلك فالغناء اللهويّ حرام، وغير اللهوي جائز، وإطلاق الغناء في اللغة شاملٌ لكلَيْهما. والملاحظ أنّ الغناء اللهوي قد أصبح هو الغالب في زماننا الحاضر، بل أصبح ضمن قائمة أنواع الشغل، مورد كسب المال والشهرة الدنيوية، وحرفة للبعض الآخر، ومورد كسبهم اليومي، هذه الموارد هي أفضل مثال للغناء اللهويّ المنهيّ عنه.

غناء الحادي للجمال والنوق، ونوح النائحات في المراثي والمآتم، وغناء الشعراء في مواقع الحماسة والحثّ على الشجاعة ومكارم الأخلاق، وتغريد الطيور وخرير المياه في الوديان والسواقي، كلّ هذه الموارد ليس الغناء فيها جزءاً من المعنيّ بالحرمة . وإذا حرَّم الفقهاء الفونوغراف([21]) فقد نظروا إلى ما يصدره من أصوات لهويّة، وليس كلّ ما يسجِّل الأصوات فهو لهويّ، وبالتالي الاستماع إليه حرام. ومن هنا فإن ما قاله صاحب (الرياض)، من أنّ الغناء اللهوي حرام، أمر صحيح، ولا اختلاف في حرمته؛ لأن المعنى المتداول من اللهويّ ينصرف إليه، وليس كلّ غناء لهو.

لكنّ ما لم يذكره صاحب (الرياض) هل أنّ تحريم الصوت اللهوي كان بلحاظ حرمة اللهو المقرون بالغناء، كما ذهب إلى ذلك العلامة الفيض الكاشاني([22])، أم أنّ التحريم قائمٌ بلحاظ الصوت في هذه الحالات نفسها، كما ذهب إلى ذلك الشيخ الأنصاري؟ والظاهر أن الرأي الثاني هو المراد، وهو الأصحّ.

 دور النيّة والقصد في تحديد الصوت اللهويّ

المبحث الآخر ضمن موضوع الغناء ناظرٌ إلى الفرق بين الغناء والصوت اللهويّ وغير اللهوي، بلحاظ النية والقصد. مثلاً: قد يقصد المستمع من سماعه للغناء أو الصوت اللهو، من دون أن يكون المقصود هو معنى اللهو([23]). وقد يعقد أهل العبادة والصالحون مجالس للذكر، فيقوم الواعظ أو الذاكر أو المادح بقراءة الأشعار بصوت شجيّ. وهنا لا يمكن أن نحمّل هذه المجالس حكم الحرمة؛ لأن الباطل لم يتخلَّلها، حتى لو صدر الصوت فيها على شكل ألحان لهويّة. ولا نهي في هذه المواضيع. إذاً فموضوع الحكم هنا هو النيّة والقصد.

الهوامش

________________________

(*) أستاذ جامعي متخصّص في الفلسفة الإسلامية، وخرّيج الجامعة الإسلامية في لندن، ناشط في مجال تحقيق التراث.

([1]) دعائم الإسلام 2: 206 ؛ وسائل الشيعة 12: 225 ـ 228.

([2]) الحميري، قرب الإسناد :121؛ وسائل الشيعة 12: 85.

([3]) الأنصاريّ، المكاسب: 36، الطبعة القديمة.

([4]) وسائل الشيعة 12: 85.

([5]) نظراً إلى اشتراك آلات الموسيقى في الحكم بالحرمة والحلية ـ إلاّ ما اعتبر من الآلات المحرَّمة ـ فإن هذه الآلات لا يمكن القول فيها: إنها لهويّة، وبالتالي يصبح حكمها حراماً. فآلات الموسيقى تشبه الشفرة ذات الحدّين، حكمها متوقِّف على طريقة استعمالها، والمواضيع التي تستعمل فيها، فكما أنّه يمكن استعمالها في المصلحة والخير كذلك يمكن استعمالها في الشرّ والمضرّة. وحتى تكون في حكم اللهو يتطلَّب الأمر وجود مسألتين: الأولى: رغبة العازف عليها أو المغنّي على إيقاعها؛ والثانية: طريقة وأسلوب العزف عليها.

([6]) وسائل الشيعة 12: 85 ـ 225.

([7]) بحار الأنوار 79: 246؛ وسائل الشيعة 12: 85؛ دعائم الإسلام 2: 208.

([8]) الراغب الأصفهاني، محاضرات الأدباء: 237 (مبحث الغناء)، تحقيق وتلخيص: إبراهيم زيدان، ط2، دار الجيل، بيروت، 1406هـ.

([9]) عباس الغراوي، ملحق كتاب الموسيقى العراقيّة (ابن خرداد، كتاب اللهو والملاهي): 98.

([10]) القفطي، تاريخ الحكماء: 376 ؛ زكريّا يوسف، موسيقى الكندي، بغداد، 1962م.

([11]) وسائل الشيعة 12: 225؛ بحار الأنوار 79: 246.

([12]) محاضرات الأدباء: 237.

([13]) محاضرات الأدباء: 237.

([14]) وقد بيّن المختصّون في فنّ الموسيقى، والأعرف بها، أن هذه الموسيقى عاملٌ قويٌّ في الانحراف والإقبال على تعاطي المخدّرات والممنوعات.

([15]) فالشابّ التي شعر بالحزن تثيره الألحان المحزنة، وليس المفرحة. ويلاحظ على الدراويش والصوفية أنهم لا يجيزون لأيٍّ كان أن يستمع إلى ألحانهم وموسيقاهم الصوفيّة. ولابدّ من الإشارة بشكل عامّ إلى أن كلّ فردٍ يتأثَّر بعوامل داخليّة (نفسيّة، فطرية، وراثية، تربوية…)، وأخرى خارجيّة (المحيط، الثقافة، التقاليد والعادات، القوميات…)، ويتجاوب مع الغناء والموسيقى بشكل مختلف (انظر: كتاب هشت گفتار پيرامون حقيقت موسيقی غنائي).

([16]) الفيّومي، المصباح المنير: 445 (مادة الغناء)؛ الجوهري، صحاح اللغة 6: 2449.

([17]) ابن الأثير الجزري، نهاية اللغة 3: 391.

([18]) عرّف الشهيد الثاني الغناء في كتابه (شرح اللمعة) بقوله: «الغناء مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب، أو ما يسمّى في العرف غناء، وإنْ لم يطرب» (شرح اللمعة 3: 212).

والبحث في مكانة العرف من التشريع يحتاج إلى مقالٍ خاصّ، لكن في عجالة نستطيع القول: إنّ العرف والعادة تكون تابعة لعناصر ثلاثة: المحيط، القومية والتقاليد (كيهان أنديشه، العدد 33، مقالة للشيخ جناتي، تحت عنوان: مکانة تشريعات السلف والعرف في مصادر الاجتهاد).

ويعرف العرف في ثقافة الغرب بأنه أحد العناوين المعتمدة في القانون، لكنّه في فقه الإمامية حين يكون مراد المتكلم مبهماً، ولأجل كشف مصداق الحكم الشرعيّ، يلجأ إلى العرف. فعدم تشخيص موضوع الغناء شكَّل مشكلةً للعرف، وإذا كان العرف ميزاناً في معرفة موضوع الغناء فما هو المعيار المتَّبع في هذا التشخيص؟ وما دام لكلّ علم علماؤه، وعرفه الخاصّ به، وإذا كان العرف هو الملاك في تشخيص الموضوع والمصداق، فأيّ عرف يكون مقصوداً عندنا لتشخيص موضوع ومصداق الغناء؟ هل هو عرف الفقهاء، أو عرف المتشرِّعة، أو عرف اللغويين…؟ وما هي الأرضيّة المعتمدة في هذا العرف في المقام الأوّل؟ هذا بالإضافة إلى أنّ آحاد الناس يتفاوتون في تأثُّرهم بالألحان والإيقاعات الموسيقية، تبعاً لاختلاف شروطهم.

([19]) وممّا سبق من المطالب تبيّن أنّ الألحان تختلف باختلاف مجالسها، وعرض اللحن رهينٌ بالمراد به، كما أن اللحن والإيقاع اللهوي رهينٌ بالقالب والشكل الخاصّ به، بالإضافة إلى رغبة المغني أو القارئ، والطريقة التي يتبعها في التغنّي، من غير إغفال أن يكون للمستمع دور في تحديد هذا النوع من اللحن والغناء، باعتباره العنصر المنفعل. وفي مقابل هذه البيانات لا نجد من يقول بأنّ اللحن والموسيقى الملكوتية المعجزة للقرآن تتناسب ومجالس اللهو والرقص، اللهم إلا إذا أريد بذلك الاستهتار والسخرية، وهو سلوك غالباً ما يصدر عن الجاهل أو المجنون.

([20]) يقول علماء أصول الفقه: إذا شكّ في موضوع ومصداق الحكم، هل هو الحرمة أو الحلّية؟ ففي هذه الحال يجري أصلا الحلّية والبراءة. وهو نفس الأسلوب المتَّبع في الشبهات المفهوميّة.

([21]) إن تحريم الفونوغراف في زمن العلاّمة الشعراني كان للسبب الذي ذكره، وليس لأنّ الجهاز نفسه هو علّة الحرمة. وأصولاً كل ما يكون وسيلة أو مقدمة ومقارناً لأمر حرام يكون هو الآخر حراماً؛ انطلاقاً من قاعدة: مقدّمة الحرام حرام، ومقدمة الواجب واجبة. والفونوغراف شأنه شأن كلّ أجهزة وأنظمة الصوت والصورة، له منافع ومضارّ، تكونان عاملاً في إجراء حكم الحلية أو الحرمة. وقد أتى تحريمها لغلبة صدور الحرام منها آنذاك، أما اليوم فالوضع مختلف. وفي المقابل هناك العديد من الفقهاء لم يرَوْا الأصل في الجهاز الحرمة، ونذكر منهم: الآخوند الخراساني، الملا قربان علي الزنجاني، الذي يعتبر من زعماء وقادة النهضة، فبعد أن جاؤوه بجهاز الفونوغراف، واستمع فيه إلى مقطع من خطاب مظفَّر الدين شاه، والى أبيات من الشعر، ومقطع من موسيقى الناي، قال: «ما دام هذا الصندوق جماداً، وليس مكلَّفاً، فلا مانع من الاستماع إليه». وما إن أذيعت هذه الفتوى المزلزلة حتى أصدر علماء النجف فتواهم بحرمة الفونوغراف. (للمطالعة الرجوع إلى: أبو الفضل الشكوري وإرشاد الزنجاني، كتاب الخط الثالث في ثورة الدستور، 1371).

([22]) الفيض الكاشاني، الوافي 3: 35.

([23]) طرح الشيخ الأعظم الأنصاري صورتين لتحقُّق اللهو:

1ـ أن يكون القارئ (المغنّي، المداح…) قد قصد اللهو بقراءته، وإن لم يبلغ ذلك؛ لعدم قدرته أو لعلة أخرى.

2ـ أن يكون القارئ لم يقصد أو لم تكن له نيّة اللهو، لكن المستمع كانت نيته من الاستماع اللهو.

وفي المورد الأول قراءة القارئ حرام، لكن في الثاني الحرمة هي للمستمع.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً