إطلالة على رؤاه في مشروع الوحدة الإسلامية
أ. قدرة الله علي زادة(*)
استذكار
حين دعيت للكتابة عن العلاّمة الراحل السيد محمد حسين فضل الله تبادر إلى خلدي ذكريات لقائنا الأول به عام (1985م)، عندما جاء لزيارة الإمام الرضا×، والاطلاع على جامعة العلوم الإسلامية الرضوية. فكان أن طلب مني المسؤولون في الجامعة ـ بوصفي أحد طلابها ـ مرافقته في جولة تفقدية لنشاطات الجامعة؛ فكنت أشرح له مجريات كل قسم نزوره، وأضعه في صورة المشروع وأهداف مؤسِّسيه. وبما أن السيد فضل الله كان قد زار أيضاً جامعة الإمام الصادق× في طهران فقد راح يقارن بين الاثنتين، وعبّر عمّا يدور في أحاسيسه، فقال: هذا غاية ما يتمناه أمثالي، بأن يتمكن الشباب من دراسة العلوم الدينية في حلّة جديدة تختلف عن السياقات الحوزوية، مع الحفاظ على منهج التعمُّق نفسه.
أما آخر لقاء جمعنا بالسيد فكان عام (2009م)، ضمن وفدٍ برئاسة الشيخ التسخيري، فوجدناه على سابق عهده في الدفاع عن مبادئ الجمهورية الإسلامية، والتأكيد على سياسة الحوار بين المذاهب والأديان؛ علّها تكون منعطفاً في إقامة التواصل بين أتباع جميع المذاهب. ودعا الحضور على تعزيز الخطى، ورسم البرامج اللازمة، من أجل تحقيق الهدف الأسمى لدى السيد القائد الخامنئي.
كما زرنا السيد العلاّمة بصحبة اثنين من أعضاء مجلس الثورة، هما: السيدة فاطمة رهبر؛ والسيدة الدكتورة افتخاري. وقد استمعنا إلى آرائه في موضوع المرأة والأسرة، فوجدناها ـ كما عهدناها ـ متجدِّدة ومتنوِّعة في الوقت ذاته، فقدم لنا نبذة ممّا ورد في كتابه «تأملات إسلامية حول المرأة، قراءة جديدة لفقه المرأة الحقوقي».
لكنني أرى أن إدراك أبعاد شخصية هذا الرجل بحاجة إلى ما هو أبعد من المذكرات والخواطر. فلا بدّ من سبر أغوارها ودراسة الآراء والنتاج الفكري.
العلاّمة فضل الله داعية إلى التقريب
جمعنا بالسيد فضل الله ملتقى تقريبي حضره أيضاً علماء من أهل السنة والشيعة. وقد جاء في كلمته: لقد انطلقت حركة التقريب بين المذاهب الإسلامية في مصر كمبادرة ثقافية للإفصاح عن واقع التنوع الفكري والكلامي والتاريخي والفقهي، وكان أصحابها علماء من مختلف المذاهب، هدفهم الأساسي هو وضع ركائز علمية للفهم المشترك، مع مراعاة الثوابت والاصول.
كذلك سعى هؤلاء إلى إثارة العقلية العلمية في طرح تساؤلاتها حول القضايا الكلامية والفقهية والتاريخية للنهوض بالاختلافات بين المسلمين إلى مستوى العلم والواقعية، وتجنُّب التعصُّب والانفعال.
وقد أسهمت هذه المبادرة التقريبية بشكل فعّال في إرساء المنهجيات الفكرية، وخلق فرص الالتقاء في العناصر الفكرية من جهة، وإلغاء الأفكار التكفيرية داخل المؤسسات والتيارات الإسلامية من جهة أخرى. لكن هذه الأجواء لم تدم طويلاً؛ نظراً للمستجدّات والظروف الحاكمة، ولا سيما على الصعيد السياسي وإفرازاته، وعُطّل المشروع في العالم الإسلامي، الذي ما فتئ في مواجهة مع قوى الاستكبار المعادية.
لكنّ المؤامرة خُطِّط لها من داخل المسلمين أنفسهم؛ بهدف خلق الاضطراب السياسي والأمني، من خلال إثارة الخلافات والقضاء على فرص الالتقاء بين المسلمين. وقد أسهمت هذه الخطة التآمرية في تجنيد العناصر الثقافية، وإثارة الضغائن التاريخية بين الشعوب، حتى بات المسلمون منشغلين بالنزاعات والخلافات التاريخية، بدلاً من التركيز على الأخطار المحدقة بهم في هذه الأيام. وقد بلغ الأمر إلى تطوير بعض المفاهيم، من قبيل: «الكفر»؛ ليستخدم هذه المرّة في الاختلافات المرتبطة بالفروع أيضاً. وصُوِّر الأمر على أن مواضيع الفروع لا تختلف عن الأصول، وعليه فإن حكمها واحد، فصدرت الفتاوى التكفيرية في حق أتباع المذاهب الأخرى، وأصحاب بعض الاجتهادات المختلفة عن المشهور، حتّى داخل المذهب الواحد.
كما ذهب أرباب هذه الفتاوى إلى تفضيل المشركين على المسلمين الذين يحملون رؤى مختلفة، فاتخذوا بذلك طريقة يهود المدينة، حين قارنوا بين المسلمين والمشركين فيها، فقالوا للمشركين: أنتم أكثر هداية من المسلمين.
لقد اتَّسعت الهوّة بين المسلمين عقب فشل المساعي التقريبية، فتشتَّتوا إلى مذاهب وأديان متعدِّدة. ولا تزال قوى الاستكبار العالمي تسلك شتّى السبل الثقافية والسياسية والأمنية بغية تعميق الشرخ بين جميع المسلمين، والقضاء على وحدتهم داخل المذهب الواحد.
باتت مفردات الضعف والاستضعاف من ابتلاءات القاموس الإسلامي، من شرق الأمة إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها. ولعل الحالة السائدة تفرض علينا منطقاً يقول: ثمة علاقة ديالكتيكية بين المفهومين لم يشهدها تاريخ الأمة الإسلامية العريق؛ لكن واقعنا اليوم مصداق لهما، ونحن أمام حقيقة مرّة يمكن وصفها بقولنا: نحن أعظم أمم التاريخ، واليوم نعيش بين سائر الأمم على هيئة لا تليق بنا.
لماذا سرى فينا الضعف حتى صرنا مستضعفين لدى الأجنبي، ولا سيما لدى القوى العظمى؟ لمَ لا نراجع أنفسنا وننظر إلى دمارنا وانحطاطنا وانشقاقنا؟!
والأهم من ذلك: لماذا لا نبحث عن أسباب الضعف والاستضعاف؛ كي نتوصَّل من خلال كشف مسبِّب الاستضعاف إلى مسبِّب الضعف أيضاً؟ فصحيح أن مسبِّب استضعافنا هو الاستكبار العالمي، لكن مَنْ هو المسؤول عن ضعفنا؟
وضع النقاط على الحروف
القضية الأخرى: هل أننا نمتلك الجرأة في كشف الأمور وتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية؛ لنكون جادّين في الخلاص من هذا الشتات والخروج من المأزق؟ وهنا نتساءل: ما هي البرامج والخطط الموضوعة في هذا الصدد من أجل إنجاز هذه المهمة الصعبة؟
كما لابدّ أن نسأل عن سبل متابعة أعمال التقريب بين المذاهب الإسلامية، وتقصّي المشتركات بينها؟
لابدّ أن نكون على مستوى عالٍ من الوضوح والشفافية. فنحن قبل كل شيء بحاجة إلى إصلاح وترميم جسور الثقة بيننا؛ فتلك الجسور قد تعرَّضت لعمليات تخريب جزئي وكلّي، كانت مصادرها في الأغلب سياسية؛ إذ لم يكن الحكام على وئام مع سائر المذاهب، إلا المذهب الرسمي. وبدلاً من ترك مساحة من الحرية والتعددية للمذاهب الأخرى كانوا يسعون إلى تكفيرهم ونبذهم من المجتمع بتهم الزندقة والكفر وغيرها.
من هنا انتشر منطق التكفير في أفكار وضمائر طائفة كبيرة من الناس، دون اتضاح أسبابه. وفي المقابل لجأت المذاهب الأخرى إلى التقية والعزلة؛ خشية بطش أتباع المذهب الرسمي المتنفذين في السلطة، ولم يكن أمامهم سوى السبات والتهرُّب من الوسط الاجتماعي العام لأزمان متعاقبة. فهكذا يتغلغل منطق التكفير بين أبناء المجتمع، دون أن يلتفت أحدٌ إلى أسبابه الواقعية.
على أعتاب القرن العشرين دخل الاستعمار بلادنا، ولم تكن هناك دراسة ورصد لعلاقات المسلمين مع بعضهم الآخر، تعمل على تقريب وجهات النظر والأهداف، بينما كان الاستعمار يزيد في تفرقة المسلمين وتشتيتهم؛ كي لا يتمكَّنوا من تفعيل سلاح الوحدة في وجهه.
نستنتج من هذه الجولة السريعة أن مشروعنا في التقريب بين المذاهب أمام نوعين من التحدي والمخاطر: الأول: هو المعضلة التي نعاني منها داخل مجتمعاتنا الإسلامية، وهي عبارة عن تفرقة بجذور سياسية، لكن جهتها المنفِّذة هي نحن بالتحديد، وقد نظر لها من الناحية الاعتقادية والدينية كي تعيش وتكبر في وجدان المسلمين.
والثاني: معضلةٌ فرضها علينا الاستعمار والاستكبار، ولن تعالج هذه الحالة السقيمة إلا من خلال التقريب بين المذاهب، واستعادة الوحدة، التي هي صمّام الأمان في الحفاظ على كيان المسلمين من الداخل في مقابل العدو الخارجي.
لابدّيات التقريب العامة
من أجل تحقيق هذا الهدف لابدّ من تحديد جملة من الأولويات، التي يعود بعضها إلى الجانب العقائدي بين المسلمين، والبعض الآخر مرتبط بالوضع السياسي. فعلى صعيد العقائد لابدّ من التأكيد على هذه الأمور:
1ـ يجدر بنا التعرف على أسلوب القرآن في الحوار. فهو يجردنا عن محيطنا الداخلي، ويحلِّق بنا نحو آفاق الفكر. فهو أسلوب غاية في الواقعية والعقلانية من حيث احترام الآخر في الفتاوى.
2ـ لابد من الانطلاق من الإسلام في رسم الأولوية الأولى في التعامل، وجعل الشهادتين حصانة كل مسلم، وضماناً لحريّاته وحريات أيّ مذهب ينتمي إليه، وبذلك يترتَّب عليه كل ما يترتَّب على كلّ مسلم، من صون حرمته ودمه وعرضه.
3ـ لابدّ من شطب مفردة تكفير المسلم من قاموس العلاقات بين المسلمين، وإزالة القلق تجاه الجزئيات، والخشية من مساسها بالأصول العامة في الإسلام، المبتنية على قول الشهادتين.
4ـ لابدّ أن تكون المذاهب عبارة عن أدوار متعدِّدة ووحدة هدف، أي إنها عبارة عن اجتهادات داخل إطار الإسلام العام. فلا يصح وصف مذهب ما بالجهالة لمجرد اختلافه مع المذاهب الأخرى، وتصنيفه في عداد الأعداء كونه لا يؤمن باجتهادات المذهب الآخر. من هنا يقع على عاتق أصحاب الفكر الإسلامي، والمتصدِّين لشؤونه، العمل على إرساء دعائم أسلوب الحوار المجدي في كل مجال من مجالات حياة المجتمع الإسلامي.
5ـ لابدّ من بثّ روح الصلح والسلام والحرية والمودّة بين أتباع جميع المذاهب. وهذا واجب حضاري يتحتَّم على علماء الأمة ومفكِّريها الالتزام به؛ من باب الشعور بالمسؤولية.
6ـ لابدّ من الوقوف في وجه المتشدِّدين في كلّ مذهب؛ لكي يخضعوا أمام الحكم الإلهي؛ لأن هذا هو مبدأ بعض المشاكل الحاصلة. فأحياناً نطرح في اجتماعاتنا نظريةً ما لكننا في مرحلة التطبيق نتَّخذ مواقف متشدِّدة وانفعالية، وقد نمنع أتباعنا من الاطلاع على آراء الفرق الأخرى بذريعة التضليل وأمثال ذلك.
لابدّيات التقريب على صعيد السياسة
ثمة ضرورة ملحّة في التمحور حول أسلوب التحاور القرآني، الذي يحمل في جوهره احترام المقابل، حتّى وإن لم يكن مسلماً؛ فقد يحمل مشتركات فكرية يمكن معها العثور على نقاط التقاء مع أتباع الأديان الأخرى وأولئك الذين لا يؤمنون بدينٍ ما. لكن لابدّ من الالتفات إلى جملة من القضايا تتعلق بالسياسة، ومنها:
1ـ الفصل بين المسائل الأساسية والفرعية في المجتمع الإسلامي تجاه العالم؛ لأن منها ما هو عائد إلى جميع الأمة الإسلامية، ولا يحقّ لجهة أو فرد اتخاذ القرار؛ لأن مضارّها ستعمّ جميع أقطار المجتمع السياسي الإسلامي.
2ـ هناك من القضايا ما يتعلّق بالجانب الوطني لدى المسلمين. ونظراً لانتشار الوطن الإسلامي في جغرافياه السياسية فلابد من اتخاذ القرار هنا وفقاً لموقعية المسلمين في مجتمعاتهم، والأخذ بعين الاعتبار المكوِّنات الخاصة في كلّ مذهب.
3ـ باتت قوى الاستكبار العالمي ـ بشكل عام ـ وأمريكا ـ بشكل خاص ـ تستهدف الإسلام والمسلمين؛ لذا لابد من مواجهة هذا التحدي وفق موقف موحَّد بين جميع المسلمين.
4ـ لابد من مراجعة المفاهيم المتداولة في المجتمع الدولي ـ والتي يغلب عليها طابع الإرهاب والعنف والشر ـ، وبات يطلقها علينا بين الحين والآخر.
5ـ لابد من توحيد الموقف وبنية الخطاب الإسلامي في مواجهة المخالفين لوحدة المسلمين، وفي التعامل مع المصطلحات الجديدة السائدة في خطابات المجتمع الدولي ومؤسَّساته؛ وذلك للوقاية من حصول التفرقة بين صفوف المسلمين.
كلمة أخيرة
ليست الوحدة الإسلامية مجرَّد لافتات نرفعها في المناسبات؛ محاباةً، بل هي جزءٌ من صميم الإسلام الحاضر في خضم تجاذبات هذا العالم واضطراباته الحالية.
بقيت مسألة أخيرة، وهي أننا لو لم نتمكن من تحقيق الوحدة عملياً فلابدّ أن نتعلم كيف نتساير مع اختلافاتنا، وكيف نبقى سائرين على الخط القرآني الذي وصفنا بالأمة الواحدة.
إن ما يحدِّق بنا من تحديات كبير جداً، ونحن نعيش في مرحلة خطيرة وحساسة للغاية، قلّ نظيرها في التاريخ الإسلامي. وعليه لابدّ أن نبقى يقظين تماماً تجاه كل شيء، ولنعلم جيداً أن الاستمرار في الخلاف قد يؤدي إلى انهيار السقف على رؤوس الجميع.
______________________
(*) باحث في الفكر الإسلاميّ.