أحدث المقالات

د. دل آرا نعمتي پير علي(*)

ترجمة: د. حسن نصر الله

ملخَّص البحث

كلمة «العهد»، كما استعملها القرآن، بمعنى الميثاق، والأمر، والوصية. وتشترك هذه المعاني الثلاثة في مضمون التزام الإنسان بالتكليف الإلهي.

ولعهد الله مع الإنسان صورتان: باطنية؛ وقولية. العهد الباطني بين الله والإنسان هو إعطاء مقام الإمامة الذي لا بُدَّ أن يُسْبَق بالفَيْض الإلهي، وحيازة حالة داخلية في الإنسان، من خلالها يتمّ التحقُّق بالاصطفاء، والعصمة، وحقيقة العبودية، وكمال الارتباط، ونزول الوَحْي.

ولعهد الإنسان مع الله أيضاً صورتان: قولية؛ وباطنية. ويمكن تصوُّر العهد الكلامي للإنسان مع الله ومع الناس من خلال تحمُّل المسؤولية. والعهد الباطني للإنسان مع الله هو اتّباع طريق الإيمان والالتزام العملي بالعقائد والتكاليف. وبغضّ النظر عن حقيقة أن العهد القديم لم يتطرَّق صراحةً إلى عهد الله الباطني مع الإنسان، فإنه يشترك مع تعاليم القرآن بالنسبة إلى العهد القولي، وكذلك عهد الإنسان مع الله، وذلك في المسائل الكُلِّية، خلافاً للعهد الجديد الذي لا يعتبر المناسك الشرعية سبباً للقرب من الله، ولكنّ الإيمان بالمسيح وحقيقة الصلب يؤدّيان إلى اتّحاد الإنسان بالمسيح، وخلاصه.

مقدّمةٌ

العالم قائمٌ على نظام الحركة والتحوُّل. والإنسان في هذا العالم مكلَّفٌ أن يفعّل ـ في سَيْره التكاملي ـ ما تمّ إيداعه في فطرته، وأن يصل إلى مقامٍ يقرّبه من ساحة الكبرياء الإلهية، ويتخلّق بصفات الله. السير التكاملي للإنسان، الذي هو الصراط المستقيم، عبارةٌ عن الطاعة والعبودية، أي طاعة الرسل وعبادة الله بالتوحيد والتنزيه. وهذا الأمر غير ميسَّرٍ إلاّ من خلال رفض عبودية الشيطان وطاعته، ووضع الرأس على عَتَبة الحبيب. لذلك لا يمكن طيّ طريق الكمال بدون المحافظة على الالتزام بأوامر الله وأحكامه، وهذا هو مضمون العهد بين الله والإنسان. لقد قطع الله عهداً مع الإنسان بالتكليف، وأرشده إلى هذا الطريق، وهداه إليه، وأبلغه بكلّ خصائص الطريق وشروط اجتيازه، وأخذ منه عهداً بالالتزام به. إنه الإنسان الذي من خلال الوفاء بعهده، وصدقه والتزامه في التحقّق به، يقطع طريق الكمال، ويصل إلى المنزل المقصود، أو ينكث بعهده، ويأبى الالتزام العملي بتكاليفه؛ ليورّط نفسه في هلاك الأبد. بما أن القرآن الكريم يعتبر جميع الرُّسُل واقعين على المسار الطولي ذاته، وأن الدين الإلهيّ واحد: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ﴾ (الشورى: 13)؛ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 25)، فيمكن بالتالي معرفة أن طريق نجاة الإنسان وفلاحه في جميع الأديان هو الالتزام بأحكام العهد الإلهيّ، والتسليم أمام التكاليف الإلهيّة. ومن هنا فإن دراسة «العهد» في القرآن الكريم ونصوص العهدين؛ من أجل الوقوف على مضمون العهد الإلهي في الأديان، وبيان أوجه التشابه والاختلاف بين هذه النصوص المقدّسة، سيكون مفيداً.

العهد ومعانيه

أـ المعنى اللغويّ

كلمة عهد في اللغة من جذر «ع،هـ،د»، بمعنى الوصية([1])، والاحتفاظ([2])  والحفاظ المستمرّ على شيءٍ. ولهذا يعني العهد الذي يجب رعايته([3])؛ وأيضاً رعاية الحرمة تُسمّى عهداً([4]). وكذلك جاءت كلمة العهد بمعنى كفالة أحدهم بإعطائه الأمان تجاه أمرٍ ما، وبالتالي تستعمل أيضاً بمعنى الأمان والذمّة([5]). لذلك بإمكاننا القول: إن العهد يعني التزاماً خاصّاً تجاه شخصٍ ما، على شيءٍ تمّ الوفاء به بموجب عَقْدٍ أو وصيّة أو قسمٍ، ويتطلّب الحفاظ عليه والأمان([6]). ولكنْ يمكن استخدام كلّ من هذه العناصر، حَسْب الاقتضاء، بمعنى العهد. وبعبارةٍ أخرى: العهد في الأساس بمعنى الحفظ، وكلّ معانيه مستمدّةٌ من هذا المعنى الواحد، مثل: العهد بمعنى الميثاق، والقَسَم، والوصيّة، واللقاء، وما شابه([7]).

ب ـ المعنى الاصطلاحيّ

«العهد» في المصطلح الفقهي هو الذي يقطعه العبد مع ربّه لأداء أوترك عملٍ ما. وصيغته: «عاهدتُ الله» و«على عهد الله»([8]).

وفي المصطلح العرفاني العهدُ الحقيقي هو العهد الأزلي الذي قطعه الله مع الإنسان في اليوم الأوّل، والمعروف باسم «عهد أَلَسْتُ». حيث يقول: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ (الأعراف: 172). حقيقة هذه الآية في المصطلح العرفانيّ هي التعبير عن انعقاد عهد المحبة بين الله وأحبّائه([9]).

استُخْدِمت كلمة «العهد» في القرآن الكريم 46 مرّة بصيغٍ اسمية وفعلية، وفي جوانب دلالية مختلفة.

والجانب الدلالي الأكثر استخداماً هو العهد، حيث يقول: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾ (الإسراء: 34). وعلى ما يبدو فإن هذا يعني أيّ اتفاقٍ يبرمه أحدهم مع غيره. ويأمر الله في هذه الآية بحفظه والوفاء به([10]).  ونظيره: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ…﴾ (البقرة 40).

والمعنى الآخر للعهد هو الأمر الإلهيّ([11])، مثل: الأمر الذي صدر من الله لإبراهيم وإسماعيل: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ (البقرة: 125). وعليه فإن كلمة العهد في هذه الآية الكريمة تكون بمعنى الأمر([12])، مثل: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَنْ لاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾ (آل عمران: 183).

ومن معاني العهد الأخرى في القرآن الكريم النُّصْح والتوصية([13])، حيث يقول: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ (يس: 60). فكلمة «عهد» في هذه الآية الكريمة بمعنى الوصيّة([14])، على الرغم من أن بعض المفسِّرين يعتبرون كلمة «عهد» في هذه الآية بمعنى الأمر والفرمان، وفسَّروا العهد بالأمر الإلهيّ باتّباع نهج الأنبياء، وما جاء في الكتب السماوية([15])، ولكنْ؛ بالنظر إلى الآية التالية التي تقول: ﴿وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ (يس: 61)؛ والالتفات إلى أن عبارة ﴿وَأَنْ اعْبُدُونِي﴾ معطوفةٌ على ﴿لاَ تَعْبُدُوا([16])، يبدو أن العهد في عبارة ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ﴾ له معنىً عامّ، ويشير إلى كلٍّ من معنى الأمر والنصيحة؛ لأن عهد الله مع الإنسان قائمٌ على التكليف الإلهي، الذي يقترن بالنصيحة والوصيّة.

كما استُخدِمَتْ كلمة العهد في القرآن الكريم بمعنى الوفاء والالتزام، حيث يقول: ﴿وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ﴾ (الأعراف: 102)؛ وأيضاً بمعنى دين الله؛ لأن الدين بمنزلة العهد بين الله وخلقه([17])، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ﴾ (آل عمران: 77).

كما استُعمِلَتْ بمعنى اللقاء بعد الفراق، حيث يقول: ﴿يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ﴾ (طه: 86).

ويمكن القول على العموم: إن «كلّ أوجه استعمال القرآن للعهد أتَتْ بمعنى «الميثاق»، أو في حالاتٍ قليلة بمعاني الأمر والفرمان، والتوصية، والنصيحة والوفاء واللقاء، وهذه بدَوْرها تستلزم معنى العهد الذي يجب الوفاء به.

العهد في الثقافة اليهودية والمسيحية أيضاً بمعنى الميثاق الذي يتمّ إبرامه بين الله والإنسان، مثل: العهد الذي قطعه الله مع إبراهيم([18]). وقد جاء تفصيل هذا العهد في الكتاب المقدَّس. ويعتبر المسيحيون أن كامل الكتاب المقدَّس هو كتابهم السماويّ والإلهي، في حين يعتبر اليهود أن قسماً منه فقط من مصدرٍ إلهيّ([19])؛ فالعهد القديم هو الكتاب المقدَّس اليهودي، المكوَّن من 39 كتاباً في النسختين اليهودية والبروتستانتية. والعهد الجديد خاصٌّ بالمسيحيين، ويشتمل على 27 كتاباً([20]).

تعود تسمية الكتاب المقدَّس بـ (العَهْدَيْن) إلى أنه مؤلَّف من الكتاب المقدَّس اليهودي (العهد القديم) والكتاب المقدَّس المسيحي (العهد الجديد).

ويشير مصطلح «الجديد» بحَسَب الاعتقاد المسيحي القديم إلى أن الله تصرَّف في يسوع بطريقةٍ جديدة للخلاص. وهذه هي وعود الله للشعب اليهودي. ويمكن العثور على مصطلح «العهد الجديد» في كورنثوس الثانية([21])، حين يطلق المبشِّر المسيحي القديم بولس عبارة «أعضاء العهد الجديد» على المسيحيين، ويسمّي أسفار موسى بـ «العهد القديم». ويعود الفضل في هذا المصطلح إلى سفر إرميا([22])، الذي وعد فيه الله: هَا أيامٌ تَأتِي، يَقُولُ الربّ: وَأقْطَعُ مَعَ بَيْتِ اسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْداً جَدِيداً([23]). يعتقد المسيحيون أن الله قطع عهداً مع هذا الشعب في زمن شيوخ إسرائيل، وأمرهم بأداء واجباتهم، ثم تجدَّد هذا العهد في زمن موسى من خلال عهده، الذي كان يشكِّل مقدّمةً للعهد مع كلّ شعوب العالم، والبشارة بقدوم المسيح([24]).

ويرجع السبب في تسمية الإنجيل، الذي يعني البشارة، بهذا الاسم إلى إيمان المسيحيين بأن المخلِّص الذي وَعَدَ به العهد القديم، والمسمّى مسيح بني إسرائيل، هو يسوع المسيح نفسه. وقد بشَّرَتْ الأناجيل، بينما كانت تصف حياة يسوع، بمجيئه([25]). يُوصَف يسوع في الأناجيل على أنه تحقُّق توق العهد القديم إلى مجيء المسيح الموعود([26]). ويشير الكتاب المقدَّس إلى الاعتقاد المسيحي في أن الله قد قطع عهدين مع البشر:

عهد قديم، قطع فيه عهداً مع الناس بأن يعملوا وفق الشريعة الإلهية، والذي انتهى بمجيء المسيح.

وقد قطع الله عهداً آخر مع البشر، سُمِّي «العهد الجديد»، وهو عهدُ محبّةٍ بين الله ويسوع المسيح([27]).

لذا فإن لمصطلح العهد القديم والعهد الجديد طبيعةً لاهوتية. والإطار اللاهوتي المسيحي الذي يؤدّي إلى مثل هذا التمييز هو نفس إطار «العهود» أو «الشرائع». الاعتقاد المسيحي الأساس في نظرته إلى العهد القديم هو التالي: تُقْبَل الأصول والأفكار الدينية، ولكنْ يتمّ التخلي عن الطقوس الدينية([28]). الرسائل التي يتألَّف منها الكتاب المقدَّس بأكمله تسمّى باليونانية kanon، والتي تعني الميزان والمقياس([29]).  تستخدم في معظم اللغات الأوروبية لتسمية الكتاب المقدَّس كلماتٌ مشتقة من الكلمة اليونانية (biblian)، والتي تعني «الكتب». وهذه الكلمة تسمى باللغتين الإنجليزية والفرنسية «بيبل» (Bibel)([30]). واستخدمت أيضاً؛ للدلالة على العهد، كلمة (Testament)، التي تعني الميثاق([31])  والوصيّة([32])،  وذلك أكثر من 270 مرّة. وكذلك استُخْدِمَتْ كلمة (Covenant) بمعنى العهد والميثاق([33])  والعهد بين الإنسان والله([34])، في 14 موضعاً. ويبدو أن جميع استعمالات كلمة (Covenant) تتعلّق بعهد الله مع الأنبياء قبل المسيح، وتفيد معنى إعطاء البركة([35])، والرحمة([36])، والتشريع([37])، وغفران الخطايا البشرية([38]). وقد استخدمت هذه الكلمة أيضاً في العهد القديم عند ذكر العهد بين الله والإنسان([39]). بل إن هذه الكلمة تُستخدم أيضاً للتعبير عن العهد بين البشر أنفسهم([40]). لكنّ استخدام كلمة (Testament) يتضمّن التعبير عن عهد الله الجديد([41])، ودم المسيح في العهد الجديد([42])،  وكأس العهد الجديد بدم المسيح([43])، ودم العهد([44])، وعهد الله([45]). وبعبارةٍ أخرى: تتضمن كلمة (Covenant) معنى العهد الثنائي بين البشر أنفسهم، أو بين الإنسان والله، والذي يتحقَّق في النوع الأخير بإرادة الله وعطائه من جهةٍ؛ وتسليم الإنسان والتزامه من جهةٍ أخرى. لكنّ كلمة (Testament) تشير إلى نوعٍ خاصّ من العهد، ينصّ على عطاء الله وفَيْضه للإنسان من خلال دم المسيح. ويمكن دراسة العهد من كلا الجانبين: عهد الله مع الإنسان؛ وعهد الإنسان مع الله.

العهد الإلهي مع الإنسان

أـ في العهد القديم

العهد الإلهيّ الأوّل المذكور في التوراة هو العهد الذي قطعه الله مع آدم. هذا العهد هو عهد تسليم الإنسان لله وطاعته في تحريم الأكل من الشجرة المحرَّمة: «وَأَوْصَى الربّ الإلهُ آدَمَ قَائِلاً: «مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنةِ تَأكلُُ أكلاً، وَأما شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشر فَلاَ تَأكُلْ مِنْهَا»([46]). ولأن آدم عصى هذا الأمر استوجب العقاب([47]). وقد اتّضح أن مفاد هذا العهد كان تسليم آدم لأمر الله.

وبعد العهد الأوّل الذي قطعه الله مع آدم، قطع العهد الثاني مع نوحٍ قبل الطوفان، فقال: «فَهَا أنَا آتٍ بِطُوفَانِ الْمَاءِ عَلَى الأرْضِ لأُهْلِكَ كلّ جَسَدٍ فِيهِ رُوحُ حَيَاةٍ مِنْ تَحْتِ السّمَاءِ. كلّ مَا فِي الأرْضِ يَمُوتُ. وَلكِنْ أقِيمُ عَهْدِي مَعَكَ، فَتَدْخُلُ الْفُلْكَ أنْتَ وَبَنُوكَ وَامْرَأتُكَ وَنِسَاءُ بَنِيكَ مَعَكَ»([48]).  وقد بين الله سبب هذا العهد مع نوحٍ على النحو التالي: «إني إياكَ رَأَيْتُ بَارّاً لدََيّ فِي هذَا الْجِيلِ»([49]). وبارك الله نوحاً وأبناءه بعد الطوفان، وأعطاهم تعليمات حول طريقة استخدام اللحوم، وأحكام القصاص([50]). يبدو من خلال تعليل انعقاد العهد باستقامة نوحٍ أن مضمون هذا العهد هو الالتزام بالإيمان بالله وعبادته والتسليم لأمره.

وكان عهد الله مع ابراهيم هو العهد الإلهيّ الثالث المذكور في التوراة، والذي جرى الحديث عنه بالتفصيل. يبدأ تاريخ الشعب اليهوديّ بإبراهيم، فقد دعاه الله، كجزءٍ من العهد، للسفر إلى أرض كنعان (فلسطين القديمة)، ووعده أن يكون أبناؤه أمّة عظيمة: «فَاجْعَلُ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَأكثِّرَكَ كَثِيراً جِدّاً»([51])؛ «سأجعلهم وَرَثة أرض كنعان»([52]). هذه هي النقطة الأساسية في عهد الله مع إبراهيم: وَأعْطِي لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أرْضَ غُرْبَتِكَ، كلّ أرْضِ كنَْعَانَ مُلْكاً أبَدِيّاً. وَأكوُنُ إلهَهَمْ([53])، أي إن أهمّ عهدٍ قطعه الله لإبراهيم هو إعطاء أرض كنعان لذرّيّته من وَلَده إسحاق([54])، والذي يعتبر وِفْقاً للتوراة عهداً أبديّاً([55]). وبناءً على هذا العهد سيصبحون مصدر بَرَكةٍ للعالم.

وقد فسَّر المسيحيون القدماء هذه البَرَكة بيسوع المسيح، الذي من خلاله يمتدّ العهد مع إبراهيم؛ ليشمل جميع الأُمَم المؤمنة([56])، وبالطبع فإن تحقيق هذا الوعد الإلهيّ مشروطٌ بطاعة الأوامر الإلهيّة. ومع ذلك، وفقاً لسِفْر التكوين([57])، صار الختان رمزاً للتكليف الإلهي، وصار التزامُ إبراهيم به علامةً على التزامه بالعهد الإلهيّ.

لكنْ في الواقع لم تُعْطَ الشريعة إلاّ في زمن موسى، بعد أن غادر الإسرائيليون مصر([58]).

فالعهد الرابع إذن هو عهد الله مع موسى، وظهور الشريعة الإلهية بمعناها الخاصّ، من خلال بعثة موسى واستلام الألواح في طور سيناء([59]). من أجل إقامة عهد الله كتب موسى جميع وصايا الله في سفر العهد، وقدّمها إلى بني إسرائيل([60]). برشّ دم الذبيحة على الشعب ختم عهد الله([61]). ذكرت أحكام شريعة موسى بالتفصيل في الفصول 20 ـ 40 من سفر الخروج.

ويعكس استخدام كلمة «عهد» في التوراة حقيقة أن عهد الله مع موسى وبني إسرائيل هو عهدُ عبوديّةٍ وشريعة، حتّى أن منح الأرض المقدّسة لهم مشروطٌ بطاعة الأمر الإلهيّ([62]). كما جاء في بعض المقاطع من التوراة: «فَأَحْبِبِ الربّ إلَهَكَ وَاحْفَظْ حُقُوقَهُ وَفَرَائِضَهُ وَأحْكاَمَهُ وَوَصَايَاهُ كلّ الأيّامِ…؛ لِكَيْ تَكْثُرَ أيامُكَ وَأيامُ أوْلادِكَ عَلَى الأرْضِ الّتِي أقْسَمَ الربّ لآبَائِكَ أنْ يُعْطِيَهُمْ إيّاهَا»([63]). وعليه يمكن القول: إنّ منح الأرض المقدّسة لم يكن في حدّ ذاته مضمون عهد الله مع بني إسرائيل، ولكنها اكتسبَتْ قيمةً وأهمّيةً؛ لأنها تشكِّل أرضيّةً جاهزة للنضوج المادّي والمعنوي لأُمّةٍ يجب أن تطيع أوامر الله، وتصل إلى كمال العبودية الفرديّة والاجتماعيّة، وتؤسِّس حكومةً دينيّة، ومجتمعاً توحيديّاً([64]). وقد استمرّت هذه الطاعة والتسليم، وتمّ التأكيد عليها أيضاً في مستقبل هذا الشعب، وانعكسَتْ في وصيّة موسى الأخيرة، بطاعة النبيّ الذي سيأتي فيما بعد([65]).

تُظهر مجموعة الموادّ المتقدّمة في العهد القديم أن عهد الله كان دائماً بين طرفين: الله؛ والإنسان. لكنّ العهد مع موسى هو عهدٌ بين الله وبني إسرائيل. وهكذا يعطي الله السيادة والقداسة لهذا الشعب؛ نتيجة تسليم بني إسرائيل للأوامر والأحكام الإلهيّة([66]). وعلى أيّ حالٍ يمكن رؤية المفهوم الثنائي للعهد الإلهيّ، والذي يتضمّن عنصرَيْ: الطاعة من قِبَل الناس؛ والعطاء المقابل من قِبَل الله، في كلّ هذه الحالات التي سبق ذِكْرُها، من لَدُنْ آدم ووصولاً إلى موسى.

ب ـ في العهد الجديد

اتَّخَذَ مفهوم العهد في تعاليم العهد الجديد شكلاً جديداً، مستمدّاً من تعاليم العهد القديم. يقول الله، وهو يقطع عهداً جديداً على لسان النبيّ إرميا: هَا أيامٌ تَأتِي، يَقُولُ الربّ: وَأقْطَعُ مَعَ بَيْتِ إسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْداً جَدِيداً، لَيْسَ كاَلْعَهْدِ الذِي قَطَعْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ يَوْمَ أمْسَكْتُهُمْ بِيَدِهِمْ لأُخْرِجَهُمْ مِنْ أرْضِ مِصْرَ، حِينَ نَقَضُوا عَهْدِي فَرَفَضْتُهُمْ، يَقُولُ الربّ: بَلْ هذَا هُوَ الْعَهْدُ الذِي أقْطَعُهُ مَعَ بَيْتِ إسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الأيامِ، يَقُولُ الربّ: أجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ، وَأكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأكوُنُ لَهُمْ إِلَهاً وَهُمْ يَكوُنُونَ لِي شَعْباً([67]).

ويمكن تتبُّع تأثير الفقرات المذكورة من سفر النبيّ إرميا في أفكار وتعاليم العهد الجديد، وظهور فكرةٍ جديدة عن عهد الله مع الإنسان في فقرات من العهد الجديد.

وقد استخدم بولس نفس الكلمات في رسالته إلى العبرانيّين([68]). وتثير هذه الفقرات فكرةً في ذهن بولس أن العهد الأوّل، الذي قطعه الله مع شعبه، كان مترافقاً مع أحكامٍ للعبادة ومكانٍ لها([69]). لكنّ الشريعة كانت أضعف من أن تكون قادرةً على أن تمنح أحداً رجاء الخلاص، ولم تستطِعْ أبداً أن تصالح أحداً مع الله»([70]).  لذلك آمن بولس بأن «لدينا الآن رجاءً أفضل؛ لأن المسيح جعلنا مقبولين عند الله؛ حتّى نقترب من الله؛ لأن يسوع؛ كونه حيّاً إلى الأبد، يشفع لنا دائماً في محضر الله. ويذكِّرنا بحقيقة أنه دفع ثمن خطايانا بدمه»([71])، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ دَخَلَ مَرّةً وَاحِدَةً إلَى الأقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أبَدِيّاً([72])، وأنقذنا من الناموس ووصايا الروح السابقة، وأعطانا الرغبة في خدمة الله بإرادتنا([73]). «هذا العهد الجديد، الذي هو عهد أبديّ»([74])، وهو عبارةٌ عن تحرُّر الإنسان من قيود التكليف والشريعة، والالتزام بمحبّة المسيح.

وقد بيَّن بولس في رسالة كورنثوس الأولى، أثناء الحديث عن العشاء الأخير، مسألة استبدال دم المسيح بدم الذبيحة، والذي يرمز إلى إتمام العهد في شريعة موسى، كما يلي: أخذ الربّ يسوع الكأس، قَائِلاً: هذِهِ الْكأسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي. اصْنَعُوا هذَا كلّمَا شَرِبْتُمْ لِذِكْرِي»([75]). ثُم قُلْتُ: هَنَذَا أجِيءُ. فِي دَرْجِ الْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنّي، لأفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا الله([76]).

وهكذا، وفقاً لتعاليم الكتاب المقدَّس، يكون العهد الذي قطعه الله أوّلاً مع آدم، وأكَّده وجدَّده مع إبراهيم، وفصَّله مع موسى، قد أصبح عهداً جديداً مع يسوع. يعتبر اللاهوت اليهوديّ إعلان موسى هو نهاية الوَحْي السماوي، وعهد موسى هو آخر عهد الله مع الإنسان.

يتشابه مفهوم العهد في الدِّين اليهودي مع عهود الأنبياء قبل موسى، ويقتصر على العهد الإلهيّ بالالتزام بالطاعة والعبودية والتكليف والشريعة؛ بينما تغيَّر مفهوم العهد في اللاهوت المسيحيّ، من التزام الإنسان بالتكليف إلى الانعتاق من نَيْره.

ج ـ في القرآن الكريم

لعهد الله مع الإنسان صورتان، وفقاً لآيات القرآن الكريم: عهدٌ باطنيّ وبالذات؛ وعهدٌ بالقول والإظهار([77]).

1ـ العهد الباطني

إن العهد الباطنيّ، الذي يتحقَّق بالفَيْض الإلهي في ذات الإنسان، هو العهد الذي يقول عنه القرآن الكريم: ﴿…قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة: 126). والمقصود من «العهد» في هذه الآية هو مقام الإمامة. وتُعَدّ الإمامة جَعْلاً إلهيّاً، بناءً على قوله: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾. والإمام هو النموذج الكامل لجميع الكمالات العقلية والنفسية([78]). ومن ثمّ فالعهد أمرٌ يحصل في النفس، ويوجد في الذات، ويتحقَّق من خلاله الاصطفاء، والخلوص، والعصمة، وحقيقة العبودية، وكمال الارتباط، وتمام العلم، والمعرفة، ونزول الوَحْي، والرحمة، وشمول الفيوضات الربّانية، والأنوار الإلهية([79]). كما أن قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ﴾ (الأعراف: 134) يشير إلى نزول الفيوضات الربّانية على موسى، وينصّ على أنه مستجابُ الدعوة([80]). وهذا المقام مسبوقٌ بإتمام الكلمات، بناءً على بقيّة آيات القرآن الكريم، حيث يقول: ﴿وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ (البقرة: 124). ولعلّ الكلمات التي ابتلى اللهُ بها إبراهيمَ كانت هي الحقيقة المَلَكوتية، والأعيان الثابتة لموجودات العالم، التي أنارَتْ فطرته الطاهرة، وعلقت بقوّةٍ برغبة ضميره، لدرجة أنها ابتلَتْه بها، وجذبَتْه إليها، بحيث تكون آثار تلك الحقائق في باطنه قد وصلَتْ إلى حدِّ الكمال وتحقَّقَتْ فيه. قادته كلمة الربوبية إلى كشف الحُجُب، ومشاهدة الملكوت، وتغيير الوجه. نقلَتْه كلمة «البحث» من سرّ الحياة والبقاء إلى الاطمئنان واليقين. وساقَتْه كلمة «الفداء والمضيّ في طريق الحقّ ونجاة الناس» إلى الوقوع في النار، وقطع العلائق. وقادَتْه كلمة التسليم أمام إرادة الخالق إلى ذَبْح ولده.

ذلك الذي تريد حكمة الله وإرادته أن توصله إلى منصب القائد المطلق لا بُدَّ أن تبتليه أوّلاً بمثل هذه الكلمات. ومن ثمّ تبلغه كماله بمَدَدها الخاصّ([81]) . وبعد أن أتمّ إبراهيم الكلمات أصبح لائقاً بالمقام السامي للإمامة، هذا المقام المسبوق والمشروط بإتمام الكلمات وتحقُّقها في الشخصية. وهذا العهد الإلهيّ، الذي هو الإمامة والقدوة المطلقة، أصبح نصيب مثل هكذا شخصيّة.

2ـ العهد القولي

وهو نوعٌ آخر من العهد بين الله والإنسان، والذي عادةً ما يكون مصحوباً بحرف الجرّ «إلى»، وهو عبارةٌ عن أوامر وأحكام إلهيّة، كما قال: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾ (طه: 115). ويُستفاد من قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ (الأعراف: 19) أن المقصود من «العهد» هو النهي عن الأكل من الشجرة([82]). لذلك يمكن القول: إن «عَهِدْنا» في هذه الآية بمعنى «أَمَرْنا»([83])، كما يقول في مناسك الحجّ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ (البقرة: 125). حرف «من» للتبعيض، ويدلّ المعنى الاصطلاحي لـ «مقام» إلى التوسُّع في معنى «مقام» في الآية، لذلك فإن المكان الخاصّ الذي تمّ بناؤه بجوار الكعبة، والذي تكون فيه الصلاة واجبةً، هو رمزٌ للمقام الحقيقي والموسّع لإبراهيم، الذي قام فيه من أجل إتمام الكلمات وإعلان الحقّ. وعلى الآخرين أن يتَّخذوا من ذكر مقام إبراهيم مصلّى، وأن يقوموا ويتقرَّبوا إليه. لذلك يمكن القول: إن المفهوم العامّ «لاتّخاذ مقام إبراهيم» هو القيام من أجل الله والتقرُّب منه، والذي لا يمكن أن يتحقَّق إلاّ من خلال الامتثال للأوامر والنواهي الإلهيّة. يشير اقتران فعل «اتّخذوا» الذي يعلن أمراً تشريعياً بعبارة ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي﴾ إلى أن كلمة «عَهِدْنا» في هذه الآية تعني أيضاً «أَمَرْنا»([84]). ولما كان القرآن الكريم قد رَبَطَ في موضعٍ آخر مسألة تطهير البيت بعدم الشِّرْك به: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ (الحجّ: 26) اتّضح أن عهد الله مع الإنسان هو الأمر بعدم الشِّرْك والعبادة الخالصة. كما تمّ بيان هذا المعنى بصراحةٍ في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ (يس: 60 ـ 61). والتركيز في هذه الآيات، في سياق سورة «يس»، التي تنصّ على أصول الدين الثلاث: التوحيد والنبوة والمعاد، يدلّ على أن العهد الإلهي مع الإنسان وثيق الصلة بهذه المواضيع الثلاثة. تبدأ سورة «يس» بموضوع النبوّة، وتذكر حال الناس في قبول ورفض دعوة الأنبياء، قال تعالى: ﴿يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (يس: 1 ـ 4). لقد أوضح من خلال القَسَم بالقرآن الحكيم عَظَمة جواب القَسَم، والذي هو رسالة النبيّ الأكرم|. تكمن عظمة رسالة النبيّ الأكرم| في أنها مسبوقةٌ بالوصول إلى الله تعالى، والتعرُّف التامّ على مقام الأَحَدية، ثمّ السفر النزولي من الحقّ إلى الخلق([85]). كما تشير عبارة «على صراطٍ مستقيم» إلى طبيعة هذه الرسالة، التي هي الاستقامة، فالرسالة لا انحراف فيها ولا غموض ولا التباس، وتنسجم مع فطرة الخلق وناموس الوجود، وتقع على المسار نفسه للقوانين الحاكمة في الوجود. لهذا السبب فإن هذا الطريق هو عين الطريق إلى الله، ويوصل إليه([86]). وترشدنا مقارنة قوله: ﴿إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (يس: 3 ـ 4) مع قوله: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ (يس: 60 ـ 61)؛ وبالنظر إلى سياق السورة كلّها، التي تثبت النبوّة ثمّ التوحيد والمعاد، ترشدنا إلى حقيقة أن العهد الإلهيّ مع الإنسان هو الالتزام بالتعاليم والتكاليف الإلهية التي بلّغها الأنبياء، وقادَتْ الإنسان إلى طريق التوحيد والعمل بالتكاليف الإلهية، والتخلُّق بأسماء الله، وهيّأته لدخول الآخرة.

وتشير الآية الكريمة: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة: 38) إلى حقيقة أن محتوى عهد الله مع الإنسان هو الالتزام بالهداية الإلهية.

مجيء الهُداة محكومٌ بقانون الخلق، ومن لوازم الحكمة، ولكنّ تأثير هدايتهم يتعلَّق بقابلية ويقظة الساقطين (البشر الذين هبطوا من الجنّة إلى الأرض)؛ فإذا اتّبعوا الهدى الذي جاء به الهُداة يَسْلَمون من السقوط([87]). وفي السياق نفسه، في الآية التالية، يذكِّر الله في خطابه لبني إسرائيل؛ بوصفهم مجموعةً بارزة من الساقطين، بالنعمة والوَحْي والنبوّة والهداية، ويبيِّن لهم أن حفظ التعاليم والتكاليف الوحيانية تشكِّل مضمون عهد الله: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ (البقرة: 40).

ويعتبر ـ على هذا الأساس ـ الحفاظ على العقيدة والتوحيد واتّباع الأنبياء هو العهد الذي أخذه الله من بني إسرائيل، ومن كلّ أمّةٍ تدين بدينٍ إلهيّ.

والعزّة والقوّة والأمان هو العهد الذي قطعه الله على نفسه أن يحقِّقه للمُوفين بعهده([88]).

حديث العهدين والقرآن في عهد الله مع الإنسان، وجوه التشابه والاختلاف

يترتَّب العهد القولي في القرآن الكريم، الذي هو نزول الوَحْي المتضمِّن أوامر الله وتعاليمه، على العهد الباطنيّ، وإحراز الكمال النفسيّ للنبيّ في مواجهة حقيقة مَلَكوت العالم والابتلاءات الإلهية، والذي يمكن تسميته بـ «مقام اليقين»، ويؤدّي إلى مقام الخضوع والتسليم والعبودية.

كانت هناك إشاراتٌ إلى قابلية نوحٍ النفسية في العهد القديم، وبخاصّةٍ في قصّة نوحٍ×، والنتيجة هي نزول الأوامر الإلهية والوَحْيانية عليه. ويمكن إرجاع المفاهيم نفسها إلى قصّة إبراهيم وموسى’ في العهد القديم. وبعبارةٍ أخرى: إن مفاهيم الأهليّة الايمانية لتلقّي الوَحْي، ومن ثمّ أمرهم بالتسليم له وعبادته، هي مفاهيم شائعة في عهد الله مع الناس في القرآن والعهد القديم، مع الفارق في أن الاتّفاق الثنائي بين الله والإنسان في عهد الله مع موسى قد تمّ تقليصه إلى عهد الله مع بني إسرائيل، وركّز أكثر على منح الأرض المقدّسة.

لكنّ العهد في العهد الجديد وَجَد معنى جديداً. وبشكلٍ أساس تنازل عن الالتزام والتعهُّد بالناموس الإلهي؛ للتحرُّر من التكليف، والالتزام بمحبّة الله والمسيح. وبعبارةٍ أخرى: إن التسليم والشريعة، اللذين يُعتَبَران في القرآن والعهد القديم المحور الرئيس للعهد، والعامل الأساس في كمال الإنسان، قد تمّ إلغاؤهما في العهد الجديد، وتمّ تقديم المحبّة كعامل نضوج الإنسان وكماله، وكمحتوى عهد الله مع الإنسان.

العهد البشريّ مع الله

أـ في العهدين

تركَّز الاهتمام في كتب العهدين بخصوص عهد الإنسان على الجانب الشخصي، الذي تجلّى في المعاملات والعلاقات مع الآخرين. ومن ثمّ فإن عهد الإنسان يتّخذ شكل عهدٍ بين شخصين أو شعبين، مثل: عهد إبراهيم مع أبي مالك على بئر سبع([89]).

وفي ما يتعلَّق بعهد بني إسرائيل مع الأمم الأخرى هناك أيضاً حالاتٌ في العهد القديم، مثل: العهد مع القبائل الوَثَنية أثناء تفكُّك الدولة اليهودية، ممّا أدّى إلى تدمير كلتا الأُمّتين([90]). ومُنع ـ بشكلٍ عامّ ـ شعب إسرائيل من الحفاظ على العهد مع القبائل المجاورة([91]).

ومن الاستخدامات الأخرى لعهد الإنسان معنى الفريضة التي برقبته، وعليه أن يحفظها في ذهنه، ويعمل بها، كطقوس يوم السبت، التي قُدِّمَتْ بصفتها فريضة على بني إسرائيل، وهم ملزمون بالعمل بها([92]).

لذلك يمكن القول: إن عهد الإنسان في العهد القديم قد تمّ تقديمه في مجالين: عهد الإنسان تجاه الأشخاص والقبائل الأخرى؛ وعهد الإنسان مع الله، وهو ما يعني الالتزام بالفرائض التي أوجبها الله.

ومن هنا فإن موضوع «قطع العهد» قد أُثير في العهد القديم. ويشير عمل قطع العهد، الذي هو بمنزلة ضمان طرفي العهد بشأن الالتزام والوفاء بأحكامه، إلى عملٍ يتمّ القيام به بين الناس عند إبرام العهد، كالتضحية في وقت المعاهدة ببقرةٍ صغيرة. وكدليلٍ على الالتزام بالعهد يتمّ تقسيمها إلى نصفين، ووضعهما على الجانبين، ثمّ يمرّ المتعاهدون بينهما. إن أهمّية الالتزام بالعهد والتعهُّد بالعمل بأحكامه كبيرةٌ إلى درجة أن قضية قطع العهد لا تتعلَّق فقط بالعهود البشرية، ولكنْ أيضاً بعهد الله مع الإنسان في العهد القديم. فحينما قطع الله عهداً مع إبراهيم؛ ليجعله وارثاً للأرض المقدّسة، ويعطيها لذرّيته، من نهر مصر إلى الفرات، أمره أن يأخذ عِجْلاً عمره ثلاث سنوات، ويقسمه إلى قطعتين([93]). وفي موضعٍ آخر تمّ تقديم مسألة «قطع العهد» في ذكرى نقض بني إسرائيل لعهدهم مع الله كعلامةٍ على ضمانهم للالتزام بالعهد الإلهيّ، ومن ثمّ اعتبرهم، ضمن تأكيده على قبح هذا الانتهاك للعهد، مستحقّين للهلاك والفناء([94]).

ومن هنا يمكن أن نستنتج أن التضحية وإهداء دم الأضحية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بموضوع العهد، وكلاهما وسيلةٌ لتقرُّب الإنسان من الله. ومن ثمّ، بحَسَب تعاليم العهد القديم، يتمّ إيلاء دَوْرٍ مهمّ لدم الأضحية في تشكيل وتنفيذ المعاهدات.

ففي العهد القديم يتمّ قطع العهد بدم الحيوانات([95])؛ لكن في العهد الجديد، ونتيجة التغيُّر الذي حصل في معنى العهد، تغيَّرت بالتَّبَع الطريقة التي يتمّ من خلالها قطع العهد، وحلّ دم المسيح محلّ دم الذبيحة، حينما أخذ المسيح الخبز في العشاء الأخير، وكَسَرَه، وناوله للتلاميذ، مخاطباً لهم: «خُذُوا كُلُوا. هذَا هُوَ جَسَدِي. وَأخَذَ الْكأسَ، وَشَكَرََ، وَأعْطَاهُمْ قَائِلاً: اشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُم؛ لأن هذَا هُوَ دَمِي الذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ، الذِي يُسْفَكُ مِنْ أجْلِ كثَِيرِينَ؛ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا»([96]).

لذلك يمكن القول: وفقاً للعهد القديم يتمّ قطع العهد من قِبَل الإنسان بالالتزام بالوصايا الإلهيّة والتكاليف الشرعية. لكنْ في العهد الجديد يتمّ ذلك من خلال الإيمان ووحدة المؤمنين. كما يكتب بولس: وَلْيُعْطِكُمْ إِلَهُ الصَّبْرِ وَالتَّعْزِيَةِ أنْ تَهْتَمّوا اهْتِمَاماً وَاحِداً فِيمَا بَيْنَكُمْ، بِحَسَبِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِكيَْ تُمَجِّدُوا الله أبَا رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَفَمٍ وَاحِدٍ([97]). ويشرح ـ في موضعٍ آخر ـ تأثير الإيمان بالمسيح والاعتقاد بحقيقة صلبه، الذي تمّ لخلاص البشرية من الخطيئة، فيكتب: «أمِينٌ هُوَ اللهُ الَّذِي بِهِ دُعِيتُمْ إلَى شَرِكةَِ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا»([98]). لذلك، وفقاً لتعاليم بولس، يكون الإيمان بالمسيح والاعتقاد بحقيقة صلبه سبباً لتقرُّب الإنسان من الله، ولجعل الإنسان من المسيح، حيث يكتب: كُلُّ شَيْءٍ لَكُمْ. وَأمّا أنْتُمْ فَلِلْمَسِيحِ، وَالْمَسِيحُ([99]).

ب ـ في القرآن الكريم

لعهد الإنسان مع الله في القرآن الكريم صورتان: عهدٌ باطنيّ، وفي الذات؛ وعهدٌ بالقول والإظهار([100]).

1ـ العهد القوليّ

العهد بالقول والإظهار يكون إمّا مع الله؛ أو مع الناس، مثل: قوله تعالى: ﴿…وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾ (الإسراء: 34). وإذا كان العهد مع الله فإنه يعني العمل بالتكاليف، وتحمُّل المسؤولية الشريعة؛ وإذا كان مع الناس فإنه يعني الالتزام بالوفاء بالوعد، والحفاظ على العهود والمواثيق([101]). وتشمل هذه العهود: المعاملات المالية؛ أو العلاقات الإنسانية؛ أو المعاهدات الدولية([102]). لذلك فإن هذه الآية تؤكِّد على الالتزام بالعهود والنذور والمواثيق، وكذلك مراعاة العدل في الأقوال والأفعال وإيفاء الكَيْل والوَزْن ونحو ذلك([103]). وكذلك قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ…﴾ (النحل: 91) تتعلَّق بالعهد الذي يقطعه الإنسان مع الله([104])، وهو كلّ شيء يكون إنجازُه والوفاءُ به واجباً([105])، مثل: النذور التي ينذرها الناس بأن يفعلوا شيئاً ما أو لا يفعلوه([106]).

2ـ العهد الباطني

وهو نوعٌ آخر من عهود الإنسان، عبارةٌ عن حالةٍ نفسية وباطنية تتحقَّق في روح الإنسان، مثل: الإيمان الراسخ، وشهود الحقّ، وحق اليقين([107])، كما يقول القرآن الكريم: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 23)، والمقصود بـ ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ﴾ هو الرجولة والثبات على الإيمان؛ والمقصود من ﴿صَدَقُوا﴾ هو الصدق والاستقامة في المعتقدات والأفعال والأقوال في جميع ميادين الإيمان؛ والمقصود بـ ﴿مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ﴾ هو الجهاد في سبيل الله([108])، أي من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، يعني عندما بايعوا النبيّ الأكرم| قبلوا شروطه([109])، وبقوا ثابتي الأقدام معه([110]). ولأن عهدهم كان التزاماً في العقل والعاطفة والسلوك لذلك تطابقت أقوالهم وأفعالهم؛ إذ من الواضح أن إدراك حقيقة العبودية تحت حكم ربٍّ حيّ قادر قيوم يدفع الإنسان بشكلٍ قَهْريّ، وبلسان حاله، وفي الباطن، للعمل بمقتضى تلك العبودية، ويطيع الله بإخلاصٍ، ويجاهد في سبيله، ويراعي الحقوق الإلهيّة([111]).

ولذلك يقول الله في وصفه للمصلِّين، والذين وصلوا إلى حقيقة العبودية: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ (المعارج: 32)، والمقصود بـ «الأمانة» هو مطلق الواجبات العقائدية والعملية التي عهد بها الله إليهم، والمقصود بـ «العهد» هو كلّ القرارات التي يلتزم بها الإنسان، فحتّى الإيمان بالله هو عهدٌ قطعه العبد مع ربِّه في أن يطيعه في ما يكلِّفه به([112]).

لذلك يكون العمل بالتكليف ـ وفقاً لآيات القرآن الكريم ـ مصداقاً بارزاً على التزام الإنسان بالعهد الإلهيّ.

كما يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾ (الرعد: 20 ـ 22). وللعهد الإلهيّ في هذه الآيات معنىً واسعٌ؛ وتشمل العهود الفطرية، مثل: فطرة التوحيد؛ وحبّ الحقّ والعدالة؛ والعهود العقلية، أي ما يدركه الإنسان بقوّة الفكر والعقل من حقائق عالم الوجود والمبدأ والمعاد؛ وكذلك العهود الشرعية؛ وتشمل العهد الذي أخذه النبيّ| من المؤمنين في ما يتعلَّق بطاعة أوامر الله وترك المعاصي.

وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ واسعٌ جدّاً؛ لأنه يشمل علاقة الإنسان بالله والأنبياء والقادة والبشر، بما في ذلك الحكومة والجيران والأقارب والإخوة في الايمان والنوع الإنساني، وكذلك الارتباط مع الذات. وتأمر هذه الآية الإنسان باحترام كلّ هذه الروابط والوفاء بحقوق الجميع([113]).

أوجه التشابه والاختلاف في كلا الرؤيتين حول مفهوم عهد الإنسان مع الله

لا يمكن أن يتحقَّق بشكلٍ كامل عهدُ الإنسان القولي مع الله، الذي يشمل ـ وفقاً للقرآن الكريم ـ العهدَ بمعناه المطلق، والعمل بالتكاليف والمسؤوليات الشرعيّة تجاه الله، وفي العلاقات الإنسانية، من دون نَيْل العهد الباطني، الذي يعني تحقيق الإيمان الراسخ في نفس الإنسان. لذلك، وطبقاً للقرآن الكريم، فإن العمل بالتكليف الدينيّ والشرعيّ، الذي يشمل جميع نواحي الحياة الإنسانية، مؤشِّرٌ على التزام الإنسان بالعهد الإلهيّ.

وهكذا يمكن القول: إن عهد الإنسان مع الله يشمل الالتزام بالعهد الفطري للتوحيد؛ والعهد العقليّ (التصوُّرات الناتجة عن الفكر)؛ والعهد الشرعي الذي ينظِّم عمل الإنسان مع ذاته، ومع الله، ومع الناس.

لذلك يمكن القول: إن العنصر الرئيس لعهد الإنسان مع الله، بحَسَب القرآن الكريم، قائمٌ على محور التكليف.

وكذلك تمّ التأكيد على هذا المفهوم في العهد القديم، وهو إيلاء الاهتمام للفرائض الدينية، والمعاهدات في العلاقات الإنسانية.

وترتبط الذبيحة في العهد القديم ارتباطاً وثيقاً بالعهد، بحيث يكون الالتزام بالعهد والميثاق مترافقاً مع إهداء دم الذبيحة، كطريق لتقرُّب الإنسان من الله.

لكنْ في العهد الجديد، ونتيجة تغيُّر معنى العهد، أصبح يتمّ تقديم الإيمان ومحبّة المسيح والاعتقاد بفلسفة الصَّلْب والفداء كعوامل لتقرُّب الإنسان من الله. وبعبارةٍ أخرى: أُلغيَتْ محورية التكليف بصفتها أهمّ محتوىً في عهد الإنسان مع الله.

 

النتيجة

يشير المعنى الأصليّ لكلمة «عهد» إلى الاحتفاظ الدائم بشيءٍ ما. وعليه استُخدمَتْ هذه الكلمة في القرآن الكريم لتعني الميثاق؛ بما أن العهد هو ميثاقٌ بين طرفين؛ أحدهما: الله؛ والآخر: الإنسان.

وعهد الله مع الإنسان على صورتين: باطنية؛ وقولية.

وعهد الله الباطني أو الذاتي مع الإنسان هو منصب الإمامة، المسبوق بإتمام الكلمات، ووصول الإنسان إلى حقيقة الملكوت، والأعيان الثابتة للموجودات.

لكنّ عهد الله القولي مع الإنسان، المتعدّي لفظاً بحرف الجرّ «إلى»، فيعني تنزيل وإبلاغ الأوامر والأحكام الإلهية، التي ورد ذِكْرُها في بعض الآيات على أنها النهي عن الشِّرْك، والقيام بفروض العبادة الخالصة.

ولا شَكَّ أن إيفاءه حقَّه لا يتمّ إلاّ بالتسليم لما جاء به الأنبياء وتعاليم الكتب السماوية، وخاصّة النبيّ الأكرم| والقرآن الكريم.

وكذلك لعهد الإنسان مع الله صورتان: عهدٌ قوليّ، يشمل جميع بنود العهد مع الله والعباد، بما في ذلك المعاملات والمعاهدات، والعلاقات، والروابط البشرية، والنذور، ومراعاة العدل في القول والعمل، وسوى ذلك؛ والعهد الباطني للإنسان مع الله عبارةٌ عن حالةٍ داخلية تحصل نتيجة الإيمان الراسخ، وإدراك حقيقة العبودية، وتؤدّي إلى الثبات على الإيمان، والاستقامة في العقائد والأعمال، والمجاهدات في طريق الله.

يحاول ـ في مثل هذه الحالة ـ المؤمنون الصادقون، الملتزمون بجميع الواجبات العقائدية والعملية، إقامةَ أفضل ارتباطٍ مع الله والأنبياء والبشر، ومع أنفسهم، ويؤدّون حقَّ هذا الارتباط.

بينما عهد الله ـ في العهد القديم ـ هو دائماً قائمٌ بين طرفين: الله؛ والإنسان.

وبغضّ النظر عن حقيقة أن العهد مع موسى كان عهداً بين الله وبني إسرائيل فقد تمّ التأكيد على عنصر طاعة الإنسان والتزامه بالتكاليف الدينيّة والشرعية. وترافق هذا التأكيد في عهد الإنسان مع الله، وعهد الله مع الإنسان، بموضوع قطع العهد، وهو عبارةٌ عن تقديم الأضاحي وإهداء دمائها في محضر الله.

بينما تمّ التخلّي في العهد الجديد عن مفهوم العهد، من كونه التزام الإنسان بالتكاليف الإلهيّة إلى التحرُّر من نَيْر الناموس، وأصبحَتْ قواعد هذا العهد الجديد وعناصره الأساسية تتجلّى في التزام الإنسان بالإيمان، ومحبّة المسيح، وحقيقة صلبه. والنتيجةُ هي اتّحاد المؤمنين في المسيح.

ويمكن التعبير ـ بشكلٍ عامّ ـ عن أوجه الشبه والاختلاف بين مفهوم العهد في القرآن والعهدين في أوجه الشبه أو الاختلاف في شرح وتحديد طريقة التقرُّب من الله؛ حيث يُعتَبَر الالتزام بالشرع الإلهيّ، ومحوريّة التكليف، العنصر الأساس في عهد الله مع الإنسان وعهد الإنسان مع الله، وذلك في القرآن الكريم والعهد القديم، والذي يتضمَّن الإفاضة والعطاء من قِبَل الله والطاعة من قِبَل الإنسان. ومن هنا، وبغضّ النظر عن الاختلاف بين هذين النصّين المقدَّسين في التفاصيل والمتطلّبات، فإنهما متشابهان في تقوية علاقة الإنسان بالله من خلال الاهتمام بالتكاليف الإلهية المقرّرة، والالتزام بها؛ بينما اعتبر العهد الجديد ـ من خلال تغيُّر مفهوم العهد من التعهُّد بالطاعة والتسليم إلى التعهُّد بالمحبّة والإيمان بالمسيح ـ أن الالتزام بالشريعة الإلهيّة لا يفيد الإنسان في التقرُّب من الله، بل أيضاً يُعَدّ التحرُّر منها عاملاً مساعداً في نَيْل مقام القُرْب والفَيْض الإلهيّ.

الهوامش

(*) أستاذٌ مساعِدٌ في جامعة آزاد الإسلاميّة، فرع كَرَج.

([1]) الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين: 3، دار الأسوة للنشر، قم، 1414هـ.

([2]) أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة 4: 167، مكتب الإعلام الإسلاميّ، قم، 1404هـ.

([3]) الراغب الإصفهاني، المفردات في غريب القرآن: 350، مؤسّسة نشر الكتاب، قم، 1404هـ.

([4]) محمد بن مكرم (ابن منظور)، لسان العرب 4: 454، دار صادر، بيروت، 1997م.

([5]) المصدر السابق 4: 453.

([6]) حسن مصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن الكريم 8: 246، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلاميّ، طهران، 1368هـ.ش.

([7]) السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 1: 227، ترجمة: السيد محمد باقر الموسوي الهمداني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1374هـ.ش.

([8]) بهاء الدين خرمشاهي، موسوعة القرآن والدراسات القرآنية 2: 1499، دار ناهيد للنشر، طهران، 1381هـ.ش.

([9]) رشيد الدين ميبدي، كشف الأسرار وعدّة الأبرار 3: 794، دار أمير كبير للنشر، طهران، 1371هـ.ش.

([10]) السيد علي أكبر القرشي، تفسير أحسن الحديث 6: 66، مؤسّسة البعثة، طهران، 1377هـ.ش.

([11]) أبو الفضل تفليسي، جوانب القرآن: 209، ط34، جامعة طهران، طهران، 1378هـ.ش.

([12]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 1: 424.

([13]) تفليسي، جوانب القرآن: 209.

([14]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 17: 151.

([15]) الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن 20: 425، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلاميّ، طهران، 1368هـ.ش.

([16]) القرشي، تفسير أحسن الحديث 9: 97.

([17]) المصدر السابق 2: 116.

([18]) سفر التكوين 9: 9 ـ 15؛ جيمس هاكس، قاموس الكتاب المقدَّس: 625، دار أساطير للنشر، طهران، 1377هـ.ش.

([19]) عبد الرحيم سليماني أردستاني، الكتاب المقدَّس: 19، جمعية المعارف الإسلامية الإيرانية، قم، 1382هـ.ش.

([20]) توماس ميشيل، علم الكلام المسيحيّ: 19، ترجمة: حسين توفقي، مركز مطالعات وتحقيقات الأديان والمذاهب، قم، 1381هـ.ش.

([21]) رسالة كورنثوس الثانية 3: 6 ـ 15.

([22]) سفر إرميا 31: 31.

([23]) روبرت. إ فان فورست، المسيحيّة من هوامش النصوص: 41 ـ 40، ترجمة: جواد باغباني وعباس رسول زاده، معهد الإمام الخميني للتربية والبحوث، قم، 1385هـ.ش.

([24]) السيد جلال الدين الأشتياني، بحث في الدين اليهودي: 34، ط3، دار نگارش للنشر، طهران، 1384هـ.ش.

([25]) حسين كلباسي أشتري، مقدّمة في أنساب الكتاب المقدَّس: 279، معهد الثقافة والفكر الإسلاميّ، طهران، 1384هـ.ش.

([26]) توماس ميشيل، علم الكلام المسيحيّ: 43.

([27]) عبد الرحيم سليماني أردستاني، الكتاب المقدَّس: 19.

([28]) آليستر مك كراث، دروسٌ في اللاهوت المسيحي: 314، ترجمة: بهروز حدّادي، مركز مطالعات وتحقيقات الأديان والمذاهب، قم، 1384هـ.ش.

([29]) السيد جلال الدين الأشتياني، بحث في الدين اليهودي: 34.

([30]) توماس ميشيل، علم الكلام المسيحيّ: 23.

([31]) عباس آريان پور كاشاني ومنوچهر آريان پور كاشاني، قاموس مدمج / إنجليزي ـ فارسي: 1119، أمير كبير، طهران، 1371هـ.ش.

([32]) عبد الرحيم گواهي، معجم الأديان: 332، مكتب نشر الثقافة الإسلامية، طهران، 1387هـ.ش.

([33]) عباس آريان پور كاشاني ومنوچهر آريان پور كاشاني، قاموس مدمج / إنجليزي ـ فارسي: 221.

([34]) عبد الرحيم گواهي، معجم الأديان: 71.

([35]) سفر أعمال الرسل 3: 25.

([36]) إنجيل لوقا 1: 72.

([37]) سفر أعمال الرسل 7: 8.

([38]) رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 11: 27.

([39]) سفر التكوين 6: 17، 18؛ 17: 2، 7، 9، 11؛ سفر الخروج 24: 8.

([40]) سفر التكوين 21: 27.

([41]) رسالة كورنثوس الثانية 3: 6؛ 3: 14.

([42]) إنجيل متّى 26: 28؛ إنجيل مرقس 14: 24.

([43]) إنجيل لوقا 22: 20؛ رسالة كورنثوس الأولى 11: 25.

([44]) الرسالة إلى العبرانيين 9: 15 ـ 20.

([45]) سفر الرؤيا (مكاشفة يوحنّا) 11: 19.

([46]) سفر التكوين 17: 2 ـ 16.

([47]) سفر التكوين 3: 17.

([48]) سفر التكوين 6: 17 ـ 18.

([49]) سفر التكوين 7: 1.

([50]) سفر التكوين 9: 1 ـ 7.

([51]) سفر التكوين 17: 2.

([52]) روبرت. إ فان فورست، المسيحية من هوامش النصوص: 55.

([53]) سفر التكوين 17: 9.

([54]) سفر التكوين 17: 9.

([55]) سفر التكوين 17: 7.

([56]) روبرت. إ فان فورست، المسيحية من هوامش النصوص: 55.

([57]) سفر التكوين 11:17.

([58]) ف. أ بيترز، اليهودية والمسيحية والإسلام 2: 293، ترجمة: حسين توفيقي، مركز دراسات وبحوث الأديان والمذاهب، قم، 1384هـ.ش.

([59]) سفر الخروج 19: 3 ـ 8.

([60]) سفر الخروج 24: 4 ـ 7.

([61]) سفر الخروج 24: 8.

([62]) سفر التثنية 20: 7 ـ 8.

([63]) سفر التثنية 11: 2 ـ 18.

([64]) دِلْ آرا نعمتي پير علي، «الأرض المقدَّسة وخصوصياتها في القرآن الكريم والتوراة»، مجلّة فدك للأبحاث الدينية ومعرفة الكتب القرآنية (دين پژوهشي وکتابشناسي قرآني فدك)، العدد 2: 139 ـ 154، 1389هـ.ش.

([65]) سفر التثنية 18: 15 ـ 20.

([66]) سفر التثنية 26: 17 ـ 19.

([67]) سفر إرميا 31: 31 ـ 34.

([68]) الرسالة إلى العبرانيين 10: 16 ـ 17.

([69]) الرسالة إلى العبرانيين 9: 1.

([70]) الرسالة إلى العبرانيين 8: 18 ـ 19.

([71]) المصدر نفسه.

([72]) الرسالة إلى العبرانيين 9: 12.

([73]) الرسالة إلى العبرانيين 9: 14.

([74]) الرسالة إلى العبرانيين 13: 20.

([75]) رسالة كورنثوس الأولى 11: 25.

([76]) الرسالة إلى العبرانيين 10: 7.

([77]) حسن مصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن الكريم 8: 246.

([78]) السيد محمود الطالقاني، شعاع من القرآن 1: 291، شركة سهامي انتشار، طهران، 1362هـ.ش.

([79]) حسن مصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن الكريم 8: 246.

([80]) السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان 8: 292.

([81]) السيد محمود الطالقاني، شعاع من القرآن 1: 289 ـ 290.

([82]) السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان 14: 307.

([83]) أبو الفضل تفليسي، جوانب القرآن: 210.

([84]) أبو الفضل تفليسي، جوانب القرآن: 210.

([85]) صدر المتألِّهين، تفسير القرآن الكريم 5: 19، دار بيدار للنشر، قم، 1366هـ.ش.

([86]) سيّد قطب، في ظلال القرآن 5: 2958، دار الشروق، القاهرة ـ بيروت، 1412هـ.

([87]) السيد محمود الطالقاني، شعاع من القرآن 1: 135.

([88]) المصدر السابق 1: 139.

([89]) سفر التكوين 21: 22 ـ 23.

([90]) جيمس هاكس، قاموس الكتاب المقدَّس: 625.

([91]) سفر الخروج 34: 11 ـ 15.

([92]) سفر اللاويين 24: 1 ـ 9.

([93]) سفر التكوين 15: 7 ـ 19.

([94]) سفر إرميا 24: 17 ـ 22.

([95]) جيمس هاكس، قاموس الكتاب المقدَّس: 625.

([96]) إنجيل متّى 26: 26 ـ 29.

([97]) رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 15: 5 ـ 6.

([98]) رسالة كورنثوس الأولى 1: 9.

([99]) رسالة كورنثوس الأولى 3: 22 ـ 23.

([100]) حسن مصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن الكريم 8: 247.

([101]) السيد عبد الله شبّر، تفسير القرآن الكريم 1: 282، دار البلاغة للنشر، بيروت، 1412هـ.

([102]) السيد محمد حسين فضل الله، تفسير من وحي القرآن 14: 111، دار الملاك للطباعة والنشر، بيروت، 1419هـ.

([103]) المقدَّس الأردبيلي، زبدة البيان في أحكام القرآن 1: 495، دار مرتضوي للنشر، طهران.

([104]) السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان 12: 481.

([105]) السيد عبد الله شبّر، تفسير القرآن الكريم 1: 275.

([106]) محمد جواد مغنيّة، تفسير الكاشف 4: 545، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1424هـ.

([107]) حسن مصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن الكريم 8: 247.

([108]) محمد الصادقي الطهراني، البلاغ في تفسير القرآن بالقرآن 1: 421، مکتبة محمد الصادقي الطهراني، قم، 1419هـ.

([109]) سلطان محمد گنابادي، تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة 3: 244، ترجمة: رضا خاني، مطبعة جامعة پيام نور، طهران، 1372هـ.ش.

([110]) السيد عبد الله شبّر، تفسير القرآن الكريم 1: 399.

([111]) حسن مصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن الكريم 8: 247.

([112]) السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان 20: 24.

([113]) ناصر مكارم الشيرازي وآخرون، الأمثل في تفسير كتاب الله المُنْزَل 10: 184، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1374هـ.ش.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً