العولمة وأدواتها بين النظرية والتطبيق
السيد محمد الحسيني
"العولمة" عملية شمولية معقدة لا تتناول جانباً معيناً، ولا تستهدف مجتمعاً محدداً، أو قطاعاً أو دولة بحد ذاتها. بل إنها تعبّر، سواء على مستوى المفهوم أم على مستوى التطبيق، عن اتجاه أو فكرة أو نظام متعدد الأوجه والنطاقات. وهي في الواقع، تطرح نظرية عامة وشاملة، تطال في منظومتها كل الأوجه الإنسانية، وتختط طرقاً وقواعد مبنية على رؤية تنظر إلى العالم بمن فيه من شعوب وما فيه من أنظمة من منظار واحد، وبالتالي لا يمكن التعاطي مع هذا "الخلق" إلا وفق آلية تتسق مع نفسها، وعلى الآخرين الاندراج في فلكها، وإتباع نسقها، والاندماج في بوتقة هذا النظام الواحد.
العولمة المصطلح والمفهوم
"العولمة" مصطلح مترجم عن الكلمة الإنجليزية "Globalism"، وهي مشتقة من كلمة "Global" أي دولي أو عالمي، ويرتبط هذا التعبير بمصطلح القرية الكونية أو العالمية "Village Global". ويدور مفهوم "العولمة" حول الوجود العالمي أو الانتشار الكوني، ويستخدم كثيراً في المرحلة الراهنة ضمن المشروعات السياسية والتخطيطات الاقتصادية، للتعبير عن هيمنة الأنظمة السياسية في العالم، وسيطرة المؤسسات الاقتصادية الدولية الكبرى، ولاسيما تلك التي تملك تأثيراً نافذاً، وتلعب دوراً محورياً على مستوى اتخاذ القرارات الشاملة، وتحديد مصائر الشعوب – خصوصاً الفقيرة منها – ورسم مستقبل المناطق والبلدان، خصوصاً التي تقع ضمن دائرة الاستهلاك. الإطار الإنساني تتشابك العلاقة بين الإنسان و"العولمة" بشكل كبير، حيث تترك تجلّياتها تأثيراً عميقاً على التفاعل الإنساني على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما أنّها، في إطارها النظري الذي يدعو إلى تزايد التبادل وتحقيق الاعتماد المتبادل على مستوى الكوكب، وإدارة المصالح المشتركة للبشرية ولصالح البشرية، تبدو وكأنّها أصبحت ضرورة لا غنى عنها للتعامل مع كثير من القضايا البشرية، خصوصاً بعد أن اتسعت دائرة الاهتمام بحقوق الإنسان وتشابكت على المستوى الكوني، وأصبحت جزءاً من القانون الدولي.
حققت "العولمة"، اتجاهاً متعاظماً نحو تخطي الحدود الجغرافية وتجاوز القيود السياسية، والقدرة الممكنة على التقاط الثقافات وتبادل التجربة الإنسانية في المجتمعات المختلفة، وعدم الأخذ بعين الاعتبار الانتماء إلى وطن محدد أو دولة معينة، وكل ذلك بفعل التطور التكنولوجي والإعلامي والمعرفي عموماً، وما رافقه من اختصار لعوامل المسافة والزمن، وتملك الإنسان لمقدرات مجاله الحيوي، وهو ما ينفي الحاجة إلى التقيد بالإجراءات الحكومية والأذونات الرسمية، وهو ما يقود طبيعياً إلى إسقاط القوانين بكل ما تعنيه هذه القوانين من ضبط للأداء الإنساني في أبعاده وأنماطه الاجتماعية العامة، والتي تعطي للثقافة هويتها الخاصة، وللهوية ثقافتها الخاصة.
العولمة الإعلامية:
بدأ التحول الضخم في اتجاه عولمة الإعلام بدءًا من الثمانينيات، وتطور الأمر تجاه العولمة بسرعة بالتواكب مع العولمة الاقتصادية، والنمو السكاني، والانفتاح السياسي والاقتصادي بين الدول. واستطاعت مجموعة من المؤسسات الإعلامية أن تفهم حاجات المجتمعات المختلفة للمواد الإعلامية مما ساعدها على تطوير أدوات إيصال لهذه المواد مستفيدة من التطور التقني الواسع في ميدان الاتصالات، حيث يمكن إدراج الإعلام جزءًا من الأنشطة الاقتصادية. وقد وصل عدد المؤسسات الإعلامية الدولية إلى 80 مؤسسة نصفها تقريبًا أمريكي. وبدأت المؤسسات الإعلامية الأمريكية القوية في موطنها في تكوين شركات متعددة الجنسيات وشراء أنشطة ومؤسسات إعلامية في البلدان الخارجية المختلفة. وواكب ذلك تحالفات إستراتيجية مع الجهات المحلية القوية مستفيدة بدرجة كبيرة من النفوذ الأمريكي السياسي في العالم وتهاوي أدوات المنع أو الرقابة ووسائلهما في البلدان المختلفة.
هناك توجه قوي للمجموعات الإعلامية الدولية تجاه المراهقين والأطفال، نظرًا للوقت الطويل الذي يقضونه أمام شاشات التلفاز، الإنترنت، الكمبيوتر. والمجتمعات العربية والإسلامية مستهدفة بهذه "العولمة" ضمن هذا الميدان، مع ما يرافق هذه "العولمة" من تنوع بالبيئات واختلاف بالثقافات والتقاليد فضلاً عن نشر معتقدات ومبادئ جديدة وغريبة عن الوجدان العربي والإسلامي.
إن المتابع لوسائل الإعلام بكافة أنواعها لا يخفى عليه الحضور الأمريكي الطاغي، لدرجة أن أصواتاً عدة ارتفعت في أوروبا ـ وفرنسا على وجه الخصوص ـ لمقاومة المد الإعلامي الأمريكي الغازي. وفي الوقت نفسه بدأ السعي الحثيث لدى بعض المؤسسات الإعلامية الأوروبية نحو العولمة، بدءًا بالانتشار الواسع داخل أوروبا نفسها ثم الانطلاق نحو الأسواق الخارجية خصوصًا ذات الثقافة واللغة المتشابهة.
العولمة الاقتصادية:
أدى تشابك المصالح الاقتصادية، وامتدادها من البعد المحلي إلى الأبعاد الإقليمية والعالمية، وهيمنة نظرية "السوق" على عملية "العولمة"، إلى بروز نسق بنيوي جديد، ينزع فيه الشخص نحو التعاطي مع واقعه المعيوش في إطار نظرة فردية – محلية، تتصرف مع التحديات اليومية وفق بعد كوني، وهو ما أدى إلى نشوء ما يشبه الطلاق مع الذات، والانسلاخ من الروح الإنسانية. وقد لا تنطبق هذه الحالة على روّاد نظرية "العولمة" أو القائلين بها، أو الذين آمنوا وعملوا بها، بل قد تكون هذه الحالة محصورة ضمن مجتمعاتنا العربية الذين وفدت إليهم هذه الرؤية مع السيل الهائل من المعتقدات والمفاهيم الخارجية، بل قد يصح القول إن الذهنية العربية، على الرغم مما يبدو من تماهي مع التطور التكنولوجي، ما زالت غير مؤهلة لاستيعاب هذا النوع من الرؤى والطروحات.
العولمة الثقافية:
تنص المواثيق والأعراف الدولية على أن "للإنسان الحق في التمتّع بثقافته الخاصة واستخدام لغته والمجاهرة بدينه.."، وهذا يعني الحق في الاختلاف على مستوى اللغة والدين والعرق والفكر والثقافة، وهي المكوّنات الأساسية لأي حضارة في العالم وعلى امتداد الزمن، كما يعني الحق في التعددية وخصوصية الانتماء والعقيدة على المستوى الوطني والقومي. وعلى هذا الأساس ينطلق النقاش في مدى نفعية أو أذية "العولمة"، وعمق آثارها الايجابية والسلبية على الشعوب والمجتمعات، ودراسة مجالات التحقق على مستوى التوحيد أو الإبقاء على التعددية.
ومن هنا تكتسب الثقافة أهميتها، بما هي عنصر مركزي في تشكيل الحضارات ورسم الهوية وانعكاس طبيعي للقيم الكامنة في وجدان الشعوب. وتصبح، في الوقت نفسه، في مرمى استهداف "العولمة" في إطارها التطبيقي. حيث إن التفاوت الهائل في الإمكانيات الثقافية لبعض الحضارات يحمل تهديداً لخصوصية وثقافات شعوب لا تملك هذه الإمكانيات.
إن نظرة استكشافية سريعة للواقع الراهن يظهر بوضوح الهوة السحيقة بين تفوق "العالم الأول" الذي تمثله الولايات المتحدة والدول الصناعية الكبرى، والعوالم الأخرى التي لا تزال غارقة في بحيرة الاستهلاك، وسجينة الإطار الذي رسمته لنفسها من خلال السكون إلى عدم قدرتها على مضاعفة طاقاتها. وعليه فإن مشكلة العولمة الثقافية تكاد تكون في اتجاه واحد بحيث جعلت دول العالم الثالث في وضع المتلقي دائماً. فعلى سبيل المثال، ذكرت إحصائيات منظمة اليونسكو أن شبكات التلفزيون العربية، تستورد ما بين ثلث إجمالي البث (كما في سوريا ومصر) ونصف هذا الإجمالي (كما في تونس والجزائر)، أما في لبنان فإن البرامج الأجنبية تزيد على ذلك حيث تصل النسبة إلى 58 % من إجمالي البث، و 96% من مجموع البرامج الثقافية.
"العولمة" والأسرة:
تعتبر الأسرة – العربية على وجه الخصوص – من أوائل الضحايا التي تستهدفها "العولمة" في أطرها الفاعلة، مع طغيان الفكر الواحد واللغة الواحدة. وقد يتراءى للكثيرين أن القوانين والقواعد التربوية والاجتماعية التي يقترحها ويطوّرها الشق الآخر من العالم تتواءم مع الأنماط المتقدمة للتربية والمسائل المتعلقة بالتنشئة العائلية والأسرية، إلا أن هذه النظريات والقواعد غالباً ما تقترن بقالب تربوي منمّط، قد لا يتماشى مع التكوين الاجتماعي لهذه الأسرة.
ولا نبالغ إن رسمنا علامة استفهام حول ما تتضمنه المواثيق الدولية حول المرأة والطفل، من إشكاليات وسلبيات. فقد حاولت هذه المواثيق عولمة النموذج الغربي من خلال "الدعوة إلى تحرير المرأة" وإنصافها من الغبن الاجتماعي والتاريخي الذي لحق بها في القرون السابقة للحضارة الغربية، وهو ما تم تحويره باتجاه إطلاق "النـزعة الأنثوية المتطرفة" التي تبلورت في الغرب في ستينيات القرن العشرين، أو الأنثوية الراديكالية التي أعلنت الحرب على الرجال وعلى الدين وحتى على التاريخ الذي وصفته بأنه تاريخ "ذكوري"، فضلاً عن "تمكين المرأة" في صراعها مع الرجل، من خلال المطالبة بإلغاء ريادة الزوج للأسرة، وصولاً إلى رفض الأسرة والزواج بزعم أنه سجن للمرأة.
أما بالنسبة لتنظيم حياة الأطفال، بما في ذلك من إباحة للحرية الجنسية للمراهقين والمطالبة برعاية الدول لمن أسمتهم بـ"الناشطين جنسيا" والاعتراف بحقوق الشواذ ومساواتهم بالأسوياء، في حين أن المواثيق المعتمدة في عالمنا العربي والإسلامي تنص على حق الطفل في أن يأتي من خلال زواج شرعي بين رجل وامرأة، وعدم إجهاض الجنين إلا في حدوث ضرر محقق للأم، وكذلك حق الطفل في الانتساب لوالديه الحقيقيين، وغيرها من الحقوق التي تكتسب صفة الواجب والفرض.
وقد تم تعميم تلك الأفكار عبر عولمتها وتشريعها في إطار الأمم المتحدة عن طريق "لجنة المرأة" فيها، التي نجحت في صياغة "وثائق دولية" واتفاقيات تحت عنوان "القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة" عام 1979، ووثيقة مؤتمر السكان عام 1994م، ووثيقة بكين عام 1995 وحتى اتفاقية "حقوق الطفل" عام 1990 وتلتها وثيقة "عالم جدير بالأطفال" عام 2002.
وجه آخر لـ"العولمة":
بات العالم اليوم محكوماً بنظام أحادي القطب تقوده الولايات المتحدة الأميركية، التي تطرح مشروعها لقيادة العالم، في إطار عولمي تحت عنوان "الديمقراطية"، وهي تسخّر إمكانياتها المالية والاقتصادية والسياسية والعسكرية وغيرها، لنشر هذا المفهوم في أنحاء العالم وفق مفاهيم ورؤى أميركية صرفة. ويطرح هذا الأمر إشكالية كبرى، باعتبار أن المشروع الكوني التي تقترحه الولايات المتحدة يناقض مبدأ "الديمقراطية"، وذلك مع فرض وحدانيتها كنظام دولي، ونشر قوانينها ونمط استهلاكها وثقافتها على العالم أجمع.
وعلى هذا الأساس، برز وجه آخر لـ"العولمة" تسوده المعايير المزدوجة والانتقائية في مواجهة القضايا العالمية والمشاكل الإنسانية. وأبرز مؤشر على ذلك الحصار الاقتصادي على شعب العراق، وما نتج عن هذا الحصار من كوارث إنسانية وبشرية فظيعة، فضلاً عن الانحياز المطلق لـ"إسرائيل" وتمكينها من التفوق التكنولوجي والعسكري على بلدان منطقة الشرق الأوسط، لدرجة أن الولايات المتحدة استخدمت حق الفيتو في مجلس الأمن 150 مرة حتى الآن لإسقاط أي قرار يدين "إسرائيل" نتيجة أعمالها الوحشية ومذابحها ضد الشعب الفلسطيني الذي تعلن تنكرها لحقوقه المشروعة، وتغطية استمرار الاحتلال والعدوان الإسرائيلي على لبنان، وكذلك السعي نحو الهيمنة على الأسواق العالمية من خلال التهديد السياسي والعسكري المباشر، وفرض العقوبات الاقتصادية على الأنظمة التي ترفض السير في الفلك الأميركي.
العولمة" بين النظرية والتطبيق:
يبدو من خلال تتبع التطورات الحاصلة في الأطراف المترامية لهذا الكوكب، أن الإطار النظري للعولمة شيء وما يحصل على أرض الواقع شيء آخر. فقد طغت الأمداء السياسية والاقتصادية على ما عداها، واقترنت "العولمة" بالتجارة والاحتكار وأسواق الاستهلاك واستغلال موارد الطاقة، والهيمنة الاستعمارية بأوجهها المختلفة. وبدل أن يستفيد الإنسان من حرية التبادل المعرفي وسهولة الوصول إلى مدارك التطور والتقدم العلمي، واستثمار الزخم التكنولوجي في إنماء العقل البشري نحو صالح الإنسانية، بتنا نرى الشعوب منساقة نحو نوع جديد من التنميط الاجتماعي والفكري، وأصبحت الرغبة في النهل من ينابيع المعرفة مرتهنة بإمكانية اللحاق بركب "الحضارة" الجديدة المتسلّحة بالمال والقدرة. وبالتالي باتت فوائد "العولمة مقتصرة على شعوب وبلدان دون أخرى في حين لا تزال شعوب وبلدان غيرها ترزح تحت نير الفقر والجهل والتخلف.
وللعولمة شقان:
أولهما: شق مادي ملموس نشأ نتيجة التطور العلمي والتكنولوجي، وثورة المعلومات من خلال وسائل الاتصال والإعلام، وانتشار المحطات الفضائية التي تعم برامجها كل أرجاء الكرة الأرضية، وتصل نسبياً إلى غالبية البشر.
وثانيهما: شق قيمي، نشأ نتيجة التوسع التنافسي للإنتاج الرأسمالي الذي فرض اقتصاد السوق على العالم، وقيّده في إطار اتفاقات عالمية، وهو ما مكّن الدول الصناعية الكبرى من فرض شروط مجحفة على الدول النامية، وأصبح نقل التكنولوجيا والمعرفة أمر باهظ التكلفة بالنسبة لهذه الدول، ومن هنا فإن "العولمة"، ضمن هذا المعطى، باتت أداة إضافية لفرض الهيمنة المباشرة.