تمهيد: في الأطوار الإنسانية
نعيش في عصر مذهل يتفجَّر بالتغيَّرات الجذرية المتسارعة على نحو غير معهود في تاريخ الأطوار البشرية الرئيسية, فبالنظر إلى مدى تطور وسائل الإنتاج وطرائق العيش يمكن بإيجاز وتبسيط تبيّن ثلاثة أطواروطور رابع يبدو في الآفاق:
أوَّلها الطور الطبيعي القنصي الذي بدأ منذ ظهور الإنسان على وجه الأرض، وامتدإلى اكتشافه وسائل الزراعة التي مكّنته من الاستقرار، ومن إنشاء القرى والمدن، وبالتالي ولوج ميادين التمدّن أو التّحضر. وكان أطولها؛ حيث امتدّ حوالي خمسمائة ألف سنة.
ثانيها الطور الزّراعي الذي امتدّ حتى القرن الثامن عشر بعد الميلاد وساد، في عهوده الأولى، نظام الرّق، وفي عهوده الأخيرة نظام الإقطاع، ثم قامت بعده الثورة الصناعية في الغرب، بعد أن مهَّدت لها "النهضة" الفكرية والفتوحات الجغرافية والتوسّعات التجارية والإصلاحات الدينية وظهور الطبقات الوسطى وبداية القضاء على الإقطاع بتصنيع وسائل الإنتاج. ونتيجة لهده التبدُّلات الكيفية انبثق الطور الثالث.
ثالثها هو إطلالة الطور الصناعي الذي جاء مختلفاً اختلافاً نوعياً عن سابقه، ومكّن لثورة علمية وتكنولوجية فريدة أدخلت العالم إلى عهد جديد بخصائص لم يعرفها من قبل, وعلى حين يكون الطور الثاني قد دام حوالي عشرة آلاف سنة، فإن الطور الثالث لم يكد ينقضي على ظهوره أكثر من مائة سنة حتى طفقت تبدو نهايته في المجتمعات المتقدمة وتطل طلائع الطور الرابع الذي يليه(1)..
رابعها هو الطور الذي يطلق عليه تارة الطَّور "ما بعد الصناعي" أو "ما بعد الاقتصادي" أو "ما بعد الحضاري" الذي يمهد لمجتمع المعرفة الذي أصبحت فيه الموارد البشرية أهم من الموارد الأولية، وحيث يبرز الدور المتنامي للثقافة بروزاً واضحاً لعلاقته بالقيم التي هي الركيزة في التحديد للأهداف والوظائف والبنيان، داخل عالم القرية الكونية الصغيرة(2).
في زمن كهذا من الطبيعي أن يكتسح فعل التغيير المتسارع والشامل ما دون المظاهر والنتائج لينفذ بقوة أيضا إلى البواطن والأصول"، فإن القوى الثائرة التي تطلقه تنفذ به عمقاً كما تدفع به اتساعاً، ولكن من الطبيعي أن يكون نفاذه العمقي أقل من اتساعه الأفقي"، فنحن نرى أن التبدلات في مظاهر العيش هي اليوم أكثر انتشاراً من التبدلات في النظم الفكرية والنفسية التي تمس صميم الحياة، فالمسافر المنتقل من البلد المتطور إلى بلد متخلف يستخدم اليوم وسائل النقل نفسها التي تستخدم في بلده، وينزل فنادق متماثلة أينما حلّ، ويجد البضائع نفسها معروضة في واجهات المخازن، ولا يكاد يطلب شيئا من الأشياء التي تعوّدها في بلده إلا وجده، ولكن هذا التماثل في الأدوات والمستحدثات والوسائل الظاهرة لا يقابله تماثل مواز في البواطن والدوافع, أي في الشؤون الاجتماعية والعقلية والثقافية, وفي الأفكار والقيم التي تنشأ منها التصرفات الفردية والجماعية"(3)، حتى أن الفروق تتَّسع بين المجتمعات النامية بوتائر خيالية بل لا نكاد نجافي الحقيقة في أن نلاحظ تعاظم الفجوات بين الأجيال المتقاربة في المجتمع الواحد ومدى تسارعها , فما كان يحدث في الماضي من تغيير اجتماعي أو عقلي أو أخلاقي كان يستغرق قروناً، أو عقوداً في أفضل الأحوال, بينما قد لا يستدعي ذلك اليوم بضع سنوات أو أقل.
خمائر التغييرات الجذرية
في خضم أصداء هذه الأجواء العالمية التي تتصاعد فيها دعوات التغيير وتستقطب بالأخص الأجيال الصاعدة, لا يملك الملاحظ أن يتغاضى، على اختلاف المنطلقات في المجتمعات المتقدمة أو المتخلفة، عن التماثل أو التطابق في "النقمة على التقاليد والأوضاع والنظم الموروثة وفي ضرورة العمل الانقلابي السريع لإحداث التغيرات الجذرية والتّبدلات الأساسية المنشودة"(4). وكأنّ الجامع في اقتضاء الثورة العارمة على كلّ شيء تقريباً منزع عامّ نحو تجريم ضروب الواقع في أوطاننا وتحميله مسؤولية التخلف عن الركب الحضاريّ، وهو يرزح تحت كلكل التّراث القديم وذخيرة قيم الماضي التي يعتقد بأنّها تشذُّ عن التطوّر، وتحول دون استشراف مستقبل زاهر؛ وذلك كلّه تغذّيه ـ بتعبير قسطنطين زريق ـ ثورة المطالب والمطامح لاكتساب الحقوق الفردية والجماعية وتحسين الأوضاع في حركة تكون تارة هادئة وتارة هادرة(5).
مراصد الاستهداف الخطير
في غمرة هذه التطورات العميقة التي يتمخض عنها عالم موّار، وهو على مشارف الألفية الثالثة التي دشّنتها ظاهرة العولمة واكتشاف الخريطة الجينية للإنسان، تتعالى هنا وهناك دعوات الانفتاح في مختلف المجالات باستحثاثات غربية، أو بدوافع تغريبية تستهدف العالم الإسلامي كلّه. والجدير بالتأمّل أنّها ليست معزولة عن المعطيات الكونية التي استعرضنا، ولا هي وليدة المجاملات أو ثمرة التضامن الدولي، أو نتيجة لمواثيق التعاون الفنّي أو تندرج ضمن العلاقات الدّبلوماسية الممتازة.
وقد ساعد على فهم بواعثها الحقيقية خلفيات تاريخية وسياسية لا معدى عنها، وإلاّ وقعنا على صعيد المنهج التحليلي في وهدة الاختزالية المخلّة أو في منزلق التبسيطية الساذجة.
وليس أقلّها، باقتضاب شديد، خلفيات الإحداق بالعالم الإسلامي ومحاصرته من كلّ جانب عبر أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها: التبشير والاستشراق والاستعمار(6) التي تواطأت قديماً وحديثاً، إلى جانب دوائر اختصاص أخرى، بطرق ووسائل حديثة، على مناهضة الدّين الحنيف والمتديّنين به في رقعة الوطن العربي والإسلامي، ومحاصرته والتّربص به. ولا مندوحة لذي فكر من أن يتساءل عن عوامل التحريض الكبرى؟
في هذا المقام لا نملك إلاّ أن نوجز هذه العوامل في هذه العبارة البليغة: لأننا اتحفنا بالأجودين في هذه الدنيا! على معنى أن الله تعالى فضّلنا على العالمين: بالحظوة بخير الأديان والغنم بأنفس الثروات وهما ملاك السّعادتين: تحت الثّرى وفوق الثّرى. ولله المنّة العظمى والمدحة الكبرى على التخصيص بالقوَّتين المادّية والرّوحية: )ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء([الجمعة/4، وراجع الحديد/29].
وليس أبلغ، في تعليل نشوب الصّراع الصّليبي القديم الذي ما انفكّت ضراوته تتفاقم في الراهن في شكل تكتّلات غربية معادية للإسلام والمسلمين لا سيما على الصعّيد الرّسمي من سياق الآية الكريمة: )أم يحسدون النّاس على ما آتاهم الله من فضله( [النساء/54].
ولا أوضح، في الكشف القرآنيّ لحفيظة العداء المرضي المزمن، من الآية الكريمة الأخرى التي تبيِّنه بأسلوب يعتصر واقعية من الوضع الدّولي الذي يتجنّى على الإسلام والمسلمين بهذا التّصريح الفاضح: )و ما نقموا إلاّ أن أغناهم الله ورسوله من فضله([التوبة/74]. أو هذا السؤال الاستنكاري لما يحسدوننا عليه: )قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إلاّ أن آمنّا بالله([المائدة/59].
ولما كان منطق علم الرّيادة أو علم المستقبليات يغلّب في الاستشراف، أن يكون هذا القرن الحالي دينياً أو لا يكون؛ وكلّ الدّلائل تعطي الأرجحية في ترشيح الإسلام بلا منازع، صارت المجابهة "الحضارية" وما هي بحضارية، بجناحي مكر جديد هما العولمة وأحداث مانهتن، تفرض نفسها بضراوة متكالبة على نحو غير مسبوق قد يهدّد الكرة الأرضية برمّتها.
الانفتاح المستورد سلعة الغرب وثمرة الغزو
بعد أن وضعنا دواعي المحبّة والمودَّة جانباً، ورأينا أنّ ما حلّ محلها هو نوازع الافتراسية السبعية والأنانية المركزية لغرب عنصري نهم متغطرس، إلاّ أن تكون تلك الدواعي دسائس مبطّنة أو معلّبة كما لمّحنا إلى ذلك من قبل، وقد أتت في شكل مقولات أو شعارات أو مطالب "تحريضية" بغرض زعزعة بقايا النظام الاجتماعي المتماسك الذي يرتكز أساساً على تعاليم الشّريعة الإسلامية العظيمة في أقطارنا، وتمكين القوانين الغربية اللاّئكية الدخيلة من السيادة في التعامل والتغلغل في مؤسساتنا. وذلك بسب أن الدّول الغربية وأمريكا بالأخص، لغرورها بالتفرّد بالقطبية الآحادية التي قد تفقدها رشدها في محاولة اقتياد العالم بحسب أهوائها، تدرك بيقين أنّ السرّ في صلابة المواقف الشعبية التي تعترض، بل وتعارض بشدّة، سياسة هيمنتها في المنطقة، إنّما يكمن في مدى استقرار هياكلها الاجتماعية عامّة والتي تجسّد قيمها ومثلها وأخلاقها أي تراثها الحضاري.
وعليه، فلا أوخم على هذا البنيان المرصوص الذي ما زال يشدّ بعضه بعضا من أن يتهاوى رويدا رويدا تحت صيحات التّفتح ودعوات الانفتاح، تلقى عليه بكرة وعشيا بلا هوادة من الدّاخل والخارج، سيّما أنها تجيء بعد ممهّدات ضروب الغزو الفكري والثقافي…
لكن أنى لهم ذلك وفولاذ القناعة الإيمانية يسبّح لجبّار السماوات والأرض بمضامين هذه الآية السّرمدية في تحدّ قدريّ لكلّ أصناف التبييت: )إن ينصركم الله فلا غالب لكم([آل عمران/160].
مسبر الأدوات المفاهيمية
هذا، ولمّا تقرّر، في الدورة التاسعة للنّدوة العالمية للشّباب الإسلامي، أن نتناول في بعض محاورها موضوع "الفتاة المسلمة ودعوات الانفتاح"، فالسؤال الذي لا يخلو من أهمية هو، لماذا تتقصّد هاتيك الدعوات الملهمة شخصية الفتاة المسامة تحديداً؟
لا بدّ من أنها تخبِّىء أهدافاً معيّنة لا محيص، بغية استجلائها، من توخّي ابستمولوجيا التعريفات تبصرة بالأغراض المبيّتة حين تتعارض ومقاصد التسمية الشّرعية الإيحائية عندنا. فمن تكون يا ترى الفتاة المسلمة بمعاييرنا الإسلامية وفي عيون من تتصدّر لديهم مركز هذا الاهتمام البالغ في معمعة دنيا المعارك والصراعات المختلفة في العالم؟ ثمّ ما هذا الانفتاح وما عسى أن يكون التّفتّح المدعّو إليه في بؤرة الهجمات الغربية السائبة على الدّين والملّة؟ علماً بأن ديناً كالإسلام نزل الوحي الإلهي بتقرير رسميّ لصيغته الدّينية الخاتمية على العالمين من دون تمييز أو تفريق أو إقصاء، وههنا مستقى لبّ الانفتاح ومن هنا منهل روح التّفتّح الفوَّاح. هذا الدّين السّمح المرباح، كانت ولا مراء البتّة في ذلك، أنفس عطاياه ضمن حضارة ذهبية على مدار ألفية تاريخية زاهرة ليست أدناها أندلس فيحاء غنّاء، صناعة الانسان المتوازن السّعيد وتكوين المجتمع الإسلامي العادل، فهل يمكن إلاّ أن يكون في حكم العقول السليمة دين الانطلاق لا الجمود و دين الانفتاح الإيجابي النّوراني البنّاء لا الانغلاق والتحجر أو السّكونية القاتلة أو القهقرى الخانقة نقيض دعوة الإحياء التي يسوقها الدّين القيّم هذا المساق القرآنيّ المشرق الوضّاء: )يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرّسول إذا دعاكم لما يحييكم([الأنفال/25].
ناهيك عن الآيات الكريمة الأخرى الحافلة بضروب الإحياء النّوعي الرّاقي وديناميكية الفعل الحضاري الرّفيع التي تقتبس من أخلاق الحيّ القيّوم جلّ جلاله والذي: )كلّ يوم هو في شأن([الرحمن/30]لا تؤوده حركيّة سننية في هذا الكون الذي أبدعه.
وقصارى القول الفصل: إنّ التحجّر والتقهقر والاستغلاق هي ما يجسّد مغاليق اللاّدين، وهي النقائض المناوئة للتّدين الصحيح ومعوِّقات الدّينونة الحقيقية.
إنّ دينًا يتعبّد متديّنوه، في الأدعية والأذكار، باسم من أسماء الله الحسنى استفتاحاً، وأملاً في استدرار خيريّة السّماء، وأعني به الفتّاح جلّ جلاله، ويتبرّكون أي متبرّك بتسمية مواليدهم بعبد الفتّاح، ويتيمّنون أيضاً بصفات نبيّهم الفاتح العظيم (عليه الصّلاة والسّلام) وأساميه الشريفة كـ"فتحي…" كما يطلقون على بناتهم اسم فتيحة. إلى جانب أنَّهم كانوا يدعون الانتصارالباهربالفتح المبين نزولاًعند الاصطلاح القرآني المجيد والغزوات التحريرية بالفتوحات الإسلامية، لأنها كانت تفتح مستغلقات العقول والقلوب والضمائر. ثمّ إنهم في صلواتهم لا يفترون عن تلاوة سورة الفاتحة التي تتصدّر سور القرآن العظيم جميعاًبمافيهاسورةالفتح وسورة النصر المردف والمرادف للفتح. كما لا تخطئ لقاءاتهم وأعراسهم ولا مؤبّناتهم قراءة الفاتحة سواء في المفتتح أم في المختتم؛ بل إنّأعلى مراقي الاستيحاءودرجات الإلهام وما فوق العبقرية وسلّم النبّوغ والفراسة لا يتحقق إلا بالتماس النجدة الإلهية المسعفة وتعرف بلفظ الفتح الربّاني.
أفبعد هذه المفاتحات، من قاموس الفتح الإسلامي، من حاجة إلى مزاعم مستفتحات الغرب أو إلى تلقّي دروس في الانفتاح وتلقُّن التّفتّح وتعليم الفتح؟ الّلهم إلاّ إذا كان لهذه "الفواتح" في عرف الغرب الذي حرم من الحظوة بمهبط الوحي والرّسالات، مفتّحات غائية خاصة ومفاتيح نوعيّة لمداخلة شرق مفتوح فوق العادة على مواثيق الأنبياء وتراث الرّسل وحضارة الكتاب والقلم؟
لذلك، وخشية من اختلاط المفاهيم بيننا وبينهم وخلوصاً من مأزق الإطلاق المتضارب، لا معدى من الحسم العلمي في الدلالات بحسب الاستعمال الجاري وما تحمله مدّعيات ما وراء البحار ليس من دون قراءة في المرامي والأبعاد. فمن تكون الفتلة المسلمة يا ترى، وهي محطّ هذه الدعاية الانفتاحية المدبّرة؟
مواصفات الفتاة المسلمة بلغة حديثة
الفتاة المسلمة هيتلك الانسانة المحترمة التي عنون مظهرها التّعبدّي الحرّ المحتجب عن المفاتن والافتتان، لبرنامج حياتها، وخط سيرها القويم في دنيا هذا الكوكب العابر الذي أمرت فيه كشقيقها الرجل بأن تعمّره وتحققّ فيه سنّة الخلافة. فهي لذلك تعدّ الشقّ الأنموذجيّ الثّاني للخليقة المتميّزة برساليتها ودعوتها، والتي أهّلتها السّماء لأن تكون الرّحم المخصب لخير أمة أخرجت للناس بتكليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهي لذلك أيضاً تستلهم وظائفها الدّينية والاجتماعية من شريعة الخالق سبحانه الذي أنشأها في أحسن تقويم، وخصّها بالحنيفية السّمحة.
وهي، بهذا الاعتبار التكريمي الأسمى، لتفتخر بكونها أمة الله، تدين له بالإسلام اعتزازا بهذه العبودية المحرّرة من القيود المادية وضروب الكوابلالمعنوية… ومن هنا مستقى تساويها في العبودية والحريّةوالتكريم مع الرّجل سواء بسواء؛ وإفضائها الطّبيعي إلى التكامل معه في معادلة الحياة من دون التقابل أو التناقض أو التضاد أو التلاغي.
ولئن كانت هندسة الوظائف الأصلية للآدميين تؤول حتما إلى مدبّر الخلق والأكوان، لا إلى دساتير الأرض ومواثيق البشر التي يعتريها التَّغيّر عبر الزّمان والمكان وبحسب الإمكان. فإنها لا تبغي بشريعة السّماء بديلا بذرائع تيه المجتمعات وضلالات الفلسفات وجور القوانين أو بدعوى التّطورات وبدائع الحضارات وشتّى مغريات الاكتشاف الثاني، في التاريخ البشري، الذي غزا القمر، وانتقل بمعايير عصر الإنسان الأرضي إلى قيم عصر الإنسان الكوني التوّاق إلى الانفتاح المتزايد.
رسائل المضامين الانفتاحية
لكن لفظة الانفتاح على جماليتها حمّالة أوجه! فقد تخفي ضمنياًإرادة الانغلاق، فما المقصود بالانفتاح تحديداً؟ وعلى ماذا يراد التفتّح؟ أو على من؟ وهل الفتاة المسلمة بالمواصفات المثلى أسيرة الانغلاق حتّى تتقصّدها دعوات الانفتاح يا ترى؟ ومن هم هؤلاء الانفتاحيون المحرّرون؟ أفي الدّاخل هم أم في الخارج؟ وما هي أهدافهم ومراميهم؟ ما علاقتهم بالغرب المنفتح؟ وبحضارة الاستنساخ؟ ما هي المنغلقات التي يريدون افتضاضها؟ وما هي نماذج المنفتحين الذين يرغبون في تلميعهم والمنفتحات في مجتمعاتنا حتّى يسري الانفتاح بصبغة التقدم والتحضّر المزعومين؟
هل أخفقت، من قبل، دعوات التفتح التي ناضل من أجلها أمثال قاسم أمين وسلامة موسى حتى ينتصب اليوم انفتاحيون جدد، من نمط غربيّ حديث ومطالب نوعية عبر منظمات نسائية ومؤتمرات دولية على شاكلة التخطيط العولمي الوارد، في مؤتمر بيكين أو مؤتمر السكّان بالقاهرة؟ أم أن الانفتاح الصحيح الذي لا تعصف به الرّياح، ولا يأتي عليه الخريف، ولا يحتكره عصر دون عصر، ولا تستأثر به حضارة دون أخرى، ولا هو خصيصة شعب دون آخر، هو منحة الخالق لكافّة خلقه، ولنعم الورد المورود لكلّ من أراد قراءته في فاتحة الكتاب فتحاً مبينا لجميع آفاق السعادة والخير والأمل والاستقامة؟
هلاّ درسنا، إذاً، كيف ينبغي أن تتفتّح المثل العليا على المحيط الإنساني الأوسع؟ وكيف يرتسم انفتاح الواقع الناشز عليها؟ تلك هي لعمري بجدّ سبل الفتوحات الذهبية العظيمة والتاريخ بعد ذلك ظهير في مجال التحضّر الحقيقي. وهاتيك فعلا دروب الانفتاحات اللاّزبة للرقيّ الأرغد لخليفة هذه المعمورة البائسة بغير نجدة الوحي.
جوارف التيّار الانفتاحي في مقاومة الدّروع الواقية
إنّ ما يستدعي التأمل في قضية الانفتاح والدعوة إلى التفتّح، على معنى التغيير، من دون تحديد، هو أن التصدّي من غريب مجتمع ما لهدف ما، لمجتمع ما أو عدّة مجتمعات ما، لكي يحملها على منظوره الخاص لهذا الانفتاح عليه في جانب من الجوانب. والأدعى إلى التّبصر أن الدّعوة الانفتاحية تجري بفرزية معيّنة بحيث تبقي على منطقة محرّمة، يحظر الانفتاح عليها باعتبارها ملكيّة خاصّة! غير قابلة لتعميم التفتّح عليها! وليس الهدف الانفتاحيّ مجرّد المسايرة لنمطه في العيش أو تّوخي أساليبه المتطورة في الحياة بغرض تقاسم الازدهار والرّخاء بالتماثل والمحاكاة والتطابق ما أمكن وبالوسائل المتاحة تحقيقاً لانسجام أكثر وحبّاً في خير أعمّ أو بدافع إنساني يروم غيريّة موسّعة! كلاّ!! بل المتواري بحكم الخبرة وخليقة التعامل اليومي ودروس الماضي وبلاغة الواقع الأليم خبث يغطّي على إرادة التسخيرونزعة الهيمنة ومرامي الاستغلال، وما إلى ذلك من مفردات قاموس الاستخراب الجديد(7).
وإلاّ فكيف نفسرٍّ إذن نقيض القانون الخلدوني في الإتّباع؟ ومتى كان الغالب حضاريا هو الأحرص على الإنفاق من غلبته الحضارية على المغلوب؛ على حين أنّ السنّة التاريخيّة قاضية، كما هو معلوم، بأنّ المغلوب مولع باتباع الغالب في المظاهر والتوافه والشكليات ليس دونها إلاّ نادراً، وبما لا يقوم أو يغيّر غالبا من موقعه الحضاري أو ما بعد الحضاري على الأصحّ، بتعبير مالك بن نبي فيلحقه بالمتبوع المتفوق؟
وزبدة الإطراق في كوامن هذا الأمر تعطي بالفرز الاحترازي المحتكر أنّ المقصود من تسويق الانفتاح غير الانفتاح عينه؛ بعيداً عن تحقيق صريح المرونة التي قد تستدعيه. وإنما كل المبتغى منه حقيقة لا تخمينا هو خلخلة منظومة القيم الأصيلة من أجل إحلال قيم دخيلة مقدّمة لهيمنة معيّنة بنحو أو آخر عبر عناوين ومسمّيات وشعارات منمّقة للتلبيس على الأهداف الحقيقية المسطّرة في تسريب الوافد على أنّه تقدّم وعصرنة وحداثة وانفتاح.
وفي التّحليل الأخير، يتّضح بجلاء أنّ هذا المقتحم نفسه ينقلنا إلى صميم ما يسمّى بصراع القيم، فضلاً عن صراع المصالح الذي إن احتدم في الأوّل فلتثبيتها وتمكينها في الثاني.
رمزية قلعة القيم الشمّاء
مرّة أخرى، وبالنظر إلى ما يحفّ بحرمة الفتاة المسلمة من مخاطر توجيه الاهتمام غير المبرَّأ إليها بهدف ثنيها عن خطّ سيرها الرّباني المرسوم لها من السماء، فإنّ الانشغال الفكريّ يأبى إلاّ أن يتحرّى عملا تفكيكيّا لسبر الرمزيّة التي تمثلّها هذهالأمةالطّيبةالصّالحة من قيمومثل ومبادئ هي من الرفعة والقوة والصلابة ـ وهي بهذه المثابة ذخيرة حضارية متفرّدة ـ ما يجعلها تستقطب كلّ هذا التجنيد الماكر الذي يلبس اليوم رداء الانفتاح، وتستدعي كلّ هذه الطّوارئ الخارجية بالأخص من أجل تحليتها بالتفتح! وكأنّها دفينة الانغلاق وحبيسة التحجّر وضحية الظلامية؟ حتّى يراد لها هذا التدبير الإنقاذي المزعوم لسموّ مكانتها وعظيم منزلتها عند هؤلاء الانفتاحيين المتشدّقين، سيّما إذا كانوا يومئون من وراء البحار؟ ما يقتضى وقفة محتومة أخرى لاستجلاء كنه هذه الفتاة المسلمة المتميّزة، وهي بهذا الثّقل وتلك الأبعاد والأصول، تشكّل مرصد الأنظار المريبة، ولا نستبعد التخطيط العدائي المدروس الذي يريد أن يحتوشها من كلّ جانب. ذلك أن الغرب، وهو المتحرّش الأكبر بها، لا يفهم كيف أنها ما زالت تحتفظ في طبيعتها بخامات قيمرسالتها من دون أن تأخذ منها أطوار التّاريخ وتعاقب الحضارات والمدنيات إلاّ أن تزيدها تمسّكا وتضفي عليها تأصيلاً! وكان هو، بحكم مااحتضنته من انقلاباتاجتماعية عميقة وما عرفته أنظمته من ثورات دموية ورجّات مختلفة يظنها لا تخرج عن نطاق القاعدة السّائدة في تصوراتهم الثقافية من أن المرأة ليست سوى رجل ناقص(8) في تقدير فرويد. ومن قبل اعتبرها طوماس الإكويني ذكراً فاشلاً(9). وفي العصر الحديث لا تعدو أن تكون في رأي فيلسوف كشبنهاور طفلاً كبيراً(10).
بهذه النظرة المنحطّة وهذه الانتقاصية المتجذّرة لا يسعها إلاّ أن تكون، وكذلك أرادوها، بؤرة الفتن والإغواء ومستودع اللذات والاستهواء. وإذا الصدمة التي يتصدّع لها الغرب أن يجابه بخصوص مقوّمات الفتاة المسلمة، على غير مدّعى الانفتاحية الفرنسية الشهيرة سيمون دو بوفوار التي تظنّ قولها إلهاما حين تزعم أنّ النّساء لا يولدن نساء ولكنهنّ يصبحن كذلك(11)، أي أنّ العمل الاجتماعي هو الذي يفرغ عليهن الأنوثة من دون اختيار ولا حريّة في الانتماء النّوعيّ(12) فتنتصب أمام ناظره بجلال قلعة القيم في شخصية المسلمة ومدرسة الطّهر والإباء، بل ومضرب الأمثال في الحرية والكرامة والخلق وسائر ممجّدات الدّين ويا للعجب!
وللغرب أن يعجب لهذه النقائض، فالفتاة المسلمة ليست ثمرة اعتقادات الفلاسفة أو نسيج الميثولوجيا الإغريقية، ولا هي نتيجةللتّطورات الفكرية أو مختلف النّضالات التّاريخية. ولا يمكن اعتبارها بحال صنعة القوانين الوضعية أو الدّساتير البشرية، ولا كانت عصارة الحضارات القديمة أو الحديثة. بل ولا جاءت تتويجاً لمطالبات بالتحرير والنهضة، ولا انضوت في سياق الدّيمقراطيات أو كانت استجابة لنداءات المنظّمات المختلفة النّسائية منها، أو غيرها أو كانت تكريساً لمواثيق الأمم المتحدة ومناشدات المؤتمرات الدّولية ومنظمات حقوق الإنسان…
لا شيء من ذلك كلّه صنع الفتاة المسلمة بالمقاييس الشّرعية الصحيحة. و لنا في انحطاط الواقع وتخلّف المجتمعات المسلمة ككلّ، حديث آخر... وإنّما هي صبغة الله: )و من أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون([البقرة/138].
إنّها نتاج الإسلام الذي حرّرها من كافّة العبوديات والقيود والأغلال القديمة والحديثة وأساليب الرّق الظّاهر والخفيّ، العادي منه والمعنويّ في العادات والتقاليد والمفاهيم والتصوّرات والقوانين؛ سواء في البيت أم في المجتمع؛ على صعيد الدّولة و الحضارة؛ فينطاق الأخلاق والسّياسة والاجتماع والاقتصاد ومختلف المجالات الأخرى، وذلك بما أضفاه عليها من:
نعيم كمالات الدّين باستحقاق العبادة الكاملة وشرف التكليف، فلئن كان صنوها الرّجل عبداً لله فهي لا تستنكف عن أن تكون سواء بسواء أمة الله.
ميزة كمال الإنسانية والخلقة في أحسن تقويم [التين/5]..
خاصة كمال الأنوثة بتكامل الزّوجين في النّوع الواحد، فلا هي تساويه ادّعاء ولا هو يكبرها استعلاء ولا هي تصغره انتقاصا وإنّما هما يتكاملان فلا تفاضل إلاّ بالتقوى(13).
تمام الكرامة بالتكريم الإلهي للنّوع الآدمي من دون استثناء فلنقرأه في منصوص الوحي، قال تعالى:)ولقد كرّمنا بني آدم…([الإسراء/70].
وبذلك، فالمسلمة مكرّمة أمّاً وزوجة وبنتاً وأختاً وعمّة وخالة وجدّة، وفي كل الحالات.
وتتويجاً لصونها وتقديراً لموقعها الإنساني النّبيل في هذه الحياة الدّنيا، بقطع النظر عن الانتماءات والاعتقادات، فإنّ الإسلام الحنيف لم يتوان عن إتحافها ـ لا سيّما من جانب ما ترمز إليه الأمومة ـ بما هو مدعاة رضوانه ومغتنم جنّته، حين قرّر الحديث النّبوي الشريف خلود هذه المكرمة بالقول: "الجنّة تحت أقدام الأمهات"(14)، فأيّ معتبر هذا وأيّ تبجيل! وبعد، ففيم التفتح وعلام؟
غرائب مبتغيات الانفتاح الهائج
إزاء الكمالات، وهي كلّها منحة الخالق الواحد، علام الانفتاح؟ وفيمَ التفتح؟ الانفتاح على الرجل أم على الشّارع؟ أم على السّياسة؟ أم على الإباحيات السّائبة؟ أم على بهيمية خليعة؟ هل التفتّح أن تترك أنوثتها وتدع بيتها وتزهد في التربية وتبيع الحياء والخلق تشبّهاً باصطبل الغرب التائه وتتنكّر لقيم الوحي وأرض النّبوات؟ بئس الانفتاح إذن! وتعساً لهذا التفتح، أو بالأحرى سحقاً لهذا التفسّخ! وساء منقلب الانفتاحيين والانفتاحيات!
وإلاّ فعلى ماذا تتفتّح الأمّ؟ وما المقصود بانفتاح ربّة البيت يا ترى؟ثمّ على ماذا تتفتّح أو تنفتح الزّوجة؟ وما هو منفتح المحتجبة؟ وأيّ انفتاح ادّخروه للتّقية الحييّة؟ حتّى ولو استمدّوا بعض أمثلتهم تعزيزاً لبالوعة الانفتاح اللاّمحدود من التّاريخ الإسلامي؟ فهل إن اتفقّ أن كانت المرأة المسلمة قد تقلّبت في ظلّ الدولة الإسلامية، أو عبر الحضارة الإسلامية، في مناصب عليا في ميادين للإدارة والقضاء أو في مناصب الحكم والسيّاسة، كان ذلك دليلاً كافياً لإلزام كلّ النساء المسلمات، وعلى الدّوام، بهذه الوظائف فيصرن جميعاً قاضيات أو محاميات وسياسيات، أو بمقتضيات العصر مهندسات وطبيبات، وربّما إداريات وشرطيات أو عسكريات؟! ولِمَ لا فلاّحات وميكانيكيات كما تعرض لنماذجهنّ النادرة بعض الفضائيات في حصصها "الثقافية"؟
والتباهي، بين مختلف الأنظمة الغربية، لا يعرف حدّاً في حجم التوزير ونسبته في المواطنات. ذلك كله ولا مبالاة بضعضعة الحصن الحصين، وفي هجران كلّي للمأوى الزوجي واستهجان كامل للبيت العائلي، واستفظاع لجدران السكن الآسر. فالتمرّد على حضن الأمومة والأنوثة وما ترمز إليه البيتوتة وحسن التّبعل ومرتع الطفولة وأساس التّماسك الاجتماعي وما تفيض به هذه الخلية المقدسة، وأعني بها الأسرة من قيم ومثل ومبادئ والتربية ولا حرج؛ التمرد على هذا الصّرح الإنساني الأصيل بعناوين برّاقة ومسوّغات مخادعة من أجل تبنّي بدائل فجّة مرذولة ممسوخة ترشّح للتحضر وتخوّل العصرنة و تواكب التقدم وتسم بالانفتاح وتساير الحداثة وما بعد الحداثة، وتندرج ضمن نظام العولمة ولا خلف، ضروب التمرد هذه وغيرها مما تمليه المدنية الغربية المستعلية هي الانفتاح كما تتغيّاه هي وكما تريده وتعرّفه وتحمل عليه المجتمعات الأخرى انسلاخا من موروثها العتيق وانفتاحا على معروضها الرشّيق !! دونما اكتراث لمقولة " التعدّدية الحضارية " التي تقتضي الاعتراف بحق الغير في الوجود المتميّز!
دعاة الانفتاح الدفَّاق من الداخل
لا جرم أن كلّ الذي مرّ آنفاً هو تفتيح غربيّ مصدّر للعرب والمسلمين بانتقائية مدروسة، ولأغراض مسطرة كما ألمعنا إليه، تخدم بالدرجة الأولى مصمّمي التفتّح الانسلاخي الهاتك. ولا غرو إن فعلوا ما دام هذا منطقهم وذلك حرصهم!
لكن إن تعجب فاعجبمندعاةالانفتاحالخليعالذينيستوردونالبضاعةبالجملة دونما فرز ويرومون من التهالك على التقليد حذافرية التغريب بلا منخل ولا تروّ، لفرط ولعهم بنمط العيش الغربي الذي خالوه، عين التحضر وليس دونه من تقدّم البتّة! هكذا زعموا!
بهذه القناعة المهزوزة التي اصطنعوها ولعا وولها يعرض علينا نطاسيو الانفتاح المحليّون المنفتحات المشرعة على كلّ الاتجاهات، لترسيخ انعكاسات التفتّح المترامي من وراء البحار برغبة التقليد " المشيد"! خطوات حاسمة تعجّل في رأيهم بقدر ما تجذّر التفتح المأمول والانفتاح المنظور بالمنطلق الغربي وبإرادة الاستجابة المحلية. نذكر منها على سبيل المثال فقط مقتطفات غير حصرية للمناقشة:
أوّلاً: مشروع الانفتاح الفقهي
هذا المشروع، بالإجمال، عبارة عن دعوة إلى قراءة عصرية للنّصوص الشّرعية ونظرة جديدة لفقهنا. وفقهالمرأة بالأخص سيّما أن الثقافة الغربية لا تني في تقديم الإسلام عدوَّاً لقضايا المرأة وتصوّره على أساس أنه دين "رجوليّ"(15). وكلّ ما ينشأ عنه من اجتهاد ومن عملية بناء الفقه لا يعدو أن يكون " ذكورياً" ينمّ عن احتكار العلماء الرّجال لعلوم الشريعة، وعزل المرأة عن هذا الميدان باعتبارها موضوعاً للأحكام وحسب، وليست صاحبة نظر واجتهاد في التأسيس والاستنباط والفتوى والحكم(16).
هذا الانفتاح الموشّى بمسوِّغات واهية، ظاهرها فيه الرّحمة وباطنها فيه العذاب(17) له مفنّدات تاريخية جمّة ليس أقلّها ما عرفناه من قديم، من بروز عالمات فقيهات جليلات في مختلف الأعصار والأمصار،وإن كنّ لم يبلغن مبلغ أمهات المؤمنين (رضي الله عنهنّ) أو نساءأهل البيت (عليهن السلاّم)، منزلة وفقهاً. ومع ذلك فلم يبد منهنّ أدنى احتجاج على هذه الذّكورية المزعومة في الاجتهاد والتسلّطية الرّجولية في الفقهيات.
والحقّ، رغم ذلك، أنّهنّ لم يشكّلن القاعدة ولا كانت تلك هي سنّة الحياة، بل ولا كان ذلك هو ظنّ المسلمات التّقيات بدين الله السّمح المحفوظ الذي لم يبارَ بعد في إرساء قواعد المفاضلة الإنسانية المختزلة في التّقوى لا غير(18). أفبعد هذا من مدّعى في التمييز العنصري ـ على كراهته في ديننا الحنيف ـ كي يسرّبه المتربّصون إلى صميم فقهنا الذي لا نظير له، أو يرمي به الماكرون روح شريعتنا الغرّاء المتفرّدة؟
وحسبنا من هذا النَّفد ألاّ نجاري قول القائل، وإن أحسن النيّة في إرادة الخير وابتغاء الدفاع عن الإسلام بإطلاق مرونة نوعيّة فوق العادة تندرج بين تعليق الأحكام التي لم تعد "ملائمة للعصر" وبين استبدالها بأحكام أخرى تحت ستار "المواكبة"، تماماً كما تفعل دوائر رسميّة منفتحة إلى أقصى درجة في دول إسلامية كثيرة لا تتأخر في تقريب التّشريعات الجاري بها العمل في بلدانها من مقتضيات الاتفاقيات الدّولية التي صادقت عليها(19) حتّى يتأتى لها إحداث التّغيير الجذري. وذلك باستعماله للقياس واعتبار" حال النّساء الموظفات اليوم والعاملات في المعامل والمصانع و الشركات والحقول شبيهةبحالالإماء،من حيث أعباء العمل والتّكاليف، ليخلص إلى هذا الاجتهاد الانفتاحي حيث يقول:ـ لوجدناهنّ أحقّ برفع الحرج والضّيق عنهنّ للضرورة وأولى بتحريرهنّ من كثير من قيود الحجاب"(20)!
وواضح مدى بطلان هذا القياس، وإن استند فيه صاحبه على غير مقياس صحيح إلى بعض الرّوايات التي تصرّف في تأويلها وقياس أوضاع المرأة اليوم بها. مثلما روي عن أنّ عمر بن الخطاب رأى امرأة مقنَّعة عليها جلباب، فسأل عنها فقيل: هي أمة، فقال: لا تشبّه الأمة بسيّدتها. ولذلك إذا رأى أمة مختمرة ضربها وقال: أتتشبهّين بالحرائر أي لكاع(21).
وفي تأكيد حكم التخفيف ورفع الحرج وما إلى ذلك وبالقياس على حكم الإماء، يقول د. المدغري:
"واليوم، وقد تغيّر وضع المرأة الاجتماعي، وأصبحت تباشر أعمالاً كثيرة في الإدارة والمصانع والمتاجر والحقول وتسوق الطّائرات وتعمل في الصّحافة، بل انخرطت حتّى في صفوف الجندية. ودخلت في المنافسات الرّياضية الدّولية، أصبح لزاماً على فقهائنا أن يقدّروا الضّرورات بقدرها وأن يرفعوا الحرج عن المرأة مثلما رفعه الشّرع الحكيم على الإماء، وأن يقيسوا حال المرأة العالمة في عصرنا على حال المرأة الأمةفي عصر النّبي’ ويعطوها حكمها، ويوضّحوا للنّاس أنّه يجوز أن تكشف من جسمها ما تدعو ضرورة العمل إليه في حدود الشّرع ومن باب الابتلاء بالإبداء"!(22).
ليس الغرض من إيراد هذه الفقرة أن نردّ عليها لتسفيه هذا الاتجاه الانفتاحي العريض في أبواب الفقه إلى حدّ الميوعة الملبّسة في الاجتهاد المفتوح على كلّ الأحكام. ومن مثل قيل في بعض البلاد الإسلامية بذرائع شبيهة برفع الحرج عن الالتزام بفريضة الصّيام، خشية من أن ينقص الإنتاج الوطني طوال الشّهر الفضيل! وإنّما كلّ الحرص على استرعاء الانتباه الورع إلى مخاطر هذه المداخل بتعليلاتها الانفتاحية التي هي بنحو أواخر صنعة غرب حرم من الحظوة في تاريخه بغنيمة الوحي ومكرمة الرّسالات السّماوية.
ثانيا: مشروع الانفتاح العقلاني
المقصود بهذا المشروع، حسب رافع لواء التفتح الكبير الذي أعدّ بحثا لمؤتمر القمة الإسلامي الخامس عشر، المنعقد بالكويت عام 1987م. بعنوان: "نحو عقلية مسلمة متفتّحة"(23) هو تغيير العقليةالسكونيةالتيتمثّل "الثوابت" إطارها المرجعيّ ـ لأنها ـ لن تسعف الإنسان المسلم كثيراً في المستقبل". ويرى أن عقلية "تغيير الأحكام بتغيير الأزمان" ومبدأ "المصالح المرسلة" هي التي تلائم أحوال المستقبل.
ثمّ إنّه لا يجد حرجاً في الإبانة عن صريح الدّعوة ما دام يظنّ أنه رائد الفتحالعظيم في مستغلقات الفكر الإسلامي التقليديّ الراديكاليّ، حين يردف النّصح بالانفتاح: "لقد جرى الفكر الإسلامي التقليديّ حتّى الآن على المبدأ القائل: "علينا أن نخضع الواقع للمبادئ، وأن نقيس الغائب على الشّاهد وأن نحتكم بإطلاق إلى سلطة الاتّباع… أمام تسارع الحركة والتغيير في العالم الحديث، فإنّه يفتقر إلى عقلية مرنة غير راديكالية، عقلية تبذل جهدا حقيقيا في فهم حركة الواقع ووعيها…"(24).
ولبّ الانفتاح، المدعوّ إليه، هنا انقلاب على الشّرع الذي ينبغي من الآن فصاعدا إخضاعه هو للواقع لا كما دأبت عليه العقليات السكونية الماضية. وبخصوص موضوع المرأة يقتضي الانفتاح المسنود بالمواثيق الدّوليّة القول بمساواتها التّامة بالرّجل من دون تمييز في الحقوق كافّة، وإن حدا ذلك بإفقاد الإسلام خصوصياته التّشريعية الحكيمة!
فلا ضير من أن تتزوّج المسلمة بغير المسلم أو أن تعدّد كما يحقّ للمسلم أن يعدّد سواء بسواء، وكذلك الأمر في المواريث والطلاق الخ… هكذا فهموا التّفتّح! وهكذا يكون الانفتاح!
وأيّ فرق بين هذا القول العربي المنفتح وبين قول غربيّ متفتّح مثل جان كلود بارو: "لقد ألفنا في فرنسا على الخصوص أن نتأملّ المشهد المتجدّد لعلاقة الرّجل والمرأة على الدّوام حتّى عدنا لا نتصوّر على الوجه الصحيح أنّ الطّابع " العموميّ " لهذه الرّوابط هو من صميم ثقافتنا الغربية. إن صفة "عمومي" ترجع إلى المجال الاجتماعي بينما صفة "خصوصي" تعني أن علاقة الرّجل والمرأة محصورة بكاملها ضمن حميمية البيت.
"والحالة هذه فإنّ المرأة هي في كلّ المجتمعات التّقليدية لا تلعب دورها إلاّ في الميدان الخصوصيّ. ولقد كان هذا في العهود القديمة! فكانت مدن بيرقليس اللاّتينية تشبه المدن الإسلامية الحديثة! ولم يكن عدد النّساء في لاغور أكثر منه في شارع ديدوش مراد بالجزائر…"(25).
ومقتضى الانفتاح هو الإيعاز بالخروج منالخصوصيّ إلى العموميّ. وداعي المدنية الحديثة يستحثّ المرأة أن تخرج من البيت لتتدفّق في الشارع. وتلك سمة في التحضّر! إنّ الذي ينبغي أن يرسخ بقوّة في الأذهان هو "أنّ المرأة في الإسلام نمط آخر لا يقاس لا بما قبل الإسلام ولا بما بعده. وسواء رضي النّاس في عصرنا، أو في العصور القادمة، على هذا النمط أم لم يرضوا فإنّه نمط قائم وثابت ومستمرّ لا يضيره أن يخالفه النّاس ولا يعيبه أن يعاكس آراءهم وأفكارهم وثقافتهم ونظرتهم إلى الأمور. ذلك أن الإسلام دين الإنسانية شرعه الله ليتعبّد به النّاس إلى قيام السّاعة. وهو لذلك يحمل صياغة للمجتمع البشري وبناءمتكاملا…"(26).
ثالثا: مشروع الانفتاح التنويري
الضرب الانفتاحي الثالث تنويري لا يعبأ بالنظر إلى السماء، وإنّما يصوّبالأبصارإلى الأرض.. وفيها يحدّق! ومن هنا منطلق التفتّح الكبير. لكن قبل استعراض البرنامج الانفتاحي لبعض المستنيرين نسأل: "ما هو الدور الحقيقي في التنوير؟ أليس يعني الوعي بالتاريخ على أساس من العقل النقدي المنهجي في موضوعية لا تشوبها حساسية بحيث نفهم مواطن الخطأ وملابسات الحياة ونعرف ما يسمّى بالمنفى الفعّال، أي العناصر التي طمسها سرد تاريخي منحاز وفعل سياسي قاهر ممّا أدى إلى وهن في أواصر التلاحم الاجتماعي…"(27).
بيد أن التنوير، في أوساط الأمّة العربية والإسلامية، حين يجري بيد خبراء باركهم الغرب بنفسه، بل لم يضنّ عليهم بالمكافأة التي لم يحظ بها غيرهم من هذه الأمة، وذلك من أجل نفاسة الخدمة التنويرية وصدق الولاء(28)؛ إنّما يرادف عندهم الانسلاخ والتولّي والتّنكّرونبذ المضامين والاحتفاظ بالشكليات من أجل ولادة جديدة تنبثق من الظّلمات التراثية إلى الأنوار التي تشعشع في الضفّة الأخرى. لذلك لا يرضى رائد الاستنارة العربية العظمى التي كوفئت استثنائياً بجائزة نوبل بانفتاح جزئيّ أو بتفتّح على جانب من دون آخر. فلا أقلّ عنده من القطع الكلّي والاجتثاث الكامل كما سيأتي.. أنظر إليه غاضباً لتفاوت الأمزجة في الأخذ بطرف من دون طرف. يقول نجيب محفوظ: "فمنهم من يقبل الغرب كلّه والتراث كلّه، ويحسب أن الجمع بينهما أمر ممكن، كما صنع العقاد. ومنهم من يقبل الغرب كلّه وبعض التراث دون بعض، كما صنع طه حسين. ومنهم من يقبل التراث كلّه وبعض الغرب دون بعض، كما صنع محمد عبده. ومنهم من يجري تعديلا في التراث وفي الغرب معا، كما صنع أحمد أمين وتوفيق الحكيم. ومنهم من يكاد يرفض الجانبين معاً، فلا هو قد تعلّم شيئا من التراث الغربي ليعرفه، ولا هو يرضى بقبول الثقافة الغربية خشية أن يقال عنه إنّه من توابع المستعمرين…"(29).
لقد برح الخفاء… إنّه لن يكمل للمواطن العربي الجديد الانفتاح المأمول إلاّ إذا أضاف إلى نفسه صفات وتخلّى عن صفات. وعن المتخلّيات يقول د. زكي نجيب محفوظ: "وإني لأنظر فأرى سلسلة الخصائص التي يراد لها أن تقتلع جذورها من تربتنا الثقافية؛ قبل أن يتاح لنا استنبات زرع جديد، إنّما تترابط حلقاتها، فإذا سلّمت بالأولى، كان لزاماً أن تسلّم بالثانيةفالثالثةفالرابعة…
وأولى هذه الحلقات، وأعمقها جذوراً، وأكثرها فروعاً، هي نظرة العربي إلى العلاقة بين الأرض والسماء، بين المخلوق والخالق، بين الواقع والمثال، بين الدنيا والآخرة، بين المعقول والمنقول، ـ هذه كلّها ظلال من موقف واحدوحقيقةواحدة. ونظرة العربي في صميمها هي أن السماء قد أمرت وعلى الأرض أن تطيع، وأن الخالق قد خطّ وخطّط، وعلى المخلوق أن يقنع بالقسمة والنّصيب، وأن المثال سرمدي ثابت وعلى الواقع أن يفسر نفسه على بلوغه، وأنه إذا ما تعارضت الآخرة والدنيا، كانت الآخرة أحق بالاختيار، وأن المنقول إذا ما تناقض مع المعقول ضحينا بالمعقول ليسلم المنقول"(30).
ويستأنف كبير المستنيرين ممهدّات الانفتاح العريض بهذا الاستخلاص: "تلك هي وقفة العربي في صميمها، لك أن تقول إنّها وقفة أفلاطونية أكثر منها أرسطية، إذ هي وقفة من يجعل الثبات للسماء والفناء للأرض. ففي السماء الأصول وعلى الأرض الأشباح والظلال … إنّها ثنائية حادّة بين الغيب والشهادة، بين الرّوح والجسد، بين الإنسان والله. العلاقة بين الطرفين ليست هي التبادل بالأخذ والعطاء، بل هي علاقة الحاكم بالمحكوم…(31).
ثمّ نلفي حامل لواء " تجديد الفكر العربي " يعلّق على " تلك الجذور " بقوله: "جذور يجب أن تقتلع من أصولها، إذا أردنا للمواطن العربي أن يولد من جديد فإذا ما خلت التربة من هذه الشوائب، بذرنا بذورا أخرى لتنبت لنا نبتا آخر"!!(32).
ونحن لا يسعنا إلاّ أن نحمد الله، مع جمال سلطان، "على أنّ نظرية الدكتور لم تتحقّق، وهيهات لها أن تتحقَّق. فإنّ هذه الجذور التي يراها الدكتور " شوائب " إنّما هي غرس ربّانيّ خالص، ضرب بجذوره في أعماق المسلم وقد استعصى ويستعصي دائما على كلّ محاولات الاقتلاع والتدمير التي مرّ بها على مدار عمر الإسلام الطّويل(33):)كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزرّاع ليغيظ بهم الكفّار([الفتح/29].
وبعد تفريغ الفكرة الإسلامية من مضامينها الثابتة وأسسها المميّزة، وتقرير أنّ الشبه بين الحضارة الغربية والإسلامية إنّما هو فقط في "الشّكل " وليس بحال في "المضمون"(34)، يلخّص الانفتاحي الملهم الموقف الذي يجب اتخاذه من التراث بعبارة وجيزة يكرّرها هكذا: "وهي أن ما نأخذ من تراثنا هو الشّكل دون مضمونه" ومصدر إلهامه في ذلك قوله: " وفجأة وجدت المفتاح الذي أهتدي به؛ ولقد وجدته في عبارة قرأتها نقلا عن هربرت ريد…"(35). ومن هذا القبيل كان انفتاحي آخر يرفض تقسيم الناس على هذا الأساس " المتخلف" إلى "مؤمنين وكافرين"، لأنّ ذلك التقسيم قد ارتبط بالعصور الوسطى وعهود الظلام "!!(36).
ويرى أنّ رفاعة الطهطاوي قد قدّمفكراً مستنيراً في هذا الجانب حيث عرض:" تقسيماً جديداً، لا يقوم على معايير"الكفر" و"الإيمان"، وإنّما يقوم على مقاييس التحضر والخشونة"(37).
وعلى هذا الدّرب من الانفتاحيات الهائلة التي تذهب في الجرأة إلى نفي وجود "دين في ذاته" يستدعي تقديساً وتبجيلاً واحتراماً، يدعو د. حسن حنفي إلى ضرورة " رفع الحصانة" عن أي "عقيدة" أو "فكرة" أو "خلق". فكلّ شيء ينبغي ألاّ ينأى عن النقد والتجريح، ولا يحميه كونه "دينا"(38).
وإذا كانت نظرة المستنيرين إلى الانفتاح لا تقوم إلاّ على أنقاض الدّين وهدم التّراث، فهي أبعد من أن تكون توفيقية، إذ تروم استئصالا للجذور قبل الشروع في " إعادة البناء"؛ لقناعة حاصلة بأنّ " التراث القديم لا قيمة له في ذاته، كغاية أو وسيلة، ولا يحتوي على أي عنصر من عناصر التّقدم، وأنه جزء من تاريخ التخلف أو أحد مظاهره، وأنّ الارتباط به نوع من التغرّب، ونقص في الشجاعة، وتخلّ عن الموقف الجذري ونسيان للبناء الاجتماعي الذي هو إفراز منه، في حين أن الجديد علمي وعالمي يمكن زرعه في كلّ بيئة"(39). لذلك لا غرو والسياق الانفتاحي فوق العادة واحد، أن ترفض الدكتورة السعداوي وإضرابها فريضة "الحجاب الإسلامي" زاعمة بفقاهة نادرة أن زوجات النّبي’ أنفسهنّ لم يكنّ محجبات! في عشّو دامس عن الآيات القرآنية الموجبة والأحاديث والآثار الملزمة. والتحقيق عندها: "أن الذين ينادون بأن تحتجب المرأة لم يفهموا المرأة المسلمة. ولم يدرسوا أحاديث الرّسول’ ولم يقرؤوا القرآن قراءة صحيحة!! ولم يطلّعوا على التاريخ، بل أخذوا أشياء دخيلة على الإسلام الحقيقي!!! وعلى الحضارة المصرية العربية الحقيقية، فأنا لي خمسة وعشرون عاما أدرّس الدّين الإسلامي وأقارن،…لا توجد آية واحدة تنصّ على تحجيب المرأة، وزوجات النّبي ـ سيدنا محمّد ـ لم يكنّ محجّبات!!"(40).
وحسبنا من هذه الفقاهة للدّين والقراءة للوحي والفهم للأحاديث والبراعة الخلدونية في استقراء التاريخ والأعلمية في التدريس العتيد قول الحقّ سبحانه: )ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا( [النساء/88]. وعزاؤنا في النصوص الصريحة القاضية بالإلزام قوله جلّ جلاله:)ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد( [غافر/33].
النماذج الانفتاحية الأصيلة
المنحى، في انتقاء هذه النماذج، ليس على غرار هؤلاء المتنكّرين لتراثنا التّليد بل من نفائس تاريخنا الإسلامي الفاخر نستمدّ هذه النماذج الأصيلة المتفرّدة لنسوة لسن ككلّ نساء العالمين، فقد ضربن أروع الأمثلة في الانفتاح الصّحيح النافعوفي مجال قد يتأخر عنه الرجال أحياناً، وهنّ في وضع يسقط الشرع عنهنّ فيه مثل ذلك التكليف إذا المناط فيه التمتّع بكامل الحريّة. وقد كنّ أسيرات وسبايا!! في حملات هولاكو ببغداد. فلم يرتكنّ إلى غلب الأسر أو يستسلمن إلى قهر السبي، فيخلدن إلى سنّة الإتباع بل الذي حدث هو العكس تماماً، إذ حدت بهن العزّة الإسلامية:
)ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين( [المنافقون/8].
إلى ألاّ يتقاعسن عن أمر الدّعوة إلى الله، فانفتحن على هؤلاء العسكر وكأنهم وحوش ضارية في منافسة شديدة مع الاجتذابات التّنصيرية التي كانت تمارس في نشاط الحريم، لا سيّما في بلاط المغول. فما كان منهم إلاّ أن أسلموا على أيدي هؤلاء الفتيات المسلمات القانتات الداعيات من موقع الغالبية، حتى قال أرنولد قولته الشهيرة: "…. وليس هناك في تاريخ العالم نظير لذلك…"(41).
هذا هو الانفتاح النزيه، في تقاسم الهدايات وعدم احتكار الحقائق والانسلاخ عن الأنانيات، بهدف تبادل المنافع والخيرات والتناصح والتعاون على البرّ والتّقوى والإشراك في النعم وتداول الرّفاه والتكامل الحضاريّ والتفتُّح على القيم والمثل العليا، والاستفادة من تجارب الغير والتعايش السلميّ الذي يحقق الكرامة والعزّة لبني آدم جميعاً.
التكيّف الصحيح
للتكّيف الصّحيح الذي يعني انفتاحا منبجساً من نمير الدّين الفيّاض بالحركية والحيوية، باعتباره سنّة الحياة لا سبيلا للموت والتحجّر والسكّونية والانغلاق ومنهج التّحضر والمدنية وأساس العمران وفنّ العيش الكريم، اصطلاح فقهيّ بليغ ينمّ عن مدى شمولية الإسلام وعالميّته وخلوده، وهو أنّه "صالح لكلّ زمان ومكان"، فهذه المقولة الذهبية الخالدة هي لبّ الألباب في الانفتاح الإيماني الإيجابي الدّائم الذي لا يتنكّر للدّين القيّم، ولا يمسخ الفطرة، ولا يناوئ القيم ولا يناهض الأخلاق ولا ينساب في تقليد أعمى لدورة حضارية عابرة ضررها أكبر من نفعها. وينسى المستدرجون والمستدرجات نحو فتنة الانفتاح على غرب لاهث وراء المادّة أنّهم مخاطبون بنصّ الآية الكريمة بهذا التّمجيد الرّبانيّ المخصوص: )ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين(. [آل عمران/139].
وبعد، إذ نتحصّن بمثل هذه القرآنيات الواقية من سراب الانفتاح الوبيل الذي تروج له أقلام وفضائيات مأجورة، فنحن وكلّ المسلمين والمسلمات الواعين والواعيات في حلّ من الانفتاح والتّفتح المرضيين الشاذين على الغير الذي ليس قدوتنا، لأنّ "الأعلوية" التي حبانا الله تعالى بها بعد الحظوة بالدين الحنيف تأباها كلّ التأبي. والأحرى أن يتفتّح الأدنى على الأعلى. أما نحن المسلمين فلا نتفتّح تفتّح التفسّخ أبداً ولا نرضاه مطلقاً لفتياتنا الطّيبات. وآخر دعوانا أن نستفتح الفتّاح العليّ القدير، فنعم المولى ونعم النّصير بقوله تعالى: )وأخرى تحبّونها نصر من الله وفتح قريب([الصَّف/13].
الهوامش
(*) باحث من الجزائر.
(1) قسطنطين زريق، نحن والمستقبل، ط. 2، دار العلم للملايين، بيروت، يناير 1920م.، ص. 120 و121.
(2) د. محمد البشير مغلي، مقال "الرؤية المستقبلية للعلاقات العربية الأمريكية في القرن 21: الدلالات والضوابط" ضمن كتاب العلاقات العربية ـ الأمريكية: نحو مستقبل مشرق. طبع الجامعة الأردنية، عمان، 7/2001، ص.331.
(3) قسطنطين زريق، م.س.، بتصرف قليل. ص. 114 و115.
(4) المصدر نفسه، ص. 116.
(5)انظر: المصدر نفسه، ص. 110.
(6) عنوان مؤلف لعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، نشر دار القلم، دمشق.
(7) الاستخراب الجديد هو ما يطلق عليه بالاستعمار الجديد، ونفضل استعمال جمال الدين الأفغاني في مقابلة اللفظ القرآني المستوحى من الآية الكريمة: )هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها( [هود/61] الذي شوهه المحتلّون الغاصبون بدعوى الإعمار والتحضير لتبرير الاستعمار أو بالأحرى الاستدمار.
(8) انظر: سيغموند فرويد، الحياة الجنسية، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنّشر، بيروت، 1982. ص. 25.
(9) انظر: لويس ولسن، التقليد البروتستاني يسمح للنّساء بأن يمشين فوق الماء، اليونسكو، باريس، حزيران 1993م.، ص. 80.
(10) انظر: عمر رضا كحالة، المرأة في القديم والحديث، ط. 2، مؤسسة الرسالة، بيروت. 1402هـ/ 1982م، ص. 17.
(12) انظر ما أورده عبد الرحمن بدوي عن تفسير المسألة في فلسفة هيدغر في الموسوعة. المؤسسة العربية للنّشر، مصر، 1984م.، ج. 2، ص. 600.
(14)انظر الحديث في الصحاح.
(15) د.عبد الكبير العلوي المدغري، المرأة بين أحكام الفقه والدعوة إلى التغيير، مطبعة فضالة، المحمدية، المغرب، 1999، ص. 18.
(16) 26 نفسه، ص. 19.
(19) د. المدغري: م.س.، ص. 41 ـ 42.
(20) نفسه، ص. 273.
(21) انظر فتاوى ابن تيمية، 15/37.
(22) د. المدغري، م.س.، ص 274.
(23) انظر أعمال القمة التي نشرتها منظمة المؤتمر الإسلامي في كتاب "الإسلام والمستقبل"، لا سيّما بحث د. فهمي جدعان.
(24) المصدر نفسه.
(26) د. المدغري، المرأة بين أحكام الفقه والدعوة إلى التغيير، ص. 15.
(27) شوقي جلال، الفكر العربي وسوسيولوجيا الفشل، مكتبة مدبولي. القاهرة. 2002م. ص. 38، (بتصرف قليل).
(28) نعني بالمكافأة إتحاف نجيب محفوظ بجائزة نوبل على أعماله واستثنائه من دون العرب. وفي هذا الاستثناء، مع توفّر من هم أقدر وأجدر وأغزر إنتاجاً بلاغة ناصعة!
(29) د. زكي نجيب محفوظ، تحديد الفكر العربي، ط. 8، دار الشروق، القاهرة، 1408هـ/1987م. ص. 292.
(30) نفسه، ص. 294.
(31) نفسه، ص. 299.
(32) نفسه.
(33) جمال سلطان، غزو من الداخل، الزهراء للإسلام العربي، القاهرة، 1408هـ/1988م. ص. 90.
(34) تجديد الفكر العربي، ص. 102.
(35) نفسه. ص 17.
(36) د.محمد عمارة، تيارات اليقظة الإسلامية، سلسلة الهلال، العدد 380، مصر 1980م. ص. 80.
(37) نفسه.
(38) انظر: جمال سلطان، غزو من الداخل، ص. 101.
(39) نقلاً عن المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
(40) د. نوال السعداوي، "تحقيق"، الأهالي القاهرية، عدد 104، أكتوبر 1983، نقلاً عن المصدر نفسه.
(41) توماس أرنولد، الدعوة إلى الإسلام، ترجمة د. حسن إبراهيم وآخرون، طبع الشوباكشي، 1947م.، ص. 191.