حقيقته ومعاييره
الشيخ علي أكبر جهاني(*)
د. عابدين مؤمني(**)
د. علي مظهر قراملكي(***)
تمهيد ــــــ
تعتبر مسألة الحرب والصلح من المسائل القديمة جداً، فهي قديمة بقدم الدنيا، ولكنها تختلف عن الأمور القديمة الأخرى في العالم في أن تلك المسائل صارت قديمة، لكن مسألة الحرب بقيت ولا زالت مسألة العصر، ولعلها تبقى كذلك في المستقبل([1]).
إن الحرب ـ وكما هو واضحٌ من اسمها ـ هي ساحة صراع بين طوائف من الناس، يشهر بعضهم السلاح بوجه الآخر؛ لأسباب معينة، وتكون فيها الأرواح في خطر، ويهلك فيها الحرث والنسل؛ ذلك أن كل حرب تكون مصحوبة بالدمار المالي والبشري الكبير، بحيث تلفت الآلام والمصائب الناشئة بسببها الأنظار نحوها، وتدعو البشرية إلى وضع حلولٍ لها. وقد انبرت المنظمة الدولية (الهلال الأحمر) لوضع قوانين للحدّ من عدد الضحايا ومساعدتهم([2]).
إن الجهود التي تقوم بها المنظمة المذكورة هي جهود إنسانية، لكن المهم والملفت للنظر هو المعيار والملاك في العمل الإنساني الذي يضطر الإنسان إلى القيام بمثل هذا العمل. وبعد سبر الكتب الأخلاقية والدينية ودراستها نقف على المعايير المادية والمعنوية التي يمكن من خلالها توجيه العمل الإنساني في الحرب، وأما المذاهب الدينية فقد تصدّرتها إرشادات عقلائية وإلهية يمكن من خلالها القيام بأفضل الأعمال الإنسانية في هذا المجال.
بيان المسألة ــــــ
يطلق العمل الإنساني على جملة من النشاطات القائمة على أساس أهداف وقيم إنسانية يتبرع بالاشتراك فيها فرق إنسانية؛ بهدف تقديم خدمات عامة المنفعة لأشخاص محتاجين من أفراد المجتمع، ولا سيَّما المتضرِّرين. وبالطبع يبتني العمل الإنساني في الحرب على الحقوق الإنسانية التي تعتبر شطراً من حقوق الإنسان.
إن العمل الإنساني هو أحد الفروع الأساسية للحقوق العالمية، التي تشتمل على قواعد، الهدف منها الدفاع عن أناس لم يشتركوا في الصراع أو تركوا الصراع، والهدف الآخر تحديد الطرق والوسائل التي تستخدم في الحرب([3]).
ولا بُدَّ من القول بأن تدوين ضوابط وقوانين العمل الإنساني هو من أجل الدفاع عن المقاتلين وضحايا الحرب، وأن القيام بهذا العمل الإنساني إنما هو من أجل نجاة وخلاص هؤلاء، وهو أمرٌ نافع ومطلوب. لكنّ السؤال المهم هو أن وضع مثل هذه القوانين ـ التي هي حصيلة العقل البشري، والتي لا تستند إلى الوحي الإلهي ـ هل من الممكن أن يكون ملزماً واجب الاتباع حين القيام بالعمل الإنساني؟
عندما يصرح السيد جروسيوسيوس، الحقوقي والسياسي الهولندي المعروف بأب الحقوق العالمية، «بأن الحقوق الأخرى ليست صورة عن العدالة الإلهية، بل هي حصيلة العقل البشري، ولا هي صورة عن الأحداث الماضية، بل هي ناتجة عنها»([4])، فكيف يمكن عقد الآمال على قوة تأثير مثل هذه الضوابط، وحلّ المعضلات الكبيرة للحروب؟
ونحن في هذا المقال ـ من خلال دراسة معايير العمل الإنساني القيم ـ نحاول العثور على طريق صحيح؛ لكي نتمكن من خلاله من تقريب المسافة على المقاتلين وضحايا الحرب من نيل الكرامة الإنسانية.
إن طرق معرفة المصاديق الأخلاقية والقيم من أهم الأمور التي لا بُدَّ من الالتفات إليها. ويعدّ التأليف في مجال العمل الإنساني من الزاوية الدينية من مفاخر الأديان التوحيدية التي يسّرت عملية العمل الإنساني القيم. لذا سوف نطرح الأبحاث المرتبطة بالمقام في عدّة محاور:
آراء ثلاثة حول العمل الإنساني ــــــ
المحور الأول: الرؤية المادية حول العمل الإنساني ــــــ
سوف نشير هنا باختصار إلى الآراء التي لا تلحظ حيثية ما وراء الطبيعة، والتي تحلل أمور العالم من خلال رؤية مادية بحتة:
1ـ نظرية اللذّة الشخصية ــــــ
فسرت هذه النظرية الخير والشر الأخلاقي بما يلائم الطبع وما لا يلائمه، وتقول: كلما يأنس الإنسان بعمل ويلتذ بالإتيان به فإنه يجب الإتيان به، وإذا كان الإتيان به منفِّراً كذلك يجب الاجتناب عنه؛ لأن الانسان بطبعه يأنس باللذّة، ويبتعد عن الألم وما ينافي الطبع. ولا ينبغي التفكير بالماضي؛ لأن التفكير به لا ينفع. كما لاينبغي التفكير بالمستقبل؛ لأن ذلك يسبِّب اضطراب الإنسان وقلقه. فعلى الإنسان أن يجتنب كل ما يكون سبباً في اضطرابه وألمه، وأن يفكر بالحاضر؛ لكي يتمكن من الاستفادة من مواهب الدنيا، ويلتذّ بها. وقد نسبت هذه النظرية إلى أريستبوس، تلميذ سقراط([5]).
نقد نظرية اللذّة الشخصية ــــــ
1ـ تحاول هذه النظرية خلاص الإنسان من الغمّ وبلوغ لذته، والحال أن جميع اللذات ونفرة الطبع البشري لا تدرك بشكلٍ واضح، وليست ملموسة لكل أحدٍ، فإن بعض اللذائذ يأخذ إدراكها وقتاً طويلاً، هذا أولاً.
وثانياً: إن إدراك بعض ما لا لذّة فيه وينفر عنه الطبع البشري يرتبط بالماضي.
2ـ إن مقتضى هذه النظرية عدم وجود أي تزاحم بين اللذة والنفرة، بحيث يستطيع الإنسان إدراك كلٍّ منهما بسهولة، والعمل طبقهما، في حين أن الطبيعة مملوءة بالمتزاحمات، كما أن مدركات الإنسان لا تخلو عن تزاحم.
3ـ إن هذه النظرية ترجع إلى مصطلح الأخلاق والقيم، حتى أنها اعتبرت مخالفة لهما، بل تنفي أي نحوٍ من أنحاء الأخلاق والقيم، بحيث قلّ مَنْ التزم بهذا المبنى وحاول توجيه وتفسير أعمال الإنسان على أساسه.
الأعمال الإنسانية ونظرية اللذّة الشخصية ــــــ
لا ترى هذه النظرية ـ كما لاحظنا ـ أي قيمة للأمور الخيرية والعمل الإنساني. ففي الوقت الذي يحاول المؤسِّسون لمنظمة حقوق الإنسان تخفيف معاناة متضرري الحروب نرى أن إدراك الألم والعذاب من الأمور التي ينفر طبع الإنسان منها، ولا يتلاءم معها، بحيث لا يمكنه تركها، وليس في الحرب وما يرتبط بها أي لذّة وسعادة؛ ليمكن توجيه وتفسير السلوك الحسن والقيم على أساسها.
2ـ نظرية اللذّة الاعتدالية ــــــ
تبتني هذه النظرية الأخلاقية على ما يلائم الطبع البشري وعلى ما لا يلائمه وينفر منه، وعلى أن كلّ ما فيه لذة فهو عمل حسن، وكل ما لا لذّة فيه، وكان مؤلماً، فإنه عمل قبيح. إلاّ أنها لفتت النظر إلى نكتتين:
الأولى: إن إدراك اللذائذ وعدمه سوف لا يكون سريعاً وفورياً، بل هو بحاجةٍ إلى تفكّر وتأمّل.
الثانية: إن إدراك اللذة والألم من دون تزاحم ليس بالأمر الهيِّن. وبعبارة أخرى: قد يكون في الكثير من الموارد تزاحم بين اللذة ونفرة الطبع، حيث لا مجال للإنسان أن يختار أحدهما. وعليه فنحن لا نستطيع أن نجري وراء الغريزة الطبيعية وإرضاء الرغبات الطبيعية. إذن فلا بُدَّ له من الاستعانة بالعقل والفكر. وإنه مضافاً إلى إدراك اللذات الفورية لا بُدَّ أيضاً من التفكير باللذات المستقبلية، وكذا لا بُدَّ من الاستعانة بالعقل في التمييز بين الأهم والمهمّ واختيار المهمّ.
يقول أتباع هذه النظرية: إن إدراك اللذائذ الدنيوية أمر ميسور وممكن، لكن لا بُدَّ لنا من معرفة أن القيمة ومنزلة هذه اللذائذ ليست على حدٍّ واحد؛ لأن بعض اللذائذ ـ بمقتضى طبيعة الإنسان، ومن أجل استمرار حياته ـ لا بُدَّ منها، كالأكل والشرب. ومن هنا كانت أفضل اللذائذ وأطولها لدى الإنسان هي لذة الحياة واستمرارها. وعليه فلا بُدَّ من إدراك هذه اللذّة بأيّ ثمن، كما لا سبيل إلى مخالفتها.
وأما النوع الثاني من اللذائذ فهي التي لا بُدَّ من إتيانها بمقتضى طبيعة الإنسان وغرائزه، إلاّ أنها ليست ضرورة دائمية، وليست الحياة واستمرارها منوطاً بها. فمثلاً: طريق إرضاء الغرائز الجنسية تأسيس الأسرة والزواج، لكنْ إذا لم يُرْضِ الإنسان غرائزه فإنه لن يموت، فعليه أن يسلك في إرضائها طريق الاعتدال، وأن لا يعمل خلاف مصلحته، ويتجرّد عن الحكمة والمنطق.
والنوع الآخر من اللذائذ الدخيلة في حياة الإنسان ليست ضرورية بمقتضى الطبيعة البشرية؛ لأنها لا تقتضي بالضرورة أن يكون الإنسان متموِّلاً وثريّاً، أو يكون معروفاً وذو جاهٍ ومقام؛ لكي يستمر في حياته، أي إن المال والمقام ليس ضرورياً في حياة الإنسان.
اذن من واجب الإنسان ـ من أجل إرضاء نفسه باللذائذ ـ أن يعمل بمقتضى العقل والطبيعة البشرية؛ لكي تكون حياته بسيطة ومريحة، فإنّ إدراك اللذائذ الحقيقية يتجلّى في الحياة البسيطة وغير البرّاقة. ومؤسِّس هذه النظرية ـ كما هو معروف ـ الفيلسوف اليوناني أبيقور، وله أتباع كثر([6]).
نقد نظرية اللذّة الاعتدالية ــــــ
1ـ أول ما يرد على هذه النظرية هو أن أتباع هذا الرأي هم كأتباع نظرية اللذة الشخصية يحاولون إرضاء غرائزهم ولذائذهم الشخصية، ولا يرَوْن إلاّ أنفسهم، فإن كان عمل الخير الأخلاقي أمراً يجلب اللذة فإنه سوف يمكن توجيه الكثير من الجرائم.
2ـ تقسم اللذائذ إلى: طبيعية ضرورية؛ وطبيعية غير ضرورية، وإلى: غير طبيعية؛ وغير ضرورية. وهذا التقسيم وإنْ كان صحيحاً، إلاّ أنه لا أثر له كثيراً؛ لأن الإنسان بحاجة إلى إرضاء غرائزه.
3ـ إن مشاركة العقل مع الطبيعة البشرية من أجل إرضاء الغرائز أمر معقول، ولكن ما هو معيار وملاك ذلك؟ وما هو ملاك اللذّة في حال التزاحم الذي يلزمنا العمل على أساسه؟
4ـ إن الإنكار التامّ للذّة غير الطبيعية وغير الضرورية، كالثروة والمال والمنصب والشهرة، قد لا يبدو أمراً معقولاً؛ وذلك أن الجاه والمقام القصير المدّة بالنسبة إلى بعض الناس أفضل من المأكل والمشرب لآلاف السنين، حيث قد يكون هذا المقام مقروناً بالألم والعذاب والبلاء والحرب وإراقة الدماء.
العمل الإنساني ونظرية اللذّة الاعتدالية ــــــ
يفهم من نقد ودراسة هذه الرؤية أنه لا مجال للعمل الإنساني والاهتمام بحقوق ضحايا الحرب التي هي أهم ما يشغل ذهن الذين دوَّنوا هذه الحقوق في هذه النظرية؛ لأن كلّ ما يهمّ أبيقور وأتباعه هو اجتناب الإفراط والتفريط في إدراك اللذة، وإرضاء الغرائز، وعدم القيام بعملٍ غير ضروري، فقد اتَّخذ هؤلاء كلّ ما في وسعهم من أجل أنفسهم ودنياهم، وإرضاء غرائزهم، ومَنْ لا يرى إلاّ نفسه كيف يمكنه أن يفكِّر بالآخرين، ويكون بصدد إزالة آلامهم؟
3ـ نظرية المنفعة الجماعية ــــــ
ذكروا لهذه النظرية رؤيتان. وحيث إن احدى هاتين الرؤيتين قريبة من رؤية اللذّة المعتدلة، وترى أن المنفعة العامة تتأتّى من خلال استيفاء المنفعة واللذة الشخصية، لم نرَ ضرورة لبحث ذلك، لكنّ ما ينسب إلى جان إستوارت، الذي يقول بأن الطبيعة تقتضي أن يكون الإنسان وراء لذائذه ومنافعه، وأنه لو خلّي ورغبته الطبيعية فإنه سوف يطلبها بأيّ ثمن، ولكنْ حيث إنّ في قبال الطبيعة أمراً طبيعياً آخر، وهو إدراك اللذة وكسب المنفعة ممّا لا مفرّ للإنسان منها، فلا بُدَّ له من نسيان هذه الرغبة الطبيعية، وترجيح رغبة الجماعة على اللذّة والمنفعة الشخصية.
يقول صاحب هذه النظرية في بيانها: إن طبيعة الإنسان تقتضي أن يعيش بشكلٍ جماعي، وإن هذه الحياة الجماعية تستلزم أن يرتبط مصيره بمصيرهم، فإذا كنا نفكر بمنافعنا ولذائذنا الشخصية فلا ضير من لحاظ منافع ولذائذ الآخرين؛ لأن سرورهم هو سرورنا، وحزنهم هو حزننا. إذن فمن لوازم الحياة المرفَّهة والسعيدة هو أن تكون راحة الآخرين راحتنا([7]).
نقد نظرية المنفعة الجماعية ــــــ
1ـ أول ما يتبادر إلى الذهن في المقام هو أننا لا بُدَّ أن نعرف الملاك والمعيار الذي تسبّب في أن نجعل المنفعة العامة أصلاً، والذي جعلنا نعطي للحياة قيمة؟
فإنْ قيل: إن كسب المنافع وإرضاء اللذائذ الشخصية صار سبباً في أن نعتقد بذلك؛ لأن منافع المجتمع ما لم تضمن فإن منافع ولذائذ الفرد لا تضمن أيضاً.
يقال في الجواب: إن هذا الكلام لا يختلف كثيراً عن نظرية اللذة الشخصية، واللذة الاعتدالية؛ لأن الفرد والشخص والمنفعة واللذة ملحوظة كلها. وأيضاً ضرره هو الذي يوجه عمله.
ولكنْ لو قيل بأن ضمان منافع المجتمع هو الأصيل، وإنه على هذا الأساس لابُدَّ من التضحية بالمنافع العامة والجماعة. فإنه يُقال في الجواب: لماذا يكون للمنافع العامة الأصالة؟! وهل أن الطبيعة البشرية تقتضي هكذا أصالة أم هناك شيء آخر؟
2ـ لما كانت المنفعة الجماعية ملاكاً للخير، والضرر الجماعي ملاكاً للشر والقبيح، فعندما لا يكون لعمل الإنسان نفعٌ للمجتمع فهل تتّصف أعماله حينئذ بالحسن؟ أو إذا كان في سلوكه ضرر للمجتمع ألا يكون ذلك شرّاً؟ فينبغي إذن على جون إستوارت سميت أن يبحث عن الخير والشرّ في الأمور المرتبطة بالمجتمع، فما كان خارجاً عن هذا الإطار لا يمكن وصفه بالخير والشر. هذا في حين أن الخير والشر ليسا كذلك قطعاً؛ لأن بعض الأمور في حدّ نفسها هي إمّا من الخير أو الشر، ولا دخالة لشيء في اتّصافها بالخير أو الشر.
العمل الإنساني ونظرية النفع الجماعي ــــــ
بعد التعمّق في هذه النظرية سوف نعرف أن حقوق الإنسان والعمل الإنساني أمر مطلوب ومقبول؛ لأن الإنسان يحاول في حياته أن يضمن للآخرين منافعهم، وإن ما لا مفرّ له منه بمقتضى الحياة الجماعية هو رفع الألم عنهم. فعندما يقوم الإنسان بعمل إنساني قيِّم فإنه في الحقيقة يقوم بضمان منافعه ولذاته، وعندما يرفع عن أحد الألم أو يخفِّف عنه ذلك فكأنه يزيله عن نفسه، فيشعر بالراحة والطمأنينة. وهذا ما يريده سميت وأتباعه. فيكون الفعل الإنساني بهذه الرؤية أمراً مقبولاً، ويكون بإمكان أتباع هذه النظرية حينئذ القيام بعمل إنساني.
4 ـ نظرية حبّ السلطة والقدرة ــــــ
هذه النظرية في صدد إيجاد المدينة الفاضلة، التي يكون مواطنوها من أقدر أفراد المجتمع، والتي ليس للضعفاء فيها مكان. وعلى هذا الأساس فإن جذور كل القيم في القدرة والسلطة، فكلّ مَنْ كان أقوى فهو أعزّ، وكلّ مَنْ كان ضعيغاً فهو أذلّ. يقول نيتشه في بيان هذه الرؤية: إن الإنسان كائن حيّ يحبّ ذاته، كغيره من الكائنات الأخرى، ويحب الحياة، ويحاول ـ كغيره من الموجودات ـ الاستمرار فيها، فهو يريد البقاء حياً، ويسعى جاهداً من أجل ذلك.
والذي يظهر من خلال ما تقدّم هو أن الحفاظ على الحياة واستمرارها بحاجة إلى قدرة وسلطة. فكلّما كانت قدرة الإنسان أكثر سوف يكون بقاؤه حياً أكثر. إذن يلزم الإنسان أن يسعى لكسب القدرة، ويهيّئ أسباب ولوازم هذه السلطة. كما ظهر أن الأساس في هذه الرؤية هو نيل السلطة والقدرة، حيث تلخص جميع القيم فيهما. فالقناعة بناءً على هذه النظرية أمر مطلوب وذات قيمة، ولكنْ ليس كونها ذات قيمة من ناحية أن الإنسان لا يمدّ يد الحاجة إلى الآخرين، فلا يكون عزيزاً، بل هي ذات قيمة من ناحية أن الإنسان قادر على الوقوف بوجه الآخرين، وفرض قدرته عليهم، وقهرهم وإيلامهم.
كما أنهم يثنون على العفّة والنزاهة، لكنْ لا من ناحية أنه بالعفاف قد اختار الطريق الصحيح، ولم يسِرْ في طريق الفساد والهلاك، بل هو عفيفٌ؛ لأنه قادر على المقاومة في قبال الشهوات، فيكون العفاف ذاتاً قيِّمة.
إذن فالمهمّ هو كسب السلطة والقدرة من أجل الحياة، وهذا يأتي من حبّ الذات، بحيث يتظاهر الإنسان بالقدرة، ويتحاشى العجز والضعف([8]).
نقد نظرية حبّ السلطة والقدرة ــــــ
1ـ حاول أتباع هذه النظرية أن يثبتوا أن القانون الوحيد الحاكم على الطبيعة والحياة هو السلطة والقدرة، وأن الانسان يرى نفسه مضطراً لنيل ذلك، فكيف يمكن أن تعيِّن الطبيعة ملاك القيم للإنسان بدون إرادة واختيار وعلم وشعور؟ إن الطبيعة تقضي أن يحبّ الإنسان نفسه، فأيّ شيء يسمح بطلب السلطة والقدرة؟ ومن قال بأن استمرار الحياة يلازم طلب القدرة بدون نقاش؟ وأن كل مَنْ لا قدرة له فلا حياة له؟ إن هذه دعوى بلا دليل، وهي تحتاج في إثباتها إلى دليلٍ متقن. ولا يوجد.
2ـ إن مضمون هذه النظرية يثبت حقانية الظالمين والمستكبرين، ممّا يجعلهم أكثر تهوراً في ظلم المظلومين والمحرومين. ولعل نيتشه وأتباعه لم يقصدوا ذلك، لكننا حين نقول: إن طبيعة الحياة تقضي الحاجة إلى طلب القدرة فكيف يمكن تحاشي مثل هذه النتائج، وكفّ المستكبرين عن الظلم والعدوان؟ في حين أن التفوّه بهذا الكلام سيؤدي بنا إلى سلوك هذا الطريق.
3ـ لا يبعد القول: إنه بناءً على هذه النظرية سيكون الجبر حاكماً على حياة البعض، وسيبقى هؤلاء ضعفاء لكي تتحقّق قاعدة السلطة والقدرة. فإذا سلمنا بأن القدرة وليدة الطبيعة، وأنه لا مفرّ للإنسان من ذلك فلا بُدَّ أن نسلِّم بأن هناك ضعفاء؛ لأنه سوف يكون للقوي معنى مقابل الضعيف حينئذٍ، ولو لم يكن هناك ضعف فلا معنى دقيق للسلطة والقدرة. إذن لا بُدَّ من وجود الضعيف؛ ليوجب تحقق القوي؛ لكي يتجلّى التكافؤ أكثر.
العمل الإنساني ونظرية السلطة ــــــ
تعطي دراسة هذه النظرية بوضوح أن الحرب والقتال أمر منطقي وعقلاني، وترى أن كلّ مَنْ كان أقوى فهو أكثر أحقية من الآخر. وعلى هذا الأساس بإمكان القوي ـ ومن أجل تقوية سلطته ـ أن يعمل كلّ ما في وسعه لكي يضعف الطرف المنازع له، ويستمر في حياته بإصرار وقوة؛ لأن طبيعة حياته ـ وبمقتضى حبّ ذاته ـ تدعوه لذلك. والجواب الوحيد الذي بإمكان الإنسان أن يجيب به نفسه هو أنه يحاول أن يسحب قدرته على الآخرين ويؤذيهم، فهل بمثل هذا النوع من التفكير يستطيع الإنسان القيام بعمل إنساني من أجل حبّه لبني جلدته وإنسانيته؟
إن من المسلَّم أن السلطة لا تنسجم مع الأخلاق والقيم الأخلاقية، وأن الأفضل لضحايا الحرب والقتال أن يداسوا بأقدام الظالمين والجبابرة؛ لكي يتحقق قانون السلطة والقدرة. وها نحن نرى يومياً عشرات الأشخاص يموتون بسبب ظلم المستكبرين وأدعياء حقوق الإنسان، ولا يرفّ لأحدهم طرف أو يشعر بالألم والعذاب، بل يرون الظالم محقّاً؛ من باب الدفاع عن النفس.
5ـ نظرية الأخلاقية الماركسية ــــــ
اتّضح من بيان هذه النظرية أولاً: إن معرفة المجتمع والتاريخ أمر مهم، وإن من اللازم في معرفة الحوادث التاريخية والاجتماعية دراسة الأسس الاقتصادية لذلك؛ لأن حقيقة جميع التغيرات الاجتماعية اقتصادية.
جاء في كتاب (دعوة إلى تجديد النظر): لا ينبغي في دراسة الثورات الاجتماعية الحكم على ضوء التجذابات الاجتماعية من خلال شكلها السياسي القانوني والأيديولوجي، بل على العكس، لا بُدَّ من بيانها على أساس التناقض بين القوى المنتجة والعلاقات المنتجة، وقد حذّرنا ماركس من إصدار مثل هذا الحكم، فقال:
أـ لا تبتني هذه الدراسة على رؤية واقعية، والمعلول ـ أي الأشكال السياسية والقانونية والأيديولوجية ـ يجعل التناقضات والتغيرات الاقتصادية بدلاً من العلة.
ب ـ إن التحليل السياسي والقانوني والأيديولوجي هو تحليل سطحي تماماً؛ لأنه بدلاً من النفوذ في أعماق المجتمع، والبحث عن العلل والأسباب الواقعية، سوف تبقى طافية على السطح، فيكتفي بما هو معروض، ويسلك طريق التحليل والدراسة العميقة والباطنية للأمور الضرورية واللازمة.
ج ـ إن مثل هذا التحليل ذهني؛ لأن جميع الأسس التي هي أيديولوجية بشكل تام ليست سوى توهّم وتصوير غير صحيح عن الحقيقة، لكنّهم ـ بدلاً من بيان الموضوع الواقعي والتحليلي وبالتصوير الخاطيء عنها ـ حاولوا التشبيه علينا([9]).
ثانياً: إن القانون الحاكم على التاريخ هو قانون جبري وخارج عن إرادة الإنسان. وعلى هذا الأساس سوف تستمر نظرية الآلات المنتجة ـ التي تعتبر أهم جزء اقتصادي في بناء المجتمع ـ في تكاملها.
ثالثاً: يجب أن يمرّ المجتمع في رأي الماركسية بأربع مراحل؛ لكي يصل إلى الاشتراكية. وهذه المراحل عبارة عن: مرحلة الاشتراكية البدائية؛ مرحلة العبودية؛ مرحلة رأس المال؛ ومرحلة الاشتراكية.
رابعاً: تختلف كل مرحلة تاريخية عن المرحلة الأخرى بلحاظ الماهية. فكما تتبدل الحيوانات بلحاظ الطبيعة من نوع إلى آخر، وتتغير ماهيتها، كذلك المراحل التاريخية يكون لكلّ مرحلة قوانين خاصة بها، تختلف عن أدوار المرحلة السابقة لها، وعن أدوار المرحلة اللاحقة([10]).
يبتني أساس الحياة الاجتماعية ـ كما يلاحظ ـ على الاقتصاد، وجميع التغيرات التي تحصل في المجتمع تنشأ من التغيرات الحاصلة في الروابط الإنتاجية، التي تنشأ هي الأخرى من الآلات المنتجة.
فعندما كانت المرحلة الأولى مرحلة الاشتراكية كان الإنسان يزاول الصيد بآلات طبيعية، مثل: الحجارة والخشب، وكان يستفيد من ذلك ويعيش حياته. وفي هذه المرحلة لم يكن هناك صراع، وكانت الحياة هادئة تماماً، وكانت طبيعية ومشتركة، ولم يكن يهمّ الإنسان سوى إشباع بطنه. لكنّه لما تعرّف على الزراعة تبدّلت آلاته المنتجة. وبتبدُّل آلاته تبدّلت حياته الاجتماعية أيضاً. وعندما طوّر الإنسان آلاته المنتجة؛ لكي يستفيد من أرضه أكثر وأفضل، تأثّرت حياته الاجتماعية أيضاً.
ومن ثمّ ظهر نظام الرقية؛ لأن البعض كان يمتلك آلية الإنتاج ولم يكن الآخرون يستفيدون منها، فكان يلزم مَنْ لم يستفِدْ من آلية الإنتاج العمل بالزراعة في أرض الغير، والاستفادة من آلاته، من أجل الحياة وتيسير أموره المعاشية. فكان العمل والجدّ من جهة، وفقدان آلية الإنتاج المتناسبة مع الأرض الزراعية من جهة أخرى، نقطة عطف لمرحلة جديدة، حيث اتّخذ هؤلاء الطبقة العاملة الفاقدة لآلية العمل عبيداً، فأحكموا سلطتهم عليهم.
وفي المرحلة التالية ظهر النظام الرأسمالي بظهور المصانع والإنتاج. ومن الملفت أن القوانين الحاكمة على هذه الأنظمة جاءت لتنظّم العلاقة بين العامل وربّ العمل، الذي هو صاحب رأس المال. فقد كانت الحياة الاجتماعية في المرحلة الاشتراكية البدائية بسيطة جداً، بحيث لم يكن للإنسان حاجة ماسّة إلى القانون، لكنْ في المرحلة التي بلغت فيها الرقّية أوجها كان المجتمع بحاجة إلى قوانين تتطابق مع المرحلة الجديدة؛ لتنظم الحياة الاجتماعية. فوضع في هذه المرحلة مثل قانون إطاعة العبد لسيده، ملك السيّد لعبده، إمكان بيع وشراء العبيد، تملّك آليات الإنتاج والأرض، وأخيراً عدم قانونية التصرّف في آلات الإنتاج والأرض بدون رضا المالك؛ فإن منشأ كل ذلك في الحقيقة هو تطوّر وسائل وآلات الإنتاج.
وبعد تجاوز مرحلة الأسياد والرعية، والوصول إلى مرحلة الرأسمالية، نرى أن المالكية ورأس المال وآلات الإنتاج طرحت بشكل أكثر جدية، فلم يكن حينئذ لقوانين الرقّ وعلاقة العبد بالأسياد وآلات الإنتاج الزراعي فاعلية مؤثّرة. وفي هذه المرحلة يكون لعلاقة العامل بربّ العمل مقتضاها الخاصّ بها، فإن كان التهاون في العمل على أرض الأسياد يعتبر ذنباً لا يغتفر، والتصرف في أراضيهم غصباً، في مرحلة نظام الرقّ، فإن التهاون وقلّة الانتاج في مرحلة الرأسمالية كذلك يعتبران ذنباً وجرماً، والاستفادة غير الصحيحة من آلات الإنتاج المتطوّر غصباً، والتصرّف فيها لصالح العامل وبدون رضا المالك عملاً شنيعاً وجرماً.
ولو تجاوزنا مرحلة الرأسمالية، وصولاً إلى مرحلة الاشتراكية، فإننا نرى أن الحقوق والقوانين تتغيّر تماماً، بل قد يكون المالك في موضع المملوك؛ لأن أموال الممولين في النظام الاشتراكي يجب أن تقع في أيدي العمال، أي إن العمال مكلَّفون ـ من أجل تحقّق هذا النظام ـ أن يأخذوا أموال المموّلين، فإن كان أخذ المال في مرحلة الرأسمالية يعدّ سرقة وغصباً وجرماً فإن أخذ هذه الأموال في هذه المرحلة يعدّ عملاً قيِّماً وصحيحاً جدّاً؛ لأن أخذ الأموال في هذا النظام ليس غير ممنوع فحَسْب، بل يعدّ فضيلة وتكليفاً واجباً([11]).
نقد نظرية الأخلاق الماركسية ــــــ
انتقد الشهيد المطهري نظرية الماركسية التاريخية مفصّلاً، وردّها، بعد أن ذكر ستة عناوين([12])، هي: عدم الدليل على المادية التاريخية، ضرورة تجديد نظر المؤسّسين لهذه النظرية، نقض التطابق الجبري البنائي والمبنائي، عدم تطابق الأصول الأيديولوجية للمادية التاريخية، استقلال الثقافة والتكامل الثقافي، انتقاض الماركسية التاريخية من خلال مبانيها.
قال الشهيد المطهري في أواخر العنوان السادس([13]):
1ـ إنه بناء على الماركسية التاريخية كلّ رأي ونظرية فلسفية أو علمية، وكل نظام أخلاقي؛ بحكم كونه تجلياً لظروفه المادية والاقتصادية الخاصة، لا يمكن أن يكون ذا قيمة واعتبار مطلق، ولا متعلقاً بزمانه الخاص. وسوف يفقد ـ بمرور الزمن وتغير الظروف المادية والاقتصادية القهرية، والتي لا يمكن اجتنابها ـ هذا الرأي والنظرية الفلسفية أو العلمية، وكلّ نظام أخلاقي، صحّته واعتباره، وسوف يحلّ محلّه بالضرورة رأي وفكر آخر. وعليه يمكن نقض الماركسية التاريخية التي وصفت من قبل بعض الفلاسفة وعلم الاجتماع بأنها قانون كلي وضع من دون استثناء.
2ـ إنه على فرض صحة الماركسية التاريخية سوف يكون تجاوز كلّ مرحلة إلى مرحلة تاريخية أخرى أمراً جبريّاً، وإن ذلك سوف يتحقق بعد مدة من الزمن. وبعد التحول التاريخي لتلك المرحلة فما الحاجة إذن لوضع نظام قانوني وأخلاقي خاص لكلّ مرحلة من المراحل الأربعة وإلزام الناس باتباعها؟
3ـ إن وضع قانون ونظام أخلاقي في مرحلة الأسياد والرعية ـ الذي يرى أن آلات ووسائل الإنتاج والأرض أمرٌ ذو قيمة، ويرى المالكية للأسياد، وأن كلّ نحو من أنحاء الاستفادة منها لا بُدَّ أن يكون منوطاً بإذن وإجازة المالك، وأن المزارع والعامل ملكٌ طلقاً للأسياد ـ سوف يكون مناقضاً لوضع قانون ونظام أخلاقي في مرحلة الاشتراكية، التي لا ترى أيّ نوع من الملكية لصاحب رأس المال، وأن الحق مع العامل في كل الأحوال والأمور، وأن الملكية الحقيقية تنتهي باسم العامل، بل ذلك أمر فاضح لا يلتزم به عاملٌ ليعيش على أساسه.
4ـ إنه على أساس المادية التاريخية، التي ترى أن تجاوز كل مرحلة أمر جبري وخارج عن إرادة الإنسان، لا يمكن عدّه ظلماً وجوراً من قبل الأسياد على العبيد. وإن الجور من قبل الرأسماليين والممولين للطبقة العاملة هو أمر مخالف للقيم، بل لا بُدَّ في كل مرحلة من التأكيد على هذه المظالم؛ إعداداً لأرضية انقلاب وحركة من أجل الوصول إلى مرحلة أخرى. فلماذا يرى هؤلاء أن الأسياد و الممولين وأصحاب الثروة قد نقضوا الحقوق، وأن عملهم غير إنساني ومخالف للقيم؟
5ـ إن هذه النظرية ـ خلافاً لسائر الآراء المطروحة ـ عملية إلى حدٍّ ما، وبإمكان أتباعها التعويل عليها، وذكر أمور قيِّمة على أساسها، لكنها متزلزلة، بل هي عين التناقض؛ إذ هل لإنسانٍ أن يدرك المراحل الأربعة، ويرى نظامها القيِّم؟([14]).
الفعل الإنساني ونظرية الماركسية الأخلاقية ــــــ
ترى هذه النظرية الأمور جبرية، وأنه لا مناص للإنسان من المرور بمرحلة إلى أخرى. فلا بُدَّ أن تكون الحرب والقتال أمراً مقبولاً؛ وذلك من أجل تحقّق المرحلة المرتقبة، وهي مرحلة النظام الماركسي، والتي ليس لأحد حقّ الخلاف معها.
ولعل ضحايا الحرب ملزمون بقواعد يقتضيها كلّ زمان. فلو صار هؤلاء ضحايا نظام الرأسمالية والسلطة فعليهم قبول ذلك؛ لكي يصلوا بمرور الزمن إلى النظام الاشتراكي المرتقب، حيث يتفوّقوا فيه على المستكبرين، وينالوا حقوقهم.
هذا مضافاً إلى أنه لا معنى منطقيّاً لنظرية حقوق الإنسان والعمل الإنساني على أساس النظرية الماركسية، التي هي في حال تغير دائم، حيث يعتبر ذلك أمراً وهمياً، أي إنه على أساس أيٍّ من المراحل الأربعة تدون هذه الحقوق، ويتمّ تنظيمها؟ فإنْ دوِّنت على أساس مباني مرحلة الأسياد والرعية فلا بُدَّ من تغيُّر هذه القوانين والحقوق في مرحلة الرأسمالية؛ لأن حقوق الإنسان في النظام الرأسمالي سوف تتبلور على أساس مباني هذا النظام، وهي تختلف عن النظام الفيودالي؛ وأيضاً لو دوِّنت هذه الحقوق والقوانين على أساس مباني النظام الرأسمالي فلا بُدَّ من تغيرها في النظام الاشتراكي؛ لأن لكل مرحلة مقتضياتها الخاصة بها.
وحاصل الكلام أن العمل الإنساني والحقوق المترتِّبة عليه ـ بناء على أساس مباني هذا النظام ـ أمر لا معنى له تماماً، وكلّ مَنْ نادى به فهو إما جاهل؛ أو يتجاهل.
المحور الثاني: الرؤية المعنوية حول العمل الإنساني ــــــ
1ـ الرؤية الوجدانية والإرادة الحسنة ــــــ
كتب فردريك كابلستون كتاباً بعنوان (كانْت)، وبحث فيه آراء ونظريات (كانْت). وقد تعرّض في الفصل الخامس منه إلى بحث الأخلاق والدين، وبحث مفصّلاً حول العقل النظري والعملي، الإرادة، الإرادة الحسنة، التكليف، التكليف والقانون، الأمر المطلق، الكائن العاقل، شرط إمكان الأمر المطلق، الخير الكامل، خلود النفس، الله. وأورد بحثاً حول الدين نذكر شطراً منه:
لا تلازم في نظر (كانْت) بين الأخلاق والدين، أي إن الإنسان ـ من أجل معرفة وظيفته العملية لا يحتاج إلى معرفة الله، وإن المحرك النهائي للعمل الأخلاقي هو التكليف في حدّ ذاته، وليس امتثال الأحكام الإلهية، وفي الوقت ذاته تؤدي الأخلاق إلى الدين، وتقرّبنا إلى الله.
إن القانون الأخلاقي من خلال طريق عمل الخير هو المقصود والغاية النهائية للعقل، وهو يؤدي إلى الدين، أي إن الإنسان يكون موفقاً لمعرفة كل التكاليف بصفتها أحكاماً إلهية، لا كونها ضامنة امتثال الأوامر، وتتحكم في الإرادة التي هي في نفسها ممكنة ومشروطة، بل بصفتها قوانين ذاتية لكلّ إرادة حرّة في نفسها، بحيث تعتبرها أوامر لوجود أفضل؛ وذلك أنه من خلال الإرادة الكاملة الأخلاقية (القدسية والخير المحض)، وفي الوقت ذاته القادر المطلق، يمكننا عن طريق التوافق والائتلاف مع هذه الإرادة نيل أفضل درجات الخير، والقانون الأخلاقي يعلم بوظيفتنا لكي نجعلها نصب أعيننا.
إن القانون الأخلاقي يقتضي أن نكون مستحقّين للسعادة، لا سعداء، أو نجعل أنفسنا سعداء، لكنْ حيث إن الفضيلة لا بُدَّ أن توجد السعادة، وإن تكميل الخير الأفضل لا يكون إلاّ بواسطة العمل الإلهي فمن حقنا أن نتوقع السعادة عن طريق العمل الإلهي. وإن إرادته ـ وهي إرادة قدسية ـ تريد للمخلوقات السعادة، في حين بإمكانه تفويض السعادة لهم عن طريق إرادة القدرة المطلقة. وأمل السعادة يبدأ أولاً بالدين([15]).
وقد علَّق العلماء على نظرية الأخلاق والدين لكابلستون في حقّ (كانت)، وفيها مطالب متقنة كثيرة، ومضامين سامية، نشير إلى بعض ما يرتبط منها بالبحث([16]):
1ـ ذكر كانت أن العقل ينقسم إلى: نظري؛ وعملي، وأن العملي هو المهمّ، حيث يتعرض إلى: ما ينبغي؛ وما لا ينبغي، وأن الأساس في أمور الإنسان هو عقله العملي، ومن خلال سلوك هذا الطريق يصل إلى الوجدان.
2ـ إنه يعتقد أن الوجدان، أو العقل العملي، عبارة عن سلسلة أحكام سابقة مغروزة في فطرة الإنسان من حين ولادته، وأنها لم تأتِ عن طريق الحسّ والتجربة. لذا فهو يعتقد أن الأمر الأخلاقي لا يهتمّ بنتائج الأمور، ولا يفكر بمصالح التكاليف، بل يأمر بعملٍ ما لأنّه مما ينبغي، وينهى عن عملٍ ما لأنه مما لا ينبغي، ولا يبالي بالنتائج. فهو يأمر بالصدق والإحسان؛ لأنهما مما ينبغي، والوجدان يحكم بذلك أيضاً، وينهى عن الكذب؛ لأنه مما لا ينبغي، ولا يفكِّر في أن هذا الصدق هل هو بضرره، أو أن الكذب في نفعه ومصلحته؟
3ـ إن التفكير بالمصلحة والاهتمام بنتائج الأمور إنما هو عمل العقل النظري، أي إن العقل النظري هو الذي يفكّر بالمصالح، ويرى المنافع والأضرار. والحال أن الوجدان يفكّر بالتكليف والوظيفة، لا بشيءٍ آخر. وبناء على ذلك يرى (كانْت) أن الإنسان مكلف بالذات أن يأتي إلى الدنيا هكذا، في حين يرى آخرون أن الإنسان مستعدّ للتكليف، وليس مكلَّفاً ذاتاً.
4ـ إنه يعتقد أن كل إنسان يبتلى بعذاب الوجدان، أي إن كل إنسان يندم على أعماله السيئة، ويشعر بالمرارة تجاهها، في حال أن من الممكن أن يعطيه الشعور بها السعادة الدنيوية، فلا بُدَّ أن نعلم لماذا يكون الإنسان المذنب والخاطئ نادماً وخجلاً؟ ولماذا يريد الهروب من نفسه؟ ولماذا لا يستطيع مثل هذا الإنسان الخلوة بنفسه والمكث مع وجدانه لحظة؟ يقول: إن سبب هذا الندم والمرارة ما يمليه الباطن، وأن ما يسمى بالوجدان والقوة الباطنية والنظرية هو الذي يفكِّر بما ينبغي، ولا يبالي بنتائج الفعل.
5ـ إنه يؤمن بالتفكيك بين السعادة والكمال، ويقول: إن الخير والإحسان يوجد باسم الإرادة الحسنة، وهي عبارة عن الطاعة المطلقة للأوامر الوجدانية، فإن الانسان الكامل والمطيع المطلق لا يفكِّر بنتيجة العمل، سواء كانت النتيجة هي السعادة أو الشقاء، فهو يرى السعادة شعوراً باللذة الأكمل، وابتعاداً عن ألم جسمي وروحي، دنيوي وأخروي، والشقاء ابتعاداً عن السعادة، وشعوراً بالألم والعذاب الجسمي والروحي، الدنيوي والأخروي.
6ـ إنه يرى أن الاختيار وإرادة الإنسان يمكن إثباتهما عن طريق العقل العملي، وأن الفلسفة والعقل النظري عاجزان عن إثباتهما؛ لأن الاختيار والإرادة ليسا من مقولة الأمور الاكتسابية النظرية؛ ليتمكن العقل من إثباتهما.
7ـ حاول (كانْت) إثبات البقاء والخلود والقيامة عن طريق الوجدان والعقل العملي، ويقول: إن الوجدان طالما يأمر الإنسان بالصدق والأمانة والعدل والإحسان، رغم أنه يعلم أنه ليس لهذه المفاهيم في الدنيا ثواب يعتدّ به، أو ليس في قبالها ثواب أصلاً، بل هو على يقينٍ أحياناً أن مثل هذه الأعمال تقيِّد الإنسان، وتستتبع الألم والعذاب، لكن مع ذلك الإنسان يترك ذلك العمل أو يفعله. والسبب في الإتيان بهذه الأعمال، مع اعتقاده الراسخ بعدم الأجر والثواب الدنيوي عليها، بل الشعور بالعذاب والألم أحياناً، إنما هو إيمانه في قرارة وجدانه بأن هذه الأعمال لا تذهب هدراً، وأن الإنسان يثاب عليها في عالم آخر. فالاعتقاد بالثواب يلازم الاعتقاد بالخلود ووجود عالم آخر.
8ـ حاول (كانْت) التعريف بالله من خلال الوجدان والعقل العملي، فهو يقول مثلاً: حيث إن تكميل الخير الأفضل لا يتحقّق إلا بواسطة العمل الإلهي فمن حقّنا أن نتوقع السعادة عن طريق العمل الإلهي. ولمّا كانت إرادته إرادة مقدسة فهو يريد أن تكون مخلوقاته لائقة بذلك([17]).
ثم أيد كلامه بمقال روسوي الفرنسي، وقال: للقلب منطق لا يدركه العقل. ثم استند إلى كلام باسكال، وقال: للقلب أسبابه، التي لا يعلم السرّ والعقل عنها شيئاً.
نقد بعض نظريات (كانْت) ــــــ
أـ عدم اعتبار العقل النظري ــــــ
يقول كابلستون، نقلاً عن كتاب (كانْت): إنه يقول: إن ما أنكره في النقد أولاً لا يثبته هنا، أي إنه لا يقول: إن بإمكان العقل النظري إثبات وجود الله والصفات الإلهية. نعم تصديق وجود الله يكون بواسطة العقل، لكنه عملٌ إيماني. ومن الممكن أن يراه إيماناً عملياً، ولذا فهو يرتبط مع التكليف والوظيفة([18]).
لقد ردّ (كانْت) بصراحة ـ كما رأينا ـ قدرة العقل النظري على إثبات الله والصفات الإلهية. ويرى أن ذلك من مهام العقل العملي، في الوقت الذي يثبت العقل النظري وبأقوى الأدلة وجود الله، الصفات الإلهية، عالم ما بعد الموت، خلود النفس، الاختيار والإرادة وحرّية الإنسان. وهذا ما دعت الكتب السماوية وروايات المعصومين الناس إليه من خلال سلوك هذا السبيل، على الرغم من أن العقل العملي والوجدان والفطرة لها الكلمة الفصل في هذا المجال.
ب ـ الفرق بين الكمال والسعادة ــــــ
يرى (كانت) أن السعادة غير الكمال، وأن بينهما تقابلاً، فهو يقول في ذلك: إذن صدق هذه القضية لا تكشف أن مَنْ يبحث عن سعادته لا يمكنه من دراسة هذا المفهوم أن يكتشف أنه صاحب فضيلة، وكذا صاحب الفضيلة لا يمكنه بدراسة الفضيلة أن يكتشف أنه سعيد؛ فإن هذين المفهومين متمايزان([19]).
إن (كانت) ـ كما ترى ـ صرّح بأن السعادة هي غير الفضيلة والكمال، وأن الفضيلة والكمال غير السعادة، والحال أولاً: إن الكمال لا ينفكّ عن السعادة ـ كما صرح بذلك العلماء، أمثال: الفارابي وابن سينا وغيرهما من علماء الحكمة والأخلاق ـ، بل إن كلّ كمال هو نوع من أنواع السعادة، إلاّ أن السعادة لا تنحصر باللذات الحسّية.
ثانياً: إن الإنسان ـ كما يقول (كانْت) نفسه ـ لو أطاع أمر الوجدان فإن هذا بنفسه كمالٌ لا علاقة له بالسعادة، هذا من جهةٍ. ومن جهة أخرى هو يعتقد بأن الإنسان لو لم يمتثل أمر الوجدان فإنه سوف يشعر بعذاب الوجدان، إذن بعد المقارنة بين هذين الأمرين لا بُدَّ من القول: إن عدم امتثال أمر الوجدان لو كان مؤلماً فإن الطاعة لأوامره لا بُدَّ أن تكون موجبة للسعادة، وإلاّ فإن الإنسان لو أطاع أمر الوجدان فإنه سوف يشعر بالعذاب، كما أنه لو اجتنب أوامره فسوف يشعر بالعذاب أيضاً. والحال أن هذا الكلام واضح البطلان، ولا أساس له([20]).
ج ـ إطلاق أحكام وأوامر الوجدان ــــــ
يظهر من كلام (كانْت) أن أحكام الوجدان وأوامره مطلقة، لا يمكن الاستثناء فيها، وأنه لا بُدَّ من العمل بها تحت أي ظرف.
يقول (كانْت): معنى الاحترام للقانون هو أن القانون عبارة عن الأخلاق، والتكليف اللزومي هو العمل الناشئ عن الاحترام للقانون. ومراد (كانْت) من القانون القانون من حيث هو. فالعمل من أجل أداء الوظيفة والتكليف هو العمل الناشئ من احترام القانون، والخاصية الذاتية للقانون بلحاظ كونه كلياً، أي الكلية المطلقة غير القابلة للاستثناء. والقوانين الطبيعية هي كلّية، وكذلك قانون الأخلاق([21]).
قال العلماء في مقابل كلام (كانْت): إن من المسلَّم أنّ جميع أحكام الوجدان ليست مطلقة وذاتية، بل بعضها مطلق وذاتي وغير قابل للاستثناء، وبعضها الآخر نسبي تابع للمصلحة والمفسدة، كما يقول علماء المعتزلة والشيعة بأن الحسن والقبح عقليان، وأنهما ذاتيّان ونسبيّان، أي إن العلم والعدل ـ بحكم العقل، بذاتهما ونفسهما، وبدون مقارنة مع أي شيء آخر ـ حسنان وممدوحان، وأنه لا مفرّ للإنسان عن ذلك، كما أن الظلم والجهل ـ بحكم العقل في ذاتهما ـ قبيحان ومذمومان، وهذا حكم لا يقبل الاستثناء. لكنّ هناك أموراً حسنها وقبحها نسبي، وللمصلحة والمفسدة المقصودة فيها علاقة؛ فإنْ كانت مصلحة ذلك الفعل أهمّ كان حسناً؛ وإنْ كانت مفسدته أكبر كان قبيحاً([22]).
العمل الإنساني ونظرية (كانْت) الوجدانية ــــــ
بناءً على نظرية (كانْت) الوجدانية التي ترى الإنسان كائناً مكلفاً وموظفاً، وأن الالتزام بأداء الوظيفة بعيداً عن التفكير بالمصلحة سوف يجعل للعمل الإنساني معنى؛ لأن الإنسان إذا لم يعمل بوظيفته فإنه على نظرية (كانْت) سوف يكون معذّبَ الوجدان، ويشعر بالمرارة والعذاب، فإنه لو أراد العمل بمقتضى إرادته الحسنة لا بُدَّ أن يكون مطيعاً تماماً لأوامر الوجدان، ولو لم يلتفت إلى حقوق الإنسان، ولم يعمل بوظائفه الإنسانية، فإنه لم يلتفت إلى إرادته الحسنة، ويكون مغضوباً لوجدانه.
إنه بناءً على نظرية (كانْت) سوف يكون للعمل الإنساني توجيهٌ صحيح؛ لأنه يقول: إنْ كانت أعمالكم لا جزاء لها في الدنيا، أو كان لها جزاء لكنه زهيد، فإن الإنسان سوف يشعر في قرارة وجدانه وباطن نفسه أن هذه الأعمال سوف لن تذهب هدراً، وأنه سوف يُجزى عليها في عالم آخر، على الرغم من أنه قام بالعمل حسب وظيفته، لا من أجل الثواب والجزاء عليه.
وحيث إن (كانْت) يثبت خلود النفس والعالم الآخر من خلال الوجدان والعقل العملي فسوف يكون لحقوق الإنسان والعمل الإنساني من هذا المنظار تفسيراً صحيحاً. وأخيراً نختم هذه المقولة بكلام لـ (كانت)، حيث يقول: كما أن الله هو المشرِّع العام فلا بُدَّ من القيام بخدمته، أما ما معنى الحرمة في حقّه تعالى؟ معنى ذلك أننا لا بُدَّ أن نطيع القانون الأخلاقي ونمتثله؛ من أجل أداء التكليف والوظيفة([23]).
2ـ رؤية العشق والمحبة ــــــ
في كتابٍ عن الهنود عندما يتحدّث عن المثل والقيم يذكر أربع مراحل للحياة المثلى والنموذجية، ثم يشرع في تفسيرها. وسوف نذكر بحسب المناسبة مواضع منها:
لا بُدَّ للإنسان من أن يسعى ويكون جادّاً في أداء وظيفته، لكنْ يجب أن يكون عمله لا من أجل الجزاء والثواب، أو من أجل الجنة ونيل الدرجة الرفيعة فيها([24]).
وجاء في مقطعٍ آخر منه: إن نظام القيم الهندية معقّد، وهو يشتمل على المعرفة، ويؤكد على العمل الفاعل والخدمة للآخرين، ويحاول أن يصل بالخان والمان إلى القمّة([25]).
وفي مقطعٍ آخر نقرأ: لا يقبل غاندي هذا الأمر ـ العزلة في الغاب ـ؛ لأنه يرى أن الخدمة الخالصة للآخرين جزءٌ من التربية، وهو يؤمن بذلك؛ لكي يحرِّر الروح من أسر الجسم؛ لأن الخدمة للآخرين إذا كانت بلحاظ غضّ الطرف والتجاوز عن الشيء فإنه سوف يكون لها مفهومٌ مسيحي، لا هندي([26]).
وجاء في المقطع الرابع منه: لا شَكَّ أنه ورد في نظام القيم الهندية المعقَّد أن نكران الذات لدى خدمة الآخرين، وقلة الذكر لترك الخان والمان، ليس أصلاً أساسياً. وهذا ما ورد التأكيد عليه في الكثير من النصوص الهندية، وخصوصاً في الكتاب الهندي الكبير (بجودجيتا). وقد ذكر مهاتما غاندي بأنّه وجد هذه القيم في هذا الأثر. وقال جريشنه في كيتا: إن الرجل الذي أبعد الآمال عن حياته، واستمر في طريقه بدونها، سوف يصل إلى مرحلة الاطمئنان إن لم تكن له منية في البين([27]).
ويعبّر في كتب التربية والأخلاق عن ذلك بمعيار المحبة في الفعل الأخلاقي. ويقول في توضيحه: إنّ المعيار في الفعل الإنساني والأخلاقي أن يكون على أساس حب الغير، لا حب الذات، أي يكون كلّ فعل وعمل أخلاقياً حين يبرز في عنصر المحبة مسألتان:
1ـ نكران الذات، وعدم أخذ نفعه وضرره بنظر الاعتبار.
2ـ النظر إلى الغير، وأن يكون بصدد إيصال النفع إليهم، أو دفع ضررعنهم.
وقد ذكر لهذه النظرية محاسن، نشير إليها:
1ـ إن من محاسنها التعرّض للأمور النموذجية والقيم الاجتماعية التي ينبغي للإنسان أن يكون جاداً فيها.
2ـ نظرت هذه الرؤية إلى أداء الوظيفة بصفتها مسؤولية إنسانية، وأن العمل الخالص وأداء الوظيفة ليس من أجل الجنة، وإن كانت ترى أن الأجر أمر معقول ومطلوب.
3ـ إن الخدمة للغير، والحضور الفاعل في المجتمع، والابتعاد عن العزلة والانزواء، أمر ممدوح وحسن، وقد دُعي إليه.
4ـ إنهم يرون الخدمة للبشر قريناً لنكران الذات والمنية والتكبّر، إلى حدّ أنهم قالوا: إن رجلاً ابتعد عن الآمال واستمر في طريقه بدونها سوف لا ينكر المنية ويصل إلى درجة الاطمئنان.
نقد نظرية المحبة والعشق ــــــ
1ـ ليس كل محبة فعلاً أخلاقياً، أو قيمياً. بعض الحبّ والتودّد يمكن الثناء عليه، ولكن لا يمكن عدّه فعلاً أخلاقياً؛ فإن التودّد وحبّ الشخص إذا كان بطلاً أمر ممدوح وحسن، ولكنْ ليس له جنبة أخلاقية. وكذا حبّ الأبوين لولدهما؛ لأنه يكون بمقتضى الغريزة والطبيعة البشرية.
2ـ إن الأخلاق والفعل الأخلاقي لا يقتصر على حبّ الغير. ولذا لا بُدَّ من القول بأن دائرة الأخلاق أوسع، فإن بعض الأمور المقدسة يمكن الثناء عليها وتكريم فاعلها، لكنها ليست من نوع حبّ الغير، مثل: عدم قبول الذلّ، وعدم شعور الحاجة إلى الغير، فإنها من الأمور المقدسة، والقابلة للثناء، لكنها لا يؤتى بها بصفتها حبّاً للغير.
3ـ ليس كلّ نوع من أنواع حب الغير فعلاً أخلاقياً أيضاً. هل يعتبر صرف حب الإنسان الآخر فعلاً أخلاقياً، أم لا بُدَّ لحبّ الإنسان الآخر من ملاكٍ خفيّ؟ فلو أن إنساناً أنقذ حيواناً من المرض أو من الموت ألم يقم بفعل أخلاقي وإنساني؟ إنه لا بُدَّ من تفسير مفهوم حبّ الإنسان، وبيان المقصود من الإنسان الذي يتعلق به الحبّ والتودّد؛ لأن هذا الإنسان لا يمكن أن يكون إنساناً بالقوة، وكائناً له رجلان، ومع ذلك لا يحبّ البشرية والإنسانية، بل لا بُدَّ أن يكون لهذا الإنسان إنسانية وشرف.
وحينئذٍ لو كان حبّ الغير لأجل الإنسانية فهو فعل له قيمة، فتكون حينئذ خدمة الحيوان أيضاً فعلاً صحيحاً؛ لأن الحيوان كائن من الكائنات الإلهية التي يجب الحفاظ عليها وحمايتها([28]).
العمل الإنساني ونظرية العشق والحب ــــــ
للعمل الإنساني ـ بناء على هذه النظرية ـ معنى منطقي؛ لأن الشخص الفاعل لذلك العمل في صدد تقديم خدمة لأبناء جلدته، وإزالة الألم والعذاب عنهم. فهو لا يريد إزاء ذلك أي أجر، ولا يجد نفسه مستحقّاً لمثل هذا الأجر، حتّى أنه بتصريح أتباع النظرية الهندية لا يقصد الهدف الأعلى، أي الجنة؛ لأن مفهوم خدمة البشر وحبهم راسخ كالحلقة في الأذن، فهو لا يسمع غير هذا النداء، وعليه أن يسعى ويجدّ ليكون مثل كاندي في هذا الطريق؛ لكي يترك الرأس لدى المعشوق.
المحور الثالث: الرؤية الإسلامية لملاك الفعل الإنساني ــــــ
نظرية العبودية والقرب الإلهي ــــــ
يبحث المتديِّنون عن ملاك الفعل الأخلاقي والقيم السامية في تجلّي العبودية ونيل الوصال الإلهي، ويرَوْنه عملاً ذا قيمة يصدر من العبودية وتسليم العبد مقابل الحقّ تعالى. والواقع أن تعبير علماء الدين في هذا المجال مختلفٌ؛ فبعض عبَّر عن هذا الملاك بعنوان العبودية، وبعض آخر عبَّر عنه بعنوان بالقرب الإلهي؛ والبعض الآخر عبَّر عنه بعنوان كسب رضا الحقّ.
ومن الواضح أن جميع هذه التعابير تسعى إلى بيان أمر واحد، وهو الالتفات إلى الخالق الأحد العالم والحكيم والقادر.
وعلى أساس هذه الرؤية يكون الإنسان مخلوقاً لأجل هدف معين، وعليه أن يجدّ من أجل تحقيق هذا الهدف بشكلٍ صحيح. ولذا ينبغي الالتفات إلى دور (التوحيد، الاعتقاد بخالق الوجود، الإيمان به، مقدار الاستفادة من العقل بصفته مصدراً باطنياً، الحاجة إلى العاقل وخالق الوجود الذي لا بديل له وإلى أوامره، ضرورة الارتباط بالأنبياء والأخذ بتعاليمهم، الاعتقاد بعالم آخر، ضرورة الاعتقاد بوجود مبانٍ قيمة في المجتمع البشري، وضرورة الأحكام الاجتماعية ومعرفة الإنسان)؛ لكي تتبين النظرية بشكلٍ معقول وصحيح.
أصول نظرية العبودية والقرب الإلهي ــــــ
1ـ الهدف من الإيجاد ــــــ
بناءً على التعاليم القرآنية يكون الخلق والإيجاد هادفاً؛ لأن الحكماء والفلاسفة قالوا: لو لم يكن لفعل الفاعل هدفٌ مضمر لكان ذلك الفعل لغواً. وهذا ما أشارت إليه الآيات القرآنية بوضوح، كقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً﴾ (ص: 27)؛ وقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (الدخان: 38 ـ 39).
2ـ الهدف من خلق الإنسان ــــــ
لما كان كلّ الوجود هادفاً فما الهدف من خلقة الإنسان؟ ترى التعاليم الدينية أن الهدف من خلق الإنسان هو حسن عمله وتكامله الإنساني، كما ورد في القرآن الكريم: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ (الملك: 2)، حيث ورد في تفسيرها روايات تبين كيفية الكمال وطرق التكامل، فإنه لمّا سُئل النبيّ| عن المراد من قوله تعالى: ﴿أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ قال: «أتمّكم عقلاً، وأشدّكم له خوفاً، وأحسنكم في ما أمر الله به ونهى عنه نظراً، وإنْ كان أقلّكم تطوّعاً»([29]).
ومن المسلم أن العقل الكامل يجعل العمل أفضل، والنية أكثر إخلاصاً، والجزاء أوفر. وجاء أيضاً في حديث الإمام الصادق× قال: «ليس يعني أكثر عملاً، ولكن أصوبكم عملاً. وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة، ثم قال: الإبقاء على العمل حتّى يخلص أشدّ من العمل، والعمل الصالح الذي تريد أن يحمدك عليه أحد إلى الله عزَّ وجلَّ»([30]).
والذي يفهم من ذيل الرواية أن الإنسان الكامل هو الذي لا يرجو إلاّ رضا الحق تعالى، والقرب منه، والوصال معه. فهو يعلم أن القرب بينه وبين الله ليس قرباً زمانياً ومكانياً، وأنه أبعد من الزمان والمكان، لكنه يدرك بكل وجوده أن ربه يخاطبه فيقول له: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (ق: 16).
ولما لم يكن الوصال المكاني والزماني هو المراد فتحقُّق طريق الوصال سوف يكون من خلال عمل الإنسان، وإنه لا يوصله إلى ذلك سوى الكمال الإنساني الذي يتحقَّق من خلال عمله.
3ـ دليل المعرفة ــــــ
يبتني إتيان العمل الحسن ونيل التكامل على العلم والمعرفة. وحيث إن الكمال والقرب الإلهي هو الهدف من الخلق فإن من المسلم أن هذه المعرفة لا تتيسَّر إلاّ بالحسّ والعقل، كما صرح بذلك الحكماء. فلا مناص سوى التوسُّل بالوحي الإلهي، قال تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 151).
والتعويل على ما ورد في ذيل الآية مهمّ؛ لأنه تعالى يقول بأن الأنبياء هم المعلِّمون الذين يعلِّمون الناس ما لا يعلمون، أي إن الطريقة الدينية مقرونة بالأوامر التي لا سبيل للعقل إليها، والتي لا تتيسَّر معرفتها إلاّ عن طريق العلم.
4ـ النظرة الأخروية ــــــ
يجب على الإنسان أن يعلم بأن حياته لا تنحصر بالدار الفانية، وأن هذه الحياة هي مقدّمة للحياة الأبدية. فهو يعلم بأن دائرة أعماله الاختيارية التي تمهد أرضية كماله وتقرّبه ترتبط بهذه الدنيا، وأنه لا فرصة له في العالم الآخر للتكامل وبلوغ الكمال، كما ورد في قوله تعالى: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾ (غافر: 39)؛ وفي آيةٍ أخرى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ﴾ (الرحمن: 26 ـ 27)؛ وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى﴾ (طه: 75)؛ وكما ورد في قول أمير المؤمنين×: «اليوم عملٌ ولا حساب؛ وغداً حساب ولا عمل»([31]).
كيفية نيل المطلوب ــــــ
بعد بيان الأصول الأربعة المتقدمة يظهر أن المهم هو أن نعلم ما هو طريق الوصول إلى القرب الإلهي؟ وما هو الطريق الأصلح للوصل الإلهي؟ من هنا قيل بأن طريق الوصول إلى نيل المطلوب ودرك الكمال النهائي هو طريق العبودية، كما ورد في الآية الشريفة: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56)، أي إن الطريق الوحيد الذي يوصلنا إلى الكمال والقرب الإلهي المطلوب هو التعبُّد والعبودية للحق تبارك وتعالى، وإن كمال العبودية إنما يكون له معنى إذا كان العبد مقابل المعبود، بأن يكون تسليمه لأوامره بنحوٍ لا يرى سواه، وأنه لو رأى غيره فعليه أن يعلم بأن العلم والقدرة لما سوى الله إنما هي في طول علم الله وقدرته، وأن وجود الناس رهينٌ المشيئة الإلهية. ولا بُدَّ من معرفة أن الإنسان على دين الحقّ، وليس ذلك الدين إلاّ الإسلام، قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ﴾ (آل عمران: 19)؛ وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ (آل عمران: 85)؛ كما ورد عن أمير المؤمنين× في بيان معنى الإسلام قوله: «الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، التصديق هو الإقرار، والاقرار هو الأداء، والأداء هو العمل»([32]).
المحور الرابع: طرق معرفة مصاديق العمل الإنساني والأخلاقي ــــــ
إلى هنا كان الكلام حول الملاك والمعيار في القيم، لكن الأهم هو معرفة طرق المصاديق والتطبيقات الأخلاقية والقيمية؛ إذ من الممكن أن يكون ملاك ومعيار القيم سامياً جداً، لكن بلحاظ مجهولية وإبهام بعض المفاهيم يكون تشخيص تلك المصاديق الأخلاقية والإنسانية مجهولاً أيضاً، فـ (كانْت) مثلاً يؤمن بأن الفعل والعمل إنما يكون له قيمة أخلاقية إذا كان مصداقاً للتكليف والوظيفة، وأن نية الفاعل وهدفه من القيام به هو صرف العمل بالتكليف، فهو يقول في بيان معرفة الوظيفة: إن الوظيفة والتكليف هما أمر وحكم مطلق، يجب أن يقرر بشكل قانون كلي وعام([33]).
ويجب أن نعلم أن (كانْت) قد أناط معرفة الأمر والحكم المطلق بالعقل العملي أو الوجدان، والحال أن هذه الضابطة كلية، يمكن تفسيرها، حيث فسِّرت بتفاسير مختلفة في الكتب([34]).
إذن من اللازم ـ مضافاً إلى بيان معيار وملاك الأعمال والقيم ـ بيان معرفة مصاديق هذه الأعمال؛ ليعلم المكلف وظيفته، ويعمل على أساسها؛ فإن سنة تدوين وتأليف الكتب الأخلاقية جرت من أجل بيان هذا المقصود. وفي ما يلي نتكلم باختصار عن ذلك:
1ـ طريق الفطرة ــــــ
إن الميل الفطري والباطني تجاه الإحسان، والشعور بالانزجار والنفرة عن القبيح، مستفاد من التعاليم القرآنية، كما في قوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ (الشمس: 7 ـ 8). فإن الله تعالى بعد أن خلق الإنسان ألهمه الفجور والتقوى، أي ألهمه خيره وشره. ويستفاد من هذه الآية المباركة أن فطرة الإنسان وباطنه لو تلوّث بغبار الخارج فإنه سوف يكون قادراً على معرفة الكثير من مصاديق الخير والشر، ويميزها، كما ذكر ذلك العلاّمة الطباطبائي: الإلهام الإلقاء في الروع، وهو إفاضته تعالى الصور العلمية، من تصوّر أو تصديق، على النفس. وتعليق الإلهام على عنوانين: فجور النفس؛ وتقواها للدلالة على أنّ المراد تعريفه تعالى للإنسان صفة فعله من تقوى أو فجور، وراء تعريفه متن الفعل بعنوانه الأولي المشترك بين التقوى والفجور، كأكل المال مثلاً، المشترك بين أكل مال اليتيم، الذي هو فجور؛ وبين أكل مال نفسه، الذي هو من التقوى؛ والمباشرة المشتركة بين الزنا، وهو فجورٌ؛ والنكاح، وهو من التقوى. وبالجملة المراد أنه تعالى عرَّف الإنسان كون ما يأتي به من فعل فجوراً أو تقوى، وميَّز له ما هو تقوى ممّا هو فجور([35]).
2ـ طريق العقل ــــــ
الطريق الثاني لمعرفة حسن الأعمال وقبحها عقل الإنسان. وقد تحدث المتكلِّمون عن الحسن والقبح الذاتي والعقلي في بحث العدل الإلهي. ومع اعترافهم بأن للعقل البشري القدرة على درك الحسن والقبيح جعلوا العقل حكماً مستقلاًّ في نظام القيم، بحيث يستطيع بسهولة معرفة الكثير من مصاديق الحسن والقبح. وقد تمسكوا؛ لتأييد كلامهم في استقلال العقل بمعرفة الحسن والقبح، بآيات قرآنية، كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف: 28)؛ فإن ظاهر الآية أن المشركين باقون على فعل قبائح الأعمال، ولكنّهم حاولوا جادّين نسبة أعمالهم وسلوكهم إلى سنة آبائهم الأولين؛ ليعطوا أفعالهم مظهراً حسناً، أو أنهم يرَوْن ذلك بأمر من الله، وأنه مصداق للفعل الحسن، لكن الله ردّهم وخطّأهم([36]).
3ـ طريق الوحي ــــــ
الطريق الثالث لتعيين ومعرفة المصاديق الأخلاقية والأفعال القيمة هو طريق الوحي، أي إنه مع وجود الطريق الفطري والعقلي لمعرفة المصاديق الحسنة والقيمة للأفعال يعتبر طريق الوحي مكمِّلاً لطريق الفطرة والعقل في النظام الأخلاقي الإلهي، الذي جعل ملاك القيم فيه القرب الإلهي والعبودية، وأنه بدون ذلك لا يمكن نيل القرب الإلهي؛ لأن الفطرة والعقل وإنْ كانا يعتبران طريقين شاملين، لكنّ النظرة فيهما كلّية، ويتأثران في مقام تعيين وتبيين جزئيات الأمور، وهما مثارٌ للاختلاف.
فمن اللازم عليه تعالى بيان المصاديق بنفسه، وتعيين وظيفة الإنسان. وقد وردت آيات وروايات كثيرة في بيان هذه المصاديق، وكان الهدف من تأليف الكتب الأخلاقية الكثيرة بيان هذا المقصود؛ ليتمكن السالكون من سلوك الطريق بسهولة، وإيصال أنفسهم إلى المقصود. قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل: 90)؛ وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ (الأنفال: 52)؛ وقال تعالى: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 268).
المحور الخامس: تداعيات الفعل الإنساني ــــــ
بعد البحث حول معيار الأفعال القيمة، والحديث حول طرق معرفة العمل الأخلاقي، من المناسب أن نتحدّث حول تداعيات الفعل الإنساني من زاوية التعاليم الدينية؛ لكي نكون أكثر جدّية في خدمة أبناء نوعنا:
1ـ الإيثار ــــــ
إن إحدى الفضائل والقيم الأخلاقية السامية هو الإيثار. ومعناه تقديم الآخرين على نفسه. حينئذ يخرج الإنسان من ذاته إلى ربّه. فإنه لا بُدَّ للإنسان أن يرى حاجة الآخرين إليه من نعم الله عليه، ويستثمر هذه الفرصة لكي يحلّ مشاكلهم. كما ورد ذلك عن أمير المؤمنين×، فإنه قال: «إن حوائج الناس عليكم نعمة من الله عليكم، فاغتنموها، ولا تملّوها، فتتحوّل نقماً»([37]). وورد في القرآن الكريم: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر: 9). وقد ورد بشأن نزول هذه الآية أن النبيّ| قال للأنصار لما انتصروا على يهود بني النضير: «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم، ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة»، فقال الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا، ونؤثرهم بالغنيمة، ولا نشاركهم فيها، فنزلت: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾…([38]).
2ـ الإنفاق ــــــ
إن أحد الأمور التي يتجلى فيها الفعل الأخلاقي هو الإنفاق وبذل بعض المال للغير، بأن يقوم المنفق بإهداء ماله للغير، والحال أنه لا يوجد أيّ تعهد له تجاهه. ولا بُدَّ أن نعلم بأن الإيثار أفضل من الإنفاق؛ لأنه أوّلاً: متعلق الإنفاق هو المال والأمور المادية فقط، لكن الإيثار أوسع دائرةً من الأمور المادية؛ وثانياً: الإيثار مع التواضع، بأن يرى للغير حرمة وكرامة، ويحاول تقديم خدمة له، في حين أن المنفق قد لا يكون له مثل ذلك المال، ولا يختلج التواضع في ذهنه للمنفَق عليه. فقد ورد في الآية الكريمة: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنّاً وَلاَ أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة: 262). ولا بُدَّ أن نعلم أن الإنفاق المقبول والصحيح له شروط، وقد أشارت الآيات والروايات إلى أن الإنفاق لا بُدَّ أن يكون بدون طلب، وفي سبيل الله، ومن أجل رضاه، فإن لتحقُّق الفعل الإنساني بالنسبة إلى الإنسان المسلم مظهر جميل؛ لأنه يسوقه نحو الكمال، الذي يستتبع القرب إلى حضرة الحقّ تعالى. إذن يمكن بالإنفاق تقديم المساعدة والعون بكلّ ثقة وعزيمة لضحايا الحرب والقتال.
3ـ الحبّ للآخرين ــــــ
نظرت الكتب الأخلاقية إلى مسألة الحب لأبناء النوع على أنه عمل إنساني حكيم، وأن ذلك يمهّد أرضية التأثير على الغير، وأنه بالمحبة والصداقة للآخرين تتهيأ أسباب الخير والصلاح في المجتمع. والأمر الملفت هو أن الحب للغير في اللسان الديني لا بُدَّ أن يكون لأجل رضا الله، أي إن الإنسان المسلم يبدي المحبة للمسلم والكافر؛ لأن الجميع هم خلق الحقّ تعالى، ولهم كرامة وحرمة ذاتية.
إذن أساس الحب للغير عبارة عن نسبةٍ تكون للشخص مع الله. فكلّ مَنْ كانت عبوديته أكثر كان نصيبه من الحبّ أكثر، وكلّ مَنْ كانت عبوديته أقل فإن الحب له سوف يكون بتلك النسبة. وبعبارة أخرى: مقدار عبودية العبد هي الميزان لحبّ الآخرين له. وقد عبّر عن الحب في التعاليم الدينية بالتولي، وعن العداء بالتبري. والملفت للنظر أن كلَيْهما لا بُدَّ أن يكون في صراط كسب الرضا الإلهي، وفي صراط العبودية. فقد ورد عن أبي عبد الله× أنه قال: قال رسول الله| لأصحابه: أيُّ عرى الإيمان أوثق؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، وقال بعضهم: الصلاة، وقال بعضهم: الزكاة، وقال بعضهم: الصيام، وقال بعضهم: الحجّ والعمرة، وقال بعضهم: الجهاد، فقال رسول الله|: «لكلّ ما قلتم فضلٌ، وليس به، ولكنّ أوثق عرى الإيمان الحبّ في الله، والبغض في الله، وتولي أولياء الله، والتبرّي من أعداء الله»([39]). وعنه× أيضاً أنه قال: «كل مَنْ لم يحبّ على الدين ولم يبغض على الدين فلا دين له»([40]).
وهذا السبب يهيّئ أرضية خصبة من أجل تحقُّق الفعل الإنساني؛ لأن بإمكان الإنسان إزالة الألم والعذاب عن المسلم والكافر، وهذا العمل لا يقوم به إلاّ من باب الحب لهم، الحبّ الذي له جذور دينية وارتباط بمقدار ميزان عبودية المحبوب ـ كما ذكر ذلك المحقِّق النراقي ـ؛ لكي يكسب حب الغير عن هذا الطريق. وبالطبع لا ينظر المسلم فقط إلى تخفيف الألم والعذاب عن الضحية، بل ينظر أيضاً إلى حرمته كإنسان.
4ـ الاهتمام بأمور الناس ــــــ
أحد الأمور ذات القيمة في النظام الديني هو الاهتمام بأمور الناس، أي إن الإنسان المسلم مكلَّف برصد أمور المجتمع، ووضع خطط مناسبة لذلك، فإن الاهتمام بالنفس والذات الفردية وعدم الاهتمام بأمور المجتمع تبعد الإنسان عن دائرة التديُّن، وتجعله في عداد غير المسلمين، كما قال النبيّ الأعظم في ذلك: «مَنْ أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلمٍ»([41]). وهذا أيضاً ما يؤكِّد عليه زعماء الدين دائماً، كما في قول أمير المؤمنين× في آخر ساعات عمره الشريف لولديه الحسن والحسين’: «كونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً»([42]). فقد ذكر× الظالم والمظلوم بشكل مطلق، أي إن على الإنسان المسلم أن ينصر كل مظلوم، ويبعد عنه جور الظالم. وهذا السبب الهامّ والقيم يوظّف الإنسان لكي يهبّ لمساعدة ضحايا الحرب، بحيث يعتبر أذاهم وآلامهم أذى نفسه وألمها، فيحاول تحقيق أهدافه الإلهية، ويمدّ يد العون لمساعدتهم.
ومن جملة معدات العمل الإنساني الذي أكدت عليه التعاليم الدينية قضية التعاون على البرّ والأمور الحسنة، فقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ (المائدة: 2).
يقول العلامة الطباطبائي في هذا المجال: وهذا أساس السنّة الإسلامية. وقد فسَّر الله سبحانه البرّ في كلامه بالإيمان والإحسان في العبادات والمعاملات، كما مر في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾. وقد تقدَّم الكلام فيه. والتقوى مراقبة أمر الله ونهيه، فيعود معنى التعاون على البر والتقوى إلى الاجتماع على الإيمان والعمل الصالح على أساس تقوى الله، وهو الصلاح والتقوى الاجتماعيان. ويقابله التعاون على الإثم، الذي هو العمل السيّئ المستتبع للتأخُّر في أمور الحياة السعيدة، وعلى العدوان، وهو التعدّي على حقوق الناس الحقّة، بسلب الأمن من نفوسهم أو أعراضهم أو أموالهم([43]).
وجاء في تفسير الأمثل: إن الدعوة إلى التعاون التي تؤكِّد عليها الآية الكريمة تعتبر مبدأ إسلامياً عامّاً تدخل في إطاره جميع المجالات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والحقوقية وغيرها. وقد أوجبت هذه الدعوة على المسلمين التعاون في أعمال الخير، كما منعتهم ونهتهم عن التعاون في أعمال الشر والإثم، اللذين يدخل في إطارهما الظلم والاستبداد والجور بكل أصنافها. ويأتي هذا المبدأ الإسلامي تماماً على نقيض مبدأ ساد في العصر الجاهلي، وما زال يطبق حتّى في عصرنا الحاضر، وهو المبدأ القائل: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً». وما كان في العصر الجاهلي أنّه إذا غزت جماعة من إحدى القبائل جماعة من قبيلةٍ أخرى هبَّ أفراد القبيلة الغازية لمؤازرة الغازين، بغضّ النظر عما إذا كان الغزو لغرض عادل أو ظالم. ونرى في وقتنا الحاضر ـ أيضاً ـ آثار هذا المبدأ الجاهلي في العلاقات الدولية، وبالذات لدى الدول المتحالفة، حين تهب في الغالب لحماية بعضها البعض، والتضامن والتعاون معها حيال القضايا الدولية، دون رعاية لمبدأ العدالة، ودون تمييزٍ بين الظالم والمظلوم([44]).
حصيلة البحث ــــــ
نستنتج مما ذكرنا من أبحاث أن الملاكات والمعايير المادية لا يمكنها أن تحثّ الانسان وتسوقه نحو الأفعال والأعمال القيمة؛ لأن المعيار والملاك الوحيد للحياة في بعض الرؤى هو كسب اللذّة والمنفعة، وهي ـ سواء كانت منفعة شخصية أو جماعية ـ لا تتناسب مع أعمال البرّ القيمة والأخلاقية، فيما أكدت بعض النظريات والرؤى على أصالة المادة، وتقول: إن المادة هي أصل وأساس الكون، حتّى أنها فسرت الإنسان على أساس مادّي. ومن الطبيعي أنّه مع مثل هذه الرؤى لا مجال لمزاولة الأفعال الإنسانية.
وأما رؤى (كانْت) والهنود المعنوية فهي وإنْ كانت تسوق الإنسان تجاه مزاولة الفعل الإنساني، إلاّ أن كلاًّ منها يواجه إشكالات أشرنا إليها سابقاً، بحيث لا يمكن أن تكون معها مفسرة ومبينة للأفعال الإنسانية تماماً.
فيبقى الطريق الوحيد السليم والصحيح الذي بإمكانه أن يكون مرشداً وهادياً للإنسان للقيام بالأفعال الإنسانية هو نظرية القرب الإلهي والعبودية؛ لأن أتباع هذه النظرية يرَوْن تجلّي المصاديق الأخلاقية باقتران العقل والوحي. وبعد هذه المعدات المذكورة ـ الإيثار، الإنفاق، الحبّ للآخرين، الاهتمام بأمور المجتمع،والتعاون على البر ـ، والموجودة في دين الإسلام والأديان التوحيدية من أجل مزاولة العمل الإنساني، تتجلّى هذه الأفعال، وترتقي منصة الظهور ـ وخصوصاً مع سهولة العمل الإنساني ـ؛ لأن المعدات المذكورة إنما يكون لها معنى ومفهوم تامّ مع النظرة التوحيدية واليوم الآخر؛ ليمكن القيام بالأعمال الإنسانية على أحسن وجه.
الهوامش
(*) طالبٌ في قسم الفقه ومباني الحقوق الإسلامية في کلية الإلهيات في جامعة طهران، مرحلة الدکتوراه.
(**) أستاذٌ وعضو الهيئة العلميّة في قسم الفقه ومباني الحقوق الإسلامية في کلية الإلهيات في جامعة طهران.
(***) أستاذٌ وعضو الهيئة العلميّة في قسم الفقه ومباني الحقوق الإسلامية في کلية الإلهيات في جامعة طهران.
([1]) مجيد الخدوري، الصلح والجهاد في الإسلام: 15.
([2]) هاجر سياه الرستمي، حقوق بين المللي بشر دوستانه: 20.
([5]) محمد تقي مصباح اليزدي، فلسفة أخلاق: 63.
([9]) أنور الخامه إي، دعوة إلى تجديد النظر: 155.
([10]) مرتضى المطهري؛ جامعة وتاريخ: 103.
([11]) محمد تقي مصباح اليزدي، فلسفة أخلاق: 78.
([12]) مرتضى المطهري؛ جامعة وتاريخ: 144.
([15]) فريدريك کابلستون، کانت: 210.
([16]) مرتضى المطهري، فلسفة أخلاق: 62 ـ 76.
([17]) فريدريك کابلستون، کانت: 211.
([20]) مرتضى المطهري، فلسفة أخلاق: 79.
([21]) فريدريك کابلستون، کانت: 177.
([22]) مرتضى المطهري، فلسفة أخلاق: 82.
([23]) فريدريك کابلستون، کانت: 211.
([24]) کشيتي، مهن سن، هندوئيسم (مترجم ع. پاشايي): 30.
([28]) مرتضى المطهري، التعليم والتربية: 62.
([29]) حسن بن فضل الطبرسي، مجمع البيان 10: 22.
([30]) الفيض الکاشاني، تفسير الصافي 5: 200.
([31]) محمد الدشتي (مترجم)، نهج البلاغة: 42، الخطبة 66.
([32]) محمد مهدي الريشهري، ميزان الحکمة 5: 372.
([33]) فريدريك کابلستون، کانت: 181.
([35]) محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 20: 297.
([36]) جعفر السبحاني، محاضرات في الإلهيات: 104.
([37]) التميمي الآمدي، غرر الحکم ودرر الحکم: 448.
([38]) حسن بن فضل الطبرسي، مجمع البيان 10: 260.
([39]) محمد بن يعقوب الکليني، الأصول من الکافي 3: 190.
([41]) محمد مهدي الريشهري، ميزان الحکمة 5: 377.
([42]) محمد الدشتي (مترجم)، نهج البلاغة: 398.
([43]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 5: 162.
([44]) ناصر مکارم الشيرازي، الأمثل في تفسير الکتاب المنـزل 3: 586.