د. علي رضا صابريان(*)
مقدّمة
«هناك الكثير من أبحاث علم الكلام تعود بجذورها إلى القرآن والسنّة، ويأتي ذكرها بوصفها مبنى للاجتهاد والفقاهة في كلام الفقهاء والمتكلِّمين.
وقد ذكر بعض فقهاء الإمامية القضايا الكلامية المؤثِّرة في الاستنباط الفقهي على النحو التالي: «قاعدة اللطف، وقاعدة عدم التكليف بما لا يُطاق، وقاعدة عدم صدور القبيح من الحكيم، وقاعدة العصمة».
وقد ذكر الشيخ الطوسي معرفة صفات الله والأنبياء والأئمّة^ بوصفها من شروط الاجتهاد([1]).
وقال الخواجة نصير الدين الطوسي: إن البحث في المسائل الكلامية يشكّل مقدّمةً للدخول في مسائل الفقه والأصول([2]).
وقد ذهب العلاّمة الحلّي إلى اعتبار علم الكلام من العلوم الضرورية للاجتهاد([3]). كما ذهب الشيخ البهائي في كتاب الجامع العبّاسي([4])، والمحقّق الكركي في الرسائل([5])، وحسن العاملي في معالم الدين([6])، والوحيد البهبهاني في الفوائد الحائرية([7])، وعددٌ من الفقهاء والأصوليين، بدَوْرهم، إلى اعتبار علم الكلام من العلوم الضرورية للفقاهة.
إن من أسئلة فلسفة الفقه السؤال القائل: ما هي المباني والمقدّمات التي يقوم عليها هذا العلم؟ إن من هذه المقدّمات المباني الكلامية. ونحن نسعى في هذه المقالة إلى اكتشاف القضايا الكلامية المؤثِّرة في الاجتهاد، والتي يمارس المجتهد عمله استناداً إليها. إن الهدف الرئيس من وراء هذه المقالة هو اكتشاف المباني الكلامية المقبولة من قِبَل فقهاء الإمامية، ومن هذه القضايا المؤثِّرة في الاستنباط الفقهي: جامعية وكمال الشريعة. وقد عملنا في هذه المقالة على مناقشة ونقد كيفيّة هذا التأثير الكلامي على جامعية الدين والاجتهاد، واشتمال الدين على مؤسّسة تنفيذية.
العلاقة بين الجامعيّة والكمال
كلمة الجامعيّة من مادة «جمع»، مصدر جعلي. والجمع في اللغة بمعنى تضامّ الأمور والأشياء المنفصلة حول محور أمرٍ مشترك([8]). والكمال من مادة «كمل» يُستعمل في مقابل النقص. وكمال الشيء يعني حصول ما فيه الغرض منه([9]).
وفي بيان النسبة بين الكامل والجامع يمكن القول: إن الجامعية من خصائص الكامل. وقد ورد وصف الكمال للدين الإسلامي في القرآن الكريم بقوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ (المائدة: 3).
وقال الإمام الرضا× بشأن إكمال الدين: «إن الله ـ عزَّ وجلَّ ـ لم يقبض نبيّه| حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن، فيه تبيان كلّ شيء، بيَّن فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج الناس إليه كملاً، فقال عزَّ وجلَّ: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ (الأنعام: 38)… فمَنْ زعم أن الله ـ عزَّ وجلَّ ـ لم يكمل دينه فقد ردَّ كتاب الله، ومَنْ ردّ كتاب الله فهو كافرٌ به»([10]).
كما تمّ استعمال وصف الجامعية لنصوص الدين أيضاً، ففي الحديث المأثور عن النبيّ الأكرم| أنه قال: «أُعطيت جوامع الكلم»([11]).
جامعيّة الدِّين بين النفي والإثبات
إن من بين الأسئلة الأساسية المطروحة في خصوص أهداف بعثة الأنبياء السؤال القائل: هل كان الهدف من إرسال الرسل هدفاً أخروياً فقط أو يشتمل، بالإضافة إلى ذلك، على هدفٍ دنيوي أيضاً؟
وهناك رؤيتان في الإجابة عن هذا السؤال:
الرؤية الأولى: طبقاً لهذه الرؤية يُعدّ الهدف من بعثة الأنبياء عبارة عن دعوة الناس إلى التوحيد والمعاد فقط، أما الأمور الدنيوية فهي موكلةٌ إلى العقول البشرية. ويبدو من ظاهر كلام الفخر الرازي أن الهدف من بعثة الأنبياء صرف الناس عن الأمور الدنيوية إلى الأمور الأخروية؛ إذ يقول: «إن حرفة النبوّة والرسالة عبارة عن دعوة الخلق من الاشتغال بالخلق إلى خدمة الحقّ، ومن الإقبال على الدنيا إلى الإقبال على الآخرة، فهذا هو المقصود الأصلي»([12]).
وفي نفس هذا الاتجاه ذهب بعض المؤلِّفين المعاصرين إلى القول: «إن الله سبحانه وتعالى لم ينزل الدين أوّلاً وبالذات لتنظيم أمور هذا العالم وإدارة الشؤون المعاشية للحيارى والمساكين في هذه الدنيا، وإنما تقوم التعاليم الدينية في الأساس على تنظيم الحياة والمعيشة والسعادة الأخروية»([13]).
هناك الكثير من الآيات والروايات الواردة في بيان وتنظيم العلاقات بين الناس، والتي تناولها الفقهاء بالبحث في الكتب والأبواب الفقهية، من قبيل: باب التجارة، والمزارعة، والمساقاة، والوديعة، والعارية، والرهن، والإجارة، والنكاح، والطلاق، والحدود، والقصاص، والديات، والتعزيرات، وعشرات الكتب الفقهية الأخرى، الواردة في بيان تنظيم العلاقات بين المسلمين فيما بينهم، وعلاقتهم بغير المسلمين. ومن هنا قال بعض أنصار هذه النظرية: «نشاهد في الكثير من الآيات، وأكثر منها في الأحاديث النبوية، تأكيداً وتوصيةً خاصة في هذا الشأن (الأمور الدنيوية)… وهناك في نهج البلاغة، ونهج الفصاحة، والحكم والروايات المأثورة عن النبيّ الأكرم| وعن الأئمّة^، اهتمامٌ بجميع العلاقات وتقاليد الحياة تقريباً، حيث اشتملت خطب وكتب الإمام عليّ× في نهج البلاغة ـ بالإضافة إلى معرفة الله والدين والتربية والتعليم ـ على اهتمامٍ خاصّ بالأخلاق والعلاقات الاجتماعية وشؤون الحكم وإدارة الدولة. وعلى هذا الأساس فإنهم، بالإضافة إلى مهامّ النبوة وهداية الناس إلى الله والآخرة، كانوا يقومون أيضاً بالعمل على إدارة الحياة الخاصّة أو العامّة، وإصلاح وتعليم الناس، والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكانوا ـ بوصفهم من البشر ـ يبادرون إلى إسداء يد العون وخدمة المسلمين والمؤمنين، وتربية نظرائهم في الخلق. وإن التعاليم التي تقدَّموا بها في هذا الشأن، على الرغم من امتيازها وقيمتها، لا تُعدّ جزءاً من الدين والشريعة، ولا تكون مشمولة لقوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم: 4)»([14]).
يترتّب على هذه الرؤية أن تكون بعض الأمور التي تنالها العلوم والعقول البشرية، من قبيل: الاقتصاد والسياسة والفنّ والثقافة والأمور الاجتماعية، خارجةً عن دائرة الدين، وتُعدّ من عوارض الدين. وقد اضطر الدين إلى بيان وجهة نظره بشأنها، إلاّ أنها لا تعتبر من ذاتيات الدين. وقد قال أحد أنصار هذه النظرية: «إن الدين الإسلامي على نوعين، وهما: الدين الحقيقي؛ والدين التاريخي. أما الدين التاريخي فهو محفوفٌ ومحدود بالظروف والشرائط الثقافية والتاريخية والجغرافية. إن الخطاب التاريخي للنبي الأكرم|؛ حيث يقع في الزمان والمكان والرقعة الجغرافية ومواجهة مخاطبين بعينهم، حيث يعيشون ضمن ظروف زمنية ومكانية خاصّة وبيئة وثقافة وآداب وتقاليد وأعراف وطاقات جسديّة خاصّة، فإنه يكون محفوفاً وممتزجاً بهذه المحدوديات والقيود. ولذلك لكي نتعرَّف على روح ولبّ خطابه يتعيَّن علينا الفصل بين ذاتيات وعوارض الدين. إن روح وجوهر الشريعة الرئيس هو ضمان السعادة الأخروية، وأما ما يذكره الشارع في مجال تنظيم الحياة الدنيوية فهو يُعدّ جزءاً من عوارض الدين، وهذا بطبيعة الحال يتغيَّر بتغيُّر الشرائط الزمانية والمكانية»([15]).
الرؤية الثانية: يرى أنصار هذه الرؤية أن الهدف من بعثة الأنبياء ـ بالإضافة إلى التوحيد والمعاد ـ هو تنظيم الحياة الدنيوية. وطبقاً لهذه الرؤية تكون هناك جامعية في الدين بين الدنيا والآخرة. ويذهب الكثير من علماء فقه الإمامية إلى القول بأن الدين الإسلامي قد جاء من أجل ضمان السعادة للإنسان في الدارين([16]).
يذهب أنصار هذه الرؤية إلى الاعتقاد بأن النصوص الدينية قد عملت على بيان الأهداف المنشودة للدين. وإن من بين هذه الأهداف تنظيم العلاقات والروابط الاجتماعية للإنسان على المحور الصحيح والعادل، ومقارعة العلاقات الظالمة.
وفي ما يلي نشير إلى بعض الموارد في هذا الشأن بشكلٍ عابر:
1ـ في عهد النبيّ لوط× كان الشذوذ الجنسي متفشّياً، وقد قام النبيّ لوط بمكافحة هذه الظاهرة، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ (الأعراف: 80 ـ 81).
2ـ كان التطفيف والغشّ من المفاسد الشائعة في عهد نبيّ الله شعيب×، وقد تصدّى النبيّ شعيب إلى محاربة هذه الظاهرة، وفي ذلك قال الله تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الارْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (الأعراف: 85).
3ـ قام النبيّ موسى× بتحرير بني إسرائيل من عبودية فرعون، وفي ذلك قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلأِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ (الأعراف: 103).
4ـ إن الله سبحانه وتعالى قد شجّع النبيّ الأكرم| على فعل الخير، وإشاعة التقاليد والأعراف الحسنة، والابتعاد عن الرذائل والتقاليد الخاطئة، ومن ذلك قوله: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ (الأعراف: 157).
كان النبيّ الأكرم| مأموراً بالقضاء على التقاليد والأعراف الجاهلية القبلية، ومن بينها: الرِّبا، والمَيْسر، والخمر، ووأد البنات، وعبادة الأصنام، والقتل، وما إلى ذلك من الموبقات الأخرى. وكانت جميع هذه الجهود تصبّ في إصلاح الأوضاع المأساوية التي كانت تعاني منها المجتمعات والقبائل في شبه الجزيرة العربية. وعلى هذا الأساس فإن تقرير جامعية الدين والشريعة، بمعنى تدخُّل الدين في الأمور الدنيوية والأخروية، أمرٌ واضح، ولا غبار عليه.
أثر الإيمان بجامعيّة الدين وعدمه في تفسير النصوص الدينيّة
إن من بين ثمار بحث الجامعيّة في استنباط الأحكام الفقهية نوع من التفسير الذي يتمّ تقديمه عن المفاهيم الدينية. إن المفاهيم الدينية على نوعين، وهما:
1ـ المفاهيم الصريحة (النصوص) التي تستخرج من النصوص الدينية القطعية.
2ـ المفاهيم غير الصريحة (الظواهر)، التي تستنبط من ظاهر النصوص الدينية، وتقبل مختلف التفاسير المتنوّعة.
إن الرؤية الكلامية للمجتهد وتفسيره لجامعية الدين يترك أثره في فهمه للنصوص الدينية (المفاهيم غير الصريحة).
وقد أجاب بعض الكتّاب عن السؤال القائل: هل نوع الإجابة عمّا هو متوقّعٌ من الدين ـ بما في ذلك توقُّع الجامعية من الدين ـ يؤثِّر في فهم النصوص الدينية؟ بقوله: «إن هذا الأمر (نمط الإجابة عمّا يتوقّع من الدين) يؤثِّر في فهم النصوص؛ إذ إن الشخص الذي يلتفت إلى أن الدين إنما جاء لضمان السعادة للإنسان في الدنيا والآخرة يرى أن النصوص تميل ـ إلى حدٍّ معقول ـ نحو المرتكزات العقلائية، شريطة أن لا يبلغ ذلك ـ بطبيعة الحال ـ مستوىً من المعنى لا تتحمَّله تلك النصوص».
كما قال مفكِّرٌ آخر في هذا الشأن: «إن نمط الإجابة عمّا يُتوقّع من الدين يؤثِّر في فهم النصوص الدينية أيضاً. فلو أخذنا فهم الأحكام والتعاليم المندرجة في النصوص المقدّسة بالمعنى العامّ، الشامل للعلم بمعنى الأحكام والتعاليم، فسوف يتمّ تفسير العلم بمعنى الأهمّية النسبية لكلّ واحدٍ من الأحكام والتعاليم بالقياس إلى سائر الأحكام والتعاليم، والعلم بالعلّة وجهتها (أو فلسفتها الوجودية). وبأدنى تأمُّلٍ يمكن التوصّل إلى أن توقّع كلّ شخصٍ من الدين له تأثير تامّ وقاطع في الفهم الذي يمكن أن يمتلكه عن النصوص المقدّسة. ولكنّ هذا لا يعني أنه لا يوجد قضية دينية إلاّ وكان ما يتوقّع من الدين مؤثّراً في فهمها بطبيعة الحال، ولكنْ يمكن القول على نحو الموجبة الجزئية: إن فهم الكثير من القضايا الدينية يتوقّف على تحديد ما يُتوقَّع من الدين».
ومن خلال هذه الرؤية يمكن ملاحظة الشاهد التالي:
بالنظر إلى اختلاف فهم النصوص الدينية قدَّم فقهاء الإمامية ـ في خصوص رأي الإسلام في ما يتعلّق بالحكومة في عصر الغيبة ـ رؤيتين مختلفتين:
حيث ذهبت طائفةٌ، على أساس المباني الكلامية، إلى القول بضرورة إقامة الحكومة، وقالوا في تفسيرهم: إن مفردة الحاكم تشمل الفقيه أيضاً. وقد استند الإمام الخميني& إلى دليل المتكلِّمين من الشيعة على ضرورة الحكومة، فذهب بشأن مفاد مقبولة عمر بن حنظلة إلى القول: «يُستفاد من قوله×: (فإني قد جعلته حاكماً) أنه× قد جعل الفقيه حاكماً في ما هو من شؤون القضاء، وما هو من شؤون الولاية؛ فالفقيه وليّ الأمر في البابين، وحاكمٌ في القسمين»([17]).
وفي المقابل ذهبت طائفةٌ أخرى إلى القول بأن المباني الكلامية لا تثبت ضرورة إقامة الحكومة في عصر الغيبة، واعتبروا مفردة الحاكم في الرواية تعني القاضي. وتذهب هذه الطائفة إلى القول: «من البديهي أن السلطان غير القاضي والحاكم، وأن المرافعات قد ترفع إلى القاضي؛ وقد ترفع إلى السلطان»([18]).
(منطقة الفراغ) في رؤيتين مختلفتين
هناك مَنْ صوّر جامعية الدين في إطار علاقة الإنسان بخالقه، وفسَّروا ذلك بأن الدين قد بيَّن جميع وظائف الإنسان تجاه خالقه، ويجب على الإنسان أن يؤدّي الحقّ الإلهي في ما يرتبط بعلاقته مع الخالق. وحيث إن رسالة الدين تكمن في تنظيم علاقة الإنسان والخالق، ولا شأن لها بتنظيم العلاقات والأواصر الاجتماعية، لا يكون هناك معنىً للفراغ القانوني في هذا المجال؛ لأن الدين لا يقوم بتنظيم العلاقات الدنيوية.
ولكنْ في المقابل هناك طائفةٌ تقول بأن رسالة الدين تشمل علاقة الإنسان بالله، كما تشمل أيضاً علاقات الناس فيما بينهم»([19]).
إن الذين عرفوا رسالة الدين في إطار بيان العلاقة بين الإنسان والخالق، بالإضافة إلى بيان العلاقات والأواصر الاجتماعية في هذه الدنيا، يذهبون إلى اتجاهين مستقلّين، وهما:
1ـ لا فراغ في الشريعة
طبقاً لهذا الاتجاه قامت الشريعة الإسلامية بوضع الأحكام والقوانين في جميع المجالات والعلاقات الاجتماعية المختلفة، وهي كافيةٌ في إدارة شؤون المجتمع.
وقد ذهب الشيخ فضل الله النوري إلى كفاية محتوى النصوص الدينية لإدارة أمور المجتمع، ولا يراها بحاجةٍ إلى وضع قوانين أخرى. وقال سماحته في هذا الشأن: «إننا نحن الإمامية نمتلك أفضل وأكمل القوانين والتشريعات الإلهية. وإن هذه القوانين الإلهية لا تقتصر على العبادات، بل إن الحاكم يمسك بجميع الموارد السياسيّة، حتّى الأَرْش في الخَدْش، ولذلك فإننا لن نحتاج إلى قوانين أخرى»([20]).
إن أنصار هذه الرؤية يقولون بأن الإسلام يحتوي على مثل هذا النظام الحكومي الذي وضع جميع الأحكام الاجتماعية، وإن الحاكم الإسلامي ليس سوى منفِّذ لتلك التشريعات، ولا يحقّ له أن يشرِّع القوانين من عنده. قال الشيخ فضل الله النوري في هذا الشأن: «إن الصدقات والخراج الشرعي يكفي لإدارة المجتمع، وإن فرض الضرائب على طريقة الحكومات الراهنة في العالم يؤدّي إلى انحطاط واضمحلال الدين، ويجب الابتعاد عن هذا النوع من الضرائب»([21]).
وقال آخر بصراحةٍ أكبر: «هل المسؤوليات والوظائف في الحكومة الإسلامية على هذا النحو من عدم الوضوح والصراحة، بحيث يوكل أمر توسعتها وضيقها إلى ما يراه الحاكم الإسلامي من المصلحة، حتّى إذا رأى الحاكم الإسلامي أن يضيف مسؤوليةً، بالإضافة إلى المسؤولية التي أقرّتها الدولة الإسلامية، ويعمل على ضمان تكلفة ذلك من طريق فرض الضرائب، حتّى لو كانت باهظةً ومن غير مكاسب الأرباح، وعلى الرغم من رضا دافعي الضرائب، وحتّى إذا كانت على خلاف الكلمة والتعهُّد الذي قطعه رسول الله| إلى الأمّة، بأن يُسلموا ويقيموا الصلاة على أن لا يأخذ منهم أكثر من زكاة وخمس أموالهم…؟! إن للإسلام حكومةً، والحكومة لها وظائف ومسؤوليات. ولكي يقوم بهذه المسؤوليات فرض بعض الضرائب، واعتبر الحاكم مجرّد منفِّذٍ لبرنامج وتشريعات الإسلام، التي لا يمكن تجاوزها إلاّ إذا ترتّب على ذلك بعض المشاكل والضرورات في ما يتعلّق بتطبيق الأحكام الإسلامية التي قبلها العقل القطعي والنقل الثابت، وعندها يتمكّن الحاكم الإسلامي من اللجوء إليها بوصفها من الأحكام الثانوية التي يتمّ اللجوء إليها عند الضرورة، وكذلك عندما تكون الضرائب الإسلامية الأوّلية قليلة، عندها يأخذ النفقات المتبقّية من الناس بالحكم الثانوي».
إن الحاكم ـ طبقاً لهذه الرؤية ـ يقوم بمجرّد تنفيذ التشريعات والأحكام الإسلامية، ولا يحقّ له التشريع والتقنين، وأخذ ضرائب أخرى غير الخمس والزكاة، إلاّ بحكم الضرورة، حيث يصل الأمر إلى تطبيق الحكم الثانوي. قال أحد علماء عصر النهضة الدستوية (المشروطة): «الدول الدستورية على الأرض؛ حيث لا تمتلك أحكاماً إلهية وافية وكافية لاستيعاب الوقائع الجزئية والسياسة المدنية، مضطرّةٌ إلى تأسيس مجلسٍ استشاري أو برلماني. أما نحن أهل الإسلام والإيمان؛ حيث نمتلك أحكاماً شرعية وافية وكافية، لسنا بحاجةٍ إلى سلطةٍ تشريعية؛ لأن الملك والرعية ترى نفسها تابعةً للشريعة، ولا تجيز مخالفتها والخروج عليها».
إن نفي المؤسّسة التشريعية يقوم على أساس نظرية اشتمال الكتاب والسنّة على جميع القوانين التي يحتاج إليها المجتمع؛ وأما المراد من جامعية وشمولية الدين فهو أن قانون الشريعة يستوعب جميع أبعاد حياة الإنسان، بحيث لا يبقى هناك مجالٌ لتشريعات أخرى.
2ـ الفرق بين التشريع الأصليّ والثانويّ
وهناك مَنْ فسَّر جامعية وشمولية الشريعة بالقول: إن الدين قد شرَّع جميع ما يحتاج إليه الإنسان. وفي الموارد المستحدثة والجديدة؛ حيث تستجدّ الحاجة إلى جعل قوانين جديدة، رسم الدين أُطُراً وقواعد وضوابط عامّة، وقد ترك وضع القوانين في إطار هذه القواعدوالضوابط إلى الإنسان نفسه»([22]).
إن الإسلام ـ طبقاً لهذا الاتجاه ـ قد وضع الأحكام الكلّية والجزئية، إلاّ أن هذا النوع من وضع القوانين لا يلبّي جميع أبعاد حياة الناس، ويجب العمل على الوضع في إطار قوانين الشرع. وقد أطلق السيد الشهيد الصدر على هذه المنطقة التي يمكن فيها العمل على وضع القوانين مصطلح: (منطقة الفراغ). وقد بيَّن عدم منافاة منطقة الفراغ مع جامعية وشمولية الدين الإسلامي، قائلاً: «لا تدلّ منطقة الفراغ على نقص في الصورة التشريعية، أو إهمال من الشريعة لبعض الوقائع والأحداث، بل تعبِّر عن استيعاب الصورة، وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة؛ لأن الشريعة لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي يعني نقصاً أو إهمالاً، وإنما حدَّدت للمنطقة أحكامها بمنح كلّ حادثة صفتها التشريعية الأصيلة، مع إعطاء وليّ الأمر صلاحية منحها صفة تشريعية ثانوية، حَسْب الظروف»([23]).
يجب على الحاكم الإسلامي ـ في هذه الرؤية ـ أن يعمل في عصره، بالإضافة إلى وضع القوانين ضمن دائرة منطقة الفراغ، على جعل القوانين تحول دون اختلال النظام. وفي مثل هذه الحالة لا يجب أن تكون جميع القوانين متطابقةً أو متّخذة بعينها من الكتاب أو السنّة، بل يبدو كفاية عدم مخالفة القوانين الموضوعة للشريعة. قال المحقِّق النائيني في هذا الشأن: «اعلَمْ أن كلّ الوظائف المتعلقة بتنظيم شؤون البلد والمحافظة عليه وتدبير أمور وشؤون الشعب قد تكون أحكاماً أوّليةً، متكفّلة لأصل القوانين العملية الراجعة إلى الوظائف النوعية، أو ثانويةً متضمّنة عقوباتٍ مترتّبة على مخالفة الأحكام الأوّلية. فهي لا تخرج عن هذين القسمين؛ لأنها بالضرورة إما أن تكون أحكاماً نصّ عليها الشرع، فهي وظائف عمليةٌ ثابتة في الشرع؛ أو لم ينصّ عليها الشرع، فهي موكولةٌ إلى نظر الوليّ؛ لعدم اندراجها تحت ضابط خاصّ، وبالتالي عدم تعيين الوظيفة العملية فيها… حتّى أن طاعة وليّ الأمر ذكرت في عرض طاعة الله ورسوله، بل وجعلت طاعة الوليّ والرسول في عرض طاعة الله سبحانه أيضاً، كما في الآية المباركة: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الامْرِ مِنْكُمْ﴾ (النساء: 59). وهذا ما عُدَّ من معاني إكمال الدين بنصب ولاية يوم الغدير. كذلك تكون ترجيحات النوّاب العموميّين أو المأذونين من جانبهم في عصر الغيبة ملزمةً شرعاً؛ بمقتضى نيابتهم الثابتة القطعية»([24]).
شموليّة الدين والاجتهاد، بين التخطئة والتصويب
بالنظر إلى التفسيرات المختلفة لجامعية وشمولية الدين تكون دائرة الاجتهاد مختلفةً أيضاً. فقد اقتصر فهم الأخباريّين للاجتهاد على عدم تجاوز حدود الترجمة في فهم مفاد الروايات، واعتبروا اقتران أيّ نوعٍ من أنواع الاجتهاد بالتحليل والاستدلال العقلي والعقلائي أمراً مذموماً([25]). فهؤلاء يرَوْن دائرة الاجتهاد في حدود كلام المعصوم×. قال الشيخ الحُرّ العاملي ما مضمونه: «تشتمل الروايات على جميع الأحكام؛ فإما أن نستطيع استخراج حكم المسألة من الروايات؛ أو لا نستطيع. وفي الحالة الثانية نعمل بالاحتياط؛ طبقاً لأمر الأئمّة^»([26]).
وفي مقابل هذا الرأي الأخباري، يعمل الأصوليون في فهم النصوص الدينية على توظيف الأدلة والتحليلات العقلائية، ويعتقدون أن هناك في التشريع الإسلامي حكماً لجميع الأمور التي يحتاج إليها الإنسان في جميع شؤون الحياة، وقد صدر فيها نصٌّ أيضاً (سواء على نحوٍ كلّي أو على نحوٍ جزئي)، وأن هذا النصّ موجودٌ عند النبيّ الأكرم|، وبعده عند الأئمّة المعصومين^. وعلى هذا الأساس ينصبّ كلّ جهد وسعي المجتهد في العثور على ذلك النصّ الشرعي (سواء على شكل حكمٍ خاصّ أو ضمن العموم)، وكلّما لم يستطع الوصول إلى ذلك النصّ يعمل للقيام بوظيفته الظاهرية على تحديد الحجّية أو الحكم الظاهري، من الأصول المقرَّرة لهذا النوع من الموارد»([27]).
ويرى بعض المفكِّرين الاجتهاد بمعنى السعي العقلاني في شطرٍ من الدين، حيث يقوم المجتهد ـ بسبب فقدان النصّ الشرعي ـ باستنباط الحكم، حتّى وإنْ كان فهمه ظنّياً. وفي الأساس إن الاجتهاد من وجهة نظر أولئك الذين يرَوْن شمولية الدين بمعنى اشتماله على الأصول والمعايير الكلّية يتعلّق بمجال الموارد المنصوصة، والمراد من المنصوصة هو الأهداف والمعايير الكلّية للدين، وليس خصوص أحكامه الجزئية.
يرى هؤلاء أن شمولية الدين تعني اشتماله على الأصول والملاكات التي يمكن للفقيه من خلال الرجوع إليها تحديد ما إذا كان بمقدور ما جاء في النصوص الدينية أن يضمن تلك الغاية في العصر الراهن أم لا. وعليه فإن الاجتهاد من وجهة نظر هؤلاء يقوم على النصوص دائماً، ومن خلال تفسيرهم للنصّ يكون شاملاً لدائرةٍ أوسع؛ فهو عبارةٌ عن العلم بالأحكام الجزئية والأهداف والمعايير العامّة للشريعة. ومن هنا قيل ما معناه: «إن الكتاب والسنّة هما المصدران الرئيسان للشريعة، ولكنّ الكتاب والسنّة لا يغنيان عن أيّ مصدرٍ آخر. إن كان المراد من وجود النصّ في كلّ مسألةٍ هو أنه قد ورد نصّ في كلّ مسألةٍ فلا شَكَّ في أن النصوص الموجودة لا تفي بتلبية جميع الأحداث، وأما إذا أردنا إعادة الأحداث الواقعة إلى الأصول والضوابط العامة فإن النصوص الشرعية ستكون كافيةً»([28]).
ومن خلال هذا الاتجاه ذهب الغزالي ـ بعد تقسيم أحكام الإسلام النظرية إلى: قطعية؛ وظنّية ـ إلى القول بأن المسائل المرتبطة بالفقه على ثلاثة أقسام، وهي: المسائل الفقهية القطعية؛ والمسائل الفقهية المجمع عليها من قِبَل الفقهاء؛ والمسائل الفقهية الظنّية. ورأى أن القسم الأخير هو الذي يدور حوله الاجتهاد، وقال: إن الذي يبدو لنا أن الشارع ليس له حكمٌ معيّن في هذه المجموعة من المسائل. وعلى أساس هذا الرأي ذهب إلى القول: «المختار عندنا ـ وهو الذي نقطع به، ونخطِّئ المخالف فيه ـ أن كلّ مجتهد في الظنّيات مصيبٌ، وأنها ليس فيها حكمٌ معيَّن لله تعالى»([29]).
ومن هنا كانت إحدى نتائج بحث جامعية وكمال الشريعة مسألة التخطئة في الاجتهاد. وهي مسألةٌ عليها إجماع فقهاء الشيعة([30]). إن التخطئة تأتي في مقابل القول بالتصويب. وعلى أساس مذهب التخطئة لو قدَّم فقهاء الإسلام آراء مختلفة حول موضوعٍ واحد فرُبَما تكون جميع هذه الآراء خاطئة، أو لا يصحّ منها سوى رأيٍ واحد، أي إنه من بين مختلف الآراء الاجتهادية يكون الصحيح واحداً فقط، وتكون سائر الاجتهادات الأخرى مخالفةً للواقع.
وفي مقابل هذه النظرية، يذهب القائلون بالتصويب إلى الاعتقاد بأن الموارد غير المنصوصة لا حكم لها، وأن الشريعة لم تصدر حكماً في هذه الموارد، وأن المجتهد يمارس اجتهاده فيها مباشرةً، وبعد إصدار الحكم يكون مصيباً لا محالة([31]).
ويذهب المعتزلة والكثير من علماء أهل السنّة ـ من أمثال: القاضي أبي يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني، وأبي الحسن الأشعري، والباقلاني، والمزني، والغزالي ـ إلى الاعتقاد بأن حكم الله في الموارد غير المنصوصة تابعٌ لآراء المجتهدين؛ أو إذا كان قد أنشأ حكماً آخر، وكان اجتهاد المجتهد مخالفاً له، تغيَّر الحكم الواقعي [إلى ما يوافق اجتهاد المجتهد]([32]). فلو ذهبنا إلى القول بعدم وجود حكمٍ في الموارد غير المنصوصة في الواقع، وكان الحكم في ذلك تابعاً لآراء المجتهدين، كان هذا هو التصويب الأشعري؛ وإنْ كان هناك حكمٌ في الواقع، وخالفه الاجتهاد، فإن ذلك سيؤدّي إلى تغيير الحكم الواقع، وتحوّله إلى ما يتطابق مع رأي المجتهد، كان هذا هو التصويب المعتزلي([33]).
وطبقاً للمبنى الكلامي الشيعي ـ حيث تتّصف الشريعة بالجامعية والكمال ـ يكون هناك في الواقع حكمٌ ثابت لا يتغيَّر، حتّى في هذا النوع من الموارد غير المنصوصة. ورُبَما أمكن للمجتهد أن يصيب في استنباطه هذا الحكم الواقعي، ورُبَما لم يصِبْه، ولكنّه إذا بذل في اجتهاده من أجل إصابة الواقع غاية جهده كان مأجوراً، حتّى إذا لم يصب الواقع. ومن هذه الناحية لا يتطرّق النقص إلى الشريعة.
اشتمال الدين على منظومةٍ تنفيذيّة
إن من بين النتائج الهامّة المترتِّبة على بحث الشمولية والكمال والشريعة اشتمال الدين على دولةٍ ومنظومة تنفيذية. وهناك مَنْ أنكر وجود مثل هذه المنظومة التنفيذية في الدين؛ وفي المقابل ذهب الكثير من الفقهاء والمتكلِّمين من الإمامية ـ استناداً إلى شمولية الدين ـ إلى القول بضرورة المؤسّسة التنفيذية في الدين([34]).
وبطبيعة الحال إن القول بتدخُّل الدين في الحكم لا يعني تأسيس قواعد وأصول جديدة، بل يمكن للشارع أن يؤيّد بعض القواعد والأصول العقلائية، ويخطّئ بعضها الآخر، ويبدي رأيه في هذا الشأن. إن أصل تدخُّل الدين في الحكم أمرٌ ثابت، إنما الاختلاف يكمن في مقدار وكيفية هذا التدخُّل. إن الدراسة المعمَّقة للنصوص الدينية تثبت أن الفقه الإسلامي يشتمل على بيان جميع الأحكام المرتبطة بأفعال المكلَّفين، وهداية البشر في الأمور الدنيوية والأخروية، وتلبية احتياجات الحكومة في المجالين السياسي والاجتماعي. وخيرُ دليل على ذلك الروايات التي تشير إلى الدَّوْر الأساسي والجوهري للحاكم الإسلامي؛ فقد ورد في روايةٍ صحيحة، رواها الشيخ الكليني، عن الإمام الباقر× أنه قال: «بُني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة والزكاة والحجّ والصوم والولاية، قال زرارة: فقلتُ: وأيّ شيءٍ من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل؛ لأنها مفتاحهنّ، والوالي هو الدليل عليهنّ… ثمّ قال: ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن الطاعة للإمام، بعد معرفته»([35]).
تمّ التأكيد في هذه الرواية ـ ضمن الإشارة إلى دَوْر الإمامة في الحياة ـ على تفوّقها على سائر الأحكام والتعاليم الإسلامية.
يذهب الإمام الخميني ـ انطلاقاً من شمولية وكمال الشريعة ـ من خلال الالتفات إلى هذا النوع من الروايات، والاستدلال عليها عقلياً، إلى اشتمال الدين على نظامٍ تنفيذيّ ودولة. ومن هنا يجب أن يشتمل الدين على نظام ومؤسّسة تنفيذية([36]).
لقد ذهب المتكلِّمون والفقهاء في المصادر الكلامية والفقهية الخاصّة بالشيعة إلى تعريف الإمامة بقولهم: «رئاسة عامّة وعالية على أمور الدين والدنيا»([37]).
وقد استدلّ الخواجة نصير الدين الطوسي على وجوب نصب الإمام باستدلالٍ عقلي على نحو قياسٍ منطقي من الشكل الأوّل؛ إذ يقول: «نصب الإمام لطفٌ، واللطف واجبٌ على الله، إذن نصب الإمام واجبٌ على الله».
وقال العلاّمة الحلّي في تعريف اللطف، ضمن شرح العبارة الآنفة: «اللطف هو ما يكون المكلَّف معه أقرب إلى فعل الطاعة، وأبعد من فعل المعصية، ولم يكن له حظٌّ في التمكين، ولم يبلغ حدّ الإلجاء»([38]).
وقال الخواجة نصير الدين الطوسي في استخلاص نتيجة قاعدة اللطف: «ثبت أن نصب الإمام ما دام التكليف باقياً واجبٌ على الله، ومن المسلَّمات هاهنا… أنه سبحانه لا يخلّ بما يجب عليه، فيكون الإمام موجوداً، وهو المطلوب»([39]).
إن الإمامة في فكر الإمامية تعني خلافة الله في الأرض. وإن الإمام× يتولّى خلافة النبيّ الأكرم| في مهامّه الثلاثة، وهي: تبليغ الدين وهداية الناس معنوياً؛ والقضاء بين الناس؛ وإدارة النظام السياسي([40]).
يرى الإمام الخميني أن الحاكم في عصر الغيبة يجب أن يتوفَّر ـ بعد الشرائط العامّة، مثل: العقل والتدبير ـ على شرطين أساسيين، وهما: «العلم بالقانون»؛ و«العدالة». وقال في ذلك: «إذا كنا نعتقد أن الأحكام التي تخصّ بناء الحكومة الإسلامية لا تزال مستمرةً، وأن الشريعة تنبذ الفوضى، كان لزاماً علينا تشكيل الحكومة. والعقل يحكم بضرورة ذلك، وخاصّة إذا دهمنا عدوٌّ، أو اعتدى علينا معتدٍ لا بُدَّ من جهاده ودفعه. وقد أمر الشرع بأن نعدّ لهم ما استطعنا من قوّةٍ نرهب بها عدوّ الله وعدوّنا، ويشجّعنا على أن نردّ مَنْ اعتدى علينا بمثل ما اعتدى علينا، وكذلك يدعو الإسلام إلى إنصاف المظلوم واستخلاص حقّه وردع الظالم، وكلّ ذلك يحتاج إلى أجهزةٍ قوية»([41]).
وقد ذهب سماحته إلى الاعتقاد بأن الوليّ الفقيه هو الذي يتولى في عصر الغيبة أعباء تشكيل الحكومة وتنفيذ الأحكام الإسلامية، ويتكفّل بجميع صلاحيات الأنبياء والأئمّة الأطهار^، وقال في ذلك: «إذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيهٌ عالم عادل فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبيّ| منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا. ويملك هذا الحاكم من أمر الإدارة والرعاية والسياسة للناس ما كان يملكه الرسول| وأمير المؤمنين×، على ما يمتاز به الرسول والإمام من فضائل ومناقب خاصّة؛ لأن فضائلهم لم تكن تخوِّلهم أن يخالفوا تعاليم الشرع، أو يتحكّموا في الناس بعيداً عن أمر الله. وقد فوَّض الله الحكومة الإسلامية الفعلية المفروض تشكيلها في زمن الغيبة نفس ما فوّض إلى النبيّ| وأمير المؤمنين× من أمر الحكم والقضاء والفصل في المنازعات، وتعيين الولاة والعمّال، وجباية الخراج، وتعمير البلاد، غاية الأمر أن تعيين شخص الحاكم الآن مرهونٌ بمَنْ جمع في نفسه العلم والعدل»([42]).
وقد استدلّ الشيخ جوادي الآملي على ضرورة اشتمال الدين على الدولة والمؤسّسة التنفيذية قائلاً: «…إن الإسلام عبارةٌ عن كيانٍ متكامل وحكومة، ولم يقتصر على مجرّد بيان مسائل الأخلاق والعرفان، وتكليف الفرد تجاه خالقه أو علاقته مع إخوته في الإنسانية؛ فإن الإسلام عندما يرسم الطريق للمكلَّفين، ويطلب منهم أن يكونوا مسؤولين بإزاء ذلك، وإذا كان الإسلام قد جاء ليحول دون انتشار جميع التيارات الباطلة، ويقضي على العدوان، والوقوف ضدّ طغيان الطواغيت، فإن ذلك لا يمكن تحقيقه إلاّ بواسطة إقامة الحكومة، ولا يمكن لهذا الهدف أن يكون من دون سياسةٍ»([43]).
وقد ذكر الشيخ مصباح اليزدي هذا الاستدلال بدَوْره أيضاً؛ إذ يقول: «لا شَكَّ في أن الإسلام يرى ضرورة وجود الحكومة للأمّة الإسلامية. إن احتمال أن ينكر الدين ضرورة وجود الحكومة، أو يلتزم جانب الصمت في هذه المسألة، منتفٍ بالكامل. وعليه فإن أصل هذه المسألة من القطعيّات واليقينيّات في الدين الإسلامي المقدّس. وإذا كان هناك من بحثٍ فيقع في خصوص كيفية الحكومة، وكيفية تعيين الحاكم، وحدود وظائفه وصلاحياته وما إلى ذلك، حيث يجب استجلاؤها بواسطة الكتاب والسنّة القطعية»([44]).
إن مطالب النصوص الدينية تثبت أن الإسلام قد اشتمل في مجال السياسة والحكم على أصولٍ وقِيَم، حيث يمكن الاستناد إلى هذه القواعد (قواعد الفقه السياسي) في مجال السياسة. ومن بين هذه الأمور يمكن لنا تسمية: قاعدة عدم الولاية على الغير، والمساواة، والشورى، والمصلحة، والتقيّة، ونفي السبيل، وحرمة الإعانة على الإثم والعدوان. وفي المجال الاجتماعي يمكن تسمية القواعد التالية: العدالة، والمحافظة على النظام، والوفاء بالعقود، ونفي العسر والحَرَج، والتعاون، والدعوة، والولاية والبراءة. كما يمكن الاستناد في قواعد الفقه السياسي في مجال الاقتصاد إلى قواعد: السلطنة، والإحسان، وسوق المسلمين، وقواعد الفقه السياسي. وفي المجال الأمني والعسكري يمكن الاستناد إلى قاعدة حرمة دم المسلم، والأمن، وحصانة السفراء، والصلح، والمقابلة بالمثل([45]).
وفي مقابل هذه النظرية، التي يذهب إليها أكثر العلماء، هناك من العلماء مَنْ ذهب إلى الاعتقاد بأن تدبير حياة الناس يوكل إلى عقولهم الجَمْعية، وأن الدين لا يتدخّل في الجزئيات، ولا في وضع البرامج، وإنما يكتفي ببيان الأمور الكلّية والمسائل الأساسية([46]).
من الواضح أنه لا يمكن القبول بهذه النظرية برمّتها؛ وذلك لأن تعاليم الدين الإسلامي، بالإضافة إلى بيان الكلّيات، قد اشتملت على تقديم نظامٍ خاصّ ومنظومة ثابتة لجميع الأزمنة والأمكنة، ألا وهو نظام إمامة الأئمّة المعصومين^ في عصر الحضور، وحاكمية الوليّ الفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة([47]).
إن النظام المثالي للإمامية يستند إلى قيادة الإمام المعصوم؛ لأن الإمامة في الفكر الشيعي تعني خلافة الله في الأرض. وإن من أهمّ وظائف الإمام× خلافة النبيّ الأكرم| في مهامّه الثلاث، وهي: تبليغ الدين وهداية الناس معنوياً؛ والقضاء بين الناس؛ وإدارة النظام السياسي([48]).
كما أن الفقيه ـ في النظام السياسيّ المطلوب للشيعة في عصر الغيبة ـ وإنْ لم يكن نبيّاً أو إماماً، إلاّ أنه وصيُّهما في عصر الغيبة، ويتولّى زعامة الأمّة والقضاء الشرعي، والقيادة السياسية للشيعة في غيبة الإمام المعصوم×([49]).
هل يمكن القول بأن جميع وظائف ومناصب الإمام المعصوم× تتعّطل في عصر الغيبة، ولا يكون أمام الشيعة من تكليفٍ سوى تعليق كلّ شيء إلى حين ظهور الإمام، أم يجب على بعض المؤمنين أن يضطلع بهذه الأمور؛ لما تنطوي عليه من الأهمّية؟
من خلال البحث في الأدلة وأقوال الفقهاء نصل إلى نتيجةٍ مفادها: إن حقّ التصدّي في الأمور الحِسْبية في عصر الغيبة، والضمانة التنفيذية للأحكام العسكرية والأمور المرتبطة بالمصالح العامّة، يقع على عاتق الفقهاء الجامعين للشرائط، سواء أكان ذلك بحكم الوظيفة والتكليف، أو المنصب الشرعي الذي يعرف باسم الولاية العامة. قال الفقيه المعاصر السيد الخوئي: «إن تطبيق الحدود ـ الواردة في البرنامج التنظيمي للإسلام ـ إنما يأتي تشريعه في إطار المصلحة العامّة وسلامة المجتمع، من أجل حسم مادّة الفساد، واستئصال الجرائم والطغيان والعدوان. ولا يمكن لهذه المصلحة أن تكون خاصّةً بعصر حضور المعصوم؛ إذ لا مدخلية لحضور المعصوم في وجوب رعاية هذه المصلحة الخاصّة بسلامة المجتمع الإسلامي، ومقتضى الحكمة الإلهية ـ التي جعلت من المصلحة مبنىً للشريعة وتعاليمها ـ أن يكون هذا النوع من التشريعات عامّاً وأبديّاً».
وقال في القسم الثاني من استدلاله، استناداً إلى الكتاب والسنّة: «ثانياً: إن الأدلة الواردة في الكتاب والسنّة التي تستوجب ضرورة إجراء الأحكام الحكومية مطلقة، وبحَسَب حجّية ظواهر الألفاظ لا تختصّ بزمنٍ دون آخر. وعلى هذا الأساس فإن دراسة المسألة، سواء من جهة المصلحة وأساس الأحكام، أو من جهة إطلاق الدليل، ناظرةٌ إلى استمرار الأحكام الحكومية للإسلام، ولا يمكن أن تكون خاصّةً بمرحلة حضور الإمام».
وفي الختام توصَّل سماحته إلى النتيجة التالية: «بالتالي فإن هذا النوع من الأحكام باقٍ على ما هو عليه، وإن تطبيقه في عصر الغيبة يكون بأمر الشارع أيضاً».
وقال في خصوص المنفِّذين لهذه الأحكام: «يبدو بديهياً من وجهة نظر العقل أن لا يتولّى آحاد الناس مسؤولية تنفيذ هذا النوع من الأحكام، ليقوم كلّ شخصٍ، أياً كانت مرتبته ومقامه العلمي والاجتماعي، بالتصدي لتطبيق الحدود الشرعية؛ إذ لا يخفى أن هذا من شأنه أن يخلّ في النظام، ويحدث الفوضى والاضطراب في المجتمع».
يُضاف إلى ذلك ما ورد في التوقيع الشريف الصادر عن الحجّة المنتظر، وهو قوله: «فأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا؛ فإنهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله عليكم»([50]).
وجاء في رواية حفص: «سألتُ أبا عبد الله×: مَنْ يقيم الحدود، السلطان أو القاضي؟ فقال: إقامة الحدود إلى مَنْ إليه الحكم»([51]).
إن هذا النوع من الروايات، بالإضافة إلى الأدلة التي تمنح حقّ التنظير والحكم في عصر الغيبة إلى الفقهاء، تثبت بوضوحٍ أن إقامة الحدود وتطبيق الأحكام الحكومية في عصر الغيبة من مسؤولية الفقهاء وصلاحياتهم([52]).
وقد ذكر ما يشبه هذا الاستدلال عددٌ كبير من الفقهاء، المتقدِّمين والمتأخِّرين والمعاصرين، ونذكر منهم: الشيخ المفيد في كتاب المقنعة([53])، والشيخ الطوسي في كتاب النهاية([54])، وسلاّر الديلمي في كتاب المراسم العلوية([55])، والعلاّمة الحلّي في كتاب قواعد الأحكام([56])، والشهيد الأوّل في كتاب الدروس الشرعية([57])، وابن فهد الحلّي في كتاب المهذب البارع([58])، والمحقِّق الكركي في جامع المقاصد([59])، ومحمد حسن النجفي في جواهر الكلام([60])، والشيخ الأنصاري في كتاب القضاء([61]).
وطبقاً لجامعية الشريعة يعتبر اشتمال الدين على الدولة والنظام التنفيذي أمراً ضرورياً، إلى الحدّ الذي يمكن القول معه بأن تشكيل الحكومة تكليفٌ أُلقي على عاتق الفقيه الجامع للشرائط من قِبَل الله مباشرةً، ويجب على الفقيه أن يباشر القيام بهذا التكليف بنفسه، أو أن يتمّ ذلك بأمره وإذنه. كما يستفاد ذلك من كلام الإمام عليّ×؛ إذ يقول: «…وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالمٍ، ولا سغب مظلوم»([62])؛ وقوله في موضعٍ آخر: «إن أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر الله فيه»([63]).
وعليه فإن هذا حقٌّ جعله الله لأكفأ الناس وأجدرهم بمقام الزعامة من أفراد الأمّة من وجهة نظر الشرع في أمر الحكم والسياسة. وبذلك يكون هذا هو تكليف الفقيه؛ حيث يجب عليه أن يتولاّه مباشرةً، أو يتولاّه آخر بتخويلٍ وإذنٍ منه.
قد يذهب شخصٌ إلى الاعتقاد بأن اكتفاء الفقهاء بأمر الإشراف على أداء الدولة خيرٌ من قيامهم بتشكيل الحكومة بأنفسهم. إلاّ أن حقائق التاريخ تثبت أن رجال السلطة والسياسة مهما بلغوا من الصلاح إنما ينتهجون سياسة يعملون هم بأنفسهم على تحديد صوابيّتها أو ضرورتها. ويمكن الإشارة إلى مصاديق لذلك في الحكومة الصفوية والقاجارية والبهلوية. والحادثة التالية تؤكِّد هذا الادّعاء بوضوحٍ: قام الملك فيصل [الأول]، قبل تتويجه ملكاً على العراق، بزيارةٍ إلى النجف الأشرف، وطلب من علماء الدين في حينها قائلاً: «انتخبوني ملكاً على العراق بسمة أني خادمٌ للعلماء ومطيعٌ لأوامرهم»، ولكنّه بعد أن تمّ تتويجه ملكاً، وتحكيم أركان مملكته، أرسل رسالةً شديدة اللحن إلى علماء النجف، يقول لهم فيها: «كُفُّوا عن التدخّل في أمر الحكومة، وإلاّ فعلتُ بكم ما شئتُ»([64]).
حيث إن الحكومة وإدارة المجتمع الإسلامي تنشأ ـ طبقاً لرؤية الإسلام ـ من الإيمان والعهد الإلهي والشأن الربوبي فإن التشريع وتطبيق القانون يتمّ في الإطار الذي ترسمه الشريعة، وإن الذي يطبّق القانون والتشريع الإلهي هو وليّ الله المأذون من قبل الله. وفي مقابل ذلك يطلق على كلّ شخصٍ يحكم بغير إذن وليّ الله مصطلح (الطاغوت). ومن هنا يجب أن يقوم الدين على أساس الدولة والسلطة التنفيذية؛ وذلك لأن الحكم ملازمٌ للتصرُّف في الأموال والأرواح والنواميس وتقييد الحرّيات والإرادة الفردية والاجتماعية للأشخاص. وإن هذا التصرُّف الواسع إذا لم يكن مؤيَّداً من قبل الشارع سيكون مندرجاً تحت عنوان الغصب. ومن هنا كانت مشروعيّة الحكّام في الحكومة الدينية تأتي من قِبَل الدين، ومقبوليّتهم من قِبَل الناس.
النتيجة
هناك عددٌ من القضايا الكلامية المؤثِّرة في الاستنباط الفقهي؛ حيث يجب على الفقيه أن يمارس عملية استنباط الأحكام الشرعية من خلال اتّخاذ تلك القضايا بوصفها مقدّمات للاجتهاد. ومن بين القضايا المؤثِّرة في الاستنباط الفقهي: جامعية وكمال الشريعة. إن الدين الذي يتكفّل بتنظيم الحياة الدنيوية والأخروية للناس يتكفّل في البُعْد الدنيوي تنظيم العلاقات والروابط الاجتماعية بشكلٍ صحيح وعادل، بالإضافة إلى مكافحته للعلاقات الظالمة. إن جامعية الشريعة تعني أن الشارع قد عمل على تشريع جميع ما يحتاج إليه الإنسان، وفي الموارد المستَحْدَثة التي تحتاج إلى جعل قانون ترك للإنسان القواعد والضوابط الكلّية لوضع القوانين.
إن الإسلام، بالإضافة إلى طرح المباني النظرية، قد حدَّد شكل وبنية الحكومة والنظام السياسي أيضاً. يُعدّ النظامُ الولائي في التفكير الشيعي النظامَ الوحيد المشروع الذي بدأ منذ رحيل النبيّ الأكرم|. وقد تكفَّل أئمّة الشيعة^ في البداية بأمر ولاية وإمامة الأمّة؛ وفي عصر الغيبة تمّ تعليق هذا الأمر على عاتق الفقهاء الجامعين للشرائط. إن هذا الأمر تكليفٌ إلهي ووظيفةٌ دينية؛ إذ في الفلسفة السياسية للإسلام تنتهي الحكومة الدينية ـ سواء في البُعْد التشريعي وتطبيق القانون ومعاقبة المجرمين ـ إلى الله تعالى. وإن هذا النظام يتحلّى بالمرونة تجاه المقتضيات الزمانية والمكانية وقابلية الانطباق مع الظروف والمعطيات الجديدة. إن الحكومة الدينية من وجهة نظر الفلسفة السياسية في الإسلام ليست حكومة المتديِّنين فحَسْب، وليست حكومةً قائمة على محورية القانون الإلهيّ دون ملاحظة مَنْ يقوم على تطبيقه وتنفيذه؛ إذ قد لا يكون نظاماً دينياً، وإنما يجب أن يكون القانون إلهياً، وأن يكون القائم على تنفيذه مخوَّلاً من قِبَل الشارع. وهذا هو النظام الولائي الذي أقرّه الشارع المقدّس. وإن الحاكم سيعمل في حدود صلاحيّاته المشروعة على تشكيل الحكومة وإدارة شؤونها، بالالتفات إلى مقتضيات الزمان والمكان.
الهوامش
(*) أستاذٌ مساعِدٌ في مجمع الشهيد محلاّتي للتعليم العالي.
([1]) انظر: الخواجة نصير الدين الطوسي، العدّة في الأصول: 42، مؤسّسة البعثة، قم، 1417هـ.
([2]) انظر: الخواجة نصير الدين الطوسي، تلخيص المحصل (نقد المحصل): 1، دار الأضواء، ط3، بيروت، 1405هـ.
([3]) انظر: العلاّمة الحلّي، تهذيب الوصول إلى علم الأصول: 241، تحقيق: السيد محمد حسن الرضوي، مؤسّسة الإمام عليّ×، 1421هـ.
([4]) انظر: الشيخ البهائي، الجامع العباسي: 35، مطبعة صفدري (الطبعة الحجرية)، الهند.
([5]) انظر: رسائل المحقّق الكركي 2: 142، مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم، 1411هـ.
([6]) انظر: حسن العاملي، معالم الدين وملاذ المجتهدين: 28، مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، 1365هـ.ش.
([7]) انظر: الوحيد البهبهاني، الفوائد الحائرية: 336، مجمع الفكر الإسلامي، قم، 1415هـ.
([8]) انظر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة: 479، دار الكتب العلمية، قم.
([9]) انظر: الراغب الإصفهاني، المفردات في غريب القرآن: 441، دفتر نشر كتاب، 1404هـ.
([10]) الحرّ العاملي، الفصول المهمة: 190، مكتبة بصيرتي، قم.
([11]) ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب 1: 124، المكتبة الحيدرية، النجف، 1376هـ.
([12]) الفخر الرازي، المطالب العالية من العلم الإلهي: 116، دار الكتاب العربي، بيروت، 1408هـ.
([13]) عبد الكريم سروش، مدارا ومديريت (الإدارة والمداراة): 137، مؤسّسة فرهنگي صراط، طهران، 1376هـ.ش. (مصدر فارسي).
([14]) مهدي بازرگان، آخرت، خدا، هدف بعثت أنبياء (الآخرة، الله، الهدف من بعثة الأنبياء): 55، مؤسّسة خدمات فرهنگي ريّ، طهران، 1377هـ.ش. (مصدر فارسي).
([15]) عبد الكريم سروش، بسط تجربه نبوي (بسط التجربة النبوية): 71 ـ 80، مؤسسة فرهنگي صراط، طهران، 1378هـ.ش. (مصدر فارسي).
([16]) انظر: الشهيد الأول، القواعد والفوائد 1: 34 ـ 35، مكتبة مفيد، قم؛ جعفر كاشف الغطاء، كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء: 20، انتشارات مهدوي، إصفهان؛ الآخوند الخراساني، فوائد الأصول: 236، المطبعة الإسلامية، طهران؛ محمد رضا المظفَّر، عقائد الإمامية: 73، مكتبة شكوري، قم، 1408هـ.
([17]) السيد روح الله الخميني، كتاب البيع: 479، مطبعة الآداب، النجف، 1394هـ.
([18]) محمد علي التوحيدي، مصباح الفقاهة (تقريراً لدرس السيد أبو القاسم الخوئي) 2: 46، أنصاريان، قم، 1417هـ..
([19]) انظر: السيد روح الله الخميني، كشف الأسرار: 312.
([20]) فضل الله النوري، تذكرة الغافل وإرشاد الجاهل 1: 56، انتشارات رسا، طهران، 1362هـ.ش.
([22]) عباس علي عميد زنجاني، فقه سياسي (الفقه السياسي): 121، انتشارات أمير كبير، طهران، 1368هـ.ش.
([23]) السيد محمد باقر الصدر، اقتصادنا: 803 ـ 804، مركز الأبحاث والدراسات التخصُّصية للشهيد الصدر، ط1، قم، 1424هـ.
([24]) المحقق النائيني، تنبيه الأمة وتنـزيه الملة: 130 ـ 133، مطبعة فردوسي، طهران.
([25]) انظر: الفيض الكاشاني، سفينة النجاة: 36.
([26]) الحرّ العاملي، الفصول المهمة في أصول الأئمة: 191، مكتبة بصيرتي، قم.
([27]) انظر: ناصر مكارم الشيرازي، منابع اجتهاد در فقه شيعه وأهل سنّت (مصادر الاجتهاد في فقه الشيعة وأهل السنّة)، مجلة نور علم، العدد 10: 57، بتاريخ: شهر خرداد (3)، 1364هـ.ش. (مصدر فارسي).
([28]) انظر: محمد مهدي شمس الدين، الاجتهاد والتقليد: بحثٌ فقهي استدلالي مقارن: 13، المؤسّسة الدولية، بيروت، 1419هـ.
([29]) محمد الغزالي، المستصفى من علم الأصول: 345، دار الكتب العلمية، بيروت، 1417هـ.
([30]) انظر: حسين علي المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية: 73.
([31]) انظر: محمد تقي الحكيم، الأصول العامّة في الفقه المقارن: 595، مؤسّسة آل البيت^، قم، 1401هـ.
([32]) انظر: الغزالي، المستصفى من علم الأصول: 109.
([33]) انظر: المصدر السابق: 116.
([34]) انظر: عبد الرزاق اللاهيجي، سرمايه إيمان: 108، انتشارات الزهراء، 1372هـ.ش؛ العلاّمة الحلّي، تهذيب الوصول إلى علم الأصول: 451؛ الخميني، كتاب البيع 2: 461.
([35]) الكليني، أصول الكافي، باب دعائم الإسلام، ح: 5.
([36]) انظر: الخميني، كتاب البيع 2: 460.
([37]) انظر: الخواجة نصير الدين الطوسي، رسالة الإمامة: 15.
([38]) العلاّمة الحلّي، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 490، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1399هـ.ش.
([39]) الخواجة نصير الدين الطوسي، رسالة الإمامة: 17.
([40]) انظر: الخميني، كتاب البيع 2: 500.
([41]) السيد روح الله الخميني، الحكومة الإسلامية (ولاية الفقيه): 71، مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني، الشؤون الدولية، ط8، طهران، 2005 م.
([43]) عبد الله جوادي الآملي، ولايت فقيه ولايت فقاهت وعدالت (ولاية الفقيه، ولاية الفقاهة والعدالة): 76، نشر إسراء، قم، 1378هـ.ش. (مصدر فارسي).
([44]) محمد تقي مصباح اليزدي، حقوق وسياست در قرآن (الحقوق والسياسة في القرآن): 192، انتشارات مؤسّسة آموزش وپژوهش إمام خميني، قم، 1377هـ.ش. (مصدر فارسي).
([45]) انظر: روح الله شريعتي، قواعد فقه سياسي (قواعد الفقه السياسي): 75 ـ 402، پژوهشگاه علوم وفرهنگ إسلامي، قم، 1387هـ.ش. (مصدر فارسي).
([46]) انظر: المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية: 209.
([47]) انظر: عبد الله جوادي الآملي، شريعت در آيينه معرفت (الشريعة في مرآة المعرفة): 116، مركز فرهنگي رجا، طهران، 1372هـ.ش. (مصدر فارسي).
([48]) انظر: روح الله الخميني، الرسائل: 50 ـ 51، انتشارات إسماعيليان، قم، 1385هـ.
([49]) انظر: الخميني، الحكومة الإسلامية (ولاية الفقيه): 76.
([50]) الخواجة نصير الدين الطوسي، الغيبة: 177، طبعة النجف، 1385هـ.
([51]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 28: 49.
([52]) السيد أبو القاسم الخوئي: 224 ـ 225، نقلاً عن: محمد هادي معرفت، ولاية الفقيه: 51 ـ 52.
([53]) انظر: الشيخ المفيد، المقنعة: 810، مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، 1406هـ.
([54]) انظر: الشيخ الطوسي، النهاية في مجرّد الفقه والفتاوى: 301، دار الكتاب العربي، بيروت، 1390هـ.
([55]) انظر: سلاّر الديلمي، المراسم العلوية: 263 ـ 264، مطبعة أمير، قم، 1414هـ.
([56]) انظر: العلاّمة الحلّي، قواعد الأحكام، نقلاً عن: فخر المحققين، إيضاح الفوائد 1: 398.
([57]) انظر: الشهيد الأول، الدروس الشرعية: 165، انتشارات صادقي، قم.
([58]) انظر: ابن فهد الحلّي، المهذَّب البارع 2: 328، انتشارات جماعة المدرِّسين، قم، 1407هـ.
([59]) انظر: المحقِّق الكركي، جامع المقاصد 3: 488، مؤسّسة آل البيت^، قم، 1408هـ.
([60]) انظر: محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 1: 396، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1981 م.
([61]) انظر: مرتضى الأنصاري، كتاب القضاء: 48 ـ 49، لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، قم، 1415هـ.
([62]) نهج البلاغة، الخطبة الشقشقية.