يوسف محمد عبدالهادي المحميد
المقدمة
إن الناظر إلى شجرة العلماء التي أنبتتها حضارة الإسلام، ليقطع بتميز الشيخ الرئيس ابن سينا، سواءً كان من المترحمين عليه أو ممن يرى كفره وانحرافه، فهو غصن وارف الظِّلال، كثير الثمار، لم يترك علمًا من علوم الأوائل إلا طرق عقله بابه، فبرع بالمعقولات دون إهمال المنقولات، وأعلى من مكانة التجربة دون حطٍّ من قدر التأمل، بل إنه صَهَرَ المعارف والعلوم التي أداها إليه أسلافه، ثم مزج بينها بعقل الطبيب الذي يُحْكِم مزج المواد لتركيب ما يراه نافعًا من دواء، فخرج بفلسفة شاملة مترابطة الأجزاء، يُفْضِي بعضها إلى بعض، ثم ربطها بما حذقه من صنعة الطب، فكان طبُّه تطبيقًا عمليًا لفلسفته، ونظر إلى الشريعة الغراء بعين الفيلسوف المسلم، فكانت الشريعة عماد فلسفته العملية، وكانت النبوة أقصى حالات كمال النفس الإنسانية، ثم إنه دخل التصوف من بوابة العقل لا القلب، فكان تصوفه تصوفًا فلسفيًا يقدس العقل الذي يستقبل الفيض القدسي، وعلى ذلك فقس كل مسألة اقتحمها بعقله، وكل علمٍ وَجَّهَ إليه دفة رأيه، إذ حرص على تآلف المسائل، وعدم تناقض الأقوال بين العلوم.
والتربية إحدى المناطق التي امتد إليها سلطان عقل الشيخ الرئيس، فأنفذ فيها بعض أحكامه وأحال بعضها إلى عقول المتدبرين في فلسفته ليصلوا إلى ما لم يذكره بالتصريح وإن ألمح إليه في مواضع أو أوحى به في أخرى، لذا كان جمع شتات تلك المواضع من الأمور العسيرة، فقد بثها الشيخ في كتبه ورسائله التي طُبِعَ منها كثيرٌ مما سلم من يد الضياع ولم تطله نار الإتلاف، فإذا جُمِعَ إلى ذلك ما تقدم من ارتباط مقولات الشيخ في شتى العلوم، فإن على الباحث أولًا أن يطَّلع على كل ما من شأنه الدخول في مباحث التربية، فيقرر مذهب الشيخ فيها، ثم يبحث عن الخيط الرفيع الرابط بينها، كي يرسم خارطة فكره التربوي بصورة واضحة المعالم.
وقد وقع الاختيار على مجالات ثلاثة يُسْبَرُ فيها فكر ابن سينا، أولها المعرفة فهي من المباحث الفلسفية الضرورية، كما أن لها خطرًا عظيمًا في البحث التربوي لا يخفى على كل مشتغل فيه، ثم يأتي مجال الأخلاق الذي يدرسه الفلاسفة ضمن أبحاث الفلسفة العملية والسياسة، وأخيرًا المجال البيولوجي ذي الأهمية الكبرى لدى أي فكر تربوي حديث، وهذه المجالات كما يتضح تنتمي إلى الفلسفة النظرية والعملية والطب، وهي علوم بزَّ فيها الشيخ كل قرين معاصر، وتفوق فيها على كل سلف سابق، وسَبْرُ أغوار فكره فيها يستلزم تقليب كل مدونته العلمية، وهذا ما كان في هذا البحث –على قدر ما توفر من استطاعة-.
ثم يأتي بعد ذلك دور المواضع المباشرة التي ذكر فيها ابن سينا أمر التربية، سواءً تحت مصطلحَيْ “التربية” و”التَّدبير”، أو ضمن مصطلح “السياسة”، إذ إنه يعتبر التربية فرعًا عن السياسة، وهذا يحيلنا إلى ما كتبه في كتابه الطبي “القانون” وفي رسالته الموسومة بـ”السياسة” إذ إنهما الموضعان اللذان أوجز فيهما الشيخ فكره التربوي، بالإضافة إلى رسائل متفرقة كتبها في مواضيع شتى، لكن مجرد العرض لهذه المواضع لا يوقف على عمق الفكرة، ولا يجدي في تشكيل صورة التربية عنده، لذا كان من اللازم ربط كلامه في تلك المواضع بما ذهب إليه في المعرفة والأخلاق والطب، وبهذا يمكن إظهار فكر الشيخ في صورة محكمة، وبنية متراصة.
وقبل الشروع في البحث لا مناص من ذكر تعريفٍ موجز بالشيخ الرئيس، للوقوف على حياته والعوامل المؤثرة في تشكيل فكره، وتكوين فلسفته، وترجمات الشيخ في كتب التراجم والطبقات أكثر من أن تُعَدْ، لكنَّا نستقي فيما نعرضه ما ذكر في (البجنوردي، 1998)، فهي ترجمة اتسمت بالدقة والتحقيق، ونضم إليها بعض النصوص التي أوردها (ابن أبي أصيبعة، 1995) نقلًا عن تلميذه، بالإضافة إلى ملاحظاتنا الخاصة.
حياة ابن سينا
ولد الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا في قريةٍ يقال لها “أفشنة” في بخارى، في عام 370هـ / 980، وكان والده عاملًا من قبل الملك الساماني نوح بن منصور، وبعد ولادة أخيه الأصغر انتقلت الأسرة إلى مدينة بخارى، وتأثر أبوه وأخوه بالدعوة الإسماعيلية التي انتشرت في أرجاء بلاد فارس إثر اتصالهم بدعاتها، فكانوا ينكبون على رسائل إخوان الصفا، ويتحاورون في أقوال الإسماعيلية في النفس والعقل، بالإضافة إلى اهتمامهم بالفلسفة وحساب الهند، فقبل عقله الفلسفة والحساب، ونفر من اعتقادات الاسماعيلية كما صرح في سيرته التي أملاها على تلميذه أبي عبيد الجوزجاني.
أما طلبه العلم، فقد ختم في العاشرة حفظ القرآن الكريم وكثيرًا من الأدب، وكان ذلك مدعاةً لعجب من كان حوله، وأمارة على ذكائه ونبوغه، ثم دفعه والده إلى بقَّالٍ يدعى محمودًا المساح كان يجيد حساب الهند ليتعلمه منه، وحضر درس الفقه عند إسماعيل الزاهد([1])، حتى صار يحضر مجالس المناظرة والخلاف ، ويجادل فيها بأسلوب الفقهاء، وفي تلك الأثناء وفد على بخارى أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم الناتلي، وقد كان حكيمًا يعلم الفلسفة، فاستقبله والد ابن سينا عنده في البيت، ودفع ابنه إليه كي يعلمه كتاب “إيساغوجي” لفرفوريوس، وهو مدخل لمنطق أرسطو، كما درس عليه كتاب العناصر لإقليدس في علم الهندسة، وكتاب “المجسطي” لبطليموس في علم الفلك، لكنه في هذه الكتب الثلاثة لم يعتمد على معلمه كل الاعتماد، إذ تبين له ضعفه في فهم تلك الكتب وشرحها، فأخذ يقرأ تلك الكتب وحده، ويكشف بعض أسرارها ويحل غوامضها لأستاذه.
وحين غادر الناتلي بخارى، انصرف ابن سينا لطلب العلوم وحده، فقرأ كتب المنطق والطبيعة والرياضيات، ثم توجه نحو الإلهيات فقرأ كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو وكانت له معه قصة يرويها بلسانه، فيقول حسب ما نقله (ابن أبي أصيبعة، 1995، صفحة 438):
“قرأت كتاب ما بعد الطبيعة فما كنت أفهم ما فيه، والتبس عليَّ غرض واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة وصار لي محفوظًا، وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود به، وأيست منفسي وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه، وإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوَرَّاقين، وبيد دلَّالٍ مجلَّدٌ ينادي عليه، فعرضه عليَّ فرددته ردَّ مُتَبَرِّمٍ، معتقدًا أن لا فائدة من هذا العلم، فقال لي: اشترِ مني هذا فإنه رخيص أَبِيعُكَهُ بثلاث دراهم، وصاحبه محتاجٌ إلى ثمنه، واشتريته فإذا هو كتابٌ لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة، ورجعت إلى بيتي وأسرعت قراءته، فانفتح عليَّ في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه كان لي محفوظًا على ظهر قلب، وفرحت بذلك وتصدقت في ثاني يومه بشيءٍ كثير على الفقراء شكرًا لله تعالى”
إن هذا الخبر يضعنا أما ملمح مهم من ملامح فلسفة ابن سينا، فكتاب ما بعد الطبيعة يناقش مباحث الإلهيات، وهي من المباحث المهمة في الفلسفة، وابن سينا من الفلاسفة الذين وافقوا أرسطو في كثير من المسائل، ودافع عن فلسفته المشائية، وقد ولج الشيخ الرئيس إلى هذه المباحث من بوابة الفارابي، لذا تأثر أشد التأثر بفلسفته التي حاولت الجمع بين أرسطو وشيخه أفلاطون، فكانت نظريته في الفيض، التي أخذها ابن سينا وطورها، بل إن المقارن بين فكر ابن سينا والفارابي يرى وجوه التشابه بينهما أكثر من أن تُعَد، ويمكن القول بأن ابن سينا طور فلسفة الفارابي وشرحها.
ثم إنه شُغِفَ بعلم الطب فقرأ كتبه وأحكمها حتى صار الأطباء يرجعون إليه ويتعلمون منه، وأضاف إلى معارفه النظرية في الطب معارف عملية استفادها من تجاربه أثناء معلاجة المرضى، ولم يتجاوز عمره في ذلك الوقت السادسة عشرة، ليقضي بعدها سنة ونصفًا ما ينام ليلةً كاملة، ولا يقضي النهار في غير قراءة العلوم والاستزادة منها، فأعاد قراءة المنطق وجميع أجزاء الفلسفة.
ويذكر ابن سينا قضيتين لهما دلالة في تحصيله العلمي في تلك الفترة، أولاهما أنه كان حريصًا على تدوين المقدمات القياسية لكل مسألة يتناولها، وترتيب تلك المقدمات لينظر ما ينتج عنها، فكأنه كان يتحرى أن يكون موضوعيًا في بحثه، وأن يتَّبع ما يقوده إليه الدليل حسب أحكام المنطق، أما القضية الثانية فهي ذات بُعْدٍ روحيٍّ، حيث كان يلجأ إلى الجامع حين تستغلق عليه مسألة من المسائل، ويصعب عليه إيجاد الحد الأوسط ليرتب مقدماتها وصولًا للنتيجة، فيتضرع لله D ويبتهل ليفتح له استغلق، وييسر له ما استعسر، ثم يعود إلى داره ويَنْكَبُّ على المطالعة والكتابة حتى إذا غلبه النوم -الذي كان يقاومه بشرب قدح من الشراب- رأى حل المسألة في منامه، ومع انتهاء تلك المرحلة من حياته -وهو دون الثامنة عشرة- ختم جميع العلوم وادعى أنه لم يزدد علمًا بعدها.
وأثناء ذلك أصيب سلطان بخارى نوح بن منصور بمرضٍ أعجز الأطباء، ونصحوه بعرض نفسه على ابن سينا، فأحضره وعالجه، وبقي في خدمته، ثم إنه سأله السماح له بدخول دار الكتب في القصر فوافق، فمكث فيها يقرأ كتبها النفيسة التي لم يرها من قبل ولا من بعد، حتى بلغ الثامنة عشر ففرغ من تحصيل العلوم، وفي أواخر حياته وصف لتلميذه الجوزجاني علمه مُقَارِنًا بين مرحلة الطلب ومرحلة النضوج فقال: “فلما بلغت ثماني عشرة سنة من عمري فرغت من هذه العلوم كلها، وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه اليوم معي أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء”. (ابن أبي أصيبعة، 1995، صفحة 439)، ويبدو أنه يشير بقوله “هذه العلوم” إلى العلوم الفلسفية دون غيرها من العلوم التي برع فيها، إذ إن علمه بالطبِّ ازداد نتيجة التجارب العلمية، كما أن علمه باللغة تضاعف في أواخر حياته حين قضى في قراءة كتبها ثلاث سنوات.
وقد ألَّف أولى مصنفاته في سن الحادية والعشرين وهو الحكمة العروضية نسبة إلى أبي الحسين العروضي الذي طلب منه تصنيف كتاب جامع للعلوم، ثم ألف كتاب “الحاصل والمحصول” ورسالة “البر والإثم” بطلب من أبي بكر البرقي.
وتوفي والده وهو ابن اثنين وعشرين عامًا، ثم تقلبت به الأحوال بعد أن كان يعمل في بلاط الأمير عبد الملك بن نوح بن منصور الساماني، واضطر إلى مغادرة بخارى بعد سقوط الدولة السامانية على يد إيلك نصر بن علي القراخاني، فتوجه إلى “ﮔرﮔانج” (جرجانج) فاستقر فيها مدة في خدمة الأمير علي بن مأمون بن محمد خوارزم شاه ووزيره أبي الحسين السهيلي، وكان في بلاطه جلة من العلماء منهم أبو الريحان البيروني، لكن السلطان محمود الغزنوي طلب من الأمير إرسال بعض العلماء من بلاطه، فوافق البيروني ورفض ابن سينا، فخرج منها قاصدًا شمس المعالي قابوس بن وشمكير أمير جرجان، وحين بلغها ثار الجنود على قابوس فخلعوه وبايعوا ابنه منوﭼهر الذي أعلن تبعيته للسلطان محمود الغزنوي وتزوج ابنته، فلم يستطع ابن سينا المكوث في جرجان ، وغادرها بعد أن اتصل به تلميذه وكاتب سيرته أبو عبيد الجوزجاني، وقد أسف على حاله وضياعه بين الدول المتصارعة فقال:
لَمَّا عَظُمْتُ فَلَيْسَ مِصْـرٌ وَاسِـعِي *** لَمَّا غَلَا ثَمَنِي عَدِمْتُ المُشْتَرِي
وفي عام 404هـ/1014م وصل ابن سينا إلى الري لخدمة الأمير مجد الدولة البويهي وأمه أم الملوك، لكنه لم يطل المكث فيها، فخرج منها بعد عام إلى قزوين فهمدان، ثم علم به شمس الدولة أخو مجد الدولة، وكان مصابًا بالقولونج ، فمكث ابن سينا في القصر أربعين ليلة يداويه حتى شفي، وأصبح من ندمائه وخاصته، وخرج معه إلى قرمسين لمحاربة حسام الدين عناز، فانكسر جيش شمس الدولة وتقهقر إلى همدان.
وفي همدان ولَّاه شمس الدولة الوزارة، لكن العسكر اعترضوا على توزيره، وهاجموا داره فانتهبوها وحبسوه، وسألوا الأمير قتله، فرفض واكتفى بعزله عن الوزارة كي يخفف ثائرة الجند، فاختبأ ابن سينا في دارٍ تعود لرجل اسمه أبو سعيد بن دخدوك أربعين يومًا، ولم يخرج منها إلا حين عاد داء القولنج لشمس الدولة فاستدعاه وأحسن الاعتذار إليه، ثم أعاده إلى الوزارة.
أما حياته في الوزارة فكانت مليئة بالأعمال العلمية والسياسية، فكان يقضي النهار في خدمة الأمير وتدبير شؤون الوزارة، وحين يرخي الليل ستاره يجمع إليه طلابه، فيقرأ بعضهم الفلسفة عليه، ويأتي آخرون فيقرؤون عليه الطب، فإذا فرغ من الدرس أمر بالمغنين ليدخلوا، وهيَّأ مجلس الشراب كما ذكر تلميذه الجوزجاني، وفي تلك الفترة شرع ابن سينا يؤلف كتاب القانون في الطب وكتاب الشفاء في الفلسفة.
واستمرت حياته الهانئة على وتيرتها حتى وفاة شمس الدولة عام 412هـ، وبويع ولده سماء الدولة الذي عرض الوزارة على ابن سينا فرفض لشعوره بأن الدولة البويهية تلفظ أنفاسها، فعين سماءُ الدولة تاجَ الملك وزيرًا بدل ابن سينا، وآثر الشيخ الرئيس الاختباء في دار رجل يدعى أبا غالب العطار، وراسل علاء الدولة المعروف بابن كاكويه أمير أصفهان طالبًا العمل في خدمته، وفي مُعْتَزَلِه بتلك الدار أكمل أجزاءً كبيرة من كتاب الشفاء.
أما تاج الملك فقد اتهم الشيخ الرئيس بمراسلة علاء الدولة، وأخذ يبحث عنه حتى علم بمحل اختبائه، فقبض عليه وأودعه السجن في قلعة يقال لها فردجان، فكان رهين قضبانها أربعة أشهر قضاها في تأليف كتاب الهدايات وقصة حي بن يقظان وكتاب القولنج، لم يخرج من سجنه إلا بعد حرب دارت بين علاء الدولة وتاج الملك انتهت بمصالحة، فعاد إلى همدان بمعية تاج الملك ومكث فيها مدة، ثم قرر الفرار منها إلى أصفهان، فخرج متنكرًا في زي الصوفية مع أخيه محمد وتلميذه الجوزجاني وغلامين.
فلما بلغ أصفهان في عام 414هـ، استقبله أصدقاؤه وخواصه، وحملوه إلى دار رجل يدعى عبد الله بن بي بي، وكانت مجهزة بالكامل لإقامة الشيخ، واتصل بعلاء الدولة فأكرمه غاية الإكرام، وكان مُدِيمَ الحضور في مجلسه الذي يضم أكابر العلماء، متميزًا بينهم في مجالس النظر والمناظرة التي كانت تعقد في ليالي الجمعة، فعاش حياة هادئة غزيرة الإنتاج طوال تلك المدة التي بلغت 15 سنة، ولم ينقطع عن التأليف حتى في الأوقات التي خرج فيها مع علاء الدولة لحروبه.
وفي إحدى حروب علاء الدولة، أصيب ابن سينا بداء القولنج، فحقن نفسه في يوم واحد ثماني مرات، فتقرحت أمعاؤه، وأعيد إلى أصفهان، واشتغل بمداواة نفسه حتى شفي، وخرج مع الأمير إلى همدان فعاوده الداء في الطريق، وأهمل مداواة نفسه حين وصل إلى همدان فانتكست حاله، وتوفي في أول جمعة من شهر رمضان من عام 428هـ / 1037م عن عمر ناهز 58 عامًا، ودفن في همدان، وقبره معروف إلى اليوم.
مؤلفاته:
حسب (البجنوردي، 1998) فإن المؤلفات المقطوع بنسبتها إليه يبلغ 131، والمؤلفات المنسوبة إليه دون قطع تبلغ 111، بعضها قد يكون ناشئًا عن اختلاف العناوين للمؤلف الواحد، وبعضها قد يكون لغير ابن سينا لكنه نسب إليه، ومن مؤلفاته ما طالته يد الضياع، أو أتلفته يد الفتن التي عاشها ابن سينا، ومنها ما بقي مخطوطًا، ومنها المحقق المنشور، وقد غطَّى عمله العلمي علوم المنطق والرياضيات والهندسة والفلسفة بأقسامها والطب والتصوف والسياسة والأدب واللغة، ومن أبرز مؤلفاته المطبوعة:
- القانون: في الطب.
- الشفاء: في الفلسفة والمنطق.
- النجاة: مختصر الشفاء.
- الإشارات والتنبيهات: في المنطق والفلسفة والتصوف.
- الأضحوية في المعاد.
- منطق المشرقيين.
- عيون الحكمة
- أرجوزة في المنطق.
- أسباب حدوث الحروف.
- المبدأ والمعاد.
- التعليقات والمباحثات: وهما كتابان أجاب فيهما عن أسئلة تلاميذه.
- أحوال النفس . رسالة في النفس وبقائها ومعادها.
- تسع رسائل في الحكمة والطبيعة: يضم رسالة في الطبيعيات، ورسالة في الأجرام العلوية، ورسالة في القوى الإنسانية وإدراكاتها، ورسالة في الحدود، ورسالة في أقسام العلوم العقلية، ورسالة في إثبات النبوات وتأويل رموزهم وأمثالهم، الرسالة النيروزية في معاني الحروف الهجائية، رسالة في العهد، ورسالة في الأخلاق، وقصة سلامان وإبسال.
- جامع البدائع: يضم أحد عشر رسالة في موضوعات تتوزع على التفسير والتصوف والحكمة العملية والطبيعيات.
- مجموعة رسائل ابن سينا: تضم سبع رسائل في موضوعات مختلفة.
المعرفة عند ابن سينا
ينطلق ابن سينا من مفهوم الإدراك في مناقشاته المعرفية، فهو عنده “حصول صورة المُدْرَك في ذات المُدرِك” (ابن سينا، 2009، صفحة 91)، ومن ذلك قَسَّمَ الإدراك على قسمين: فتارة تتمثل حقيقة الشيء في المدرِك، وفي أخرى تتمثل صورته الذهنية فيه، ثم يصنف أنواع العلم في القسمين إلى حسيّ وعقلي، ويفرق ابن سينا في مواضع أخرى بين ثلاثة أنواع من الإدراك، مُرَتَّبَة من الأدنى إلى الأعلى، وهي حسب (معلمي، 2014):
- الإدراكات الحسية: التي يتوصل إليها من الحواس الخمس، وهي أدنى الإدراكات مرتبة لأنها مشوبة بالعوارض المادية التي تؤثر في الحواس.
- الإدراكات الخيالية: وهي تتمتع بشيء من التجريد عن العوارض المادية، وهو إدراك للأشياء التي أدركتها الحواس لكن بعد غيابها عن الحواس.
- الإدراكات العقلية: وهي إدراكات مجردة عن المادة تجردًا تامًّا ، وهي أعلى مراتب الإدراك.
وما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات أنه قادرٌ على تصوُّر المعاني الكلية من خلال تجريدها من الجزئيات، بالإضافة إلى قدرته على الوصول إلى المجهول من خلال المعلوم، ويقول صدد هذا: “وأخص الخواص بالإنسان تصوُّرُ المعاني الكلية العقلية المجردة عن المادة كل التجريد … ، والتوصل إلى معرفة المجهولات تصديقًا وتصورًا من المعلومات العقلية … فتكون للإنسان إذن قوة تختص بالآراء الكلية، وقوة أخرى تختص بالرؤية في الأمور الجزئية” (ابن سينا، 1975، صفحة 184) ويسمي القوة المختصة بإدراك الكليات بالعقل النظري.
ومن ذلك يتوصل إلى التفريق بين المعرفة والعلم، فالمعرفة إدراكٌ للجزئيات، بينما العلم إدراكٌ للكليات، وهذا ما يقوده إلى اعتبار الإدراك الحسي من المعارف لا العلوم، ويخلص من ذلك إلى القول بأن الحس يهيئ الأرضية لتكوين المعارف التي يعتمد عليها العقل في الوصول إلى الكليات (العلم)، ويقول “الحس طريق إلى معرفة الشيء لا علمه. وإنما نعلم الشيء بالفكرة والقوة العقلية، وبها تُقْتَنَصُ المجهولات بالاستعانة عليها بالأوائل” (ابن سينا، 2009، صفحة 122)
أما مفهوم الكليات فهو عنده ما يكون قابلًا للصدق على كثيرين، فهو أشبه بالقوانين العلمية التي تنطبق على كل تجليات الظاهرة، كقولنا : كل معدن يتمدد بالحرارة، ويلخص هذا بقوله: “المعقول من كل شيء لا يختص بشخص معين ، بل يكون كليًّا ويشترك فيه كثيرون وجودًا أو ذهنًا” نقلًا عن (معلمي، 2014، صفحة 39)، وفي قوله وجودًا أو ذهنًا إشارة إلى ما يسمى الوجود الذهني، فهو يرى أن العلم إنما هو حضور صورة الشيء في الذهن، وهذا الحضور في الذهن نوع من أنواع الوجود، ويدل هذا على مخالفة ابن سينا للمثاليين الذين يذهبون إلى عدم انطباق الصور الذهنية مع العالم الخارجي، فهو يعتقد بأن للأشياء وُجُودَيْن، وجود خارجي واقعي، ووجود في الذهن وهو واقعي أيضًا لكنه يتسم بالتجريد، وبهذا يقر ابن سينا بإمكانية تكوين معرفة موضوعية للواقع بعكس ما ذهب إليه المثاليون.
طرائق معرفة الواقع
يرى ابن سينا إمكانية الوصول إلى معرفة واقعية للموجودات الخارجية، وفي سبيل ذلك يحدد أدوات المعرفة فيحصرها في العقل والحس، مبينًا تعلق الحس بتكوين المعارف التي تتسم بالجزئية والتأثر بالعوارض المادية، وتعلق العقل بالعلوم التي تتميز بالتجريد والكلية، بل إنه يذهب إلى عدم إمكانية الإدراك من دون الحواس فيقول: “وليس للإنسان أن يدرك معقولية الأشياء دون وساطة محسوسيتها، وذلك لنقصان نفسه واحتياجه في إدراك الصور المعقولة إلى توسط الصور المحسوسة”. (ابن سينا، 2009، صفحة 97)
لكنه ذهب إلى أن العالم الجسماني (المادي) لا يمكن إثباته بالحس فقط، إذ قد يعرض على الحس عوارض تجعله يتهيَّأ وجود المعدوم، لذا لا بد من تدخل العقل لإثبات العالم الجسماني، ويشدد على أن معرفتنا بهذا العالم لا تصل إلى حقيقة الأشياء فيه، فالعقل يوصلنا إلى الكليات دون الحقائق، ويقول في هذا المورد: “الإنسان لا يعرف حقيقة الشيء البتة، لأن مبدأ معرفته الحس، ثم يميز العقل بين المتشابهات والمتباينات، ويعرف حينئذ بالعقل بعض لوازمه وأفعاله وتأثيراته وخواصه، فيتدرَّج من ذلك إلى معرفةٍ مُجملةٍ غيرِ محققةٍ بما لم يعرفه من لوازمه إلا اليسير” (ابن سينا، 2009، الصفحات 117-118).
الإدراك بين الحس والعقل
أما مصدر الإدراك عنده فهو النفس، إذ إن الحس ليس سوى آلة تنفعل بالمحسوسات دون أن تدركها، وبهذا يفسر عدم إدراك المحسوسات التي تصادف الحواس أثناء انشغال النفس في أمر من الأمور، فالحواس قد تستقبل صورة الإنسان الواقف أمامها دون أن يتبعها إدراك، وهذا ما يحدث كثيرًا عند تركيز الإنسان على عمل معين يشغله عن الأحداث الدائرة حوله. (ابن سينا، 2009)
وفي تفسيره للإدراك ينطلق من مقولة الانتزاع العقلي، فالإدراك الحقيقي ليس سوى الإدراك العقلي، أما الإدراك الحسي فهو مقدمة لا بد منها للوصول إلى الإدراك العقلي، ويقول في هذا الصدد: “إدراك العقل للمعقول أقوى من إدراك الحس للمحسوس، لأن العقل يعقل ويدرك الأمر الباقي الكلي، ويتحد به ويصير هو هو على وجهٍ ما، ويدركه بكنهه لا بظاهره، وليس كذلك الحس للمحسوس” (النيسابوري، 1383، الصفحات 275-276)، أما الانتزاع فيحدث بالطريقة المبينة في الشكل التالي (ابن سينا، 1958، صفحة 222):
رسم توضيحي 1: مراحل تكون التصورات عند ابن سينا
من الشكل السابق تتبين أهمية الحواس في نظرية المعرفة عند الشيخ الرئيس، إذ يقول: “كلُّ فاقد حسٍّ ما فإنَّهُ فاقِدٌ لعلمٍ ما، وإن لم يكن الحس علمًا” (ابن سينا، 1958، صفحة 224)، فالحواس نقطة البداية، تستقبل معطيات العالم الخارجي وتحيلها إلى العقل النظري، فيبدأ بتحليلها ونزع العوارض منها للوصول إلى الكليات (المعقولات الثابتة)، ويمكن التمثيل لهذا عند التفكير في معنى “الإنسان”، فالحواس تستقبل كثيرًا من المعطيات المتعلقة بالإنسان من خلال احتكاكها بأشخاص تجمعهم صفة “الإنسان” لكنهم مختلفين في البنية واللون والشكل واللغة وغيرها من العوارض، ثم يأتي دور العقل النظري للبحث عن المشتركات بين جميع الأفراد الذين تجمعهم صفة “إنسان”، فيزيل اللون والبنية والشكل وكل العوارض الأخرى ليصل إلى الصفات المشتركة بين جميع الأفراد، مُكَوِّنًا بهذا تصورًا كليًّا للإنسان.
طرائق تكوين الأحكام الموضوعية
إن تلك السلسة الموصوفة آنفًا تتعلق بتكوين التصورات، وهي معلومات أو صور تتكون في الذهن دون الوصول إلى حكم بتصديقها أو تكذيبها، أما مرحلة تكوين التصديقات (الأحكام) لتلك التصورات، فهي تأتي بأربع طرائق كما في الشكل التالي:
رسم توضيحي 2طرائق الوصول إلى التصديق (ابن سينا، 1958)
- العرض: ويقصد به عملية التفكير التي تنزع العوارض عن المدركات الحسية (السليمة من الاختلاط والخيال) للوصول إلى التصورات الكلية، ويتبع ذلك الوصول إلى التصديقات بإحدى طريقتين: الأولى من خلال ما يسميه أحكام العقل بالفطرة الذي يعتبره اتصالًا بنور مُفاضٍ من الله D عبر العقل الفعال([2])، والثانية تكون من خلال البرهان، أي من خلال ما يسميه المناطقة بالحد الأوسط ، فإذا توصل العقل إلى الحد الأوسط([3]) “اكتسب المعقول المصدق به اكتساب الأوليات بعينها”.
- القياس الجزئي: من خلال امتلاك العقل حكمًا كليًّا على الجنس، يتفرع منه صورة نوعية، عندها يحمل الحكم المراد تصديقه على تلك الصورة النوعية فيكتسب معقولًا جديدًا.
- الاستقراء: وهو الاستدلال الذي ينتقل من الجزئي إلى الكلي، فلو لاحظنا عَرَضًا قطعة من الحديد وأخرى من النحاس وثالثة من الذهب، ووجدنا أنها جميعًا تتمدد بالتسخين، فإننا نُعَمِّم تلك النتيجة فنقول: كل المعادن تتمدد بالتسخين، دون أن نلاحظ كل المعادن في الأرض، أي إننا انتقلنا من ملاحظات جزئية غير مضبوطة لنصل إلى قانون كلي.
- التجربة: والتجربة عنده مبنية على الخلط بين الاستقراء والقياس، وهي عنده أكثر تأكيدًا من الاستقراء، ويفرق بينها وبين الاستقراء بقوله: “وليست التجربة كالاستقراء، فإن الاستقراء لا يوقع -من جهة التقاط الجزئيات- علمًا كليًّا يقينيًّا، وإن كان قد يكون منبِّهًا، وأما التجربة فتوقع ، بل التجربة مثل أن يرى الرائي ويحس الحاس أشياءً من نوع واحد يتبعها حدوث فعل أو انفعال ، فإذا تكرر ذلك كثيرًا جدًّا ، حكم العقل أن هذا ذاتي لهذا الشيء وليس اتفاقيًّا عنه، فإن الاتفاق لا يدوم” (ابن سينا، 1958، الصفحات 223-224).
ويلاحظ على التقسيم السابق أن ابن سينا يفرق بين الاستقراء والتجربة، بينما تعتبر الفلسفة الحديثة الاستقراء مرادفًا للتجربة، لكن ابن سينا يتبع في تفريقه بينهما المعلم الأول أرسطو، فالاستقراء عنده لا يورث علمًا، إنما يمكن أن يوصلنا إلى الظن، أما التجربة فهي توصل إلى العلم لاعتمادها على معرفة أولية كما يتضح في قول ابن سينا: “ فإذا تكرر ذلك كثيرًا جدًّا ، حكم العقل أن هذا ذاتي لهذا الشيء وليس اتفاقيًّا عنه، فإن الاتفاق لا يدوم” ، ويمكن فهم ذلك من خلال الرجوع إلى أقسام المعارف العقلية عند ابن سينا التي تتوزع على قسمين رئيسيين: (الديناني، 2007)
- المعارف الأولية: وهي البدهيات التي لا يمكن الاستدلال عليها، فهي معارف تنبثق من الذهن مباشرة دون حاجة إلى إعمال الفكر فيها، وعلى رأس هذه المعارف “مبدأ التناقض” الذي يسمى عنده بأصل الأصول ومبدأ المبادئ، ومن أضرب تلك المعارف مبدأ “الاتفاق لا يكون دائميًّا ولا أكثريًّا”، وهو مبدأ يشير إلى أن الصدفة لا تتكرر بصورة دائمة عند الحديث عن ارتباط ظاهرتين، فالظاهرة (س) قد تقترن بالظاهرة (ص) على سبيل الصدفة مرةً واحدة أو مرتين، لكنها إذا اقترنت بصورة دائمة، فكان ظهور الظاهرة (س) متبوعًا دائمًا بالظاهرة (ص)، فهذا يشير إلى أن الظاهرتين مرتبطتان بمبدأ السببية، مما يجيز أن نقول إن الظاهرة (س) سبب لحدوث الظاهرة (ص)، والخروج بمبدأ كلي يمكن اختصاره بقولنا : كل (س) ينتج عنه (ص) ، وعلى هذا الأساس اعتبر ابن سينا التجربة من أصول المعرفة لأن أساسها مبدأ عقلي أولي (قاعدة الاتفاق لا يكون دائميًا ولا أكثريًّا).
- المعارف الثانوية: وهي المعارف التي يتوصل إليها الإنسان من خلال المعارف الأولية، كقاعدة “مجموع زوايا المثلث يساوي مجموع زاويتين قائمتين”، فهي قاعدة لا يمكن الوصول إليها إلا بالاستدلال الذي يوظف قواعد المعارف الأولية.
من ذلك يتبين أن الفرق بين الاستقراء والتجربة يكمن في اعتماد التجربة على مبدأ عقلي أولي (قاعدة الاتفاق)، أما الاستقراء الناقص فهو تجميع للأمثلة في قضية ما دون أن يكون مسنودًا بتلك القاعدة.
الحواس الباطنية
كما يتبين ما للتجربة من مكانة في فلسفة ابن سينا، ويتضح بصورة أكبر دور الحواس في نظريته المعرفية، فهو لم ينكر أهميتها فحسب، بل اعتبرها مقدمة للإدراك والمعرفة والعلم، بل يذهب إلى القول بأن “البدن الصحيح أقوى على جميع المدركات من البدن المريض” (ابن سينا، الطبعة الأولى، صفحة 146)، لكنه لا يتوقف عندها كما يفعل التجريبيون، بل يبني عليها من خلال إحالة “المعارف” التي تدركها الحواس إلى العقل النظري، ليصل من خلال تجريدها إلى الكليات (العلم)، وهنا يظهر دور التأمل العقلي، الذي يرتقي فيه الإدراك من مرحلة المعرفة إلى العلم، ليكون هذا تمهيدًا لنظريته (الفلسفية-الصوفية) في المعرفة
لكن لا بد من التوقف قليلًا عند الحس الباطني وقواه قبل الخوض في نظريته (الفلسفية-الصوفية)، فقد قسم ابن سينا الحس إلى ظاهري (الحواس الخمس) وباطني، وللحس الباطني دور كبير في عملية الإدراك، ويمكن اختصار تلك الحواس الباطنة كما ذكرها ابن سينا في “رسالة في بيان المعجزات والكرامات والأعاجيب” التي حققها ونشرها (شمس الدين، 1988) وفي (ابن سينا، 2007، الصفحات 61 – 62)، في الجدول التالي:
جدول 1 : قوى الحس الباطن عند ابن سينا
jفسيره للتعلم
ويطالعنا الشيخ الرئيس على نظريته في التعلم بصورة موجزة في جوابه على إحدى مسائل تلميذه بهمنيار فيقول: (ابن سينا، الطبعة الأولى، صفحة 107)
“لا بد من استعمال القوة المفكرة الطالبة للحد الأوسط، وذلك لأن التَّعلم على نحوين: أحدهما على سبيل الحدس، وهو أن يخطر الحد الأوسط بالبال من غير طلب، فيناله والنتيجةَ معًا، والثاني يكون بحيلة وطلب.
والحدس هو فيض إلهي واتصال عقلي يكون بلا كسب البتة، وقد يبلغ من الناس بعضهم مبلغًا يكاد يستغني عن الفكر في أكثر ما يتعلم، ويكون له قوة النفس القدسية….
وإنما الحاجة إلى الفكر لكدر النفس، أو لقلة تمرنها وعجزها عن نيل الفيض الإلهي، أو للشواغل…
من النص السابق يبرز نوع أرقى من التَّعلم، نوعٌ لا يتطلب إجهاد العقل في التفكير والاستدلال، يسميه ابن سينا بالحدس، وينسبه إلى الفيض الإلهي الذي تستقبله النفس التي استوفت شرائط استقباله، أما النفوس التي تعاني الكدر، أو الضعف الناتج عن عدم التمرن على التأمل والتفكير، أو تشغلها عن استقبال الفيض الإلهي الشواغل المادية، فإنها تحتاج إلى التعب والكد في التفكير للوصول إلى الحد الأوسط وتحقيق التصديق العلمي للتصورات، ويُعَرِّفُ الحدس والفكرة على النحو التالي: (ابن سينا، 1435، صفحة 358)
الفكرة: هي حركةٌ ما للنفس في المعاني، مستعينةً بالتخيُّل في أكثر الأمر، يُطْلَبُ بها الحد الأوسط أو ما يجري مجراه مما يُصار به إلى العلم بالمجهول حالة الفقد، استعراضًا للمخزون في الباطن وما يجري مجراه، فربما تأدت إلى المطلوب وربما انْبَتَّتْ.
الحدس: هو أن يتمثل الحد الأوسط في الذهن دفعةً، إما عقيب طلب وشوق من غير حركة، أو من غير اشتياق وحركة، ويتمثل معه ما هو وسط له أو في حكمه.
كما يلاحظ على النصين السابقين أنه يحصر الغرض من التعلم في تحصيل الحد الأوسط، والفرق بين نوعي التعلم إنما يكون في طريقة تحصيل ذلك الحد، فالحدس يوصلنا إليه بطريقة مباشرة وبدفعة واحدة، أما التفكير فيوصلنا إليه بعد كدِّ العقل في تحصيله.
أما فيما يخص الفرق بين ما يُكْتَسَب بالحدس وما يكتسب بالفكر فيقول : (ابن سينا، الطبعة الأولى، صفحة 11):
“القوة العقلية إذا اشتاقت إلى صورة عقلية تضرعت إلى المبدأ الواهب، فإن ساحت عليها على سبيل الحدس كُفِيَت المؤونة، وإلا فزعت إلى حركات من قوى أخرى من شأنها أن تُعِدَّه لقبول الفيض لتأثير ما يكون في النفس منها، ومشاكلة بينها وبين شيءٍ من الصور التي في عالم الفيض، ويحصل لها بالاضطراب ما كان لا يحصل إلا بالحدس”
من ذلك يتبين أن ما يحصل بالحدس وما يحصل بالفكر قد يتطابقان، فمن فَقَدَ القدرة على الحدس لا يُحْرَمُ القدرة على الفكر، فلا فرق بينهما إلا في الجهد المبذول في تحصيل الحد الأوسط، والوقت الذي يستغرقه العقل في ذلك، إلا أن الفكر قد لا يصل إلى المطلوب حتى مع الكد والتعب، بينما يصل الحدس دائمًا إلى المطلوب.
قوى العقل
ويقسم قوى العقل على قسمين، عقل نظري وعقل عملي، ثم يقيم موازنة بينهما يمكن تلخيصها في الجدول التالي: (ابن سينا، 1975، صفحة 185)
جدول 2: المقارنة بين العقل النظري والعقل العملي عند ابن سينا
يتضح من المقارنة السابقة أن العقل النظري عقل مختص بالنظر في الأمور النظرية والبحث عن الكليات، وينشغل بإدراك القضايا من حيث صدقها أو كذبها، فهو يخرج بأحكام علمية من قبيل الأمور الواجب والممكن والممتنع، أي تكوين اليقين بوجود الشيء أو عدمه ، بالإضافة إلى الوصول إلى الظنون حول الأمور الممكنة، ومرجع هذا العقل المقدمات الأولية التي يوظفها في القضايا المنطقية للوصول إلى النتائج، أما علاقته بالبدن فهو يحتاج إليه حاجة نسبية بناءً على أنه يعتمد على معطيات الحس كما بينا سابقًا، لكنه في كثير من أعماله غير محتاج إلى البدن، إذ إنه يعمل على تجريد الأشياء للوصول إلى إدراك الكليات.
أما العقل العملي فهو يتخذ القضايا العملية والأفعال الإنسانية من حيث كونها حسنة أو قبيحة ميدانًا لعمله، ويخرج بأحكام أخلاقية على الأشياء من حيث كونها قبيحة أو جميلة أو مباحة، معتمدًا في ذلك على أدلة أقل رتبة من الأدلة التي يعتمد عليها العقل النظري، فهو يستند إلى المشهورات والمقبولات والمظنونات والتجارب غير المنضبطة علميًا، ولاختصاصه بالميدان العملي يحتاج هذا العقل إلى البدن حاجة مطلقة في جميع عملياته، إذ إنه في النهاية يُنْزِلُ أحكامه على الأفعال الصادرة عن البدن، ويحكم الحاجات المادية له.
الفيض وعلاقته بالمعرفة
أما ما أشار إليه من حدس أو انسياح أو فيض فهو يكشف عن رأيه في المعرفة، فهو يذهب إلى أن جميع المعاني موجودة في علم الله D وما يسميه الملائكة العقلية والملائكة السماوية، وأن جوهر النفس الإنسانية قريب من تلك الجواهر، وطبيعتها منافرة لطبيعة الأجسام المادية، لكنها مقترنة بالجسم، فيمنعها ذلك في كثير من الأحيان من الاتصال بتلك الجواهر، فإذا تحررت من سطوة القوى البدنية الجاذبة لها إلى الأسفل، وفرغت إلى الأمور العلوية استطاعت التواصل مع العقل الفعال وهو “ملك سماوي”، فيفيض المعاني على النفس، وبهذا يفسر الوصول إلى المعاني والأفكار من خلال التفكير أو الأحلام أو الحدس أو الرؤية في اليقظة التي إذا كَمُلَتْ وصلت إلى مرتبة النبوة، كما بين ذلك في الفصل الثاني من (ابن سينا، 1975).
وعلى ذلك الأساس فسر ابن سينا النبوة الخاصة، أي الإنسان الذي يتلقى الوحي من الله D، فيقول في هذا الشأن:
وقد يتفق في بعض الناس أن تُخْلَقَ فيه القوة المتخيلة شديدة جدًّا غالبة، حتى إنها لا تستولي عليها الحواس ولا تعصيها المصورة، وتكون النفس أيضًا قوية لا يبطل التفاتها إلى العقل وما قبل العقل انصبابُها إلى الحواس، فهؤلاء يكون لهم في اليقظة ما يكون لغيرهم في المنام …. وكثيرًا ما يتمثل لهم شبح، ويتخيلون أن ما يدركونه خطاب من ذلك الشبح بألفاظ مسموعة تُحْفَظُ وتُتْلَى، وهذه هي النبوة الخاصة بالقوة المتخيلة. (ابن سينا، 1975، صفحة 154).
ويفسر ابن سينا مسألة الفيض من خلال تفصيله أنواع العقول، إذ إن النفس في أول أمرها تمتلك عقلًا يدعوه “العقل الهيولاني”([4])، وهذا العقل ليس سوى استعداد للتعقل أو قابلية له، فإذا تفَعَّلَت تلك القابلية سُمِّيَ العقل “عقلًا بالملكة”، وهو العقل الذي تحصل عنده المعقولات الأولى، وعند اكتمال استعداد العقل وكمال تفعيله يسمى “عقلًا بالفعل”، وهو أشد العقول اتصالًا بالعقل الفعَّال (الملاك السماوي).
ويعبر عن تلك العقول من خلال تأويله قوله تعالى: “اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” النور: ٣٥ ، فيقول في إشاراته:
“ومن قواها (أي النفس) ما لها بحسب حاجتها إلى تكميل جوهرها عقلًا بالفعل، فأَوَّلِيُّها قوةٌ استعدادية لها نحو المعقولات، وقد يسميها قومٌ عقلًا هيولانِيًّا ، وهي المِشْكَاة، وتتلوها قوة أخرى تحصل لها عند حصول المعقولات الأولى فتُهَيَّأُ بها لاكتساب الثواني إمَّا بالفكرة، وهي الشجرة الزيتونية إن كانت ضُعْفَى، أو بالحدسِ فهي زيت أيضًا إن كانت أقوى من ذلك، فتسمَّى عقلًا بالملكة، وهي الزجاجة، والشَّرِيفَة البالغة منها قوة قدسية يكاد زيتها يضيء ، ثم يحصل لها بعد ذلك قوةٌ وكمالٌ، أمَّا الكمال فأن يحصل لها المعقولات بالفعل مشاهدةً متمثلةً في الذهن، وهو نورٌ على نور، وأما القوة فأن يكون لها أن يحصل المعقول المكتسب المفروغ منه كالمشاهد متى شاءت من غير افتقارٍ إلى اكتساب، وهو المصباح، وهذا الكمال يسمى عقلًا مستفادًا، وهذه القوة تسمى عقلًا بالفعل، والذي يخرج من الملكة إلى الفعل التام ومن الهيولاني أيضًا إلى الملكة فهو العقل الفعَّال وهو النار” (ابن سينا، 1435، الصفحات 353-354)
يمكن تشبيه العقل الفَعَّال بالشمس والنفس الإنسانية بالعين، فهي تفيض شعاعها لتستقبله العين حسب استعدادها، وكذلك العقل الفعال يفيض المعارف لتستقبله النفس حسب تطورها، إذ تبدأ باستعدادٍ لاستقبال الفيض، ويسمى ذلك الاستعداد عقلًا هيولانيًّا، ثم تكتسب المقولات الأولى (العلوم الأولية) اللازمة للوصول إلى المقولات الثانية (العلوم المكتسبة)، والاكتساب يكون بالفكر أو بالحدس (القوة القدسية)، وفي هذه المرحلة قد يكون العقل عاجزًا عن الوصول إلى المقولات الثانية في بعض الأحيان مع توفر الإرادة، وهذا هو العقل بالملكة، ثم بعد ذلك تتطور لتبلغ مرتبة تحصل فيها المقولات الثانية متى شاءت وهذا هو العقل الفعال، ويسمى العقل بعد كل إفاضة من العقل الفعال عقلًا مستفادًا، لأنه استفاد من فيض العقل الفَعَّال.
جدول 3: قوى النفس النظرية (درجات العقل) في النفس الإنسانية
ويضرب الطوسي مثالًا لهذه العقول بتعلم الإنسان الكتابة، فالطفل الصغير الذي لم يحن أوان تعلمه القراءة والكتابة يمتلك في نفسه القدرة على التعلم (العقل الهيولاني)، فإذا بلغ سن التعليم فَعَّلَ تلك القدرة فتعلم القراءة والكتابة (العقل بالملكة)، وحين يمتلك ناصية الكتابة فإنه يكون قادرًا عليها متى شاء حتى لو لم يكتب (العقل بالفعل) (ابن سينا، 1435).
أما مدى استعداد النفس لتلقي ذلك الفيض فهو يرجع إلى سببين، سبب خَلْقِي راجع إلى نظريته في الأمزجة، وسبب خُلُقِي راجع إلى نظريته في الأخلاق، وسنبين ذلك في موضعه.
الأخلاق عند ابن سينا
يقسم ابن سينا قوى النفس على ثلاث قوى : النباتية والحيوانية والإنسانية، ويوكل إلى كل نفس مجموعة من المهام، فالنباتية موكلة بالتغذية والنمو والتناسل، والقوة الحيوانية مختصة بإدراك الجزئيات (الحواس) والحركة الإرادية، أما القوة الإنسانية فهي مصدر الإدراك الكلي وتؤدي دورها من خلال التفكير ، ويُعرِّف تلك القوى على النحو التالي: (ابن سينا، 2007، صفحة 58) و (ابن سينا، 1975، صفحة 32)
- النفس النباتية: وهي الكمال الأوَّل لجسمٍ طبيعيٍّ آليٍّ من جهة ما يتولد وينمو ويتغذى.
- النفس الحيوانية: وهي الكمال الأول لجسمٍ طبيعيٍّ آليٍّ من جهة ما هو يدرك الجزئيات ويتحرك بالإرادة.
- النفس الإنسانية: وهي كمالٌ أول لجسم طبيعيٍّ آليٍّ من جهة ما يفعل الأفاعيل الكائنة بالاختيار الفكري والاستنباط بالرأي ومن جهة ما يدرك الأمور الكلية.
ثم بعد ذلك يُفصِّل ابن سينا القوى المتفرعة عن كل نفس، ويوكل إلى كل قوة منها وظيفةً تختص بها وقد اختصرها (نجاتي، 1980، صفحة 36) في الشكل التالي:
رسم توضيحي 3: قوة النفس عند ابن سينا والوظائف التي تؤديها
فضائل قوى النفس
وبعد هذا التقسيم يقرر ابن سينا فضيلة رئيسية لكل قوة، وتتفرع عن كل فضيلة مجموعة من الفضائل الفرعية، فالقوة النباتية فضيلتها العفة، والقوة الحيوانية فضيلتها الشجاعة، والقوة الإنسانية فضيلتها الحكمة، ويضيف إليها فضيلة رابعة هي العدالة، ويقصد بها استكمال كل قوة لفضيلتها وما يتفرع عنها من فضائل، والشكل التالي يوضح القوى وفضائلها الأساسية وبعض الفضائل الفرعية المتفرعة عنها كما ذكرها (ابن سينا، 1298):
رسم توضيحي 4: قوى النفس وفضائلها الرئيسة وبعض فضائلها الفرعية
ويذهب ابن سينا في رسالة العهد إلى أن الفضيلة إنما هي وسط بين رذيلتي الإفراط والتفريط، “فالعفة وسط بين الشره وما أشبهه وبين خمود الشهوة، والسخاء وسط بين البخل والتبذير، والعدالة وسط بين الظلم والانظلام، والقناعة وسط بين الحرص والاستهانة بتحصيل الكفاءة وهي التي تسمى الانحلال، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور” (ابن سينا، 1298، صفحة 101)، وهكذا يضع أمام كل فضيلة مجموعة من الرذائل التي ينبغي تركها.
طبيعة الإنسان
أما في طبيعة الإنسان، فيمكن القول بأنه ذو طبيعة حيادية، وأن ما يتصف به من فضيلة أو رذيلة إنما هو حاصل عن الاكتساب والتحصيل، وما يكتسبه من صفة قد يتخلى عنها إذا أراد، ويبين ذلك بقوله: (ابن سينا، 1298، الصفحات 101 – 102)
“كل إنسان مفطور على قوة بها يفعل الأفعال الجميلة، وتلك القوة بعينها تفعل الأفعال القبيحة، والأخلاق كلها الجميل منها والقبيح هي مكتسبة، ويمكن للإنسان متى لم يكن له خُلُقٌ حاصل أن يُحَصِّلَهُ لنفسه، ومتى صادفها أيضًا على خلق حاصل أن ينتثل بإرادة عن ذلك الخلق”.
فالإنسان لا يولد شريرًا بطبعه حتى يُقَوَّمَ شرُّه بالتربية، ولا خيِّرًا بطبعه حتى تحميه التربية من الانحراف، بل يولد مُزَوَّدًا باستعدادٍ للتحلي بالفضائل أو الاتصاف بالرذائل، وتضطلع التربية الخلقية بتوجيه الاستعداد نحو الجهة المطلوبة، وترسيخ الخلق المكتسب في النفس حتى يغدو أشبه بالغريزة.
اكتساب الأخلاق وترسيخها
أما وسيلة اكتساب الأخلاق الفاضلة أو الرذيلة فهي العادة، ويقصد بها تكرار الفعل الواحد مرات كثيرة عبر مدة زمنية طويلة حتى يتحول الفعل إلى ملكة، وهذا ما عناه بقوله: “لذلك إذا اعتدنا من أول أمرنا أفعال أصحاب الأخلاق الجميلة حصل لنا باعتيادها الخلق الجميل، وإذا اعتدنا من أول أمرنا أفعال أصحاب الأخلاق القبيحة حصل لنا باعتيادها الخلق القبيح” (ابن سينا، 1298، صفحة 102).
ولضمان رسوخ الأخلاق في الإنسان يشدد ابن سينا على أهمية معرفة الحسن والقبح، وتربية الناشئة على فعل الحسن وترك القبح منذ الصغر، حتى تتحول تلك المعرفة والسلوكيات الناتجة عنها إلى ما يشبه الفعل الغريزي، وهذا ما يفرق بين الإنسان وسائر الحيوانات، فالحيوان يصدر في فعله عن الغريزة أما الإنسان فمن الواجب أن يكون فعله صادرًا عن الأخلاق، ويقول في هذا:
“ويخصه (أي الإنسان) في المشاركة (أي الحياة الاجتماعية)، أن المصلحة تدعو إلى أن تكون في جملة الأفعال التي من شأنه أن يفعلها أفعالٌ لا ينبغي له أن يفعلها، فيُعَلَّمُ ذلك صغيرًا ويُنَشَّأ عليه، ويكون قد تعود منذ صباه سماع أن تلك الأفعال ينبغي ألا يفعلها، حتى صار هذا الاعتقاد له كالغريزة، وأفعال أخرى بخلاف ذلك، وتسمى الأولى قبيحة، والأخرى جميلة” (ابن سينا، 1975، صفحة 183)
وبما أن الفضيلة وسطٌ بين رذيلتين، يرى ابن سينا أن على الإنسان المحافظة على حالة الأخلاق الوسطى، من خلال مفهوم العدالة الذي يعني أن تتوسط النفس بين الأخلاق المتضادة، فإذا انحازت النفس إلى طرف الإفراط لجأ المرء إلى النقص حتى يصل إلى التوسط، وإذا انحازت إلى التفريط لجأ إلى الزيادة، فالشجاعة مثلًا فضيلةٌ بين رذيلة الجبن (التفريط) ورذيلة التهور (الإفراط)، فمن وجد في نفسه شيئًا من الجبن فعليه بزيادة الإقدام، وإذا حصل العكس فأفرط في التهور فعليه أن يعيدها إلى التوسط بالإحجام.
تعريفه للأخلاق
ومن ذلك يصل إلى تعريف الخلق على أنه: “هيئة تحدث للنفس الناطقة من جهة انقيادها للبدن وغير انقيادها له”، ويشرح ذلك بقوله:
“فإن العلاقة بين النفس والبدن توجب بينهما فعلًا وانفعالًا، فالبدن بالقوى البدنية يقتضي أمورًا، والنفس بالقوة العقلية تقتضي أمورًا مضادة لكثير منها، فتارةً تحمل النفس على البدن فتقهره، وتارة يسلم البدن فيمضي في فعله، فإذا تكرر تسلمها له حدث من ذلك هيئة إذعانية للبدن حتى يعسر عليها بعد ذلك ما كان لا يعسر قبل من ممانعته وكفه عن حركته، وإذا تكرر قمعها له حدث منه في النفس هيئة استعلائية عالية يسهل عليها بذلك من مفارقة البدن فيما يميل ما كان لا يسهل” (ابن سينا، 1298، صفحة 104).
فالعلاقة بين النفس والبدن تتردد بين حالين، حال تكون فيها النفس مذعنة لأمر البدن، وهي عنده مصدر الأخلاق الرذيلة، وأخرى تكون فيها النفس مُسْتَعْلِيَةً على البدن حاكمةً عليه، وهذه الحال مصدر الأخلاق الوسطى (الفضيلة)، فمن تمكن من إخضاع مطالب البدن لأحكام النفس (العقل)، فقد حصَّلَ كمال النفس وسعادتها، إذ ذهب ابن سينا إلى أن للنفس كمالين، كمال نظري يكون بصيرورتها عالمًا عقليًا، وكمال عملي يكون باستعلائها على البدن، ويصرح بذلك قائلًا: “إن السعادة الإنسانية لا تتم إلا بإصلاح الجزء العملي من النفس، وذلك بأن تُحَصِّل ملكة التوسط بين الخلقين الضدين” (ابن سينا، 1298، صفحة 104)
قصة سلامان وإبسال
أشار ابن سينا في كتابه “الإشارات والتنبيهات” إشارة غامضة إلى حديث سلامان وإبسال، فقال: “إذا قرع سمعك فيما يقرعه، وسُرِدَ عليك فيما تسمعه، قصةٌ لسلامان وإبسال، فاعلم أن سلامان مثلٌ ضرب لك، وأنَّ إبسالًا مثلٌ ضُرِبَ لدرجتك في العرفان إن كنت من أهله، ثمَّ حُلَّ الرمزَ إن أطقْتَ” (ابن سينا، 1435، صفحة 364) ، وقد أربكت هذه الإشارة نصير الدين الطوسي شارح الإشارات، إذ لم يجد أثناء شرحه الكتاب مرجعًا يفسر به تلك الإشارة، لكنه بعد انتهائه من تصنيف الشرح بعشرين عامًا وقع على قصتين إحداهما يونانية ترجمها حنين بن إسحاق، لكنه استبعد أن تكون المعنية لتناقضها مع إشارة ابن سينا، بل إنه رجح بأنها من وضع أحد ضعفاء الفلاسفة، أما الأخرى فقد رَجَّحَ نسبتها إلى ابن سينا، وحاصلها كما اختصره الطوسي بقوله:
وحاصل القصة: أن سلامان وإبسال كانا أخوين شقيقين، و كان إبسال أصغرهما سنًّا، و قد تربى بين يدي أخيه ونشأ صبيح الوجه عاقلًا متأدبًا عالمًا عفيفًا شجاعًا، وقد عشقته امرأة سلامان، وقالت لسلامان: اخلطه بأهلك ليتعلم منه أولادك، فأشار عليه سلامان بذلك، و أبى إبسال من مخالطة النساء، فقال له سلامان: إن امرأتي لك بمنزلة أم، ودخل عليها وأكرمته وأظهرت عليه بعد حينٍ في خلوة عشقها له، فانقبض إبسال من ذلك ودرت أنه لا يطاوعها، فقالت لسلامان: زوج أخاك بأختي فأملكها به، و قالت لأختها: إني ما زوجتك بإبسال ليكون لك خاصةً دوني، بل لكي أساهمك فيه، وقالت لإبسال: إن أختي بِكْرٌ حَيِيَّةٌ، لا تدخل عليها نهارًا، ولا تكلمها إلا بعد أن تستأنس بك، وليلة الزفاف باتت امرأة سلامان في فراش أختها، فدخل إبسال عليها فلم تملك نفسها، فبادرت تضم صدرها إلى صدره، فارتاب إبسال و قال في نفسه: إن الأبكار الخفرات لا يفعلن مثل ذلك، و قد تغيَّم السماء في الوقت بغيم مظلم، فلاح فيه برق أبصر بضوئه وجهها، فأزعجها، وخرج من عندها، و عزم على مفارقتها، و قال لسلامان: إني أريد أن أفتح لك البلاد، فإني قادر على ذلك، وأخذ جيشًا وحارب أمما، و فتح البلاد لأخيه برًّا و بحرًا، شرقًا و غربًا، من غير مِنَّةٍ عليه، وكان أول ذي قرنين استولى على وجه الأرض، ولما رجع إلى وطنه، وحسب أنها نسيته، عاودت إلى المعاشقة، وقصدت معانقته فأبى و أزعجها، وظهر لهم عدوٌّ، فوجَّهَ سلامان إبسالًا إليه في جيوشه، وفرَّقَت المرأة في رؤساء الجيش أموالًا، ليرفضوه في المعركة ففعلوا، وظفر به الأعداء، و تركوه جريحًا و به دماء حسبوه ميتًا، فعطفت عليه مرضعةٌ من حيوانات الوحش، وألقمته حلمة ثديها، و اغتذى بذلك إلى أن انتعش و عوفي، ورجع إلى سلامان، وقد أحاط به الأعداء وأذلوه، وهو حزين من فقد أخيه، فأدركه إبسال وأخذ الجيش والعدة، وكَرَّ على الأعداء وبدَّدهم و أسر عظيمهم، و سوَّى المُلْكَ لأخيه، ثم واطأت المرأة طابخه وطاعمه، وأعطتهما مالًا فسقياه السم، وكان صِدِّيقًا كبيرًا نسبًا وعلمًا وعملًا، واغتمَّ من موته أخوه، واعتزل من ملكه، وفوَّضَ إلى بعض مُعاهديه، وناجى ربه فأوحى إليه جليَّة الحال، فسقى المرأة و الطابخ و الطاعم ثلاثتهم ما سقوا أخاه ودرجوا“. (ابن سينا، 1435، الصفحات 367 – 368)
وبعد سرده القصة يشرع الطوسي يحل الرموز التي تضمنتها كما أوصى ابن سينا، فخرج بالتأويل الذي نختصره في الجدول التالي: (ابن سينا، 1435)
ويتضح من تأويل الطوسي أن شخصيات القصة رموز لقوى النفس التي تحدث عنها ابن سينا في غير مؤلَّفٍ من مؤلفاته، أما أحداث القصة فهي رموز لتفاعلات قوى النفس، والصراع الناشب بينها في سبيل تحقيق كل قوة مراميها، فكل واحدة منها تسعى إلى أن تمتلك زمام السلطة على بقية القوى، ونتائج الصراع تحدد درجة ترقي النفس الإنسانية، فإذا كانت الغلبة للعقل النظري (إبسال) المستعين بالعقل العملي، فإن النفس تترقى في كمالها الروحاني، وتفيض عليها المعارف الإلهية، أما إذا غلبت القوى البدنية (امرأة سلامان) على العقلية، فإن النفس تنحط عن كمالها المرام.
وجدير بالذكر أن لابن سينا قصتين رمزيتين تناول فيهما أحوال النفس وصراعها مع قواها، الأولى باسم “قصة حي بن يقظان” والثانية بعنوان “قصة الطير”، ويمكن الاطلاع عليهما في (ابن سينا و الخيام، 2004)
مراتب النفس الإنسانية
أما مراتب ترقي النفس عند ابن سينا فهي ثلاث، الزهد والعبادة والعرفان، فالزهد هو الإعراض عن طيبات الدنيا، والعبادة تتمثل في العبادات المنصوص عليها كالصلاة والصيام، أما العرفان فهي رتبة يصل إليها الإنسان حين يُصَرِّف فكره في الله D، فهي مرتبة عقلية محضة، ولم يفت الشيخ بيان حالات التداخل بين تلك المراتب، فالزاهد قد يصرف نفسه عن الشهوات طمعًا في الثواب أو خوفًا من العقاب، وكذلك العابد المقبل على العبادة فهو إنما يفعل ذلك طمعًا أو خوفًا، أما زهد العارف فمصدره رغبة العارف في أن ينزه نفسه عمَّا يشغله عن الحق D، وأن يتكبر على كل شيء غيره، وكذلك عبادة العارف فهي عنده رياضةٌ لهمم النفس وقواها كي يجنبها الغرور أمام الحقD. (ابن سينا، 1435)
النبوة والطبيعة المدنية للإنسان
وبعد بيانه تلك المراتب يلتفت ابن سينا إلى طبيعة الإنسان التي تفرض عليه أن يعيش ضمن مجتمع يتفاعل فيه مع بقية الأفراد، فجعل من هذه الطبيعة مقدمة لبيان مكانة الدين في فلسفته، فقال:
“لما لم يكن الإنسان بحيث يستقلُّ وحده بأمر نفسه إلا بمشاركة آخر من بني جنسه، وبمعارضة ومعاوضة تجريان بينهما يُفْرِغُ كل واحد منهما لصاحبه عن مُهِمٍّ لو تولاه بنفسه لازدحم على الواحد كثيرٌ، وكان مما يتعسَّر إن أمكن، وجب أن يكون بين الناس معاملةٌ وعدلٌ، يحفظه شرعٌ، يفرضه شارعٌ متميزٌ باستحقاق الطاعة لاختصاصه بآياتٍ تدل على أنها من عند ربه، ووجب أن يكون للمحسن والمسيء جزاءٌ من القدير الخبير.
فوجب معرفة المجازي والشارع. ومع المعرفة سببٌ حافظٌ للمعرفة، ففُرِضَت عليهم العبادةُ المُذْكِرَةُ للمعبود، وكُرِّرَت عليهم ليستحفظ التذكير بالتكرير، حتى استمرت الدعوة إلى العدل المقيم لحياة النوع، ثم زيد لمستعمليها بعد النفع العظيم في الدنيا الأجرُ الجزيل في الأخرى، ثم زيد للعارفين من مستعمليها المنفعة التي خصوا بها فيما هم مُوَلُّون وجوههم شطره. فانظر إلى الحكمة، ثم إلى الرحمة والنعمة تلحظْ جنابًا تبهرك عجائبه، ثم أقمْ واستقمْ” (ابن سينا، 1435، صفحة 371).
يكشف النص السابق عن متانة فكرة ابن سينا، فهو يربط بين مختلف نواحي حياة الإنسان العقلية والاجتماعية والنفسية والدينية، فقد جاء بهذا الكلام في النمط التاسع من إشاراته وتنبيهاته وهو مختص بمناقشة مقامات العارفين، أي إنه قسم يندرج تحت التصوف، وجاء بعد حديثه الذي تقدم حول الزهد والعبادة والعرفان، فكأن الشيخ لما بين كمالات النفس، التفت إلى أن هذه الكمالات لا يمكن تحقيقها بمعزل عن التفاعل الاجتماعي، فانتقل إلى بيان ما يصلح المجتمع ويضمن العدل.
الحاجة مصدر السياسة
ويرى أن الطبيعة المدنية للإنسان تنشأ عن مبدأ الحاجة، وهو المبدأ الذي فصلَّ الحديث فيه عند تناوله الحاجة إلى السياسة في فصل “ضرورة السياسة” ضمن (ابن سينا، 2007)، فهو يذهب إلى أن التفاوت بين البشر كاشفٌ عن حكمة إلهية، إذ لولا اختلاف الطبقات في المجتمع لهلك الناس، ولو كان الناس متساوين في الرتب والعقول لفسدت الحياة نتيجة التباغض والتحاسد اللذين أنشأهما تساويهم في الرتب والعقول، فالتفاضل بين البشر ضروري لاستمرار الحياة، وبعد هذه المقدمة يأتي لبيان ضرورة السياسة، فيرى أن توالي حاجات الإنسان يوجب وجود نظام لتدبير الأمور وضمان تلبية الحاجات، وهي عنده تنشأ عن بعضها كما في الشكل التالي:
رسم توضيحي 5: الحاجات التي يتسوى فيها جميع الناس عند (ابن سينا، كتاب السياسة، 2007)
الشريعة والمشرع والمُجَازي
بناءً على تلك الحاجات تنشأ الطبيعة المدنية (الاجتماعية) للإنسان، ومنها تتفرع ضرورة إقامة العدل بين الأفراد كي لا يبغي أحدهم على الآخر في المعاملة، والعدل يتطلب شريعةً تُقِيمُه وتحفظه، والشريعة ينبغي أن يأتي بها مُشَرِّعٌ مُسْتَحِقٌّ للطاعة، وذلك الاستحقاق يعتمد على آيات (معاجز) تدل على ارتباط المُشَرِّع (النبي) بالله D، وبهذا يخلص ابن سينا إلى ضرورة بعثة الأنبياء، وحاجتهم إلى تقديم المعاجز الدالة على صدقهم.
ولضمان التزام الناس بالشريعة لا بد من ثواب يشجع على الالتزام، وعقابٍ يردع التمادي ويمنع الانحراف، على أن يكون الثواب والعقاب ذا بُعدَين دنيويٍّ وأُخرَوِيٍّ، لأن بعض قوى النفس (النباتية والحيوانية) قد تحاول إشباع رغائبها بما يخالف أمر الشريعة، فكان الثواب دافعًا لإطاعة العقل النظري الموصل إلى السعادة، والعقاب زاجرًا عن إطاعة قوى البدن وتأميرها على النفس.
ويتخلص ابن سينا من ذلك إلى وجوب معرفة المجازي (الله D) والمُشَرِّع (النبي)، فالمعرفة أساس العمل، ولدوام أثر المعرفة يرى وجوب العبادة بمصاديقها المختلفة، وضرورة أن تكون مكررة للمحافظة على تذكر الإنسان لتلك المعرفة، واستدامة آثارها في توجيه السلوك الفردي والاجتماعي نحو إقامة العدل وتحصيل الخير.
من البيان السابق يمكن استنتاج أن منشأ الأخلاق عند ابن سينا عقلي وشرعي، فالأخلاق العقلية هي التي يُتَوَصَّلُ إليها بعد معرفة قوى النفس الثلاث (النباتية والحيوانية والإنسانية)، ومراعاة التوسط في نزعاتها، فالقبح الأخلاقي ليس سوى ميلٍ عن الحالة الوسطى نحو أحد الطرفين الإفراط أو التفريط، أما الأخلاق الشرعية فهي في حقيقتها ضربٌ من ضروب الأخلاق العقلية، لأن ابن سينا يذهب إلى أن النبوة تكون فيمن كَمُلَ عقله النظري وعقله العملي، حتى امتلك العقل المُسْتَفَاد الذي تفيض المعارف عليه من العقل الفعال، ولأن المصدر واحد فلا تعارض بين الأخلاق العقلية والأخلاق الشرعية.
الأركان والأمزجة
الأركان الأربعة
اتبع ابن سينا رأي اليونانيين في إرجاع كل أشكال المادة إلى عناصر أربعة رئيسية هي: الأرض والماء والهواء والنار، ويسميها بالأركان، ويعرفها بقوله: “أجسامٌ ما بسيطة، هي أجزاءٌ أولية لبدن الإنسان وغيره، وهي التي لا يمكن أن تنقسم إلى أجزاء مختلفة الصورة، وهي التي تنقسم المركبات إليها، ويحدث بامتزاجها الأنواع المختلفة الصور من الكائنات” (ابن سينا، 1999، صفحة 17)، من ذلك يمكن أن نستشف بأن الأركان مفهوم مرادف لمفهوم الذرة في علم الكيمياء، وأنه يرادف مفهوم العناصر الكيميائية، التي تتحد ببعضها مكونة سائر المركبات الكيميائية، إلا أنها أربع أركان لا غير، ولكل ركن طبعٌ وفائدة كما في الجدول التالي:
جدول 4: طباع الأركان الأربعة وفوائدها في الموجودات المادية حسب (ابن سينا، 1999، الصفحات 17 – 18)
الأمزجة الأربعة
أما المزاج فهو تفاعل قوى الأركان الأربعة مع بعضها لينتج منها كيفيةٌ متشابهة، أما تلك القوى فهي: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وبامتزاج هذه القوى ينتج المزاج، ولكل جسم مادي مزاجه الخاص به، تُحَدِّدُه نسبة التفاعل بين القوى الأربعة، وهو الأساس الذي يفرق بين الأجسام المادية الحية وغير الحية، كما أن ابن سينا يعتمد على المزاج لتعليل اختلاف الأفراد، فللإنسان باعتباره كائنًا من الكائنات مزاجه الخاص، فإذا اختل لم تصح نسبته إلى الإنسان، ثم لكل مرحلة عمرية يمر بها الإنسان مزاجها الخاص، وهذا منشأ الاختلاف بين صفات الإنسان في كل سن يمر بها.
ثم لكل أمة من أمم البشر مزاجها المتميز عن غيرها، ويرجع هذا المزاج إلى الإقليم الذي تعيش فيه الأمة، فمزاج الهنود مختلف عن مزاج الترك، وهكذا تختلف أمزجة الشعوب، فيكون ما يناسب مزاج أمة من الأمم غير مناسب لأمة أخرى، ومن هذا يكون لكل أمة أمراضها الخاصة، وحميتها الغذائية المتميزة، وطرائق العلاج المختصة بها، بل إن أثر الإقليم يمتد إلى أن يجعل أهله قادرين على أمور وعاجزين عن غيرها، بل إنه يصل حد العنصرية في ذلك الرأي، ففي معرض حديثه عن المدينة الفاضلة، وتقسيم الأعمال فيها يقول:
“وإذ لا بد من ناس يخدمون الناس فيجب أن يكون أمثال هؤلاء يجبرون على خدمة أهل المدينة العادلة، وكذلك من كان من الناس بعيدًا عن تلقي الفضيلة، فهم عبيد بالطبع، مثل الترك والزنج، وبالجملة الذين نشأوا في غير الأقاليم الشريفة التي أكثر أحوالها أن ينشأ فيها أمم حسنة الأمزجة صحيحة القرائح والعقول” (ابن سينا، 1960، صفحة 453)
أما أفراد الناس فلكل واحد منهم مزاجه الخاص به، ويندر أن يشترك اثنان في نفس المزاج، وهذا الاختلاف هو علة الفروق الفردية التي تلاحظ بين الناس، وفي هذا يقول: “ويجب أن تعلم أن كل شخصٍ يستحق مزاجًا يخصه، يندر أو لا يمكن أن يشاركه فيه الآخر” (ابن سينا، 1999، صفحة 21) .
ثم إنه يجعل لكل عضو من أعضاء البدن مزاجًا خاصًا به، ومن ذلك يفسر أسباب الصحة والمرض والعلاج، فالصحة اعتدالُ أمزجة الأعضاء، والمرض خلل في مزاج عضو من الأعضاء، أما العلاج بطرقه المختلفة فهو محاولة إرجاع العضو إلى مزاجه المعتدل باستخدام المسخنات أو المبردات أو المرطبات أو المجففات، وجميع الأدوية والإجراءات العلاجية تندرج تحت هذه القسمة (ابن سينا، 1999).
إن الأركان والأمزجة مفهومان يناقشهما الفيلسوف في قسم الطبيعيات لذا عالجهما الشيخ الرئيس في قسم الطبيعيات من موسوعته الفلسفية المسماة بالشفاء، ثم اعتمد على ذلك في كتابه الطبي المسمى بالقانون، كما أنه أقام علاقات بين المفهومين وبين المعرفة والأخلاق، مما يكشف عن حرصه على انسجام نظرياته في جميع العلوم مع بعضها.
علاقة المعرفة بالأخلاق والمزاج
بعد تحديد أبرز الملامح في فكر ابن سينا المعرفي والأخلاقي والطبيعي، لا بد من التوقف على الوحدة الجامعة بين تلك المجالات، لما لها من دور في فهم طبيعة الإنسان، وتفسير كثير من القضايا المتصلة بالتربية، فقد حرص الشيخ الرئيس على الجمع بين مقولاته الفلسفية وصهرها في بوتقة واحدة كي يكون بعضها مفضيًا إلى الآخر.
وفي هذا الصدد نجد قولًا لابن سينا يمكن اعتباره مجمع البحور الثلاثة (المعرفة والأخلاق والمزاج)، وهو قوله:
“ويجب أن يعلم أن أصح الناس أحلامًا أعدلهم أمزجة، فإن اليابس المزاج وإن كان يحفظ جيدًا فإنه لا يقبل جيدًا، والرطب المزاج وإن كان يقبل سريعًا فإنه يترك سريعًا، فيكون كأنه لم يقبل ولم يحفظ جيدًا، والحار المزاج متشوش الحركات، والبارد المزاج بليد، وأصحهم من اعتاد الصدق، فإن عادة الكذب والأفكار الفاسدة تجعل الخيال رديء الحركات غير مطاوع لتسديد النطق، بل يكون حاله حال خيال من فسد مزاجه إلى تشويش”. (ابن سينا، 1975، صفحة 160)
إن الإنسان في فكر ابن سينا كائن نتج من علاقة بين النفس والجسد، أما النفس فإذا غضضنا الطرف عن قوتيها النباتية والحيوانية المشتركتين بين الإنسان وكثير من الأحياء، وجدنا أن النفس الإنسانية هي ما يميزه عن كل الكائنات، والنفس الإنسانية -كما تبين سابقًا- لها قوتان: العقل النظري الناظر في الأمور المعرفية، والعقل العملي الناظر في الأمور الخُلُقِيَّة، أما علاقة العقل النظري بالجسد فهي علاقة الحاجة النسبية، بينما يحتاج العقل العملي إلى الجسد حاجة مطلقة.
وبناءً على تلك الحاجة المتبادلة بين النفس الإنسانية والجسد، تنتج علاقات التأثير والتأثُّر بينهما، فيؤثر المزاج المعتدل في فكر الإنسان، فلا يرقى عقله إذا كان الجسد مختل المزاج، وبمقدار اقتراب المرء من حال الاعتدال تكون رتبته النفسية، فالأنبياء هم أكثر الناس اعتدالًا في مزاج أجسامهم، لذا تكون عقولهم أقدر على الاتصال بالعقل الفعال ليفيض عليها صور الأشياء.
أما الأخلاق المكتسبة بالعادة والتكرار فإن صلاحها يُصْلِحُ خيال الإنسان ويهيِّئه لاستقبال الفيض من العقل الفعال، وفسادها يفسد الخيال ويبعده عن مصدر الإفاضة، وبفضل كمال أخلاق الأنبياء وصفاء نفوسهم، وتأميرهم قواهم العقلية على قواهم البدنية، فإنهم يتمكنون من الاتصال بالعقل الفعال ليفيض عليهم بما يصلح العقل العملي.
ومن ناحية أخرى نجد ابن سينا يؤكد على دور النفس في تغيير مزاج الجسد، سواءً من حيث التغير المؤقت في المزاج المؤدي إلى الحركة الإرادية أو صدور الأفعال في حال الانفعال، كالعزم الذي يغير مزاج الجسد ويدفعه للحركة، والشهوة التي تحرك أعضاء البدن نحو إشباعها، أو من حيث قدرتها على إحداث التغيير الدائم في المزاج، فيكون المزاج في هذه الحال تابعًا للصور العقلية، وقد يتجاوز تأثير العقلِ الجسدَ ليغير مزاج الكائنات الأخرى في العالم، بمعنى أن العالم بظواهره الطبيعية يكون خاضعًا لإرادة الإنسان الذي استكمل القوة النظرية، وقد فصل ذلك في قوله:
“الأنفس الإنسانية قريبة من تلك الجواهر (العقول العالية التي تفيض منها الصور)، وقد نجد لها فعلًا في البدن الذي لكل نفس، فإنَّ الصورة الإرادية التي ترتسم في النفس يتبعها ضرورةً شكلٌ فيسري إلى الأعضاء، وتحريكٌ غير طبيعي (إرادي)، وميلٌ غير غريزي، تذعن لها الطبيعة.
والصورة الجوفية التي ترتسم في الخيال يحدث عنها في البدن مزاجٌ من غير استحالة عن تخيل طبيعي شبيه بالنفس، والصورة الغضبية التي ترتسم في الخيال يحدث عنها في البدن مزاج آخر من غير استحالة عن تخيُّلٍ شبيه، والصورة المعشوقة عند القوة الشهوانية إذا لُمِحَت في الخيال حدث عنها مزاجٌ يُحْدِثٌ ريحًا عن المادة الرطبة في البدن”.
“…. ولا ننكر أن يكون من القوى النفسانية ما هو أقوى فعلًا وتأثيرًا من أنفسنا نحن، حتى لا يقتصر فعلها في المادة التي رُسِمَ لها وهو بدنها، بل إذا شاء أحدثت في مادة العالم ما يتصور بأسباب في نفسها، وليس يكون مبدأ ذلك إلا إحداث تحريك وتسكين، وتبريد وتسخين، وتكثيف وتليين، كما تفعل في بدنها، فيتبع ذلك أن تحدث سحب ورياح، وصواعق وزلازل، وتنبع مياه وعيون وما أشببه ذلك في العالم البشري بإرادة هذا الإنسان”. (ابن سينا، 2007، الصفحات 123 – 125)
من كل ذلك تتضح العلاقة الجدلية عند ابن سينا بين المعرفة والأخلاق والمزاج، أو بين العقل النظري والعقل العملي وعالم المادة، فحياة الفرد ليست سوى صراع على الحكم بين العقل والجسد، فلكلٍّ رغباته وحاجاته وتطلعاته، فالنفس تتطلع إلى العودة إلى “العالم الأرفع” الذي تنتمي إليه، ولا يكون لها ذلك إلا بصراعها مع قوى الجسد والتحكم فيها لتعيد التواصل بينها وبين العالم الأرفع أثناء الحياة حتى تتمكن من الوصول إلى سعادتها الكبرى بعد مفارقة الجسد، أما الجسد فله رغباته وشهواته التي تريد أن يُطْلَقَ لها العنان، وأن تتحرر من ربقة العقل، ومصير الإنسان معلق على أي القوتين يكون لها زمام القيادة.
الفروق العنصرية والفردية
وبسبب تلك العلاقة الجدلية الموصوفة أعلاه، آمن ابن سينا بوجود الفروق العنصرية بين البشر، فليست الأجناس البشرية سواءً في تحصيل المعارف العلمية، والفضائل الخُلُقِيَّة، فقد تقدم ذكر اعتباره بعض الأجناس عبيدًا بالطبع، تميل طبيعتهم عن الفضيلة، وذكر منهم الترك والزنج، لذا يمكن استنتاج أن ما ذكره من مراتب الترقي العلمي والعملي للنفس لا يشمل جميع أجناس البشر، بل هو محصور في أجناس بعينها ممن اعتبرهم أقرب إلى المزاج المعتدل.
كما أن أفراد الإنسان يختلفون عن بعضهم أشد الاختلاف نتيجة عوامل مختلفة منها عامل المزاج الذي ذكره في كتابه القانون، ومنها عامل التربية الآتي ذكره، ويذهب إلى أن هذا التفاوت كاشفٌ عن حكمة بالغة من رب العالمين D، فقد قال: “ثم مَنَّ عليهم برأفته مَنًّا مُسْتَأنَفًا، بأنْ جعلهم في عقولهم وآرائهم مُتَفَاضِلين، كما جعلهم في منازلهم ورُتَبِهم متفاوتين، لما في استواء أحوالهم وتقارب أقدارهم من الفساد الداعي إلى فنائهم” (ابن سينا، 2007، صفحة 57)
معالم فكره التربوي
المراحل العمرية عند ابن سينا
يُقَسِّم الشيخ الرئيس مراحل نمو الإنسان على أربعة أقسام (ابن سينا، 1999، الصفحات 24-25) هي: سن النمو (الحداثة) ويستمر منذ الولادة إلى سن الثلاثين، ثم سن الوقوف (الشباب) وهو ما بين الثلاثين والأربعين، ثم سن الانحطاط مع بقاء من القوة (الكهولة) ويمتد إلى عمر الستين، وأخيرًا يأتي سن الانحطاط مع ظهور الضعف في القوة (الشيخوخة) وهو ما بعد الستين إلى الوفاة.
ويُقَسِّمُ سن النمو (من الميلاد إلى سن الثلاثين) خمسة أقسام على النحو التالي:
- سن الطفولة: “وهو أن يكون المولود بعد غير مستعد الأعضاء للحركات والنهوض”.
- سن الصبا: “وهو بعد النهوض وقبل الشدة، وهو أن لا تكون الأسنان استوفت السقوط والنبات.
- سن الترعرع: وهو بعد الشدة ونبات الأسنان قبل المراهقة.
- سن الغلامية والرهاق (المراهقة): “إلى أن يبقل وجهه” ، ويعني نمو الشعر على الوجه.
- سن الفتى: “إلى أن يقفل النمو”، أي إلى سن الثلاثين.
ولكل مرحلة من المراحل العمرية خصائصها تبعًا لمزاجها، فالمزاج في المرحلتين الأوليين (النمو والشباب) يميل إلى الحرارة والرطوبة، لأن الحرارة ضرورية لعمليات النمو كالهضم والشهوة، والرطوبة عنده مهمة لحفظ الحرارة، أما السِّنَّانِ الأخيران (الكهولة والشيخوخة) فمزاجهما يميل إلى البرودة واليبوسة، إذ تبدأ الحرارة والرطوبة بالنقصان شيئًا فشيئًا، ويتوقف النمو ليبدأ الانحطاط، وأعدل المراحل مزاجًا مرحلة الشباب (ما بين الثلاثين والأربعين)، كما أنه يذهب إلى أن المرأة أبرد مزاجًا من الرجل، ويفسر بناءً على ذلك كثرة فضول النساء، وعلى هذه الفروق يعتمد في وصف الأمراض وعلاجاتها.
رعاية الطفل وتربيته (سن الطفولة)
اعتمد ابن سينا على تقسيمه للمراحل العمرية في الفن الثالث من كتابه القانون الذي تناول فيه مجموعة من التدابير اللازمة للمحافظة على الصحة، وبدأه بـ”التعليم الأول” المختص بالتربية، فناقش في الفصل الأول منه تدبير المولود منذ ولادته إلى أن ينهض، فبين فيه كيفية تنظيف المولود ساعة ولادته، والطريقة الصحيحة لتقميطه، وإرقاده وغسله، ويلاحظ في بيانه عنايته الفائقة بالجسد الضعيف للمولود، فهو يحرص على أن تؤدَّى جميع الأعمال برفق شديد وحنان كبير، مع الاهتمام بالرأس في جميع الحالات سواءً عند النوم أو الغسل أو التحريك. (ابن سينا، 1999)
ثم عقد بعد ذلك فصلًا طويلًا في تدبير الإرضاع، وشدد فيه على ضرورة أن ترضع الأم وليدها من لبنها ما أمكنها ذلك، على أن تكون الرضعة الأولى من غير أمه، لأنه يعتقد أن المرأة حين الوضع يختل مزاجها فيسبب ذلك تغيرًا في اللبن يوثر في الرضيع، ولم يقتصر ابن سينا على الفوائد الغذائية لعملية الإرضاع، بل تجاوزها إلى التأكيد على ضرورة تهيئة الرضيع روحًا وجسدًا للموسيقى والرياضة في قوله: “من الواجب أن يلزم الطفل شيئين نافعين أيضًا لتقوية مزاجه، أحدهما التحريك اللطيف، والآخر الموسيقى والتلحين الذي جرت به العادة لتنويم الأطفال، وبمقدار قبوله لذلك يوقف على تهيئةٍ للرياضة والموسيقى، أحدهما ببدنه والآخر بنفسه”. (ابن سينا، 1999، صفحة 205)، وهذا يدل على أن التربية الخلقية والبدنية تبدأ عند ابن سينا من أول يوم يولد فيه الإنسان.
أما في حال عدم تمكن الأم من إرضاع وليدها، فيوصي الشيخ الرئيس بالاعتناء باختيار المرضع له، ويشترط مجموعة من الشروط الواجب توافرها في المرضع، وتشمل سن المرأة، وشكلها، وأخلاقها، وهيئة جسدها، وجنس مولودها، والمدة الفاصلة بين ولادتها، ونوع لبنها، ثم يضع برنامجًا غذائيًا للمرضع يضم الأغذية المفيدة للرضاعة، والأغذية الضارة بها، كما يوصي بممارسة المرضع للرياضة المعتدلة.
ومن الملاحظ تأكيد ابن سينا على أخلاق المرضع لاعتقاده بأن الرضاعة قد تعدي، فيرث الرضيع صفات غير محمودة من مرضعته كالغضب والغم والجبن، مستدلًا في ذلك بنهي النبي J عن استظئار المجنونة([5])، بالإضافة إلى أن سوء الأخلاق قد يدفع المرضع إلى معاملة الطفل بطريقة سيئة، أو إهمال مراعاته وتدبير شؤونه، وهو يذهب إلى أن أصل أمراض الرضيع قد يرجع إلى المرضع، ويقول “الغرض المقدم في معالجة الصبيان هو تدبير المرضع”، ويوصي أن تتجنب المرضع الرضاعة خلال فترة علاجها من بعض الأمراض، أما الفطام فيوصي أن يُتَدَرَّجَ فيه، وأن يُنَفَّرَ من الرضاعة باستخدام بعض المواد المُرَّة التي يُدهن بها الثدي.
ولأن مزاج الطفل يميل إلى الرطوبة، ينصح بأن يكون مجمل التدابير المتخذة في تربيته من غذاء ورياضة مراعية لتعزيز ذلك المزاج، على أن يتجنب الحركات العنيفة، ويُبْعَدُ عنه كل شيء حاد أو خشن، وألا يوضع على الأرض مباشرة، بل تفرش بنطع أو أي شيء ناعم الملمس، وخصوصًا في مرحلة الزحف والحبو، ولا يُجْبَرُ على المشي، بل يترك إلى أن يمشي بنفسه كي لا تصاب عظامه بأي آفة، وأن يُبْعَدَ عنه أي طعام من شأنه أن يضر بنمو الأسنان كالأطعمة القاسية الصلبة. (ابن سينا، 1999).
تدبير الولد بعد الطفولة (سن الصبا)
ثم ينتقل إلى مناقشة تدبير الأطفال عند الانتقال من سن الطفولة إلى سن الصبا، وهو السن الذي يبدأ من نهوض الطفل ومشيه، وتعبر تلك المرحلة من أهم المراحل في التكوين الخلقي للإنسان، لذا يؤكد ابن سينا على ضرورة العناية بأخلاق الصبي في هذه المرحلة، ويكون ذلك من خلال مراعاة مزاجه، فيُجَنَّب الانفعالات الحادة كالغضب أو خوف أو غم أو سهر، لأن هذه الانفعالات تؤثر في مزاج بدنه، فإذا حنَّ إلى شيءٍ أو اشتهاه فإنه يُقَرَّبُ منه، وإذا نفر من شيء وكرهه يُبْعَد عنه ويُنَحَّى عن وجهه، ويُصَرِّحُ بأن في ذلك منفعتان تكشفان عمَّا ذُكِرَ سابقًا من علاقة بين الأخلاق والمزاج، والمنفعتان نجدهما في قوله:
“إحداهما في نفسه بأن ينشأ من الطفولة حسن الأخلاق ويصير ذلك له ملكة لازمة، والثانية لبدنه فإنه كما أن الأخلاق الرديئة تابعة لأنواع سوء المزاج، فكذلك إذا حدثت عن العادة استتبعت سوء المزاج المناسب لها، فإن الغضب يُسَخِّنُ جدًّا، والغمَّ يُجفِّف جدًّا، والتَّبليد يُرخي القوة النفسانية … ففي تعديل الأخلاق حفظ الصحة للنفس والبدن جميعًا معًا”. (ابن سينا، 1999، صفحة 220)
ولتعديل الأخلاق وسائل وطرق عديدة، ولأن هذا السن مبدأ هجوم الأخلاق الذميمة، ولأن تمكنها من نفس الصبي يؤدي إلى رسوخها حتى تغدو صعبة الترك، كان من واجب الوالد أن يجنب ولده كل خلق قبيح، مستعينًا بالترهيب والترغيب، والإيناس والإيحاش، والإعراض والإقبال، والحمد والتوبيخ، وأما الضرب فهو آخر الدواء، ويجب أن تكون الضربة الأولى موجعة، كي لا يسوء ظن الصبي بما بعدها فيستهين بالضرب ولا يحفل به، كما أن الضرب لا يُلْجَأ إليه إلا بعد استنفاد الوسائل الأخرى. (ابن سينا، 2007)
أما البرنامج اليومي للطفل في مرحلة الصبا، فإنه يُفَرَّغُ للَّعب طوال اليوم، ويستحم مرتين في اليوم، الأولى عند الاستيقاظ، والثانية قبل الوجبة الأخيرة، ويستمر هذا إلى بلوغه سن السادسة، فإذا بلغها بدأ سن التعليم، فيُدفع إلى المؤدب والمعلم، ولا يلزم الكُتَّابَ دفعة واحدة، بل يُتَدَرَّجُ في ذلك من خلال إنقاص أوقات اللعب بالتدريج لصالح أوقات الدرس والتعب. (ابن سينا، 1999)
المرحلة الأولى في التعليم (التعليم الأساسي)
بين ابن سينا معالم المرحلة الأولى في التعليم ضمن مناقشته قواعد سياسة الرجل ولده في كتاب السياسة، وذكر فيه أنها تبدأ حين اشتداد مفاصل الصبي واستواء لسانه وتَهَيُّئِهِ للتلقين والتعليم، ويكون ذلك في سن السادسة كما ذكر سابقًا، والمواد التي يتعلمها الصبي من المعلم والمؤدب في هذه المرحلة هي القرآن الكريم، والقراءة والكتابة، وأصول اللغة، ومعالم الدين، والشعر، على أن يبدأ في تعلمه الشعر بالرجز لسهولة حفظه الراجعة إلى قصر أبياته وخفة وزنه، كما أن مضمون الشعر يجب أن يكون في مدح العلم والحث على الأخلاق الحميدة. (ابن سينا، 2007)
ويشترط في هذه المرحلة شروطًا بعضها راجعة لطبيعة المعلم، وأخرى ترجع إلى طبيعة البيئة التعليمية، فأما المعلم فتُشترط فيه الخبرة من جهتين، جهة الخبرة في تعليم الصبيان وتأديبهم، وجهة الخبرة في خدمة أشراف الناس والاطلاع على أحوالهم الأخلاقية وآدابهم الاجتماعية وما يستقبحونه من أفعال، ويمدحونه من خصال، كي ينقل تلك الخبرة للصبي، وأن يكون وسطًا ما بين الجمود والخفة أي أن يكون وقورًا رزينًا، بالإضافة إلى العقل والدين والمروءة والنزاهة والنظافة.
أما في شروط البيئة التعليمية فينهى ابن سينا عن تعليم الطفل منفردًا في المنزل، لما في ذلك من تفويتٍ لمنافع التعليم الجماعي، كما أن الانفراد بالصبي مدعاةٌ لضجره وملله ونفوره من التعليم، لكنه يشترط أن يكون مع الصبي في التعليم الجماعي أبناء الجلة ممن تحسن أخلاقهم وآدابهم، ويُرجِع ضرورة التعليم الجماعي إلى الفوائد التالية:
- الصبي يتأثر بأخلاق أترابه أكثر من تأثره بأخلاق الكبار.
- مُراوَحَةُ المعلم بين الصبيان أثناء الدرس تدفع الملل والضجر.
- خلق روح التنافس في طلب العلم وتحصيله بين الطلاب.
- تبادل الأطفال للحديث يطور الفهم ويعزز الحفظ والرواية.
- تكوين الصداقات يسهم في تعزيز مكارم الأخلاق من خلال المنافسة والمباهاة والمساجلة والمحاكاة.
المرحلة الثانية للتعليم (التعليم المهني)
في الفصل الرابع من المقالة العاشرة في قسم الإلهيات من كتاب الشفاء تحدث ابن سينا عن المدينة العادلة وبعض ما يتصل بها من أحكام، ومن ضمن تلك الأحكام تحريم البطالة والتعطل، فلا فرد في المدينة إلا وله عمل يتكسب منه ويفيد به غيره، أما العاطلون عن العمل فهم قسمان، قسم صحيح البدن قادر على العمل لكنه يرفضه، وحكم هذا القسم النفي من الأرض والطرد من المدينة، أما القسم الثاني فهو عاجز عن العمل لمرضٍ أو آفةٍ أصابته، وهؤلاء يوضعون في موضع مناسب لهم، على أن يرعاهم قَيِّمٌ يكفل احتياجاتهم ويكفي المدينة شرهم مستعينًا بالمال العام الذي توفره المدينة من موارد عدة. (ابن سينا، 1960)
وتحريم البطالة لا يعني إطلاق العنان لكل وجوه الكسب، فهو يحرم مجموعة من المهن والأعمال التي تضر بالمصلحة العامة كالقمار والسرقة واللصوصية والربا (ابن سينا، 1960)، ويصنف وجوه الكسب على قسمين في كتاب السياسة: الأول التجارة المبنية على استثمار المال، والثاني الصناعة المعتمدة على المهارات، ثم إنه يفضل الصناعة على التجارة، لأن المال -عماد التجارة- سريع التلف، بعكس الصناعة التي تستند إلى مهارات لا يفقدها الإنسان بسهولة، ثم يقسم صناعات ذوي المروءة على ثلاثة أقسام كما في الشكل التالي:
رسم توضيحي 6: صناعات ذوي المروءة (ابن سينا، كتاب السياسة، 2007)
ويلاحظ على التقسيم السابق غياب الصناعات اليدوية كالنجارة والحدادة وغيرها، بالإضافة إلى عدم تضمنه الزراعة والرعي والصيد، ولا يعني هذا أن تلك الصناعات غير المذكورة لا تتمتع بأهمية في مدينته، لكنه قد يراها من الصناعات التي لا تليق بعلية القوم وأهل الشرف والفضل، لذا لم يحفل بها، ولم يتناولها ضمن كتاب السياسة الذي يوجهه إلى فئة محددة من الناس دون غيرهم، كما أنه قد تقدم القول في اعتباره المهن المنحطة كالخدمة من شأن العبيد.
إذن فللمهنة أهمية قصوى في إقامة المدينة العادلة، ولذلك يشدد ابن سينا على ضرورة البدء بالتعليم المهني بعد إنهاء الصبي مرحلة التعليم الأولى بما تضمنته من مواد القرآن الكريم وأصول اللغة والأدب، فبعد إنهاء ذلك يجب تحديد المهنة المناسبة للصبي، ولتحديدها يقرر مبدأين: الأول ميل الصبي إلى صنعة يحبها، والآخر مدى مناسبتها لطبيعته وقابلياته، فلا يُتْرَكُ الصبي ليختار مهنة يحبها دون أن تناسبه، وهنا يأتي دور المؤدب المطلع على قابليات الصبي وطبيعته، فيحدد له المهنة المناسبة ويحثه على تعلمها.
ويحذر من إجبار الصبي على تعلم مهنة لا تميل إليها نفسه، ولا تناسب قابلياته وطبائعه، بل إنه يحذر من تدخل الوالد في تحديد المهنة، ويستشهد بضياع أعمار كثير من الصبية في تعلم ما لا يصلحون له أو لا يصلح لهم، ومعها تضيع جهود الوالدين والمربين، لذا يجعل مهمة تحديد المهنة المناسبة شِرْكَةً بين الصبي والمربي، مع إتاحة المجال لتغيير المسار المهني في حال ثبات عدم صلاحيته للصبي.
وبعد تحديد المهنة، يحدد المؤدب المواد العلمية اللازمة لإتقانها، فإذا اختار مهنة الكتابة فإن المؤدب يضيف إلى درس اللغة دروسًا في الرسائل والخطب والمحاورات، ودروسًا في الحساب وتحسين الخط، ويُنْزِلُه إلى الميدان العملي (التربية العملية)، فيُدْخِلَه إلى الديوان ليرى بنفسه سير العمل، وكذلك الحال في سائر المهن والصناعات التي وصفها بصناعات ذوي المروءة.
فإذا أتقن الصبي شيئًا من فنون صناعته، فإنه يؤمر ببدء التكسب منها، كي يذوق حلاوة الكسب فيحثه ذلك على إحكام الصنعة والتعمق فيها دون ضجر أو ملل، بالإضافة إلى تعلمه الاعتماد على النفس قبل الاستقلال بنفسه، إذ إن كثيرًا من أبناء الأغنياء يفشل في الاستقلال نتيجة عدم تعوده عليه قبل ذلك.
وبعد التأكد من تحلي الولد بالأدب والأخلاق، وإحكامه الصناعة التي يتكسب منها، فعلى الوالد أن يسعى في تزويجه، وينتقل بذلك إلى الاستقلال التام بشؤون حياته، وينتهي دور الأب والمؤدب، لكن هذا لا يعني أن عملية التربية تنتهي باستقلال الفرد، إذ يأتي بعدها دور التربية الذاتية.
التربية الذاتية
يمكن بناء تصور حول التربية الذاتية عند ابن سينا بمراجعة مجمل إنتاجه العلمي الذي بث فيه من الوصايا والملاحظات المفيدة في هذا الشأن، وحاصل ما يؤدي إليه النظر أن الشيخ الرئيس يرى ضرورة انتباه الإنسان لنفسه وجسده طوال حياته، وأن لا يأمن المرء الانحراف أو الانتكاس أو الاختلال، فبمواصل الإنسان تدبير نفسه وجسده يضمن تحقيق الكمال المنشود، أما مجالات التدبير فهي حسب الشكل التالي:
رسم توضيحي 7: مجالات التربية الذاتية عند ابن سينا
تدبير العقل
لما بيَّن ابن سينا تنوع قوى النفس الواحدة، وقسمها إلى قوى نباتية وحيوانية وإنسانية، وفصَّل الحواس فكانت حواسًّا ظاهرة (الحواس الخمس) وأخرى باطنة، عقد كلامًا حول غلبة إحدى الحواس على البقية، وذهب فيه إلى أن النفس لا يمكنها تفعيل أكثر من قوة في وقت واحد، ويلخص هذا بقوله: “فإن النفس إذا اشتغلت بالأمور الباطنة أن تغفل من استثبات الأمور الخارجة فلا تستثبت المحسوسات حقها من الاستثبات، وإذا اشتغلت بالأمور الخارجة أن تغفل عن استعمال القوى الباطنة” (ابن سينا، 1975، صفحة 152).
فإشغال النفس بالمحسوسات يُضْعِفُ قوى الحس الباطني عن أداء أعمالها، والعكس صحيح أيضًا، فالانصراف عن المحسوسات الظاهرة والانكباب على الحس الباطني يضعف قوى الحواس الخمس، ولكلا الحالين مفاسد للعقل، لذا لا بد من تعاضد القوى الظاهرة والباطنة، وتدريب كل قوة على أداء أعمالها، كي لا يكون الإنسان فريسة المعارف الجزئية التي ترد إليه من الحواس الظاهرة نتيجة إهمال الحواس الباطنة، ولا يقع في فخ توهم أمور لا تطابق الموجودات الخارجية نتيجة إهماله الحس الظاهر، كما يحدث عند المجانين والخائفين والنائمين وضعاف العقول.
وعليه يوصي بتدريب قوى العقل بقسميها، وكثرة النقد والتمحيص لقهر التخيلات الكاذبة، وهذا بدوره يهيِّئ العقل أكثر لاستقبال الفيض، واكتساب المعرفة، لذا فإن هدف تربية العقل رفع قابليته لاستقبال المعارف والعلوم من العقل الفعَّال كما تبين سابقًا، ويكون ذلك بأمور بعضها راجع إلى المزاج وبعضها إلى الأخلاق، وكثير منها عائد إلى تدريب قوى العقل واستثمارها بعدل، لذا فإن الأنبياء أكثر الناس قدرة على استقبال ذلك الفيض لاعتدال أمزجتهم واستقامة أخلاقهم وكمال عقولهم، ثم إن الفيض لا يقتصر على حال اليقظة بل يشمل الأحلام والمنامات، ولا يختص بالأنبياء دون غيرهم، بل يكون لجميع البشر حسب قدراتهم.
وتفسير ذلك عنده أن العقل الفعال لا يبخل في فيضه ولا يحتجب، لكن النفوس الإنسانية هي التي تحتجب عنه، ولا تتهيأ لفيضه، ويقول في ذلك بعد بيانه وجود جميع المعاني الكائنة في العالم عند الله D والملائكة العقلية والسماوية: “إن الأنفس البشرية أشد مناسبة لتلك الجواهر الملكية منها للأجسام المحسوسة، وليس هناك احتجاب ولا بخل، إنما الحجاب للقوابل إما لانغمارها في الأجسام، وإما لتدنسها بالأمور الجاذبة إلى الجنبة السافلة، وإذا وقع لها أدنى فراغ من هذه الأفعال حصل لها مطالعة لما ثَمَّ” (ابن سينا، 1975، الصفحات 158-159).
وبمقدار همة الإنسان يكون الفيض، فإذا انشغل فكره بأهله وذويه وحياته الاجتماعية فاض عليه من العقل الفعَّال ما يشبع ذلك الهم، وإذا اهتم بالمعقولات لاحت له، وهكذا في سائر الأمور، ولعل هذا يفسر ما تقدم من خبر لجوء الشيخ الرئيس إلى الله D حين تستعصي عليه مسألة ما، وتضرعه في المسجد، وعودته للتفكير حتى يرى في منامه حل تلك المسألة.
ولا بد في تربية العقل من استيعاب الفرق بين التَّذَكُّر والتَّعَلُّمِ، فقد بين الشيخ انحصار هاتين الصفتين في الإنسان دون سائر الكائنات، وأنهما ليستا مترادفتين، كي لا يُظَنَّ بأن الحفظ هو العلم، ثم عقد مقارنة بينهما نوجزها في الجدول التالي: (ابن سينا، 1975)
جدول 5: الفرق بين التذكر والتعلم
من المقارنة السابقة يتبين أن التذكر والتعلم يشتركان في صفة الانتقال من أمر معلوم إلى أمر آخر، لكنهما يختلفان في طبيعة النتيجة، فالنتيجة الحاصلة في التذكر هي الانتقال من أمر معلوم إلى أمر معلوم آخر، وهذا معنى ما ذهب إليه من أن المُتَذَكِّر يطلب حصول أمر في المستقبل مطابقٍ لحاصِلٍ في الماضي، أما التعلم فالانتقال فيه يكون من المعلوم إلى المجهول، فنتيجته جديدة لم تكن معلومة من قبل.
وفي التذكر لا تكون العلاقة بين المقدمة والنتيجة علاقة ضرورية، فالمرء قد يتذكر معلمه حين يتذكر كتابًا درسه عليه، ولا يلزم من هذا أن يكون تذكر الكتاب موجبًا لتذكر نفس المعلم عند جميع البشر، ويمكن أن نقول بأن التذكر عملية ذاتية محضة، لا يشترك في نتائجها البشر، بينما التعلم عملية موضوعية تستهدف اكتشاف العلاقة الضرورية بين المقدمة والنتيجة.
ويتفرع عن تلك المقارنة مقارنةٌ بين الذكر والفهم، فيوضح ابن سينا العلاقة العكسية بينهما، فإذا قوي التذكر أضعف الفهم، وإذا قوي الفهم ضعف التذكر، ويرجع ذلك إلى أسباب تعود إلى الحالات النفسية والأمزجة المادية، فالتذكر يحتاج مزاجًا يابسًا، والفهم يحتاج مزاجًا رطبًا، ولكن النفس إذا لم تنشغل بشواغل أخرى كانت قادرة على الحفظ رغم رطوبتها كما عند الصبية، وإذا انشغلت عن الأمر بالشواغل لم تقوَ على التذكر كما عند الشباب والشيوخ رغم ميل مزاجهم إلى اليبوسة. (ابن سينا، 1975).
فإذا ضممنا هذا الكلام إلى ما تقدم من كلام ابن سينا عن أثر العقل في العالم، وقدرته على تغييره، يمكن الوصول إلى أن الإنسان بترقية عقله يكون قادرًا على غلبة طباعه، والترقي لا يكون إلا بتعهد العقل بالتربية والتدريب والتدبير، كما أن الإدراك لا يكون إلا بآلة جسمانية كما استدل عليه في (ابن سينا، 1975، الصفحات 166-170) ولهذا لا ينفك الإنسان عن الحاجة إلى تعهد عقله وبدنه ما دامت النفس متصلة بالبدن.
ويُجْمِلُ القولَ في ذلك عند حديثه عن اتصال النفس بالعقل الفعَّال فيقول في إشارة من إشاراته في علم الطبيعة: “كثرة تصرفات النفس في الخيالات الحسية، وفي المثل المعنوية اللتين في المُصَوِّرَة والذاكرة باستخدام القوة الوهمية والمفكرة، تكسب النفس استعدادًا نحو قبول مجرَّداتها عن الجوهر المفارق لمناسبةٍ ما بينهما” (ابن سينا، 1435، صفحة 367)
تقدم في الجدول (1) الحديث عن قوى الحس الباطني، ومنها قوة الخيال أو القوة المصورة التي تحفظ صورة المحسوسات بعد غيابها عن الحاسة، كصورة “زيد” التي نتصورها في الذهن دون أن يكون زيدٌ أمامنا، ومنها أيضًا القوة الحافظة أو الذاكرة التي تختزن المعاني غير المحسوسة كمعنى العداوة والصداقة والعدالة، ومن تلك القوى أيضًا القوة الوهمية والمفكرة التي تعمل على المخزون الحسي والمعنوي في المصورة والذاكرة، فتتصرف فيه من خلال التفكير منتجةً أفكارًا وصورًا جديدة.
وفي النص السابق من الإشارات يوضح ابن سينا كيفية اتصال النفس بالعقل الفعال لتستقبل منه فيض العلم، ويكون ذلك من خلال تطوير استعدادها لذلك الفيض، والاستعداد يحصل من خلال كثرة التفكير في صور المحسوسات المحفوظة في القوة المصورة، فالإنسان تكون في ذهنه صورة لزيد وأخرى في عمرو وثالثة لمحمد، فيكثر التفكير في هذه الصور بحثًا عن المشترك، فإذا حصل ذلك استعدت النفس لاستقبال معنى “الإنسانية” من العقل الفعال، وكذلك الحال في المعاني غير المحسوسة التي تختزنها القوة الذاكرة، فكثرة التفكير في معنى صداقة زيد وصداقة عمرو وصداقة محمد تهيئ النفس لاستقبال المعنى المجرد الكلي لمفهوم “الصداقة” من العقل الفعال.
وعليه تتبين أهمية التربية العقلية، وتدريب الذهن على كثرة التفكير كي يكون أكثر استعدادًا لاستقبال فيض العقل الفعَّال، وتحصيل المعارف الكلية، إذ بترك التدريب الدائم تضعف النفس عن ذلك، وتركن إلى المحسوسات، أو تهجم عليها الأوهام الباطلة.
التدبير الخُلُقي
رغم تأكيد الشيخ الرئيس على أهمية مرحلتي الطفولة والصبا في التكوين الخلقي للإنسان، إلا أنه لا يرى للتربية الخلقية حدًّا تتوقف عنده، بل هي عملية مستمرة، وهذا يستدعي انتباهًا دائمًا إلى أخلاق الوسط، ففاعلية قوى النفس (النباتية والحيوانية والإنسانية) فاعلية دائمة، والصراع بينها قائم مدى العمر، لذا لا بد من رعايةٍ دائمةٍ للنفس كي لا تميل في وقت من الأوقات نحو طرف الإفراط أو التفريط، بل إنه يرى أن في الإنسان حربًا مستعرة بين العقل والنفس الأمارة، فقال: “من أوائل ما يلزم من رام سياسة نفسه، أن يعلم أنَّ له عقلًا هو السائس، ونفسًا أمَّارةً بالسوء كثيرة المعايب جمة المساوئ في طبعها وأصل خلقها هي المسوسة” (ابن سينا، 2007، صفحة 65)
ثم إن التربية الخلقية معتمدة على المعرفة، إذ لا إصلاح لفساد النفس إلا بمعرفة الفساد نفسه، والحكم عليه بأنه فاسد، وتقدير مدى تمكن ذلك الفساد من النفس، فهذه مقدمات واجبة في التربية الخلقية، فمن شرع في إصلاح نفسه دون إحاطة بجوانب فسادها قد يهمل إصلاح بعض موارد الفساد، فتترسخ في نفسه، ولا تظهر له إلا بعد استفحالها بصورة يصعب معها علاجها، كمن يعالج ظاهر المرض ويترك علة الحقيقية، فإنه إذا شفي بعض الشفاء لم يأمن الانتكاسة من جديد.
ويتفرع عن ذلك وجوب استعانة الإنسان بغيره لتظهر له مفاسد نفسه، فالإنسان المتفرد قد يعجز عن تشخيص مواضع الفساد بسبب عوامل يعددها ابن سينا معتمدًا على طبيعة الإنسان، فالعامل الأول ما طبع عليه الإنسان من “الغباوة عن مساويه” أي لا يراها لانشغاله عنها، والعامل الثاني هو مسامحة الإنسان لنفسه أثناء المحاسبة، فيهوِّن المفاسد في نفسه ويُعْظِمُهَا في غيره، أما العامل الثالث فهو مخالطة الهوى للعقل مما يمنعه عن كشف أحوال نفسه على وجه الدقة، لهذه العوامل وجب اعتماد الإنسان على غيره في معرفة مفاسد نفسه. (ابن سينا، 2007)
لذا يوصي ابن سينا بضرورة اتخاذ الإنسان قرناء خير يعينونه على استكشاف معايبه، ويظهر أمامهم بطبيعته دون تَجَمُّلٍ أو ادعاء، ويُحَرِّص على الابتعاد عن قرناء السوء الذين يُزَيِّنُون عيوبه بنفاقهم، ثم إن عليه أن يقبل من أخلائه والمقربين منه النصيحة والمكاشفة، وألا يصدر عنه ما يجعلهم يتحامون مصارحته ومكاشفته، فيخسر بذلك فوائد الصحبة، وتبقى عيوبه دون كشف.
ثم إنه يوجب في التربية الذاتية للأخلاق أن يطلع الإنسان على أخلاق الناس، وأن يعتقد في نفسه أنه معرَّضٌ لما يتعرضون إليه من إفراط أو تفريط، فينظر في مناقبهم ومثالبهم، ثم يقيسها على نفسه، فينظر في مدى نقصه وكماله، فإذا وجد في غيره فضيلة لا يجدها في نفسه فإن عليه أن يسعى إلى التحلي بها لأنها غير ممتنعة عليه، وإذا وجد في غيره رذيلة غير موجودة في نفسه، فإن عليه الحذر من تسربها إليه.
أما وسائل التربية الذاتية على الأخلاق، فهي عنده محصورة في الثواب والعقاب الذاتيين، فإذا أطاعت نفسه العقل أثابها بإكثار حمدها وجلب السرور إليها وتمكينها من بعض لذاتها، وإذا أساءت ومالت إلى شهواتها وامتنعت عن الانقياد للعقل عاقبها بإكثار ذمها ولومها واستشعار الندم والحرمان من بعض اللذات المباحة. (ابن سينا، 2007)
تدبير الروح:
يرى ابن سينا أن للعبادة شِقَّيْن، شقٌّ يتعلق بالسياسة الشرعية، وآخر يتعلق بالمعرفة والسعادة الروحية، أما الأول فقد مر ذكره عند الحديث عن الشريعة والنبوة والمجازي، وخلاصته أن العبادات ضرورية لتذكير الناس بالله D، وتفعيل مبدأ الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة، إذ إن تكرار العبادات يضمن استذكار الإنسان للفضيلة وما أعده الله من ثواب للمتحلين بها، فتشتاق النفس إلى تلك الفضائل، وكذلك يتذكر الإنسان الرذائل وما أُعِدَّ للمتصفين بها من عقاب، فترتدع نفسه عن المعاصي الذاتية والاجتماعية، ويُحْفَظَ نظام العدل في المدينة العادلة، وهذا دور العبادة في السياسة الشرعية.
ويسمي الصلاة المتعلقة بالسياسة الشرعية بالعبادة الظاهرة الرياضية، وسبب اعتبارها من الرياضات أنها متعلقة بالبدن كالقيام والركوع والذكر، وهي قاعدة الإيمان بالله D، وتكون معلومة الأعداد والأوقات والكيفيات، ووجوبها معلوم على سائر الناس لتضافر النصوص الشرعية على ذلك، ويقول صدد ذلك: “وعلم الشارع أن جميع الناس لا يرتقون مدارج العقل فلا بد لهم من سياسة ورياضة بدنية تكليفية، تُخالف أهواءهم الطبيعية، فسلك طريقًا ومهد قاعدة من هذه الأعداد وهي أعم، وفي الحس أعظم ، لترتبط بظواهر الإنسان، وتمنعه من التشبه بالبهائم وسائر الحيوانات، وأمر بهذا الأمر القاهر فقال J : صلوا كما رأيتموني أصلي. وفي هذا مصلحة كثيرة وفائدة عامة لا تخفى على العاقل وإن لم يقرَّ بها الجاهل” (ابن سينا و الخيام، 2004، صفحة 14)
أما دور العبادة في تحصيل المعرفة والسعادة الروحية، فقد فصَّله في رسالة الصلاة من ضمن الرسائل المنشورة في (ابن سينا و الخيام، 2004)، واعتمد فيه على مقدمات حول قوى النفس الثلاث، خلص فيها إلى أن الصلاة الباطنية هي الصلاة الحقيقية، وهي مشاهدة الحق بالقلب الصافي والنفس المجردة المطهرة عن الأماني، ولا تكون بالحركات الجسدية والقولية، لكن بحركات العقل وخواطر النفس، وعلتها أن النفس لا تنتمي إلى عالم المادة، بل إلى عالم الجواهر العقلية المجردة، وبمقدار صفائها وتجردها تتصل بتلك الجواهر العقلية، فيكون في اتصالها سعادتها، بالإضافة إلى أنها بذلك الاتصال تفيض عليها المعارف الحقة، ويخلص إلى أن الصلاة المقصودة في الحديث الشريف “المصلي يناجي ربه” إنما هي الصلاة الباطنية، لأن الرب D لا يُناجَى بالحركات الجسدية والألفاظ المنطوقة، فهو مجرد عن المادة وكل لوازمها، فلا يُناجَى إلا بحركة النفس إليه والتأمل في عظمته وعرفان النفوس المجردة عن لوازم المادة من زمان ومكان، لذا هذه الصلاة لا وقت محددًا لها، ولا حركات فيها ولا أقوال، ولا تجب هذه الصلاة على كافة الناس، بل هي واجبة على من غلبت قواه الروحانية قواه البدنية، فتَرْكُها عند هؤلاء معصية، وعند غيرهم مباح لعدم قابلية نفوسهم لها.
من البيان السابق نرى أن للعبادة في فكر ابن سينا فائدتين، فائدة دنيوية تتمثل في إقامة نظام العدل، ومنع الإنسان من التمادي في الضلال والظلم لنفسه ولغيره، وفائدة أخروية تتمثل في ترقي النفس الإنسانية ونيلها درجة استحقاق فيض المعارف الإلهية، مما يُعِدُّها لمعادها وسعادتها الأخروية، لذا كان لتعهد الروح بالعبادات دور عظيم في الفكر التربوي عند ابن سينا، وتكرارها مدى العمر يعني مواصلة التربية الروحية مدى الحياة، وحياته مطابقة لاعتقاده، فكما ذكر في سيرته كانت له أحوال عبادية يتضرع فيها إلى الله D كلما دهمته مسألة أعجزته، كما أن له أدعية خاصة كان يدعو بها وذكر بعضها في رسائله.
تدبير البدن
في كتابه القانون خصص ابن سينا جزءً منه في مناقشة التدبير المشترك للبالغين، وضمنه آراءه في التربية البدنية بالتفصيل، وبين فيه أن الغرض من التربية البدنية هو المحافظة على الصحة، ويرى بناءً على ذلك أن البالغ محتاج إلى ثلاثة أمور هي عماد حفظ الصحة، أولها الرياضة، وثانيها التغذية ، وثالثها النوم، ثم أخذ يفصل في كل واحد من هذه المجالات. (ابن سينا، 1999)
أ- الرياضة:
يعرفها بأنها: “حركة إرادية تضطر إلى التنفس العظيم المتواتر” (ابن سينا، 1999، صفحة 222)، ويذهب إلى أن الاعتدال في ممارستها يغني عن كل علاج للأمراض المادية والمزاجية، ثم إنه ميَّزَ بين الرياضة التي تحدث خلال الأعمال الشاقة، والرياضة الخالصة التي تُمارَس بغرض المحافظة على الصحة، ويبين أن ما يقصده هو النوع الثاني.
ويقسم أنواع الرياضة الخالصة على درجات تبدأ بالرياضات اللينة كالترجيح وركوب الزوارق، ثم رياضات أقوى مثل ركوب الخيل والجمال وغيرها من الدواب، ورياضات شديدة كالجري والمصارعة وما إلى ذلك، واعتمد على هذا التقسيم في وصف الرياضات المختلفة لكل إنسان حسب عمره، وأحواله البدنية، وعلله المرضية، ثم إنه لم يغفل أمر الدَّلك المهيِّئ للرياضة (دلك الاستعداد) المعروف بالإحماء، ودلك الاسترداد الآتي بعد ممارسة الرياضة لتلافي الإعياء.
وأدرج تحت الرياضة فصلًا تحدث فيه عن الاستحمام، وما ينبغي لكل إنسان فعله عند الاغتسال في الحمامات حسب مزاجه وعلله وطبيعة جسده، وعمره.
ب- الغذاء:
يقسم ابن سينا الغذاء قسمين، القسم الأول هو الغذاء الأساسي كاللحوم والحنطة، والغذاء الدوائي كالفواكه والغذاء، وينهى عن أن يكون البرنامج الغذائي معتمدًا على الأغذية الدوائية، ثم يوجه بعض النصائح الغذائية للمحافظة على صحة البدن، مراعيًا فيها مزاج الفرد، فلكل إنسان مزاج خاص يحكم تغذيته، ومن توجيهاته الغذائية:
- عدم إجبار النفس على الطعام من دون شهوة.
- التحذير من تجويع النفس وعدم إشباع الشهوة للطعام.
- تجنب الامتلاء الشديد بالطعام في جميع الحالات.
- أكل الطعام الحار في الشتاء والبارد في الصيف.
- الحذر من الجوع الكاذب كالذي يصيب السكارى أو المتخمين.
- المشي بعد الأكل في حال التخمة.
- في حال النوم بعد الأكل ترفع الوسادة لتكون الأعضاء مائلة إلى الأسفل فيسهل الهضم.
- مراعاة المزاج في اختيار الأغذية.
- تجنب خلط بعض الأغذية كالسمك واللبن.
- تجنب بعض الأغذية كالسمك بعد الرياضات المتعبة.
- عدم استمراء الأغذية الضارة والاعتياد عليها.
- العمدة في التغذية التجربة، فبالتجارب يكتشف الإنسان ما يصلح لبدنه وما يضره.
- عدم تعويد البدن على عدد معين من الوجبات، فيقسم حاله في الأكل بحيث يأكل وجبة واحدة في يوم، وفي اليوم الذي يليه يأكل وجبتين إحداهما في الصباح والأخرى في المساء، ثم يراوح بين الحالين في بقية الأيام.
- تقليل كمية الطعام مع التقدم في السن.
أ- النوم:
يرى ابن سينا أن النوم المعتدل يريح قوى النفس، ويُمَكِّن العمليات البيولوجية في البدن، ويريح قوى النفس، ويعيد نشاط القوى، ويخفف الإعياء الناتج عن قوى التحلل في البدن، لذا لا بد من الاعتدال في ساعات النوم، وأن لا يفرط الإنسان فيه أو في السهر فكلاهما مضر للبدن والعقل، ثم يوجه بعض النصائح في تدبير النوم منها:
- تجنب النوم في حال امتلاء المعدة بالطعام.
- نوم النهار مضر للبدن ويسبب كثيرًا من الأمراض.
- ابتداء النوم بالاضطجاع على الجانب الأيمن ثم الانقلاب إلى الأيسر، وتجنب الاستلقاء على الظهر.
- يجب إطالة مدة النوم عند بلوغ سن الشيخوخة لأن النوم يرطب البدن ويقاوم غلبة المزاج اليابس.
- عدم النوم في حال خواء البطن من الطعام.
وقد أودع ابن سينا مجمل نصائحه في التربية البدنية في كتابه القانون، وفيها تفاصيل كثيرة تُطْلَبُ في موضعها.
الخلاصة
نظر ابن سينا إلى الإنسان ضمن ثنائية النفس والجسد، أما النفس فمجردة ذات قوى نافذٌ سلطانها على الجسد، وأما الجسد فمادي يتكون من الأركان الأربعة بعد امتزاجها بهيئة خاصة، مكونة بدنًا له مزاجه المتفرد، ومن هذا المنطلق درس الإنسانَ في بُعْدِه المعنوي ضمن أبحاث الفلسفة، وفي بُعْدِه المادي في بحوث الطب، وحرص على الجمع بين البعدين من خلال دراسة التفاعل بينهما في مجالات المعرفة والأخلاق والسياسة.
وقد آمن بأن النفس تسعى إلى كمالها من خلال التَّشَبُّهِ بعالم العقول المجردة، وسبيلها في ذلك التَّعَلُّم والتَّخَلُّق، ويبدأ تعلمها بإدراك المحسوسات (المعرفة)، ثم تجريد الأعراض المادية عنها للوصول إلى الأحكام الكلية (العلم)، وهي في ذلك محتاجة إلى شيئين، فهي تحتاج البدن لأنها به تدرك المحسوسات، وتحتاج إلى العقل الفَعَّال لتستقبل منه فيض العلم، واتصالها بالبدن لازم، أما اتصالها بالعقل الفعال فهو نتاج ترقيها وتكاملها وتسلطها على قوى البدن، ومن هنا تنبع أهمية الأخلاق التي تهيئ العقل لاستقبال ذلك الفيض، كما تضبط علاقة النفس بالجسد فلا تطغى القوى المادية الجاذبة للنفس نحو عالم المادة.
ثم إن النفس محتاجة إلى العبادة كي تستعين بها على مقاومة قوى المادة، وتذكر المعاد، والتعرف على بارئ العالم D، وتكرار الاتصال به للتخفيف من سطوة الشهوات الحيوانية، وكسر حدة النزعات المادية التي تجذب النفس إلى عالم المادة، وتعيقها عن تحقيق كمالها المنشود، وتحصيل سعادتها المطلوبة.
وللجسد مكانة في فلسفته، من حيث كونه آلة الإدراك من جهة، ومن حيث تأثر النفس بمزاج البدن من جهة أخرى، لذا درس أنواع المزاج واختلافاته في المراحل العمرية، وآمن بأن لتدبير صحة البدن أثر كبير في ترقي النفس ووصولها إلى سعادتها، لذا شملت التربية الذاتية عنده جوانب الإنسان نفسًا وعقلًا وروحًا وبدنًا.
وبعد دراسته الإنسان باعتباره فردًا، انتقل إلى دراسته باعتباره عضوًا في مجتمع، وتحدث عن المدينة العادلة وما يلزمها من شريعة ونظام في الحكم، وما تحتاجه من ثواب وعقاب يحفظان لها ذلك النظام، وما يلزمها من أخلاق وآداب، فبرز دور التربية في إعداد الأبناء للاستقلال بحياتهم ضمن شروط المجتمع، فبيَّن في ذلك الدور الاجتماعي للمعرفة والأخلاق والعبادة.
وعليه يمكن القول بأن لفكره التربوي ثلاثة أبعاد، بُعْدٌ معنوي يتمثل في البناء النظري الذي رسم من خلاله صورة النفس الإنسانية، ودرس علاقتها بعالم المادة وعالم العقول المجردة، وبُعْدٌ مادي درس فيه البدن دراسة طبية بيَّن فيها كيفية المحافظة على صحته، وعلاجه في حال مرضه، والبُعْدُ الثالث اجتماعي تناول فيه حاجة الإنسان إلى المجتمع، وكيفية العيش في مجتمع المدينة العادلة، ويجعل الهدف من كل ذلك تحصيل السعادة في الدارين.
المصادر:
- الحسين بن عبد الله ابن سينا. (1975). الشفاء ، الطبيعيات ، الفن السادس ، النفس. (الأب جورج قنواتي ، سعيد زايد، تحقيق) القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
- الحسين بن عبد الله ابن سينا. (2007). كتاب السياسة. (علي محمد إسبر، تحقيق) سوريا: بدايات.
- الحسين بن عبد الله ابن سينا. (1298). تسع رسائل في الحكمة والطبيعة. القسطنطينية: دار الجوائب.
- الحسين بن عبد الله ابن سينا. (1435). الإشارات والتنبيهات ، الجزء الثاني في علم الطبيعة. قم: نشر البلاغة.
- الحسين بن عبد الله ابن سينا. (1435). الإشارات والمتنبيهات، الجزء الثالث في علم ما قبل الطبيعة. قم: نشر البلاغة.
- الحسين بن عبد الله ابن سينا. (1958). كتاب الشفاء ، المنطق ، البرهان. (أبو العلا عفيفي، تحقيق) القاهرة: وزارة التربية والتعليم.
- الحسين بن عبد الله ابن سينا. (1960). الشفاء ، الإلهيات. (الأب قنواتي ، سعيد زايد، تحقيق) القاهرة: وزارة الثقافة والإرشاد القومي.
- الحسين بن عبد الله ابن سينا. (1999). القانون في الطب. بيروت: دار الكتب العلمية.
- الحسين بن عبد الله ابن سينا. (2007). أحوال النفس. (أحمد فؤاد الأهواني، تحقيق) باريس: دار بيبليون.
- الحسين بن عبد الله ابن سينا. (2009). كتاب التعليقات. (حسن العبيدي تحقيق، تحقيق) دمشق: دار الفرقد.
- الحسين بن عبد الله ابن سينا. (الطبعة الأولى). المباحثات. قم: انتشارات بيدار.
- الحسين بن عبد الله ابن سينا، و عمر بن إبراهيم الخيام. (2004). جامع البدائع. (محمد حسن إسماعيل، تحقيق) بيروت: دار الكتب العلمية.
- تقي الدين بن عبد القادر الغزي. (1983). الطبقات السنية في تراجم الحنفية. (عبد الفتاح محمد الحلو، تحقيق) الرياض: دار الرفاعي.
- حسن معلمي. (2014). إطلالة على نظرية المعرفة في الفلسفة الإسلامية. بيروت: دار الولاء.
- عبد الأمير شمس الدين. (1988). المذهب التربوي عند ابن سينا من خلال فلسفته العملية. بيروت: الشركة العالمية للكتاب.
- غلام حسين الديناني. (2007). القواعد الفلسفية العامة في الفلسفة الإسلامية. بيروت: دار الهادي.
- فخر الدين الإسفرائيني النيسابوري. (1383). شرح كتاب النجاة لابن سينا – قسم الإلهيات. طهران: جامعة طهران.
- كاظم البجنوردي. (1998). دائرة المعارف الإسلامية الكبرى ، الجزء الثالث. طهران: مركز دائرة المعارف الإسلامية الكبرى.
- محمد بن الحسن الحر العاملي. (1414). تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، الجزء 21. مؤسسة آل البيت لإحياء التراث: بيروت.
- محمد عثمان نجاتي. (1980). الإدراك الحسي عند ابن سينا (الإصدار الثالث). القاهرة: دار الشروق.
- موفق الدين أحمد بن القاسم الخزرجي ابن أبي أصيبعة. (1995). عيون الأنباء في طبقات الأطباء. (نزار رضا، تحقيق) بيروت: مكتبة الحياة.
- موقع حديث. (8 مارس, 2018). (موقع حديث، المحرر) تم الاسترداد من http://hdith.com/?s=%D9%84%D8%A7+%D8%AA%D8%B3%D8%AA%D8%B1%D8%B6%D8%B9+%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%85%D9%82%D8%A7%D8%A1
_________________
([1]) هو إسماعيل بن علي بن الحسين الرازي، من كبار علماء المذهب الحنفي، وكان معتزلي المذهب في الكلام، وكان إمامًا في القراءات والحديث والرجال والأنساب والفرائض والحساب والفقه المقارن وعلم الكلام (الغزي، 1983).
([2]) راجع نظريته في الفيض والعقول العشرة كما بينها في الرسالة النوروزية.
([3]) الحد الأوسط عند المنطقيين هو الرابط بين الحدين الأكبر والأصغر. ففي قولنا. “كل مؤمن حسن الخلق، وعلي مؤمن، إذن فعلي حسن الخلق” يكون الحد الأصغر هو موضوع النتيجة (علي) ويكون الحد الأكبر هو محمول النتيجة (حسن الخلق) ويكون الحد الأوسط هو لفظ “مؤمن” الذي كان محمولا في المقدمة الصغرى وموضوعا في المقدمة الكبرى واختفى في النتيجة، وهو الذي يمثل العلاقة بين طرفي القياس. ويسمى علة الحكم.
([4]) نسبةً إلى الهَيُولَى: وهي لفظة يونانية بمعنى الأصل ، وعرفها ابن سينا في رسالة الحدود بقوله: “الهيولى المطلقة فهي جوهر، ووجوده بالفعل إنما يحصل لقبول الصورة الجسمية لقوة فيه قابلة للصور، وليس له في ذاته صورة تخصه إلا معنى القوة، ومعنى قولي لها “هي جوهر” هو أن وجودها حاصل لها بالفعل لذاتها، ويقال هيولى لكل شيء من شأنه أن يقبل كمالًا ما، وأمرًا ليس فيه” (ابن سينا، 1298، صفحة 58)
([5]) الظِّئرُ من النساء التي تحنو على ولد غيرها وترعاه وترضعه، وقد رُوِيَ في مصادر أهل السنة نهي النبي J عن استرضاع الحمقاء من خبر نس بن مالك وأم المؤمنين عائشة وعبد الله بن عمر وعمر بن الخطاب F، بالإضافة إلى خبر زياد السهمي، وجميع تلك الأحاديث ضعيفة أو مرسلة (موقع حديث، 2018)، كما أن المصادر الشيعية نقلت مجموعة من الأحاديث لها نفس المضمون لكن من طرق أخرى، كالباب الذي وضعه الحر العاملي بعنوان “كراهة استرضاع الحمقاء والعمشاء”، وتلاه بأبواب أخرى تؤكد فكرة أثر اللبن في أخلاق الرضيع. (الحر العاملي، 1414)