قراءة في نظريات العلامة فضل الله
أ. مجيد مرادي(*)
ترجمة: حسن مطر
(a) تمهيد
يشكل «النص» و«الواقعية» مصدرين رئيسين في الفكر السياسي لدى السيد محمد حسين فضل الله. يذهب السيد فضل الله إلى القول بأنّ الذي نحصل عليه من النصوص هو القيم، وأما الذي يتبلور ويتعين بالالتفات إلى الحقائق والواقعيات في كلّ عصر وزمان فهو الأشكال والنماذج. وتبرز حيوية النص من خلال قابليته على الانطباق والتناغم مع مختلف الظروف والأوضاع المتنوّعة. لا يمكن انتزاع نموذج وبنية سياسية ثابتة ودائمة من النصّ الديني؛ وذلك لاستحالة تجاهل عنصر الزمن. إنّ المنظومة السياسية المنشودة من زاوية النصوص الدينية هي المنظومة التي تضمن العدل والحرية. إلا أنّ شكل هذه المنظومة ـ بالالتفات إلى الضرورات والظروف لكل مرحلة تاريخية وزمنية ـ يتمّ تحديده من خلال مدى فاعليته ومعطياته.
ولد السيد محمد حسين فضل الله عام 1935م (1354هـ) في النجف الأشرف. وبعد إتمام دراسته في الحوزة العلمية في النجف، هاجر في عام 1966م بدعوة من بعض شيعة لبنان إلى موطن آبائه وأجداده، ومنذ ذلك الحين وهو يواصل نشاطه الثقافي والاجتماعي والعلمي لما يقرب من نصف قرن من الزمن. يصنَّف السيد محمد حسين فضل الله ضمن الشخصيات الدينية والسياسية البارزة في لبنان، كما يُعتبر سماحته المرشد الروحي لحزب الله والمقاومة الإسلامية. وقد صدر له حتى الآن ما ينيف على السبعين مؤلَّفاً.
(b) جولة سريعة في المنهج الفكري العام
إنّ الاجتهاد عبارة عن عملية استنباط النص واستنطاقه. إنّ النصّ لا ينطق على نحو تلقائي، بل الذي يُنطقه هم المجتهدون والمستنبطون، ولكنّ هؤلاء المجتهدين والمستبطين ليسوا على وتيرة واحدة في ذلك. وإنّ الذي يخلق هذا الاختلاف بين الاجتهادات عبارة عن مجموعة من العناصر والأسباب الداخلية والخارجية من قبيل: الذهنيات ومحتوياتها الفكرية والعلمية، وكذلك المناخات والظروف، ونوعية توقُّعاتنا من النص. ولبيان الفكر السياسي للسيد فضل الله علينا قبل كلّ شيء أن نشير إلى بعض خصائص أسلوبه الاجتهادي:
1ـ اعتبار القرآن أساساً للعملية الاجتهادية، وجعله أصلاً أساسياً بين سائر المصادر، وجعله المعيار لتقييم السنة (الحديث).
ينتقد السيد فضل الله المنهج السائد بين الفقهاء، القاضي بتناول آراء الفقهاء المتقدمين، وخاصة المشهور منها أولاً، ومن ثمّ الانتقال إلى الروايات، ليصار بعد ذلك إلى القرآن الكريم. ويعتقد أنّ العملية الاجتهادية يجب أن تسلك منهجاً معاكساً لذلك تماماً.
2ـ تجنب التعقيدات التجريدية والانتزاعية الأصولية التي تحول دون فهم المعاني الظاهرة من النصّ.
يذهب السيد فضل الله إلى عدم إخضاع النصوص لتعقيدات التفكير الفلسفي، بل لا بدّ من التعامل مع النصوص وفق أسس البلاغة القرآنية.
3ـ النظرة الشمولية في الاجتهاد الفقهي. يعتقد السيد فضل الله أنه؛ ولأجل استنباط أي حكم، لابدّ من حشد جميع الموارد المرتبطة بذلك الحكم بنحو من الأنحاء، وملاحظة كلّ تلك الموارد في بوتقة واحدة.
4ـ الالتفات إلى معطيات العلم الحديث بوصفها عنصراً مهمّاً في تحديد الرؤية الفقهية.
5ـ الذوق الأدبي والمقدرة الأدبية الممتازة. فنحن نعلم أنّ النصوص الإسلامية مكتوبة باللغة العربية. وعليه فإنّ الفهم العميق لهذه اللغة يعدّ من أهمّ شروط الاجتهاد. وهذا ما توفر عليه السيد فضل الله، حيث يتمتَّع بقريحة أدبية وشعرية ثرّة، ودركٍ عميق للظرفيات اللغوية، عدا عن كون اللغة العربية لغته الأم. الأمر الذي مكَّنه من فهم النصوص الإسلامية على نحو دقيق وعميق.
(c) السياسة في فكر السيد فضل الله
من وجهة نظر السيد فضل الله تطلق السياسة على مجموعة من الأفعال والنشاطات المرتبطة بإدارة وتدبير أمور الناس من موضع القدرة، أو من موقع المعارضة للسلطة، أو دعم السلطة الحاكمة([1]).
ذهب السيد فضل الله إلى القول بأنّ السياسة هي نفس ما تنشده الأديان السماوية من إقامة العدل والقسط، معتقداً أنّ العدل هو خلاصة روح الشريعة الإسلامية، وأنّ غاية السياسة هي إقامة العدل.
وتعني العدالة استيفاء كل ذي حقّ حقه، وهو ما يتمّ تعريفه في السياسة بأداء حقوق الناس، وحقّ الحاكم. إنّ العدالة في مجال السياسة أمرٌ نسبيّ؛ إذ يتمتَّع الفرد أحياناً بحق من الناحية الشخصية والذاتية، ولكن هذا الحقّ يتغيّر طبقاً لتغيُّر الظروف والشروط والأوضاع المحيطة به.
يرى السيد فضل الله أنّ هدف المسلم من النشاط السياسي يجب أن لا يقتصر على إقامة الحكومة الإسلامية، دون ملاحظة الظروف الزمانية. ولو كان هذا هو الهدف الوحيد لوجب ترك النشاط السياسي عند عدم توفر المناخ المساعد للوصول إلى السلطة، وانتظار توفر مثل هذه الفرصة، في حين أن الرؤية الإسلامية لا تحدِّد النشاط السياسي بفترة زمنية أو ظروف محدَّدة، بل لا بدّ من ممارسة النشاط السياسي للوصول إلى ذلك الهدف على مختلف الصُّعُد والمستويات، ولا بد من العمل على إبداء مختلف التعاريف لإعداد الأرضية المساعدة لتحقيق ذلك الهدف الكبير.
يعتقد السيد فضل الله أن الهدف الرئيس من الدين وبعث الأنبياء، الذي هو إقامة العدل بين الناس، هو هدف لا يمكن تحقيقه إلا من خلال النشاط السياسي. كما يذهب إلى عدم إمكان تطبيق الشريعة إلا من خلال السياسة القادرة على الأخذ بيد السلطة والحكومة([2]). وقد استند سماحته إلى قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25)، فقال: إنّ إقامة العدل في الحياة هي خلاصة ما قامت عليه رسالات جميع الأنبياء، ولكننا إذا أردنا تطبيق العدالة في المجتمع لا يمكن ذلك إلا من خلال النشاط السياسي. أفهل يمكن تحقيق العدالة في الحياة الفردية والاجتماعية دون محاربة مَنْ يتمرّد عليها؟ وهل يمكن لنا بلوغ العدالة أصلاً من دون ممارسة السياسة؟ عندما يطالب الله الناس بأن يقوموا بالعدل هل يمكن لهم ذلك إذا كانوا هم الموجد للظلم؟ وإذا كان القانون الحاكم، والذي يتمّ تطبيقه على المجتمع، هو القانون الظالم هل تبقى هناك من إمكانية لتطبيق العدالة من قبل الناس؟! وعليه فإنّ تحقيق الإرادة الإلهية من وراء بعث الأنبياء رهن بممارسة السياسة في إطار تقوى الله ورعاية الحدود الإلهية، بمعنى أنّ السياسة لا بدّ أن تقوم على مسار الدين والتقوى([3]).
(d) العلاقة بين الدين والدولة
يذهب السيد فضل الله إلى القول بأنّ الإسلام قد جاء لأمرين أساسيين، هما: نشر الدعوة؛ وإقامة الدولة. لقد قام الإسلام على الأرض لينشر كلمة الله ودعوته في جميع ربوع الكرة الأرضية، ويعمل من خلال هذه الدعوة على بشارة الإنسان، وأن يقيم حكومة تضمن هداية حياة الإنسان وتوجيهها، وتحفظ الإنسان من شرور نفسه ومن شرور الآخرين. من هنا فإنّ ماهية الدولة في الإسلام غير منفصلة عن روح الدعوة ومهدها، بل هي منسجمة معها تمام الانسجام، ومتصلة بها اتصال النهر بنبعه. بل يمكن القول بأن الدعوة هي الروح، وأنّ الدولة بمنزلة الجسد لها، وعليه فإن الجسد يمد الروح بالغذاء، فيتقوّم بها([4]).
يرى السيد فضل الله أنّ ماهية الدعوة ـ لما كانت رسالة معنوية وفكرية ـ تستوجب توفير فرصة كافية للتفكير في طريق مناسب للاعتقاد، وهي تخلق مناخاً مناسباً للشعور بذلك وتحصيل الإيمان. من هنا يجب على المبلغ والقيادي ـ في حقل الدعوة ـ أن يعمل على توفير الأدوات اللازمة لهذه المهمّة بغية الوصول إلى هذه الغاية.
أما ماهية الدولة فحيث إنها مؤسسة معنوية ومادية تضطلع بتوفير النظم في الحياة الاجتماعية للناس وضمان أمنهم وسلامتهم فإنها تقتضي منها توفير الطاقات التي تضمن حياتها وإرساء قواعدها. وبالنظر إلى التفاوت الماهوي بين (الدعوة والدولة) فإنّ الإسلام يرصد لكلّ منهما أسلوباً ومنهجاً يتناسب وقالبه([5]). فإنّ بعض الآيات القرآنية التي تتحدث عن الرفق واللين وعدم استخدام العنف والإكراه في الدين والإيمان ناظر إلى الدعوة والتبليغ. وأما الآيات التي تتحدث عن الجهاد والدفاع فناظرة إلى ما بعد تأسيس الدولة وإقامة الحكم. يستفاد من قوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أن باستطاعة النبي الأكرم’ أن يتصرّف في أمور الحكم، ويتدخل في مسائل المؤمنين وشؤونهم الخاصة، وطبعاً فإنّ هذا التصرف يتعلق بمنصب ولايته’. فهذا النوع من الآيات يتحدث عن النبي الحاكم دون النبي المبلغ. ومع غض النظر عن سيرة النبي الأكرم التي يمكن أن تشكل دعامة وثيقة للحكومة الإسلامية فإنّ فهم وتطبيق بعض الآيات القرآنية، وأحكاماً من قبيل: القصاص، والديات، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا يمكن تطبيقها إلا في إطار الدولة والحكومة([6]).
(e) الحكومة الإسلامية عند فضل الله، الهوية والشكل والإطار
من وجهة نظر السيد فضل الله تتلخص المهمة الأساسية والرئيسة للحكومة الإسلامية في التمهيد لتطبيق وتحقيق القيم الأخلاقية والفكرية على المستوى العملي، وهذا هو الذي يدعو إلى ضرورة إقامة الحكومة الإسلامية. وقال سماحته في توضيح هذه المسألة: «إننا عندما نتحدث عن الحرية والعدالة أو سائر القيم الأخلاقية الأخرى، من قبيل: العفة والأمانة والصدق وما إلى ذلك، هل نتحدث عنها بوصفها مفاهيم وقيماً فكرية وإنسانية قائمة في الفراغ أم بوصفها قيماً ومفاهيم يراد تجسيدها وتطبيقها على أرض الواقع؟ طبيعي أنّ الذين يفكرون في الواقعيات يسعون إلى قولبة تلك الواقعيات بالشكل الذي يفكرون به، وبعبارة أخرى: يحاولون قولبة أفكارهم بشكل واقعي…، وعندما يكون الأمر كذلك نطرح هذا السؤال: كيف يمكن تطبيق العدالة على مستوى الحكومة والحاكم والقانون وجمهور الناس دون أن تكون هناك دولة تخطط لتطبيقها وتجسيدها على المستوى العملي وتسهر على صيانتها وحفظها مما يبيّت لها من الأخطار والأضرار؟ إنّ محاولة الإسلاميين الوصول إلى السلطة ليس مسألة ذوقية، ولا هي بالأمر الذي ينقدح في أذهانهم على نحو الصدفة… هذا مضافاً إلى التجربة الإسلامية الطويلة في الحكم ـ التي تمتدّ من بدايتها إلى سقوط الدولة العثمانية ـ.
وعلى الرغم من الكلام في التفاصيل والجزئيات حول التصورات والممارسات التي صدرت عن الحكومات المتعاقبة طوال تلك المدة، وإمكانية الحديث عنها وانتقادها…، كان توجه الإسلاميين نحو السلطة هو القاعدة، وتجنبهم إياها واعتزالها هو الاستثناء؛ وذلك لأنه من غير المعقول أن نؤمن بإسلام يفكر في جميع الأمة، ويرى شمولية أحكامه، دون التفكير بتوفير قاعدة تطبيقية لهذا الإسلام. إنّ هذه الحالة تضع الإنسان المسلم في موقف مزدوج بين إسلام الشريعة والواقع القائم([7]).
من وجهة نظر السيد فضل الله فإنّ الحكومة الدينية([8]) ليست بالمعنى السائد والمعروف في الغرب، الذي يمارس فيها الحاكم سلطته وفقاً لهواه باسم الله، بل يرى الإسلام الحكومة مسؤولية اجتماعية يتعين فيها على موقع القيادة أن يواجه المسائل الاجتماعية من زاوية الشريعة الإسلامية، بحيث لا يتمكن القائد أن يستفيد من السلطة لصالحه الشخصي، بعيداً عن الحدود التي رسمتها الشريعة الإسلامية ضمن موضوعة الحكومة([9]).
كما أنّ الحكومة الإسلامية حكومة مدنية؛ لأنّ الحاكم فيها مقيّد بالتمسك بقوانين محدَّدة، وما لم يلتزم الحاكم بهذه القوانين لن يحقّ له التصدي للحكم، فإنْ تجاوزها تمّ عزله، بحيث يجب على الناس ـ إذا رأوا من الحاكم سلوكاً يتنافى والضوابط الشرعية ـ أن يعتزلوه، ولا يتعاونوا معه… من هنا فإنّ الحكومة الإسلامية ليست حكومة استبدادية أو دكتاتورية تحكم باسم الله وفقاً لأذواق وأهواء شخصية، وإن كان الحاكم في الدولة الإسلامية يحصل على شرعيته في الحكم من قبل الله تعالى. فإذا كان الحاكم الإسلامي معصوماً كانت حركته في التبليغ والحكومة على خط العصمة، ولكنه يمنح الآخرين حرية السؤال عن سياسته ومواقفه. من هنا نشاهد أمير المؤمنين علي× يواجه الناس ويسألهم أن ينتقدوا سياسته، ويقول لهم: «فلا تكلموني بما تُكلَّم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي، ولا التماس إعظامٍ لنفسي؛ فإنه مَنْ استثقل الحق أن يقال له، أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ»([10]).
فهذا حاكم إسلامي تقول بعض الفرق الإسلامية بعصمته، ومع ذلك نجده يدعو الناس إلى انتقاده والنظر في أعماله، ويشجِّعهم على قول الحقّ وإنْ كان مرّاً… ومن خلال دراستنا لسيرة النبي في فترة حكومته، وسيرة الخلفاء والأئمة الذين يراهم المسلمون تجسيداً للمشروعية، ندرك أنهم لم يستثمروا مناصبهم في الحكم لصالحهم الشخصي، فلم يشهر أيٌّ منهم السيف في وجه الناس، ولم يقُلْ لهم: أنا الحاكم المطلق من قبل الله، أو إنني ظلّ الله في الأرض، وعليكم أن تطيعوني دون سؤال أو نقاش، بل كان يحدِّثهم عن الشريعة وكتاب الله وأسس الحكومة. وعليه يمكن القول بأنّ الحكومة الإسلامية حكومة مدنية تسير على النهج الإلهي([11]).
إنّ كيفية وشكل الحكومة الإسلامية من أكثر المسائل حساسية في التفكير السياسي لدى المسلمين؛ وذلك لأن تعيين إحدى الطرق أو الأساليب بوصفه النموذج الأمثل لا يكون إلا من خلال المطالعة الشاملة والتقييم الكامل للظروف والشرائط الزمانية والمكانية. إنّ السيد فضل الله، الذي نشهد تأثير أوضاع العصر على جميع زوايا تفكيره السياسي، وخاصة في تحديد نوع الحكم المنشود، لا يقترح نوعاً خاصّاً للحكم الإسلامي يكون هو المناسب لمختلف العصور، بل إنه ينكر وجود مثل هذا النموذج. يرى السيد فضل الله أن ملاك مشروعية نمط الحكومة يكمن في مدى فاعليته، ويعتقد أن ذلك يتوقف على مدى انطباقه على حفظ النظم في المجتمع الإسلامي، وهذا أمر متغير. فأحياناً يتوقف حفظ نظم المسلمين على العمل بقانون الانتخابات، وأحياناً يتوقف على العمل بالشورى وما يقرِّره أهل الحلّ والعقد، ولكن بشرط التمكن من الوصول إلى نموذج محدَّد لمثل هذه الشورى. وأما أصل البيعة فتكون ضرورية أحياناً لتعزيز الثقة والتلاحم بين الأمة والحكومة، وأحياناً لا تستشعر الحاجة إلى ذلك. ومن باب المثال: إن انتهاج الانقلاب العسكري وإنْ كان أمراً بعيداً عن الواقعية، ولكن لا مندوحة عنه أحياناً من أجل إصلاح الأمة وإقامة العدل في المجتمع الإسلامي، ولكن بشرط أن لا يؤدي ذلك إلى مصادرة إرادة الناس، فعندها لن يكتب الدوام لتلك السلطة([12]).
(f) الدولة الدينية وسؤال الشرعيّة
من وجهة نظر السيد فضل الله فإنّ مشروعية الحاكم الإسلامي رهنٌ قبل كل شيء بتوفُّر الشروط التي حدَّدها الدين الإسلامي له. وعليه إذا لم تتوفر هذه الشروط في حاكم لم يكن حكمه مشروعاً، حتى لو كان يحظى بتأييد الناس. ولا بدّ من الالتفات إلى أنّ المراد من المشروعية هنا هو الكفاءة، وليس كل مَنْ توفرت فيه هذه الشروط يكون كفوءاً في التصدي للحكم على المستوى العملي. من هنا لو تعدد الذين تتوفر فيهم الشروط التي تؤهلهم وتمنحهم المشروعية الإلهية كان المعوَّل في هذه الحالة على رضا الناس، ونيل أكثر الآراء في انتخابات الولي الفقيه ـ فيما لو تعدد الفقهاء ـ، مع العلم بأنّ الأكثرية لا تصلح مقياساً ومعياراً لتحديد الحق، ولكنها تكون معتبرة في ظروف خاصة، تكون فيها هي المصداق الأبرز للشورى بين المسلمين. يرى السيد فضل الله أنّ أقرب الطرق لحفظ النظام العام في مثل هذه الموارد هو الرجوع إلى الأكثرية([13]).
(g) أنموذج الدولة المنشودة
يرى السيد فضل الله أنّ أفضل نماذج الدولة هو ذلك الذي يعمل على المحافظة على النظم العام. فأيّ نموذج كان هو الأنجح في تحقيق هذا النظم العام كان هو الأنسب. وليس هناك نصٌّ من الكتاب والسنّة يحدِّد شكل الحكم في عصر الغيبة.
يقوم اعتقاد السيد فضل الله هذا على قوله باستحالة تحديد نمط وشكل معيّن ونموذج واحدٍ للحكم يصلح لجميع الأزمنة والأمكنة، ويناسب مختلف الظروف والشرائط؛ وذلك لأن الظروف الزمنية والأوضاع متحرّكة ومتغيّرة، ولا بد من السعي في كل زمان ومكان وبذل الجهد من أجل العثور على أفضل أشكال الحكم التي تناسب الظروف الزمانية والمكانية والتاريخية، مما يحفظ النظام العام. يقول السيد فضل الله: من الخطأ أن نجمد على نموذج محدَّد، حتى وإنْ كان ناجحاً في فترة تاريخية محدَّدة، بل علينا توظيف مختلف الوسائل الحديثة التي أبدعتها التجارب الإنسانية في مختلف أبعاد الحياة. إن التفاوت في أساليب النشاط والحركة كالتفاوت في أساليب التبليغ والدعوة التي لا تقبل الوقوف والجمود على نموذج معيّن ومحدَّد، بل هي تابعة لحركة الحياة ومتغيِّراتها. وعليه لا بد من عدم التزام نموذج واحد أو نماذج محددة ـ إلا في ما يتعلق بالخطوط العريضة التي حددها الشارع ـ، واكتشاف نماذج متناسبة وواقع وأوضاع العصر والعمل على تطبيقها([14]).
يرى السيد فضل الله ضرورة تحديد نوع الحكم بما يتناسب وكل عصر من العصور. ففي بعض الظروف يكون نموذج ولاية الفقيه هو النموذج المناسب إذا لم يؤدِّ إلى استبداد الفقيه، وكانت هناك صمّامات أمان تضمن عدم انحراف الفقيه، واعتمد الفقيه على آراء المتخصِّصين؛ كما يمكن لنموذج شورى القيادة أن يكون أحياناً هو النموذج الأنجع؛ وأما في ما يتعلق بنموذج الديمقراطية يرى سماحة السيد فضل الله أنه لا ينسجم مع الأسس الإسلامية التي ترى مشروعية كل مشروع بمدى انطباقه مع الشرع، ولكن يمكن للأحزاب الإسلامية أن تستفيد من الفرصة المتوفرة في مناخات الأنظمة الديمقراطية. وفي ما يلي نبحث في تلك النماذج.
(h) 1ـ ولاية الفقيه
يذهب السيد فضل الله إلى عدم وجود أيّ دليل أو نصّ قطعي على ولاية الفقيه العامة يخوّله الحقّ في الحكم. كما أنّ الروايات التي تدعو إلى الرجوع إلى رواة الأحاديث المروية عن المعصومين^ مختصّة بباب القضاء، دون الحكومة. وأما ولاية الفقيه ـ بمعنى سلطة الفقيه ـ فهي من باب حفظ النظم العام، إذا توقف حفظ النظم عليه، وأما في المورد الذي لم يقُمْ فيه النظام الإسلامي، أو قام ولم يتوقف حفظ النظم على تدخل مباشر من الفقيه، فليس هناك من دليل على ولايته([15]).
من وجهة نظر السيد فضل الله لابد أن يكون الولي الفقيه مجتهداً مطلقاً، ولكن ليس من الضروري أن يكون هو الأعلم. مضافاً إلى ذلك يجب أن يتمتع بشجاعة روحية ومعرفة بمجريات عصره وزمانه. وعليه أن لا يكون مستبدّاً في اتخاذ القرارات، وعليه أن يستشير مجموعة من الخبراء، حتى في الموارد التي يجزم فيها بصوابية رأيه؛ لكونه مختصّاً في ذلك الشأن أيضاً([16]).
يرى السيد فضل الله أنّ أنسب الطرق في اختيار الولي الفقيه هو ذات الطريق في انتخاب رئيس الجمهورية والممثلين في البرلمان، وهو الرجوع إلى رأي الأكثرية، إمّا مباشرة أو على نحو غير مباشر، من طريق الخبراء الذين يعيّنهم الشعب لاختيار القيادة([17]). وأما مشروعية الولي الفقيه فلا يتمّ تحديدها من خلال آراء الناس، بل إنّ الناس بانتخابهم يثبتون فاعلية الفقيه الذي سيغدو ولي الأمر، أي إنهم يمنحونه القدرة والسلطة كي يُعمل ولايته من أجل حفظ النظم العام. وطبعاً هذا لا يعني أنّ كل فقيه تصدى أو رشح نفسه للولاية، وتحلق حوله جماعة من الناس، سوف يحصل على شرعية واقعية؛ لأنّ هذا يؤدي إلى تمزيق وحدة المجتمع، وسقوط النظام العام. وأما الفقيه الجامع للشرائط الذي يحصل على غالبية الآراء فهو الذي يحصل على الولاية الواقعية([18]).
يجب هنا توضيح الفارق بين مفهوم المشروعية والرضا المصحوب بالمشروعية في الفكر السياسي للسيد فضل الله. فإنّ المشروعية من وجهة نظره تعني الصلاحية الشرعية، بمعنى أنه يجب على مَنْ يريد أن يتولى منصب حاكم المسلمين ـ قبل أن يحصل على رأي الأكثرية ـ أن يستوفي الشروط والخصائص التي تمّ تحديدها في الإسلام، وبعد ذلك يعمد الناس إلى انتخاب واحدٍ من بين مَنْ تتوفَّر فيهم هذه الشروط والخصائص، فيحصل بذلك على الشرعية الكاملة.
(i) 2ـ الشورى
إنّ مبدأ الشورى من المبادئ الإسلامية الراقية والناجعة للحل والفصل في مسائل الأمة الإسلامية. يرى سماحة السيد فضل الله أنّ الشورى صمام أمانٍ ينظم السلوك الفردي والجماعي على أساس من تجنب الاستبداد في اتخاذ القرار، وفتح المجال للمشاركة الجادّة من قبل الناس في تحديد المصير، والاستعداد لملء الفراغ الذي يخلفه غياب القائد. وإنّ هذا الأصل يشمل مختلف أنواع الانتخابات، من قبيل: انتخاب القائد، ورئيس الجمهورية، والممثلين، والنوّاب، وحتى تحديد الخبراء في الأحكام الشرعية بغية التشريع فيما لو كان عددهم كبيراً، فعندها لا بدّ من الرجوع إلى رأي الأكثرية. وفي صورة تعدد الولي الفقيه كذلك ليس هناك من أساس أفضل من الرجوع إلى رأي الأكثرية([19]).
يمكن للحكومة الإسلامية أن تدار على أساس من الشورى، بمعنى الرجوع إلى آلية الانتخابات وآراء الناس في اختيار القادة والمسؤولين. ويرى السيد فضل الله أن نموذج الحكومة القائم في الجمهورية الإسلامية في إيران هو تلفيق من ولاية الفقيه والشورى([20]).
إنّ الحديث عن لا إسلامية أصل مبدأ الانتخابات كلام غير ناضج وغير دقيق؛ إذ يمكن عدّ الانتخابات أحد مصاديق الشورى في الإسلام، والانصياع لذلك ـ حتى إذا كان البرلمان قائماً على نمط خاص من الانتخابات ـ يبدو واجباً؛ إذ من المحتمل أن يوظف الإسلام ذلك البرلمان بشكل وذهنيّة أخرى للتخطيط والتشريع لحكومته([21]).
(j) 3ـ الديمقراطية
كان موضوع الديمقراطية في القرن الأخير من الموضوعات التي كثر فيها النقاش والجدل في العالم الإسلامي. وإن التشابه الجزئي والصوري بين الديمقراطية وأصل الشورى في الإسلام دعا البعض إلى اعتبار الديمقراطية مرادفة للشورى، وبذلك يكون هناك إيمان كامل بالديمقراطية، وهناك في المقابل مَنْ يرفض الديمقراطية؛ لاعطائها المحورية للناس بشكل كامل. أما الرؤية السياسية للسيد فضل الله فلا تؤيِّد أيّاً من هاتين الرؤيتين. ففي الوقت الذي يذعن فيه السيد فضل الله ويعترف بمزايا الديمقراطية، حتى بالنسبة إلى الإسلاميين، فإنه لا يرتضي أسسها الفكرية، ولكنه يدعو الإسلاميين إلى التناغم مع المناخ الديمقراطي القائم، حيث يقول: إنّ النظام الديمقراطي؛ بسبب ما يوفِّره من مناخات منفتحة على مختلف التيارات، يمكنه أن ينفتح على الأشكال البديلة والمتنوعة من الحكم؛ وذلك لأنّ الأكثرية قد تصوّت في مرحلة من المراحل للإسلام، وقد تصوّت أحياناً للنظام الماركسي أو الوطني، وهذا الأمر تابع لمدى تأثير أيّ واحد من هذه الأنظمة على ذهنية الجمهور… إلا أنّ طبيعة الديمقراطية تقضي بأن يكون الناس هم مصدر الشرعية لكل مخطَّط فكري أو قانوني، وليس لسواهم مثل ذلك، حتى الله والنبي، فحتى النظام المتمسِّك بالله والنبي يكتسب شرعيته وسلطته من خلال الرجوع إلى آراء الأكثرية([22]).
ومن ثمّ يؤكِّد السيد فضل الله على أنّ الديمقراطية في روحها، حيث تعتبر الناس هم مصدر الشرعية، لا تنسجم مع الإسلام من الناحية الفكرية والسياسية وأسلوب التشريع، ولاسيما عندما تمنح الديمقراطية ـ طبقاً لبعض تجاربها ـ الحق للأكثرية في سنّ القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية.
يذهب السيد فضل الله، على الرغم من قوله بعدم التناغم بين الأسس الديمقراطية والتفكير الإسلامي، إلى أنّ ذلك لا يمنع من تعامل الإسلاميين مع الأنظمة الديمقراطية غير الإسلامية بإيجابية، وخاصة إذا دار الأمر بين اختيار الديمقراطية أو الدكتاتورية، فعندها يجب الانحياز إلى صف الديمقراطية، ورفض الدكتاتورية وشجبها واستنكارها؛ وذلك لأنّ المناخ الديمقراطي يسمح للإسلاميين باستثمار هامش الحرية لتطوير أدائهم، واستمالة الجمهور وغالبية الناس إلى حسنات الإسلام؛ فيتوصلون من خلالهم إلى السلطة، وهو ما لا يمكن لهم تحقيقه في ظل الأنظمة الاستبدادية والدكتاتورية.
إنّ مراد السيد فضل الله من التناغم الفكري مع الديمقراطية هو تناغم تكتيكي مع الواقع، والاستفادة من الحريات التي يمنحها هذا النظام للحركات الإسلامية وغيرها على السواء.
يقول السيد فضل الله في توضيح ذلك: هناك فرق كبير بين أن تعترف رسمياً بالواقع القائم في نظام باطل من الناحية الفكرية وبين أن تذعن للتعايش معه بهدف التقليل من العقبات الماثلة في طريق النشاط الإسلامي، وأن تختار من بين الشرَّيْن أهونهما. ومع ذلك عندما نتحدث عن التردد في فرض عنوان الديمقراطية على النظام السياسي في الإسلام علينا أن نأخذ هذه المسألة الحيوية بنظر الاعتبار، وهي أنّ مصطلح الديمقراطية يختزن الكثير من القيم الإنسانية، من قبيل: احترام آراء الناس وشخصياتهم، وانتهاج طريق العدالة، والوقوف بوجه الظلم والعنف الذي يمثله النظام الدكتاتوري…، وبذلك فقد تحوَّل ـ بغض النظر عن محتواه القانوني الدقيق ـ إلى مفهوم أخلاقي وإنساني. ولذلك يتعيّن علينا أن نراعي جانب الدقة في تعبيرنا عن الديمقراطية، وأن نشجب مبناها الفكري من الناحية النظرية فقط، دون آثارها الأخلاقية والإنسانية([23]).
إنّ المسألة الدقيقة التي تنبّه إليها السيد فضل الله في بحث التعاطي الإيجابي مع الديمقراطية والحكومات الديمقراطية تعود إلى الماهية المعدّلة للسلطات والحكومات الديمقراطية في العالم المعاصر. فإنّ سماحته يعزو مخالفة الفقهاء للتعاون مع الأنظمة الحاكمة (غير الدينية) إلى تصورهم عن أساليب الحكومات القديمة، التي كانت تقوم على الاستبداد بالرأي والدكتاتورية؛ إذ يقول: كما نعلم فإنّ الحكومة في الماضي كانت تدار من قبل شخص واحد، وتبعاً لمذاقه يتم خنق كل صوت معارض في مهده، فلم تكن هناك أية فرصة لممارسة النشاط السياسي الحرّ في إطار تلك الحكومات، فما ظنك بالسعي إلى تغييرها وإسقاطها. واضح أنه في هذا النوع من الحكومات لا يمكن التفريق بين التعاون مع تلك الحكومات والتبعية لها؛ لأنّ كل ارتباط يعني نوعاً من الرضا والتأييد.
وعليه لا بدّ من إعادة النظر في الموقف السابق من الحكومات في العصر الذي تقوم فيه الحكومة على أسس قبول المؤسسات الديمقراطية؛ وذلك لأن أصول الديمقراطية تمكّن الفرد أو المؤسسة من السعي الحرّ للوصول إلى مراكز القرار السياسي والاقتصادي، أو في أقل التقادير اتخاذ المناخ وسيلة للضغط على الأحزاب الممسكة بزمام السلطة. وهذا بالضبط هو ما يحصل في انتقال السلطة من حزبٍ إلى حزبٍ آخر. فإنّ الماركسية الأوروبية إنما تمكنت من تحقيق كل نجاحاتها بفضل هذا المناخ، على الرغم من تناقضه الكامل مع متبنياته الفكرية القاضية بالوصول إلى السلطة من طريق العنف والثورة. وبعد أن تخلى الفكر الماركسي عن هذه النزعة النمطية، وبعد تماهيه مع النهج الديمقراطي في سياق الوصول إلى السلطة، اقترب من بلوغ السلطة في الكثير من البلدان ـ بما في ذلك إيطاليا وفرنسا ـ، وأوشك أن يتحوّل إلى حقيقة خارجية، ولولا المعارضة الأمريكية لأمكن للكثير من الأحزاب الماركسية أن تصل إلى السلطة في البلدان الأوروبية. وبالالتفات إلى هذه الإيضاحات يمكن التوصل إلى نتيجة مفادها عدم وجود محذور في القبول بالديمقراطية بوصفها واحدة من السبل الواقعية للوصول إلى السلطة وتغيير الوضع القائم([24]).
يعتقد السيد فضل الله أنّ وجود بعض علامات الديمقراطية في الإسلام، من قبيل: ترك أمر انتخاب الحاكم أو تعيين الأسلوب السياسي إلى الناس، والرجوع إلى آراء الجماهير في الموارد التي تتعدد فيها الاجتهادات وتختلف فيها الآراء، لا يعني أنّ الإسلام يرى الأمة مصدراً للحكومة والسلطة، وأنه يواكب الديمقراطية إلى هذا الحدّ؛ وذلك لأن الأمة إنما تتخذ القرار في الموارد التي يترك الأمر إليها طبقاً للأكثرية والإجماع، ولا تنساق وراء القرارات الفردية، بل تسير ضمن الإطار الذي فرضه الله عليها، بمعنى أنها في ما يتعلق بمحتوى الانتخاب هناك أصول عامة حدَّدها الله تعالى، ولكن في ما يتعلق بالجزئيات والتفاصيل يمكن للإنسان أن يمارس الانتخاب، وأن يتخذ القرارات. وقد نفى سماحته أيّ تناغم بين الإسلام وأي نظام سياسي آخر، بما في ذلك الديمقراطية، وقال بأنّ عنوان «الإسلام الديمقراطي» إنما هو اختلاق من قبل بعض المسلمين المصابين بعقدة فقدان الثقة بالنفس، ولا يرى ضرورة للتمسُّك بالمفاهيم الإسلامية إلا إذا امتزجت بالمفاهيم والأفكار الغربية([25]).
(k) الحريات الفكرية والسياسية
يذهب السيد فضل الله إلى الاعتقاد بأنّ الحرية جزء من العقيدة الإسلامية، وبها يتمكن الإنسان من تحديد مصيره في الدنيا والآخرة، وبذلك يتحمل مسؤولية اختياره وحريته. إننا من خلال قوله تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة: 265) ندرك أنّ الله تعالى لم يُرِدْ أن يُجبَر أحدٌ على اعتناق دينه. إذاً لكل إنسان كامل الحق في اختيار مصيره ومساره، وهو حرّ في اختيار دينه الذي يعكس معتقداته، دون أن يواجه عنتاً في حياته الاجتماعية([26]).
يعتقد السيد فضل الله أنّ الإسلام يؤمن بحرية التفكير بوصفها جزءاً من الحريات العامة في رقعة الحياة الاجتماعية. ولكن هذه الحرية إنما تكون مشروعة ما لم تمسّ النظم الاجتماعي. من هنا لا بد من أخذ الظرفيات الاجتماعية في المجتمع الذي يحكمه الإسلام بنظر الاعتبار، وأن نلتزم في هذا الخصوص جانب الحيطة والحذر. إن النظام الإسلامي ككلّ نظام مسؤول لا يمنح الحرية لأعداء الحرية، بل يمنحها للذين يؤمنون بالحرية الفكرية الهادفة، والذين يشعرون بثقل مسؤولية تحمل مصير الإنسانية. وطبعاً إنّ دائرة هذه الحرية والمسؤولية بحيث تضمن التعالي والسمو والرقي للإنسان، وليست هي مغلقة بحيث تسدّ المجاري الفكرية لدى الناس. فمن حق الإنسان أن يفكر بالطريقة التي يريدها، أو أن يؤمن بما شاء؛ لأنه وحده الذي يتحمل مسؤولية اعتقاده. ولكن من جهة ثانية يحق لـ «الدعوة» التي تمثل روح «الدولة الإسلامية» أن تدافع عن تفكيرها.
من وجهة نظر السيد فضل الله فإنّ حكم الارتداد لا يتعارض ومسألة حرية الاعتقاد؛ وذلك لعدم وجود مشكلة في مجرّد عدم الاعتقاد بالإسلام، بل الارتداد بالشكل الذي يحتك بالتبعية والارتباط العملي بالهويّة الإسلامية، ويؤدي إلى رفض وإنكار هذه الهويّة من قبل المرتد، وما يتبع ذلك من الإخلال في النظم العام، هو الذي يخلق المشكلة. ومن هنا لو لم يكن الشخص مؤمناً بالإسلام من صميم قلبه، وكان إسلامه مجرد لقلقة لسان، فإنه يكتفى منه بهذا المقدار من الإسلام أيضاً؛ وذلك لأنّ إسلامه بهذا المستوى لا يخلّ بالهوية والنظم الاجتماعي.
يرى السيد فضل الله، من خلال تفكيره الواقعي والمدرك لمقتضيات العصر، أنّ طريق الحيلولة دون اتساع وانتشار الأفكار الخاطئة والضالة لا يكمن في سحقها وضرب جدار حديديّ دونها؛ وذلك لأنّ الإسلام لا يخشى من الأفكار المناوئة. ولذلك يذهب سماحته إلى عدم جدوائية فتوى الكثير من الفقهاء بحرمة حفظ كتب الضلال، ويقول في ذلك: إنّ فهمنا لأسلوب القرآن في طرح الأفكار المخالفة، ومشاهدتنا لهذه الحقيقة، وهي أنّ القرآن الكريم قد ذكر جميع الأسس الفكرية للكفر حتى خلَّدها بخلوده، يثبت أن الإسلام يدعو الأفكار المخالفة للنزال والجدال المعلن في جميع الموضوعات الخلافية. هناك مَنْ يرفض منح الباطل حرية لإبراز رأيه، إلا في ظروف يمكن للحقّ فيها أن يردّ عليه مباشرة، حتى لا يكون للباطل فرصة للتأثير على أفكار الناس ولو لفترة قصيرة، لأنّ هذا التسامح لا ينسجم مع المسؤولية، والتزام الحق بوصفه العقيدة الوحيدة للحياة. إلا أننا نقول بأنّ المسألة ليست على هذه البساطة؛ إذ إنّ الظروف تقضي أحياناً بضرورة فسح المجال وإعطاء الحرية للفكر المخالف؛ لأنّ المنع من ذلك من خلال العنف والقسوة قد تحشد عواطف الناس إلى أصحاب هذه الأفكار المنحرفة؛ فيتعاطفون معهم ظنّاً منهم بأننا إنما حاربناها بتلك القسوة لأننا نخشاها، أو لأننا لا نملك الحجّة على ردّها([27]).
أما المحور الأخير الذي يمكن طرحه في ما يتعلق بالحرية فهو الحريات الفردية والمدنية. فهل يضمن الإسلام الحريات الفردية، بحيث يتمكن الفرد من التحرُّر من جميع القيود ـ دون الإضرار بحرية الآخرين ـ ليلبي رغباته وأهواءه وشهواته وميوله؟
يجيب السيد فضل الله عن هذا السؤال على النحو التالي: لربما يكون جواب البعض عن هذا السؤال: إنّ الإسلام لا يحترم حرية الفرد؛ وذلك لأنه يتدخل في أدّق تفاصيله وشؤونه الشخصية، وحتى أكله وشربه ولبسه وذوقه وحاجاته وعلاقته بزوجته. وإنّ الدولة (الإسلامية) تبيح لنفسها على هذا الأساس معاقبة وردع كلّ مَنْ تسوّل له نفسه تجاوز هذه الحدود. وفي غياب الدولة يتولى المجتمع القيام بهذه المهمة تحت عنوان (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). إنّ عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي إلى شعور الإنسان في المجتمع الإسلامي بقلق دائم حيال تلبية رغباته الشخصية التي تتعارض مع المتبنيات الإسلامية، وبذلك يعيش خوفاً من العقوبة التي ستطاله من قبل المجتمع أو السلطة على حدّ سواء. إلا أنّ المسألة ليست على هذا المستوى من الكارثية التي يتصوَّرونها؛ وذلك لأنّ مسألة الحرية قد تمّ تنظيمها على أساس من الرؤية العامة للشرع تجاه المصلحة الشخصية للفرد ومصلحة المجتمع الذي يشكل حاضنة لنشاط الفرد، وكذلك من خلال النظر إلى ماهية الإنسان نفسه.
إنّ الإنسان ليس مجرد وجود مادي وحيواني يسعى وراء تلبية رغباته المادية وإشباع غرائزه الحيوانية، بل هناك إلى جانب هذا البعد بعدٌ آخر، فهو كذلك كائن أخلاقي له رغباته الروحية السامية والمتعالية، بحيث إنّ مطالبه المادية والمعنوية في المسار التكاملي وارتباط المادة بالمعنى ـ بالمفهوم الإنساني ـ ترتبط ببعضها. وبالالتفات إلى هذه الحقيقة لا بدّ من التفكير من أجل صيانة الإنسان من آفات شرور أهوائه ورغباته المنحرفة بما يضمن التوازن للفرد والمجتمع. تماماً كما يتم الحفاظ على الفرد والمجتمع من الأخطار الخارجية التي تهدِّده من قبل الوحوش والكواسر والطبيعة. وبذلك ندرك أنّ الشريعة الإسلامية قد أخذت بنظر الاعتبار كلا البُعدين، المادي والمعنوي، من وجود الإنسان، وكذلك بعده الفردي والاجتماعي؛ وذلك من أجل صيانة إنسانية الإنسان في إطار الالتزام بالشرع وتطبيقه عملياً. وفي هذا السياق يصبّ تحريم الإسلام لشرب الخمر، والميسر، والسرقة، والزنا، والعدوان على حقوق الآخرين، وأكل الميتة، والخنزير، وأكل أموال الناس بالباطل، وقتل النفس التي حرّمها الله، والخيانة، والغيبة، والنميمة، والكذب، وما إلى ذلك من المحرّمات ذات البعد الفردي والاجتماعي والطبيعي؛ وذلك لأنّ الشرع الإسلامي من خلال أخذه مصلحة الإنسان بنظر الاعتبار على نحو كامل وشامل قد حكم بإضرار هذه الأمور عليه، وأنّ منح الحرية للإنسان في ارتكاب واقتراف هذه الأمور يعني تحويل الإنسان إلى عنصر خامل عقلياً، ومنحرف ومريض وعدواني وأناني، وأن لهذه الصفات آثار سلبية وكارثية على حياته الفردية والاجتماعية.
وعليه فإن الإسلام لم يشأ فرض نظامه الإداري والتنظيمي على الناس بالإكراه والعنف والقوّة. بل إنّ المسألة تكمن في مراقبة الإنسان وحفظ حياته من مختلف الأبعاد والزوايا، بحيث إن الإسلام كما يرفض حرية الإنسان بالمقدار الذي يضرّ بالآخرين فإنه يرفض حريته بالمستوى الذي يباح له الإضرار بنفسه؛ وذلك لأنه عبد الله، وليس له أن يقوم تجاه نفسه بتصرّف دون إذن من الله تعالى؛ لأنه ملك لله روحاً وجسداً، ولكن ذلك ليس بمعنى سلب إرادة الإنسان وفرض القانون عليه بقوة السلاح والعنف واستخدام وسائل الردع وتحويله إلى شيء جامد يتحرك بجهاز للتحكُّم، سواء من قبل الدولة أو المجتمع… وكما أنّ القوانين الوضعية وغير الإسلامية تحرِّم المواد المخدرة، وتعاقب عليها، وتتدخل في منع التجارة بها وتعاطيها بكل ما أوتيت من قوّة، فإنّ الإسلام ـ علاوة على ذلك ـ يحرِّم المسكرات؛ وذلك لأن الإسلام يحترم عقل الإنسان كما يحترم جسمه. وفي ما يتعلق بقلق البعض تجاه محدودية حرية الإنسان في سلوكه الفردي يجب التنويه إلى عدم وجود فرق بين تحديد حرية الإنسان في ما يتعلق بالأمور المرتبطة بالآخرين، من قبيل: المواد المخدّرة، وبين تحديد حريته في الأمور الشخصية والفردية، من قبيل: شرب الخمر، أي إذا كنتم تعتبرون تحريم الخمر تجاوزاً وانتهاكاً للحرية الفردية فإنّ تحريم المخدِّرات من هذا القبيل، سواء بسواء([28]).
(l) الخاتمة
من وجهة نظر السيد محمد حسين فضل الله تعتبر الحكومة أمراً ضرورياً. وأنّ الدولة تتولى حفظ النظم العام. وإنّ للإسلام توجهاً سياسياً. وإنّ الكثير من الأحكام لا يمكن تطبيقها إلاّ في ظلّ الحكومة الإسلامية. ولكن لا يمكن استخراج نموذج معيّن للحكومة الإسلامية من الكتاب والسنة. فكل نموذج من نماذج الحكم يستطيع فرض النظم العام والقيم الإسلامية، وأن يكون هذا النموذج منبثقاً من إرادة الناس ـ من طريق الانتخابات المباشرة أو من طريق الخبراء أو إجماع قاطبة الناس ـ هو النموذج المطلوب. ومن بين جميع النماذج بحث سماحته في ثلاثة منها، وهي: «ولاية الفقيه»، و«الشورى»، و«الديمقراطية». ورأى أنّ ولاية الفقيه لو نجحت في المحافظة على النظم العام فهي نموذج مقبول للحكم؛ وأنّ الشورى على الرغم من فوائدها الكثيرة، ودورها في بلورة الحكومة الإسلامية، ولكن لا يمكن فرضها على القائد، فدور الشورى إنما يتجلى في مرحلة الانتخاب، وأما إذا تمّ تحديد القيادة فلا يمكن للشورى أن تفرض رأيها على القائد، بحيث يكون رأيها ملزماً له؛ وأما في ما يتعلق بالديمقراطية فإنّ السيد فضل الله يعتقد أنها لا تنسجم مع الإسلام بلحاظ منشأها ومبانيها الفكرية؛ لأنها تعتبر الناس هم مصدر الشرعية. ولكن على الإسلاميين أن يغتنموا الفرصة الذهبية التي توفرها لهم الديمقراطية. ويرى سماحته أنّ الحكومة المنشودة هي الحكومة التي تحظى بمشروعية إلهية ومقبولية جماهيرية.
الهوامش
(*) باحث متخصّص في الفكر السياسي والكلام الجديد، ومترجم ناشط من العربية إلى الفارسية، له كتابات متعدّدة، من إيران.
([1]) في حوار أقمته مع سماحته في بيروت، خريف عام 1380هـ ش.
([3]) سيرة أهل البيت: 432، ترجمة: محمد محقق البلخي وآخرون، قم، دار الملاك، 1380هـ ش.
([4]) كتاب الجهاد (تقرير درس البحث الخارج): 24، دار الملاك، بيروت الطبعة الثانية، 1998م.
([5]) غسان بن جدو، خطاب الإسلاميين والمستقبل (حوار مع سماحة آية الله السيد محمد حسين فضل الله): 104 ـ 105، (دار الملاك، بيروت الطبعة الثانية، 1996م).
([6]) حوار حول السياسة والفكر والاجتماع: 149.
([7]) غسان بن جدو، المصدر السابق: 100 ـ 101.
([8]) Theocracy الثيوقراطية: الحكومة الدينية.
([10]) نهج البلاغة، الخطبة: 216.
([11]) مجلة المنطلق، العدد 22: 12 ـ 13، طبعة بيروت.
([12]) حوار أجريته مع سماحة السيد محمد حسين فضل الله.
([13]) انظر: فقه الحياة: 241 ـ 244، ترجمة: مجيد مرادي، قم، دار الملاك، 1380هـ ش.
([14]) سليم الحسني، صراع الإرادات، دراسة في الفكر الحركي لسماحة آية الله السيد محمد حسين فضل الله: 42، دار الملاك، بيروت، 1995م.
([15]) حوار الكاتب مع سماحة آية الله السيد محمد حسين فضل الله.
([16]) فقه الشريعة 1: 18، قم، دار الملاك، 1421هـ، 2000م.
([17]) اتجاهات وأعلام، حوارات فكرية في شؤون المرجعية والحركة الإسلامية: 11، دار الملاك، بيروت.
([18]) اتجاهات وأعلام، المصدر السابق: 24 ـ 33.
([19]) فقه الحياة: 24 فما بعد.
([20]) الحرية والديمقراطية، قراءة إسلامية (آزادى ودموكراسى، قرائتى إسلامي)، فصلية العلوم السياسية، العدد: 33، السنة الأولى، خريف 1377هـ ش.
([21]) كيمياء البصر (كيمياى نظر): 67 ـ 68.
([22]) الحرية والديمقراطية، قراءة إسلامية (آزادى ودموكراسى، قرائتى إسلامي): 126.
([24]) كيمياء البصر (كيمياي نظر): 64 ـ 65.
([27]) الحرية والديمقراطية، قراءة إسلامية (آزادى ودموكراسى، قرائتى إسلامى): 118 ـ 119.