ردٌّ موجز على الشيخ جوادي الآملي
أ. محمود طاهري(*)
تمهيد ــــــ
أثار أحد كبار العلماء الموقَّرين([1]) في كلمةٍ له ألقاها في مؤتمر الدين والفلسفة بعض النقاط التي أجبرتني على كتابة هذه الأسطر؛ بغية تسليط الضوء على بعض الأمور الغامضة، وإزاحة الغبار عن بعض الإبهامات الواردة في كلمته.
رغم ما أحمله من الاحترام الكبير للمكانة والمنزلة العلمية والأخلاقية التي يتحلّى بها المتحدِّث المبجَّل، بَيْد أن نقد الآراء المختلفة، وحتّى كلمات الأساتذة والمشاهير من العلماء، لا تؤدي أحياناً إلى مزيدٍ من ازدهار الحقائق فحَسْب، بل تزيد من إثراء الأفكار والنظريات أيضاً. وعلاوةً على ذلك فإنّ مثل هذه الانتقادات تفتح مجالاتٍ وآفاق واسعة أمام الأفكار الطاهرة والنيِّرة والمتطلِّعة للطاقات الشبابية في المجتمع الإسلامي. من الواضح أن النظريات البنّاءة في الحقل الفكري لن تتوفّر لها فرصة الازدهار إلاّ ضمن مناخ تسوده حرية التفكير القائم على الدعائم والأسس الصحيحة في الحوزة العلمية والجامعة.
كما أرى من الضروري التنويه إلى هذه النقطة، وهي أن الإجابة عن بعض أقوال وكلمات هذه الشخصية الموقَّرة والمرموقة لا تأتي من خلفيّة الاعتراض على علم الفلسفة؛ إذ لا يخفى أن الفلسفة من العلوم التي اتَّخذت لنفسها موطئ قدم عبر تاريخ الحضارة البشرية، وحصلت على مكانتها ومنزلتها المرموقة والخاصة بين سائر العلوم النظرية الأخرى. وإنما يأتي هذا النقد من خلفية أن بعض هذه الآراء مجانبٌ للصواب. إنّني لا أدعي لنفسي التخصُّص في حقل الفلسفة، ولكنّني مع ذلك لا أجد كلمات أستاذ الفلسفة المحترم فلسفية، بل يبدو أن بعض هذه الكلمات إنما يأتي في سياق إثارة الإعجاب والانبهار بالفلاسفة ومدَّعياتهم من جهة، والتقليل من شأن سائر العلماء وجميع العلوم البشرية الأخرى، واعتبارها مدينة للفلسفة، من جهةٍ ثانية. وعلاوةً على ذلك تبدو الإجابة عن بعض الأقوال العجيبة ضرورية أيضاً؛ إذ من وجهة نظره «يعود السبب الرئيس في عدم إسلام العلماء والمفكِّرين في الجامعات والمحافل العلمية إلى عدم معرفتهم بالفلسفة الأرسطية والصدرائية»([2]). ومن هنا فإن إجابتي ـ في الحقيقة ـ إنّما تأتي في إطار الدفاع عن حياض العلوم البشرية والإلهية المتنوِّعة، كما تنطوي على دفاع عن العلماء والمفكِّرين أيضاً.
لقد عمد سماحته إلى طرح بعض الادّعاءات التاريخية التي تستحقّ الردّ والنقد أيضاً. ومن البديهي أن الأسئلة والأجوبة الفكريّة ـ وخاصّة في مثل هذه الموضوعات ـ لن تنتهي أبداً، ومن هنا يوجد كلامٌ آخر أيضاً، ولكنْ يتمّ تجاهله؛ بسبب عدم توفّر الفرصة؛ أو بسبب المحدوديات الأخرى.
قال في كلمته: «إن علم الفلسفة إذا كان رئيساً لسائر العلوم الأخرى فذلك لأنها توفّر موضوعات العلوم، ومبانيها، ومبادئ الكثير من العلوم». و«إن جميع العلوم مدينة في مصادرها للفلسفة»، أو أن «علم الفلسفة يلقي بظلّه على جميع العلوم». و«علم الفلسفة رئيس العلوم». و«عليكم أن تتذكروا أن الفلسفة هي التي تدير سائر العلوم».
ولكنّ سماحته لم يبيِّن ـ للأسف الشديد ـ كيف يكون علم الفلسفة مثلاً رئيساً لعلم الكيمياء أو الفيزياء أو الجغرافيا؟! أو كيف يكون علم الرياضيات والزراعة والعمارة والأحياء والإبداعات الحديثة والكثير من الأمور الأخرى مدينة من وجهة نظره لعلم الفلسفة؟!
إلاّ أن الدليل الوحيد الذي ساقه في هذا الشأن هو قوله: «إن جميع العلوم تعتمد في بيان مسائلها على قانون العلية والمعلولية… وإننا إذا ألغينا دور العلّية والمعلولية فإن باب التفكير سيغلق»، و«إذا لم يؤمن الشخص بقانون العلية فلا يسمح له بالشكّ، بل عليه أن يلتزم الصمت؛ لأن قانون العلية من القوانين الرئيسة في الفلسفة، والفلسفة هي التي تعمل على شرحه وبيانه».
وفي هذا الخصوص يمكن لنا أن نذكر الكثير من الأجوبة. ومن ذلك أنّ قانون العلية والمعلولية من القوانين الطبيعية والقطعية التي تحكم العالم، ولا ربط لها بعلم الفلسفة مباشرةً أو بواسطة، بل يستفيد منه جميع الناس، ومنهم: العلماء والفلاسفة أيضاً. إن هذه الحقيقة القائلة: إنّ لكل ظاهرةٍ ومعلول مظهر أو علّة لا يستعمل في علم الفيزياء والعلوم الفنية والمخبرية الأخرى فقط، بل يدخل في جميع الكائنات والذرّات في عالم الوجود أيضاً. وعلى هذا الأساس فإن مثل هذا القانون وإنْ كان من القوانين الجوهرية في الفلسفة، وقد تحدّث فلاسفة العالم بشأن العلة والمعلول كثيراً، إلاّ أن هذا لا يعني أنه لم يكن له وجود قبل عصر الفلاسفة، وأن الفلاسفة هم الذين أوجدوه. بل إنّ هذا القانون إنما تمّ اكتشافه واستثماره من خلال النظم والترتيب الذي يحكم العالم. وعليه فإن دعوى أن علم الفلسفة؛ حيث يستفيد من هذا القانون، فلا بُدَّ أن يحتكره لنفسه، وأنّ على جميع العلماء أن يعتبروا أنفسهم مدينين للفلسفة والفلاسفة، دعوى لا تستند إلى المنطق؛ فإنّ هذا القانون من بديهيات العالم، وهو مرتبط بالفهم الفطري لجميع الناس، حتّى الصغار منهم، حيث يدركون بعقولهم وسلوكهم وجود هذا العلم الفطري لدى جميع العقلاء. وحتّى أولئك الذين لا يعرفون شيئاً عن الفلسفة، بل لا يعرفون معنى العلّية والمعلولية، نجدهم على صلةٍ وثيقة بهذا القانون في جميع شؤون حياتهم. فهل يكون هؤلاء من وجهة نظر المتحدِّث المحترم مدينين للفلسفة والفلاسفة أيضاً؟! ليس هناك من شكٍّ في أن الأمر ليس كذلك. بَيْدَ أن العلماء في مختلف الفروع العلمية كلّما تحدثوا عن العلة والمعلول إنما يعنون بذلك هذه العلة الفطرية والمقبولة من قبل الجميع، وليس العلّة المقصودة للفلاسفة، والتي يتمّ تقسيمها عندهم إلى مختلف الأقسام والشقوق. وإنّ جميع الفلاسفة، وخاصة المؤسِّسين الإغريقيين للفلسفة، كانوا إلى ما قبل سنوات من الحديث عن العلّية يستفيدون كسائر أبناء المجتمع من هذا القانون الطبيعي. ومن هنا كيف يدَّعي سماحته تملُّك شيء هو في الأساس ليس ملكاً للفلسفة، بل هو مركوزٌ في نعمة العقل التي أنعم بها الله على جميع الناس، دون تمييز بين الفلاسفة وغيرهم؟!
والأهمّ من جميع ذلك أن موضوع العلية والمعلولية في الفلسفة أساساً يختلف إلى حدٍّ كبير عمّا يتمّ طرحه في الميادين العلمية والجامعية أو بين أوساط الناس العاديين بوصفه علّةً. وإن الاستفادة التي يستفيدها الطبيب أو عالم الفيزياء مثلاً من مصطلح العلة والمعلول يختلف عن التصوّر الذي يحمله الفيلسوف عن مفهوم العلة والمعلول. فهو في واحدٍ يشمل جميع المصاديق الخارجية والتجريبية والملموسة؛ من أجل توظيفها في حياة الإنسان، وفي الآخر ينبثق عن ذهن المفكِّر، بعيداً عن الحقائق الخارجية، ولا يُجدي شيئاً بالنسبة إلى الأكثرية من الناس. بل إن أكثر المفكِّرين في العالم لا يرَوْن حاجة إلى معرفة ماهية مفهوم العلة والمعلول من وجهة نظر الفلاسفة الإغريق وأتباعهم، وماهية معانيهما المختلفة؛ لأنهم لا يحتاجون إلى الفلسفة في مجال عملهم، ومن هنا لا يرَوْن أنفسهم مدينين لها أبداً. وعليه ليس هناك إنسانٌ عاقل في العالم إلاّ وهو يذعن بطبيعته وفطرته لهذا القانون الإلهي الشامل، والقائم في الوجود، ويستعمله في حياته، دون أن يعتبر نفسه مديناً للفلسفة في ذلك.
ثمّ كيف يدّعي أن جميع العلوم في العالم مدينة للفلسفة والفلاسفة، في حين أنه إذا تمعّن في التاريخ قليلاً سيدرك أن الأمر على العكس من ذلك تماماً؟! فهو يعلم حتماً أن أقدم كلامٍ للفلاسفة لا يرقى إلى ما قبل القرن السادس قبل الميلاد. فقبل أرسطو وإفلاطون وسقراط ـ الذين عاشوا في القرن الخامس والرابع قبل الميلاد ـ ينتمي طاليس وأناكسيمندروس وأكسيمينس وهراقليطس وفيثاغورس وديموقريطس وأمثالهم إلى الحقبة الواقعة ما بين القرن السادس والخامس قبل الميلاد. وهؤلاء على الرغم من تأسيسهم لعلم الفلسفة، إلاّ أنهم قد أحيطوا علماً بحقيقة العلّة والمعلول ممَّنْ سبقهم من العلماء، وكانوا هم المدينين لهم في ذلك. هذا في حين أن هؤلاء العلماء قد ظهروا في الفترة التي سبقت تأسيس الفلسفة ـ وقبل أن يكون لهؤلاء الفلاسفة وجود خارجي ـ بمدّة مديدة ترقى إلى ما قبل ألف عام، أو حتى ثلاثة آلاف سنة. فقد كان علم الرياضيات والفلك والطبّ والصيدلة والعمران وفروع الهندسة والزراعة والرعي والخط واللغة والكثير من العلوم الأخرى في مصر وفينيقية وبلاد ما بين النهرين والهند وإيران. وقد كان العلماء في تلك الحقبة على معرفةٍ كاملة بقانون العلّية، ويعملون على توظيفه واستثماره والاستفادة منه على خير وجهٍ.
وفي الحقيقة يجب القول: إن المفكِّرين الإغريق وغيرهم هم الذين كانوا مدينين لمَنْ سبقهم من العلماء في الاستفادة من هذا القانون، دون العكس. فالحقيقة أن قانون العلية ليس من صنع الفلاسفة، بل ليسوا هم الذين اكتشفوه، وإنما الفلاسفة كسائر العلماء الآخرين، بل وحتّى الناس العاديين، قد استفادوا من فهم مشترك لهذا القانون في إطار تحقيق أهدافهم وغاياتهم. وعليه لا يحقّ لعشّاق الفلسفة الإغريقية مصادرة مثل هذا الحقّ لصالحهم، واحتكاره لأنفسهم، وتصوير الأمر بعد ذلك بشكلٍ يفرضون فيه على الآخرين قبول سيادة الفلاسفة عليهم.
ثمّ استطرد سماحته في كلمته قائلاً: «وفي هذه الحالة يغدو الفيلسوف هو الشيخ الرئيس؛ لأن علم الفلسفة هو رئيس العلوم، وعمد إلى أسلمة جميع العلوم».
يا له من ادّعاءٍ عجيب!! رأينا قبل ذلك كيف أنه استنتج رئاسة الفلسفة على جميع العلوم؛ استناداً إلى تلك المقدمات الخاطئة، ثمّ خرج بعد ذلك بنتيجة أخرى من تلك المقدّمات مفادها أن الفلاسفة رؤساء جميع العلماء في العالم!! فهل لأن بعض الأشخاص الذين كانوا يعيشون قبل تسعمئة سنة قد أطلقوا على ابن سينا لقب الشيخ الرئيس وجب علينا الاستنتاج بأنه كان رئيساً لجميع العلوم في عصره؟! وحتّى لو سلمنا بهذه الدعوى فهل يسوغ لنا أن نستنتج أن ابن سينا أو بعض فلاسفة عصرنا رؤساء لجميع العلماء والمفكِّرين في العالم أيضاً؟!
من الواضح أن هذا النوع من الكلمات الدعائية، التي يُراد منها محاباة الفلاسفة وعلم الفلسفة على حساب سائر العلماء والعلوم الأخرى، يفتقر إلى المنطق الصحيح. إن النظريات غير العلمية والخاطئة لفلاسفةٍ، من أمثال: سقراط وإفلاطون وأرسطو وغيرهم، بشأن موضوعات مثل: الأرض والمياه وسعة العالم والسماوات والنجوم والماء والنار والهواء والكائنات التي تعيش على الأرض والأعراق البشرية والولادات والتناسل وقيمة المرأة والحقوق الاجتماعية للناس والكثير من المسائل الأخرى ـ التي لا يتَّسع المجال إلى ذكرها في هذا المقال المختصر ـ لا تنهض في الدلالة على سيادتهم وسيادة الفلسفة على سائر العلماء والعلوم الأخرى.
ومن ناحيةٍ أخرى فإن سماحته، على الرغم من اعترافه في هذا المؤتمر بالقول: «إن الفلسفة رؤية متحرِّرة، وقد كانت في بداية أمرها علمانية، فلا هي إلهية، ولا هي إلحادية»، قال بعد ذلك بقليلٍ: «تتكفّل الفلسفة بأسلمة جميع العلوم، وجعلها إلهية ودينية… علينا أن نعمل على أسلمة العلوم، وأن نعمل تبعاً لذلك على تحويل العلماء إلى مسلمين، وعندما يُسلم جميع العلماء سوف يُسلم جميع أفراد المجتمع».
وهذا كلامٌ عجيب أيضاً!! وعلينا أن نتساءل: كيف يمكن لعلم أذعن سماحته واعترف بعلمانيّته ولا دينيّته أن يتكفَّل بالدفاع عن الإسلام والعبودية لله، وترويجها والدعوة إليها؟!
من جهةٍ أخرى ألا يمكن للدين الإسلامي الحنيف أن يدافع عن تعاليمه، حتّى يضطر إلى تخويل الفلاسفة مهمّة الدفاع عنها؟!
هذا ادّعاءٌ لا يقوم على أساس صحيح، ولا سابقة واضحة.
تثبت الحقائق التاريخية أنّ المجتمعات المختلفة على طول التاريخ لم تعتنق الإسلام بفضل جهود الفلاسفة وتلاميذهم، وإن طرق إسلام الناس كانت تختلف عن مسار الفلاسفة في الجوهر. فلا مجتمع شبه الجزيرة العربية وإيران ومصر وآسيا الوسطى قد آمن بالله متأثِّراً بتعاليم الفلاسفة، ولا المواطنون الأصليّون في ماليزيا وأندونيسيا وشمال أفريقيا وغيرها من المناطق التي يسكنها المسلمون قد أسلموا بفعل جهود الفلاسفة. فقد أوضحت المصادر التاريخية أن فلاسفةً من أمثال: الفارابي وابن سينا وابن رشد وصدر المتألِّهين وغيرهم لم يكن لهم أدنى تأثيرٍ إيماني ملحوظ على الغالبية من أبناء مجتمعاتهم، وإن أساليبهم الفلسفية في التبليغ لم تكن قابلة للهضم، ولا تحتوي على الجاذبية الكافية. لقد كان نهج هؤلاء يتّجه في الغالب نحو الأبراج العاجية أكثر منه إلى أكواخ الغالبية العظمى من أبناء المجتمع. ولم يتمكَّن من خدمة السواد الأعظم من الناس وهدايتهم على المستوى العملي غير أولئك الذين اتَّخذوا لأنفسهم مساراً مختلفاً عن الفلاسفة، معتمدين في ذلك على نهج القرآن وسيرة أهل البيت^ في تلبية الحاجة الفكرية والإيمانية لدى الناس.
وأما أغرب كلمة قالها سماحته في هذا المؤتمر فهي تلك التي قال فيها: «إن تاريخ الشرق الأوسط الحديث يثبت أن أرسطو وسقراط و(غيرهما من الفلاسفة)… كانوا بأجمعهم من تلاميذ النبيّ إبراهيم×». «لقد عمَّ فكر النبيّ إبراهيم× ربوع الشرق الأوسط، وعليه تربَّى إفلاطون وأرسطو».
نعلم أن النبيّ إبراهيم× كان يعيش قبل ميلاد السيد المسيح× بحوالي ألفي عام تقريباً([3])، في حين أن سقراط وإفلاطون وأرسطو عاشوا في القرن الخامس والرابع قبل الميلاد([4])، ما يعني أن الفترة الزمنية التي تفصل بينهم وبين النبيّ إبراهيم تقدّر بحوالي ألف وستّمائة سنة. وعليه فإنْ كان مراده أن هؤلاء الفلاسفة الإغريق قد تأثَّروا بتعاليم الدين الإبراهيمي بشكلٍ غير مباشر يجب التساؤل: كيف تمكَّن هؤلاء الفلاسفة من الحصول على تعاليم النبيّ إبراهيم×؟! وأين حصل لهم ذلك؟! فهل تأتّى لهم ذلك من خلال الاحتكاك بأتباع الديانة الإبراهيمية، أو من خلال قراءة الكتب والنصوص المأثورة عن النبيّ إبراهيم×؟ وهل هناك وثيقةٌ تاريخية تثبت ذلك؟
ونلاحظ أن المرجع الوحيد الذي يذكره في نصّ كلامه هو «تاريخ الشرق الأوسط الحديث». وللأسف الشديد لا وجود لكتاب بهذا الاسم بشأن تلك المرحلة، وهذا الادّعاء الكبير، ولا التحقيقات التاريخية المعاصرة تثبت مثل هذا الكلام. مع علمنا في الأساس أنه لم تَبْقَ أيّ وثيقة تاريخية، من قبيل: المخطوطات أو الكتابة على الطين أو البردي، أو تقارير عن نصوص الأديان الإبراهيمية وما شاكلها، لا في الشرق الأوسط ولا في أوروبا. وعليه لم نعرف مراده من «التاريخ المعاصر للشرق الأوسط»؟
وعلى أيّ حال يبدو من مُدَّعاه أنه قد تصوَّر أن الفلاسفة الإغريق قد أصبحوا موحِّدين ومتعبِّدين لله بتأثيرٍ من الأفكار الإبراهيمية، وعادوا أدراجهم إلى اليونان معبَّئين بهذه الأفكار! ولكنْ للأسف الشديد لم ينقل تأييد هذا التحوُّل رغم أهمّيته، لا من قبل أتباع الديانة الإبراهيمية، ولا من قبل سقراط وإفلاطون وأرسطو، كما لم يذكر هذا الأمر في أيِّ مصدرٍ إغريقي آخر.
يبدو أن أصل هذا الادّعاء يعود بجذوره إلى ما اعتقده البعض من أن الأفكار التوحيدية التي صدع بها النبيّ إبراهيم× قد تركت تأثيرها على الإغريقيين، وجعلتهم موحِّدين، وأتباعاً للديانة التوحيدية من حيث لا يعلمون. بَيْدَ أن الحقيقة شيء آخر. وإليك بيانها على النحو التالي المختَصَر:
ليس هناك من شكٍّ في أنه إذا أردنا جلاء الغبار عن الحقائق التاريخية المرتبطة بالأزمنة السحيقة، وخصائص المجتمع الفكرية والإيمانية والعملية، وجب علينا الرجوع إلى الآثار المتبقّية عنهم، من قبيل: الكتب والألواح، وكلّ نوع من أنواع التقارير الأخرى التي ترصد تلك الحقبة السحيقة. وعليه لا بُدَّ من اتّباع هذا الأمر بالنسبة إلى الأوضاع الفكرية والعقائدية للإغريق أيضاً. بَيْدَ أننا إذا اتبعنا هذا الأسلوب سندرك أن جميع المصادر المتنوّعة ـ وخاصّة الإغريقية منها، والتواريخ الأوروبية التي ترصد الثقافة والحضارة الإغريقية ومدينة أثينا في عهودها الغابرة ـ توضّح بما لا يبقى معه مجالٌ للشكّ أن الإغريقيين لم يكونوا يعبدون أسلافهم والشمس والقمر وغيرهما من الأجرام السماوية والظواهر الطبيعية فحَسْب، بل كانوا كذلك يعبدون مختلف أنواع الآلهة بكلّ فخرٍ واعتزاز. وبشكلٍ عامّ كانت الآلهة الإغريقية تنقسم إلى مختلف الطبقات المتنوّعة، من قبيل: الآلهة الأرضية، وما تحت الأرضية، وآلهة السماء، وإله جبل أولومبيا، بَيْد أن من أقدم الآلهة الإغريقية يمكن لنا الإشارة إلى: زيوس إله الآلهة، وآبولو إله الشمس، وبوزيدون إله البحار، وهستيا إله الأمومة، ودوميتر إله الزراعة، وهرميس الإله الحكيم والخالق، وآرس إله الحرب، ليضاف بعد ذلك بفترة هيراس زوج زيوس، وأثينا إله الحكمة والذكاء ومعبود الأثينيين، وآرتميس بنت زيوس، وإفروديت إلهة العشق، إلى سائر الآلهة الإغريقية الأخرى. وقد كانت جميع هذه الآلهة تُعْبَد على شكل أنصاب وتماثيل كبيرة وصغيرة إلى جوار النار المقدَّسة([5]).
والحقيقة أن عبادة الآلهة والشرك كان سائداً في المجتمع الإغريقي اليوناني، منذ بداية تكوينه إلى حين انهياره واندثاره بشكلٍ كامل، ولم يعرف الإغريقيون معنى التوحيد أبداً. وكان الفلاسفة الإغريق كسائر الناس والطبقات الاجتماعية الأخرى. وقد أثبتوا في مؤلَّفاتهم احترامهم وولاءهم لهذه الآلهة المختلفة. وقد عبدوا مختلف الظواهر والآلهة الطبيعية([6]). إن المجتمع الإغريقي لم يكن غارقاً في الشرك وعبادة الأوثان في فترة سقراط وإفلاطون وأرسطو فحَسْب، بل كانوا هم وجيرانهم من الرومان إلى ما بعد ثلاثة قرون من ميلاد المسيح× لا يبدون أيَّ ميلٍ أو مرونة تجاه توحيد الله([7]). ومن البديهي أن ليس هناك من طريق للحصول على ثقافة وحضارة ومعتقدات الأسلاف غير المصادر التاريخية المعتبرة، وإنّ التصورات الفردية والأذواق الشخصية، التي لا تنتمي إلى أصلٍ، لن تغيِّر من حقيقة الأمور شيئاً، ولن تضفي عليها أيَّ قيمةٍ علمية أبداً.
وحيث علمنا أن الفلاسفة الإغريق لم يكونوا من الموحِّدين، ومع ذلك أصرّ سماحة المتحدِّث على أنّ «النبيّ إبراهيم× قد نسج الحكمة العملية والنظرية ودين الله والفلسفة وحاكها ببعضها»، وكان الفلاسفة الإغريق قد تربّوا على أفكار النبي إبراهيم×، وجب علينا أن نستنتج أن سماحته يرى أنّ النبيّ إبراهيم× كان أستاذاً في الفلسفة، وقد لقّن الإغريق علم الفلسفة، ولم يعلِّمهم التوحيد وعبادة الله والصلاة والصوم وما إلى ذلك. إذن حتّى إذا سلَّمنا بصحة تقريره بشأن تأثُّر الفلاسفة الإغريق بالديانة الإبراهيمية فحيث نجد التاريخ يثبت أن نتيجة جهود أولئك الفلاسفة في مجتمعاتهم تشمل آثاراً بشأن بعض العلوم والفلسفة، وكذلك الاستمرار على عبادة الأوثان، علينا أن نذعن بأنهم لم يتعلَّموا من النبيّ إبراهيم شيئاً غير علم الفلسفة والوثنية، أو علينا الإقرار بأن فلاسفة الإغريق لم يحصلوا على شيءٍ باسم التوحيد والديانة الإلهية، وأن جميع تعليماتهم وأفكارهم منبثقة عن الثقافة الإغريقية المشركة.
نتيجة الكلام ــــــ
ليس هناك من شَكٍّ في أن الفلاسفة الإغريق لم يسعَوْا يوماً إلى الاحتكاك بالأنبياء أبداً. كما أن أرسطو وغيره من فلاسفة الإغريق لم يعبدو الإله الواحد الذي دعا إليه الأنبياء، ولم يقُمْ هؤلاء الفلاسفة بأيّ مسعىً للدعوة إلى دين النبيّ إبراهيم أو غيره من الأنبياء^، ولم يكن للأنبياء أو أوصيائهم أيّ ارتباط بالفلاسفة أو أفكارهم، ولم يقوموا بأيِّ تأييدٍ لهم.
وفي الختام نقدِّم بعض المصادر العلمية النافعة في عملية التحقيق، وتعريف القارئ بالثقافة والحضارة اليونانية القديمة، وذلك على النحو التالي:
ـ Michael H. Hart. The 100: A Ranking of the Most Influential Persons in History. 1978 (Revised Edition, 1992) P 105 to 109.
ـRonald H. Nash. Life’s ultimate questions: an introduction to philosophy. Zondervan Publishing House. 1999.
ـ William Smith. Dictionary of Greek and Roman Biography and Mythology. (1870).
ـ Karl Kerenyi. The Gods of the Greeks. Thames & Hudson. 1980.
ـ مشرق زمين كاهواره تمدّن.
ـ يونان باستان، قيصر ومسيح، (ج 1 و2 و3).
ـ ويل ديورانت، تاريخ تمدن.
ـ ويل ديورانت، تاريخ فلسفه، ترجمه إلى الفارسية: زرياب خوئي.
ـ هنري لوكاس، تاريخ تمدن، ج 1.
ـ مقال أرسطو (Aristotle) لـ (Edward Grant)، على شبكة الإنترنت.
ـ المواقع الإلكترونية حول الآلهة الإغريقية أو (Greek Gods).
ـ دوره آثار إفلاطون، ترجمه إلى الفارسية: محمد حسن لطفي.
ـ دوره آثار أرسطو (ما بعد الطبيعة، أخلاق نيكوماخوس، السماع الطبيعي الفيزيقي)، ترجمه إلى الفارسية: محمد حسن لطفي.
الهوامش
(*) باحثٌ في تاريخ الفكر الفلسفيّ.
([1]) المراد هو سماحة الشيخ عبد الله جوادي الآملي.
([2]) إن هذا الكلام حصيلة عدد من الجمل المتناثرة في مجموع كلماته الموجودة في المصادر المذكورة، فراجع.
([3]) أحمد بهشتي، تاريخ ملل قديم آسياي غربي (تاريخ الشعوب القديمة في آسيا الغربية): 221.
([4]) أرسطو (من 384 إلى 322ق.م). وإفلاطون (من 427 إلى 347ق.م). وسقراط (من 470 إلى 399ق.م).
([5]) انظر: ويل ديورانت، تاريخ الحضارة، اليونان في عصورها القديمة: 197 ـ 217؛ علي أصغر حكمت، تاريخ أديان (تاريخ الأديان): 83 ـ 84.
([6]) عقيدة سقراط بشأن وظائف الآلهة (إفلاطون، فايدروس، رقم: 246)؛ كما كان أرسطو يعتقد بوجود خمسة وخمسين محرّكاً أوّلياً (أرسطو، ما بعد الطبيعة، رقم: آ، 1074)؛ وكان إفلاطون يرى أن الشمس إلهة، وأن لها روحاً (القوانين، رقم: 899)؛ وعبادة هذا الفيلسوف لهذه الآلهة والابتهال لها (القوانين، رقم: 893)، وما إلى ذلك.
([7]) لمزيدٍ من المعلومات بشأن عقائد الإغريق والرومان، انظر: مشرق زمين كاهواره تمدّن (بلاد الشرق مهد الحضارة)؛ يونان باستان قيصر ومسيح (اليونان الإغريقية في عهد قيصر والسيد المسيح) 1 و2 و3)؛ ويل ديورانت، تاريخ الحضارة.