هل الفلاسفة وحدهم هم المتَّهمون؟!
حيدر حبّ الله(*)
عندما نقوم بعرض تهمةٍ أو إثارة فكريّة معينة تتصل بتاريخ نشوء الفلسفة الصدرائية أو غيرها، ومنابع هذه الفلسفة، فهذا يعني محاولةً لفهم هذه الفلسفة بعيداً عن التهويل والأسطرة، وذلك أنّ الملاحظ ـ في الفترة الأخيرة على الأقلّ ـ أنّ طلاب الدراسات الفلسفيّة، بما في ذلك الوسط الديني، باتوا يتعاملون بروحيّة التقليد مع النتاج الفلسفي. وهذا شيءٌ لا يبشّر بولادة عهدٍ فلسفي جديد. فإذا انتقدتَ فكرةً فلسفيّة كان الجواب أن يؤتى لك بنصٍّ يؤيّد هذه الفكرة من فيلسوفٍ آخر، وكأنّ قول الفيلسوف حجّةٌ أو برهان، فيما المفروض أن يكون قوله مفتقراً فقراً وجوديّاً ـ إذا صحّ التعبير ـ إلى الحجّة والبرهان، فبدونهما لا قيمة للأقوال في نفسها بالنسبة لطالب الفلسفة، والباحث عن الحقيقة.
هذا المؤشِّر تضاعفت خطورة معطياته بعدما حصل الخلط بين الفلسفة والعرفان. فعندما تُغْرِقُ العلومَ العقليّة بالعرفان فأنت تُدخل الدرس الفلسفيّ في مكانٍ خطير، يمكن أن يؤسِّس لفكرة الشيخ والمريد، ولفكرة الاتّباع، لا الإبداع، فيصبح طالب الفلسفة مدافعاً شرساً عن كشوفاتٍ لم يَرَها ولم ينعم بعُشْر معشارها، وثقتُه العظيمة هذه إنّما جاءت من أصحاب هذا الكشف، والرصيد المعنويّ والروحي الذي يملكونه في قلوب طلاب الفلسفة والحقيقة.
هذا ما يدفعنا للحاجة لدراسة تاريخيّة للفلسفات التي يريد بعض الناس أن يحوِّلوها إلى أسطورة مقدّسة، بواسطة إغراقها بالكرامات الفكريّة والعمليّة. فالدرس التاريخي يكشف عن أمور واقعيّة جادّة، ويعطي الحقّ لأصحابه، دون أن يبخس الآخرين حقوقهم. وبروح المنطق يمكن حينئذٍ الدفاع عن فلسفةٍ ما بدل روح الحماس والعاطفة، اللتين لا تعرفهما الفلسفة بما هي عقلٌ محض.
هذا كلُّه واضح جليّ. ولهذا ضممنا صوتنا الخافت إلى صوت أمثال الأستاذ محمد رضا الحكيمي والدكتور طه عبد الرحمن وغيرهما لضرورة نقل الفلسفة من التقليد إلى الاجتهاد.
ولكنْ، كي لا نرمي الناس بالحجارة وبيوتنا من زجاجٍ رقيق، أتوقَّف قليلاً مع خصوم الفلسفة، الذين ينظِّرون ليلاً ونهاراً في اتهامها بالتبعيّة والتقليد. فالفلسفة الإسلاميّة التقليديّة متَّهمة بالتبعيّة لفلسفة اليونان والإسكندريّة والفرس والهنود وغيرهم. ولطالما اتَّهمها خصومها بأنّها تريد أن تدافع عن أساطير الهند، وخرافات فارس، وشركيّات اليونان. والفلسفة الحديثة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية هي الأخرى متَّهمة بالتبعيّة والتقليد للغرب الحديث، فلا تُبدع شيئاً وإنَّما تترجم وتكرّر ما يقدِّمه الغرب، ولا تزال تدقّ أسماعنا بمصطلحاتها المتكلّفة، التي تحاول أن تُحاكي الغرب، دون أن تفكّر في نقده أو التأمُّل بما عنده.
بالنسبة لي فإنّ هذين الإشكالين على الفلسفة القديمة والحديثة في فضائنا العربي والإسلامي صحيحان من حيث المبدأ. فبالفعل استقى الفيلسوف القديم والجديد جزءاً مهمّاً من أفكاره من الخارج، وأضاف قليلاً أو كثيراً، تبعاً للفترات الزمنيّة التي شهد فيها عالمنا الإسلامي ازدهاراً وتدهوراً. وهذا شيءٌ لا يُنكر. لكنّ اقتباس الفيلسوف المسلم من الخارج شيءٌ وتقليده للخارج شيء آخر. فهذان مفهومان مختلفان تماماً. فالاقتباس يعني أنّه اعتمد على غيره في فكرةٍ ما، ولكنّ هذا لا يعني أنّه مقلِّد، بل قد يكون طوّر في الفكرة أو أضاف أو انتقد بعد ذلك في جيلٍ لاحق كانت له رؤيته المختلفة للأمور في مرحلة أكثر نضجاً. لا فرق في ذلك بين فيلسوفنا القديم والحديث. فليس عيباً أن يتعلَّم من الحضارات والمدارس الأخرى، لكنّ العيب أن يقلّدها. ومعنى أن يقلّدها هو أن يقف عندها ـ من جهة ـ شرحاً وبسطاً ومقارنةً ومقاربةً وتفسيراً وترجمةً و…، أو أن يواجهها مستلب الفكر والعقل والوجدان من جهةٍ ثانية. فعندما تواجه فكراً قادماً أو مقتبساً وأنت في حالة استلابٍ فإنّك تُعلن التقليد؛ لأنّك مهما فكّرت وتأمّلت فإنّ العقل سيصوِّر لك أنّك اجتهدت فوافقت الفكر المقْتَبَس، بينما في حقيقة الأمر أنتَ لم تجتهد، بل فكّرت مستلباً، فجمعت بين الاجتهاد والتقليد، فاجتهدت مقلِّداً لغيرك لا أكثر. فإذا أرادت الفلسفة القديمة أو الحديثة في عصرنا الراهن أن تصبح فلسفةً اجتهاديّة فلا يعني ذلك أن تسدّ أبواب الاقتباس من الآخرين، أو أن تُغلق عليها تعاون العقول معها لترى الأمور بشكلٍ أفضل، بل المهمّ هو أن تفكّر ـ قبل أو بعد الاقتباس ـ بعقلٍ غير مستلب، وبرؤية نقديّة جريئة، قادرة على إنتاج معرفة جديدة، ولو بالمراكمة الزمنيّة البطيئة. فهنا مربض الفرس، وهنا التحدّي الحقيقي.
إذن، ليس عيباً في الفيلسوف أن يقتبس، ثمّ يجتهد، لكنّ العيب الأخلاقي يكمن في أن تقتبس الفلسفة من مكانٍ ما، ثم تُنكر لهذا المكان فضله، وتتنكَّر له، أو تتنكَّر الأجيال الفلسفيّة اللاحقة له؛ بسبب غياب الدرس التاريخي. فأن تأخذ فكرةً من غيرك ليس بالأمر المعيب، بل المعيب أن لا تحفظ ـ ولا سيَّما في عصرنا الحاضر، بعد النهضة الحقوقيّة في العالم ـ للآخرين حقوقهم المعنويّة، وأن تصادر منجزاتهم. وهذه مشكلة لا تعاني منها اليوم الفلسفة وحدها، بل يعاني منها أغلب الكتّاب والباحثين في مختلف العلوم الدينية والإنسانيّة وغيرها. سرقاتٌ بالجملة، وانتهاك حرمات فكريّة يجري على قدمٍ وساق، حتّى أنّ بعضهم لو ذكَّرتهم مراراً وتكراراً بالتوقُّف عن هذه الانتهاكات غير الأخلاقيّة لم يتوقَّفوا. لقد صار الوقت مناسباً لفضح هؤلاء أينما كانوا، وهم يبنون أمجاداً على جهود الآخرين. والأغرب من ذلك أنّ ثقافة بعضنا تقوم على عدم احترام الجهود التي تنبني على التوثيق ومراعاة حقوق الآخرين. فلو ألّفت كتاباً مليئاً بالإرجاعات، وموثِّقاً المعطيات، وأضفْتَ في الكتاب ما نسبته العشرة في المائة، اعتُبرتَ جَمَّاعةً، أمّا لو كذبت على الناس، وسرقت الثمانين في المائة، ولم تُرجع إلاّ بنسبة العشرة في المائة، فأنت العالم العيلم. وعندما يكون المجتمع غير واصل إلى مرحلةٍ من الوعي والنضج في هذه القضايا فإنّه بنفسه يسمح لمثل هؤلاء أن يسرقوا أعمال الآخرين، ويتربَّعوا على العرش ظلماً وعدواناً. كيف وبعضُهم يدَّعي أنّه صاحب مشاريع تجديدية وإصلاحيّة، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
لقد خرجنا قليلاً عن الموضوع؛ ربما بسبب أنّني واحدٌ من الذين عانوا من هؤلاء في سرقة بعض أعمالي من قِبَلهم على رُخْص ثمنها. لكنْ وبالعودة إلى أصل الموضوع يظهر هنا سؤالٌ: هل مشكلة الاقتباس غير الأخلاقي أو مشكلة التقليد والتبعيّة هما مشكلتان تعاني منهما الفلسفة فقط، أو أنّ خصوم الفلسفة الذين يهاجمونها اليوم يعانون أيضاً من هذه المشكلة، التي يوحون بنقدهم أنّهم متطهِّرون منها؟
هذا السؤال جديرٌ بالتأمُّل. فلو أخذنا مدرسة الفقهاء والمحدِّثين والمفسّرين، وبعضٌ منهم اليوم مَنْ يعلن الحرب على الفلسفة، لوجدنا أنّ هذه الظاهرة موجودةٌ أيضاً في وسط هذه المدرسة، دون أن نعمِّم بالتأكيد، لا هنا، ولا في ما يتعلَّق بالفلاسفة.
أمّا على صعيد الاقتباسات التي لا تراعي حدوداً أو حرمةً للآخرين فحدِّثْ ولا حَرَج. فهذه السوق قائمةٌ اليوم، كثيرة السلع، غزيرة الإنتاج، يصعب حصرها، وهي تضيِّع حقوق المُبْدعين من الفقهاء والمفسّرين والمحدّثين في هذا العصر. بل الغريب أنّ بعضهم يُكتَب له وينشَر باسمه، أو يطبع كتباً غالبها من قلم غيره، وجزء ممّا فيها من نتاجه. ولعلَّ فرصاً تأتي يُكشف فيها النقاب عن أحوال كثيرة في هذا الصدد، بما لا يخلّ بحدود الشرع والأخلاق.
وأمّا على صعيد التقليد فالأمر يكاد يكون شعاراً، بل وثقافةً عند بعضهم. فيحتجّون بقول الفقهاء بدل أن يحتجّوا بالأدلّة، ويصبح كلام الفقهاء هو المعيار الذي على أساسه توزن الأفكار الأخرى، رغم أنّنا نتكلّم في وسط علميّ. حتّى أنّك تجد ظاهرةً عامّة باتت منتشرة في بعض الأوساط، وهي تنطلق من عنصر الثقة، فإذا قال فلانٌ بالفكرة الفلانية فهي متَّهمة مشكوكٌ في أمرها، ومشكوك في دوافعها، لكنْ إذا قالها غيرُه فهي بريئةٌ نزيهة. ولعلّ من آخر الأمثلة التي حصلت معي شخصيّاً ـ واسمحوا لي بهذا المثال ـ أنَّني عندما كتبتُ بحثي حول اشتراط الإيمان في مستحقّ الخمس والزكاة (انظر: حيدر حب الله، دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 4: 337 ـ 391)، وتوصَّلت فيه إلى أنّه لا يُشترط في مستحقّ الخمس ولا الزكاة أن يكون شيعيّاً، ولا إماميّاً، وأنّ ما ذكرَتْه النصوص في هذا المجال هو حكمٌ زمني ولائي، عاب عليّ ذلك أكثر من صديق وناقد، وراسلني بعضُهم، وتحدّث معي مباشرةً بعضٌ آخر بكلّ أدبٍ واحترام، واعتبروا أنّها ناتجة عن ميولي التاريخانيّة، وأنّي قد أكون طوَّعْتُ النصوص لأجل عقائدي في قضيّة التقريب بين المذاهب. إنّ هذه الفكرة لو صدرت من فلان فهي مشكوكةٌ؛ لأنّه من الممكن أن يطوِّع النصوص لأجل مسيرته الفكريّة الخاصّة، وميوله الثقافيّة المعروفة، أمّا لو صدرت من غيره ممَّنْ هم محسوبون على التيار المدرسيّ، فإنّ الأمر مختلفٌ. ولهذا صادف منذ بضعة أسابيع قليلة جداً أنْ رأيتُ في كتاب (بحوث في شرح مناسك الحجّ 2: 147 ـ 148)، للسيد محمد رضا السيستاني حفظه الله، أنّه ـ وهو يذكر نماذج للأحكام الولائيّة والزمنيّة ـ ذكر اشتراط التشيُّع في مستحقّ الزكاة على أنّه حكمٌ ولائي زمنيّ صدر من أهل البيت لظروفٍ مؤقّتة. وعندما صادف أن التقينا ببعض مَنْ كان نقد تلك المقالة المتواضعة، وأخبرناه مؤخَّراً بهذا الأمر، اختلف الحال جدّاً، وهذا يرشد ـ وغيره أيضاً ـ إلى حجم حالة التقليد من جهةٍ، والتمييز في التعامل مع الأفكار وأصحابها من جهةٍ ثانية. ولعلَّ لي الحقّ أن أسأل: إذا كان يحقّ لنا أن نتكلَّم في الآخرين بهذه الطريقة فلماذا لا يحقّ للآخرين أن يتكلَّموا بالطريقة نفسها في حقّ الفقهاء المدرسيِّين عندما يخرجون بنتائج توافق مشهور المتقدِّمين؟ أليس هذا منسجماً مع ميولهم التقليديّة والمدرسيّة؟ وهل سيسمح لنا هؤلاء بمثل هذا النقد أو سيعدّ تجريحاً وإهانةً وتعرّضاً لأخلاقيات الفقهاء؟
هذه مجرّد قصّة أردت منها أن أؤكّد المبدأ وأقرّبه، وهو أنّ الفقه الإسلامي ليس بعيداً أيضاً عن روح التقليد بالقدر الذي تبتعد فيه الفلسفة عن هذه الروح، وليس بعيداً أيضاً عن روح الاقتباسات بالقدر الذي تعاني منه الفلسفة. ومَنْ كان بلا خطيّة فليَرْمِها أوّلاً بحَجَرٍ، كما يُنسب للنبيّ عيسى× (إنجيل يوحنّا، الإصحاح الثامن، الآية: 7). وليس لأحد الحقّ (الأخلاقي) في مثل هذه الأمور، إلا الذي نزَّه نفسه حقّاً عن الانتحالات والاقتباسات الملتويّة والمخفيّة، والذي كشف للناس حقيقته الحقيقيّة، لا صورته الوهميّة المكبَّرة والمعظَّمة، والذي أخلص حقّاً في التأمّل والتفكير، فلم يكن مسلوب الفكر، ولا مرتعشاً من مفكِّر، ولا خائفاً من النقد، ولا مشتهياً لتدمير الآخرين. والمفتاح في هذا كلّه إنّما يكون في الأخلاق، عنيتُ أخلاق المعرفة وتداولاتها. فبدون الأخلاق، التي يمدّنا الدين برصيدٍ كبير فيها، من الصعب أن نصل إلى حياةٍ علميّة نزيهة. وفَّقنا الله لكلِّ خير.
وأشير أخيراً إلى أنّ ما ذكرتُه عن الفلاسفة والعرفاء والفقهاء والمفسّرين والمحدّثين وطلاب هذه العلوم بمستوياتهم المختلفة إنّما أردتُ منه الحديث عن وجود حالةٍ في فضاء هذه العلوم، وليس الحديث عن أشخاصٍ أو مجموعات كاملة منتمية لهذا العلم أو ذاك، حتّى لا نجني على أحد ونظلمه، ونظلم أنفسنا به.
كما أشير إلى أنّ ملفّ الفلسفة والانتحال، الذي نعقده لهذا العدد من المجلّة (نصوص معاصرة)، لا نريد به تضعيف موقف الفلسفة الصدرائيّة، بل ذكرنا فيه الرأي والرأي الآخر. وعندما ننتقد شيئاً في الفلسفة فنحن نريد أن يسعى المختصُّون الفاهمون بهذا العلم لإنتاج العصر ما بعد الصدرائي، لا أنّ الهدف من نقد الفلسفة الصدرائيّة هو العودة إلى هجران الفلسفة، كما يفهمها بعضنا. فنحن نريد بالعصر ما بعد الصدرائي ما يشبه ما يعبِّر عنه الغرب بـ (ما بعد الكانطيّة) أو غيره. إنّ نقد كانط ليس رجوعاً إلى الوراء، للعودة إلى مَنْ كانوا قبل كانط، كديكارت أو غيره، بل هو تقدُّمٌ نحو الأمام، يستفيد من كانط ومَن قَبله لولادة مرحلةٍ جديدة. وهذا بالضبط ما نهدف إليه من أيّ قراءةٍ أو نشر يختصّ بنقد الفلسفة الصدرائيّة. وإذا كان الصدرائيون مخلصين لهذه الفلسفة فليس من الخير لهذه الفلسفة أن نختزلها في مدرسة الملاّ صدرا الشيرازي، ولا في شخصه. تماماً كما ليس من الخير أن نختزل التفسير بمدرسة العلاّمة الطباطبائي، كما هي الحال المهيمنة في غير موقعٍ، ولا سيَّما في بعض الأوساط الإيرانيّة المعاصرة، حتّى أنّ نقد أمثال السيد الخوئي أسهل بكثير من نقد الطباطبائي في هذه الأوساط!
إنّ من الخير لهذه الفلسفة أن تواصل نقد ذاتها وتتطوَّر، وهو ما نجد مظاهر ناجحة له في العقود الأخيرة. وفّقنا الله جميعاً لكلِّ ما يعود بالنَّفْع للحقيقة والدين والإنسان.
(*) نشر هذا المقال بوصفه كلمة تحرير لمجلة نصوص معاصرة، في بيروت، العدد: 36 ـ 37، عام 2014 ـ2015م.