أحدث المقالات

نحو تأسيس فقهٍ قرآنيّ

الشيخ أمين إيماني(*)

تمهيد

هي دراسةٌ موجزة تحاول أن تقدِّم قراءة فينومينولوجية للآية 27 من سورة الكهف، فتثبت من خلال ذلك كون القرآن مصدراً معرفيّاً دينيّاً وحيداً.

أودّ أن أعالج في هذه الوريقات إشكاليةً قرآنية هامّة، وهي الهويّة الحقيقيّة للسنّة، وعلاقتها المتصوّرة مع القرآن، أو قُلْ: واقع كون القرآن مصدراً معرفياً دينيّاً وحيداً… أريد هنا أن أصدر عن هكذا دعوى، قائلةً بأن القرآن الكريم من حيث المعرفية الدينية يعتبر مصدراً معرفياً دينيّاً وحيداً، وأما السنة فلا بُدَّ أن تُقيّم وتُفهم على ضوء هذا المصدر المعرفي. وفي الواقع فإن السنة هي قراءة الرمزيّات الخفيّة للقرآن من قبل الرسول|، وبعبارة أخرى: هي مجموعة استنباطات من الرمزيّات الخفيّة للقرآن التي قد حصل عليها الرسول|، بإيحاء ثانٍ من قبل الله سبحانه وتعالى، على بيان سيأتي فيما بعد.

إنّ الطريقة المناسبة التي نراها لإثبات دعوانا إنّما هي نموذج التحليل الفينومينولوجي (الظاهراتي)، القائم على المقاربة الداخل الدينية. وسنبيّن على ضوء هذا النموذج أنّ تفسير الآية 22 من سورة الجنّ، والآية 27 من سورة الكهف، بشكل تأويلي يدلّنا على كون القرآن مصدراً معرفياً دينيّاً وحيداً.

1ـ أفهوم «الملتحد» في القرآن الكريم

لقد استعملت كلمة «الملتحد» في موضعين من القرآن الكريم:

الأول: سورة الجنّ، الآية 22، يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَ‌نِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً﴾، حيث يظهر من الآية أنه لم يكن للرسول| ملتحدٌ إلاّ الله سبحانه، وإنما كان ملتحده الموحي إليه هو قرآنه، كما هو تعالى ملتحده في كلّ ما كان يحتاجه، تكويناً وتشريعاً.

الثاني: سورة الكهف، الآية 27، يقول تعالى: ﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَ‌بِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً﴾. ومن المعلوم أنّ هذه الآية من حيث المضمون تعطي نفس المعنى الذي تفيده الآية الأولى، ولكن بفارق أن الآية الأولى تثبت للرسول| ملتحداً وجوديّاً باعتبار رجوع الضمير في «مِن دُونِهِ» إلى الله تعالى، وأما الآية الثانية فتثبت له ملتحداً معرفياً، أي في مجال المعرفة، باعتبار رجوع الضمير في «مِن دُونِهِ» إلى الكتاب، أي القرآن الكريم، لا إلى الربّ، من خلال وجود القرائن المتَّصلة في ذات الكلام، كـ «اتْلُ»، «مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ»، «كِتَابِ رَ‌بِّكَ»، و«كَلِمَاتِهِ»، مضافاً إلى أن الضمير في الكلام أدبيّاً يرجع إلى المضاف، لا إلى المضاف إليه.

ثم إن الآية الثانية تُحيل ملتحداً من دون القرآن، كما تحيله من دون الله، ضرباً إلى أعماق الزمن ما بقي الدهر. فمهما غاب شخص الرسول| لا تغيب رسالته القرآنية. وإذا الرسول|، وهو أول العابدين، «لن تجد…» فغيره أحرى أن «لن يجد». فـ «لن تجد…» وإنْ كان خطاباً لشخص الرسول|، ولكنّه بإحالة «لن». وأول العابدين في «تجد…» يطوي كلّ زمان ومكان، وكلّ إنس وجانّ، حتّى القيامة الكبرى، فتحيل أيّ ملتحد طول الزمان وعرض المكان، سوى القرآن.

إلى هنا اتّضح لنا أنه ليس للرسول| أيّ ملتحدٍ ـ سواء أكان وجوديّاً أم معرفيّاً ـ سوى الله وكتابه الغنيّ. على هذا الأساس فيتعيَّن واجبنا هو الآخر في المجال المعرفي، بحيث يجب علينا أن نستند في كسب المعارف الدينيّة إلى القرآن الكريم فقط، وأن لا نتّخذ غيره ملتحداً معرفيّاً، على حدّ التعبير القرآني.

ولا بُدَّ من الإشارة إلى أنه عندما نقول هنا: «يجب علينا أن نستند في كسب المعارف الدينيّة إلى القرآن الكريم فقط، وأن لا نتّخذ غيره ملتحداً معرفيّاً» لا نريد بأيّ وجهٍ من الوجوه إنكار السنّة ـ كمصدرٍ معرفي ديني ـ من الأصل، بل نريد أن نعلّق بشكلٍ موضوعي ونَسَقي على العلاقة القائمة بين السنّة والقرآن، وأن نبيّن كون السنة النبويّة من حيث الهوية الحقيقية عبارةً عن الرمزيّات الخفيّة للقرآن الكريم؛ إذ كيف يمكننا أن ننكر السنة النبوية في حين أن القرآن نفسه في كثير من آياته المبينة([1]) يقدِّم لنا السنة النبوية كمصدرٍ معرفي لا محيص عنه. وبناءً على ذلك فإنكار السنة النبوية يعني في الواقع إنكار نفس القرآن.

 

2ـ الجوانب الأربعة للقرآن

بناءً على نموذج التحليل الفينومينولوجي فإن للقرآن الكريم على مستوى التوجيه المعرفي أربعة جوانب مختلفة؛ اثنان منها يرتبطان بالجانب الدلالي للقرآن؛ والباقيان الأخيران بالجانب الرمزي له. فالأقسام كالتالي:

أـ الجانب النصي.

ب ـ الجانب الظهوري.

ج ـ الجانب الرمزي المطلق.

د ـ الجانب الرمزي النسبي.

إن الجوانب الدلالية للقرآن ـ نصيّةً كانت أو ظهوريّة ـ تتَّسم بعلامة السعة والشمولية، حتّى تتّسع لتشمل جميع المخاطبين، ومنهم النبيّ الأكرم| والأئمة المعصومون^. وأما الجوانب الرمزية للقرآن ـ مطلقةً كانت أو نسبية ـ فهي مختصّة بالنبيّ ليس إلاّ.

وعليه فتتمتَّع الجوانب الرمزية للقرآن بالخصوصيّة الذاتية، وبالتالي يختصّ بشخص النبيّ فقط. والجوانب الدلالية للقرآن تتَّسم بالخصوصيّة الموضوعية، ومن ثمّ يفهمها كلّ مَنْ يعرف اللغة العربية، أو يعلم ترجمة القرآن المبين.

توضيح ذلك: إن اللفظ من حيث الدلالة اللغوية قد يكشف بالصراحة عن المعنى الذي قصده المتكلِّم، بحيث لا يحتمل الإنسان غير ذلك المعنى الواحد المقصود، ويسمّى بـ (النصّ)؛ وقد لا يكشف بالوضوح عن المعنى الذي قصده المتكلِّم، بل يحتمل أكثر من معنى بشأن مقصود المتكلِّم، لكنه راجح في أحدها، ومن جهة أخرى فإن المعنى المرجوح من بين المعاني لا يؤخَذ به في منهج العقلاء، ولا تدور عليه رحى المحاورة، وإنما يؤخذ بالمعنى الراجح، وهذا يسمّى بـ (الظاهر).

وعليه فإن النصّ يتسم بالصراحة والتعبير الكاشف كشفاً مؤكَّداً عن غرض المتكلّم؛ والظاهر بغلبة الظنّ فيه بأنّه مراد المتكلِّم. وبهذا أخضعت اللغة في التعامل معها للتقسيم القائم على قوّة الاحتمال الذي تعطيه، أو يؤخذ منها، فصار الاحتمال الموجود في الذهن هو المعيار لتقسيم دلالات اللغة.

يجب علينا أن نلتفت في المقام إلى نقطة، وهي أن الظهور ينقسم إلى: ظهور ابتدائي؛ وظهور استقراري.

ولتمييز الظهور الابتدائي عن الظهور الاستقراري نأتي بمثالين:

1ـ إذا قلت: رأيت أسداً في الحمام فلفظة «أسد» وحدها ظاهرةٌ في الحيوان المفترس، ولكنّها بظهورها الاستقراري ظاهرة في الرجل الشجاع. فلو قيل: إنّ الجملة حملت على خلاف ظاهرها فإنّما يصحّ بالنسبة إلى ظهور جزءٍ من الكلام، أعني الأسد، دون المجموع، فاللازم للأخذ هو الظهور الجملي (أي الاستقراري)، لا الجزئي.

2ـ إذا قلت: زيد كثير الرماد فالظهور البدوي أنّ بيت زيد غير نظيف، ولكنّه ظهور ابتدائي، فإذا لوحظ انّ الكلام ورد في مقام المدح يكون قرينةً على أنّ المراد لازم المعنى، وهو الجود. فلو قيل بأنّ الكلام حمل على خلاف ظاهره فإنّما هو بحسب ظهوره الابتدائي، لا الاستقراري. فالذي يجب الأخذ به هو الظهور المستقرّ، لا البدوي.

وعلى ذلك فحمل الجملة الأُولى على الحيوان المفترس، والثانية على الجود، أخذٌ بالظاهر، وليس فيه شائبة تأويل. ومَنْ يرمي هذه التفاسير بالتأويل فهو لا يفرِّق بين الظهورين: الابتدائي؛ والاستقراري.

وممّا بيَّناه آنفاً يظهر جليّاً أن المقصود بالظهور الذي يعدّ من الجوانب الدلالية للقرآن إنما هو الظهور الاستقراري، لا الظهور الابتدائي.

 

عودٌ على بدء

في ما يتعلق بالرمز المطلق المقصود به هو الحروف المقطَّعة الواقعة في أوائل عدة من السور القرآنية. والذي لا ينبغي أن يغفل عنه أن هذه الحروف ـ وهي ستّة عشر حرفاً ـ تكرَّرت في سور شتى، وهي تسع وعشرون سورة، افتتح بعضها بحرفٍ واحد، وهي: ص، وق، ون؛ وبعضها بحرفين، وهي: سور طه، وطس، ويس، وحم؛ وبعضها بثلاثة أحرف، كـ «الم»، و«الر»، و«طسم»؛ وبعضها بأربعة أحرف، كـ «المص»، و«المر»؛ وبعضها بخمسة أحرف، كـ «كهيعص» و«حمعسق». وتختلف هذه الحروف أيضاً من حيث إن بعضها لم يقع إلاّ في موضع واحد، مثل: «ن»؛ وبعضها واقعة في مفتتح عدّة من السور، مثل: «الم»، و«الر»، و«طس»، و«حم». وذلك من مختصّات القرآن الكريم، لا يوجد في غيره من الكتب السماوية.

وأما الرمز النسبي فهو ارتباطٌ خاصّ بين هذه الحروف المقطعة ـ التي تعتبر رموزاً رسميةً للقرآن ـ وبين المضامين النصّية والظهورية للسور المفتتحة بها، أو هو مفردات حروف الكلمات الوضعيّة في الآيات الشريفة التي تعتبر رموزاً غير رسميةٍ للقرآن الكريم.

وكما قلنا فإن هذه الحروف التلغرافية الرمزية، أي الجوانب الرمزية للقرآن، مطلقةً كانت أو نسبيةً، رموزٌ خاصة بين الله سبحانه وبين رسوله|، خفية عنا، لا سبيل لأفهامنا العادية إليها، واختصّ الله بها رسوله بعد عموم سائر القرآن لسائر المكلَّفين. فهي إذاً صفوة القرآن، كما عن الإمام عليّ×: «إنّ لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجّي»، و«إنها مفاتيح كنوز القرآن». وليس لغير صاحب السرّ التنقيب عن معانيها، أو التخرّص بالغيب فيها. اللهمّ إلاّ ما ثبت منها عن الرسول| أو الأئمّة من آل الرسول^. وقد تحمل هذه الرموز أنباءً غيبيةً في مثلث الزمان: ماضياً وحالاً واستقبالاً، ممّا يهمّ الرسول والأمة الإسلامية، أو حقائق علمية معرفية، أو معارف دينية تختصّ بالرسول وآله المعصومين.

ومهما يكن من شيءٍ فإن الحروف المذكورة من أفضل القرآن، ولها معانٍ، «مَنْ قرأ حرفاً منها فله حسنة»([2]). والحرف لفظيّاً كلمة جانبيّة، ومعنويّاً معنى جانبي، فإنه طرف الكلام. فإنْ قرأت: ألف ـ أو ـ لام ـ أو ـ ميم، قاصداً للتي في «الم»، فقد قرأت حرفاً له حسنته، كما إذا قصدتها حرفاً من غيرها في سائر الآيات القرآنية، كما يروى عن رسول الله|([3]). مما يدلّ على أن لمفردات حروف الكلمات في الآيات القرآنية معانٍ، كما لجملاتها. فهي إذن تنحو منحى رموز القرآن. وبناءً على ذلك فالحروف المذكورة ـ مقطَّعةً كانت أو مفردةً ـ تعتبر كلمات دالّة على ما تعني، كبرقيّات رمزيّة بين الله وأهل الله الخصوص، كالرسول وآله، وإنْ كانت حرفاً واحداً، كـ ن ـ ق ـ ص، فضلاً عن كثرتها.

 

3ـ الهويّة الحقيقية للسنّة

من المعلوم أنه يوجد في سنّة الرسول الثابتة اللائحة كثيرٌ من الأحكام والتعاليم الدينية، مثل: ركعات الصلاة، وخصوصيات الحجّ، ونصاب الزكاة، وغيرها من الأمور، التي لا صدقت ولا أنكرت في القرآن الكريم. وبناءً على الآية 27 من سورة الكهف ففهم أن الرسول| كان قد حصل على مثل هذه التعاليم الإلهيّة من خلال الحروف الرمزية للقرآن، ولذلك يقول الله سبحانه في كثيرٍ من الآيات القرآنية: ﴿أَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾، أي أطيعوا الرسول في سنَّته الجامعة غير المفرِّقة، على حدّ تعبير الإمام علي× الوارد في نهج البلاغة.

ثمّ إنّ السنة النبوية ـ على التحليل التأويلي ـ تنقسم إلى قسمين: قسم واحد منها يُستنبط من الجوانب الدلالية للقرآن الكريم؛ وقسم آخر منها يُصطاد من الجوانب الرمزية له. وكذلك السنة النبوية المستفادة من الرموز القرآنية تنقسم بدورها إلى: فئة تؤخذ من الرموز الرسمية للقرآن الكريم؛ وفئة أخرى تؤخذ من الرموز غير الرسمية له.

وبهذا التحليل يتَّضح أنه كان ينزل على قلب الرسول| وحيان اثنان: وحي مرتبط بجوانب القرآن الدلالية؛ ووحي مرتبط بجوانبه الرمزية. وعلى ضوء هذه الحقيقة فإن الوحي الأول ـ باعتباره يملك خاصيّة عامّة ـ يفهمه الناس على مستوى النص والظهور؛ وأما الوحي الثاني فهو ـ باعتباره يملك خاصيّة خاصّة ـ كان منحصراً في الرسول، وبالتالي كان يحصل من خلال ذلك الوحي على المعارف التلغرافية الرمزية. ومن جهة أخرى فإنّ مثل هذه المعارف الرمزية لم تكن موافقةً للنصوص القرآنية أو الظهورات القرآنية، ولا مخالفةً لهما. ومن هنا يتبيَّن لنا سبب كون تلك المعارف رمزيةً…

انطلاقاً من الشواهد التاريخية نعلم أنّ الصلاة كانت واجبةً على النبي| عندما بُعث بالرسالة، على النحو الذي يجب علينا الآن كمّاً وكيفاً، فقد صلّى النبي أول صلاته في دار زوجه خديجة الكبرى بعد أن رجع من غار حراء… هذا من جانب؛ ومن جانبٍ آخر نعرف أنّه ليس في القرآن الكريم آياتٌ تبيّن لنا كيفية وكمّية الصلاة بكلّ تفصيلاتها. فإذاً من أين علمها الرسول آنذاك، في حين لم يكن في ما نزل إليه عند أوائل البعثة من سور، مثل: العلق والمدثر والمزمل، أيّ معلومات صريحة بشأن كيفية وكمّية الصلاة؟ وماذا كان ملتحده القرآني عند ذلك؟ هل كان ملتحده شيئاً آخر غير القرآن؟ كلاّ، بل كان ملتحده الوحياني إنما هو الرمزيّات الخفيّة للقرآن الكريم، وإلاّ ـ أي إن لم يكن ملتحده المعرفي وحياً قرآنيّاً في بُعده الرمزي ـ لكان داخلاً في قوله تعالى: ﴿وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً﴾، وبالتالي يفقد قيمته المعرفية، وحاشا للرسول ذلك!

وعلى أساس الآية 27 من سورة الكهف لا بُدَّ أن نقبل وجود مبدأ الملتحد المعرفي في جميع أقوال وأفعال وتقارير الرسول. ومن ثمّ يتضح لنا أنّ للقرآن لسانين: لساناً يستطيع أن يفهمه جميع الناس؛ ولساناً يفهمه الرسول فقط.

وبناءً عليه فإنّ القرآن الكريم هو المصدر المعرفي الديني الوحيد، وبالتالي يجب أن تُفهم السنة النبوية على ضوء هذا المصدر المعرفي. وفي الواقع فإنّ السنة هي قراءة الرمزيّات الخفيّة للقرآن من قبل الرسول|، وبعبارة أخرى: هي مجموعة استنباطات من الرمزيّات الخفيّة للقرآن التي قد حصل عليها الرسول| بإيحاءٍ ثانٍ من قبل الله سبحانه وتعالى.

 

4ـ علاقة السنّة النبويّة بالقرآن

بالتحليل التأويلي الذي تقدَّم منا آنفاً نستطيع الآن أن نحصل على تصوير موضوعي صريح بشأن العلاقة القائمة بين القرآن والسنّة النبوية. وهذه العلاقة ـ إذا صح التعبير ـ هي علاقة «المتن ـ الهامش»، أو علاقة «الظاهر ـ الباطن».

يجب علينا أن ننسِّق دائماً العلاقة القائمة بين القرآن والسنّة النبوية على أساس القاعدتين التاليتين:

الأولى: إذا كان الحديث الحاكي عن السنة النبوية ـ سواء في ذلك الحديث المتواتر أو غيره ـ مخالفاً للمضامين النصّية أو الظهورية من القرآن الكريم يضرب عرض الحائط.

الثانية: إن كلّ حديث يتمتَّع بالتوثيقات التأريخية القطعية إنما يؤخذ به إذا لم يكن مصدَّقاً ولا منكراً في القرآن الكريم.

 

5ـ وهمٌ وتنبيه

ربما يخطر ببال القارئ العزيز عدّة أسئلة حول ما توصلنا إليه آنفاً، من كون القرآن مصدراً معرفياً دينيّاً وحيداً، وكون السنة المحمدية عبارةً عن قراءة الرمزيّات الخفيّة له من قبل الرسول|.

السؤال الأول: من الممكن أن يحصل النبي| على السنّة من خلال التدبّر والتفكّر في الآيات القرآنية الكريمة، من دون افتراض صحّة مبدأ الملتحد المعرفي القرآني الذي طرحتموه.

الجواب: إن هذا البديل المعرفي لا يغنينا عن بديلنا المعرفي، أي مبدأ الملتحد المعرفي القرآني؛ لأنه لا يشمل كلّ ما جاء في السنة المحمدية من معارف، بل وجزءاً ضئيلاً من السنة الشريفة. إذن هناك معارف دينية لا يمكن استنباطها من الجوانب الدلالية النصية والظهورية للقرآن الكريم عن طريق عملية التدبُّر فيها، كما يدل على ذلك التجربة والوجدان، بل ويحصل النبيّ على تلك المعارف عن طريق جوانب القرآن الرمزية، فليلاحَظْ ذلك جيداً.

السؤال الثاني: كيف استنتجتم من مصدرية القرآن المعرفية مرجعيته التقييمية في محاكمة الحديث؛ إذ لا يوجد أيّ ملازمة منطقية بين المصدرية المعرفية والمرجعية التقييمية؟

الجواب: نعم. كلامكم صحيح إذا افترضنا مصدراً معرفياً آخر إلى جانب مصدرية القرآن المعرفية لم ينشأ من القرآن نفسه بالمعنى الذي بيَّناه في مبدأ الملتحد المعرفي القرآني، بل ونشأ من إلهامٍ إلهي غير قرآني. ولكنّنا قد أثبتنا عدم صحة هذا الافتراض من خلال البرهنة على أنّ القرآن الكريم هو المصدر المعرفي الديني الوحيد، وأنّ السنة الشريفة إنما هي قراءة الرمزيّات الخفيّة للقرآن من قبل الرسول|. وهذا يعني أن للقرآن مرجعية تقييمية في محاكمة الحديث؛ لأنّ هناك ملازمة منطقية بين المصدرية المعرفية الوحيدة للقرآن وبين مرجعيته التقييمية في مجال المحاكمة، كما هو واضح.

السؤال الثالث: ما هو الفرق الجوهري بين الرموز القرآنية وبين آية التبيان؟

الجواب: إن آية التبيان كأختها ـ أعني الآية 27 من سورة الكهف ـ تدلّ على أن القرآن إنما هو المصدر المعرفي الديني الوحيد, والمقصود بالشيء في الآية المذكورة ـ بمناسبة الحكم والموضوع ـ هو الشيء الذي يناسب كتاب الشرعة والهدى، فهو إذن كلّ هدى من الله: آفاقياً وأنفسياً، تكوينياً وتشريعياً.

وأما الرموز القرآنية فهي تبيّن لنا مناشئ تلك المعارف التكوينية والتشريعية ـ بالنحو الذي أوضحناه مسبقاً ـ، إلى جانب المضامين النصية والظهورية من القرآن الكريم.

السؤال الرابع: لماذا أخذت الرمزية في مفتتح السور فقط، لا شيء آخر، مثل: الإلهام الإلهي، كدليل على مصدرية القرآن المعرفية بالنحو الذي طرحتموه؟

الجواب: كما قلنا فإن الآية 27 من سورة الكهف تدلّ بصراحة وحيانية على أن القرآن المجيد هو المصدر المعرفي الديني الوحيد، فتحيل أيّ ملتحد معرفي من دون القرآن ضرباً إلى أعماق الزمن ما بقي الدهر. فلو لم يكن ملتحد النبي المعرفي وحياً قرآنيّاً في بُعْده الرمزي لكان داخلاً في قوله تعالى: ﴿وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً﴾، وبالتالي يفقد قيمته المعرفية، وحاشا للرسول ذلك! وذلك يعني أن كل ما يرجع إلى أمر الهداية، ممّا يحتاج إليه الناس في اهتدائهم، من المعارف الحقيقية المتعلقة بالتكوينيّات والتشريعيّات، موجودٌ في القرآن الكريم. ومن جانب آخر نلاحظ أن كمّاً غير قليل من تلك المعارف الدينية لا يوجد في النصوص القرآنية، أو الظهورات القرآنية، فمن ثمّ نضطرّ ـ بناءً على إحالة أيِّ ملتحد معرفي سوى القرآن ـ إلى افتراض شيء داخل الإطار القرآني يكون هو منشأ تلك المعارف الدينية المذكورة، ألا وهو الرموز القرآنية ليس إلاّ ـ سواء كانت تلك الرموز رسميةً أو غير رسمية ـ.

يمكننا أن نبيّن ذلك في سياق القياس الاستثنائي كالتالي:

ـ كلّما دلت الآية 27 من سورة الكهف على كون القرآن هو المصدر المعرفي الديني الوحيد، وإحالة أيّ ملتحد معرفي سواه، فهذا يعني أن جميع المعارف الدينية موجودة في القرآن الكريم.

ـ ولكنْ لا نجد كمّاً غير قليل من تلك المعارف الدينية في إطار الجوانب الدلالية النصية والظهورية للقرآن.

ـ إذن يتبين أن تلك المعارف الدينية تحتويها الجوانب الرمزية للقرآن.

السؤال الخامس: ما هو الامتياز العملي في نظريتكم هذه عند محاكمة الحديث، بالنسبة إلى الاتجاه المشهور القائل بمبدأ ضرورة عرض الأخبار على الكتاب؟

الجواب: إن الامتياز العملي في نظريتنا تلك يتمثَّل في إعطاء تخريج موضوعي لحجية مرجعيّة القرآن التقييمية. ولا يوجد مثل هذا التخريج في الاتّجاه المشهور، وبذلك ينهدم من الأساس الطريق الذي سلكه الاتّجاه المشهور؛ للوصول إلى تلك المرجعيّة التقييمية.

بيان ذلك: إننا نأخذ مبدأ المرجعية التقييمية من نفس القرآن عن طريق التخريج الموضوعي الذي بيَّناه آنفاً. وأما الاتجاه المشهور فهو يأخذ هذا المبدأ ـ على عكسنا تماماً ـ من روايات العرض على الكتاب. والحال أنه كان لا بُدَّ له من سلوك سبيل معاكس؛ إذ ليس هناك أيّ ملتحد معرفي كنقطة انطلاق سوى القرآن الكريم.

انطلاقاً من التخريج الموضوعي لحجية مرجعيّة القرآن التقييمية يترتَّب على ذلك امتياز عملي، وهو السلطة المطلقة للقرآن الكريم في محاكمة الحديث. وبناءً على هذا إنْ ادّعى الاتجاه المشهور ـ كنحن ـ تلك السلطة المطلقة فلا بُدَّ عندئذٍ من سلوك الطريق التي سلكناها، ولا طريق آخر غير طريقنا المسلوكة.

إذن هناك نظرية وحيدة في تخريج حجية مرجعيّة القرآن التقييمية عند محاكمة الحديث، ألا وهي نظريتنا هذه.

 

6ـ نتيجة البحث

إنّ النتيجة النهائية التي ننتهي إليها من هذه الدراسة الموجزة هي أنّ القرآن الكريم يعتبر مصدراً معرفياً دينيّاً وحيداً، وأنّ السنة الشريفة إنما هي قراءة الرمزيّات الخفيّة للقرآن من قبل الرسول|. وإنّ التحليل التأويلي الذي قدَّمناه آنفاً يؤدّي إلى تشكيل منظومة معرفية قرآنية متَّسقة في حركة إنتاج المعرفة الدينية، بما فيها المعارف الفقهية. وإنّ القرآن بجوانبه الدلالية يحقّق مصدراً معرفيّاً ظاهريّاً للمعارف الدينية، والسنّة النبوية ـ بما أنّها الرموز القرآنية ـ هي مصدر معرفيّ باطنيّ لها. فإذن هناك مصدر معرفي ديني وحيد، ألا وهو القرآن الكريم.

 

 

الهوامش

_________________

(*) كاتبٌ في الحوزة العلميّة. من جمهورية آذربايجان.

([1]) آل عمران: 31، الحشر: 7، النحل: 44، النساء: 59، 65، الجمعة: 2، الأحزاب: 21 .

([2]) كما ورد في الدر المنثور: قال رسول الله|: «مَنْ قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا تقول: الم حرف، ولكنْ ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف».

([3])  كما جاء في الدرّ المنثور: قال رسول الله|: «مَنْ قرأ حرفاً من القرآن كتب الله به حسنة، لا أقول: بسم الله، ولكنْ باء وسين وميم، ولا أقول: الم، ولكنْ الألف واللام والميم».

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً